الإخوان المسلمون باقة الإسلام وعطر الإيمان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمين باقة الإسلام وعطر الإيمان


بقلم: د. محمد عباس

مقدمة

الدكتور محمد عباس

جماعة الإخوان المسلمين ليست رقما هامشيا

•حركة الإخوان المسلمين أكبر كثيرا من أي حزب وتحالفها مع أي حزب علماني يعطيه شرعية لا يستحقها.

•وهمسة في أذن سامي شرف: من يعتذر لمن؟!!

•ليس بيننا وبين الشيوعيين إلا أن يؤمنوا حقا – بالله الغني الحميد.

•ليت الناصريين يقدسون الله تقديسهم لجمال عبد الناصر ويعجبون بالنبي صلى الله عليه وسلم كإعجابهم بهيكل!!   الإخوان المسلمون ، كبرى الحركات الإسلامية، والحركة الأم، التي لا يدرك المرء قيمتها إلا إذا تخيل أنها لم توجد، ولم تنبت عام 1928، ولم ترو شجرتها بدماء الشهداء الأبرار التي سفكها بالباطل طواغيت فجار، ولا سرت في عروقها تضحيات الآلاف والآلاف من المجاهدين، ابتداء من ساحة الوطن، وانتشارا في دول العالم الإسلامي، بل وغير الإسلامي، وجهادا في فلسطين والقناة، وعذابا في سجون الطواغيت الهالكين، أقول إنه لا يمكن معرفة قيمة حركة الإخوان المسلمين وتأثيرها إلا لو تخيلنا أنها لم توجد.

أي تصور كئيب كالح لمصر، بل وللعالم لو لم تسطع شمس تلك الحركة المباركة كرد فعل على سقوط الخلافة لينفرد العلمانيون بفروعهم الليبرالية والشيوعية والقومية بالساحة .. فهل كان يمكن أن نتصور إلا بقايا إسلام وشراذم مسلمين .. وأن نكون ككثير من المسلمين في آسيا وإفريقيا اليوم لا يحملون من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه.

إن أي محاولة للإيجاز أو التلخيص لن تكفي أبدا لوصف التغيير الهائل الذي انبثق من حركة ؤؤ ورجالها بجهدهم الإيجابي قبل ثورة الطواغيت، لأن صمودهم أمام المحاكم الباطشة الفاجرة، وتجلدهم إزاء التعذيب الهمجي المجرم، وصبرهم في السجون لعشرات السنين، كل ذلك، مع دماء الشهداء، جعلت ضوء النبراس الوهاج للإسلام من خلال الإخوان المسلمين لا ينقطع أبدا، كما أدت عمليات التعذيب والبطش والقهر تلك، إلى نزوج الآلاف إلى خارج الوطن، في العالم العربي والعالم الإسلامي، وفي أوروبا وأمريكا، وفي كل مكان ذهبوا إليه كانوا بذورا لحدائق الصحوة الفيحاء، ومناراتها الشامخة السامقة، للدرجة التي أدان فيها طاغوت العصر الأكبر، ومسيخه الأفجر: جهاز الأمن الأمريكي، أدان بطش الأمن المصري وجبروته في التعامل مع الإخوان المسلمين، فقد كان من رأي الهالك الفاجر، أن بطش الأمن المصري هو الذي دفع بخلايا الإرهاب (!!!) للانتشار في الخارج هربا من هذا البطش .. وهو الأمر الذي أدى إلى انتشار الإرهاب في العالم كله.

والقول فيه بعض صواب .. فليس مصطلح الإرهاب مذموما عندنا بل هو مصطلح إسلامي مذكور في القرآن له ضوابطه ودواعيه والمنكر له يسقط في إنكار المعلوم من الدين بالضرورة .. وأقول بعض صواب، لأن الأهم لم يكن انتشار خلايا الإرهاب بل بذور الصحوة الإسلامية التي قدمت نماذج شامخة للنجاح الباهر لأعضاء الإخوان في المجالات التي خاضوها سواء كان في العلوم التطبيقية أو النظرية كما في النشاط الاقتصادي.

هذا الدور الهائل الذي قام به الإخوان، لم يقتصر على محافظتهم على الإسلام فقط، ولا أنهم رفعوا راية الجهاد فقط، بل الأهم أنهم بدءوا الصحوة، وقد كان يجزيهم بإذن الله لو أنهم قاموا بجزء مما قاموا به، فلو أنه اكتفوا بالدعوة فقط لكفاهم، ولو أنهم اكتفوا بالتصدي للعلمانية والكفر لكفاهم .. ولو أنهم اقتصروا على إرهاب الإنجليز وأعوانهم لكفاهم .. ولو أنهم لم يفعلوا شيئا سوى الجهاد في فلسطين لكفاهم .. ولو اكتفوا بالجهاد في جبهة القناة لكفاهم .. ولو اكتفوا بتجنيد كل الضباط الأحرار – تقريبا – في التنظيم الخاص (وليس التنظيم السري كما يشيع المرجفون) لكفاهم .. ولو أنهم اقتصروا على الصمود المعجز عام 54 وعلى الشهداء الأبرار لكفاهم .. ولو أنهم اقتصروا على مواجهة كيد الشيطان وكلاب النار في السجون عشرين عاما لكفاهم .. ولو أنهم اقتصروا على صمودهم بعد محنة 65 واستشهاد الشهيد العظيم سيد قطب وإخوانه لكفاهم .. ولو أن جهد الإخوان المسلمين منذ نشأتهم حتى الآن قد اقتصر على "في ظلال القرآن" لكفاهم إلى يوم القيامة بإذن الله .. فكيف بهم إذا كانوا قد فعلوا هذا كله بل وفعلوا ما هو أكثر، وهو ما تضيق الذاكرة عن ذكره والمجال عن حصره.

كان ذلك كله ماثلا في وجداني دائما، وكنت أواجه أي منتقد لهم بقولي:

لعل الله اطلع على الإخوان المسلمين أعوام 48، و 48 و 54 و 65 فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة، أو فقدت غفرت لكم ...ولم يكن ذلك يعني أبدا أنني أرفعهم إلى درجات المعصومين، لكنني كنت دائما مع المناصحة الخافتة الهامسة، وكانت لي ملاحظات عديدة، لكنني كنت أقول لنفسي إنها الحركة التي دفعت ضريبة الجهاد والاستشهاد والتضحية والصبر، وأن من حقها أن تختار لنفسها طريقها الذي تشاؤه، فقد أجهض بنيانها الضخم ثلاث مرات، بمنتهى القسوة والخسة، ومن حقها أن تحاول تجنب إجهاضه مرة أخرى، (دعنا الآن من اعتقادي أن أسباب إجهاضها لم يكن لأنها بادرت بالعنف .. بل على العكس .. أنها لم تبادر به) وكانت نصيحتي وتعليقي للإخوة الخارجين عليها ألا يهاجموها أبدا .. فليجاهدوا كما شاءوا، وليسيروا في طرق موازية، وليسبقوها إذا استطاعوا، ولكن عليهم ألا يبخسوا الحركة الأم حقها، وألا يهاجموها، خاصة أن بعض المنشقين لم يكونوا سوى اختراقات من أجهزة الأمن عجزت عن جرف الحركة عن مسارها، فانشق أعضاؤها عنها لإحداث انهيار فيها.

كنت أرقب جهود الإخوان المسلمين التربوية لإنقاذ الشباب من الهاوية التي تدفعه إليها أجهزة الدولة وفضائيات الأمة وافتقاد المثل الأعلى ومطاردة المتدينين وتقريب الفاسقين، كنت أرقب هذه الجهود فيملأني الإعجاب والأسى.

وكنت أرقب جهودهم للحفر في الصخر وهم يحاولون تغيير الواقع السياسي الكارثة .. ليس في مصر فقط، بل في العالم الإسلامي كله .. ذلك أن النظرة العابرة ستكشف على الفور مدى عمق واتساع هذه الكارثة، حيث تتحول أجهزة الأمن والجيش لبعض الأنظمة من حماية أمن الوطن أو الأمة أو الدولة أو الدين إلى النظام الواحد.

وهنا يجب أن نقول أيضا إن أي مشروع اقتصادي مهما بلغ ازدهاره ونماؤه، إذا ما حمل بهذه النسبة للتالف الهالك فإنه ينتهي إلى الخراب حتما .. فإذا أضفنا أن أحزاب العلمانيين المعارضة: بأطيافها الليبرالية والماركسية والقومية يعملون ضد أمتهم ولصالح الغرب خوفا من الإسلام صارت الكوارث بلا عدد.

نعم ...صارت الكوارث بلا عدد .. وتحول السؤال إلى عكسه لينقلب من: كيف وصل الحال بالمسلمين إلى هذا الخزي والهوان؟ .. إلى: كيف استطاع المسلمون البقاء رغم كل هذه الضراوة للأعداء وخدم الأعداء.

كنت أرقب جهود الإخوان للتغلب على هذا الواقع .. وكنت أدعو لهم ..في مناسبة عزاء كنت أعاتب مسئولا كبيرا بالأمن، كنت أقول له:

ربما كان يمكن أن تعذروا بالجهل في فترات سابقة عندما كنتم تصورون لأنفسكم أنكم تحمون الدولة .. ثم تقلص جهلكم لتدركوا أنكم تحمون النظام .. ثم تقلص الجهل لتدركوا أنكم تحمون شخصا واحدا .. ثم انكشفت الفضيحة فإذا هذا مجرد وكيل للصليبيين والصهاينة .. وإذا به في معظم أرجاء عالمنا الإسلامي دمية يحركونها بالريموت كنترول سابقا .. أما الآن فلم يعد الأمر يحتاج إلى الإخفاء .. انكشف كل شيء أنتم الآن تخدمون ثلاثة بصورة مباشرة: إسرائيل وأمريكا والشيطان ... ألا تخجلون أليس عندكم ضمير؟ .. أليس فيكم رشيد؟! ..وفوجئت بالرجل يقول:

ماذا نفعل لشعب لا يدافع عن نفسه .. في أي قضية يخرج فيها من الناس ربع مليون للتظاهر ستجدني في مقدمتهم وسوف تستجيب الدولة لهم.

كان المنهج واحدا والدافع وحيدا وكان الوقع كارثة .. ولو خضعت الأمور لمقتضيات العقل لوجب انهيار الإسلام منذ زمن لكن:

(فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) (سورة يوسف: 64)، بل إن هذا ما يثير دهشة الغرب وذعره، بالحساب، كان الغرب ووكلاؤه قد قدموا للرجل المريض أضعاف الجرعة السامة الكافية للقضاء عليه، لكنه لا يموت!! .. وكانت المقاييس العقلية تنبئ منذ القرن الماضي بأن الإسلام قد أوشك على الاختفاء كدين، لكن ها هو ذا يترعرع ... ويصحو .. وكان من أهم العوامل في ذلك حركة الإخوان المسلمين.

إن الإخوان يقدمون لشباب الأمة الغذاء الصالح لتربيتهم .. أما السموم فثمة ألف يد تقدمها.

تنقل لهم دما جديدا لكن أعداء الإسلام بقوتهم الأسطورية يستنزفون هذا الدم أو يلوثونه.

أنت تنقل الدم لتعوض عن النزيف ولكن سرعة النزف أكبر.

أنت تبني ولكن هناك من يهدم أسرع .. وليس حتما أن يبدو طول الوقت أنه يهدم أسرع مما تبني أنت، بل قد يكون أنكى أن يدعك تبني جدارا في عام لكي يهدمه هو في لحظة.

وكان ذلك يذكرني بنابليون بونابرت في منفاه في سانت هيلانة .. لم تدخر بريطانيا وسعا في أن تكلف أمهر الأطباء بعلاجه .. لكنها من ناحية أخرى كانت تدس له لاسم بجرعات محسوبة بدقة ليموت في الوقت المناسب لها سياسيا (وأظن أن هذا ما تفعله أمريكا الآن مع الرئيس العراقي الحالي والسابق صدام حسين).

في هذا الوضع .. هل تستطيع براعة الطبيب مهما كانت أن تعالج المريض؟! ...في مثل هذه الحالة فإن المجرم القاتل يعرف كل شيء ويحدد دائما الوقت الذي يهاجم فيه ويقتل.

وأظن أن المثل ينطبق على علاقة أمريكا بالإخوان المسلمين .. بل ينطبق أيضا على علاقة أمريكا بالعالم الإسلامي كله .. الدواء بيد والسم بيد وميل الميزان لهذا أو ذاك هو الذي يحدد ميعاد الوفاة .. دون أي احتمال في أن يستعيد المريض عافيته، وكلما طالت المدة، ازداد استهلاك المريض لمدخراته واحتياطاته لتصبح التجربة غير قابلة للتكرار.

نعم .. نحن أمام مشكلة مروعة ...أمام عدو قوي هائل وخطر يملك الإمكانيات كلها ولا يمل أبدا ... لقد استغرق تحطيم الخلافة قرنين من الزمان .. وكان علينا في مصر أن ننتظر خمسين عاما حتى نكتشف أبعاد الكارثة الفادحة التي دفعت حركة الجيش بالأمة العربية والإسلامية إليها ... وكان علينا أن نتحسر على ما حدث من صلاح سالم وجمال عبد الناصر مع محمد نجيب .. فقد كان هو القاعدة التي تستند عليها الآن أحداث تفكيك السودان.

نعم ... ما تفعله أمريكا في العراق الآن هو استكمال ما فعلته بريطانيا في بدايات القرن الماضي .. ولما فعلته فرنسا في بداية القرن السابق له .. نفس الوسائل والأهداف ... وما يتغير فقط هو الزمن.

نفس هذه القوانين الرهيبة والمناهج المروعة هي بذاتها التي تحكم علاقة أجهزة الأمن في العالم الإسلامي. تربص وترصد وإصرار وخطط سابقة التجهيز مصنوعة في الخارج تتمنى الذرائع لكنها لا تتوقف انتظارا لها أو تختلقها إذا لزم الأمر للقضاء على الإسلام والمسلمين ... وكلاب النار لا يكفون عن النباح: لو لم تفعلوا كذا لما حدث لكم كذا وكذا وهم لا يهدفون الحماية مما حدث بل يهدفون إلى شل حركة المسلمين تخوفا مما يمكن أن يحدث بعد أي حركة.

لا تكف كلاب النار أيضا عن النباح: لو أنكم فعلتم كذا وكذا لأحرجتم أعداءكم ولحدث كذا وكذا ... وهم لا يستهدفون بالطبع أن يحقق الإسلام أي نصر بل يستهدفون استدراج المسلمين بعيدا عن الإسلام خطوة خطوة كي يمرقوا من الإسلام كله وبين هذا وذلك ليس إلا السم الناقع والهلاك.

انظر إلى الألغام التي وضعتها بريطانيا وفرنسا منذ مائة عام لتقوم أمريكا بتفجيرها الآن .. انظر إلى حلايب وجغبوب والبوريمي وحزب التجمع المصري!!

ليس معنى هذا أنني أسد كل طريق .. على العكس .. أنا أصرخ بضرورة البحث عن طريق .. وأن يكون طريقا لا هاوية .. وخلاصا لا فخا .. وكنت أدرك أن عدم العثور على طريق يشكل كارثة غير مسمون بها مها كانت الصعوبات.

لكم أزعجني تحذير الكاتب الأمريكي المسلم جيفري لانج .. كين كتب تحذيرا وثيق الصلة بما نحن فيه .. فقد كتب يقول إنه لنا أن نفرح بالأعداد المتزايدة لمن يعتنقون الإسلام كل عام في الولايات المتحدة الأمريكية ... لكن .. علينا أن ننزعج إلى أقصى حد من عدد الذين يتسربون من الإسلام من أبناء الجيل الأول من المسلمين ... وقدر جيفري لانج نسبتهم بـ 90% .. فهؤلاء يكونون مسلمين بالاسم فقط دون شعائر ولا فروض .. بل ودون إيمان.

لو أن الإخوان ظلوا يربون الشباب والشابات ألف عام فهل سيردع ذلك جندي الأمن المركزي من منع الناخبين من الوصول إلى صندوق الانتخاب؟ .. وهل سيمنع العاهرات اللائي يجلبهن الأمن للاعتداء على المحصنات العفيفات اللائي يذهبن للإدلاء بأصواتهن؟ ...وهنا أتساءل لو أن الإخوان المسلمين ظلوا ألف عام يربون الناس وظل كمبيوتر الداخلية يزور الانتخابات فهل يمكن أن يشاركوا في السلطة في أي وقت؟ ..وكان التساؤل لا يكف عن قرع رأسي دائما: هل نصمت ..؟ هل يصمتون؟ ...بالمقاييس العادية فسوف تستنزف السلطة الباطشة الإسلام والمسلمين ... أعرف أن هذا لن يحدث .. فالإسلام حق بذاته مستغن بصفاته ونحن لا نحميه، بل هو يحمينا ...نعم ...تلك هي المعضلة .. ولست أملك لها حلا جاهزا ...أحد الناصريين سامي شرف – شن هجوما بذيئا على الإخوان إذ كتب يقول للإخوان المسلمين: "اعتذروا عما قمتم به أنتم مرتين ضد ثورة يوليو .. واعتذروا لروح القائد والزعيم والمعلم على الأقل بزيارة ضريحه وقراءة الفاتحة له، ثم اطلبوا الكلام وساعتها قد نفكر في اللقاء من عدمه".

الحمد لله على كل حال ..:وعلى الرغم من اشمئزازنا مما يقوله سامي شرف فلا ريب أن ثمة إيجابية موجودة تشي بأن الرجل يستطيع الآن قراءة الفاتحة، لكنه لم يقل لنا هل يتوجب على الإخوان أن يقرءوها كما أنزلها الله، أم أن عليهم أن يقرءوها مقلوبة كما أمرهم زميل سامي شرف، الجلاد المجرم الذي حاكم الإخوان في محاكم الثورة والشعب بل محاكم الشيطان حين كان يطلب منهم قراءة الفاتحة مقلوبة!!

لن نسأل سامي شرف: وهل يتوجب الاعتذار أيضا على جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي وخالد محيي الدين وكمال الدين حسين وإبراهيم الطحاوي ؟ ..هل يجب عليهم الاعتذار لأنهم كانوا جميعا أعضاء في التنظيم الخاص وليس السري كما يسميه المنافقون – وأقسموا يمين الولاء ليخونه معظمهم بعد ذلك، وهل يجب عليهم الاعتذار لأنهم هم الذين كانوا يمدون الإخوان المسلمين بالسلاح ويدربونهم عليه.

هل يتوجب الاعتذار على عبد الناصر وعامر بشكل خاص لأنهما احتضنا عبد الرحمن السندي الذي انحرف بمهمة التنظيم الخاص من مواجهة اليهود والبريطانيين إلى الاقتتال الداخلي ... ففصله الإخوان فاحتضنه عبد الناصر وعامر وكرماه حتى مات ... بينما نكلوا وقتلوا الشهداء الذي رفضوا الانحراف بالجهاد.

لن نتوقف كثيرا عند سامي شرف، لن نتوقف إلا بالقدر الكافي لمعرفة نموذج من النماذج المشوهة التي رمانا بها الزمن الرديء.

ولن نأخذ بشهادة أي واحد من الإخوان المسلمين ضده، بل سنأخذ بشهادة أحد زملائه من الضباط الأحرار، وهو اللواء جمال حماد .

قد يحتاج الأمر إلى تفصيل لا يتسع له المجال لكنني أشير إلى النقاط التالية التي أوردها جمال حماد في كتابه: الحكومة الخفية في عهد عبد الناصر .. ولكي أريح القارئ الذي يرغب في الاستزادة فسوف أذكر أرقام الصفحات:

ص 132: وقد بلغ عدد زجاجات الخمر التي تم ضبطها في منزل سامي شرف وحده 54 زجاجة من مختلف الأنواع والأحجام (فودكا – شمبانيا – ويسكي – كونياك).

ص 69: وهناك دلائل تحملنا على الاعتقاد بأن سامي شرف أصبح عميلا يتحكم فيه جهاز المخابرات السوفيتية منذ عام 58، وبعد هذا العام لم يكن سامي شرف يذكر اسمه الحقيقي سواء في المركز في موسكو أو في الرسائل الشفرية التي كان الجهاز يبعث بها، وأن الجهاز يشير إليه بالاسم الرمزي المخصص لأمثاله من العملاء، وكان الاسم الرمزي لسامي هو: الأسد ...!

ص 82: يصرخ جمال حماد مناشدا سامي شرف أن يدافع عن نفسه بعد أن يؤكد اقتناعه الشخصي بأنه جاسوس: "إن الواجب يحتم علينا في ختام بحثنا أن نناشد سامي شرف أن يبعث إلينا بوجهة نظره وأوجه دفاعه عن هذه التهمة النكراء التي وجهت ضده منذ أكثر من عشر سنوات والتي لم يقابلها إلا بالسكوت المشبوه والصمت المريب، وسوف نكون أسعد الناس طرا لو استطاع أن يدحض هذه التهمة الشائنة (...) وأود أن يعلم سامي أن هناك محكمة كبرى لا يمكن أن ينجو من الوقوف أمامها إلى أبد الدهر، تلك هي محكمة التاريخ التي تذل الجبابرة والطغاة، ومع الظالمين والبغاة، وتكشف العملاء والخونة، وتنصف الأبطال والأحرار ... والويل لمن استهان بأحكام هذه المحكمة وظن أنها قاصرة عن كشفه، أو عاجزة عن إدانته مهما طال الزمن.

ص 129: يؤكد جمال حماد أن سامي شرف هو الذي سرق خزانة جمال عبد الناصر ويعضد شهادته بأقوال هدى عبد الناصر أمام النائب العام حيث أصرت على اتهامه رسميا وأصرت على التوقيع (كان النائب العام – ربما تكريما يريد إعفاءها من التوقيع على أساس أن توقيعه الشخصي كاف).

سوف نترفع عن ذكر السرقات، لكننا نذكر ما قاله جمال حماد في ص 111: وملخصه أن سامي شرف وشى بشقيقيه كي يكتسب ثقة جمال عبد الناصر حيث اتهمهما بأنهما عناصر خطيرة في الإخوان المسلمين، وتم اعتقالهما، وثبت كذب ما نسب إليهم تماما، وأفرج عنهما فذهب سامي شرف إلى جمال عبد الناصر ليقول له إنه للمرة الأولى والأخيرة في حياته يعارضه وأنه يعترض على قراره بالإفراج عن شقيقيه.

هذا نموذج من نماذج الناصريين ... وهو كما يقولون هم نموذج من أفضل نماذجهم ... جاسوس وخائن وسكير ولص .. فهل يجوز الحوار أو التحالف مع مثله؟

نموذج آخر هو نموذج الاعتداء على الفقيه الدستور ي عبد الرازق السنهوري عام 54، لا نذكره للتشهير ولا للإدانة ولا حتى للتذكير .. وإنما نذكره كمنهج للقوميين ولأخلاقهم، منهج كان وكائن وسيكون، لم يتغير ولن يتبدل، وهو المنهج الذي سيتعاملون معنا به.

هذا النموذج يرويه أحمد حمروش أيضا – نفس المرجع ص 846 – عن الضابطين: حسين عرفة وزوج شقيقته أحمد نور . يتحدث حسين عرفة عن تدبيره – بأوامر من أحمد نور – للاعتداء على السنهوري ، ثم ادعائه السقوط مغشيا عليه من فرط جهده للدفاع عنه، بل وإحداث جروح بجسده كي يحبك التمثيلية.

وينوه الضابط الجلاد بنجاح تدبيره وتأثيره، فقد كان هناك اجتماع مقرر لنقابة الصحفيين في نفس اليوم، لكن بعد ما حدث للسنهوري لم يحضر أحد.

هل تريدون أن أؤلمكم أكثر يا قراء، هل تريدون أن تعرفوا أين نفي حسين عرفة بعد الغضب عليه؟ ... لقد قرر عبد الناصر أن يجعله مثقفا بل وفي طليعة الاشتراكيين!! وبالفعل .. استلم عمله الجديد مع زملائه الجدد .. فهل تعرفون من كان هؤلاء الزملاء الجدد؟ .. كانوا كما يحصيهم هو نفسه:أحمد بهاء الدين وعبد الملك عودة ومحمد عودة وأمين عز الدين ووجيه شندي وسامي دواود ومحمود عبد الناصر .

أريد أن أقول إن هذا الجو الموبوء قد جعل الجلاد هو الوجه الآخر للمثقف، بل وقد اتفقت أهدافهما معظم الوقت كانت مهمة الجلاد قتل الجسد .. وكانت مهمة المثقف قتل الروح ... أما صاحب الجسد والروح فكان الوطن والأمة .. الأمة الحقيقية المسلمية.

وكانت هذه العصابة هي التي تسلمت الثقافة والفن والإعلام والأدب في مصر منذ عام 65، وبالمناسبة، هل يريد القراء أن يعرفوا سر نجومية المهرج المشهور والذي تحول أيضا إلى سفير متجول حول العالم بفضل الأميركان؟ .. كان عضوا في حدتو ، وكان ملحدا، وكان واحدا ممن استولوا على مصر في عام 65 ليخدمه جيش هائل من الإعلام المدرب والإعلان الخفي والصحافة المروضة .. وكان نفس الشيء يحدث مع بقية النخبة من مثقفي ومبدعي ثورة يوليو لتحويلهم إلى نجوم ومثقفين كبار!!

أما أحمد نور ، من الضباط الأحرار، ورائد التعذيب في مصر الناصرية، وأول من عذب كبار السياسيين، ففي ليلة 28 فبراير 54، ظل طوال الليل يضرب الشهيد عبد القادر عودة وفضيلة المرشد عمر التلمساني والمجاهد أحمد حسين، ضربهم بكل شيء حتى بالحذاء، وكان الشهيد عبد القادر عودة قد أنقذ الضباط الأحرار – وعلى رأسهم جمال عبد الناصر – قبلها بساعات ربما من الموت، فالجماهير الثائرة التي كانت تملأ شوارع القاهرة كانت كفيلة بسحقهم، تلك الجماهير التي صرفها الشهيد.

وأنوه هنا أن الشهيد – عفا الله عنه – كان يحب عبد الناصر ويثق فيه إلى تلك اللحظة. عفا الله عنه لِمَ أحبه ...نعود إلى الجلاد أحمد أنور، إذ يسأله أحمد حمروش عن دوره في التعذيب فينفي ذلك، ويدلل على إنسانيته ص 770 بأن "محمود عبد اللطيف الذي اعتدى على جمال عبد الناصر أمضى أيامه بعد الاعتداء في غرفة ملحقة بمكتبي ولم يدخل السجن".

ولم يقل لنا أحمد أنور إنه احتفظ به إلى جواره كي لا يفضح حقيقة مؤامرة المنشية .. ولقد ظل محمود عبد اللطيف معزولا عن الجميع حتى أعدم.

ربما ... في الماضي كان يساورنا الشك في إمكان عزل متهم بهذه الطريقة كي لا يجهر بالحق.

لكننا بعد أن شاهدنا الأصل في العراق .. وليس الرجل متهما يكاد أن يكون نكرة هو محمود عبد اللطيفبل رئيسا ملأت سيرته الآفاق في حجم صدام حسين ...ونفس المنهج الأمريكي ...العزل عن الناس كي لا يقول الحقيقة .. وحتى يموت.

ولم يكن ضرب الإخوان بسبب خلاف سياسي أو إرهاب أو محاولة اغتيال كل تلك كانت الذرائع – أما الحقيقة فكانت تنفيذ الطلب الأمريكي مقابل الاستقرار في الحكم.كان ذلك هدف عبد الناصر .

نعم .. إن الحركة القومية تحتضر .. أما الشيوعية والماركسية فقد ماتت وتعفنت وإن كانت لم تدفن بعد ... الحركة القومية تحتضر .. ورغم ذلك فإنها الاختيار الأمريكي الوحيد .. لأنها البديل الوحيد عن الإسلاميين ... ولأن أمريكا قد جربتهم أكثر من نصف قرن وكانوا دائما عند حسن ظنها فقد كسبت بعدائهم أكثر مما كسبت بصداقة غيرهم فضلا على أن العداء كان في العديد من المراحل مجرد تمثيل وذر للرماد في العيون.

نعم ... ولقد كانت بريطانيا تشجع إنشاء الأحزاب الشيوعية منذ عام 1936 كي تقوم هذه الأحزاب بمحاربة الإسلام والوطنية ...والآن .. بعد أن انكشف الشيوعيون وتعروا فليس هناك إلا القوميون كي يقوموا بنفس الدور .. الحرب على الإسلام ...ولا تحسبن أيها القارئ أن تلك الحرية المتاحة لليساريين للقوميين في الفضائيات والصحف تعكس أي شعبية لهم .. إنما تعكس شعبيتهم عند الموساد والمخابرات الأمريكية (CIA).

ولقد حكيت لكم قبل ذلك يا قراء كيف أن بعض أجهزة الأمن تتحكم في المراسلين كي تتحكم في الفضائيات .. وعلى سبيل المثال فإن أحد المراسلين في بعض الدول العربية ناصري وما أكثرهم، ليس لأنه الأكفأ مع احترامنا له – ولا لأنه الأقوى ولا لأنه الأعلم .. وإنما لسبب بعيد عن هذا كله .. لأنه هو الشخص الذي وافقت عليه الأجهزة التي لم تختره بالهوى .. وإنما نتيجة لحسابات دقيقة ... وإلا طوردت القناة وأغلقت. منذ بداية ثورة 23 يوليو ورأي الأمريكيين مهم جدا في توزيع المناصب.

يقول خالد محيي الدين .. الشيوعي الماركسي عضو حدتو وربيب هنري كوريل والضابط الحر الذي ما يزال يدبج قصائد الغزل في جمال عبد الناصر ، يقول:

كان عبد الرازق السنهوري قد رشح للوزارة ولكن علي صبري تدخل قائلا إن تعيين السنهوري سيثير الأمريكان جدا لأنه وقع ميثاق استوكهلم .. ووجدت التيار داخل المجلس حذرا من إغضاب أمريكا التي اعترضت على تعيين فتحي رضوان نور الدين طراف ".

وفي مكان آخر من نفس المرجع يقول خالد محيي الدين تعليقا على الصراع بين محمد نجيب: رئيس الجمهورية الشرعي، والمتمرد عليه، الخارج على القانون والشرعية جمال عبد الناصر :

"قابلت الصحفي الفرنسي (روجيه استيفانو ) مراسل (نوفيل أوبزير فاتور ) فقال للي إن جمال عبد الناصر سيكسب المعركة لأنه علم ذلك خلال اتصالاته بالسفارتين الإنجليز ية والأمريكية، ذلك أن جمال عبد الناصر وأعضاء المجلس أبلغوهم الموافقة على اتفاقية الجلاء ".

ولاحظوا يا قراء أن القائل خالد محيي الدين .. وأن الذي ينقل لنا الرواية واحد آخر لا يقل غراما بجمال عبد الناصر .. وهو أيضا شيوعي من حدتو وضابط من الضباط الأحرار .. ومريد من مريدي اليهود ي هنري كوريل .. ألا وهو أحمد حمروش .

مع تدهور الحال أصبحت أمريكا لا تتدخل في مناصب الرؤساء والوزراء فقط .. بل في فرض رئيس تحرير صحيفة أو تعيين مراسل قناة فضائية ..نموذج سامي شرف نموذج سوداوي ..لكن نموذج رفعت السعيد أشد سوداوية وبؤسا ..سنعبر سريعا ما نشرته صحيفة الأهرام المصرية في 18/ 5/ 92 عن تصريح لرئيس المخابرات الروسية عن عملاء وجواسيس الاتحاد السوفيتي في العالم الثالث الذين كانوا يحصلون على مرتبات من المخابرات ومنهم مصري من قيادات الحزب الشيوعي المصري رمز إليه بالحرفين: ر . س.

سنعبر ذلك لنبدأ بتقييم آخر لرفعت السعيد .. تقييم واحد من أهله (الأستاذ شريف يونس ) وشيوعي مثله لكنه من عصابة أخرى غير عصابة حدتو التي ينتمي إليها رفعت السعيد ... وفي بحث طويل بعنوان: "دراسة في تاريخ رفعت السعيد " يسخر يونس من انحياز رفعت السعيد لمنظمة "حدتو " ولتيار هنري كوريل في قلبها وكأن هذه المنظمة هي حزب الله المختار .. ثم يجزم شريف يونس بأن رفعت لا يتمتع بتقاليد البحث العلمي التي تقوم على الشك المنهجي ويفضح اعتماده على مصادر معينة دون غيرها، وافتقار أعماله لأساس منهجي .. وبالتالي للقدرة على تناول موضوعه تحليليا .. كما يفضح شريف يونس تغاضيه عن الديمقراطية فقد انتهت الحاجة إليها ما دام النظام (الناصري) يسهر على تطبيق "النظام الاشتراكي ومن ثم انحدرت الحركة الماركسية إلى ذيل الناصرية".

لن نتساءل الآن أيهما كان ذيلا للآخر، لكننا نكتفي بالإشارة إلى الجذور الماركسية العميقة للناصرية. على أننا نعود إلى نقاط هامة في ملامح حياة رفعت السعيد الذي انضم إلى تنظيم حدتو الشيوعي (حركة الديمقراطية للتحرر الوطني) قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره ... وكان السبب أنه كان يحب نوعا من الحلوى يصنعه يهودي، ومع النكبة عام 1948 فوجئ بشباب الإخوان المسلمين ومصر الفتاة يقذفون محل اليهود ي بالأحجار، ووقف رفعت السعيد موقفا حاسما يدافع عن محل الحلوى وصاحبه اليهود ي ... ويبدو أن هذه اللحظة الفارقة كانت مقدمة عمر من العداء للإخوان (حيث القصف) والمودة لليهود والصهاينة (حيث الحلوى).

إنني أقطع التسلسل هنا لأقول إن من جندوا رفعت السعيد في حدتو لم يكونوا أغبياء، ولا هو أيضا كان كذلك، بل لعله منذ خمسين عاما رأى ما يراه البعض الآن ... وهو أن الشيوعيين هم أقرب الناس لإسرائيل وبالتالي لأمريكا .. وأنهم لهذا وذاك أجدرهم بالحكم.

أظن أنه كان يرى ذلك من البداية وكان يسعى إليه.وربما هذا هو ما يفسر الطريقة التي يتحدث بها، والتي لا يستطيع التحدث بها سوى رئيس الجمهورية، إذ يقول: نحن لن نسمح أبدا للإخوان بكذا وكذا.ويكاد التعبير يكون مضحكا إذا قارناه بقوة الشيوعيين الحقيقية في الشارع المصري الذي لا يستطيع رفعت السعيد السير فيه دون حراسة مشددة، يكاد التعبير يكون مضحكا إلا إذا تذكرنا أننا لا نواجه فكر واتجاه رفعت السعيد ، بل نواجه إسرائيل وأمريكا.وعندما سجن لأول مرة عن مدى ذهوله للاحترام والتبجيل الذي كان الصهاينة داخل السجن يعاملون به .. ويبدو أن تلك كانت بصمة أخرى.

يخبرنا رفعت السعيد بنفسه عن طفولته، كانت أسرته ميسورة، لكنه كان يحسد أبناء الفقراء لسببين: أن آباءهم غير مخيفين كأبيه، وأنهم لا يستطيعون أن يستمتعوا باتساخ ثيابهم دون عقاب، ويبدو أن ذلك أيضا قد تعدى حدود الواقع الهازل إلى آفاق الرمز الموحي ... لن نختبر صدق رفعت فيما يحكيه عن نفسه وأسرته، ورغم أننا نعرف بصورة شخصية من زاملوه في حدتو ، ويتحدثون عن فقر أسرته المدقع، ولكننا لن نركن إلى هذه المعلومات، وننبه فقط إلى مدى صدق الروايات الأخرى، وخجل الشيوعي العتيد من الفقر.

يخبرنا رفعت السعيد أن الاسم الأول لـ : حدتو كان : الرابطة الإسرائيلية!! .. ثم "الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية ".

كما يخبرنا أنه بسبب الاعتقالات يحصل على ليسانس الحقوق وعمره 32 عاما، ويفشل في التقدم للحصول على الدكتوراه لأنه اختار موضوعا ينتقد عبد الناصر فلم يعثر على أستاذ واحد يقبل المغامرة، بل اتهموه بالجنون (تلك هي روايته وأشك فيها) ... وفجأة يا محاسن الصدف – يقابل مستشرقا هاما، يعجب به، ويطلب منه إعداد رسالة للدكتوراه في التاريخ، فيندهش رفعت السعيد لأن لأن شهادته في القانون وليس في التاريخ، لكن المستشرق لا يلقي بالا إلى ذلك، وكان من محاسن الصدف أيضا!! .. أنه هو الذي أشرف عليه وطلب منه أن يكتب في موضوعات محددة، ومكث 14 عاما في الدراسة مع هذا المستشرق، وكان كل عام يطلب منه دراسة فيقول مثلا: عاوز دراسة عن الحركة السياسية في مصر فعملت كتابين: "سعد زغلول بين اليمين واليسار" ، "مصطفى النحاس السياسي الزعيم والمناضل"، عاوز دراسة عن الإخوان المسلمين، عملت "حسن البنا متى وكيف ولماذا؟".

تذكروا هذا يا قراء ...وتذكروه يا إخوان .. لقد كتب الرجل عن الإمام الشهيد بأمر مستشرق وتحت إشرافه.بعد أربعة عشر عاما من خدمة المستشرق حصل على الدكتوراه.

تعبتم يا قراء ..أدرك ذلك ..ليس تعب العين ولا مجهود القراءة بل وجع القلب وضنى الروح المتسائلة كيف خدعونا وما كان لنا أن نخدع ...دعوني أرفه عنكم قليلا ... وأيضا من خلال الدكتور رفعت السعيد ... ألا يرفه عنكم يا قراء أن ترقبوا كم الهزل الذي تحفل بها تحليلات الدكتور رفعت السعيد ، وهو هزل يتدنى إلى حد "المسخرة" حين يكتب في مقال أخير ليشكك في أحداث 65، وليركز – كما يروي الصحافي الناصري حسنين كروم – على محاولة إثبات أن هناك علاقة ما كانت تربط سيد قطب بالأمن .. ويصرخ الصحافي الناصري وهو يرفض استنتاجاته ويهاجمها بشدة، لا إحقاقا للحق، ولكن خوفا من أحد الاحتمالات التي طرحها رفعت السعيد وهو أن يكون الأمن هو الذي دبر واختلق أحداث 65 (وإن كان لم يحل لنا اللغز: إذا كان الأمن قد دبر، فكيف شاركه الشهيد في تدبيره).

يقول كروم: ".. وبالتالي فإن أجهزة الأمن – أغمضت عينيها عما يحدث فهذا معناه أنها هي التي تقوم بتشغيل سيد قطب وتوجيهه" .. وإذا كان رفعت يريد تصفية حسابات مع نظام عبد الناصر فليس بهذا الأسلوب وتلك المغالطات المتعمدة منه والتي قادته إلى أن يتفق مع كثير من الإخوان في القول بفبركة القضية.

لا يتوقف حسنين كروم عند هذا بل يكشف لنا جانبا آخر من أخلاق رفعت السعيد السامية، رفعت السعيد الذي كره في طفولته رمز الأب (الصواب والحكمة والمثل الأعلى) .. يحدثنا حسنين كروم عن تورط رفعت السعيد في بلاغ كاذب منشور عن أن الإخوان المسلمين أعادوا تشكيل الجهاز الخاص السري وأن اسم قائده لديه (...) ودخل رفعت في معركة ضد وزير الداخلية اللواء حبيب العادلي اعترض على تصفية المعتقلات متهما الوزير بعقد صفقة مع الإرهابيين واضطرت وزارة الداخلية أن ترد عليه بعنف وتكشف إنسانيته بوقوفه ضد الإفراج عن آلاف الشباب المعتقلين بدون أي اتهامات أو أحكام.

سوف نلمس سريعا بعض زملاء الدكتور رفعت السعيد سيكون لهم رأي في التفاوض والتحالف. نذكر على سبيل المثال عصابة الأربعة، التي ابتزت كل مكان عملت فيه، ففشلت إصداراتهم الصحفية دائما، وكان من فضائحهم تلقي الرشاوى لإصدار أعداد خاصة من مجلاتهم للترويج لكاتب معين .. وكانوا يحصلون على أموال من الاتحاد السوفيتي، وبعد سقوطه استمروا في تلقي الأموال من الاتحاد الأوروبي ومن أمريكا نفسها.

هناك فضائح سرقة الكتب والمقالات، وسرقة جهود الصحافيين: كان أحدهم بعد أن أنشأ وكالة للصحافة العربية – يبيع المقال للصحف العربية بمائة وخمسين جنيها ... لكنه كان يدفع منها للكاتب المصري الذي يكتب المقال خمسة جنيهات فقط .. هذا المثقف اليساري العتيد كان يعمل في وظيفة كتابية في وزارة الداخلية، التقطه العميد مصيلحي وسلمه إلى أحد كوادر الشيوعيين الذي شاركه في المكتب المذكور وعرفه بشعراوي جمعة الذي أصدر قرارا بتعيينه صحفيا .. فكان أول من انقلب عليهم الكادر الشيوعي الذي دربه. أما صلاح عيسى (في الطبعة الأخيرة المنقحة) فقد ظهر في إحدى الفضائيات يرفض الديمقراطية التي تحمل الفاشيست والشوفينيين إلى مقاعد الحكم .. والكفر ملة واحدة.

جملة اعتراضية: لست أدري لماذا يذكرني صلاح عيسى بالوجه الآخر لرامسيفيلد .. كأنه صورة سلبية "نيجاتيف" له.نعم ... الكفر ملة واحدة ...ولقد تذكرت على الفور أن الكلمة ليست لصلاح عيسى وإنما لهنري كوريل .. وأن كل من نراهم اليوم من الماركسيين هم تلاميذه وأدواته وعملاؤه، وأن الحديث عن الأصل سيغنينا عن الحديث عن الحديث عن الفروع ... وأن الرجوع إلى الأصل واجب لكي نعرف مع من نتفاوض أو نتحالف أو نحاور. نعم ... لنترك رفعت السعيد وأقرانه وأنداده وتلاميذه ...لنترك الفروع الآسنة ولنتجه إلى المنبع فذلك سيفسر لنا موقف وكتابات كل الشيوعيين .. حتى اليوم، بل حتى الغد ...لنتجه إلى هنري كوريل ...هنري كوريل ليس مصريا في الأصل، لقد ولد الأبوين يهوديين يحملان جنسية إيطالية مزورة لمدينة ليفون التي احترق سجل المواليد بها فانتهز أهله الفرصة وزوروا لأنفسهم جنسيتها، واختار كوريل الجنسية المصرية عندما بلغ سن الرشد وأسس منظمة حدتو "في الأربعينيات واعتقل عام 48 ثم طرد من مصر عام 1950 ليعيش في فرنسا.

لقد كان هنري كوريل هو الاسم الأكبر والأهم في الشيوعيين الصهاينة في مصر وكان هو المكلف بتشكيل الحركة الشيوعية الثانية في مصر. يعترف كوريل ببساطة بعلاقاته مع عملاء المخابرات البريطانية.يلاحظ الدكتور عبد الله عزام واليهود ي الفرنسي رودنسون والمستشار طارق البشري ، والأستاذ طلعت رميح (بحث منشور في مجلة المنار خريف 2002 وكتاب قيد النشر) أن اليهود هم الذين أشرفوا على تنظيم وتكوين الأحزاب الشيوعية في العالم العربي فهم قادتها ومخططوها، بلا استثناء.

في كل حركة من الحركات الشيوعية كان المؤسسون ليسوا مجرد يهود بل صهاينة، ولم يكن ذلك في مصر فقط، بل في مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق وفلسطين، وكانوا يعملون لدعم إسرائيل، وفي مصر صدرت الأوامر لفنيي الطيران التابعين "لحدتو " بعرقلة الطيران المصري في حرب 48!!

سوف يكون مرجعي الأساسي في الجزء القادم هو المستشار طارق البشري وهو قيمة فكرية عليا ويساري سابق من الله عليه بالهداية، فالرجل إذن عندما يتحدث عنها بلسان العارف.

منذ ما يقرب من ربع قرن تنبأ المستشار طارق البشري في كتابه المسلمون والأقباط بأن بعض تلاميذ هنري كوريل سيشكلون قوة سياسية واجتماعية تتبنى السلام مع إسرائيل، خاصة أن هؤلاء الشيوعيين المصريين من تلاميذ كوريل، يحملون من العداء للإسلام والمسلمين أكثر مما يحملونه لليهود والصهاينة، وأن هؤلاء سيدفعون للتقارب مع إسرائيل، وللتطبيع ولتصفية الصراع المحتدم بين سارق لا يزال يسرق ومسروق لا يزال يسرق. يعتبر كوريل أن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها حق مقدس بينما يصف حق العرب في الدفاع عن فلسطين بالتعصب الشوفيني (القومي) .. وهو يطالب بالسلام مع إسرائيل، والسلام لا يعني وقف الحرب، بل يعني الصداقة والمحبة.

وأنبهكم يا قراء ...دعكم من الموقف المعلن للشيوعيين المصريين، فموقف كوريل هو موقفهم الحقيقي، وعلى من يريد دليلا أن يعود إلى كتاب محمد سيد أحمد : بعد أن تصمت المدافع .

إن كوريل يسمى عدوان 56 بالعمليات العسكرية كي يتجنب كلمة العدوان أو الحرب بينما يصف المقاومة العربية والمصرية ضد إنشاء إسرائيل عام 1948 بالحرب القذرة، والحرب الإجرامية والعدوان الظالم، كما يصف الوجود المصري في قطاع غزة عام 48 بأنه وجود استعماري إرهابي .. كما أن الإسلام عنده يمثل الفاشية والرجعية بينما تمثل القومية التعصب.

أبناء كوريل مثل أستاذهم يرون أن سوء موقف إسرائيل معنا سببه سوء مواقفنا نحن، فنحن المسئولون، نحن الذين نخيف اليهود الطيبين بقسوتنا وبتهديدنا لهم وبتشجيع الفاشية: (الإسلام) والتعصب: (القومية).

ويلاحظ المستشار طارق البشري أن كوريل وأتباعه قد صوبوا على الإسلام والقومية، وعاء الانتماء والتماسك، وأنهم اتبعوا منهج: "ما لا تستطيع أن تصوب عليه مباشرة فاضرب طلقاتك إلى جواره، واجعلها قوية متتابعة بحيث تؤدي إلى الانكماش التدريجي أو الضمور الجزئي المتوالي للجسم كله، أو على هذا الكيان تهمة حتى يشعر كل منتم إليه بأنه مع جهره بانتمائه عليه يتعين أن ينفي شبها لصيقة أو قريبة من هذا الانتماء، فيئول الانتماء بالتدريج من الجهر إلى الخفوت ومن اليقين إلى الظن ومن الاطمئنان إلى التردد".

أليس هذا بحذافيره هو ما يفعله العلمانيون مع المسلمين؟ ..يؤكد المستشار طارق البشري أن بعض قدامى الشيوعيين المصريين أقروا أن المسئولين في الحزب الشيوعي المصري كانوا ينفذون أغراضا صهيونية ويضيف: "بدا لي أن هذا الوجود اليهود ي الأجنبي في الحركة الشيوعية المصرية، لم يكن بعيدا عن التحرك الصهيوني في منطقة المشرق العربي المتاخمة لفلسطين، وبخاصة في الأربعينيات، وهو التحرك الذي أسفر عن إنشاء دولة إسرائيل في 1948 كما أن هذا الوجود كان يوجه نشاط الحركة الشيوعية في مصر وجهة المجابهة ضد تيار الحركة السياسية القومية المتشددة وذلك بوصف أن هذين التيارين تياران نازيان أو فاشيان مما يعتبران أكثر خطرا على البلاد حتى من الحكومات المصرية الموالية للاحتلال البريطاني" .. "بدءوا يشجعون عددا من أفراس الرهان، منها الحركة الشيوعية، وحسبهم منها أن تكون ركيزة لمقاومة التيارين الإسلامي والقومي، وهما تياران شعبيان، وأن تكون بوتقة لتذويب الشعور الوطني بالتميز والاختلاف عن الأجنبي".

كان ألد أعداء الشيوعيين الصهاينة بزعامة كوريل: الإخوان المسلمين ومصر الفتاة .. أما أصدقاؤه فقد كان الماسون على رأسهم بل إنه كان يعقد اجتماعات حزبه الأولى في أحد محافلهم .. لكنه فكر في اعتناق الإسلام كي يكون أكثر تأثيرا ثم تراجع لاعتزازه بنفسه.

وكان ينصح أتباعه بالتقية، ذلك أن من يخفي هويته لا يخدع الجماهير أما من يجهر بها فهو يخدعهم .. ولذلك فهو يدين من يسمي حزبه بالشيوعي، لأن كلمة شيوعي تعني في أذهان الناس معاني بغيضة وشاذة.

يتساءل المستشار البشري في دهشة: هذا الموقف (مقاومة الحركات الإسلامية والقومية باعتبارها حركات فاشية) هو أمر طبيعي بالنسبة لهنري كوريل ، ولكن الغريب أن يوجد بيننا نحن المصريين من ينظر إلى الأمور بنظرة هؤلاء، ثم يلمس البشري برقة وضعا في منتهى الخطورة، لقد أنشأ اليهود الصهاينة الأحزاب الشيوعية المصرية وعلى رأسها "حدتو " ثم تمكنوا من السيطرة على المصريين الذين انضموا إلى ذلك الحزب الصهيوني الشيوعي – وأن يكونوا زعماءه، لكن الأغرب بلا حدود، هو أن هؤلاء الزعماء اليهود الصهاينة قد استمروا على زعامتهم وسيطرتهم على هذا الحزب حتى بعد أن تم تهجيرهم من مصر.الأمر ليس أمر أحزاب بل جواسيس. ولقد ذكر سعد زهران سنة 1985 في كتابه "في أصول السياسة المصرية" أن بريطانيا منذ عام 1936 كانت تشجع اليهود الماركسيين لتكوين تنظيمات ضد الفاشية.

هؤلاء هم الذين سيطروا على الأحزاب الشيوعية بوسائل متعددة منها الخبرة والضغوط المادية والإغراءات، ولقد رحبت هذه الأحزاب بإنشاء إسرائيل، وينبه سعد زهران أن اليهود كعادتهم في عدم الرهان على فرس واحد كانوا يضعون قدما في المعسكر الإمبريالي والآخر في معسكر اليسار العالمي.

سوف يتساءل البعض إذا كان للشيوعيين كل هذا الحول والطول منذ عهد عبد الناصر فلماذا عذبهم ذلك العهد؟ .. والسؤال وجيه، والإجابة عليه سهلة، كان التعذيب للترويض، كانوا مثقفين ومترابطين ويجيدون العمل السري، وكانوا مناسبين لتوظيفهم لمواجهة الإسلام والمسلمين، الذين عذبوا أيضا، لكن تعذيبهم كان تعذيب الاستئصال والإبادة، كانوا كيانا من تلك الكيانات التي وصفتها عبقرية الدكتور المسيري بالكيانات الوظيفية، كيانات منفصلة عن مجتمعها، لا تدين بدينه ولا تفكر بعقله ولا تحترم عاداته وتقاليده، هذه الكيانات هي النخبة المثالية لأي طاغية وهي الحاشية المثلى لأي طاغوت .. كان الشيوعيون ثم القوميون – كذلك.

نعم .. تعذيب الشيوعيين كان للترويض، تماما كما يقوم المدرب بتعذيب حيوانات السيرك كي لا تخالف الأوامر أبدا ولا تخرج عن ناموس الطاعة والعبادة أبدا .. ولتظل المرجعية الوحيدة لضحية التعذيب هو المدرب كان يفقدها الإيمان بالفكر بعد أن فقدت إيمانها بالله ليكون الحاكم ربها .. كانوا يدربونها كي تستلم قيادة الوطن منذ عام 65 عام القبض الأخير على الشهيد سيد قطب تمهيدا لإعدامه ...للحركة القومية واليسارية بل والليبرالية أيضا جذور عميقة في العمالة وعداء الإسلام .. وحتى من الناحية البراجماتية فلن يسفر التحالف معهم إلا عما أسفر عنه منذ خمسين عاما .. حين تحالف الإخوان مع العسكر فسرق العسكر منهم الشرعية وسحقوهم.

نعم .. لم يتوقفوا عن الكذب أبدا لتسويغ ما يفعلونه، ولقد كان إخفاؤهم المعلومات المتاحة عن الاتحاد السوفيتي على سبيل المثال سببا في الكارثة التي حاقت بنا، لأنه لم يكن متوقعا أبدا بسبب تاريخه أن يناصرنا، ذلك أن 93% من مساحة الاتحاد السوفيتي كانت بلادا إسلامية احتلها الروس، كما أن سيطرة اليهود على الحركة الشيوعية لم يكن وهما تخيله المسلمون، بل إن المجلس الحاكم في روسيا في بداية ثورة 52 كان مكونا من سبعة عشر شخصا، أربعة عشر منهم يهود، أما الثلاثة من غير اليهود وهم ستالين، وفيرشيلوف، ومولوتوف فقد كانوا متزوجين من يهوديات، ولم يكن هذا وضعا طارئا بل استمر منذ بداية الحركة الشيوعية وما يزال موجودا حتى الآن.

لم يتوقفوا عن الكذب، ولا عن التزلف للمسيحيين في مصر، غير مبالين ببذر الفتنة، ويدعون أن الأقباط لا ينالون حقوقهم، في بلد يشكل المسيحيون فيه أقل من 6% بينما يتمتعون بـ 35% من الثروة القومية .. ولا هم مدوا مطالبهم إلى بلاد يشكل فيها المسلمون أقليات ضخمة ومع ذلك ليس لهم أي نصيب في الحكم. منتهى الخسة.

من الممكن – بل الواجب – أن نتحاور مع حليف ...ومن الممكن والمطلوب أحيانا أن نتفاوض مع عدو ... لكن ...هل هو ممكن أو مطلوب أو واجب أو محتمل أو معقول أن نتفاوض أو أن نتحاور مع جاسوس؟ ...الحوار مستحيل ..لأننا نعلن وهو يخفي ..ونحن نبوح وهو يستر ...ونحن نتصالح وهو يتآمر ..نحن صادقون ونقول ما بأنفسنا أما هو فكذاب أشر ..نحن نموت دفاعا عن لا إله إلا الله وهم لا يحتلون مراكزهم ولا يتبوءون مناصبهم إلا لأنه يدافعون عن لا إله إلا العلم أو الحضارة أو التنوير .. وحتى في هذه فهم يكذبون وهم لا يقصدون العلم والحضارة والتنوير فعلا بل يقصدون بوش وبلير وشارون.فهل يمكن أن نتحاور مع هؤلاء.

لن يجد الإخوان على الجانب الآخر خالد ورفعت بل ستجد كوريل وكوهين ...لن نجد على الجانب الآخر نعمان جمعة أو سعد زغلول بل اللورد كرومر ...لن تقابل هناك ضياء الدين داوود بل كيم روزفيلت وأحمد أنور وحسين عرفة .. حتى لو تنكروا في أقنعة بهاء وعودة ورفعت ..الأمر ليس أمر خصام نتصافح فينتهي، ولا خلاف نلتقي لحله في نقطة وسط، ولا قوم أساءوا إلينا فما علينا إلا أن نصفح عنهم لينتهي الأمر ..الأمر ليس كذلك .. الأمر أمر عقود وحقب وأجيال ضلت الطريق ..الأمر أمر ولاء وبراء ..الأمر أمر عصر فقد دينه .. وفقد عقله .. وفقد أخلاقه .. وفقد ضميره ..الأمر أمر عصر رموزه ليس سعد زغلول وخالد محيي الدين بل كرومر وروزفيلت وهنري كوريل ..الأمر أمر عصر سادت فيه ديمقراطية الأنياب وحقوق إنسان أبو غريب وثقافة حسين عرفة زميل أحمد بهاء الدين ومحمد عودة ..الأمر أمر عصر ليس لنا أن نتصالح معه بل أن نتبرأ منه ونتوب عنه ..وأمر جرائم لا يجب أبدا أن ننساها أو نصفح عنها، بل أن ندينها بكل ما نملك من دين وعقل وأخلاق وضمير لنقول لهم إن ذلك العصر كله جريمة وخطيئة وعار علينا أن نخلعه لنعود إلى براءتنا وطهارتنا.

إنني أتمنى أحيانا في حسرة دامية أن يقدس الناصريون الله تقديسهم لجمال عبد الناصر وأن يعجبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم كإعجابهم بهيكل ..بمصطلحات الدنيا فإن حركة الإخوان مثل الدستور يجب أن تكون فوق الأحزاب جميعا، بل ولا يمكن أن ينشأ أي حزب إلا بعد إقراره باحترام الدستور ..على فرض حدوث المستحيل بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وعلى فرض اختيار الشعب عبر صندوق الانتخاب – للإخوان ومطالبته بتطبيق الشريعة الإسلامية، ومطالبته أن يغير الدستور لتكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع، لو حدث ذلك، فهل ستوافقون عليه؟ .. وهل تخضعون له؟ .. أم ستستدعون القوات الأمريكية – وربما الإسرائيلية – لتحريركم من الإسلام والمسلمين .. كما فعل أقرانكم في الجزائر ؟! ..كان توجيه هذا السؤال – وما يزال – لازما.

حركة الإخوان المسلمين أكبر كثيرا من أي حزب .. وتحالفها مع أي حزب علماني يعطيه شرعية لا يستحقها وينقض شرعيتها كما ينقض الخبث الوضوء.

إنني أرحب بل وأتمنى التحالف مع أي حركة أو اتجاه بشرط وحيد: هو أن يعلنوا أن مرجعهم الإسلام .. فقط. لا أطلب اعتذارا من هذا: لا تزر وازرة وزر أخرى – ولا توبة من ذاك: هلا شققت عن قلبه؟ .. لكنني أضع شرطات واحدا .. هو المرجعية الإسلامية .. وليس مقبولا أن تتجاوز أي مناورة هذا الخط الأحمر ......د. محمد عباس

الباب الأول: أزمة فكر قومي؟ ..أم أزمة ضمير شخصي؟!

الفاتحة:

نعم يا قراء .. أسألكم قراءة الفاتحة .. والمناسبة هي ذكرى حزينة ذابحة يتآمر الكل على تجاهلها .. المناسبة هي الذكرى الثامنة والثلاثون للشهيد الفقيه العلامة الأديب المفكر مفسر القرآن ... صاحب الظلال والمعالم .. سيد قطب.

الفاتحة ...أين كنت يا محمد حسنين هيكل ليلة التاسع والعشرين من شهر أغسطس عام خمسة وستين وتسعمائة وألف.أين كنت والجلادون يصطحبون الشهيد لشنقه ..الشهيد الذي يكاد يجمع العلماء عليه.

يقول الشيخ علي الطنطاوي أن لله قد ادخر لسيد قطب تفسيره للقرآن في الظلال فلم يسبقه إلى هذا التفسير منذ أنزل القرآن أحد.

ولا يقتصر الأمر على علماء الدين، فها هو ذا الكاتب البحريني محمد جابر الأنصاري في كتابه "مساءلة الهزيمة " يرى أن الصعود اليساري في الخمسينيات والستينيات والذي لم يكن يتم إلا بالدعم الناصري وبدعمك يا محمد حسنين هيكل كان صعودا مؤقتا سرعان ما توارى أمام صعود إسلامي كاسح شكل إرهاصاته الأولى كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" الذي صدر عام 1965 أو "المنفستو" الأول للحركة الإسلامية الراهنة على امتداد الأفق الإسلامي من مصر إلى الجزائر إلى أفغانستان ، وربما كان سابقا لأوانه مقارنته بالمنفستو الشيوعي.

إنني أرجو القارئ أن يقف عند الفقرة السابقة، ورغم أن المقارنة من وجهة نظرنا مضحكة، فقد سقط المانفستو الشيوعي بالنسبة للعالم منذ أعوام طويلة، وبالنسبة لنا فقد كان ساقطا على الدوام، لكنني أنبه أنه عندما يقوم علماني بتشبيه كتاب بالمانيفستو الشيوعي فالأمر يساوي أن يقوم مسلم بتشبيه كتاب بالقرآن أستغفر الله العظيم".

لقد ركزت على هذا المعنى لأننا سيعود إليه فيما بعد، ولأن البعض وعلى رأسهم الأستاذ محمد قطب يرون أن قرار إعدام سيد قطب قد صدر بعد إدراك الشيوعيين والمباحث والنظام خطورة هذا الكتاب.

لا يقتصر الأمر على ذلك، فإن غازي القصيبي الكاتب والشاعر والسياسي السعودي الشهير قد وصف الكتاب في روايته "العصفورية" معبرا عن تفاعلات المرحلة على لسان أحد شخوص الرواية إنه أعظم كتاب صدر خلال نصف القرن الأخير فيرد عليه محدثه مصححا: بل هو أعظم كتاب في خلال القرون الخمسة الأخيرة.

أعظم كتاب في خلال القرون الخمسة الأخيرة.

فأين كنت يا محمد حسنين هيكل ليلة شنق كاتبه.

وهل لذلك علاقة بإصرارك على التوقف عن الكتابة وعزمك على الانسحاب من التاريخ؟ ...هل الأزمة أزمة يأس؟ .. أم أزمة ضمير؟ ...ماذا أخفيت عنا يا محمد حسنين هيكل ؟ ..

من أجل ذلك كله لم أتعاطف مع الرسالة الفاجعة من الصحافي الأشهر محمد حسنين هيكل إلى الصحافي مصطفى بكري ، وفيها يعتذر بسبب رفضه الاحتفال بعيد ميلاده، وفي الرسالة كتب يقول:

"لكن ما يلح على بشدة وأنا أتابع ما تنشرون هو ظني بأنه لا يصح لأحد في مثل هذه الظروف أن يحتفل بيوم دخل فيه إلى خضم الحياة رجل في نفس اللحظة التي تخرج فيه من مجرى التاريخ أمة".

ويواصل هيكل قائلا:

"دعني أسألك بأمانة: هل تتصور أن رجلا عاصر وعايش أحلام الأمة على امتداد ستة عقود يليق به أو يقبل منه أن يحضر احتفالات وسهرات تمتد إلى مطلع الفجر، ثم يظل في سلام مع نفسه، راضيا مستريح الضمير، غير معذب بضرورة أن يعتذر لأفكاره وولاءاته، والوطن والتاريخ جميعا"؟

ذوبني الألم وأنا أستعيد عنوان كتاب هام للكاتبة الألمانية زيجفرد هونيكه ... وعنوان الكتاب هو: "الله .. ليس كذلك" .. وثمة خطأ لغوي ولكن الكاتبة تقصد أن الله الذي يعبده المسلمون ليس ذلك النموذج المشوه الذي ادعاه الغرب علينا في جهده المحموم لتشويهنا ..صرخت:

"الثورة ... ليست كذلك".

"وهيكل .. ليس كذلك".

وتلك الصورة المثالية الحالمة ليست كذلك.

والبطولة والإبهار والمجد والزعامة والإلهام والفكر والحكمة والقداسة والعصمة والصواب المطلق ونفي الآخر وادعاء أن الآخر كان شيطانا رجيما .. كل ذلك لم يكن كذلك.

نعم .. برنامج صناعة النجم غير الحقيقة وألبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق. كل ذلك .. لم يكن كذلك.

لذلك فإن هذا الألم الفاجع الذي فاض من محمد حسنين هيكل على قرائه هو أكبر من أن يكون ألم فقد .. إنه ألم آخر .. ألم ضمير طالما برر الوسيلة بالغاية فلما ضاعت الغاية تبدت بشاعة الوسائل.

ولنقارن بين الوضعين مستعيدين وصف هيكل لأحدهم قارن بين ناصر والسادات فقال: (إن مجرد عقد المقارنة إهانة) .. أقول فلنقارن بين الوضعين، وضع هيكل، مرفوعا على أعناق أحبائه ومريديه، محاطا بهالات تمجيدهم، وفي حياة رغدة حباه الله بها، لكه بين ذلك كله، يغرق في ظلمات اليأس المطبق، واثقا من أن أمته تخرج من التاريخ، أما الوضع الآخر فهو وضع سيد قطب، معلقا في المشنقة، بعد عذاب لا يوصف، واثقا طول الوقت، من أننا، لن نبقى في التاريخ فقط، بل سنتصدر لقيادته.

ذوبني الألم وأنا أتساءل عما سربه هيكل إلينا من حقائق وعما أخفاه.

ذوبني الألم وأنا أتساءل عن دور محمد حسنين هيكل في كتابة القصة وإخراجها والسيناريو والحوار وتوزيع الأضواء وفرض مناطق الظلام.

ذوبني الألم وأنا أتساءل عن دور هيكل في كل هذا.

ذوبني الألم وأنا أتساءل عن علاقة كل هذا باليأس المطبق الأسود الذي يحيط به الآن ويكاد يبتلعه فيعلن عزمه على الانسحاب والتوقف عن الكتابة.

ذوبني الألم وأنا أنظر مستفزا ومذهولا إلى الدراويش والمريدين الذين يحتفلون بهيكل احتفال المؤمنين بنبي (أستغفر الله).

ذوبني الألم وأنا أتساءل إذا كانوا يفعلون ذلك وهيكل مثلنا بل وأكثر منا غارق في الألم عاجز عن استشراف سبيل للخلاص أو طريق للنجاة ... ثم أتساءل ماذا كان يمكن أن يفعلوه لو أن هيكل قد قدم طريقا للنجاة وسبيلا للخلاص .. أكانوا يعبدونه من دون الله؟! .. (أستغفر الله مرة أخرى).

ذوبني الألم وأنا أريد أن أصرخ فيهم: هيكل ليس مانديلا، لم يقض عمره في السجن كي ننتظر على يديه الخلاص بعد الإفراج ... هيكل كان حاكما أكثر من نصف الوقت ...ذوبني الألم وأنا أتساءل متى بدأ الخطأ وأين وكيف ولماذا؟ .. ولماذا كان الانهيار بهذه البشاعة والحدة والشمول والاكتمال؟ .. ولماذا خدعتنا عناصر الصورة؟ .. أيها كان يمثل الحقيقة اللابسة ثوب الباطل وأيها كان يمثل الباطل يلبس ثوب الحق .. أيها كان الحلم وأيها كان الكابوس وأيها كان الواقع؟ .. هل التبست الخيانة بالبطولة والطهر بالعهر والإيمان بالكفر؟ أم أن التلاعب بأجهزة الإعلام وتكنولوجيا صناعة النجوم وتزوير التاريخ هي التي دلست علينا الأمر كله. يجب أن نفتش في ماضينا حقبة حقبة .. بل يوما يوما.

وأن نبحث في رجالنا رجلا رجلا لنسأل من كان الصادق ومن كان الكذاب .. ومن كان الخائن ومن كان البطل. يجب أن نفعل ذلك مهما كان الأمر أليما ومخالفا لهوانا.

نعم .. يجب أن نسأل .. وأن نسأل هيكل بالذات:

هل كانوا ملائكة؟ .. أم شياطين؟ .. أم بشرا خطائين؟ ..نعم .. الأسئلة التي أسألها الآن عن التاريخ ومنه ثورة 23 يوليو ليست تحويما في فراغ ولا تحليقا في فضاء ولا هي ترف ولا هي تسلية ولا هي خمر أشربه وأسقيكموه كي أثمل وأغرقكم في الغيبوبة حتى نهرب سويا من الألم الساحق المهين الذي نعيشه.

ليست ترفا .. ولشد ما أشفق عليكم يا قراء من المواجهة .. ووالله الذي لا إله إلا هو ... لقد كنت أمرض كلما واجهت هذه الأسئلة، وفي مواجهتي الأخيرة بالذات امتد المرض .. ليس أياما، بل أسابيع وشهورا .. أقول مواجهتي الأخيرة .. لأنني ظللت أعواما تلو أعوام حتى منتصف الثمانينيات .. أقاوم كل شواهد المنطق .. كالزوج المخدوع.

الأسئلة التي أطرحها اليوم ليست ترفا .. إلا إذا اعتبرنا دراسة الطب للوباء أو للسم الناقع تزيدا لا ضرورة له ولا طائل خلفه.

ليست ترفا ولا هي شأن يهم المصريين فقط .. لأن ما حدث في مصر خفية منذ خمسين عاما هو بذاته ما يحدث اليوم على قارعة الطريق.

وما حدث في مصر منذ خمسين عاما هو بذاته ما كان يحدث فيها منذ مائة عام ومنذ مائتي عام ... وهو بعينه ما حدث في شتى أرجاء عالمنا الإسلامي .. وأعيذ فطنة القراء التي كواها الألم وحرقتها النار .. أن يخدعها اختلاف المظهر عن وحدة الجوهر .. وأن اللص المجرم الخطير قد يتخفى في ثياب عالم دين كبير .. كما أن المجاهد .. مرفوعا .. على أجهزة التعذيب .. ممزق الجلد والأعضاء داميا سوف يشبه بالتأكيد المفسدين في الأرض إذ يقتص منهم ويقام الحد عليهم.

السؤال أعيده:

هل كانت صورة ثورة 23 يوليو تلك الصورة المثالية الحالمة التي جهد إعلام الثورة وأصدقاؤها وعلى رأسهم هيكل على تقديمها للناس .. صورة العملقة والزهو والثأر والبطولة والإبهار والمجد والزعامة والإلهام والفكر والحكمة والقداسة والعصمة والصواب المطلق ونفي الآخر وأحلام اليقظة وادعاء أن الآخر كان شيطانا رجيما.

السؤال أعيده ..السؤال أسأله عن برنامج صناعة النجم.برنامج صناعة النجم على غير الحقيقة وإلباس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق.

السؤال أعيده ..وإذ أعيده أطرح بعده وقبله تساؤلا غريبا.

لماذا وأين تختفي وثائق ثورة يوليو إلى الآن؟ .. وكيف اتفقت مصلحة العهود الثلاثة على إخفائها؟ ... نعم أطرح قبل سؤالي الأول سؤالا آخر .. لأن هذا السؤال الآخر قد يغنينا عن الإجابتين .. إجابته .. وإجابة السؤال الأول.

يتساءل الكاتب عادل حمودة – وهو بالمناسبة كاتب قومي لا أحبه – عن وثائق ثورة يوليو وهل هي موجودة .. و .. أين؟ .. وهل صحيح أن محمد حسنين هيكل قد حصل عليها ونقلها إلى بيته؟ .. وما الذي حصل عليه أشرف مروان منها؟ .. وهل صحيح أنه وضعها في مكان ما في لندن؟ ...ويواصل حمودة تساؤلاته:

هل صحيح أن الرئيس السادات وجد أن ما ستتوصل إليه اللجنة يخالف روايته لتاريخ الثورة .. وأنه سيقلل من دوره فيها .. (..) لقد بدأ تربص السادات بأوراق هيكل واضحا في وقت مبكر بعد خروجه من (الأهرام) .. في عام 1975 .

في تلك السنة حصل هيكل – في أثناء رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية – على مجموعة وثائق شديدة الحساسية هي مجموعة تقارير وبرقيات ومراسلات بين السادات وكيسنجر تدور عن حرب أكتوبر 1973 وما جرى بعدها .. وكانت هذه الوثائق غائبة عن هيكل رغم قربه الشديد من عملية الإعداد للحرب ... وعرف السادات بما حصل عليه هيكل .. والغالب أن هذا ضايقه .. فكان أن شن عليه حملة عنيفة تحاول أن تنفي عن كتاباته المصداقية.

تساؤلات عادل حمودة يطرحها العديدون منهم د. يونان لبيب رزق ود. رءوف عباس وهما مؤرخان مشهوران لتاريخ مصر الحديث، كما طرح ذات التساؤل الشاعر فاروق جويدة .

وقد تعجب د. رءوف عباس من وجود وثائق أسرة محمد علي في دار المحفوظات القومية رغم مرور ما يزيد عن 200 سنة ... وفي الوقت نفسه لا يوجد أثر لوثائق ثورة يوليو.

التساؤل الذي نطرحه إذن:

ما هو المشترك بين عبد الناصر والسادات العهد الحاضر ... هذا المشترك الذي يحرص الجميع على إخفائه .. وبنفس الدرجة.

لو أن هذه الوثائق في صف عبد الناصر لنشرها هيكل، ولو كانت في صف السادات لنشرها السادات، ولو أنها كانت تدين عبد الناصر والسادات لنشرها العهد الحاضر، على الأقل لتقليل أوزار عهده، ولو بالقياس، لكن الأمر أصعب من هذا كله وأخطر منه.

الأمر لا ريب يتعلق باتفاق جوهري سري مرتبط بالاستمرار في الحكم.

اتفاق سري .. يهم الثلاثة ألا يذاع ويفتضح.

اتفاق سري ... لا يقتصر على مصر ولا حتى على العرب بل يشمل الدول الإسلامية جميعا .. نفس الاتفاق الذي أبرم مع أتاتورك: الإسلام الحقيقي ممنوع .. والوحدة الحقيقية ممنوعة .. القوة العسكرية ورباط الخيل خط أحمر وذلك منذ ؤ – وبعد ذلك افعلوا ما شئتم.

وهذا الاتفاق السري المفروض على الحكام فرضه الحكام على أجهزة أمنهم وبلاطهم وشرطتهم وجيوشهم: الإسلام الحقيقي ممنوع ... والوحدة الحقيقية ممنوعة .. وبعد ذلك افعلوا ما شئتم.

اتفاق سري قبله البعض رغما عنه، وقبله البعض الآخر لأنه على هواه، وقبلة آخرون على أمل المناورة.

نعم .. قبلة البعض وهو يتصور العلاقة علاقة بين أنداد ... وهؤلاء كان يقودهم جنون العظمة.

وقبله البعض الثالث وحتى هذا لم يسلم .. فقد احتاجوا لأعضائه ولدمه في عمليات كعمليات زرع الأعضاء.

اختلفت البدايات واتفقت النهايات وتساوى الجميع في الإثم، إثم ارتكاب فاحشة الفواحش، وكان السر مشينا للجميع فلا أحد مستعد للاعتراف به أبدا.

إنني أدرك يا قراء كم المهانة التي يمكن أن يحس بها أي واحد منكم حين يكتشف أنه قد خدع .. وأن الخديعة قد اخترقته إلى نخاعه .. وأدرك أن الأمة منذ تركت مرجعيتها المطلقة ممثلة في الدين – والدين عند الله الإسلام – لتحوم في الفضاء والفراغ والضياع والخراب حول قيم نسبية ... منذ ذلك فإن الشرط الوحيد الذي يحميها من السقوط من حالق هو ثبات النسبي (وهي قضية خاسرة بلا شك فالنسبي لا يمكن أبدا أن يكون ثابتا .. بل هو عكس الثبات) .. ودعوني أضرب لكم مثلا بفتاة هجرت مطلق الدين إلى نسبية الحب والعشق .. أحبت .. ومنحت نفسها لمن تحب .. وسمت ما تفعله ممارس ة حب .. بالنسبة لها وليس للآخرين يظل الأمر كذلك حتى يهجرها معشوقها أو يخون .. فتتحول ممارس ة الحب بأثر رجعي إلى زنا .. وتتحول العاشقة المعشوقة إلى مومس وبغي .. وتتحول المتحررة الحرة إلى جارية وعبدة.

نعم .. هل ترتعشون يا قراء وهل ترتعد مفاصلكم .. فلأتقدم بالرغم من ذلك خطوة أخرى .. لأقول لكم إن هناك من هن أكثر عارا من تلك الخاطئة التي ذكرناها على الفور ... ألا وهي تلك الداعرة التي بدأت وهي تعرف أنها داعرة لكنها لبست رداء النسبية كي تقوم بدور مرسوم تحصل به على الثمن.

لا أتحدث عن قضايا آداب بل أضرب المثل بها على قضايا سياستنا وموقف ساستنا.

أدرك يا قراء حجم الخديعة .. وأدرك حجم الألم .. فنحن جميعا قد تعودنا أن نقرأ وأن نبحث: ليس عما يقربنا من الحقيقة .. بل عما يرسخ اقتناعنا بما نحن مقتنعون به أصلا .. مهما كان بطلانه.

أدرك حجم الخديعة .. وأدرك أن القارئ سيقاوم تمزيق ستائر الباطل والكذب فكأنما هي الشيء الوحيد الذي يخفي عورته.

كل سؤال تمزيق .. وكل تمزيق كشف للمزيد من العورة ...نعود إلى السؤال:

هل كان كل المنطق وكل العقل وكل الوفاء وكل الضمير وكل الأخلاق بل وكل الإيمان مع ثورة 23 يوليو وجمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل وكان أعداؤهم بالتالي على النقيض .. كانوا الخوارج الذين لا منطق معهم ولا عقل لهم ولا ضمير ولا أخلاق بل ولا إيمان أيضا؟ ..القضية ليست قضية مصر بل قضية كل الدول الإسلامية ...كما أنه ليست قضية حكومة ومعارضة بل قضية استسلام أو مقاومة .. بيع للوطن أو دفاع عنه ... قابلية للاحتلال أم رفض لها .. إيمان بالطاغوت أم إيمان بالله قبل أن نجيب علينا أن نستعرض وقائع ثلاث .. الواقعة الأولى عما سمي عام 54 بقضية الأسلحة .. والواقعة الثانية تتعلق بالشهيد محمد الصوابي ، أما الواقعة الثالثة فتتعلق بعلاقة ثورة 23 يوليو بالشهيد سيد قطب.

لكننا قبل أن ندلف إلى هذه الوقائع الثلاث، نثبت هنا ما أثبته الشيخ ؤ (العالم الجليل مؤلف فقه السنة) حول علاقة الثورة بالإخوان المسلمين:

جمال عبد الناصر كان من الإخوان المسلمين يقينا، وقد بايع مع كمال الدين حسين في ليلة واحدة على المصحف والمسدس، وكان جمال تابعا للخلايا السرية، وبقي كذلك حتى قامت الثورة، وكانت فكرة الخلايا السرية أساسا محاربة الإنجليز ، فإذا استطاع الإنجليز القضاء على الهيكل الظاهري، فيكون وجود الخلايا السرية باقيا كقوة".

قد يحيك في نفس القارئ شيء من أننا استشهدنا بعدو ثورة 23 يوليو ، لكن ما كتبه الضباط الأحرار بعد ذلك يحفل بهذه الحقيقية، وأولهم كمال الدين حسين ، الذي ذكر أنه لم يكن هناك هدف للضباط الأحرار إلا تطبيق الإسلام، وحتى الدارسون المسيحيون يقولون ذلك أو ما يؤدي إليه، فها هو سليم نجيب يذكر أن جمال عبد الناصر كان يقوم بتدريب التنظيم السري العسكري للإخوان المسلمين وإمداده بالسلاح مع محمد أنور السادات .

سوف نقول أيضا أن عشرات الصور الفوتوغرافية عن تلك المرحة بين زعماء الإخوان وقادة الثورة، هذه الصور موحية تماما، لكن لمن يراها، ونقول أكثر أن العلاقة بين المرشد العام للإخوان وبين جمال عبد الناصر كانت تسمح للأول أن يدعو أو في الحقيقة يستدعي الثاني إلى منزله عندما تكون للاجتماع ضرورة.

هل هذا السر الذي لا يستطيع حتى هيكل – بل وربا بالذات هيكل – البوح به؟ .. وهل هذا السر هو الذي يقبع خلف ما تصوره: خروج العرب من التاريخ، وما يوشك هو بنفسه أن يفعله عامدا متعمدا بالتوقف عن الكتاب كما أعلن .. أي الانسحاب من التاريخ؟! .. أقول بالذات هيكل .. والتخصيص هنا ليس لأنه أسوأهم .. على العكس ... لأنه أفضلهم .. وما لم يعد يخجل الآخرين البوح به يذبحه هو أن يبوح به أو أن يعترف .. وأنا واحد من الناس ما زلت بحسن الظن أظن أن هيكل لم يسع إلى الباطل بل وقع فيه، وأنه عندما وقع في الغواية فقد وقع استدراجا وتعرض لخيانة مركبة معقدة ... لم تقتصر على الأجنبي .. والآخر، بل اشترك فيها بعض نفسه ضد بعضها الآخر حين تخلى عن المرجعية الإسلامية ففقد درعه الواقي وترياقه الذي كان يمكن أن يحميه من سموم الخيانة.

كان هيكل أفضلهم .. ولذلك لم يستطع الاستمرار .. تماما كما لا يستطيعه الآن .. الآخرون استطاعوا أما هو فلم يستطع.

وأنا أدرك أزمة هيكل .. فلا هو يستطيع الرجوع إلى وراء ولا التقدم إلى الأمام ولو لخطوة واحدة. إنه لا يستطيع بعد كل ما جرى أن يزعم أنه كان على صواب .. كما أنه لا يملك أن يتقدم إلى فكر عاداه طول عمره.

أزمة هيكل أنه كاتب حقيقي وصحافي حقيقي ومثقف حقيقي. وأزمته الأكبر ربما كان القرآن الكريم سببها .. فلقد حفظه عن ظهر قلب في صباه .. والآن هو لا يستطيع العودة إلى ظلاله التي تفيأها ذات يوم .. في الوقت الذي لا يوجد فيه أي ظل آخر ..

والآن لندلف إلى الواقعة الأولى من الوقائع الثلاث:

قضية الأسلحة

بطل هذه الواقعة هو المجاهد حسن عشماوي ، من مواليد عام 1921م وأتم دراسته القانونية بكلية الحقوق سنة 1942م .. مارس أعمال النيابة العامة والقضاء ثم تفرغ للمحاماة، وللعمل في جماعة الإخوان المسلمين.

كان اللقاء الأول بين "حسن عشماوي " و"جمال عبد الناصر " سنة (1371ه – 1951م )، بعد إلغاء معاهدة سنة 1936 م، وكان الإخوان يشاركون في معارك قناة السويس دون إعلان، وكان الضباط الأحرار يتعاونون مع الإخوان في المعركة، واختير "حسن عشماوي " ليكون همزة الوصل بين الجماعة وتنظيم الضباط الأحرار في أمور معارك قناة السويس ، وفي غيرها من الأمور .. وكانت علاقة الإخوان بعبد الناصر قبلها عن طريق الضابط محمود لبيب.

كانت كفاءة "حسن عشماوي " محل تقدير على الرغم من صغر سنه، الأمر الذي جعله أهلا لأن يكون عضوا في لجنة وضع الدستور ي المصري سنة 1953 ، وأن يرشح للوزارة .. وقد أوفده عبد الناصر في مهمة رسمية إلى الكويت عام 1953 .

والآن لنتناول قضية الأسلحة .. والتي كانت بداياتها الأولى في منتصف الأربعينيات حين كان جمال عبد الناصر وبعض الضباط الأحرار يشتركون في تدريب الإخوان على استعمال الأسلحة في النظام السري من عام 45 – 1947 بقصد إجادة استخدام هذه الأسلحة لمحاربة اليهود والإنجليز ، كان عبد الناصر أيضا أحد مصادر شراء السلاح للإخوان ... كانت هناك أسلحة مخبأة عند عبد الناصر وعند مجدي حسنين من الضباط الأحرار، وفي يوم 26 يناير 1952 يوم حريق القاهرة – اتصل عبد الناصر بحسن عشماوي واستنجد به لنقل الأسلحة – وكانت معدة لنقلها إلى منطقة قناة السويس – لخوفه من تفتيش المكان بمناسبة الحريق وذهب عدد من الإخوان (منير الدله وعبد القادر حلمي وحسن عشماوي ) بسياراتهم ونقلوها برمتها إلى عزبة حسن العشماوي ثم إلى قصر والده المرحوم محمد العشماوي بالشرقية .. وكان الوحيدون الذين يعرفون مكان هذا المخبأ هم أفراد هذه المجموعة من الإخوان بالإضافة إلى عبد الناصر نفسه .. وتم بناء هذا المخزن بواسطة الإخوان في مدى ثلاث ليال في سرية كاملة على حسب التصميم الذي وضعه جمال عبد الناصر .. ونقلت الأسلحة والمواد المتفجرة في هذا المخزن في سرية تامة كذلك .. وظلت حتى نجاح الحركة، وكان حسن عشماوي قلقا من سوء التخزين لأن المخزن بني في سرعة على عمق ثلاثة أمتار من سطح الأرض الأمر الذي كان يخشى بسببه من تسرب المياه إلى أرضية المخزن وتلف الأسلحة، ولذلك كان يستعجل صديقه جمال عبد الناصر في نقل محتويات المخزن لكن جمال عبد الناصر كان يطلب التريث لعله يحتاج إليها يوما ما .. وكان حسن عشماوي يتصور أنه ربما كان في عزمه مواصلة الكفاح في قناة السويس .. وثبت بعد ذلك أنه لم يكن يريد استعمالها في قناة السويس ، بل في ميدان آخر، ففي يناير سنة 1954 تحققت حاجة عبد الناصر إلى هذه الأسلحة فعلا حين ألقي القبض على حسن عشماوي مع بقية الإخوان – ومنهم المرشد العام حسن الهضيبي وسيد قطب – واتهمهم بتخزين أسلحة ومفرقعات تكفي لنسف القاهرة!! .. وأطلق ألسنة الصحافة بالكلام عن مخازن الأسلحة هذه التي كانت معدة لمحاربة الثورة .. لا لإنقاذ الثوار من براثن الشرطة يوم حريق القاهرة!!

دخل المرحوم حسن العشماوي السجن في يناير سنة 1954 متهما بإحراز أسلحة عبد الناصر ، وكانت مانشيتات الصحف الصادرة في يوم (18 من يناير 1954 م) على صدر صفحتها الأولى عن عثور قوات الأمن على مستودع كبير مليء بالأسلحة والمواد الناسفة بعزبة تمتلكها أسرة "حسن عشماوي ".


في التحقيق، وجه حسن عشماوي كلامه لوكيل النيابة بأنه ممتنع عن الإدلاء بأية أقوال، وعن الإجابة على أي سؤال حتى يحضر "جمال عبد الناصر " الذي يعرف كل شيء عن هذه الأسلحة، ويعلم قصتها ...يا قراء .. فلنحاذر من أن نموت في البحر غرقا أو أن نتوه في الصحراء .. ولنتجنب رصد فترة تعمد الكل ألا ترصد، وتعمد الكل تجاهل ما رصد منها، من فترة أصبحت متاهة وأرض تيه، فلنحذر إذن، نحن لا نقدم موجزا للتاريخ، لكننا فقط نلتقط علامات موحية من هنا وهناك ...في يناير 1954 ومع أزمة نجيب الأولى كان القبض على الإخوان المسلمين الذي ذكرناه على الفور، وتغيرت الظروف بشدة داخل الجيش وفي الشارع، فاضطر عبد الناصر إلى التراجع الكامل، وفي 25 مارس سنة 1954 أعلن عبد الناصر إلغاء قراراته السابقة والإفراج عن الإخوان، وفي حركة استرضاء، يسبق المرشد العام إلى بيته كي يكون في انتظاره هناك عند وصوله بعد الإفراج عنه، وهناك يلاحظ غياب حسن العشماوي ويسأل عنه فيقال له هو "غاضب من سلوكك معه ومع الإخوان"، فيضحك عبد الناصر ملء شدقيه ويعقب: "أنا شهرته في الجرائد بما يساوي عشرة آلاف جنيه"!!

أما عن الموقف القانون فقد حفظ التحقيق في قضية الأسلحة التي كانت تكفي لنسف القاهرة عشر مرات، وكان هذا يعني أن الاتهام باطل، وأن هذه الأسلحة إنما هي ملك "جمال عبد الناصر " وهو الذي أخفاها عند "حسن عشماوي ".

يا الله!!  

الباب الثاني: الشهيد محمد الصوابي

  أقدم لكم قصة فيلم سينمائي أضمن لكم نجاحه، أو مسلسل تلفازي تطول حلقاته وتطول فلا يملها المشاهد أبدا، لأنها تحفل بكل ما يغري الناس ويجذبهم .. الصراع والسلطة والدم والعنف والإثارة والرعب والألم والأمل والتشويق والخوف والانبهار والانتظار والانهيار والرجاء والموت والوفاء .. ثم إن القصة تحفل بتشويق تضاهي به أعقد القصص البوليسية، حيث لا يكتشف الناس المجرم إلا بعد أن تكتمل الجريمة، بل ويزيد الأمر على ذلك، فلربما عاش هذا المجرم أعواما والناس يعتبرونه بطلا .. كما أن البطل قد يموت شهيدا ... والناس يضعونه في عداد المجرمين .. تماما كما اعتبر سليمان الحلبي وعمر المختار وأحمد عرابي عند المجرمين مجرمين .. لمجرد أن السلطة ووسائل الإعلام كانت بيد المجرمين .. وفوق هذا كله فالقصة تحوي أيضا شيئا نادرا وغريبا لا تعرضه فضائياتنا إلا مشوها .. شيء نادر وغريب .. اسمه الإسلام.

على أنني في استعادة هذا التاريخ لا أهدف على الإطلاق إلى إيقاظ فتنة أو استعادة معركة أو الانتصار لهذا على ذاك، ولست أزعم أيضا إنني زعيم بأن أقدم القول الفصل، ولا الحق الذي لا يشوبه باطل، بل إنني أذكر القراء وأذكر نفسي، أن التقدم البشري جله، إنما يعتمد على اكتشاف الباطل فيما مضى، وتصويبه.

لا أهدف إلى أي من ذلك، كما لا أطمح ولا أطمع ولا أريد أن أقدم للقارئ منجم معلومات وأترك له الحكم، فذلك فوق أنه فوق قدرتي فإنه ليس مرادي.

ما أريد أن أقدم للقارئ، إنما هو منهج للبحث، منهج معتدل لا منهج مقلوب، منهج لا يقبل المسلمات إلا في مجالها، وفي هذا المجال عليه أن يسلم للوحي – أهم مصدر للمعرفة عند المؤمنين – بالأمر كله، أما فيما عداه فعليه أن يعمل عقله حتى أقصاه.

وما أريد أن أقوله للقارئ، أن عمليات التضليل البشعة الهائلة وغسيل المخ التي يتعرض لها العقل المسلم لم تسبق في التاريخ .. كما أريد أن أقول، إن العلمانيين العرب، وفي مقدمتهم الشيوعيون، هم على درجة من الخسة والكذب لا يضاهيهم فيها أحد.

إن العلماني الغربي على سبيل المثال لا يتورع عن التصريح بأنه ملحد، أو الاعتراف بأنه شاذ، كما أنه يطرح أفكاره أيا كانت كما يؤمن بها، أما هنا، فإن الملحد لا يدعي الإيمان فقط، بل ويرى أن يحتكر تفسير الدين، والشاذ لا يمارس الشذوذ فقط بل يتاح له أن يكون الوحيد الذي يحدد مقاييس الشرف يتهمون المسلمين بالتقية وهم الذين يمارس ونها على أبشع وجه يمكن تصوره، ولا أحد منهم يعبر عن آرائه الحقيقية أبدا، فإذا لم نتنبه لذلك، فسنظل على الدوام أسرى لعمليات غسيل المخ.

عمليات غسيل المخ في بلادنا لا يقوم بها الجهاز المخابراتي فقط، بل الجهاز الخسيس لتزوير الواقع واستنزاف الوعي، الذي يسيطر على جل منابره العلمانيون من عملاء الشرق والغرب والشيطان، وربما يحتفظ المواطن العادي بحصانة طبيعية ضد تضليل الدولة، لكنه غفل عن التسلل والاختراق الذي قامت به النخب المثقفة ممثلة للجهاز المخابراتي.

في الفترة الماضية على سبيل المثال، وقلبي ينسحق تحت وطأة الهزيمة، والنار في حشاياي، قررت أن أعيد قراءة التاريخ لأعثر على الخطأ، ولاقيت صعوبة هائلة في العثور على أبسط المصادر ... كما أنني لاحظت في قضايا الإخوان المسلمين على سبيل المثال، أن صوت الدولة وحده هو الذي كان مسموعا، لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، لقد كانت الدولة أيضا هي تعين رجال الإعلام والمثقفين، وما هم برجال ولا هو بإعلام ولا هم بمثقفين، وكان هؤلاء بدورهم، يؤكدون طول الوقت على أكاذيب السلطة، ويتجنبون التطرق بأي شكل من الأشكال إلى حقيقة ما حدث، بل وبلغت بمعظمهم الحقارة والخسة أن يعتمد في تحليله السياسي، وفي أحكامه، على أقوال المعتقلين التي أخذت منهم تحت وطأة تعذيب لا يوصف، دون أن يحاول بأي شكل من الأشكال أن يلقي أقل قدر من الضوء على أي حقيقة.

وكانت الدولة أيضا هي التي تعين أساتذة الجامعة، فاستبعدت طول الوقت كل شاهد حق، واستخدمت المنافقين، وأرباب الكذب، وعلى مستوى السياسة، كان وجهاء السياسة، جلهم، من حثالة الناس وقاع المجتمع الذين اقتنصهم أجهزة الأمن، وعرضتهم لقدر من التدريب المكثف، وكان بعضهم يمتلك من الخسة قدرا جعله لا يحتاج لأي تدريب إضافي، أما البعض الآخر فكان لا بد أن يمر بدهاليز السجن والعذاب، كي يكفر بكل قيمة، ودين، ويؤمن فقط بالفرعون فلا يرى إلا ما يرى.

ضاعت الحقيقةعلى موائد اللئام والمجرمين

وكثرت الأسئلة بلا جواب وتكاثرت .. وسوف نتحدث عن ذلك في حلقات قادمة بإذن الله، ولكنني وعدتكم في بداية هذا المقال بقصة تصلح فيلما سينمائيا أو مسلسلا تلفازيا .. هي قصة الشهيد محمد الصوابي .

لقد حدثتكم عن عشماوي وكيف اعتقل في يناير 1954 في الاعتقالات الثانية عام 54 أيضا استطاع حسن عشماوي الفرار والتخفي ثلاثة أعوام غادر بعدها البلاد.

كان اعتقاله والتهم التي وجهت إليه تمثل منتهى الجحود والخسة.

نجح حسن العشماوي في فراره .. محمد الصوابي لم يكتب الله لفراره النجاح.

لكن قبل أن نتطرق إلى هذه القصة أريد أن ألفت انتباهكم إلى واقعة مشتركة توجع القلب.

هل قلت توجع؟ يا للكلمات وكيف تخون؟ .. توجع؟؟ بل تمزق وتدهم وتدهس وتسحق.

هذه الواقعة المشتركة، هي أن معظم من سنتحدث عنهم من شهداء الإخوان، كانوا مشهورين قبل ثورة 23 يوليو بأعوام.

نعم .. كانوا مشهورين ... بسبب بطولاتهم وتضحياتهم في فلسطين، وفي قناة السويس .

نعم .. لن تجد من ضحايا التعذيب إلا من كانت له سابقة جهاد.

أما المشكوك فيهم .. والمتيقن من خيانتهم فقد قربتهم السلطة وكرمتهم أيما تقريب وأيما تكريم. لقد كان من المتصور على سبيل المثال أن تصب ثورة 23 يوليو جام نقمتها على عبد الرحمن السندي ، رئيس التنظيم السري، وهو الشخص الذي أقسم أمامه جمال عبد الناصر وثمانية من الضباط الأحرار يمين الولاء على السيف والمصحف عام 45، وغضب عليه الإمام حسن البنا وفصله المستشار حسن الهضيبي من تنظيم الإخوان، أقول كان المتصور أن يكون هذا هو أكثر من يحارب وأكثر من يعاقب وأكثر من يعذب، لكنه لم يتعرض لأي من ذلك، بل عينته حكومة الثورة في شركة شل للبترول، واستمرت علاقته وثيقة بالسلطة خاصة بعبد الحكيم عامر، ثم سمح له بالسفر للعمل في البلاد العربية، ولم يرسلوا من يأتوا به في ظروف غامضة كما أرسلوا من جاء لهم بالشهيد محمد الصوابي .

علي عشماوي أيضا، كان محكوما عليه بالإعدام مع الشهيد سيد قطب، والوثائق التي أمامي غامضة، فهي لا تذكر قرارا معينا بالإفراج أو التخفيف، لكن المعلوم أنه كان معززا مكرما في السجن الذي لم يمكث فيه سوى بضعة شهور، يرفل في الثياب الحريرية، ويستجيب لكل رغبات السلطة الفاجرة .. (الرغبات والسلطة معا) .. لكن المتيقن منه، أنه خرج من السجن إلى الولايات المتحدة الأمريكية (؟؟؟!!!) ثم عاد .. وأظنه حيا حتى الآن.  

محمد الصوابي كان في الجانب الآخر

محمد الصوابي الديب، وهو بطل من أبطال فلسطين، والكفاح المسلح في القناة، كان مطلوبا للقبض عليه عام 1954 ، ويصف زميله وصديقه المستشار عبد الله عقيل ما حدث له، فقد بقي محمد الصوابي فترة من الزمن، متخفيا عن الأنظار، يسكن المقابر، ويجاور الأموات، حتى هداه الله إلى الالتجاء إلى جوار رجل شهم كريم، وعالم أزهري كبير، هو مفتي الديار المصرية آنذاك، العلامة الشيخ حسنين مخلوف .

والشيخ حسنين مخلوف ليس شخصا عاديا، وإنما مجاهد يختزل فيه ضمير أمة، وعرفت مكانته المؤسسات العلمية، فدعته للعمل بها، فكان عضوا مؤسسا لرابطة العالم الإسلامي بالسعودية، وشارك في تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، واختير عضوا في مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية .. وحظي الشيخ بتكريم الدولة في مصر، فمنحته جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة (1402هـ - 1982م ) ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وامتد تكريمه إلى خارج البلاد، فنال جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة (1403هـ - 1983م) .. فضلا عن أنه كان مفتيا للدار المصرية لزمن طويل.

طرق محمد الصوابي الديب باب الشيخ حسنين مخلوف ، وذهب الخادم إلى الشيخ ليخبره عن الطارق فيقول: إنه شاب طليق اللحية، رث الثياب، ويريد مقابلتك .. يروي الشيخ مخلوف بنفسه ما حدث فيقول الشيخ: تعجبت من ذلك وظننت أنه عابر سبيل .. دخل الشاب المنزل، ولم أقابله في البداية، بل أعد له الخادم طعام الغداء، فأكله بشهية وكأنه لم يأكل منذ مدة طويلة .. بعد الغداء ظننت أنه سينصرف، إلا أنه أصر على مقابلتي وألح في ذلك، فذهبت إليه وما إن رأيته حتى ظننت أنه سيطلب صدقة، فقد كان رث الثياب تبدو عليه شدة التعب.

بدأ حديثه بأن عرفني على نفسه .. محمد الصوابي الديب طالب بكلية الشريعة بجامعة الأزهر .. ولقد اهتز بدني وأصبت برعشة عندما قال لي: "إنه كان من متطوعي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين والقناة"، فقد كان الإخوان المسلمون في ذلك الوقت سنة 1954 م في أوج محنتهم، نظر الشاب إلي في هدوء – الحديث للشيخ مخلوف – وقال بصوت منخفض ولكنه قوي: أنا في محنة وأحتاج إليك، فأنا مطلوب القبض علي، وقد مكثت أكثر من شهر هاربا متخفيا في المقابر نهارا، ثم أخرج في الليل لأقتات الطعام .. لقد كرهت الحياة بين الأموات وأريد أن أعيش بين الأحياء فهل تقبلني؟ ..".

يقول الشيخ حسنين مخلوف :

سيطر الذهول على نفسي تماما، ولم أفق إلا عندما قال الشاب: ما رأيك؟ .. استأذنت منه وذهبت إلى أولادي .. الدكتور علي وابنته زينب، والذهول ما زال مسيطرا على نفسي .. لاحظ أولادي ذلك على الفوز فسألوني: "مالك يا أبي .. حصل إيه؟ ..".

أخبرتهم بالقصة، وفجأة وجدت نفسي أردد قائلا: إنه صادق .. إنه صادق .. إنه صادق.

قلت لأولادي: إنني متأكد أن هذا الشاب ليس من الشرطة أو المباحث، جاء ليختبرنا، بل إنني موقن أنه يقول الصدق فهو صادق .. وأضفت: إنني لا أستطيع أن أرد مستجيرا في هذه المحنة، وأنا موقن أنه مظلوم، وقد قررت قبوله، ولكن الذي يقلقني هو ما ستفعله بكم أجهزة المباحث والدولة كلها إذا اكتشفوا وجوده بيننا، حيث هناك قانون أو فرمان جمهوري صدر في ذلك، يعاقب كل من يتستر على أي من الإخوان المطلوب القبض عليهم بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشرة سنة، قال ابني على – بعد فترة صمت -: افعل ما تراه من الناحية الإسلامية والله يتولانا جميعا، ويضيف الشيخ حسنين مخلوف فيقول: خرجت مع ابني علي إلى الشهيد الصوابي، وعرفته بابني علي، وأخبرته بأننا قررنا قبوله عندنا، وأنه يشرفني ذلك ... ارتسمت أمارات الراحة والاطمئنان على وجه الشهيد ... وما زلت أذكر ابتسامته المضيئة على وجهه حتى الآن.

ويواصل الشيخ حسنين مخلوف روايته:

وسيطرت الدهشة على وجه الشهيد عندما قال له ابني الدكتور علي: "لا بد من أن تولد من الآن بشخصية جديدة وتدفن شخصيتك الحالية" . ويضيف الدكتور علي مخلوف الذي يعمل رئيس قسم أمراض النساء والولادة بطب عين شمس: كان في اعتقادي أنه لا يمكن إخفاء الشهيد محمد الصوابي الديب، وبخاصة في منطقتنا التي كانت تشتهر بكثرة ضباط البوليس الذين يسكنونها، فكان الحل أنه لا بد من أن يولد الشهيد الديب بشخصية جديدة تماما .. وأن أحسن طريقة لإخفاء أي شخصية هو أن تظهره بشخصية جديدة، وتكون جميع تصرفاته طبيعية، أما الهروب والاختفاء عن أعين الشرطة والناس، فإنها طريقة فاشلة ينكشف أمرها دائما، عاجلا أو آجلا.

واتفقنا على أن يعمل الشهيد سكرتيرا لوالدي الذي كان فعلا في حاجة إلى سكرتير، فقد كان مفتيا للديار المصرية في ذلك الوقت، وكانت ترد إليه استفسارات دينية كثيرة، بالإضافة إلى أنه يكثر من تأليف الكتب، واحترنا في الاسم الذي نطلقه عليه، وأخيرا قال والدي للشهيد: أنت صادق في جميع تصرفاتك وأقوالك، فاسمك منذ الآن "صادق أفندي" وضحكنا جميعا.

وفي اليوم التالي كان الشهيد محمد الصوابي الديب شخصا آخر تماما، نظيف المظهر، حليق الذقن، وهو أبيض اللون، واسع العينين، متوسط الطول، نحيف الجسم.

ويقول الشيخ حسنين مخلوف :

إن الخطة التي تم وضعها لإخفاء الشهيد نجحت تماما، فقد أذعنا على كل أفراد الأسرة أنه جاء لي سكرتير جديد اسمه "صادق أفندي"، ولم يعرف بالسر سوى أربعة أشخاص: أنا وابني الدكتور علي وابنتي الدكتورة زينب، وزوجة ابني الدكتورة سعاد الهضيبي، التي لم تتردد في الترحيب بالشهيد رغم أن والدها المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي وجميع إخوتها في السجن.

ويضيف الشيخ حسنين مخلوف :

إن الشهيد محمد الصوابي الديب أو صادق أفندي، كان فعلا سكرتيرا ممتازا، وعاونني كثيرا في عملي، وبخاصة في الكتب التي أخرجتها في ذلك الوقت، وكان الشهيد يصحبني دائما، في كل مكان أذهب إليه، وقد اعتبرته فعلا سكرتيري الخاص.

عاش صادق أفندي لمدة ثمانية أشهر كاملة مع أفراد أسرة الشيخ حسنين مخلوف كأنه واحد منهم، يأكل معهم ويعيش بينهم، حيث كان الشيخ يطلب منه دائما الإجابة عن الاستفسارات الدينية الكثيرة التي ترد إليه باعتباره مفتيا للديار المصرية، وكان الشهيد يسكن في حجرة منفصلة بحديقة المنزل بها صالون ومكتبة كبيرة وغرفة نوم وحمام خاص، تم تخصيصها لصادق أفندي.

يقول الشيخ حسنين مخلوف :

وفي أحد أيام صيف 1955م على ما أذكر، جاءني صادق أفندي وقال لي إنه يريد السفر إلى السعودية ليعمل هناك، وحاولت أن أثنيه عن ذلك، ولكنه أصر وأخبرني أن هناك شخصا قد أعد له الرحلة بالباخرة عن طريق السويس إلى جدة.

إن قلبي لم يطمئن واستعنت بابني الدكتور على لإقناعه بعدم السفر، ولكن دون جدوى، وقال إنه يريد أن يكون نفيه هناك، ويستريح من القلق الذي يعانيه كهارب، رغم إجادته لشخصية صادق أفندي، وغادرنا الشهيد البطل بعد أن وعدنا بأن يرسل لنا برقية فور وصوله إلى السعودية لكي نطمئن، وأرسلت إلى المرحوم محمد سرور الصبان مستشار الملك سعود ليهيئ له عملا عند وصوله إلى هناك، ولقد مضى على سفر الشهيد حوالي الشهر ولم تصل أي برقية تفيد بوصوله إلى هناك ...

يقول الدكتور علي حسنين مخلوف :

كانت الأسرة كلها قلقة، وبما أنني كنت أكثرهم هدوءا، فقد حاولت دائما أن أطمئنهم، ولكن دون جدوى، وضاع هدوء أعصابي في أحد الأيام عندما أخبرتني زوجتي الدكتورة سعاد الهضيبي أنها سمعت من إذاعة لندن أنه تم القبض على اثنين من الإخوان المسلمين في باخرة السويس، وهما في طريقهما إلى جدة، ولم تذكر الإذاعة أسماء، ولكننا شعرنا أن الشهيد محمد الصوابي الديب كان أحدهما .. ويبدو أن الشهيد محمد الصوابي نجح في الوصول إلى جدة، وقد كشفت السفارة المصرية في جدة شخصيته، وقبضت عليه بطريقة غامضة، وأعادته إلى القاهرة وأدخل السجن الحربي .

ويكمل الرواية وهبي الفيشاوي:

ويرى وهبي الفيشاوي الذي عمل مديرا لمطبعة مصر جزءا من الحكاية فيقول: إن الشهيد محمد الصوابي الديب سجن معنا بعد القبض عليه في سجن رقم 4 بالسجن الحربي ، وكان زبانية السجن الحربي يعذبون الشهيد تعذيبا وحشيا، حيث وضعوه في زنزانة تسمى "زنزانة الركن" وهي مخصصة للتعذيب الشديد، وكانوا لا يتركونه ينام أبدا، وكان الشهيد أشدنا تعذيبا لا يرحمه مجرمو السجن حتى في أوقات الراحة.

وتقول الدكتورة سعاد الهضيبي ابنة الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين وزوجة الدكتور علي حسنين مخلوف : ذهبت يوما إلى السجن الحربي لكي أسلم والدي بعض الحاجات، وعقب خروجي من مكتب مدير السجن حمزة البسيوني، شاهدت الشهيد محمد الصوابي الديب وهم يقومون بتصويره لعمل بطاقة اتهام، وكتمت صرخة كادت تنطلق مني، وأسرعت إلى المنزل وأخبرت زوجي بما شاهدته، فصاح قائلا: "رحنا في داهية" وأعد زوجي د. علي حقيبته التي سيأخذها معه إلى السجن، فقد كنا نتوقع في كل لحظة أن تأتي الشرطة العسكرية والمباحث العامة للقبض علينا.

ويقول الدكتور علي مخلوف: كنت خائفا على والدي الشيخ حسنين مخلوف ، فهو قد تجاوز الستين من عمره، ولا يستطيع أن يتحمل أهوال السجن الحربي ، ولذلك كنت أنا وزوجتي لا نفارقه ليلا أو نهارا، متوقعين في أي لحظة مداهمة الشرطة لمنزلنا.

ويقول العلامة الشيخ مخلوف: لم أكن أتوقع أبدا أن يتحمل الشهيد محمد الصوابي الديب هذا التعذيب الذي لا يصدقه عقل من أجلي، لم أكن أتوقع أن يضحي بحياته من أجلي، حقا هذه هي تربية الإسلام الحق.

في مذكرات الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي يتحدث عن الشهيد فيقول:

"بقي سؤال مهم لم يجب عنه محمد الديب، وهو: أين كان يقيم طوال المدة التي اختفى فيها قبل سفره، وهنا خشي الأخ محمد أن يضار الشيخ مخلوف بسببه، وأن ينال أدنى شيء من أذى أو إهانة، ولهذا رفض أن يجيب عن هذا السؤال، وكلما رأوه صامتا بالغوا في تعذيبه، وهو مصر على السكوت، ومن المعروف أن الإنسان قد يصبر على الضرب الأول وإن اشتد وطال، ولكن أقسى الضرب وأوجعه هو الضرب الثاني، أي الضرب والجسم مجروح ومشرح من آثار الضرب السابق، فهنا يكون الضرب شيئا لا يطاق، وهذا ما حدث لأخينا الديب، ولكثير من إخوانه المعذبين، حتى قال الإخوة الذين شاهدوه: إن جسمه قد بات كتلة من الجراح والدم والقيح والصديد، وكانوا إذا أرادوا أن يأخذوه من الزنزانة إلى مكاتب التحقيق، يتحيرون في توصيله لأنه لا يستطيع أن يمشي، ولا يستطيعون هم أن يحملوه، لأنه كومة من الجراح، وأخيرا لم يجدوا إلا (عربة القمامة) يوضع فيها، وينقل عليها، وما هي إلا أيام، حتى تفاقمت جراحه، وتضاعفت آلامه، وفاضت روحه إلى بارئها، تشكو إلى الله ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، والمصري لأخيه المصري .. وكان الذين يموتون تحت التعذيب، يلفون عادة في بطانية من بطاطين السجن، ويحمله بعض الجنود، ثم يذهبون في صحراء العباسية ليحفروا له حفرة، ثم ثواروه في التراب، لم يغسل، ولم يكفن، ولم يصل عليه أحد، ثم يكتب أمامه: أفرج عنه يوم كذا!! .. وبذا يبرأ السجن من عهدته.

أيها القارئ ... هل تحتاج إلى فسحة من الوقت للبكاء واجترار الألم؟ ...

وتقول الدكتورة سعاد الهضيبي: تعجبنا جميعا عندما مرت الأيام ولم تداهم الشرطة بيتنا كما كنا نتوقع، وفي أحد الأيام ذهبت لزيارة أبي المرحوم حسن الهضيبي بالسجن الحربي ، وسألته عن محمد الصوابي الديب الذي كان يعرفه لأنه من الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى أن بلدته "شبين القناطر" مجاورة لبلدة أبي وهي "عرب الصوالحة" بالقليوبية، فهز والدي رأسه بطريقة تدل على الأسى، وأخبرني أنه من الشهداء، وأضاف أبي قائلا: لقد تعجبت له أن الذين كانوا يقومون بتعذيبه كانوا لا يسألونه إلا سؤالا واحدا فقط وهو: "أنت كنت فين؟"، فلا يجيب إلا بآيات من القرآن الكريم، حتى كسروا عموده الفقري وبرزت عظامه وضلوعه، وكان ممرض السجن "التمرجي" يخرج من مكان تعذيبه وفي يده صفيحة مليئة بالدم.

يا قراء ...إنني عاجز عن أي تعليق ..تقتصر مهمتي الآن على النقل ..دون أي تعليق ..دون أي تعليق ..دون أي تعليق ...

يقول وهبي الفيشاوي:

إن بعض الإخوة المسجونين الذين كانوا يقومون بتوزيع الطعام علينا، كانوا يخبروننا بأحوال السجن والمعذبين فيه، وفي أحد الأيام أخبرني أحدهم أن جراح الأخ محمد الصوابي الديب فادحة جدا ومتقيحة، وأن حالته قد ساءت لدرجة أن الحشرات تسري بين جروحه، وأنه قد امتنع عن الطعام بعد أن منع عنه الماء، ولم تمض سوى أيام قليلة على هذا الحديث حتى أطفئت أنوار السجن الحربي كلها في إحدى الليالي، وشاهدت من ثقب زنزانتي حراس السجن الحربي يحملونه ملفوفا داخل بطانية ويضعونه داخل سيارة جيب مغلقة، وشعرت أنه الشهيد محمد الصوابي الديب، وقلت في نفسي استرحت وفزت بالجنة إن شاء الله.

يصرخ الدكتور يوسف القرضاوي في مذكراته:

ومن ذا سيحاسبهم؟ .. ولقد شهدنا أيامنا الأولى في السجن الحربي ، وكنا في سجن رقم (4) واحدا من هؤلاء الذين قضوا نحبهم تحت التعذيب، ملفوفا في البطانية السوداء، ومحمولا على عاتق بعضهم، شهدنا ذلك بأعيننا، إذ كانت الأبواب مفتوحة دون أن يشعروا، ثم سرعان ما أغلقوها بعصبية وانفعال، ولقد قتل عدد من الإخوان بهذه الطريقة البشعة، منهم الأخ محمود يونس من عرب جهينة، والأخ علي الخولي الموظف بأخبار اليوم، وآخرون، ومما أذكره: أن أحد الشباب جيء به إلى السجن بعد فترات التحقيق والتعذيب الأولى، وكان جو السجن هادئا نسبيا، ولكنهم حققوا معه بشيء من القسوة الزائدة، وكان الشاب قويا أبيا مفتول الذراعين، صبورا على التعذيب، واثقا بنفسه، مؤمنا بربه، وهذا النوع من الرجال يغيظهم ويثيرهم، ويبدو أنهم ضربوه ضربة كانت قاتلة، أذكر أن اسمه فاروق أبو الخير، وأنهم مزقوا الصفحة التي كتب فيها، واعتبر كأن لم يدخل السجن الحربي ، ولم يمر بعتبته قط.

يقول الدكتور توفيق الشاوي في كتابه "مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي"، دار الشروق:

إن هؤلاء يظنون أنهم يستغلون أموال القوى الأجنبية ونفوذها للبقاء في السلطة، وينسون أنها هي التي تستغلهم وتخدعهم، وقد رأينا كيف استغل زعماء الثورة العربية الكبرى ما قدمه لهم "لورنس" من ذهب بريطانيا، ومن وعود كاذبة بدعم استقلالهم عن تركيا، بل ووحدة العرب بعد انفصالهم عنها، وتبين أن بريطانيا هي التي خدعتهم واستغلتهم، لتنتصر هي وحلفاؤها على الدولة العثمانية وتستولي على الأقطار العربية وتمزق وحدتها.

والذين يظنون أنهم يستغلون مساعدات الدول الكبرى ينسون أن ما يقومون به لاقتلاع جذور الفكر الإسلامي، والقضاء على التيار الإسلامي، هو هدف استراتيجي لأعدائنا؛ لأنه يسهل لهم تنفيذ مخطط استراتيجي طويل المدى يحرمون فيه شعوبنا من الوحدة حتى يستغل الاستعمار الأجنبي ثرواتها، ويفرض سيطرته على دولها أطول فترة ممكنة".

يا قراء ...إنني أعيد تذكيركم أنني إذ أكتب إنما أحاول أن نستنبط معا قانونا واحدا يفسر لنا حجم الهزائم التي تعرضنا لها.

جميعنا يقول إن ولادة السفاح لإسرائيل عام 48 كانت نتيجة منطقية لمؤتمر وسياسات تبلورت في مؤتمر بال عام 1898 والآن أسأل:

هل ما يتم في مصر على سبيل المثال قد تم التخطيط له وزرع بذوره منذ خمسين عاما.

وأذكر مصر على سبيل المثال فقط، لكنني أقصد العالم الإسلامي كله.

نعم ..أريد أن نستنبط معا إذا ما كانت المقدمات تتناقض مع النتائج أم أن الأخيرة هي النتيجة الطبيعية للأولى، وكوننا لم نر لا يدل على حجم الخديعة والتزوير.

وأريد أن نتساءل معا عن موقف محمد علي (باني مصر الحديثة؟؟!!) ضد المسلمين، وحل النقراشي – عميل بريطانيا – جماعة الإخوان – هل لاحظتم يا قراء أن حلها قد تم والمعارك محتدمة في فلسطين عام 48، وأن نفس هذا القرار اتخذه بطل القومية العربية جمال عبد الناصر عام 54.

وأقول لنفسي إننا إزاء هذا وذاك لا نحتاج لكي نفهم – إلى علوم السياسة والاجتماع بل إلى القليل جدا من علوم الحيوان والصيد .. ذلك أن صائد الجاموس الوحشي يعرف أنه عندما يروع القطيع من الجاموس فإنه ينفر ويتفرق ويجري بأقصى سرعة حول نصف دائرة واسعة، ويدرك الصائد ذلك، فيظل يسير الهوينى في خط مستقيم، لا يزعجه اختفاء فريسته، واثقا أنها ستلف دورة واسعة لكي تعود إليه في خطه المستقيم، لاهثة مستنزفة عاجزة، تنتظر من الصياد – شارون وبوش – أن يلقى بأنشوطته حول أعناقها وهي تنظر إليه في استسلام غبي بائس.

فهل فهمتم الآن يا قراء سياسة حكامنا؟

ولكن الله يهدي من يشاء.  

الباب الثالث: مذبحة المنشية

أخاف أن أموت، قبل أن أصدع بحق أرانيه الله، وقبل أن أعترف بخطأ وقعت فيه، حين ظننت ذات يوم أن الصدام بين ثورة 23 يوليو والإخوان المسلمين كان صداما سياسيا دنيويا تبادل فيه الطرفان الأخطاء ثم انتصر أحدهما على الآخر ..أخاف أن أموت قبل أن أصدح بها عالية صريحة واضحة أن الخلاف لم يكن كذلك .. كان للإخوان أخطاؤهم بلا شك .. لكنها الأخطاء البشرية مهما بلغ حجمها .. وما من أجل هذه الأخطاء حاكمتهم الثورة وروعتهم وسجنتهم وعذبتهم وأعدمتهم .. ليس من أجل الأخطاء، بل من أجل التزامهم بالمنهج الإسلامي ودعوتهم إليه .. ولم يكن جمال عبد الناصر يطيق شريكا إلى جواره ..إنها كلمة حق تتضمن ضمن ما تتضمن أن كل مظاهر الإجرام في عهد جمال عبد الناصر ..امتهان القضاء .. بدأ يومها واكتمل.

قيام الجيش على الحشاشين والسهرات الحمراء وتفريغه من الخبرات القتالية المؤمنة.

سيادة إجرام الدولة البوليسية ..تزوير الانتخابات ..التعذيب .

مجانية التعليم التي أسفرت عن وضع لا مجانية فيه ولا تعليم ..قتل روح الأمة، الأمة التي كانت مظاهرات طلابها تسقط حكومة الخديوي والسلطان والملك .. وتهز عرش المندوب السامي .. هذه الأمة قد تم إخصاؤها .. أخاف أن أموت قبل أن أقول ذلك ...وأخاف أن أموت قبل أن أقول لكم أن ما حدث من ثورة 23 يوليو 1952 لم يكن مجرد إجرام .. وكيف يكون مجرد إجرام وهو يحتوي على بذور الكوارث التي حاقت بنا وتحيق ..كان إجراما .. كان إجراما حتى لو كانت القصة الرسمية لحادث المنشية صحيحة .. فحيث لم يقتل أحد تم إعدام ستة من أعظم أبطال مصر .. وتم قتل 280 شهيدا من التعذيب .. وتم تعذيب الآلاف وتشريدهم أسرهم .. وتم تشويه الإسلام، ذاته والتشهير به بنفس الطريقة التي يتعامل بها الموساد والسي آي إيه مع الإسلام والمسلمين.

أصرخ فيكم يا ناس:

كان المخرج في الحالتين واحدا .. وكانت الأولى هي التمهيد للثانية .. تماما كما تتحرك مفارز استطلاع الجيش قبل تحرك الجيش نفسه ...كانت الحقيقة واضحة جدا لكننا كنا قد فقدنا المقياس وأضعنا المعيار .. كنا قد دخلنا في تيه لما نخرج منه ..أصرخ فيكم يا ناس لو أن الإخوان قد حاولوا قتل عبد الناصر عام 54 لما سوغ هذا كل هذا التنكيل بالإسلام والمسلمين ...وأصرخ فيكم، بل لو قتلوه فعلا لم سوغ لهم أيضا .. فما بالكم يا ناس إذا كانت القضية كلها عمل مخابرات؟ ..برعبني يا ناس أن البش لم ينشئوا حقيقة ولم يوجدوا قانونا، وإنما يقتصر كل جهدهم على الاكتشاف .. ليس اكتشافا جديدا بل اكتشاف ما هو موجود فعلا ..إن نيوتن لم يخلق الجاذبية ولا أنشأ أينشتين النسبية ولا أجرى ابن النفيس الدورة الدموية .. لم يفعل أي منهم أيا من ذلك .. كانت الحقيقة كنزا مخفيا موجودة مكنونة خفية فجلوها وأظهروها .. كانت موجودة منذ ذرأ الله الخلق وخلق الكون .. وماثلة وفاعلة لكن لم يكتشفها الناس إلا حينما وحيثما وأينما شاء الله ..وذلك يرعبني يا ناس ..لأنه يعني أن الحقيقة تكون أمامك طول الوقت لكنك لا تراها ولا تهتدي إليها .. فإنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ..نعم ..

تكون الحقيقة أمامك فلا تراها ..فالوصول لا يعني المثول ..والمثول لا يعني القبول ..والحقيقة أمامك .. لكنك لا تراها إلا حين يشاء الله.

هكذا كانت قضية مذبحة المنشية بالنسبة لي ..وكما قلت في مقالاتي السابقة فإنني لا أهدف إلى كتابة تاريخ ولا إلى سرد وقائع ولا إلى تغليب وجهة نظر على وجهة نظر أخرى .. ولكن ما أهدف إليه هو اقتناص ومضات كانت جديرة بأن تكشف لنا الحقيقة منذ البداية .. ومضات تمتزج فيها الروح بالعقل.

لقد اكتشفت على سبيل المثال يا قراء أن من أكثر ما أوقعنا في الخطأ هو أننا تعاملنا بحياد مع وجهات النظر المختلفة .. وتوهمنا أن هذا الحياد هو الموضوعية فكنا كمن يقف على الحياد بين السارق والمسروق منه .. بين القاتل والقتيل .. ونسينا أنه لا يوجد حياد بين الإيمان والكفر .. بين الخير والشر .. بين الصدق والكذب.

نعم، لا يوجد حياد بين الصدق والكذب. وقد كان مما أوقعنا في الخطأ في العلاقة بين الثورة والإخوان هو أننا غفلنا عن أن الحكم والفيصل بين الصدق والكذب عند الإخوان وعند كل مسلم يعرف معنى إسلامه هو الحلال والحرام .. أما عند الآخرين فالفيصل هو المنفعة .. فإذا كان الكذب نافعا فهو الصواب ولا صواب سواه .. وعلى هذا فلا الموضوعية ولا الحياد حقا يسمحان بالتعامل مع الطرفين على قدم المساواة ..إن هذا يشبه بشكل من الأشكال ما يحدث في انتخاباتنا المزيفة .. المغشوشة .. حين يفوز أحد الطرفين لأن الدولة وقفت وراءه بكل ما تملك من قدرة على الغش والإجرام وطمس آثار هذا الغش والإجرام .. فهل من حقنا حينذاك أن نقول إن صندوق الانتخاب كان هو الفيصل وكان هو الحكم؟! .. وأن الموضوعية تلزمنا بمقياس وحيد هو صندوق الانتخابات وأن وضع أي اعتبارات أخرى هو خروج عن النزاهة والموضوعية والحياد.

فهل هذا منطق؟! ..لم أقع في غرام التاريخ إذن يا قراء وليس هذا عيبا ولكنني أرى نفس خيوط المؤامرة تستعمل المرة تلو المرة في البلد بعد البلد لشنقنا.

وما حدث في مصر عام 1954 أراه يحدث الآن بعينه في كثير من بلادنا .. مسئولوها يتحولون إلى الدجوي وشمس بدران وجمال سالم .. أراهم بنفس الظلم والغباء والخسة يسلبون روح أمتهم .. فيقتلون أفضل من فيها أو يحاصرونهم .. بينما يتركون، أو على الأحرى يشجعون ثلاثمائة من كلاب جهنم .. كل كلب منهم خطيئة وفضيحة وعورة، ولم يكن ممكنا لأي واحد منهم أن يصل إلى ما وصل إليه إلا لأن في قمة السلطة من هو أكثر منهم جميعا شرا ونفاقا .. وأن من صالحه أن يوجد هؤلاء .. هؤلاء الذين تقدموا بما سموه بمذكرة الإصلاح .. ولقد ذكروني بأمثالهم .. كانوا أيضا ثلاثمائة كلب من كلاب جهنم ذهبوا في مصر إلى النائب العام مطالبين بالسماح بسب الله والرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم .. نعم ثلاثمائة كلب من كلاب جهنم تقدموا بما سموه مذكرة الإصلاح وما يقصدون بها إلا مزيدا من الإفساد والكفر ..(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون).(ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).(وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) .. ..... (سورة البقرة).

لم أقع في غرام التاريخ إذن يا قراء وليس في غرام التاريخ أي عيب – ولا أنا أقوم ببحث أكاديمي يغلب رأيا وينتصف لفكرة ..المسألة أعقد من هذا وأهم وأخطر ..المسألة يا ناس في الحلال والحرام ..المسألة صراط في الدنيا نسير عليه فإن لم نتحر الصواب قدر ما نستطيع وقعنا في الحرام فهوينا في النار يوم القيامة .. يا ناس ..أنا لا أدافع عن الشهيد العظيم سيد قطب طيب الله ثراه ..ولا أهاجم جمال عبد الناصر ..الأمر أخطر حتى من هذا ..أخطر من الحب أو الكراهية ...الأمر يتعلق في الدنيا بمصير الأمة .. وفي الآخرة بالجنة أو النار ..أي أحمق يكره عبد الناصر أو يدينه إن كان ذلك يدخله النار يوم القيامة ..وأي مأفون يؤيد الشهيد سيد قطب إذا استقر في يقينه أن ذلك سيودي به إلى الهلاك.

الأمر أخطر من هذا لأنه لا يتعلق لا بالشهيد ولا بجلاده .. وإنما يتعلق بالله الواحد القهار ..بالولاء والبراء ..يتعلق بــ:

(قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) .. (24) التوبة .

ولم تكن المشكلة يا قراء أنني كرهت جمال عبد الناصر ، بل كانت المشكلة أنني ذات يوم أحببته:وبالتحديد ما بين خطاب التنحي وموته، بعد أن ذبحنا الذبحة الكبرى في يونيو (67 رغم أننا ذبحا بعد ذلك مذابح أكبر) والتي ربطت بيننا بوشائج الألم الذي لا تنفصم، ولم يكن هينا علي أن أقتنع أن جمال عبد الناصر ، الذي أحببته وبكيته، كان خطوة كبرى في النكبة الكبرى .. وكان كارثة.

كانت كل الحكومات قبل الثورة ترفض فصل السودان عن مصر .. وترفض أي استفتاء لتقرير المصير فهو لا يجوز إلا إذا جاز إجراء مثل هذا الاستفتاء لأهل أسيوط ... وكان الإخوان المسلمون ككل المصريين والسودانيين على هذا الرأي ...ممارس ات الهمج الهامج الذين قاموا بثورة 23 يوليو روعت الشعب السوداني ومكنت أعداء الأمة وعلى رأسهم الإنجليز من تحذير الشعب السوداني من أنه لو استمر في الوحدة مع مصر فسيعامله العسكر بالطريقة التي يعاملون بها الشعب المصري.وكان هناك صمام أمان هو محمد نجيب.

كان لمحمد نجيب بغض النظر عن جدارته شعبية هائلة في السودان، وكانت أمه سودانية وكان قد عاش في السودان ردحا طويلا من عمره.

وافقت الثورة على استفتاء لتقرير المصير.وعزلت محمد نجيب ..وذهب صلاح سالم يرقص عاريا في الجنوب فلم يفد رقصه ..وارتكب خطيئة كبرى عندما وزع الهبات والرشاوى على القبائل والعشائر .. ومع الخطايا السياسية والدينية الأخرى تصاعد الاتهام أن كل من ينادي بالوحدة مع مصر بأنه تلقى رشوة من صلاح سالم. وأجرى الاستفتاء ...وانفصلت السودان عن مصر ..ألم يكن عبد الناصر يستطيع الانتظار عاما آخر حتى يخدع الشعب السوداني قبل استفتاء تقرير المصير؟ ..هل كان تاج الشوك يستحق كل هذا الثمن؟!

هل كان الانفراد بالسلطة يستحق كل هذا الخراب ..لعل بعض القراء يعيب علي حدتي .. لكن أي وصف أصفه لأي واحد من ضباط يوليو إنما أرجع فيه إلى ضابط آخر من ضباط يوليو .

لن أستند الآن على ما قالته كل القوى السياسية الفاعلة في مصر بين عامي 52 و 54 من أن البصمات الأمريكية كانت واضحة على الثورة ... وكان الشهيد سيد قطب من أول من لاحظوا ذلك .لن ألجأ إلى كل ذلك الآن لكني أستند على أقوال الضباط بأنفسهم في أنفسهم ..كل واحد منهم اتهم الآخر بالعمالة لأمريكا وبالخيانة ..وثمة اتفاق على أن السادات كان كذلك .. وثمة شبهات حول عامر وشمس بدران وسامي شرف وزكريا محيي الدين وعلي صبري .. و .. و .. و ...أما محمد حسنين هيكل فقد قال لي في لقاء لم يتكرر ونشرت ذلك قبل أعوام – أن نوعا من إعجاز عبد الناصر أنه صنع ثورة 23 يوليو بمثل هؤلاء الذين كانوا معه .. حيث الضحالة والسطحية والقصور لا تكاد تصدق.

كان هذا هو حكم محمد حسنين هيكل على ضباط 23 يوليو ..وواصل هيكل يبرر انحيازه للسادات في 15 مايو أنه كان مخيرا في الانضمام إلى فئة من فئتين:

فئة يمثلها السادات .. والسادات جاهل.

وفئة يمثلها ما أطلق السادات عليهم بعد ذلك مراكز القوى، وهم عصابة مجرمين .. (الوصف ساعتها كان لهيكل .. لكن جمال عبد الناصر كان قد سبقه إلى نفس الوصف عام 67 حين قال: "البلد كانت بتحكمها عصابة". وواصل هيكل مبررا انحيازه للسادات: الجاهل بالخبرة قد يتعلم.

أما رئيس العصابة بالخبرة فسوف يشتد إجرامه ويزيد ...لست أنا إذن من يصف رجال يوليو بهذه الصفات .. هل تذكرون يا قراء يوم زيارة السادات للقدس .. وكيف حاول أن يدلس على الأمة ويخدعها بأن الفكرة قد هبطت عليه كالوحي وهو في الطائرة فوق جبال آرارات حيث مهبط سيدنا آدم على الأرض ..اكتشفنا بعد ذلك بأعوام أن العملية كلها كانت عملية مخابرات تم الترتيب لها قبلها بأعوام ...فلماذا لم نكتشف في الوقت المناسب أن حادث المنشية كله كان عملية مخابرات .. المؤلم أنني احتجت إلى ربع قرن بل يزيد كي أدرك هذا ... وكانت الحقيقة واضحة طول الوقت وماثلة ...لكن الإلمام بالحقيقة لا يعني إدراك الحق.

والوصول لا يعني المثول ..والمثول لا يعني القبول ..كانت الحقيقة واضحة ..وكان يمكننا أن نكتشف دون صعوبة كبيرة من وكيف دبر حادث المنشية .. ليس للتخلص من الإخوان المسلمين بل للتخلص من المنهج الإسلامي كله ..كانت الحقيقة واضحة ..وكانت العيون مفتوحة ..ولكن ...عميت البصيرة ...لكنني أستأذنكم يا قراء قبل أن أتحدث عن مذبحة المنشية ، أن أعرج على واقعة خاصة .. واقعة كانت الحقيقة فهيا بكل أطرافها ماثلة أمامي أسابيع وشهورا لكنني لم أرها إلا حين شاء سبحانه ..كان ذلك منذ خمسة عشر عاما .. وكان المرض قد اشتد بأبي .. أبي الذي لم أحب أحدا مثلما أحببته .. كنا في مستشفى المقاولين العرب ...وكنت أسأل الطبيب الكبير الشهير: How is he?

وإذا به يجيب: How old is he?!

كان أبي أيامها في الثانية والسبعين من عمره، لم أدرك ذلك رغم معرفتي اليقينية به إلا عندما سألني الطبيب سؤاله ذاك وكأنه يريد أن يقول لقد عاش ما يكفي، ومزقت إجابته قلبي، وكأنما في غيبة الوعي ظننت أننا لسنا في الدنيا، بل في الجنة حيث لا نشيخ ولا نهرم ولا نجوع ولا نعرى .. أو أن ما يسري على البشر جميعا لن يسري على أبي .. وأخذت أدعو الله أن يشفيه ويبقيه .. ألححت في الدعاء وألحفت في الرجاء .. ونمت .. فرأيت في المنام أنني في الروضة الشريفة .. ورأيت خالي، وكان رحمه الله رجل علم، يخرج من الروضة مستاء ففهمت أنني أقلقتهم بإلحاحي في الدعاء لأبي، وإذا به يقول في مزيج من الغضب والحزن:

الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغك .. لا تقلق الآن .. تقلق في قابل .. في الشهر الخامس ... أصارح القارئ أنه برغم إدراكي أن الرؤية الصادقة جزء من النبوة إلا أنني أتعامل معها بمنتهى الحرص والحذر لا شكا فيها وإنما شكا في نفسي، لكنني في هذه الرؤيا بالذات كنت سعيدا كما لم أسعد أبدا .. فليفعل المرض ا شاء إذن وليقل الأطباء ما شاءوا فقد طمأنني الرسول صلى الله عليه وسلم .. كنت أراجع الرؤيا لحظة لحظة وخلجة خلجة خيفة أن يكون قد ضاع مني ملمح أو أفلت مني حرف .. كنت مندهشا من بعض ألفاظها .. وبالتحديد من لفظ "قابل" فنحن في مصر لا نستعمل هذا اللفظ وإن كان يستعمل في المملكة العربية السعودية للدلالة على عام قادم .. قلت أطمئن نفسي: إذن لدي عام على الأقل أطمئن فيه، على الأقل، فاللفظ "قابل" جاء نكرة وليس معرفا، وهذا يعني أنه ليس بالضرورة العام القادم، وإنما أي عام قادم .. أخذت أعد الشهور بعد أن عدلت حساباتي من التاريخ الميلادي إلى التاريخ الهجري ... الشهر الخامس .. ليس مايو إذن بل جمادى الأولى هو الشهر الذي ينبغي أن أقلق فيه وألا أطمئن حتى يمر .. ومرت الأيام والأسابيع والشهور .. مرت على الرؤيا خمسة شهور وأنا مطمئن طول الوقت حتى عندما اشتد المرض وازدادت درجة الخطورة وتلميحات زملائي الأطباء باقتراب النهاية .. وكنت أخفي سري كمن يخفي كنزا .. قولوا كما شئتم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم طمأنني .. وظللت على ذلك اليقين الواثق المطمئن حتى بدأت علامات الاحتضار فهزني الارتياع ورجني الالتياع وأنا أتساءل في دهشة عن الرؤيا .. وفجأة .. كلمح البصر أو التماعة البرق أو ومضة شهاب في السماء انبلج معنى الرؤيا واضحا كفلق الصبح ..تقلق في قابل ..لم يقل عاما ..في الشهر الخامس ..المعنى واضح وجلي وموجود طول الوقت لكنني لم أفهمه إلا الآن.

وقد آن الأوان ..ورحت أسترجع: إنا لله وإنا إليه راجعون ..بعدها بساعتين مات أبي ..أنا ضنين بأحداث حياتي يا قراء .. ولست حريصا بأي شكل من الأشكال أن أثقل عليكم بتفاصيلها .. لكنني في هذه السلسلة من المقالات لا أريد أن أنقل لكم ماذا عرفت وكيف عرفت، بل أريد أن أقول لكم كيف ضللت وكيف خدعت .. لأن ما ينطبق علي هو ما ينطبق على سواد هذه الأمة، وعذري يا قراء هو عذر لكم.

لقد كانت الرؤيا صريحة بموعد موت أبي طيلة الوقت، لكنني لم أفهم إلا عندما حل الأجل.لم يزد في الخلجات خلجة ولا في الكلمات كلمة.ما اختلف هو طريقة تفكيري ...فانقلب الوضع كله.

لست حريصا يا قراء على أن أنقل لكم أكبر قدر من المعلومات، ففيما مضى كان الطريق إلى الأحكام الخاطئة هو قلة المعلومات .. الآن .. على العكس .. ما يضل هو الغرق في المعلومات .. وكم التفاصيل الهائلة التي لا تعرف ما هو الصواب فيها وما الخطأ .. على أن الأشد والأنكى .. هو الكم الهائل من المعلومات المغشوشة المصنوعة كي تزيف وعينا.

ما أريد التركيز عليه، هو أنه ليس من حق أي واحد منا أن يدعي فقدان وعيه، أو أنه لم يكن يعرف ما يحدث. في تلك الأيام من عام 1954 كنت طفلا دون العاشرة، وما زلت أذكر كيف كنت أجلس وسط الكبار مروعا مذهولا وأحد المجندين يأتي في إجازته كل بضعة أسابيع يفخر بما يفعله في السجن الحربي من تعذيب الإخوان المسلمين.

كانت قاعة الدرس الديني تتحول من سماع الشيخ وهو خالي الذي ورد في الرؤية فقد كان ما يزال حيا – إلى سماع الجندي المجند في السجن الحربي .

كان ضميري يئن ويصرخ، وكان المنافقون أو الجبناء أو الأغبياء يدعون أنه من المستحيل أن يوافق عبد الناصر على هذا القدر الهمجي الوحشي من العذاب.

وغرقت في أحلام يقظة أعبر فيها الحجب وأخترق الجدران فأصل إلى عبد الناصر في خفية من الجميع لأنبهه كي يتدارك الكارثة.

وفي ذلك الوقت، كان الجو المحيط بي ما بين الرعب والخوف الذي أذل أعناق الرجال، وما بين الجهل والنفاق. كان الوفديون يشعرون بشماتة هائلة في الإخوانيين الإرهابيين.

لم أكن قد أدركت ولا عرفت أن الوفد أول حزب علماني فصل الدين عن الدولة.

وما كنت عرفت ولا أدركت أن سعد زغلول هما بلغت زعامته كان علمانيا من تلاميذ كرومر، وأن امرأته تسمت باسمه كي تهرب من اسم أبيها الخائن، وأن سعدا نفسه كان مقامرا ومجاهرا بعدم الصلاة وبالإفطار في رمضان .. وأنه هو الذي عضد وشجع ونشر فكر قاسم أمين وكتبه .. أن ميدان التحرير قد سمي كذلك .. لا احتفالا بتحرير الوطن أو الأمة .. بل ذهبت صفية مصطفى فهمي الشهيرة بصفية زغلول مع صويحباتها لا لمهاجمة معسكر الإنجليز هناك في ثكنات قصر النيل .. بل ذهبن ليمزقن الحجاب ثم يدسنه بالأقدام ثم يحرقنه.وكان الشيطان يزين لهم أن هذا هو التحرير.

ولهذا سمي الميدان ميدان التحرير ..نعود إلى السؤال: كيف خدعنا ولماذا خدعنا ..كان الناس قد تركوا مقياس الولاء والبراء، ولم يعد الإسلام مرجعية.

وكان بعض الصوفية من ناحية وبعض أصحاب البدع من ناحية أخرى يرون أن ما يحدث للإخوان المسلمين هو القصاص الإلهي العادل وانتقام أهل البيت والأولياء منهم، فهم كما يقولون – لا يحبون هؤلاء ولا أولئك ... بل إنهم يهاجمون الموالد والأضرحة .. وهم ينتسبون إلى الوهابيين الذين كانوا يريدون هدم ضريح الرسول صلى الله عليه وسلم .. لست أدري من كان يقول ذلك ولا من كان يروجه ..ولقد علمت نفسي منذ زمن بعيد: عندما لا تدري: ابحث عن المخابرات!!

يضاف إلى هذا وذاك، في الوسط المحيط بي آنذاك، أن المحيطين من الإخوان، وما أصابهم من فزع، لم يكونوا من النوع الجليل الشامخ الذي عرفته بعد ذلك، بل كانوا عنصر تنفير لا تبشير.

كانت الصحف والمجلات والإذاعة تهاجمهم باستمرار ولم يكن هناك أحد أبدا يدافع عنهم، ولم يكن هناك ما يدعوني لتكذيب كل أولئك، كنت أصدق ما يقال عنهم، وعلى الرغم من ذلك كنت أدين تعذيبهم بجماع قلبي، فهناك دين وهناك قانون، أما ما يحدث من تعذيب فهو الإجرام بذاته.

الغريب، الغريب حقا أنني أذكر تفاصيل كثيرة عن أحداث 54، بينما لا أكاد أذكر شيئا عن أحداث 65، وعدا الألم الفادح يوم نشر خبر إعدام الشهيد سيد قطب ورفاقه، لا أكاد أذكر شيئا، ولعلها حيلة دفاعية للنفس، فلو أن أحدا صب عليك رصاصا منصهرا فإنك سوف تصاب بالإغماء كوسيلة دفاعية لتقليل الإحساس بالألم الذي لا يمكن احتماله ... ولعل النفس تفعل نفس الشيء .. فعندما تواجه النفس بألم لا يمكنها احتماله، فإنها تواجهه بفقدان الذاكرة.

كان الألم الفادح أنني لم أكن أستطيع تصور أن هؤلاء الشهداء عملاء للأمريكيين كما تقول الإذاعة والصحف، وفي نفس الوقت، لم أكن أستطيع أن أكذب شيوخ الأزهر، الذين راحوا يهاجمونهم بمنتهى العنف، متهمينهم بأنهم خوارج، وبأنهم مرقوا من الإسلام .. ولم أكن أستطيع أن أتصور عامي 54 وعام 65، قد أباحوا دماءهم دون سند شرعي.

لا غفر الله لأولئك الشيوخ ..لا غفر الله لهم ..كان الضمير ممزقا بين ما لا يمكن تصديقه وما لا يمكن تكذيبه ..وكان الوعي والوجدان ممزقين كذلك ..كان كل الكتاب، كل الكتاب كالمفتي وكشيوخ الأزهر ..وكنت أفتقد المنهج والأدوات والمعلومات لكنني بالحدس كنت أدرك أن هناك خطأ هائلا وأننا مقدمون على كارثة، فتنبأت بهزيمة 67. واستدعاني الأمن وحذرني ..من الهزيمة إلى موت جمال عبد الناصر كانت هدنة بين إدانة سابقة وإدانة لاحقة .. كنا نعاني ذات الجرح وننزف نفس الدم.

عام 68 قضيت ليلة في وزارة الداخلية، كتبت تفاصيلها في مقال سابق .. وفي نهاية هذه الليلة كان نائب وزير الداخلية يصرخ في وجهي:

أنا أتعاطف معك لأنك تذكرني بشبابي، كنت نظيفا مثلك، لكنني الآن ملوث ومدان وأعرف أن جميع ما تقوله صواب، وأننا على خطأ .. وزير الداخلية مثلي، ملوث ومدان، وزير يعرف أنه على خطأ، رئيس الوزراء كذلك، جمال عبد الناصر أيضا ملوث ومدان ويعرف الباطل والصواب، وهو على باطل ويعرف ذلك.

التزاما بالدقة فإنني قمت الآن بتهذيب العامية التي تحدثنا بها يومها، أما مكان كلمتي: (ملوث ومدان فقد كانت الكلمة التي قيلت هي كلمة: "وسخ" .. وعلى أي حل فالكلمة عربية صحيحة).

صرخت يومها: البطولة والإبهار والمجد والزعامة والإلهام والفكر والحكمة والقداسة والعصمة والصواب المطلق ونفي الآخر وادعاء أن الآخر كان شيطانا رجيما .. كل ذلك لم يكن كذلك ...لقد نجح برنامج صناعة النجم على غير الحقيقة فألبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق ..كل ذلك .. لم يكن كذلك .."الثورة .. ليست كذلك" ..."وهيكل .. ليس كذلك" ...وتلك الصورة المثالية الحالمة ليست كذلك ..والبطولة كانت خيانة ..والخونة حاكموا الأبطال ..بعد موت جمال عبد الناصر كان السادات بغيضا، وكان توجهه إلى أمريكا وإسرائيل مفزعا، وكان الكشف عن تفاصيل جرائم التعذيب مروعا، وكانت حجة الشيطان التي أخرت اكتشافي لحقيقة ما حدث أنني قلت لنفسي: "كلمة حق يراد بها باطل" ...وكان ثروت أباظة هو الذي تصدى لنشر تفاصيل التعذيب في المجلة التي يرأس تحريرها .. وكنت أبغضه كثيرا ...في الثمانينيات كانت الأدلة تكتمل وثمار التجربة المرة تثمر ..وكنت أحاول التوفيق بين المتناقضات .. أو على الأحرى التلفيق لا التوفيق .. قلت لنفسي على سبيل المثال إن حادث المنشية حقيقي وليس مصطنعا .. وأنني عاتب على الإخوان أن ينكروا ذلك، لقد كان من حقهم في ضوء المعلومات التي توفرت لي أن يقوموا بهذه المحاولة التي يشرفهم أنهم قاموا بها ولا يشرفهم إنكارها .. وأن قيامهم بالمحاولة يقدم اعتذارا جزئيا لعبد الناصر فيما فعله بهم بعد ذلك.

لم أكن قد أدركت أن الخلاف لم يكن خلافا سياسيا، بل كان الأمر أبعد من ذلك بكثير. تحت وهم الموضوعية قلت لنفسي إن كلا من الطريفين يبالغ في عيوب الطرف الآخر .. وأن علي ألا أصدق أيا منهما وأن أبحث عن طرف محايد ...ولم يكن ثمة طرف محايد!!

هل تعرفون يا ناس الحديث النبوي الشريف عن خطاب "حاطب بن أبي بلتعة" إلى أناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشف الله لرسوله أمره فقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: (إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

"لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"..هل تعرفون يا قراء لماذا ورد هذا الحديث النبوي الشريف بخاطري الآن؟!

لقد ورد بمفهوم الضد ..إذ تخيلت قوة باطشة طاغية جبارة تقول لكل من أساء إلى الإسلام:

لعل أمريكا قد اطلعت على كل من أساءوا إلى الإسلام والمسلمين فقالت اعملوا ما شئتم فسوف أحميكم وأرفع شأنكم وذكركم ..لا تنسوا ذلك يا قراء ..كل من أساء إلى الإسلام يحمل معه حصان قد تحميه ذات يوم ما لم يكفر بأمريكا كفرا بواحا يخرجه من ملتها .. وحتى لو اضطرت أمريكا إلى عقاب بعض من يحملون بطاقة الحصانة هذه .. فإن العقاب لا يكون شاملا .. بل إنها قد تقتلهم .. لكن أجهزة إعلامها تحافظ عليهم في ذاكرة أمتهم كأبطال.

التسفيه من نصيب المسلمين فقط ...الاتهام بالرجعية والغباء والسطحية والتفاهة والتناقض والإجرام والخلل العقلي من نصيب المسلمين فقط ...كان وما زال ..وما فعله جمال عبد الناصر بالإخوان المسلمين عام 54 هو بذاته ما تفعله أمريكا بالمسلمين اليوم .. وليس جورج بوش ولا شارون هما أول ن اتهم المسلمين بالإرهاب بل إبراهيم عبد الهادي وجمال عبد الناصر .

قلنا إنه حتى لو كان الإخوان المسلمون قد دبروا حادث المنشية ونجحوا في اغتيال جمال عبد الناصر فإن هذا لا يسوغ ما حدث.

فما بالكم إن كان الحادث كله مدبرا ...ولو أن أول احتكاك بين الإخوان والضباط الأحرار كان عام 54 لما سوغ هذا للضباط أن يفعلوا ما فعلوه ..فما بالكم إذا كان الوضع مختلفا تماما.

لقد كان معظم الضباط الأحرار أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين.وبالتحديد في التنظيم السري!! ...يقول العالم الجليل الأستاذ سيد سابق الداعية الجليل، صاحب كتاب فقه السنة الذي لا يكاد يخلو منه بيت طالب علم في العصر الحاضر:

أقول كلمة حق في ذلك، أولا جمال عبد الناصر كان من الإخوان المسلمين يقينا، وقد بايع مع كمال الدين حسين في ليلة واحدة على المصحف والمسدس، وكان جمال تابعا للخلايا السرية، وبقي كذلك حتى قامت الثورة، وكانت فكرة الخلايا السرية أساسا محاربة الإنجليز ، فإذا استطاع الإنجليز القضاء على الهيكل الظاهري، فيكون وجود الخلايا السرية باقيا كقوة، وقد كان لي دوران في الهيكل التنظيمي للإخوان ، في الجماعات السرية وكذلك الظاهرة، ولم يكن أتباع الظاهر يعلمون بأني مسئول إحدى الجماعات السرية الباطنة، والتي يتبعها جمال عبد الناصر ، وعندما قام جمال بالثورة مع الإخوان الذين يعرفونه، ونجحت ثورته بدأ الخلاف، وأساس الخلاف الدائر كان حول "من الذي سيحكم"؟! .. وعندما كبر بدأ يتنكر ويقول: "كنت بروح للشبان، وبروح للإخوان ، وأروح لمصر الفتاة، وأروح للشيوعيين "والجماعة المحيطة به تكتب مذكرات كاذبة، ومضى في طريقه المعروف.

ينقل سامي جوهر في كتابه الصامتون يتكلمون (ص 82) عن كمال الدين حسين : إن أهداف تنظيم الضباط الأحرار كانت العمل على تطبيق الإسلام، ولا نعلم له هدفا غير ذلك، ويقول في خطابه الذي دونه لعبد الحكيم عامر: إن حركة الضباط الأحرار منذ دخولها سنة 1944م لا يعرف لها هدف سوى الحكم بكتاب الله، وأنهم جميعا: عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد المنعم عبد الرءوف قد بايعوا محمد لبيب والمرشد والسندي، وأن الحركة قد انتكست عندما أضاف إليها عبد الناصر ضباطا من غرز الحشيش والخمارات من سنة 1948 م.

ويقول عبد المنعم عبد الرءوف في مذكراته: وكان جمال عبد الناصر يتردد على مركز الإخوان المسلمين لسماع حديث الثلاثاء منذ عام 1942م .

شهادة خالد محيي الدين تحتاج إلى احتفال خاص، فالرجل من ناحية شيوعي، ومن ناحية أخرى ظل ينكر أو يستنكر العلاقة بالإخوان ردحا طويلا من الزمن، لكنه يعترف في النهاية في حديثه إلى مجلة فلسطين الإسلامية:

بعد أن بدأنا منذ 1944 التفكير بشكل عملي لتحرير مصر من الفساد والتبعية للاحتلال تعرفت عن طريق زميلي عبد المنعم عبد الرءوف بالصاغ محمود لبيب الذي كان يتناقش معنا بلهجة ذات نكهة إسلامية .. ومن يومها بدأت علاقة من نوع غريب مع الإخوان .. وتكونت بعدها مجموعة عسكرية تضم العديد من الضباط، ولم نعد نلتقي في أماكن عامة ولكن في اجتماعات منتظمة في البيوت وأذكر أننا التقينا في إحدى المرات بمنزل الضابط أحمد مظهر وهو نفس الفنان المعروف أحمد مظهر.

وكان الإخوان يحسون أنهم أمام كنز من الضباط المستعدين لعمل أي شيء لخدمة الوطن ... وعندما بدأنا نسأل محمود لبيب عن برنامج الجماعة كان يجيب "الشريعة" فأقول له: نحن جميعا مسلمون ونؤمن بالشريعة، ولكن ماذا سنفعل بالتحديد؟ .. هل سنخوض كفاحا مسلحا أم نقبل بالتفاوض؟ .. وكان محمود لبيب يراوغ حتى انتهى الأمر بإحضار حسن البنا المرشد العام للإخوان .. وبعد أن طرحت عليه أنا وعبد الناصر آراءنا قال لنا بهدوء وذكاء إن الجماعة تعاملنا معاملة خاصة ولا تتطلب منا نفس الولاء الذي تتطلبه من العضو العادي .. وتتالت مقابلاتنا وظل عبد الناصر مستريبا في أن الجماعة تريد استخدامنا لتحقيق أهدافنا الخاصة .. ومع اتصالي بعثمان فوزي واستعارتي لكتبه بدأت أنحو منحى يساريا .. وهكذا أصبحت عضوا شاذا في جماعة يفترض أنها تابعة للإخوان المسلمين .. وحاول حسن البنا أن يشدنا للجماعة برباط وثيق، وقرر ضمي أنا وعبد الناصر للجهاز السري .. وبالفعل قابلنا عبد الرحمن السندي قائد الجهاز السري في أحد المنازل القديمة بحي الدرب الأحمر .. ودخلنا غرفة مظلمة تماما ووضعنا يدنا على مصحف ومسدس، ورددنا خلف صوت أحدهم يمين الطاعة للمرشد العام في المنشط والمكره (الخير والشر)، وأعلنا بيعتنا التامة الكاملة والشاملة له على كتاب الله وسنة رسوله .. وبدأنا عملنا وأخذونا للتدريب في منطقة قرب حلوان .. وكان عبد الناصر يمتعض لأننا كنا أكثر فهما للسلاح ممن يقومون بتدريبنا.

للقارئ أن يلاحظ ركاكة اعتراف خالد محيي الدين ...ركاكة من يخفي أكثر مما يظهر ..ركاكة من يعرف أنه كان يكذب طول الوقت لكنه مضطر في النهاية للاعتراف بجزء من الحقيقة التي لا يمكن إنكارها ...ولاحظوا يا قراء الفقرة الأخيرة من اعترافه.

لو كان هو وعبد الناصر طفلين لما حق له أن يتكلم بهذه الطريقة ...كما لو كانا صبيين معتوهين أخذوهما للبيعة وهما لا يدركان ما يفعلانه ..لكنه مشكور على كل حال .. إذ لم يشفع قوله بأنهم سقوه وجمال عبد الناصر سائلا أصفر فقدا بعده الإرادة .. فبايعا ..لاحظوا أيضا يا قراء الكذبة الأخيرة، وهي أيضا مفعمة بالإهانة لكليهما .. لخالد محيي الدين ولجمال عبد الناصر : "وأخذونا للتدريب في منطقة قرب حلوان .. وكان عبد الناصر يمتعض لأننا كنا أكثر فهما للسلاح ممن يقومون بتدريبنا".

شباب الإخوان .. الجوالة أو الكشافة أو حتى التنظيم شبه العسكري هو الذي يدرب ضباطا في الجيش ...هل ترون يا قراء كيف يكون الكذب وكيف يكون امتهان العقل ..والحقيقة على العكس تماما ..فقد كان جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين هما اللذان يدربان الإخوان على استعمال السلاح ..أي قدرة خسيسة على ممارس ة الكذب، بل أي تدريب على قلب الحقائق بهذه الصورة ..إنني أرجو من القارئ ألا يمر مر الكرام على هذا النوع المدرب من الكذب ...فالهدف منه هو أن يبدو المسلم كشخص درويش أبله أحمق لا يفهم البدهيات بالإضافة إلى جهله .. إنه مضحك .. وآية ذلك كله أن هؤلاء البلهاء ظنوا أن خبرتهم في السلاح تتفوق على خبرة ضباط الجيش ... وانطلت أكاذيب الجهلة على الضباط الأبرياء فذهبوا بحسن نية وبإخلاص كي يتدربوا فإذا بهم يكتشفون جهل مدربيهم مما أفقدهم الثقة في نظامهم كله!! ...على أن خالد محيي الدين يكذب كذبة أخرى.

فلم يكن هو وعبد الناصر فقط من أقسما يمين المبايعة والولاء والطاعة ...كان معهم عبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين ولحسين الشافعي وحسن إبراهيم وصلاح سالم وعبد اللطيف البغدادي وفؤاد جاسر وجمال ربيع وحسين حمودة وصلاح خليفة وسعد توفيق .. وكان هؤلاء جميعا يكونون أسرة الضابط عبد المنعم عبد الرءوف والذي كان بدوره مرءوسا للصاغ محمود لبيب وكيل جماعة الإخوان المسلمين العسكري .. (راجع: حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وجمال عبد الناصر – يرويها محمد حامد أبو النصر – انترناشيونال بريس).

أما محمد أنور السادات فقد بدأت علاقته بالإخوان عندما ذهبت زوجته الأولى إلى الإمام الشهيد حسن البنا لترهن عنده مصاغها الذهبي مقابل سبعين جنيها، فأمر بإعطائها المبلغ واحتفاظها بمصاغها، كما قرر لأسرة السادات راتبا شهريا عشرة جنيهات حتى موته وحل الجماعة ثم استشهاده عام 48 ويقول الشيخ عمر التلمساني في "ذكريات لا مذكرات" أن جميع ما رواه السادات عن الإخوان وعن الإمام الشهيد في كتابه البحث عن الذات كذب في كذب.

شهادة أخرى هامة نقرأها في صحيفة آفاق عربية – العدد 621 الخميس الموافق 23 من جمادى الآخرة 1424 هـ - 21 من أغسطس 2003م.

والشاهد هو وحيد رمضان .. قائد تنظيم الشباب في العهد الناصري .. يقول: لقد تعرفت في سنة 1945 في منزل عبد المنعم عبد الرءوف على جمال عبد الناصر وكانت أول مرة ألقاه فيها كما تعرفت على كمال الدين حسين في إحدى الأسر التي كان يحضرها الصاغ محمود لبيب وكان يشاركنا أيضا خالد محيي الدين وكان لنا موعد دوري نلتقي فيه حتى بدأت حرب فلسطين.

وفي يوم 28 ديسمبر 1948 م قام اليهود باحتلال (عراق المنشية) وهي الجناح الأيمن للفالوجا ووقتها سمعت إشارة من لاسلكي صلاح سالم وكانت استغاثة من جمال عبد الناصر للسيد طه نصها "جمال عبد الناصر يقول للسيد طه:

إذا لما تصل النجدة فورا فسأفقد السيطرة على الموقف" .. فقلت لصلاح سالم: هل تترك جمال وحده؟! وطلبت من السيد طه أن يعطيني حمالة جنود لأذهب لإنقاذه، وتوكلنا على الله، وبالفعل ذهبت لعبد الناصر وبعد معركة مع الجنود اليهود وصلت إليه وكان واقفا مع حارسه على باب مخزن ومع سلاحه وعندما رآني انشرحت أساريره لأنني أنقذته ... لقد كان هناك تعاون كامل بين الإخوان المسلمين وجمال عبد الناصر وتمثل هذا التعاون في قيام مجموعات من الإخوان بحراسة بعض السفارات والمرافق المهمة، كما قاموا بحراسة الطريق المؤدي إلى السويس، وهو من أهم أدوار الثورة، لأن هذا الطريق هو الوحيد لدخول الإنجليز القاهرة وإعادة احتلالها مرة أخرى ولذلك اعتمد عبد الناصر والضباط الأحرار على شباب الإخوان لتأمين هذا الطريق لأنه يعرف أنهم سيقومون بمهمتهم أفضل ما يكون .. كما كان لعبد المنعم عبد الرءوف دور مهم وحيوي حيث إنه كان قائد القوة التي حاصرت الملك فاروق بقصر رأس التين بالإسكندرية والتي على أثرها وقع فاروق وثيقة التنازل، كما قام أبو المكارم عبد الحي بمحاصرة قصر عابدين إضافة لمشاركة ضباط الإخوان في وحداتهم بالقيام بالأعمال الموكلة إليهم، ويواصل وحيد رمضان حديثه عن حادث المنشية فيقول:

رغم أنني كنت في القاهرة وقتها لكني سمعت من القريبين جدا من الأحداث أن محمود عبد اللطيفكان واقعا تحت تأثير عبد الرحمن السندي الذي فصلته جماعة الإخوان وأنه وضع له الرصاص من الفشنك وكان الأمر بالتنسيق مع المباحث الجنائية والمخابرات العامة وكما قال حسن التهامي إن لديه الوثائق والمستندات التي تؤكد دور المخابرات الأمريكية في التكتيك لهذا الحادث حتى يصبح عبد الناصر شخصية شعبية تطغى على شخصية محمد نجيب إضافة إلى قصة القميص الواقي.

وعلى جانب آخر فإن حادث المنشية كان المحرك والسبب في فتح السجن الحربي الذي امتلأ بالمعتقلين من الإخوان المسلمين وفي مقدمتهم الأستاذ حسن الهضيبي ودارت طاحونة الدم من هذا اليوم وحدثت مأساة المحكمة التي رأسها جمال سالم وصدر حكم الإعدام على 7 من زعماء الإخوان وخفف الحكم على المستشار حسن الهضيبي رحمه الله.

عام 67 كان قواد الهزيمة الكارثة يتآمرون على الدولة في حال الحرب وكان اغتيال عبد الناصر واردا ... ولم يحكم على أحد منهم بالإعدام.

عام 54 لم يكن الإخوان هم الخارجون على الشرعية .. كان الضباط الأحرار هم الخارجون عليها ... وكان الإخوان يدافعون عن هذه الشرعية في شخص رئيس الجمهورية .. محمد نجيب.

نلخص ما مضى: لقد كان معظم الصف الأول من الضباط الأحرار أعضاء في التنظيم السري للإخوان المسلمين، ومهما بلغت أهميتهم فإننا نستطيع تصور ضآلتهم إزاء الشخصيات التاريخية للإخوان .. ولكنهم عندما كبروا بدءوا يتنكرون كما وصفهم الشيخ سيد سابق .

بعد اغتيال الإمام الشهيد وحل جمعية الإخوان المسلمين بدأ عبد الناصر في التفكير في الاستقلال عن الإخوان (راجع قول كمال الدين حسين : إن حركة الضباط الأحرار منذ دخولها سنة 1944 م لا يعرف لها هدف سوى الحكم بكتاب الله، وأنهم جميعا (عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد المنعم عبد الرءوف) قد بايعوا محمود لبيب والمرشد والسندي، وأن الحركة قد انتكست عندما أضاف إليها عبد الناصر ضباطا من غرز الحشيش والخمارات من سنة 1948 م.

وهنا لا بد أن نتناول إحدى الطرق لتزوير التاريخ دون كذب ..محمد حسنين هيكل عندما يتناول تلك الفترة يتناولها اعتبارا من [[1949]] فيسقط تاريخ عضوية الضباط الأحرار في الإخوان المسلمين .. لاحظوا الذكاء.

1949 لم تكن هناك جمعية للإخوان بعد أن حلها النقراشي وبعد استشهاد الإمام حسن البنا على يد إبراهيم عبد الهادي ..أي معتوه إذن يفكر في أي علاقة بين الضباط والإخوان ...أرأيتم هذه الطريقة المبتكرة في التجمل ..هيكل لا يكذب أبدا ..لكنه يخفي دائما جزءا ن الحقيقة ..وعادة يكفي هذا الجزء المخفي لقلب الصورة ..عاد الإخوان .. وعاد الارتباط بينهم وبين الضباط الأحرار .. وكان أوثق ما يكون .. وسيكون هذا موضوع مقالة تالية .. لكننا الآن نريد أن نصل إلى حادث المنشية.

لقد خان الضباط كل وعودهم مع الإخوان .. كان الإخوان يؤيدون الشرعية ممثلة في محمد نجيب .. وكان الضباط لا يطيقون شريكا: راجع الأقوال المذهلة للحسين الشافعي في برنامج شاهد على العصر في قناة الجزيرة، وراجع أيضا مذكرات خالد محيي الدين ، بالإضافة إلى عشرات الكتب التي كتبها الإخوان.

أواخر 53 حاول عبد الناصر تدبير مؤامرة ضد المرشد العام المستشار حسن الهضيبي ، كان الهضيبي قد فصل السندي رئيس النظام الخاص .. كان اسمه كذلك .. لكن المنافقين يسمونه النظام السري .. المهم .. فصل الهضيبي السندي لأسباب متعددة منها مخالفة أوامره، ومنها اعتراض الهضيبي على أي عمليات عنف ومنها إحساس السندي بأنه أولى بمنصب المرشد العام من الهضيبي، وكان في ذلك مدعوما من عبد الناصر ، ومن ناحية أخرى فقد كان الهضيبي بالإضافة إلى الأسباب السابقة جميعا يدرك أن جمال عبد الناصر نفسه واحد من أقدم أعضاء التنظيم الخاص، وأنه يعرف كل أسراره .. وفشلت المؤامرة، ويذكر الشهيد سيد قطب أن مصطفى أمين اتصل به ليخبره عما يحدث في منزل الهضيبي وفي مركزهم العام، وهرع الشهيد سيد قطب إلى هناك لكنه لم يجد شيئا، ولكن الأحداث بدأت بعد ذلك بساعتين ..بعد ذلك بشهرين تم حل جمعية الإخوان المسلمين واعتقال الإخوان واتهامهم بالاتصال بالإنجليز والتآمر معهم وبإخفاء أسلحة تكفي لنسف القاهرة عشر مرات .. كما ورد في مقالة سابقة ...وبعد ذلك بشهرين آخرين كان الضباط الأحرار يتراجعون عن كل قراراتهم ويسحبون كل اتهاماتهم وكان عبد الناصر في بيت الهضيبي يعتذر له.

في الشهور الستة التالية كان جمال عبد الناصر كأستاذ بارع في التكتيك يعالج أسباب القصور التي اضطرته إلى إعادة نجيب والإخوان .. وكان حادث المنشية فرصته كي يضرب ضربته الكبرى ..كان قد تخلص من كل مناوئيه ولم يبق إلا الإخوان ومحمد نجيب.

ولنقف هنا مع الدكتور يوسف القرضاوي في تساؤلاته عن الحادث حيث يقول:

وقفة للتأمل .. من المسئول؟!

من الواضح الجلي، ومن المؤكد المستيقن: أن قيادة الإخوان لا تتحمل وزر هذا الحادث، عند كل دارس أو مراقب عنده ذرة من عقل أو إنصاف.

فقد أكدت كل المصادر: أن المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي كان ضد فكرة الاغتيالات بكل قوة ووضوح، وأعلن هذا بصريح العبارة لرئيس الجهاز السري: إنه بريء من دم أي شخص كان، وهذا ما شهد به الخاص والعام، وأن النظام الخاص أو الجهاز السري للجماعة، لم يكن هو المدبر لها ولا المسئول عنها .. إنها في رقبة هنداوي دوير رحمه الله، الذي أراد أن يقوم عن الجماعة بتنفيذ ما فرطت فيه في نظره! ومن يدري ربما لو نجحت خطته لأصبح من الأبطال، وعد منقذا للدعوة.

وبقدر اندفاعه في التدبير والتنفيذ، كان اندفاعه وانهياره السريع عند فشل الخطة، ويظهر أنه أيقن أن كل شيء قد ضاع، ولم يبق إلا أن يقر ويعترف بكل شيء، فسارع إلى تسليم نفسه طوعا واختيارا، كما يبدو أنه ساومهم أو ساوموه على أن يكون (شاهد ملك) كما يقولون، وفي مقابل اعترافه يعفى من العقوبة أو تكون مع إيقاف التنفيذ أو نحو ذلك، ولكنهم لم يفوا له بما وعدوه، وربما كان هذا هو السبب في صياحه ساعة ساقوه إلى حبل المشنقة: ضحكوا علي .. خدعوني .. ضحكوا علي، مش دا اتفاقنا ... إلخ .. وبعض الإخوان اتهموا هنداوي – أو كادوا – بأنه كان عميلا للثورة في ذلك الحادث، وأنا أستبعد هذا كل الاستبعاد على الرجل، وإن كان هناك علامات استفهام في القضية لم نجد لها حتى جوابا مقنعا.

ولكن يبدو أن هنداوي – رحمه الله – كان ثرثارا، ولم يكن كتوما كما ينبغي، حتى ذكر الأستاذ فريد عبد الخالق: أنه قال في المركز العام أمام عدد من الناس: لازم نقتل جمال، وأن محمد الجزار، رجل البوليس السياسي في عهد الملكية سمعه، وربما أبلغ ذلك إلى الجهات المسئولة.

كما أن هنداوي طلب من محمود الحواتكي رئيس الجهاز السري في محافظة الجيزة مسدسا لمحمود عبد اللطيف لينفذ به مهمة الاغتيال، فرفض إعطاءه، قائلا: إن المرشد يرفض فكرة الاغتيال مطلقا، وربما كان هذا أو غيره سبب تسرب الخبر، لا يستطيع أحد الجزم.

وهكذا يبدو من سير الحوادث: أن سر هذه المؤامرة لاغتيال عبد الناصر قد انكشف قبل أن تقع الواقعة، وأن عبد الناصر علم بها، وعلم من المكلف باغتياله، ولكنه لم يقبض على الشخص، ويودعه السجن، كما يتوقع في مثل هذه الحالات، بل أراد أن يستفيد من الحادثة بعد أن انكشف قناعها.

أما كيف انكشف فعلم ذلك عند الله تعالى .. ولكن سمعت من بعض الإخوان: أن أحد رجال الأمن – نسي اسمه – قال في مقابلة تليفزيونية في القاهرة: إن الأستاذ عبد العزيز كامل .. وكان يسكن في إمبابة مع هنداوي دوير في بناية واحدة .. علم بتدبيره عملية اغتيال عبد الناصر ، فأفهمه خطورة هذا العمل، وسوء أثره على الجماعة ، وحاول أن يثنيه عن عزمه، فلم ينثن، فلما رأى تصميمه على التنفيذ، أراد أن يبلغ قيادة الجماعة ، لتمنع هنداوي من تصرفه المنفرد، ولما لم يستطع الوصول إلى قيادة الجماعة لاختفاء المرشد: اتصل بمن يعرف من رجال الأمن، وأبلغهم بنية هنداوي، ليبرئ ذمة الجماعة ، وكان غرضه أن يقبضوا عليه وعلى محمود عبد اللطيف، قبل أن يحدث أي شيء .. وأبلغ مسئول الأمن عبد الناصر ، ولكنه لم يقبض على المدبر، ولا على المكلف بالاغتيال، لأمر أراده، كما تدل على ذلك الشواهد التي نأخذها من تعليقات الأستاذ صالح أبو رقيق أكثر من اهتم بهذه القضية والتعليق عليها .. من ذلك:

استبعاد أن يخفق مثل محمود عبد اللطيف في إصابة هدفه، وهو أمهر رام عرفه إخوانه في حرب فلسطين .. والمسافة قريبة، وقد أطلق .. كما قالوا ثماني رصاصات .. ولم تصب عبد الناصر ولا أحدا ممن كان في المنصة.

وقع الحادث في مساء 26 أكتوبر ، وظهرت صحف الصباح ... صباح 27 أكتوبر 1954 تحمل في صدر صفحاتها الأولى نبأ القبض على الجاني الأثيم بدون نشر صورته ... قالت جريدة الأهرام:

"لم يكد الجاني الأثيم يطلق رصاصاته الغادرة، حتى كان الجمهور قد هجم عليه، وعلى ثلاثة أشخاص يقفون على مقربة منه، ودخان الرصاص يتصاعد من حولهم، وكاد يفتك بهم، لولا أن بادر رجال البوليس والمخابرات بالقبض عليهم، وضبط السلاح في يد الجاني (هكذا نشرت جميع الصحف، كما أنه لم ينشر شيء بعد ذلك عن الثلاثة الآخرين الذين قيل أنهم ضبطوا مع الجاني) وقد اقتيد الأربعة إلى نقطة بوليس شريف ... ويدعى الجاني محمود عبد اللطيف، ويعمل سباكا في شارع السلام بإمبابة".

وهنا سؤال: لماذا لم تنشر صورة الجاني في الحال؟ ...وقد عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 26 ملليمتر، وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضبط مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة!!"

وكان هذا ما نشرته جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 27 أكتوبر 1954 وأثار ذلك التساؤل عن سر اختلاف الأظرف الفارغة عن طلقات المسدس المضبوط في يد الجاني .. وبدأت همسات: هل هناك شخص آخر؟ ...وفي نفس العدد نشرت الصحف أن الجاني ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وتوالى في الأيام التالية نشر اعترافات محمود عبد اللطيف، وأنه من الجهاز السري للإخوان المسلمين .. وكان مكلفا باغتيال عبد الناصر ، لتبدأ حركة اغتيالات لبقية أعضاء مجلس الثورة و 160 ضابطا من الضباط الأحرار، والقيام بثورة، وأن الجهاز السري كان سيقف أمام أي تحركات مضادة.

ومع الاعترافات بدأ نشر أنباء اكتشاف مخازن أسلحة للجهاز السري، والقبض على أفراده، ومخازن في جميع محافظات الجمهورية .. ومتهمين من مختلف الفئات والمهن .... طلاب بالجامعات ومحامين ومدرسين وعمال وفلاحين وضباط بالجيش وضباط بوليس وتجار .. أي من فئات الشعب جميعها: العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية ...وكان الناس في لهفة شديدة لمعرفة شكل الجاني الأثيم .. ومضت خمسة أيام كاملة دون أن تنشر له صورة واحدة .. وأخيرا نشرت صورته، وآثار التعذيب واضحة تماما على وجهه .. ونشر تحتها أنها صورة للجاني، ويبدو فيها آثار اعتداء المواطنين عليه وقت القبض عليه!!

ظلت أحاديث الناس تتناول في كل المجالات ما كان يعتزمه الإخوان المسلمون من خراب للبلاد .. كان الناس تستقي معلوماتها مما تنشره الصحف .. وكان بعض المفكرين يراودهم الشك في حقيقة الحادث من ضبط الجاني والمسدس في يده، والعثور على طلقات رصاص من عيار لا يطابق رصاص المسدس ولا يريدون أن يصدقوا أن الحادث من تدبيره الإخوان.

وفجأة وبلا أي مقدمات يوم 2 نوفمبر 1954 أي بعد الحادث بستة أيام نشرت جميع الصحف الصباحية صورة الرئيس السابق جمال عبد الناصر وأمامه عامل بناء ممسكا بمسدس .. ومع الصورة حكاية مثيرة .. تقول الحكاية إن عامل البناء خديوي آدم .. وهذا اسمه .. كان يستقل الترام يوم الحادث عائدا إلى منزله .. عند ميدان المنشية شاهد جماهير من الناس مجتمعة وسأل عن سر تجمعهم، ولما علم أن عبد الناصر سيلقي خطابا نزل من الترام واندس وسط الجماهير.

وعندما دوى صوت طلقات الرصاص وساد الهرج الآلاف المجتمع سقط فوق الأرض، وشعر بشيء يلسعه في ساقه .. وتحسسه فوجده مسدسا وكانت ماسورة المسدس لا تزال ساخنة .. وأيقن في الحال أنه المسدس الذي استخدمه الجاني في إطلاق الرصاص على زعيم البلاد!! .. ووضع المسد في جيبه واعتزم بينه وبين نفسه ألا يسلم المسدس إلا لعبد الناصر شخصيا.

وتستطرد القصة في استكمال حبكة خيوطها، وحتى لا يتساءل القارئ عن السر في عدم تسليمه المسدس في نفس الليلة وانتظاره خمسة أيام .. فتقول القصة:

إن العامل خديوي آدم رجل فقير جدا يوميته 25 قرشا .. ولم يملك ثمن تذكرة قطار أو أوتوبيس يحمله إلى القاهرة، فسار على قدميه المسافة من الإسكندرية إلى القاهرة .. فوصلها يوم أول نوفمبر، وتوجه في الحال إلى مجلس قيادة الثورة، وطلب مقابلة جمال عبد الناصر .. وأعطاه المسدس فكافأه عبد الناصر بمائة جنيه!! .. وهكذا ظهر سلاح جديد في الجريمة طلقاته من عيار 36 ملليمتر لتكون من نفس أظرف الطلقات التي عثر عليها .. واختفت تماما سيرة المسدس الذي ضبط في يد الجاني لحظة القبض عليه ...هكذا أراد الحاكم ورجال التحقيق ..وفي اليوم الثاني مباشرة نشرت الصحف أن الجاني تعرف على المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم، وقرر أنه نفس المسدس الذي استخدمه لاغتيال عبد الناصر ، وأنه تسلمه من رئيسه في الجهاز السري المحامي هنداوي دوير .. وتعرف هنداوي هو الآخر على المسدس وقرر أنه نفس المسدس الذي أعطاه للجاني، وكان رئيسه في الجهاز السري المحامي إبراهيم الطيب أعطاه له ليسلمه للجاني!!

هكذا تعرف الاثنان على سلاح الجريمة .. وهكذا اختفت تماما سيرة المسدس الأول الذي ضبط مع الجاني لحظة القبض عليه .. واحد فقط أنكر أن المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم يتعلق بالجهاز السري .. هذا الشخص هو إبراهيم الطيب نفسه .. وجاء إنكاره أمام محكمة الشعب عندما عرض عليه رئيسها جمال سالم المسدس فقرر أنه ليس نفس المسدس الذي أعطاه لهنداوي ... إنما هو مسدس آخر.

ولم يحقق جمال سالم هذه النقطة الهامة ... أغفلها تماما .. كما أغفل أثناء المحاكمة تكليف الادعاء بتقديم شهود الإثبات الذين ضبطوا الجاني لحظة ارتكاب الجريمة ... وكانوا وبالمصادفة من العاملين بمديرية التحرير التي أنشأها مجدي حسنين أقرب الضباط الأحرار إلى قلب جمال عبد الناصر ، وهؤلاء الشهود معروفون بأسمائهم ووظائفهم ... ولعل الادعاء خشي أن يقدمهم، ويقدم خديوي آدم العامل الذي عثر على المسدس حتى لا تتخبط أقوالهم، ويظهر شيء محظور كانوا يسعون لإخفائه .. إن أي طالب بالسنة الأولى حقوق يعلم أن أول شهود يستمع إليهم هم شهود الإثبات الذين لهم صلة بضبط الجاني أو مشاهدة الجريمة أو اكتشاف سلاح الجريمة.

ولكن هؤلاء الأربعة لم يدلوا بشهادتهم عند محاكمة الجاني. وذكر صالح أبو رقيق بعد ذلك ما حدث في أثناء المحاكمة برئاسة جمال سالم من مهازل ومآس، انتهت بصراخ هنداوي دوير: ضحكوا علينا ... خدعونا.

ثم ما ذكره حسن التهامي من قصة (القميص الواقي من الرصاص) الذي كان يعد لعبد الناصر تلك الليلة، وما حوله من وقائع وتفاصيل لا أذكرها الآن، ولكنها تزيد الأمر غموضا، وإن شئت قلت: تزيده وضوحا: أن تدبير دوير ومن معه قد كشف، أن عبد اللطيف لم يطلق الرصاصات الثماني، وإنما أطلقها غيره.

وقال أبو رقيق:

إن الشخص الذي كان بجوار محمود عبد اللطيف، والذي أطلق الرصاصات في الهواء، وترك دون أن يمسك به أحد، موجود على قيد الحياة، وكل مظاهره تدل على أنه تاب وأناب .. وكان أبو رقيق يرجو أن يكمل توبته بإظهار الحقيقة التي ظلم بسببها أناسا كثيرون، بل جماعة بأسرها.

وذكر الأستاذ حسن العشماوي أنه فوجئ بالحادث، وفوجئ بإسناده إلى الإخوان، وقد سأل في ذلك يوسف طلعت رئيس الجهاز السري، فأكد: أنه لا يعرف شيئا عن ذلك، والمفروض أنه المسئول عن الحركات السرية .. ووضح يوسف طلعت: أن الخطة الموضوعة كانت تقتضي أن تجتمع الهيئة التأسيسية بعد غد، وأنه سيعقبها مظاهرة لإعلان قراراتها، كما أكد يوسف طلعت: أنه أيقن أن الأستاذ إبراهيم الطيب المسئول عن الجهاز السري في القاهرة لم يكلف الأستاذ هنداوي دوير بأن يعمل لاغتيال جمال عبد الناصر ، ويستنتج الأستاذ حسن عشماوي من ذلك كله أن الحادث على هذا النحو فردي يحاسب عليه فاعله.

ثم يعود ليذكر: أنه يؤيد اتجاه الأستاذ يوسف طلعت، الذي كان إيمانه يصل إلى أن الحادث ملفق ... لأن المسافة بين مطلق النار وموقف عبد الناصر 300 متر، وللميل الشديد في الاتجاه، إذ كان عبد الناصر يقف على منصة عالية، ثم لوقوف عبد الناصر وراء حاجز من البشر، وذهاب المتهم وحده دون شريك يسنده، واستعمال مسدس، وهو أداة ضعيفة في مثل هذه الحال، وعدم إصابة الهدف من شخص معروف جيدا بالمهارة الفائقة، ومعروف كذلك بأنه لا يطلق النار بغير تأكد من الإصابة كل ذلك يوحي أن الحادث غير معقول.

ويوسف طلعت كان دائما يتساءل: أمن الممكن أن يرسل هنداوي دوير شخصا واحدا لهذا الحادث، مع أنه يستطيع أن يرسل عدة أشخاص؟ .. وهل يمكن أن يرسل مسدسا واحدا بدلا من عدة مسدسات وقنابل؟ .. ويذكر الأستاذ حسن العشماوي أنه سمع من موظف عاين مكان الحادث رسميا أن الحائط المواجه لإطلاق النار ليس به أي اثر للرصاص، وأنه يعتقد أن المسدس الذي سمعت طلقاته كان محشوا بالبارود فقط دون رصاص، وأن عبد الناصر كان يعلم سلفا لحظة الإطلاق.

يتفق مع شهادة الدكتور يوسف القرضاوي شهادة أخرى هامة سجلها الدكتور زكريا سليمان بيومي رئيس قسم التاريخ بجامعة المنصورة في كتابه: الإخوان المسلمون من المنشية إلى المنصة" مكتبة وهبة" حيث ينبه إلى ذكاء عبد الناصر في تمهيد الجماهير في الفترة السابقة لحادث المنشية للصدام المسلح بين الثورة والإخوان.

يقترب ريتشارد ميتشيل كثيرا من هذا الرأي في كتابه "الإخوان المسلمون " وهو كتاب قيم ومنصف لولا أن رفعت السعيد شوهه بطريقته المدربة.

المؤرخ د. أحمد شلبي يتفق مع القرضاوي وزكريا فيما ذهبا إليه، مع العلم أنه كالدكتور زكريا ليسا من الإخوان المسلمين.

ينقل لنا الدكتور يوسف القرضاوي شهادة الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية (دار العلوم) حيث يقول الجزء التاسع من (موسوعة التاريخ الإسلامي): رأيي الذي أدين به والذي كونته من دراسات وتفكير خلال ربع قرن منذ وقع الحادث حتى كتابة هذه السطور، هذا الرأي يتخذ دعامته من الأحداث والأقوال التالية:

أولا:

الدقة الشاملة في إعداد السرادق وتنظيم الذين يحتلون مقاعده، وقد سبق أن اقتبسنا كلمات إبراهيم الطحاوي الذي يقرر أن هيئات ثلاثا كانت مكلفة باحتلال مقاعد السرادق .. هي هيئة التحرير، وعمال مديرية التحرير، والحرس الوطني .. وهذا يوضح أنه لم يكن هناك مقعد يمكن أن يتسلل إليه مغامر ليعتدي على جمال عبد الناصر ، فما كان الوصول إلى المقاعد أمرا ميسورا، ولم يترك للجماهير إلا المقاعد الخلفية النائية.

ثانيا:

قضية الجنيهين اللذين تحدثت عنهما الصحف المصرية، وقالت: إنهما أعطيا لمحمود عبد اللطيفلينفق منهما على أولاده وأسرته هي في تقديري أسطورة لم يجد حبكها .. فالمبلغ الذي يقدم لمن هو فقير ويطلب منه أن يقدم على هذه المغامرة لا بد أن يكون مبلغا ضخما، يغري بالإقدام على هذا الجرم.

ثالثا:

ثماني رصاصات تنطلق من مسدس يمسك به رجل مشهود له بالدقة في إصابة الهدف، ولا تنجح واحدة من هذه الرصاصات في إصابة الهدف أو إصابة أي شخص من الذين يحيطون بجمال عبد الناصر ، أو إصابة أي إنسان على الإطلاق .. هذا في تقديري مستحيل!!

ثم إن المشرفين على السرادق سرعان ما طمأنوا الناس ودفعوهم للهدوء، ولو كانت هناك مؤامرة فعلا لانفض الحفل مخافة أن يكون هناك مزيد من الرصاص.

ومما يتصل بالإصابات نذكر أن الإصابات القليلة التي حدثت كانت من زجاج انكسرن ربما من الزحام والجموع التي تحركت عقب الحادث، ولم تكن هناك إصابات من المسدس على الإطلاق.

رابعا:

كانت المسافة بين المكان الذي قيل: إن محمود عبد اللطيفأطلق منه النار وبين جمال عبد الناصر 300 متر (هل كانت 300 متر أم 20 مترا؟ .. م ع) وكان عبد الناصر على منصة عالية، وهذه المسافة وارتفاع الهدف يجعلان من المستحيل نجاح الخطة وإصابة الهدف، وبالتالي لا يقدم على هذا العمل جماعة لهم خبرات بالتخطيط والأمور العسكرية.

خامسا:

من المعروف أن الإخوان المسلمين كانت عندهم ذخائر ومدمرات هائلة، ولو اتجهوا للاغتيال لكان هناك وسائل أخرى لتحقيق هدفهم، ومن المستحيل أن يقدموا على هذا العمل بمسدس لا يستعمل عادة إلا عند المسافات التي لا تتجاوز أصابع اليدين من الأمتار، وقد تحدثت الصحف آنذاك عن أسلحة ومفرقعات ضبطت لدى بعض الإخوان بالإسكندرية كانت تكفي لنسف المدينة كلها.

سادسا:

حكاية النوبي الذي حمل المسدس سيرا على الأقدام من الإسكندرية إلى القاهرة حكاية ساذجة ننقدها من النقاط التالية:

كيف اتهم محمود عبد اللطيفقبل العثور على المسدس؟ .. مع ملاحظة أن المسدس الذي قيل: إنه وجد معه لم يستعمل ذاك المساء.

كيف أفلت المسدس المستعمل من الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف؟

لماذا لم يسلم النوبي المسدس لنيابة الإسكندرية؟

لماذا جاء هذا الرجل سيرا على الأقدام طيلة هذا المسافة التي لا تقطع عادة سيرا على الأقدام؟

سابعا:

يروي صلاح الشاهد بالبيت اضطرابا أو ذعرا وأخذ يداعب أولاد الرئيس الذين كانوا يلعبون، وهذا يوحي لي بأن أسرة الرئيس كانت تعلم سلفا بما سيجري، وقد شاهد هذا الاطمئنان قبل أن يتصل بهم عبد الناصر من الإسكندرية.

كل هذا يؤكد ما قلته، وأنا مطمئن تمام الاطمئنان أن قيادة الإخوان – العلنية والسرية – ليس لها أدنى علاقة بهذا الحادث، وأن الذي فكر فيه ودبر خطته أولا هو هنداوي دوير، وأن خطته كشف لعبد الناصر يقينا، وإن كنا لا نعلم كيف تم ذلك على وجه القطع .. وأن عبد الناصر استغل هذا الأمر، وأخرجه – مع رجاله – على الطريقة التي تم بها، والتي تدل كل خطواتها ووقائعها على أن محمود عبد اللطيفليس هو الذي أطلق الرصاص، وليس مسدسه الذي انطلق منه الرصاص.

لقد تعرضنا لشهادات كثيرة، لكن يبقى شهادات هامة لأنها من أعدى أعداء الإخوان المسلمين.

من الدكتورين: عبد العظيم رمضان وفؤاد زكريا .. ولنلاحظ هنا الطريقة الشيوعية في التزوير .. فنحن ننقل الشهادتين من كتاب الدكتور عبد العظيم رمضان: الإخوان المسلمون والتنظيم السري – الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ولقد علمنا من قبل أن اسمه التنظيم الخاص وليس السري ..لكن هذا هو عنوان الكتاب.

يقول الدكتور عبد العظيم رمضان:

في تمام الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة من مساء يوم الثلاثاء 26 أكتوبر 1954 كان جمال عبد الناصر يقف خطيبا في حفل أقيم بميدان المنشية بالإسكندرية، بمناسبة توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا .. ولم تكن قد مضت دقائق قليلة على بدء خطابه، وكان يتحدث عن ذكريات اشتراكه في العمل الوطني (..) وفي هذه اللحظة بالذات دوت ثماني رصاصات متتالية أطلقها محمود عبد اللطيف، العضو في التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين، على جمال عبد الناصر ، لم تصبه، ولكنها أصابت جماعة الإخوان المسلمين بكارثة فظيعة لم يشهد لها تاريخ الحياة السياسية في مصر مثيلا ..فلنتجاوز يا قراء عن الجزء الوصفي السابق .. ولننتقل إلى الجزء التالي فهو خطير خطير ...يقول الدكتور عبد العظيم رمضان:

كان شعور جماهير الإسكندرية عند إلقاء عبد الناصر خطابه، معبأ ضد اتفاقية الجلاء مع بريطانيا التي عارضتها كل القوى السياسية في مصر، وضد عبد الناصر الذي وقعها، وضد نظام الحكم الاستبدادي الذي أرساه .. وعندما أقيم سرادق الاحتفال في ميدان المنشية .. احتلته جماهير الإسكندرية، وأخذت هتافاتها تتعالى بالحرية وسقوط الظلم، مما اضطر السلطات إلى إجلاء السرادق من هذه الجماهير في الخامسة مساء، وإعادة ملئه من جديد بجماهير مأجورة تتكون من عشرة آلاف من عمال مديرية التحرير الموالية .. وكانت هذه الجماهير هي التي تسرب محمود عبد اللطيفمن بينها ليجلس في الصفوف الأمامية على بعد عشرين مترا من منصة الخطباء والضيوف، وأطلق منها الرصاص على جمال عبد الناصر .

هل لاحظتم يا قراء ...لقد أخلت الشرطة السرادق من الجماهير التي كانت تهتف ضد عبد الناصر ..ولقد أتت الشرطة بجماهير مأجورة طبقا لتعبير الدكتور عبد العظيم رمضان لتملأ السرادق ..وكان ممن دخلوا مع هذه الجماهير المأجورة محمود عبد اللطيف!!

والآن لننتقل إلى شهادة الدكتور فؤاد زكريا وهو واحد ممن وصلت خصومتهم مع الإسلام لدرجة الإسفاف .. ولكن الله ينطقه بالحق.

يتساءل الدكتور فؤاد زكريا في صحيفة الوطن في 2 مارس 1981:

هل كان حادث المنشية كمينا؟

ويقول فؤاد زكريا:

عاصرت حادث محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في المنشية في أكتوبر عام 1954 وتابعت باهتمام شديد تلك المحاكمة التي أجراها أعجب وأظلم قاض في تاريخ مصر الحديث، المرحوم جمال سالم ... وعلى الرغم من اختلافي الفكري الحاد مع الإخوان المسلمين ... فقد كان الانطباع الذي تولد لدي من المتابعة الدقيقة لوقائع ذلك الحادث هو أن الإخوان قد وقعوا ضحية مكيدة من نوع ما (..) وها أنذا أدلي بشهادتي عن هذا الموضوع الهام .. ع تأكيدي للقارئ أنني لست "مؤرخا (..) وأحسب أن الخصوم الفكريين للإخوان من أمثالي في حاجة إلى قدر كبير من الموضوعية ونسيان الاعتبارات الشخصية لكي يدلوا بشهادة نزيهة، وهذا .. ما سأحاول أن أفعله.

أنني على خلاف الدكتور رمضان سأتقدم بفرض لتفسير الحادث هو: كانت هناك بالفعل نية اللجوء إلى العنف لدى الجهاز السري للإخوان المسلمين بعد أن أدى القمع التام للديمقراطية إلى سد جميع مسالك العمل السلمي أمام كافة فئات المعارضة.

لم تكن هذه النية قد تبلورت تماما، وذلك لأن القيادات الإخوانية كانت في حالة انقسام وبلبلة فكرية ... وكان فيها اتجاه قوي يعارض العنف.

طرحت عدة أفكار عن أساليب عنيفة يلجأ إليها الإخوان، منها اغتيال أهم أعضاء مجلس الثورة وعلى رأسهم جمال عبد الناصر ، ولكن هذه الأفكار لم تتبلور بصورة نهائية .. وإنما تمت بحض الاستعدادات لها من خلال تسليم أنواع معينة من الأسلحة لبعض مسئولي المناطق من الإخوان.

كان المحامي هنداوي دوير مسئول الجهاز السري في إمبابة هو مفتاح السر كله في هذه القضية، وقد فوتح في موضوع الاغتيال ولكن دون تكليف صريح له بالتنفيذ.

ولم يكن هنداوي دوير هذا مقتنعا تماما بالهدف وانهارت أعصابه فأفشى السر لأجهزة الدولة قبل تنفيذ محاولة الاغتيال بأيام قلائل فكلفته هذه الأجهزة بمتابعة التنفيذ من خلال تعليماتها الخاصة ... وهناك احتمالان في هذا الموضوع: إما أن هنداوي كان من عملاء المباحث منذ البداية واستطاع أن يصعد في التنظيم السري إلى مرتبة مسئول منطقة وإما أنه شعر بالرعب قبل تنفيذ الخطة مباشرة فاتصل بأجهزة الأمن، وأنا أرجح الفرض الأخير، ومنذ هذه اللحظة أصبحت خطوات هنداوي تتم بالتنسيق مع أجهزة الأمن، وهي التي أعطته المسدس الذي سلمه لمحمود عبد اللطيفوحددت له موعد التنفيذ.

كان محمود عبد اللطيفنفسه منساقا في تصرفاته بصورة تدعو إلى الشك في أن يكون قد حدث له نوع من أنواع غسيل المخ، وكانت المسافة التي حاول أن يغتال منها عبد الناصر بعيدة إلى حد يدعو إلى الشك في سلامة تفكيره في هذه اللحظة، وفضلا عن ذلك فلا بد أنه كان مراقبا طوال الوقت وكان المسدس الذي تسلمه من نوعية خاص لا ضرر منها.

كان هنداوي دوير هو الوحيد الذي سلم نفسه للسلطات بعد يوم واحد من الحادث ... وهو الذي تعاون معها في التحقيق تعاونا تاما .. وكانت اعترافاته هي بداية الخيط الذي أسقط الجهاز كله.

أما إعدام هنداوي ضمن المحكوم عليهم في النهاية فأمر يسهل تفسيره: فعلى الرغم من الوعود التي لا بد أنها قدمت إليه لكي يشي بجماعته، كان من الضروري التخلص منه لأنه يعرف أكثر مما ينبغي، ومثل هذه الأمور تتكرر كثيرا عندما تنجح أجهزة أمن في تجنيد أحد خصومها فتتخذه طعما لاصطياده الآخرين وعندما تنتهي مهمته يكون أول ما تفكر فيه الأجهزة هو التخلص منه ... وعلى أية حال فإن المرء لا يشعر بأي أسف إزاء غدر الأجهزة بإنسان هو أصلا غادر.

ويواصل الدكتور فؤاد زكريا:

هذا هو تسلسل الأحداث وفقا للفرض الذي أتقدم به ... ويمتاز هذا الفرض بأنه يجعل الأحداث أكثر اتساقا بكثير من العرض الذي قدمه الدكتور عبد العظيم رمضان، ويلقي ضوءا على أمور كثيرة.

ولأضرب لذلك مثلا واحدا: فقد قرأت بنفسي في جريدة "الأهرام" بعد حوالي أسبوع من الحادث أن أحد العمال قد وصل من الإسكندرية إلى القاهرة ومعه المسدس الذي ارتكبت به الجريمة .. وكان قد التقطه أثناء وجوده على مقربة من المتهم في ميدان المنشية، ولكي تغطي الصحيفة تلك الفترة الطويلة التي استغرقها وصول المسدس إلى المسئولين، ذكرت أن هذا العامل لم يكن يملك أجر القطار وحضر من الإسكندرية إلى القاهرة سيرا على الأقدام، وهو يحمل المسدس المستخدم في الحادث فاستغرق ذلك منه أسبوعا (...) ويخيل إلي أن هذه الواقعة وحدها بما فيها من استغفال لعقول الناس، تكفي وحدها لتشكك في العملية بأكملها ..فلنترك جانبا ما قاله الدكتور رمضان نفسه عن إهداء الأمريكيين قميصا لا يخترقه الرصاص لجمال عبد الناصر قبل الحادث بفترة وجيزة ولنترك جانبا شهادة حسن التهامي التي توحي بوجود مؤامرة دبرتها الحكومة مع مصادر خارجية للإيقاع بالإخوان – لنترك هذا كله على أهميته الكبرى جانبا ولنتأمل نفس الوقائع التي أوردها الدكتور رمضان، لكي نستخلص نتائجها الضرورية.

وهل يحق لنا أن نثق بأقوال شخص يسلم أداة الجريمة لإنسان ثم يقول بعد وقوعها بيوم واحد أن القتل غير إسلامي؟ .. وكيف فات هذا التناقض على الدكتور رمضان وظل يعتمد في الجزء الأكبر من دراسته على أقوال شخص كهذا.

إن الدكتور رمضان يأسف لأن هنداوي لم يفق إلا بعد الحادث، ولو كان قد أفاق قبله لأنقذ الإخوان من التهلكة .. ولكن هذا تحليل ضعيف إلى أبعد حد، أولا لأن إفاقة هنداوي أو عدم إفاقته ما كانت لتغير شيئا في تسلسل الأحداث التي كان الإخوان سيتعرضون فيه حتما للتصفية بعد أن خلا الجو لرجال الثورة وتخلصوا من بقية الخصوم وثانيا لأن هنداوي (كما أرجح) قد أفاق فعلا قبل الحادث، ولكن طريقته في الإفاقة كانت هي التي ألقت بالإخوان في التهلكة لأنه وشى بهم جميعا.

يستطرد الدكتور فؤاد زكريا في شهادة شد ما تدهشني .. فالرجل للمرة الأولى في حياته – في حدود ما أعلم – يقول قولة حق .. وهو لم يتحول كما تحول رفعت السعيد وصلاح عيسى وجمال الغيطاني إلى نجوم لا تنشر أعمالهم على الشبكة إلا مواقع أقباط المهجر والمنصرين .. أقول استطرد الدكتور فؤاد في شهادته العجيبة ليقول:

نسب هنداوي إلى حسن الهضيبي الأمر بتنفيذ الاغتيال وهو ما أثبت الدكتور رمضان نفسه كذبه، كما كذبه الهضيبي ويوسف طلعت بشدة، فإذا كان قد كذب إلى درجة توريط رئيس مسالم للجماعة، وتعريض حياته للخطر فهل نستبعد أن يكذب في بقية أقواله (..) أما المواجهة التي دبرها جمال سالم بين إبراهيم الطيب وهنداوي والتي وصفهما الدكتور بالمهارة تارة وبالكفاءة والاقتدار تارة أخرى فإنها تكتسب معنى جديدا كل الجدة في ضوء الفرض القوي الذي نقول به وهو أن هنداوي دوير اتصل بالسلطات وأبلغها بالحادث قبل أيام قلائل (في الفترة التي توقف فيها التنفيذ مؤقتا) وأتاح لها بعد ذلك فرصة توجيه الأحداث بالطريقة التي ضمنت لها أفضل النتائج ... فعندئذ تصبح هذه المواجهة بين متهم حقيقي وبين عميل، وبالفعل نجد جمال سالم يستعين بهنداوي في تكذيب إبراهيم الطيب، لا العكس، بينما يقدم هنداوي إلى المحكمة كل ما تريده من "أدلة" تطيح برءوس زملائه السابقين.

ما زال الدكتور فؤاد زكريا يتحدث:

إن الثغرات في سرد الأحداث وفقا لتفسير الدكتور رمضان كثيرة ... وهناك تناقضات لا حد لها تركت بلا أي تشكيك أو استفسار .. ولعل من أبرزها أن يعرض جهاز ضخم حسن التدريب والإعداد مستقبله كله للخطر مقابل أن يترك فردا واحدا، هو محمود عبد اللطيفلكي يعتمد في التنفيذ على مجهوده الشخصي، هل هذه الخطة يقامر بها جهاز كهذا بحياته وحياة جماعته كلها.

إن حادث المنشية بالضرورة التي تم بها كان حادثا استدرج فيه الإخوان.

وليس للقارئ أن يعجب من هذا التفسير لأن أجهزة الأمن في بلادنا العربية قادرة على التغلغل في كافة التنظيمات وقادرة على تدبير الحوادث وخلق الشهود الذين يبررون لها ما قالت ويكفيني هنا أن أشير إلى مثال واحد، ففي أواخر الستينيات قيل إن المستشار كامل لطف الله قد انتحر بأن ألقى بنفسه من سطح بيته وتشاء "الصدف" أن يحدث انتحاره هذا قبل يوم واحد من الموعد المحدد لكي ينظر هو نفسه في قضية اختلاسات مديرية التحرير التي وصلت إلى ملايين الجنيهات، وكان الرجل قد درس ملف القضية بأكمله دراسة متعمقة .. وأعجب ما في الأمر أنه بعد وقوع الحادث بأربعة أو خمسة أيام تقدم للنيابة شخصان قالا إنهما من عمال البناء ... وكانا يشتغلان في بيت مجاور، وشاهدا القاضي وهو ينتحر .. أما لماذا لم يبلغا عما شاهداه عند وقوع الحادث، فذلك – حسب رواية الصحف ذاتها – لأنهما لا يعرفان القراءة ولم يدركا أهمية الشخص المنتحر إلا عندما سمعا بالحادث بعد أيام.

هناك إذن خفايا كثيرة تكمن تحت السطور ... وأحسب أن من واجب كل من يملك شهادة عن هذه الأحداث وغيرها أن يقول كلمته حتى يظهر تاريخ بلادنا في ضوئه الحقيقي، ولو سئلت عن رأيي لقلت إن الإخوان المسلمين برغم اختلافي الأساسي معهم كانوا في حادث المنشية بالذات ضحية كمين اشتركت فيه بعض عناصرها مع أجهزة الدولة، ولكن يبقى على من شاركوا في الأحداث نفسها أن يقولوا كلمتهم.

انتهت شهادة الدكتور فؤاد زكريا .. وتبقى شهادة قصيرة ضحكت بعدها في أسى يروي الشهادة الدكتور عبد الحليم قنديل في حوار له مع موقع محيط على الشبكة الإلكترونية فيقول:

"ولا شك أن نقطة الصدام الأساسية بين عبد الناصر والإخوان تجسدت في حادث المنشية الشهير، الذي ما زال الإخوان حتى الآن ينكرونه، بينا من يقرأ مذكرات السيد أحمد طعيمة الذي كان عضوا في الإخوان المسلمين ثم انضم إلى حركة الضباط الأحرار وما زال حتى الآن معروفا بمواقفه الإسلامية القريبة من الإخوان، وكلف من قبل السادات بإجراء حوارات مع عمر التلمساني وغيره بهدف استقطاب الإخوان إلى جانب نظام السادات يجدها تحمل في كثير من جوانبها على النظام الناصري في الستينيات إذ أنه كان ضد فكرة التأميم ومع فكرة التعاون وأقرب إلى فكرة القطاع الخاص، ومن ثم فإن مذكراته خالية من فكرة التحيز الكامل، لكنه رغم ذلك كان في مذكراته شديد الإيمان بشخصية عبد الناصر نزاهة وتجردا وهو يروي مذكراته وهذه شهادة لأنه كان مسئولا مع الطحاوي عن هيئة التحرير في الوقت الذي جرى فيه حادث المنشية ... إن أي تشكيك في حادث المنشية كلام فارغ جدا ويؤكد أن اسم محمود عبد اللطيفالمتهم في حادث الاغتيال كان ضمن عشرة أسماء قدمت لعبد الناصر قبل أن يذهب إلى الإسكندرية على أنها كلفت من التنظيم السري بتدبير اغتيال جمال عبد الناصر ، وأنه وضع قرارا على مكتب عبد الناصر يطلب فيه أحمد طعيمة وآخرون ينتمون للإخوان من عبد الناصر أن يفصل هؤلاء الناس من وظائفهم حتى ينشغلوا بأنفسهم عما يدبرونه له، لكن عبد الناصر رفض توقيعه، وحينما سألوه عن سبب عدم توقيعه رد قائلا: "أفضل أن يحاولوا اغتيالي على أن أقطع عيش أحد".

انتهت شهادة عبد الحليم قنديل عن حادث المنشية، وقد اضطررت لقراءتها مرتين، فقد ظننته للوهلة الأولى يسخر ...لاحظوا يا قراء جملته الأخيرة:

"أفضل أن يحاولوا اغتيالي على أن أقطع عيش أحد".

أما المرارة فكانت لأن عبد الناصر بعد شهرين فقط لم يقطع عيشهم بل قطع رقابهم.

ولست أدري: هل أشفق على قنديل أم أدينه ...الشهادة الأخيرة اليوم فهي على لساني أنا وهي شهادة رغم قصرها تحل المعضلة التي شغلت شيخنا القرضاوي وأربكت الدكتور زكريا والدكتور رمضان وكل من وضع افتراضا مؤكدا للعلاقة بين محمود عبد اللطيفوالسلطة .. العلاقة التي تقطع بعلاقة جمال عبد الناصر بالأمر وتقطع بأنها كانت مكيدة للإخوان ...لقد ظللت في ريب من الأمر حتى جلست مع الوزير أحمد طعيمة، وزير الأوقاف في العهد الناصري، وأحد الضباط الأحرار، وسألت الرجل عن حادث المنشية (نشرت الواقعة كلها منذ أعوام، كما أن الدكتور طعيمة نشرها في مذكراته) .. وراح الرجل يؤكد لي القصة الرسمية، والرجل شديد الإعجاب بجمال عبد الناصر ، شديد التدين، وشديد الإدانة للإخوان المسلمين، وعلى الرغم من هذا كله فقد كانت روايته لي عن حادث المنشية، وتأكيده للرواية الرسمية، هي بداية يقيني من المكيدة المجرمة .. باختصار شديد، كان أحمد طعيمة على علاقة شخصية حميمة بأحد التجار المشهورين (صاحب محلات سعودي)، وكان هذا التاجر عضوا في الإخوان المسلمين، وكان معجبا بعبد الناصر ، فأبلغ الوزير طعيمة بأسماء عشرة أشخاص جرى الاقتراع بينهم لتنفيذ عملية الاغتيال، وهرع أحمد طعيمة – والرواية على لسانه والرجل ما يزال حيا – إلى جمال عبد الناصر وأبلغه بالأسماء العشرة، وطلب منه اعتقالهم على الفور، بعد أسبوع قابل صديقه التاجر مرة أخرى، فسأله مندهشا لماذا لم يتم القبض عليهم، ويقول أحمد طعيمة أنه هرع إلى جمال عبد الناصر مغاضبا ومتسائلا لماذا لم يتم القبض على المتآمرين، فأجابه عبد الناصر بأنه لا يستطيع القبض على أناس لم يرتكبوا بعد أي جريمة.

كان الوزير أحمد طعيمة في غاية الانفعال وهو يسرد الواقعة مؤكدا لي أن جمال عبد الناصر قد تصرف مثل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أبى حبس من توعده بالقتل.

وأضاف أنه بعد أن حدثت المحاولة في المنشية راجع أسماء المقبوض عليهم فوجدها هي الأسماء التي أبلغ عبد الناصر ..هذا هو حل اللغز إذن.

كانت تفاصيل الحكاية كلها أمام عبد الناصر والمباحث والمخابرات ...وكانت كل البدائل ممكنة ومحتملة .. وقد قلت عشرة أيام على الأقل لأن هناك احتمالا آخر في أن يكون الاختراق قد تم قبل ذلك بكثير .. وأن هذا الاختراق كان هو الذي دفع محمود عبد اللطيفوهنداوي دوير للتخطيط لمحاولة الاغتيال تمهيدا للقضاء على الإخوان المسلمين.

ليس كأفراد فقط.بل كمنهج ..نفس المحاولة التي تحاولها إسرائيل في فلسطين وأمريكا في العالم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ...رحم الله الشهداء ..ولعن الخونة ..وإنا لله وإنا إليه راجعون ...إذا كان الإخوان إرهابيين فما بال الوفد وباقي الضباط محمد نجيب كان رمز الشرعية وكان الإخوان معه ..عبد الناصر خرج من البيعة مرتين: مرة للسندي ومرة لنجيب ..فكر القومية لم يحم العروبة .. لقد حمى فقط قصر العروبة!!

لا تصدقوا حرفا مما أكتب .. ولا تستمعوا لكلمة مما أقول ..نعم .. لا تصدقوني .. ولا تستمعوا إلي .. لكن: اقرءوا أنتم .. واعرفوا ...من أي مصدر شئتم واقرءوا .. ولكن ضعوا في اعتباركم أن القراءة ليست لمكافحة سآمة أو للقضاء على ملالة، بل هي بحث محاط بالشوك واللظى .. بحث عن سبيل يبتعد بنا عن خراب الدنيا وخزي الآخرة .. قراءة من يدرك أنني دفعته إلى شفا جرف هار فيكاد أن ينهار به في نار جهنم .. وليحذر .. فالله لا يهدي القوم الظالمين.

جرف لم يعد بعده أي واحد منكم يملك رفاهية الاعتذار بالجهل ..لم تعد جاهلا ...فإما أن تثبت أن ما أقوله صواب فتتبع الحق أو أن تثبت أنه خطأ فتثبت على ما رأيته حقا ...لم تعد جاهلا .. فاقرأ ..نعم .. إنني أضع الاختيار أمامكم واضحا لا لبس فيه ... فالصراع الذي يحيطنا على مستوى العالم – ويكاد يلتهمنا – إنما هو صراع بين الإسلام والكفر ... وليس ثمة من سبيل غير الإسلام .. ففيه النجاة وبه النجاة ...صراعنا في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والفليبين .. بل وصراعنا في الأمة التي تمزقت إلى أوطان هو الصراع بين الإسلام والكفر .. وأن أي رايات زائفة تحمل أسماء كالديمقراطية أو تحرير المرأة أو الاشتراكية سابقا أو السلام الذي لا يعني إلا الاستسلام .. كل هذه الرايات لن توصلنا إلى غاياتنا ولو كانت صادقة فما بالكم بها إن كانت مزيفة.

لقد سمعتم جميعا أن من ينادون بها هم أول من يكذبها .. ولعلكم قرأتم ما كتبه د. مأمون فندي .. أقول لعلكم قرأتم تحذير د. مأمون فندي للغرب من تطبيق الديمقراطية في بلادنا وإلا اختار معظم الناس الإسلام ... ووقفوا موقفا معاديا لأمريكا ...د. مأمون فندي نصح الغرب بأننا نحتاج إلى فترة طويلة نتدرب فيها على الديمقراطية كي لا تؤدي ممارس تها إلى ظهور أنظمة حكم معادية للغرب ... كشف "د. فندي" الأمر ..نفس الموقف تتخذه شخصيات كثيرة هزيلة على فضائياتنا ...الأمر كله ترويض كترويض العبيد وفتيات الرقيق الأبيض ..هذا الترويض يكشف لنا أن الخيانة لها ألف وجه وللنفاق ألف طريق ...ويظل ما يقوله سيد قطب حكما وعلامة وحكمة:

"كل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء يهود، سواء عرف أم لم يعرف، أراد أم لم يرد، وأن اليهود سيظلون في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها حقيقة العقيدة الإيمانية والشريعة الإيمانية، فهذا هو الطريق، وهذه هي معالم الطريق".

نعم .. حكما وعلامة وحكمة:

"كل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء يهود، سواء عرف أم لم يعرف، أراد أم لم يرد، وأن اليهود سيظلون في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها حقيقة العقيدة الإيمانية والشريعة الإيمانية، فهذا هو الطريق، وهذه هي معالم الطريق".

ولولا أن أشق عليكم أو أصيبكم بالملالة لأخذت أكرر الفقرة السابقة للشهيد العظيم حتى نهاية المقالة ولما كتبت سواها ...كل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء يهود .. وهو موظف لذلك .. حتى لو بدا في الظاهر أبعد ما يكون.

الاشتراكية جزء من ذلك .. والرأسمالية جزء من ذلك والعلمانية والقومية وتطوير المناهج والحداثة و .. و .. و ..الفتن التي لا يكف صلاح عيسى عن إشعالها جزء من ذلك ..والفرعونية التي لا يكف جمال الغيطاني عن محاول إحيائها جزء من ذلك ..والفلوكلور جزء من ذلك ..والشعر النبطي والمناداة بالعامية جزء من ذلك ..اقرءوا يا ناس ..يقول "غوته" شاعر ألمانيا الأشهر، إن من لم يعرف تاريخ الثلاثة آلاف عام الأخيرة سيعيش في العتمة ...وأنا أيها القارئ لا أطلب منك أن تقرأ تاريخ ثلاثة آلاف عام .. ولا حتى ثلاثة أعوام .. ما أطلبه منك فيما نحن فيه .. هو أن تقرأ تاريخ عامين ونيف .. من يوليو 1952 إلى أكتوبر 1954 .

اقرأ تاريخ هذين العامين فقط .. فبدون قراءته لن تفهم أبدا ما حدث وما يحدث وما يمكن أن يحدث ... وبدون قراءته نسقط في تمجيد الطواغيت بل وتأليههم .. نسقط في الحرام قبل أن نسقط في الخطأ .. ونسقط في الدنيا قبل أن نسقط في الآخرة.

اقرءوا يا ناس ...لكنني ألفت نظركم إلى تعديل هين في طريقة قراءتكم .. تعديل هين لكن أثره خطير خطير .. ولست أدعي أنني أعلمكم .. ولا أنني حاشا أعلم منكم ... لكنها أخطاء وقعت فيها وأشفق عليكم بالحب أن تقعوا فيها مثلي ... أخطاء يمن الله علي أن هداني إلى اكتشافها كي أستغفر عنها قبل أن أموت .. وجزء من استغفاري أن أقول لكم.

ولست بمدع أنني أملك ناصية الحقيقة .. إنما أتعلق بأهدابها راجيا الله أن يهديني إليها .. ومدركا طيلة الوقت أن أفكاري مهما كانت إنما هي أفكار بشر .. وأن كل ابن آدم خطاء .. وأن أول الناس دخولا للنار يوم القيامة عالم ومتصدق وشهيد .. لم يصدقوا الله فحبط عملهم ...نعم .. ليست بمدع أنني أملك ناصية الحقيقة.

إن القارئ الذي يتابعني يعلم كم شغف قلبي محبة بالشهيد سيد قطب .. لكن هل أستطيع أن أزكيه على الله؟ .. هل أستطيع أن أقسم أنه في الجنة؟ .. ثم إن القارئ الذي يتابعني يعلم كيف تحولت مشاعري تجاه عبد الناصر من الحب إلى البغض .. كان الحب في الحالين لله .. وكان الكره في الحالة الأخيرة أيضا لله ... لكن .. هل أستطيع برغم كرهي أن أقسم أنه في النار؟

لا أدعي أنني أملك ناصية الحقيقة إذن ...ولست أدعوكم بطريقتي التي أنصحكم بها – في القراءة أن تفعلوا مثل العلمانيين الأشرار والحداثيين الأقذار حين يكتبون النص المراوغ وهم يقصدون عكسه، لا أقصد ذلك ..إنما أقصد أننا شعب بلغ فرط تقديسه للكلمة المطبوعة أنه يتلقاها في معظم الأحيان تلقيا سلبيا .. ولا أقول إنه يفترض فيها الصواب المطلق .. لكن ما أزعمه هو أن القارئ إذ يقرأ لا يتخيل أن كاتبه المفضل يكذب عليه .. يكذب عامدا متعمدا .. ما أطلبه هو أبسط درجات التدقيق في المادة المقروءة .. أن يسأل القارئ نفسه:

هل هذا الكاتب مؤهل للكتابة في هذا الموضوع؟ .. وهل هذا المنشور معقول؟ .. وهل هناك سند لما يقوله هذا الكاتب .. و .. و ..طبقوا هذه الطريقة يا قراء وستكتشفون كم أن النتيجة مذهلة .. وبعد قليل سوف أعطي بعض النماذج على كتاب من الصف الأول مثل محمد حسنين هيكل ومحمد عودة ..وتلك نقطة هامدة جدا يا قراء .. فهناك من يكتب وهو يبحث عن الحقيقة .. أو يكتب ليوصل إلى الناس ما اكتشفه من حقيقة .. ومثل هؤلاء الناس تهون عليهم الدنيا وما فيها مقابل كلمة صدق ...لكن هناك في الجانب الآخر من يكتب ليخفي الحقيقة .. وهذا النوع بالغ الخطر .. لأن القارئ يأتمنه فلا يظن السم مدسوسا فيما يقدمه له ...والأمثلة كثيرة ... أكثر بكثير مما ينبغي ويجب .. أمثلة لا تعد ولا تحصى حتى لقد أصبحت هي القاعدة ودونها استثناء ...هذا النوع الأخير لا يأبه للحقيقة أبدا .. إنه يضع أمامه مهمة يأخذ بالطبع ثمنها ثم يحاول طول الوقت أن يزيف المنطق ويطمس الحقيقة حتى يزين الباطل الذي يدعو إليه.

إنه يشبه من تستأجره ليصبغ لك جدارا بلون معين .. فإذا صبغه باللون الذي تريده نقدته الثمن وإلا فلا ثمن ...أمثال هؤلاء يحدد لهم الطاغوت أو الـ CIA مباشرة أو متخفية في صحف كالأهرام والشرق الأوسط .. يحدد لهم على سبيل المثال أنهم يريدون أن يبدو فلانا هذا شخصية مهيبة مقدسة لا يجرؤ أحد على الاعتراض على ما تقول:

على سبيل المثال طه حسين الذي اعتذر بجهله عن كفر كتاباته .. وأحمد لطفي السيد القطري اللا إسلامي محدود الأفق صاحب فكرة الحرس الجامعي والذي لم ينجز أي إنجاز في حياته سوى أنه عمر طويلا .. ثم يسمونه أستاذ الجيل ... فإذا سألت: أستاذه لماذا أو في ماذا أو في أي فترة انهارت الفرية على الفور .. مثل تلك الأسئلة البسيطة هي ما أطلبه منكم يا إخوتي في الله .. لا تأخذوا الكلمة المكتوبة كبديهية أو مسلمة.

بنفس الطريقة يحدد صاحب العمل على سبيل المثال: نريد أن نجعل من سيد قطب شخصا إرهابيا يتبرأ الناس منه فإذا ما اضطروا للاعتراف بعبقرية عمل من أعماله فلا بد أن يحاط ذلك بسباب وادعاءات لا أول لها ولا آخر تقوم بوظيفتها في التنفير والتحذير ...في هذا الإطار يسند إلى كاتب جنسي الكتابة عن عالم دين أو مجاهد ..وهذا يشبه أن آتي بملحد كي يقيم حركاتك في الصلاة .. إنه لا يفهم ...ولا يمكن أن يفهم ...هل يصلح أن يكلف وحيد حامد على سبيل المثال بكتابة تستعرض أفراح الروح ومباهجها بدلا من مباذل الجسد وعوراته ..لا يستطيع ولا يفهم ..كاتب كعادل حمودة أيضا .. يستطيع الكتابة عن عبد الناصر ومحمد نجيب .. كما يستطيع الكتابة عن بنات العجمي ... لكنه لا يستطيع الكتابة عن سيد قطب .. فسيد قطب يتكلم لغة أخرى وإن تشابهت حروفها مع لغة عادل حمودة!!

نعم ... عادل حمودة بالمفهوم الصحافي – بارز وناجح .. لكنه لا يصلح للكتابة عن الشهيد .. على أننا في نفس الوقت لا نطالب بمنعه أو منع غيره من الكتابة .. لكننا نطالب المايسترو الشيطان الذي يكرس حالة الانيهار والابتذال في الأمة ألا يسير كل السبل لمن يكتب في صالح الطاغوت الفاجر ويضع كل العراقيل لمن يكتب للحق ... وللحقيقة .. ولله .. هل لاحظتم على سبيل المثال ذلك الفاجر الكافر بوش وهو يغمض عينيه عن ترسانة إسرائيل النووية ويعتم وهو وأجهزة إعلامه عن أي خبر عنها .. وفي نفس الوقت تضخم الشائعات حول إيران.

نفس المنطق ...والطاغوت في بعض بلادنا يفعل نفس الشيء ... أحيانا بشكل فج مباشر .. وفي أحيان أخرى بأشكال خفية بالغة التعقيد ...ومن الطرق أيضا أن نأتي بشخصية بالغة الجدية فنتجاهل جدها كله ونحولها إلى مثار سخرية .. فالسخرية سوف تسقط هيبة الشخصية ومصداقية ما تقول ... والشيوعيون يملكون مهارة خاصة في هذا الصدد .. وهذه المهارة لا تحتاج إلى أي خبرة ... إنك تستطيع أن تأتي بحثالة المجتمع، وبأكثر من فيه سفالة ووقاحة، تستطيع أن تأتي بهم .. وتدعهم يقفون على مفترق الطرق .. يسخرون ويهينون أكثر الناس احتراما في المجتمع.

لقد ذكرت لكم في المقال الماضي كيف أن صلاح عيسى يستكتب الآن واحدا ينكر الإسراء والمعراج.

ومصائب صلاح عيسى كثيرة جدا .. أكثر مما يجب .. وهي لا تعد ولا تحصى .. واحدة منها مؤلمة لي بشكل خاص .. فقد كانت متعلقة بعلامة شغفت به حبا هو العلامة الضخم الهائل محمود شاكر ..ولست أدعي أن محمود شاكر معصوم أو مبرأ من الخطأ .. ولكن ... إن جاز لمن ينسب إليه عيوبا فإن هذه العيوب كلها تأتي في إطار بالغ الجدية .. قد يقول من يقول إنه شديد الصعوبة .. وإنه شديد الاهتمام بالتراث .. وإنه شديد الاعتداد بنفسه .. أو ... أو ... أو ...لا يرى صلاح عيسى هذا كله ...وإنما يؤلف واقعة سوقية مبتذلة في مقال له بعنوان: تفاحة اللواء حمزة البسيوني ... وهي مقالة تحتاج إلى مناهج التحليل النفسي لتحليل كم هائل من الفضلات تجمع داخل فضاءات صلاح عيسى حتى ملأها .. ولمن لا يتذكر محمود شاكر أقول إنه كان كعبة للمفكرين العرب .. ومزارا لكبار المثقفين الحقيقيين في مصر .. وإنه كان السبب في خروج الباقوري من الوزارة .. فقد كان يحضر ندوة في بيته .. وكان العلامة محمود شاكر يهاتف الكاتب يحيى حقي ويلعن عبد الناصر ... وكانت المباحث تسجل وأخذ على الباقوري أنه لم يرد ... فعزل .. وأمر أن يلزم بيته .. فسجن نفسه فيه ... خمسة أعوام .. والواقعة تتلخص في أن الشيخ محمود شاكر كان مع صلاح عيسى في السجن الحربي .. وكان يحتفظ بحذائه معه بعد أن رفض تسليمه في الأمانات .. أما السبب فهو أنه يريد عند الإفراج عنه ألا يتعطل ولو ثوان يقضيها في ارتداء الحذاء.

لا شيء أكثر من ذلك عن الهائل الضخم محمود شاكر ..لا شيء سوى أن المايسترو الشيطان يريد أن يجعل محمود شاكر نموذجا للتنفير والتحذير.ولعل القارئ لاحظ أنني كتبت أكذوبة صلاح عيسى حول محمد شاكر ...نعم .. قلت محمد وليس محمود .. فهكذا كتبها صلاح عيسى .. وذلك يدل فيما يدل على أن الرجل ينفذ أمرا لم يأبه حتى بدراسة تفاصيله فلم يعلم أن الذي سجن هو العلامة الأشهر محمود شاكر .. أما محمد شاكر فكان أبوه .. وكان شهيرا جدا .. وكان وكيلا للأزهر .. وكان الملك فؤاد قد استقبل طه حسين صبيحة يوم جمعة بمناسبة سفر طه حسين إلى بعثة في باريس – وحانت صلاة الجمعة .. وأراد خطيب مسجد القصر الإشادة بالملك فقال: لقد جاءه الأعمى فما عبس وما تولى .. وأخذت مشاعر الشيخ محمد شاكر (والد العلامة محمود والعلامة أحمد) .. وبعد أن أكمل الصلاة صرخ في المصلين: "أيها الناس: صلوا خلفي فصلاتكم باطلة" واضطر الملك لإعادة الصلاة مما يعتبر اعترافا ضمنيا بخطأ خطيب مسجده .. وكان من المقربين .. ثم نشبت أزمة سياسية كبرى استغرقت أكثر من عام حين أصر الشيخ محمد شاكر على استتابة خطيب مسجد القصر أو إقامة حد الكفر عليه .. وقد توفي الشيخ محمد شاكر منذ زمان طويل ...ذرية بعضها من بعض .. فابناه هما العلامة الشهير محمود شاكر وأحمد شاكر المحدث الأشهر .. كل ذلك لا يهم .. المهم فقط هو دس كلمة سخرية تنفر من الرجل .. هل تريدون يا قراء معرفة بعض من أصل الوباء؟

أصل الوباء هو سوقية وابتذال الضباط الأحرار ... أصل الوباء هو جنون وإجرام جمال سالم .. ولكن لنعد إلى صلاح عيسى ...فقد قلت لنفسي لولا هوان الدنيا على الله لما حمل رأس نبي هدية إلى بغي ولما كتب صلاح عيسى عن محمود شاكر بهذه السخرية.

في نفس المقال يتحدث صلاح عيسى بمشاعر مشبوبة عن اللواء حمزة البسيوني زاعما أنه يشبه أباه وما أبعد الشبه لكن أسلوب التحليل النفسي يكشف لنا أن صلاح عيسى ظل أحد عشر عاما يعمل في وظيفة متوسطة بقسم شرطة السيدة زينب .. وكان فيما يبدو يعاني كثيرا من امتهان الضباط له ... معاناة جعلته يتمنى في العقل الباطن لو أن أباه لم يكن من البسطاء .. وإنما لواء ... حتى لو كان هذا اللواء حمزة البسيوني. لا تأخذوا المكتوب على علاته إذن ولا تصدقوه ولا تصدقوه .. فإن معظمه اليوم مسموم!!

نعم ... لا تصدقوا حتى ما أكتبه لكم .. ولا تسمعوا ما أقوله ...ودعوني أستعير فقرة تأتي في نهاية رائعة دستويفسكي: "الإخوة كرامازوف" حين يقف وكيل النيابة ايبوليت كيريلوفيتش يلقي مرافعته متجاوزا قضية كرامازوف كقضية قتل مروعة قتل فيها الابن أباه .. تجاوز أيبوليت كيريلفيتش الجريمة في نطاق الأسرة رغم فظاعتها إلى الجريمة الأكبر في نطاق المجتمع فتلك هي التي تدمر الأمة .. وفي مرافعته تلك قال:

"قد تقولون عني إنني متشائم تشاؤما مرضيا، وأشهر بالناس تشهيرا خبيثا، وأغالي في وصف الشر الذي ألاحظه ملاحظة هاذية .. كم أتمنى يا رب السماء أن تكونوا محقين، إذن لكنت أول من يسعد، لكم ألا تصدقوني إذا شئتم، ولكم أن تعدوا قلقي هذا وخوفي هذا مرضا، ولكن تذكروا مع ذلك ما أقوله لكم اليوم: إذا لم يكن في أقوالي إلا عشر أو عشر معشار من صدق، فذلك وحده رهيب".

نعم يا قراء ..هبوا أن معظم ما أكتبه وما أقوله لكم غير صحيح ...هبوا أن عشرة فقط هو الصحيح ..هبوا أن عشر معشاره هو الصحيح ..عشر عشاره .. 1% منه ...فهذا الــ 1 % رهيب جدا وفظيع جدا .. لقد قلب الشيوعيون الدنيا بسبب قتيلين لهما ماتا من التعذيب ..قتلى المسلمين من التعذيب لا يقلون عن مائتين وخمسين في عهد جمال عبد الناصر وحده .. مائتين وخمسين حالة لا نحسب فيها من اغتيلوا ومن خطفوا ومن أخفيت أجسادهم ولا شهود على قتلهم ...مائتان وخمسون قتلوا داخل السجون .. وأخفيت أجسادهم .. ودفنت دون غسل وهذا صحيح لأنهم شهداء ودون صلاة عليهم ...وبلغت الفظاعة بالنظام أنه كان يبلغ أهل الشهيد أنه هرب .. وكان الهروب كارثة أخرى .. فهو يعني تجميد الميراث وعدم استحقاق المعاش وترك الزوجة كالمعلقة ...بلغت الفظاعة أنهم كانوا بعد إبلاغ أسرة الشهيد بهروبه، يأخذون بعض آله رهائن حتى يسلم نفسه ..وثمة سؤال لن نحرص الآن على الإجابة عليه.

هل كان هذا الإبداع الشيطاني المجرم صناعة محلية أم كان مستوردا ..مائتان وخمسون قتلوا من التعذيب في عهد بطل القومية العربية ..مائتان وخمسون ..من الشيوعيين قتل اثنان ..وقلب الشيوعيون الدنيا فتداعى الشرق والغرب تعضيدا لهم وفضحا للنظام حتى لقد توقف التعذيب تماما ... قلب الشيوعيون الدنيا أيضا لأسباب أقل من هذا بكثير ..قلبوها ذات مرة على سبيل المثال – لأن إدارة السجن القاسية ترغمهم على إنشاد نشيد الله أكبر!!! ...إسماعيل صبري عبد الله ... واحد من أكثر الشيوعيين احتراما ومعذرة للجمع المجازي بين الشيوعي والاحترام .. فهما لا يجتمعان رأي أن الهتاف قهر لإرادتهم ... وعاضده زملاؤه وحدثت مشكلة في السجن فرفعوا الأمر إلى قيادة الحزب الشيوعي، فناقشت القيادة البدائل المختلفة، فأفتت أن يهتف من في الصفوف الأمامية من المعتقلين ولا يهتف من في صفوف الخلفية، وبديل آخر أن يحرك الجميع شفاههم دون صوت، وبديل ثالث أن يرضخوا ... وبديل رابع أن يترك الأمر لكل معتقل يتخذ فيه قراره على مسئوليته.

أنا لا أمزح أيها القارئ ومعك العذر إن ظننتني أمزح ...لكن الحكاية كلها وردت في كتاب أصدرته دار نشر حكومية ...والكتاب يفضح تعذيب المعتقلين ..ويذكر أسماء الجلادين المجرمين .. واحدا واحدا .. مجرما مجرما ... [[زكريا محيي الدين]] وشمس بدران وصلاح نصر وحسن عليش وأحمد صالح وحسن طلعت والفريق الدجوي والفريق هلال وحمزة البسيوني وحسن المصيلحي وإسماعيل همت وحسن منير وعبد اللطيف رشدي ومرجان إسحاق ويونس مرعي والسيد منصور والصول مطاوع وصفوت الروبي وعبد السلام المتربس وعبد الصادق المجنون وعابد عبد الله وأبو الوفا دنجل ودومة وعبد الحليم عوكل والأومباشي عبد اللطيف والأومباشي حسن عليوة ...وكل هذا في كتاب نشرته دار نشر حكومية ...أنا لا أكذب أيها القارئ ومعك العذر إن ظننتني أكذب ..فكيف تنشر دار نشر حكومية كتابا عن التعذيب وتفضح فيه الجلادين .. وأين؟

في مصر !! ..نعم .. قلت لك الحقيقة كلها وأخفيت عنصرا واحدا ..فالكتاب يتحدث عن المعتقلين الشيوعيين .. وعنوانه "مذكرات معتقل سياسي" "صفحات من تاريخ مصر" "السيد يوسف" الهيئة العامة للكتاب.

تراجعت إدارة السجن عن إرغام الشيوعيين على الإنشاد فانتهت المشكلة.

مع الإخوان المسلمين لم يكن هناك حل وسط أبدا.

وتحت جلد السياط وضرب الشوم والجهد المميت كان لا بد أن يغنوا: "يا جمال يا مثال الوطنية .. بنجاتك يوم المنشية".

وكانوا يلبسون المستشار الجليل حسن الهضيبي ملابس مميزة كي يكون المايسترو للإخوان الهاتفين ..ولم تصدر أي دار نشر حكومية أي كتاب عن تعذيب الإخوان وعن ضحاياهم الذين يفوقون ضحايا الشيوعيين مئات المرات ...ولا أي مؤسسة عالمية احتجت على ما يحدث لهم ...كانوا كسيد شهداء الجنة ... الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعنهم .. كانوا لا بواكي لهم ...في كتابه القيم "ذكريات لا مذكرات" يقول عمر التلمساني:

"قد لقي الإخوان أوقاتا عصيبة على يد أعوان فاروق وعبد الناصر والسادات بصور ما كان يتصورها إنسان أنها تقع من آدمي في مشاعره وقلبه ذرة من يقين أو إيمان ... لقد آذى هؤلاء الناس الإخوان إيذاء الذي يثأر لعرضه ممن انتهكه أو لأبيه أو ابنه أو أخيه ممن قتله حقا لقد كان إيذاء دونه شراسة الضباع ودموية النمور وفتك الذئاب والأسود في أشد الغابات ظلمة وحلوكة لماذا؟ .. لا يمكن التعليل .. أهم غير مسلمين .. لم نفهمهم بذلك أهم أوفياء لأسيادهم؟ .. إن الوفاء والوحشية لا يلتقيان في قلب واحد!! .. أهم مأجورون من خصوم المسلمين ويزداد أجرهم كلما أفحشوا في تعذيبهم؟ .. لم نرمهم بهذه الجريمة المنحطة الخسيسة .. إذن لماذا يفعلون ذلك؟ ... علمه عند ربي وقد تكشف الأيام من الأسرار ما كان خافيا".

ويواصل الشيخ الجليل:

"كانت المحكمة التي عقدت برئاسة جمال سالم وعضوية لحسين الشافعي ومحمد أنور السادات أعجوبة الأعاجيب في دنيا المحاكم لم تكن محاكمة لأن الأحكام كانت مقررة ومعروفة قبل صدورها ... ولم تكن مناقشات واستيضاحات ولكن مساخر وإهانات فقد طلب من الأخ يوسف طلعت رحمه الله أن يقرأ الفاتحة بالمقلوب .. بربك هل سمعت بمثل هذه المساخر المضحكة المبكية؟ .. وكان أي متهم ينكر ما ذكر على لسانه لأنه صدر تحت إكراه التعذيب يرفع جمال سالم الجلسة ويحيل المتهم إلى رجال السجن الحربي ليروا رأيهم فيه فيعودون به بعد قليل عادلا عن إنكاره معترفا بما جاء في أوراق التحقيق .. ذلك لأن المتهم المسكين ظن أنه أمام محكمة حقيقية وأنه ليس أمام محكمة هزلية مأساوية فإذا به والمحكمة نفسها تعيده إلى الزبانية الذن يعودون به معترفا بكل ما لم تجترمه يداه، وكان جمال سالم يسأل عن بعض الآيات في سورة "العمران" وهو يقصد "آل عمران" ظنا منه بأن "آل" هنا أداة التعريف" !!

المستشار عبد الله عقيل يضيف إلى الصورة مذكرا بما لحق بالأستاذ يوسف طلعت من تعذيب: حيث كسروا عموده الفقري وذراعه وجمجمته ولم يبق مكان في جسمه إلا وأصيب بكسر أو جرح أو رض، حتى إن الأستاذ المرشد حسن الهضيبي حين حاكمه جمال سالم تحدث الهضيبي عن التعذيب الذي أصاب الإخوان، ونفى جمال سالم ، فرد عليه الأستاذ الهضيبي:

اكشفوا على يوسف طلعت لتروا مقدار التعذيب الذي أصيب به وغيره من الإخوان في سجونكم.

كان هو يوسف طلعت وإخوانه هم الذين قادوا قافلة الإمدادات للجيش المحاصر في "الفالوجة"، والذي اخترق خطوط اليهود بكل جرأة وشجاعة، وكان جمال عبد الناصر وجماعته من المحاصرين في الفالوجا.

يقول الأستاذ كامل الشريف في كتابه القيم "المقاومة السرية في قناة السويس ": "إن من أقوى تشكيلاتنا السرية لمقاومة الإنجليز كانت في منطقة الإسماعيلية التي يرأسها داعية محنك، عظيم الخبرة هو الشيخ محمد فرغلي، كما يساعده مغامر جسور هو يوسف طلعت، وعدد من الشباب المسلم الواعي .. إن يوسف طلعت جندي بالفطرة، ومحارب بالسليقة، وعصامي بمعنى الكلمة، كان ذا عقلية مبتكرة خلاقة لا تعجز عن إيجاد حل لأي قضية، أذكر حين كنا في فلسطين أننا غنمنا بعض قنابل المورتر من العدو، ولم نكن نملك المدفع اللازم لها في ذلك الوقت المبكر من الحرب، فوقفنا عاجزين، ولكن يوسف طلعت طلب منا أن نمهله، فتركناه ونحن لا ندري ماذا ينوي، وبعد أيام قدم لنا إسطوانة فولاذية مثبتة على حامل أرضي، ولم تكن لامعة دقيقة الصنع كالمدفع الأصلي، ولكننا استخدمناها في ضرب مراكز اليهود القريبة بقنابل المورتر وأحدثت أثرها الفعال.

ومرة وقفنا عاجزين أمام مشكلة مستعصية هي: كيف نستطيع أن نلقي المفرقعات على استحكامات اليهود من مكان بعيد؟ .. فكان يوسف طلعت هو أول من فكر في صنع "راجمة ألغام" مبتكرة ساعدتنا كثيرا على قذف ألغامنا دون أن نتعرض للإصابات.

وقف هذا البطل، هذا المجاهد، هذا الغضنفر والأسد الهصور أمام الجاهل المغامر البلطجي المجنون جمال سالم صاحب أشهر: "هأاااااااو" في تاريخ مصر حيث قيلت للمرة الأولى في التاريخ على منصة قضائها الذي دنسه هذا المعتوه (سوف يبكي الدموع دما بعد أقل من عامين حين لفظوه) .. وكان عبد الشيطان يحاكم عبد الله .. كان البطل الشهيد يعلم أنه ماثل أمام المحاكمة الهزلية، التي عقدتها الحكومة العسكرية له لتحكم عليه بالإعدام، وقال له جمال سالم (رئيس المحكمة): هل تعرف تقرأ الفاتحة بالمقلوب؟ .. قال يوسف طلعت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأشار بيده إلى جمال سالم رئيس المحكمة عند قوله "الشيطان الرجيم" ثم قرأ الفاتحة على الوجه الصحيح، فكبت الرئيس.

وحين سأله المهرج المجنون: أنت بتشتغل إيه؟ .. وأجاب البطل الشهيد: نجار، فقال الرئيس: كيف تكون رئيس جهاز فيه أساتذة الجامعة وأنت نجار؟

فأجاب: لقد كان سيدنا نوح عليه السلام نجارا وهو نبي، فكبت مرة أخرى وسكت، وحين سأله: لماذا لا تستطيع الوقوف؟ .. قال له يوسف: اسأل نفسك.

يقول المستشار العقيل:

"تأزم الموقف بين الإخوان والحكومة العسكرية في يناير ، وتتابعت الأزمات، واشتدت في أكتوبر عام 1954 م بعد افتعال حادث المنشية الذي دبره عبد الناصر بتخطيط المخابرات الأمريكية واقتراحها للتخلص من الإخوان، كما ذكر ذلك حسن التهامي في مذكراته، وهو من أعوان عبد الناصر ومسئولي المخابرات عنده، وسمع يوسف طلعت بالحادث من إخوانه فقال على الفور: "عملها عبد الناصر "، لأنه لو كان للإخوان صلة بالحادث، لكان يوسف طلعت أول من يعرف به، باعتباره رئيس النظام الخاص في الجماعة ".

في تلك الفترة أذهل الرعب الناس وعقل ألسنتهم .."الناس صامتون .. وإذا تحدثوا كان حديثهم همسا أو أقرب إلى الهمس .. لا يجرؤ أحد أن يجهر بالقول إلا إذا كان تشنجا في مدح العهد ونظامه، بالخطب التي تلقى في هيئة التحرير وفروعها، أو بالمقالات التي تنشرها الصحف الخاضعة للرقابة الصارمة .. وهؤلاء الخطباء والكتاب، ليس لهم أي تأثير في محيطهم الخاص .. هيئة المنتفعين بالثورة".

"انطوى الناس على أنفسهم وتقوقعوا في جحورهم، وكأنهم نمل دخلوا مساكنهم، حتى لا تسحقهم الثورة وجنودها .. لقد نجحت محكمة الثورة في أداء رسالتها بما أصدرته من أحكام في تخويف الناس وإلقاء الرعب في قلوبهم .. ليس بسبب الأحكام التي أصدرتها ضد السياسيين القدامى، فقد كان واضحا أن محاكمة هؤلاء كانت محاكمة سياسية .. فقد كان قضاة المحكمة، ثلاثتهم، أعضاء بمجلس قيادة الثورة، والمجلس هو الذي يقدم المتهمين للمحاكمة، وممثلوه هم الذين يصدرون الأحكام، ثم يشتركون في التصديق عليها، ولهم أن يوقفوا تنفيذ الحكم ولو كان بالسجن خمسة عشر عاما (وتلك مهزلة أخرى .. فالقانون لا يعرف سجن 15 سنة مع إيقاف التنفيذ .. فإيقاف التنفيذ يشمل أحكام الحبس وليس أحكام السجن! م ع) .. فالثورة هنا هي الخصم والحكم معا .. لقد كان ذلك إجراء وقائيا تحمي به الثورة نفسها من أية ثورة مضادة قد تجد من هؤلاء السياسيين العون المادي أو الأدبي أو كليهما .. ولكن الذي أرهب الناس هي الأحكام التي صدرت ضد بعض الصعاليك الذين اتهمتهم النيابة بالخيانة والتجسس، وصدور الحكم بإعدامهم شنقا .. والتصديق على هذه الأحكام فورا .. وتنفيذها في نفس اليوم".

لقد ظن بعض الناس وقتئذ أن هؤلاء الجواسيس كانوا ضحايا قدمتهم الثورة قربانا على مذبحها لإرهاب الناس حتى يعلموا أن الثورة قادرة على الاتهام والحكم والتنفيذ، وأن قولهم هو قول فصل، وما هو بالهزل".

لعل القارئ قد لاحظ أن الفقرة السابقة كلها محاطة بعلامات التنصيص ..ولعله لاحظ أيضا أنني لم أذكر من القائل. نعم .. هذه ليست أقوالي وإن بدت كذلك.

كما أنها ليست أقوال واحد من الإخوان المسلمين وإن تصورتم ذلك ..ليست هذا ولا ذاك .. إنها أقوال الأستاذ إبراهيم طلعت .. الوفدي الشهير .. وربما لا يكون هناك من هو أجدر منه بالكتابة عن العهدين .. فقد كان نجما في كليهما .. وكان صديقا حميما لجمال عبد الناصر .. وكان محل ثقته .. بنفس القدر الذي كان محلا لثقة مصطفى النحاس وأحمد أبو الفتح وفؤاد سراج الدين ... (راجع مذكرات إبراهيم طلعت – أيام الوفد الأخيرة – مكتبة الأسرة).

وإنني أورد أقواله هنا كي أنقل إلى القارئ الإحساس العام الذي كان يسري في الأمة كلها .. فلربما يوجد من ضعاف العقول والنفوس .. أو من ذوي الأرواح المعتمة .. من يستطيع أن يصر على مكابرته رغم كل ما أذكره من أسانيد وما أقدمه من حجج ...يتحدث إبراهيم طلعت عن محاكم الشيطان: "حوكم ثلاثة آخرون .. ثلاثة من الصعاليك هم (الفريد عوض ميخائيل، محمد عزت راغب وبولس مكسيموس سويحة) .. التهمة خيانة عظمى لأنهم في غضون شهر سبتمبر 1953 وما قبله قاموا بالتجسس لحساب دولة أجنبية بأن أمدوها بتقارير ومستندات رسمية.

نظرت قضية هؤلاء الصعاليك الثلاثة في جلسة علنية استغرقت عشرين دقيقة فقط، تلي فيها الادعاء الموجه إلى كل منهم وإجابتهم عليه بالإجابة التقليدية: (غير مذنب) ليس لأحد من المتهمين محام يترافع عنه إلا المتهم الثاني محمد عزت .. يترافع الادعاء مرافعة قصيرة خلاصتها أن الخيانة تتمثل في التجسس لحساب دولة أجنبية وإمداد هذه الدولة بالبيانات والتقارير والوثائق الرسمية ... وثائق لها صفة السرية المطلقة، وأن اثنين من هؤلاء من الموظفين الذين ائتمنتهم الدولة على هذه الوثائق وكانت تحت أيديهم بحكم وظيفتهم، فخانوا الأمانة، وسلموا هذه المستندات، يوافق محامي المتهم الثاني على نظر القضية في جلسة سرية على أن تكون السرية نسبية يصرح له بالحضور فيها .. ترفض المحكمة بطبيعة الحال، وتأمر بنظر الادعاءات المقامة على المتهمين في جلسة سرية لا يحضرها أحد إلا المتهمون وسكرتارية الجلسة ... وتنتهي المحاكمة السرية بأن يصدر الحكم غدا في جلسة علنية .. وتنطق المحكمة بإعدام المتهمين الثلاثة شنقا في اليوم التالي، وتبدأ في نفس اليوم في محاكمة كريم ثابت .. المستشار الصحفي للملك فاروق.

في نفس اليوم الذي أصدرت فيه المحكمة الحكم على موكلي، تنفذ حكم الإعدام في المتهم الذي حوكم قبل موكلي بيومين، وكان قد صدر عليه الحكم بالإعدام قبل محاكمة موكلي بيوم واحد ... كما تنفذ حكم الإعدام على هؤلاء الثلاثة الذين نظرت قضيتهم يوم النطق بالحكم على موكلي بعد يومين فقط من تاريخ الحكم عليهم.

وكانت الصحف تنشر صور هؤلاء المتهمين وهم يساقون إلى المشنقة في الغرفة السوداء (غرفة الإعدام بالسجن) لحظة تنفيذ الحكم.

والآن .. لنترك إبراهيم طلعت والمحكمة المهزلة. لنتركهم إلى محكمة مهزلة أخرى .. ولندع صافيناز كاظم تروي لنا على صفحات مجلة الهلال عدد يوليو 2002 – بعضا مما جرى .. وصافيناز كاظم أيضا ليست من الإخوان المسلمين بل كانت أقرب ما يكون إلى اليساريين حتى أنها اقترنت في شبابها بالشاعر أحمد فؤاد نجم .. ثم هداها الله بعد ذلك ...وليدرك القارئ أنني أحاصر الثورة بجرائمها مع غير الإخوان المسلمين ...تصرخ صافيناز أن الثورة ضحكت على الذقون ولم تزح الملكية بالشكل الكامل، ورفعت شعارات العدالة الاجتماعية ولم تحققها، ونادت بضرب الإقطاع وأعطته المبررات ليبدو مظلوما، وأصدرت القوانين الاشتراكية وخالفتها، ودعت إلى القومية العربية ونسفتها، وقامت أساسا لتحرير فلسطين ودحر الكيان الصهيوني، الذي لم يكن قد مر عليه سوى أربع سنوات حين قامت 23/ 7/ 1952، وتصحيح أخطاء وخيانات هزيمة العرب عام 1948 ، فلم تفعل شيئا سوى تدعيم ذلك الكيان بالانهزام أمامه في الحرب وفي اتفاقيات السلام معه.

وضربت الهوية المصرية والعربية في مقتل حين سارت مع تيار العلمانية، فلم تبلغ بها شرقا ولا غربا، وإن خلخلت دعائم الروح الإيمانية وشجعت السفهاء على التقافز فوق أكتاف المؤمنين، والأهم أنها انتقدت تجاوزات "العسكري الأسود" و "البوليس السياسي" في العهد الملكي وابتكرت آليات في القهر والتنكيل بالمواطنين بدا معها ذلك العسكري الأسود وذلك البوليس السياسي ملائكة من نفحات الجنان!!

وتواصل صافيناز كاظم الصراخ فبعد أقل من ثلاثة أسابيع على قيام الثورة يكشر الوحش عن أنيابه .. كان الناس يظنونه ملاكا .. فإذا به الشيطان الرجيم ذاته ..

تصرخ صافيناز:

مع التصعيد بزوال الغمة والبغي والقهر والفساد يقوم عمال مصانع كفر الدوار للغزل والنسيج بمظاهرات ضد الإرادة التابعة للعهد "البائد" يوم الثلاثاء 13/ 8/ 1952 بظن تأييد "العهد الجديد، ورئيسه الطيب البشوش (...) وتدق الفجيعة قلبي الصبي يوم عيد ميلادي 17/ 8/ 1952 بصدور أحكام بإعدام العاملين الشابين الفقيرين المعدمين، كحال معظم الشعب الحالم بالخلاص، القمرين خميس – 18 سنة – والبقري – 19.5 سنة – وأبكي بانتحاب ولا أصدق ما يقال عن "خيانتهما" لــ "الثورة".

وتنعى صافيناز الثورة:

التف حولها الشعب مسقطا عليها كل أحلامه الثورية التي تشوق إليها طويلا خاصة بعد مرارة الهزيمة في فلسطين عام 1948 وفي غمرة الحماس الشعبي على أن يقوم – بوعي منه أو بلا وعي – بدور "المبرر" لكل الأخطاء التي ارتكبتها هذه الحركة منذ الشهر الأول لإمساكها الزمام في مصر، هذه الأخطاء التي وصلت في حالات إلى درجة الخطأ الفادح وفي حالات أخرى إلى درجة الجريمة النكراء، لم يقف الشعب "الفرحان" ليناقش مفهومات ومدلولات شعار "الثورة البيضاء" الذي أطلقه الضباط على حركتهم ليتساءل ويقارن "بيضاء" على من و "حمراء" على من و "سوداء" على من فقد (...) تم ترحيل الملك فاروق عن مصر في يخته المحروسة مودعا بكامل الاحترام والحقوق الملكية الواجبة له، ولم يمس كادر ملكي من أتباعه بشعرة أذى واحدة (...) وبعد أسبوعين فقط من تطبيق هذا السلوك المهذب "الحضاري" مع ملك مدان هو نظامه بعديد من الجرائم ضد شعب مصر ومصالحه، قامت مظاهرات عمال مصانع كفر الدوار للغزل والنسيج – ضد الإدارة الرجعية التي لم يكن قد تم تغييرها بعد من قبل حركة الجيش .. رفعت مظاهرات العمال شعارات "الحركة الجديدة" ضد الفساد والاستغلال، وهتف العمال بحياة القائد العام – محمد نجيب – وفتيته الثوار، وكان التصور أن هذا العهد الجديد "لا بد وأن يتبنى مطالب العمال ويساندهم ضد الإدارة الرجعية، ولكن العجيب هو الذي حدث، إذ كشرت الحركة الجديدة صاحبة شعار الثورة البيضاء عن أنيابها وتحالفت مع الإدارة الرجعية وصدقت كل ادعاءاتها ضد العمال، وتم قمع المظاهرة – أو الهبة العمالية – من دون أي محاولة لتفهمها ودراسة بواعثها، وأقيمت فورا المحكمة العسكرية لمحاكمة العصاة، وتم تقديم ما يربوا على 60 متهما للمحكمة وتم تحديد زعمائهم بشهود الزور والبهتان – باتهام العامل "محمد مصطفى خميس" – 18 سنة – والخفير محمد حسن البقري – 19.5 سنة (وهو يعول خمسة أطفال وأم معدمة تبيع الفجل وتكسب مليمين في اليوم)، وكان من بين المقدمين للمحاكمة أطفال في سن العاشرة والحادية عشرة "شاءت إنسانية المحكمة وعدالتها أن تحكم ببراءتهم رغم ثبوت جريمة سرقة بعض أثواب القماش عليهم" .. (كما جاء في تقرير أحكام قضية عمال كفر الدوار الذي صدر عن إدارة القوات المسلحة 1952/ 8 برجاء الرجوع إليه لمن لا يصدقني لأنها وثيقة كاملة دامغة تساعدنا في فهم الطبيعة الفاشيستية لهذه الحركة التي عبرت عن سياستها ضد الشعب المصري منذ الشهر الأول لقيامها) .. في أقل من أربعة أيام تمت محاكمة هذا العدد الكبير من المتهمين، (من صميم الشعب الفقير صاحب المصلحة الحقيقية لقيام الثورة كما زعمت الشعارات)، وصدرت الأحكام بإعدام خميس والبقري والأشغال الشاقة المؤبدة وسنوات سجن أخرى على بقية المتهمين، وجمع عمال المصنع كلهم في النادي الرياضي وأجلسوا حلقة كبيرة على الأرض حيث أذيعت فيهم الأحكام المرعبة من خلال مكبرات الصوت وسط طقس من الذهول الكامل تذكر فيه الوعي الوطني محاكمات دنشواي وشنق الفلاحين لصالح خاطر المحتل الإنجليز ي وجنوده.

في الفترة نفسها حدث تمرد حقيقي بالصعيد معاد "للعهد الجديد" ومعاد لمصالح الشعب .. قام بهذا التمرد "المسلح" إقطاعي اسمه عدلي لملوم، لم يكف هو وأمه عن كيل السباب أثناء محاكمته، ضد "الثورة" وضد الفلاحين، وحكمت عليه المحكمة بالمؤبد ثم خففته فيما بعد حتى تفسح له مكانا من رحمة شعارها "الثورة البيضاء"، (وتجدر الإشارة هنا إلى الإفراج الصحي الذي: حصل عليه عدلي لملوم بعد ذلك، كما تجدر الإشارة إلى أن محاكمته كانت حافلة بأقطاب المحامين، بينما كانت صرخات خميس والبقري تذهب أدراج الرياح، هاتوا لنا محامي .. هاتوا لنا محامي .. يا ناس).

وهكذا لم نر شعار "الثورة البيضاء" يشمل أحدا سوى الملك وأسرته وشقيقاته، ولم يتسع سوى لكل الفاسدين والمفسدين من سفاحي الشعب المصري حقا، من وزراء وإقطاعيي العهد البائد، والذي ظل يضيق ويعجز تماما عن رحمة كل أبناء مصر المخلصين من العمال والفلاحين والعلماء والقضاة وأصحاب الرأي .. (أمثال الشهداء سيد قطب، وعبد القادر عودة ...(..).

وتواصل صافيناز كاظم:

هذه البداية لحركة 23 يوليو ننظر لها الآن ونستطيع أن نستشف فورا خلوها الكامل من أي فكر ووعي والتزام إيماني يعطي لها منطلقا ثوريا يحدد لخطواتها الطريق الذي تصعده متدرجة نحو غاية محددة أو رؤية تقدمية شرعية أو فلسفة إنسانية تحسم المواقف وتحلل لها الظواهر بحيث يمكن لها أن تفهم الفوارق الواضحة بين تمرد إيجابي للعمال وتمرد سلبي لإقطاعي متجبر، فلا تصل إلى قرارات تقتل بها أبناء الشعب المخلصين وتحافظ على حياة أعدائه ...

وتصرخ صافيناز كاظم ويصرخ معها الكثيرون:

تستمر - الثورة – في ذلك على الدوام ... منذ هذا الخط الأول – (خميس وبقري/ عدلي لملوم) – الواضح في مبدئية حركة الضباط، استمرت تلك (الحركة" في اتخاذ سياسة ذبح كل الاحتمالات الواعدة التي كان يمكن أن تشرئب مرة بين صفوف الشعب المصري لتحاسبها أو تناقشها أو تفضحها وتقول لها مكانك لقد خدعنا فيك ولست أنت أمل مصر ولا صيغة خلاصها، حين بدأت الخلافات تقع بين أعضائها لم يكن بينهم، بطل أو شهيد، فالظاهر البادي أمامنا الآن أنهم جميعا كانوا سواء ...(...) ولا أرى نفسي تأسف على محمد نجيب أو تفرح بانتصار جمال عبد الناصر عليه، فلا يوجد لدينا مبرر واحد يؤكد لنا أنه لو انتصر محمد نجيب وحاز السلطة بين يديه لما فعل الأفعال الديكتاتورية التي كانت النهج الذي اختاره عبد الناصر وبلوره وأجاده منذ انفراده بالسلطة عام 1954 معتمدا معه سياسة سرابية تغذي الأحلام وتداعب المشاعر، دون أن يجد أي حلم سبيله للتحقيق على أرض الواقع.

نفس الواقعة يتناولها جمال حماد في بحث مستفيض عن الشبكة العنكبوتية بعنوان "ثورة 23 يوليو " فيقول:

تصرفت حركة الجيش إزاء هذا الموقف (يقصد مظاهرات كفر الدوار ومحاكمة خميس والبقري) برعونة شديدة، تحت وهم أن هذه المظاهرات هي بداية أعمال مضادة ضد الجيش، وتشكل مجلس عسكري برئاسة عبد المنعم أمين، عضو مجلس القيادة، في ذلك الوقت، في موقع الحادث (عبد المنعم أمين وثيق الصلة بالمخابرات الأمريكية . م ع) .. وقد تشكل من حسن إبراهيم، عضو المجلس، والبكباشي محمد عبد العظيم شحاتة، والبكباشي أحمد وحيد الدين حلمي، والصاغ محمد بدوي الخولي، واليوزباشي فتح الله رفعت، واليوزباشي جمال القاضي.

إنني حريص على إيراد الأسماء كي يحلق العار فوق الرءوس والوجوه .. شاهت الوجوه ... م ع) .. كانت المحاكمة سافرة العدوان على حقوق المتهمين، فلم تتح لهم فرصة الاعتماد على المحامين إلى الدرجة التي دفعت عبد المنعم أمين إلى مطالبة الصحفي موسى صبري الذي كان يمثل جريدة الأخبار، للدفاع عن العامل محمد مصطفى خميس، باعتباره حاصلا على شهادة الحقوق .. ويقول عبد المنعم أمين إن مصطفى خميس قد ترافع عن نفسه مرافعة عظيمة، لمدة نصف ساعة ولكنهم أصدروا مع ذلك الحكم عليه بالإعدام هو ومحمد حسن البقري ... وصدرت أحكام بالسجن على بقية المتهمين الذين كان من بينهم صبي في الثامنة عشرة من عمره.

يؤكد جمال حماد أن خميس والبقري لم يكونا أعضاء في التجمع الديمقراطي أو الحزب الشيوعي ... وقد أثبت التحقيق، كما أشارت جريدة "الأهرام" أن البوليس قد أطلق النار قبل الشغب، مما استفز العمال، وإنه بذلك ينهار ركن أساسي في الجريمة، ولكن ذلك لم يغير من الأمر شيئا .. أما صيحة مصطفى خميس التي أطلقها قبل إعدامه: "أنا بريء ومظلوم، أريد إعادة محاكمتي، إن محامي لم يطلب شهودا وكان هناك اثنان شاهداني، وأنا ماشي" .. فقد ذهبت أدراج الرياح .. وتؤكد هذه الصيحة قسوة المجلس العسكري في معاملة المتهمين، وحرمانهم من حق أساسي، من حقوق الإنسان، هو توكيل المحامين.

عند مقارنة هذه الحادثة المجرمة بحادثة كفر الدوار بحادثة دنشواي نجد الفرق شاسعا: إن تلك الحادثة الثانية كانت بمناسبة مصرع جنود إنجليز، أما صاحبانا من الأبرياء فلم يمسوا أحدا بسوء، مهما بدر منهم خلال اعتصامهم ... ومن جهة أخرى فإن حادثة دنشواي لم تمر مر الكرام، بل هزت الدنيا بأسرها على يد مصطفى كامل، حتى انتهى الأمر بإقالة اللورد كرومر الذي كان حاكما بأمره على البلاد .. أما جريمة كفر الدوار فقد دفنت في مقبرة النسيان وراح دم الأبرياء هدرا.

أي كارثة دهياء كانت قد ألمت بالأمة فألجمتها بلجام من نار وأخرستها ...

أي كارثة دهياء ... بعد ذلك بأعوام .. سوف يحاول كل مجرم اشترك في هذه الجريمة الشنعاء التنصل منها، الأمر الذي يؤكد بكل جلاء أنها كانت وصمة عار افتتحت بها الثورة المباركة مسيرتها، فقائد الثورة آنذاك محمد نجيب، يقول في كتابه "شهادتي للتاريخ" إنه اضطر للتصديق على حكم الإعدام رغم اقتناعه ببراءتهما، بل وإعجابه بشجاعتها، وذلك نزولا على الديمقراطية في مجلس قيادة الثورة، حيث إن البقية أجمعوا على إعدامهما ... ونحن نقول من جهتنا أن لعنة الله على ديمقراطية تتسبب في إعدام الأبرياء.

محمد نجيب سيشرب بعد ذلك من نفس الكأس على يد من خضع لديمقراطيتهم كمصداق لقول الرسول الكريم: "من أعان ظالما سلطه الله عليه".

بعد ما يقرب من خمسين عاما نجد جريدة الأهالي تواصل نفس الطريقة اليسار في تزوير الوقائع بطريقة تفترض أنها تخاطب قوما لا عقل لهم ... فتذكر في عددها الصادر في 12/ 4/ 2000 أن إعدام خميس والبقري كان ضد إرادة جمال عبد الناصر وأغلبية مجلس قيادة الثورة، خاصة يوسف صديق وخالد محيي الدين !! .. ولم تكلف الصحيفة نفسها عناء بيان من هم تلك الأقلية التي استطاعت أن تفرض إرادتها على الأغلبية، ومن بينهم جمال عبد الناصر رئيس الوزراء ... بل وأيضا محمد نجيب رئيس الجمهورية، وكيف استطاعوا – وهم الأقلية – أن يفرضوا إرادتهم؟!!

لم يكن الأمر أمر الإخوان أو مذبحة المنشية ولا السجن الحربي ..كان الأمر أمر وحش أسطوري يبتلع كل من يجده في طريقه يلتهم لحمه ويسحق عظامه ...وحش أسطوري جائع للسلطة لا يردعه رادع وليس هناك حد ولا سقف لما يمكن أن يفعله للوصول إليها ...وسبحان الله ..لقد سلط على أمته قوة باطشة أخرستها فإذا بالجبار المذل المنتقم يسلط عليه ظالما جبارا يستحقه ..لم يكن الأمر أمر الإخوان ..كان الوفد في البداية ..ولنتأمل ما كتبه محمد عودة عن الأزمة بين الوفد والثورة ..محمد عودة ...كاتب اشتهر بالاحترام، بل إن الشيوعيين والقوميين يحاولون إحاطته بهالة من القداسة ... ولقد قرأت له أعمالا كثيرة .. لكنني لم أكن قد اكتشفت طريقة القراءة الحذرة التي حدثتكم عنها في بداية هذا المقال.

كنت أقرأ لمحمد عودة وأنا واثق في صدقه (لماذا .. لست أدري!!) ... ثم توقفت عن القراءة له منذ فترة حتى فاجأني موضوعه المنشور في مجلة الهلال منذ عام ونيف ... وفوجئت أن الرجل يكذب كذبا بواحا وأنه بكل هالاته المقدسة لا يختلف أبدا عن الآخرين إلا اختلاف جندي يكذب بأسلوب مختلف، لكن الكذب واحد ...

وها هو ذا محمد عودة يحلل العلاقة بين الثورة والوفد في مجلة الهلال عدد يوليو 2002 قائلا:

"قرر قائد الثورة (لم يصارحنا أي قائد: محمد نجيب أم جمال عبد الناصر ) أن يحتفظ بالجيش سليما ونقيبا للمهمة التاريخية وأن يسلم السلطة إلى أصحابها الشرعيين والذين أبعدوا ظلما، وذهب إلى سكرتير عام الوفد فؤاد سراج الدين وعرض عليه أن يسترد الوفد اعتباره وهيبته وأن يعود معززا مكرما إلى السلطة في حراسة الجيش الوطني وباسم الشعب الذي خرج عن بكرة أبيه يحتفل بالثورة التي حملت إليه الخلاص سوف يعود حزب الأغلبية لينفذ كل برامجه التي أجهضها القصر والاحتلال وسوف لا يجرؤ أحد على إقالته أو عزله بخطاب من بضعة سطور .. وعزز قائد الثورة عرضه بالشعار الذي رفعته الثورة وحفلت به جدران العاصمة نحن نحمي الدستور ... ولم يشترط أي شيء سوى قبول الإصلاح الزراعي "المعتدل" والذي ترك للملاك ثلاثين ضعف الأرض التي تركها القانون المماثل الذي صدر يومئذ في اليابان وعقد الاثنان أربعة اجتماعات طويلة، ثم طلب سراج الدين عرض الأمر على سلطات الحزب وهيئاته العليا ثم عاد في النهاية ليعلن اعتذاره عن قبول العرض.

الحقيقة غير ذلك .. الحقيقة عكس ذلك .. فلماذا يكذب محمد عودة ..الكاتب الكبير الشهير لماذا يكذب؟ هل هي الطبيعة الشريرة الخائنة التي فقدت الإيمان بالمطلق ولم تعد تؤمن إلا بالنسبي ...وفي النسبي لا توجد حقيقة ...يوجد فقط ما يفيدك وينفعك مهما كان الكذب الخسيس ..والآن .. لنعد إلى الأستاذ إبراهيم طلعت لنعرف موقف الوفد الحقيقي ...وليسمح لي القراء باستشهاد طويل من الأستاذ إبراهيم طلعت .. ليس دفاعا عن الوفد .. وإنما كشفا لكاتب من أكبر الكتاب القوميين .. وكشفا للكذب ..فقد كان إبراهيم طلعت وفديا صميما وكان في نفس الوقت صديقا حميما لجمال عبد الناصر ...

يقول إبراهيم طلعت:

اتصل بي جمال عبد الناصر تليفونيا وطلب حضوري فورا إلى القاهرة لأمر هام فاضطررت للسفر 10 أغسطس بعد الظهر وقابلت جمال عبد الناصر في منزله بالقبة وكان معه عبد الحكيم عامر وسألني عن البحثين اللذين طلبهما مني (تحديد ملكية الأراضي الزراعية، ومشروع استصلاح أراضي الواحات)، فقدمت له دراسة عن المشروع الأخير كنت قد حضرتها بمعاونة المرحوم المهندس الزراعي سيد عبد المنعم وهو صهر الأستاذ أحمد فؤاد فتناولها مني واطلع عليها بسرعة ثم قال لي: "المهم موضوع تحديد الملكية الزراعية "فقلت له إن هذا الموضوع ليس في حاجة إلى تحضير لأن جميع الذين نادوا به سواء بتقديم مشروعات بقوانين أو باقتراحات تضمنتها أبحاث أو كتب اقتصادية اتفقوا على الهيكل العام له وكل الاختلاف بينهم كان حول الحد الأدنى لما يمتلكه الفرد والأسرة وكيفية الاستيلاء على الزائد عن القدر المسموح به وهل يتم ذلك فور صدور القانون أو بعد مدة تحدد بنص في هذا القانون.

فأجابني "المهم أنا عاوز ده بكرة"

ويسأل جمال عبد الناصر إبراهيم طلعت متشككا – عن موقف الوفد من القانون.

يقول إبراهيم طلعت:

أجبته بحدة:

سيبك من الكلام اللي بتسمعوه من المنافقين اللي ييجولكم كل يوم .. الناس بتوع كل عهد ... والوفد يمثل الأمة بكل طبقاتها .. الفلاحين وأصحاب الأرض، والعمال وأصحاب المصانع .. وإذا عارض الوفد في أي مشروع لصالح هذا الشعب فقد انتهى دوره السياسي وفقد نفوذه الروحي خصوصا بعد أن زالت السراي ونفوذها ... أضمن لي أنت علي ماهر ومحمد نجيب وأنا أضمن لك موافقة الوفد ...وسألني بهدوء:

طيب وفؤاد سراج الدين؟

وعندئذ انتفضت واقفا وقلت بحدة أكثر (كانت تسمح بها علاقتي بعبد الناصر قبل أن يعرفه الناس): اسمح يا جمال، أنا مستعد أجيب لك موافقة فؤاد سراج الدين كتابة وأنا دلوقت باتحدث باسم الوفد ... ويقوم الأستاذ إبراهيم طلعت والأستاذ أحمد فؤاد ومعه الدكتور راشد البراوي بإعداد مشروع قانون بتحديد ملكية الأراضي الزراعية (...) وفي هذه الأثناء وافانا أحمد أبو الفتح ولم يمكث إلا بضع دقائق استأذن بعدها للانصراف وسرت معه قليلا حتى استقل سيارته وقال لي:

يا إبراهيم أنا خايف؟ .. وقلت له .. خايف من إيه؟

وأجابني:

ما أعرفش، إحساس كل (اللغوصة) اللي بتحصل في البلد دي!

وبعد الغروب بقليل كان مشروع القانون قد أعد بصورة نهائية، وأخذت صورة حرفية منه وتوجه أحمد فؤاد لتسليم الأصل إلى جمال عبد الناصر .

واتصلت تليفونيا بجريدة المصري وطلبت التحدث إلى أحد المسئولين، وحدثني الأستاذ مرسي الشافعي وكان مديرا للتحرير وقلت له:

"أوقف الطباعة" وهو تعبير صحفي عن حجز الصفحة الأولى لأنباء هامة، ولما سألني عن السبب قلت له أنا قادم في الطريق ومعي أكبر سبق صحفي شهدته الصحافة في كل عهودها!!

وبعد قليل كنت في جريدة المصري ومعي نص مشروع القانون.

واتصل مرسي الشافعي بأحمد أبو الفتح وأيقظه من النوم وطلب منه الحضور، وحضر واطلع على نص المشروع وسألني: هل وزعت نسخ أخرى على باقي الصحف؟

وأجبته:

القانون من نسختين: الأصل عند جمال عبد الناصر ، والصورة معك.

وهنا أمسك أحمد أبو الفتح بالقلم وكتب العنوان: "نص مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية الذي قدمه مجلس الثورة للوزارة لإصداره".

وسار مشروع القانون إلى المطبعة، ومكثت بنفسي إلى ما بعد منتصف الليل أقوم بتصحيح البروفات، وسهرنا جميعا إلى الساعات الأولى من الصباح حتى صدرت جريدة المصري يوم 12 أغسطس منفردة بأهم سبق في تاريخ الصحافة.

وفي الساعة الخامسة صباحا انصرف المحررون إلى منازلهم وعدت إلى فندق الجراند أوتيل ... ولم أنم إلى الساعة الثامنة صباحا بعد أن قرأت مشروع القانون كما نشر حرفيا.

وحوالي الساعة الحادية عشرة صباحا، فوجئت بأحمد أبو الفتح يحدثني، وعلمت أنه موجود ببهو الفندق وطلب مني النزول فورا.

وارتديت ملابسي ونزلت على عجل، لأرى أحمد أبو الفتح واقفا في انتظاري ولم ينتظر أن أسأله عن سبب حضوره بل قال:

-رحنا في داهية!!

-ليه

قال:

محمد نجيب كان يضع حجر الأساس لمبنى الإذاعة الجديد، وكان قد سبقه إلى مكان الاحتفال علي ماهر رئيس الحكومة وكان في حالة عصبية وانفعال وأخبر محمد نجيب أن جريدة المصري تحاول الدس بين الوزارة ومجلس القيادة، وتساءل هل قدم مجلس القيادة للحكومة مشروع القانون المنشور في جريدة المصري؟ .. وأجاب محمد نجيب بالنفي القاطع.

وقد صرح في الميكروفون للصحفيين الموجودين أن ما نشر بجريدة المصري صباح اليوم عن مشروع قانون بتحديد ملكية الأراضي الزراعية غير صحيح، وأنه من خيال هذه الجريدة وأن مجلس القيادة لم يقدم أي مشروع للوزارة بهذا الخصوص وطلب تكذيب الخبر رسميا.

واهتزت الدنيا ...

واستطرد أحمد أبو الفتح قائلا:

- والمصيبة أن جريدة الزمان التي ستصدر بعد ساعتين ستنشر هذا التكذيب في الصفحة الأولى بعناوين مثيرة ...

- وشعرت بجسدي كله ينتفض وتصبب مني العرق وكاد يغمى علي من هول المفاجأة.

ولكن أحمد أبو الفتح سألني بهدوء:

- أين جمال عبد الناصر ؟ ..

وحاولنا الاتصال به تليفونيا من الفندق بمجلس القيادة فلم نستطع واتصلت به في منزله فلم أجده بالمنزل، وعندئذ جذبني أحمد أبو الفتح من ذراعي وقال:

- الوقت ضيق! .. فلنبحث عنه.

وتوجهنا إلى مقر إدارة الجيش.

ووجدناه في مكتبه .. وقابلنا بابتسامة هادئة.

وقبل أن نجلس اندفعت أحدثه بعصبية عما حدث وأن جريدة الزمان في طريقها للصدور وهي تحمل تكذيب الرئيس نجيب لمشروع القانون.

ولكنه قاطعني في هدوء وقال:

- جريدة الزمان سوف تصدر وعنوانها الرئيسي ما نشرته جريدة المصري وهو نص المشروع الذي قدمه مجلس القيادة للحكومة لإصداره.

وعندما قلت له إن الزمان قد طبع فعلا وفي صفحته الأولى تكذيب محمد نجيب، علمنا أنه طلب من الصاغ عبد المنعم النجار (السفير حاليا) أن يتوجه على رأس قوة من الجنود إلى جريدة الزمان ومصادرة ما طبع منها وبها تكذيب محمد نجيب، على أن يعاد طبعه وفي صفحته الأولى خبر رئيسي أن اللواء محمد نجيب قد صرح بأن مشروع قانون تحديد ملكية الأراضي الزراعية الذي نشر بجريدة المصري صباح اليوم هو نفس المشروع الذي قدمه مجلس القيادة للوزارة لإصداره بمرسوم وفي هذا اليوم صدرت جريدة الزمان في الساعة السابعة مساء تتضمن هذا الخبر فعلا، وعند انصرافنا من مقر إدارة الجيش، نظرت إلى أحمد أبو الفتح، وكان ساهما .. وقلت له: أنا خايف ...

- من إيه؟ ..

قلت:

- اللي اتعمل في جريدة الزمان النهارده ممكن بكره يتعمل في جريدة المصري!! وقد كان (...) وفي نفس اليوم الذي نشر فيه نص مشروع القانون حدثت اضطرابات ومظاهرات عنيفة في شركة مصر للغزل والنسيج الرفيع بكفر الدوار هاجم فيها العمال المصانع ووقعت خسائر مادية كبيرة، كما سقط بعض القتلى .. وقيل إن ما حدث بكفر الدوار وهي أحد المراكز العمالية الرئيسية في مصر كان رد فعل لنشر القانون، لما تبادر في ذهن بعض القيادات من أن الفلاحين سوف يتملكون أراضي الملاك مطالبين بصدور قانون مشابه يتملك بموجبه العمال المصانع ..

كان موقف الجميع خطأ .. وكان موقف معظم الإخوان هو الصواب .. إذ أن عددا كبيرا من الأعضاء رأى أن تحديد الملكية زراعية أو غير زراعية أمر مخالف للإسلام. وكان هذا يعني أن الثورة في حاجة ماسة إلى دعم الوفد وتأييده .. وطلب جمال عبد الناصر من إبراهيم طلعت عقد اجتماع مع فؤاد سراج الدين ... ونترك إبراهيم طلعت يكمل ما حدث: "بعد أن انصرف جمال عبد الناصر قابلت في مساء نفس اليوم فؤاد سراج الدين وأطلعته على ما حدث ورحب على الفور بحضور هذا الاجتماع، والعجيب أن فؤاد سراج الدين – الذي لم يكن يعرف أنني ساهمت بطريقة أو بأخرى في وضع القانون أو نشره.

لم يكن مرحبا فقط بالقانون، بل كان متحمسا له، وذلك على خلاف اعتقاد الكثيرين، (...) واتفقت مع أحمد أبو الفتح على السفر بالطائرة التي تغادر الإسكندرية في منتصف الساعة الرابعة بعد الظهر، والتقينا في مطار النزهة (...) وتوجهنا إلى ضاحية الزيتون، ولما كنا لا نعرف عنوان منزل عيسى سراج الدين فقد استغرق البحث عنه لبعض الوقت ووصلنا في الساعة السادسة والربع مساء حيث وجدنا كلا من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم وأحمد شوقي، من قادة الحركة، وكانوا قد وصلوا منذ دقائق كما كان موجودا فؤاد سراج الدين الذي سبقهم في الذهاب ليكون في استقبالهم.

ولم يحضر هذا الاجتماع غير هؤلاء، ولا صحة لما نشره بعض من أرخوا للثورة من أن آخرين قد حضروه، أما عيسى سراج الدين وهو المضيف فلم يحضر الاجتماع الذي بدأ فور وصولنا.

كنا جميعا في غرفة الاستقبال، وكان صلاح سالم يجلس على السجادة الوثيرة بعد أن خلع حذاءه بما يشعر أنه (واخد راحته) .. وكان هو الذي بدأ الحديث، بدأ صلاح سالم يتحدث في مسائل عامة ولكن حديثه لم يكن مركزا وبغير دراسة مسبوقة وكان يوجه حديثه إلى فؤاد سراج الدين فتحدث عن الإقطاع وموقف حركة الضباط منه واعتزامهم القضاء عليه.

وفجأة سأل فؤاد سراج الدين كيف امتلك عشرين ألف فدان ببلدته (كفر الجرايدة) وبدت من نبرات صوته وهو يوجه لفؤاد سراج الدين هذا السؤال لهجة التحدي، وهنا خشيت أن يكفهر الجو وينفض الاجتماع دون أي مناقشة جادة فحاولت التدخل وقاطعت صلاح سالم!! .. لكن فؤاد سراج الدين الذي كان يجلس بجانبي أمسك بيدي لإسكاتي ومحاولا الإجابة على تساؤلات صلاح سالم، ولكني انتزعت يدي منه بحدة ونظرت إلى جمال عبد الناصر الذي كان رغم متابعته لحديث صلاح سالم يتشاغل بالتقاط بعض حبات العنب من فوق مائدة كان عليها عنب وبطيح وقلت له:

- اسمع يا جمال بك .. المناقشة بطريقة الأخ صلاح غير مجدية وأرجو أن ترأس الاجتماع وتكون الأسئلة والإجابات بطريقة منظمة إذا كنتم جادين أن يثمر هذا الاجتماع وأنت الذي طلبت الاجتماع بفؤاد باشا، وأضفت أن حديث الأخ صلاح نافلة لأنه يستند إلى معلومات خاطئة، وهنا انتقل النقاش بيني وبين صلاح سالم الذي أكد لي أن معلوماته صح مائة بالمائة!!

ولم يسعني إلا أن أضحك بتهكم، وقلت:

- خلاص، إذا كانت معلوماتك أن فؤاد باشا عنده عشرين ألف فدان يبقى ما فيش داعي نكمل الاجتماع ... وأردف قائلا:

- يا أخي ده كلام يقال في المقاهي، ولا يجوز لمسئول يستطيع معرفة ملكية كل إنسان في مصر من الجهات الرسمية أن يقوله ...

وهنا اعتدل جمال عبد الناصر ونظر إلى صلاح سالم وطلب منا الهدوء، وأشار إلى أحمد شوقي وقال لي: (حضرة القائمقام يرأس الاجتماع) ... وأجبته على الفور:

- مع احترامي لحضرة القائمقام فأنا لا أتشرف بمعرفته إلا اليوم، وبصرف النظر عن الرتب العسكرية فأنا أرجو أن ترأس الاجتماع وأظن إخواننا العسكريين يوافقون على ذلك.

ووافق الجميع على أن يرأس جمال عبد الناصر الاجتماع، وقال جمال عبد الناصر ، الأخ صلاح أثار موضوعين، الأول هو موقف الوفد من مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية، والثاني مقدار ما يمتلك فؤاد باشا .. ففؤاد باشا يتكرم أولا يجاوب على الموضوع الثاني علشان نخلص منه ولأنه مش مهم وهنا قال فؤاد باشا أنه يمتلك هو وأسرته حوالي 3000 فدان جزء منها يمتلكها بالميراث والجزء الآخر من الأراضي البور التي استصلحها وأضاف بأنه مستعد أن يتنازل للدولة عن أي قدر من الأراضي تزيد على ذلك وتستطيعون التأكد من ذلك من واقع الملفات الزراعية.

وهنا قال جمال عبد الناصر :

- أنا متأكد من ذلك ويعتبر هذا الموضوع منتهيا، ونظر إلى صلاح سالم وقال ضاحكا: معلهش يا أبو صلاح .. "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا".

ثم طرح موقف الوفد من مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية، وخاطب فؤاد باشا وقال:

- إبراهيم طلعت يا باشا هو الذي وضع القانون فأرجو أن تكون المناقشة بينك وبينه وإحنا نسمع ونناقش عند اللزوم.

لم يكن سراج الدين يعلم أنني شاركت في وضع القانون، وكذلك لم يكن يعلم أنني أنا الذي انفردت بنشره في جريدة المصري، ولذلك أسرعت بالقول إنني أتشرف بأن أكون قد شاركت في وضع المشروع، وأعتز بأن أكون أول من طرحه على الرأي العام بنشره في جريدة المصري.

وابتسم فؤاد سراج الدين وقال:

- شوفوا يا إخوانا .. أنا أولا بصفتي الشخصية وثانيا بصفتي سكرتير الوفد أوافق من ناحية المبدأ على هذا القانون.

وهنا سأل صلاح سالم في حدة:

- يعني إيه من ناحية المبدأ؟

وأجاب فؤاد سراج الدين:

- كل قانون في الدنيا يطرح أولا للموافقة عليه من ناحية المبدأ فإذا كان المبدأ قد ووفق عليه تطرح التفاصيل للمناقشة، فقد يتدخل بعض المختصين لتعديل بعض فقراته بما يكون قد فات على واضعي القانون من المسائل الفنية أو التطبيقية .. مثال ذلك بالنسبة لهذا القانون.

وأخذ فؤاد سراج الدين يضرب أمثلة كثيرة حول ما يجب دراسته موضوعيا عند صدور القانون وتطبيقه مثل القيمة التي تشتري بها الدولة الزائد من الأطيان المنزرعة واقترح أن يكون ثمن الفدان عشرة أمثال القيمة الإيجارية وليسر على أساس ثمن الفدان بسعر ما قبل الحرب الثانية حتى لا تبخس قيمة الأراضي الزراعية وهي أساس الثروة القومية ... وقد أخذ القانون فعلا بهذا الرأي عند صدوره بعد ذلك ...

وقد أنصت الجميع لحديث فؤاد سراج الدين وهو يتحدث في التفاصيل، وقال:

- أنا أقسم أنني لم أعلم أن إبراهيم طلعت شارك في وضع المشروع إلا الآن، وقد قابلني عدة مرات صارحته خلالها بموافقتي على القانون بل وإعجابي به، وأنا أستشهد به الآن .. وأطرقت برأسي موافقا ... وضحك جمال عبد الناصر وقال: إحنا عارفين يا باشا وإبراهيم قال لي كده ولكن الحقيقة إحنا ما كناش مصدقين!!

ورد فؤاد باشا قائلا:

- ليه يا أخي ... إذا كان من ناحية المصلحة الشخصية فإذا صدر القانون كما نشر بدون أي تعديل فأنا شخصيا وعائلتي لا نضار بصدوره، ومن الناحية العامة فإن 90% على الأقل من أعضاء الوفد لا يضارون به، والحقيقة أن الأخ إبراهيم كان كريما في اقتراح الحد الأقصى بمائتي فدان!!

وأجبت ضاحكا: الحقيقة يا باشا أنا كان رأيي أن يكون الحد الأقصى خمسين فدانا فقط، ولكن زملائي كانوا أكثر كرما مني.

وضحك الجميع ... وبدأ يسود جو من المرح والثقة على المجلس، حتى صلاح سالم لبس حذاءه وجلس بجوارنا على أحد المقاعد وأخذ يشاركنا في الضحك!! .. والأكثر من ذلك أنه قال: "عداك العيب يا باشا". قال عبد الناصر :

- وعلشان كده إحنا أملنا أن الوفد يتعاون معانا باعتباره أكبر تنظيم جماهيري ديمقراطي فيه المسلم والمسيحي والعامل والفلاح والغني والفقير، يعني فئات الشعب المختلفة وطبعا احنا علشان نسلم الأمانة للوفد إذا حصل على الأغلبية في الانتخابات وده هو المنتظر لازم نكون مطمئنين إلى أن قيادته فوق مستوى الشبهات (....) واستطرد جمال عبد الناصر مشكورا بإضافة بعض عبارات المديح لي ولأحمد أبو الفتح لا داع لذكره، ثم أنهى جمال عبد الناصر حديثه قائلا:

- أحب كما أقول لحضرتكم إن فيه ناس كتير من الملتفين حولنا الآن بيقولوا لنا أنتم لو عملتم انتخابات الوفد حيرجع 100% طيب وماله لما يرجع الوفد .. لكن بأه دول يهمهم الحكم الديكتاتوري ودول خصم الوفد اللي أنتم عارفينهم (...) وأحب كمان أؤكد إننا جميعا في مجلس القيادة بنحب النحاس باشا وبنعتبره زعيم كبير ووالد للجميع، كمان أحب أقول – مش لأن فؤاد باشا موجود – إن نزاهته ووطنيته فوق كل شبهة وأن له فضلا كبيرا على حركة الكفاح ضد الإنجليز بعد إلغاء المعاهدة. وأعتقد أني قلت كل حاجة، ونحب نسمع رأي فؤاد باشا إيه.

وتكلم سراج الدين:

ورد فؤاد سراج الدين شاكرا لجمال عبد الناصر وإخوانه ثقتهم في النحاس وفيه وأردف بأن ما قاله جمال عبد الناصر هو كلام عظيم وتحليل دقيق للأمور وقال إنه يرجو أن يكون الوفد عند حسن ظن الشعب وعلى رأسه أعضاء مجلس القيادة وبقية الضباط الأحرار جميعا وأنه يرجو في ظل هذه الثقة أن يؤدي الوفد واجبه الوطني نحو قضية البلاد وإرساء دعائم الديمقراطية السليمة خصوصا بعد خروج الملك وانتهاء نفوذ السراي التي كان العائق الأكبر في الطريق الديمقراطي، وأكد فؤاد سراج الدين:

1 – إن الوفد يوافق على مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية ويرحب بصدور مثل هذا القانون وأنه من الآن يوافق على المبدأ وسوف يتقدم بما عسى أن يكون هناك من اقتراحات موضوعية تمس جوهر القانون حتى لا تنشأ صعوبات في التطبيق.

2 – إنه سيتحدث مع النحاس باشا في إقصاء بعض أعضاء الوفد والهيئة الوفدية لأن النحاس باشا لما له من سلطة أبوية على الجميع فإنه هو القادر على إقناعهم بأن يقصوا أنفسهم بالاستقالة أو يأمر بإقالتهم.

3 – أن يظل هناك تعاون كامل بين الوفد وبين رجال القيادة وتبادل وجهات النظر على أن يكون رائد الطرفين الصالح العام والصراحة الكاملة.

4 – إن الوفد على استعداد لحضور أي اجتماع مع رجال القيادة لمناقشة أي أمر بناء على طلب أعضاء مجلس القيادة.

وانتقل الحديث بعد ذلك إلى شخصية من يتولى رياسة حكومة محايدة لإجراء الانتخابات بعد إخراج علي ماهر وقال جمال عبد الناصر إن مجلس القيادة يرشح واحدا من اثنين: الدكتور عبد الرزاق السنهوري أو الدكتور وحيد رأفت.

وقال فؤاد سراج الدين أنه يفضل الدكتور وحيد رأفت بالرغم من ثقته في السنهوري لأنه بالرغم من خصومته التقليدية للوفد فقد كان قاضيا محايدا ومستقلا كلما كان في منصبه القضائي.

وكانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة مساء حين انفض الاجتماع بعد أن دام خمس ساعات كاملة.

إنني أعتذر لكم يا قراء من هذا الاستشهاد الطويل لكنني رأيته ضروريا .. فهو يكشف الكثير ... كانت الحقيقة فيه كما رأيتم .. ولكن هذه الحقيقة لم تكن تناسب خطة جمال عبد الناصر في سحق كل القوى التي يمكن أن تشكل له منافسا ذات يوم.

وليسم ح لي القارئ ببضع كلمات أخرى يكمل بها إبراهيم طلعت شهادته:

"من الغريب أن جمال عبد الناصر بعد ذلك بحوالي تسع سنوات خطب في المؤتمر الوطني سنة 1961 قائلا إن الوفد رفض الموافقة على قانون تحديد الملكية الزراعية كما رفضوا أن يعودوا إلى الحكم على أساس تحديد الملكية".

الباب الرابع

ماذا فعل عبد الناصر بمحمد نجيب أول رئيس للجمهورية؟

ويظل السؤال: لماذا يكذب محمد عودة؟

ويظل السؤال: لماذا يكذب محمد عودة ...ولماذا يواصل الكذب بعد خمسين عاما ...ربما لا يكفيه إبراهيم طلعت ... فلنستدع إذن شهادة جمال حماد .. يقول جمال حماد :

وكان الإعلان عن قانون الإصلاح الزراعي مفاجأة لأعضائه الذين ينتسب عدد منهم إلى الطبقة الإقطاعية ..فبدءوا يتلمسون الحوار مع رئيس الوزراء علي ماهر، مع ضباط القيادة للتعرف على أبعاد القانون.

كان فؤاد سراج الدين قد طلب تحديد موعد، مع محمد نجيب عقب عودته من أوروبا .. ولكن أحد أقاربه، اليوزباشي عيسى سراج الدين (السفير فيما بعد) دعاه إلى منزله في الزيتون لمقابلة جمال عبد الناصر ، وجمال سالم ، وصلاح سالم ... وحضر أحمد أبو الفتح جانبا من الاجتماع الذي امتد من الخامسة مساء حتى الواحدة بعد منتصف الليل. دار الحوار، في هذه الجلسة، حول تحديد الملكية .. وحاول فؤاد سراج الدين إقناعهم بفكرة الضريبة التصاعدية ... ولكن الاجتماع انفض من دون الوصول إلى رأي موحد، وعلى أن يلتقوا مرة ثانية، بعد أسبوع ... وفي اليوم المحدد للاجتماع الثاني، وبينما كان فؤاد سراج الدين في طريقه من الإسكندرية إلى القاهرة قرأ خبرا نشره مصطفى أمين في ملحق (آخر لحظة)، التابع لمجلة (آخر ساعة)، وفيه يقول إن فؤاد سراج الدين صرح بأنه وضع ضباط القيادة في جيبه، وتوقع فؤاد بعد قراءته للخبر إلغاء الاجتماع وقد كان؛ فقد اتصل به أحمد أبو الفتح ليبلغه ذلك.

ولم يشأ الوفد أن يترك موقفه، من قانون الإصلاح الزراعي غامضا، فأدلى فؤاد سراج الدين بتصريح لجريدة المصري يوم 6 سبتمبر 1952، قبل تولي نجيب الوزارة، وقبل اعتقاله بأيام، قال فيه بالتحديد: "إن الوفد وافق على مبدأ تحديد الملكية الزراعية، من حيث المبدأ، وله ملاحظات وتعديلات على المشروع الذي نشر وقد سبق أن أبلغنا تلك الملاحظات إلى الجهات المسئولة في أسرع وقت .. إننا نوافق على المبدأ الذي هو صميم المشروع، أما ملاحظاتنا فهي مقصورة على التفاصيل فقط، دون الجوهر".

وتأكد موقف الوفد بعد ذلك، عندما أصدر برنامجه الجديد، يوم 21 سبتمبر 1952، وفؤاد سراج الدين في المعتقل، يقول فيه: "الموافقة على مشروع تحديد الملكية باعتباره يهدف للعدالة الاجتماعية، ويقرب بين الطبقات". هكذا كان موقف الوفد: موافقة على المبدأ، ومناقشة للتفصيلات، ثم قبولا للمشروع، بعد صدوره.


الكفر ملة واحدة

محمد عودة .. القديس .. يكذب ..إنه كذب مع سبق الإصرار والترصد ..كذب من يكذب وهو يعلم أنه يكذب .. لماذا يكذب القديس ولماذا يواصل الكذب.

ثم يتحدث القديس الجاهل عن الإخوان فيقول:

انقسم الإخوان المسلمون إلى فريق يرأسه أخو المرشد العام الذي اغتاله الملك، (...) وفريق آخر برئاسة المرشد العام طالب بولاية الفقيه وأن يكون له حق (الفيتو) على قرارات الثورة ...والقديس ليس كذابا فقط بل وجاهل أيضا .. ولا يعرف حتى أساسيات الخلاف بين السنة – والإخوان في قلبهم – وبين الشيعة التي تؤمن بولاية الفقيه.

هل كان الجهل هو السبب في الخطأ؟

أم الرغبة الخسيسة المدمرة في صبغ الوقائع بما يشاء الهوى حتى يلبس الباطل ثوب الحق.

إنني أستشهد بالصف الأول من الكتاب .. فما بالكم بالباقين ...ما حدث يعز على التصديق ...واستمرارية الإصرار على الكذب مذهلة.

بعد خمسين عاما ستصدر الأهرام العربي عددا خاصا عن ثورة يوليو وسوف ينتقدها نجيب محفوظ مقررا أنه لولا إزاحة محمد نجيب لما انفصل السودان عن مصر، وبرغم أن العلاقات بين النخبة في مصر أضحت شاذة ومريضة .. فالآخر إما معبود يعبد وإما شيطان يرجم .. وبالنسبة للعلمانيين يعتبرون نجيب محفوظ وثنا معبودا .. وفي تاريخهم لم يهاجموه إلا عندما قال هذا ... وبعد الحدث بنصف قرن ..كان ما قاله محفوظ تعني نوعا من الانتقاد لعبد الناصر والتأييد لنجيب ... والتأييد لنجيب قد يحمل شبهة تأييد للإخوان لذا وجب رجم محمد نجيب ...وتذكروا يا قراء أن موقفا مماثلا حدث من عبدة هيكل إبان أزمة الوليمة .. فعندما أدان مجموعة المنتفعين والشواذ والمنافقين الذين أيدوا الوزير كانت هذه الإدانة تحوي معنى ضمنيا – لا يقصده بالتأكيد – بنصر الاتجاه الإسلامي ...ورجمه من يعبدونه ..لم تكن المشكلة مشكلة الإخوان إذن.

كان ثمة وحش أسطوري يلتهم كل من يأتي في طريقه ...وسوف يدفع الجميع الثمن في وقت قصير ...أما في النهاية .. فإن الوطن والأمة هما اللذان سيدفعان الثمن الفادح في المحكمة التي كان يرأسها جمال سالم حدثت واقعة تدل على مدى الانهيار والرعب الذي كبل الأمة ...بل مدى الهستيريا والجنون ..فقد سألت المحكمة محمود عبد اللطيفعن المحامي الذي يحب أن تنتدبه المحكمة فذكر أسماء ثلاثة محامين طلب إلى رئيس المحكمة جمال سالم أن يدافع عنه واحد منهم وكانوا: محمود سليمان غنام وفتحي سلامة ومكرم عبيد وفجأة جمال سالم قائلا: وإذا رفضوا؟ .. قال محمود عبد اللطيفتنتدب لي المحكمة أي محام ثان.

وبالفعل كما رسم جمال سالم فقد رفض المحامون الثلاثة الدفاع عن محمود عبد اللطيف... وكانت كل تهمته محاولة شروع في قتل .. وقال أحدهم وهو محمود سليمان غنام لمندوب جريدة الأخبار لا أوافق إطلاقا على الدفاع عنه لأني أستنكر كل الاستنكار هذه الجريمة البشعة!! .. وقال المحامي الثاني وهو فتحي سلامة: أرفض الدفاع عن هذا المتهم لأني محام ولي شعور وطني ولأني أحتقر هذا المجرم وقال مكرم عبيد لا أستطيع أن أدافع عن من يعتدي على جمال عبد الناصر .. مستحيل ... مستحيل !!

كانت الأمة كلها تمر بحالة من الهستيريا ..ولن يمر وقت طويلة قبل أن يدفع الجميع الثمن ...حتى في كل العهود .. رغ كل جرائم السلطة لم يصل الأمر إلى هذا الحد ..محامون يرعبهم أن يدافعوا عن متهم ..نعم .. سوف يدفع الجميع الثمن ...في أغسطس 1955 استقال صلاح سالم من مجلس القيادة بعد الانتقادات التي وجهت إلى سياسته في السودان التي زارها متحدثا باسم الثورة .. ويرى البعض أن السبب الحقيقي لدفعه إلى الاستقالة هو طموحه الذي أقلق عبد الناصر ، إذ نما إلى علمه أن صلاح سالم كان يتعمد الإيحاء إلى محدثيه بأنه الرجل المهم في مجلس قيادة الثورة والعالم ببواطن الأمور، ربما أكثر من ناصر نفسه، كان صلاح سالم وزيرا للإرشاد القومي والمسئول الأول عن الإذاعة والفنون.

ولم تكن بعيدة عن هذا المناخ استقالة أخيه جمال سالم الذي كان عضوا في محكمة الثورة، وصاحب أشهر هأوأو في تاريخ مصر، وتلك عبارة قالها تعليقا على كلام أحد المتهمين في المحاكمة ... وجمال سالم هو الذي تبنى فكرة إقامة السد العالي، وكان أشد المتحمسين لفكرة الإصلاح الزراعي .. ثم تقلص دوره بعد إجراءات الإصلاح ، وأخرجه عبد الناصر من التشكيلة الوزارية .. ولم تشفع له إنجازاته والمناصب التي تبوأها في ظل الثورة، فتعرض بعد استقالته لمضايقات مثل منع ابنه من الالتحاق بصفوف الجامعة الأمريكية بعد أن درس فيها ثلاث سنوات كاملة، ثم منع زوج ابنته من العودة إلى إنجلترا لإتمام دراسته بعد أن جاء في زيارة لمصر.


أما محمد نجيب فسوف يدفع الثمن مضاعفا

تعلق صحيفة أخبار الأدب العدد 1423 عن المفارقة بين الملك فاروق الذي خرج معززا مكرما على أية حال وبني نجيب الذي قضى ما تبقى من حياته منعزلا وحيدا وسجينا في منزله بالمرج .. حتى أن ابنه عليا قتل في ألمانيا حيث كان يدرس الهندسة ويرأس رابطة الطلاب العرب وينسب بعضهم إلى المخابرات الإسرائيلية المسئولية) فلم يستطع أن يراه، ولم يسمح له بتقبل العزاء فيه، أما ابنه الأصغر يوسف فكان يعمل سائق تاكسي، إلى أن علم بذلك المهندس عثمان أحمد عثمان فعينه سائقا في شركة المقاولون العرب.

لقد رفعته الثورة على الأعناق سنتين، ثم قضت عليه بالعزلة والمهانة ثلاثين سنة، إلى أن مات سنة 1984 وكان يسمى الثورة في مذكراته "العورة".

لماذا فعل جمال عبد الناصر ما فعله بمحمد نجيب؟

نعم .. فلنؤجل الآن سؤالنا الأساسي عن سيد قطب وعبد القادر عودة وإخوتهم الشهداء الأبرار بإذن الله ... ولنسأل لماذا فعل ذلك بمحمد نجيب ...ولماذا وافقه هيكل ...ولماذا بعد موت جمال عبد الناصر حين قيض لمحمد نجيب أن يتنفس مرة واحدة لم تكتمل بعد صمت عشرين عاما فإذا بمانشيتات هيكل في الأهرام تتحدث عن الأشباح الخارجة من الكهوف ضد عجلة التاريخ ...ولم يكن الأمر مجرد تعمد إهانة ..بل كان ذعرا .. نعم ... ذعرا ..لأن خروج الضحية أو حتى شبحها ولو من الكهف كان كفيلا ببيان الجريمة وفضح المجرم.

لم يكن محمد نجيب هملا ..ولم تكن المشكلة في الإخوان المسلمين ...لعل القارئ يسايرني في مشاعري ..يا قراء أنا لا أكتب بل أنزف ..ولكم كان ألمي حين اكتشفت أن جمال سالم كان يصلي ..لقد وددت لو أنه قابل الله ولم يركع له ركعة ..يا قراء أنا لا أكتب بل أنزف ...منذ خمسة عشر عاما كنت ألتقي بالمفكر الكبير عادل حسين وكنت أحكي له عن تلك الفترة .. وكيف أن إدانة الثورة وجمال عبد الناصر كانت قاسية كالسلخ .. ذلك أنك وأنت تترك ما كنت تؤمن به وتثق فيه .. إنما يموت جزء من نفسك .. يموت ولا يدفن .. وإن جزءا من إدانتي لعبد الناصر .. هو إدانة لنفسي .. لعقلي الذي صدقه .. ولعيناي اللتين بكتاه ..كنت أقول ذلك لعادل حسين فوافقني فيما أقول وتجاوبت أصداء آهات روحي مع أصداء آهات روحه ..يا قراء .. لو أن إجرام الثورة اقتصر على ما فعلوه بالإخوان المسلمين فلربما جاز لبعضكم أن يلقوا باللائمة على الإخوان ..محمد حسنين هيكل واحد ممن ينحون باللائمة على الإخوان فيقول: ولو حدث صدام بين الإخوان والثورة فقد نستطيع أن نحكم أن هناك خطأ متبادلا لكن قبل الثورة اصطدم الإخوان مع النظام الليبرالي رغم أنه كان صديقا لهم، وحتى الآن هناك صدام بين الإخوان والعصور الثلاثة التالية مع اختلاف الاتجاهات، أي أنه منذ 36 إلى الآن: أكثر من 60 سنة .. معنى هذا أن التنظيم تصادم مع كل نظام في مصر ...هيكل ليس جاهلا وليس غبيا ..بل على العكس تماما تماما .. أعترف أنه أسطورة وموسوعة ..لكنه لا يقول الحق ..إنه يلونه بما شاء له الهوى.

يتحدث جمال حماد في كتابه – الحكومة الخفية في عهد عبد الناصر – الزهراء لإعلام العربي عن قيام عبد الناصر بتدمير كل الأعراف العسكرية بترقية عبد الحكيم عامر إلى رتبة اللواء (هذه الترقية التي سيترتب عليها بعد ذلك الهزيمة العسكرية عام 56 ثم الانفصال .. ثم إرهاب الأمة ثم الهزيمة الشاملة الماحقة في عام 1967.

يقول جمال حماد : "وكان هذا يعني ولاء القوات المسلحة لعبد الناصر وتدعيمها لمركزه مما يتيح له الفرصة للسيطرة التامة على الشئون السياسية في مصر دون زملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة تمهيدا لتنفيذ المخطط الذي رسمه في دقة ومهارة منذ بداية الثورة وهو التخلص من زملائه جميعا والانفراد وحده بالنفوذ والقوة والسلطان.

ونجح عبد الناصر في تنفيذ مخططه ببراعة تامة ففي خلال فترة الانتقال التي حددت بثلاث سنوات تمكن من تصفية كل منافسيه الأقوياء داخل مجلس قيادة الثورة ومن كل معارضيه المشاكسين بين صفوف الضباط الأحرار فقد أطاح بالعقيد رشاد مهنا الوصي على العرش وصاحب الشعبية الكبيرة في سلاح المدفعية في 14 أكتوبر 1952 كما تم له تنحية اللواء محمد نجيب عن رئاسة الجمهورية في 14 نوفمبر 1954 بعد صراع مرير على السلطة احتدم بينهما خلال شهري فبراير ومارس 1954 حتى كادت البلاد تتعرض لحرب أهلية مدمرة، ونظرا لأن مجموعتي ضباط المدفعية والفرسان كانتا أقوى مجموعات الضباط الأحرار وأكثرها عددا وأشدها صلابة وتكتلا لذلك تم ضرب مجموعة المدفعية وتشتيت ضباطها وإلقاء زعمائها في السجن في 15 يناير 1953 فيما عرف باسم قضية المدفعية كما حاقت الضربة بمجموعة سلاح الفرسان في أعقاب أحداث فبراير ومارس 1954 التي أسفرت عن تراجع مجلس الثورة عن قراراته الديمقراطية التي أصدرها في 5 و 25 مارس 1954 وتقلص نفوذ محمد نجيب وانتهى الأمر بإلقاء طائفة من أبرز الضباط الأحرار بسلاح الفرسان في السجن ونقل طائفة أخرى منهم إلى وظائف مدنية وإبعاد الباقين عن سلاح الفرسان.

وعن مخطط جمال عبد الناصر للانفراد بالسلطة يقول عاد حمودة وروايته عن الثورة تقبل .. كما تقبل رواية اعتماد خورشيد عن صلاح نصر .. وعبد الله إمام عنهم – كان عبد المنعم أمين هو أول المبعدين لأن زوجته، سيدة المجتمع، كانت ترتاد النوادي وتكثر من الحديث في السياسة مما أضجر عبد الناصر فأرسله سفيرا إلى لندن .. والبعض يرى أن أمين كان المسئول عن تذمر ضباط المدفعية في يناير 1953 وكان عبد المنعم أمين هو رئيس أول مجلس أعلى عسكري في عهد الثورة، المجلس الذي حاكم العمال المضربين في "شركة مصر للغزل والنسيج" في كفر الدوار.

وبسبب زوجته أيضا أبعد يوسف صديق، والزوجة، هذه المرة، شيوعية متطرفة ... كان يوسف صديق كثير النقد لمجلس قيادة الثورة ... لم يكن يكتفي بالكلام بل يقوم بنشاط حركي بين صفوف الضباط، ثم حددت إقامته وطلب منه أن يستقيل أو أن يقبل التعيين سفيرا، لكنه رفض وآثر أن يبتعد تماما.

وعلى الدرب نفسه سار خالد محيي الدين الذي كان خلافه مع مجلس قيادة الثورة منصبا على قضية الديمقراطية وضرورة عودة الضباط إلى ثكناتهم وأن تتولى الحكم حكومة مدنية، ثم كانت المواجهة الوشيكة بين سلاح الفرسان وباقي أسلحة الجيش في مارس 1954 ، حيث قدم سلاح الفرسان مطالبه إلى جمال عبد الناصر ، ومنها أن تتولى حكم البلاد حكومة مدنية، واقترحوا اسم خالد محيي الدين رئيسا لها، وقد استجاب مجلس قيادة الثورة لبعض مطالب الفرسان مع التغاضي عن مطلبهم تشكيل حكومة مدنية، واستقال خالد محيي الدين وابتعد عن مصر كلها.

في تلك الأثناء بدأ الخلاف مع محمد نجيب .. أرسل عبد الناصر لطفي واكد إلى خالد لطفي السيد، يطلب منه قبول ترشيحه كرئيس للجمهورية خلفا لمحمد نجيب، لكن لطفي السيد رفض، واقترح على محدثه أن يرشحوا عبد الناصر ليكون رئيسا للجمهورية، واختمرت الفكرة في عقل ناصر، وتمت تنحية نجيب ومحاكمته .. (لاحظوا المناورة يا قراء ... فعبد الناصر لم يكن ينوي تعيينه فعلا .. كما أن اختياره له كان يمثل اختيار صوت الإنجليز والعداء للإسلام.

كان عبد الناصر هو الصانع الحقيقي للثورة وعقلها المدبر .. وكان محمد نجيب هو الواجهة، فقدم إلى الناس كقائد للثورة وأول رئيس جمهورية لمصر.

في كتابه ثورة 23 يوليو يقول جمال حماد : حظي محمد نجيب في بداية حركة الجيش، بما لم يحظ به أحد من قبله، من تركيز، واهتمام وسائل الإعلام في مصر وخارجها، وأضيفت عليه من هالات البطولة، وصفات العظمة، ما لم تشهده مصر من قبل، إلى الحد الذي جعله يتحول في نظر الشعب المصري، إلى شخصية أسطورية .. وجعل الجماهير لا تتمالك نفسها كلما رأته، من التصفيق الشديد، والهتاف المدوي باسمه، والتكالب، في شبه جنون على سيارته .. وافتتن رجال الثورة أنفسهم بالزعيم القائد، الذي صنعوه، فسايروا الشعب في حبه، والإعجاب ببطولته، إلى الحد، الذي جعلهم يخاطرون بحياتهم، ويحيطونه بأجسادهم، فوق رفارف سيارته، ليصدوا عنه طوفان الشعب الجارف، كي تتمكن سيارته من شق طريقها، بين مئات الألوف المحتشدة، من جماهير الشعب في حله وترحاله .. وكانت خطبهم وأحاديثهم كلها، تمجيدا لعظمته، والإشادة بروعة قيادته، إلى الحد الذي جعل أحدهم، وهو محمد أنور السادات ، يضع اسم محمد نجيب على رأس أعظم عشرة رجال في العالم، في استفتاء أجرته مجلة المصور في العدد (491) الصادر في 8 مايو 1953 ، أي أن محمد نجيب كان في نظر السادات وقتئذ، هو أعظم رجل في العالم.


صناعة النجم

وسوف يتكرر هذا على الفور .. لكن لجمال عبد الناصر ...لكن في هذه الأثناء لم يتخلف عبد الناصر نفسه عن إعلان تأييده وإظهار إعجابه؛ ففي أثناء زيارة لمحمد نجيب لقرية بني مر، وقف عبد الناصر وسط أبناء قريته يعلن إيمانه بمحمد نجيب قائلا: "باسم أبناء هذا الإقليم، أرحب بكم، من كل قلبي، وأعلن باسم الفلاحين، أننا آمنا بك، فقد حررتنا من الفزع والخوف، وآمنا بك مصلحا لمصر، ونذيرا لأعدائها .. سيدي القائد، باسم الفلاحين أقول: سر ونحن معك جنودك، فقد حفظنا أول درس، لقنتنا إياه، وهو أن تحرير مصر، وخروج قوات الاحتلال من بلادنا، واجب حيوي، وأصبحت أملا في أن تحقق مصر حريتها على يديك ... إن مصر كلها تناصرك للقضاء على قوات الاحتلال".

• بايع الإخوان ونقض البيعة.

• كان عضوا في التنظيم الخاص فاستغل عضويته تلك كي يقوض الجماعة كلها.

• بايع سيد قطب على أن يفتديه فقتله.

• وأيضا .. بايع محمد نجيب ..

يقول الأستاذ صلاح شادي في كتابه "صفحات من التاريخ": ولقد ظهر الخلاف بين عبد الناصر ومحمد نجيب لدى التنافس بينهما على زيارة قبر الإمام الشهيد حسن البنا في 12 فبراير سنة 1954 ففي هذا اليوم الذي ظهر فيه هذا الخلاف بين محمد نجيب وعبد الناصر كان قرار حل الجماعة قائما ودار الإخوان مغلقة وكنا في السجن الحربي حينذاك مع المرشد نحو أربعمائة من الإخوان وذلك بخلاف المعتقلين بالسجون الأخرى ويبدو أن محمد نجيب عندما علم برغبة عبد الناصر في هذه المجاملة ظن أن جمال أراد أن يكسب لنفسه شعبية لدى الإخوان المسلمين ينفرد بها دونه.

وفي 27 فبراير – كما يقول الأستاذ عمر التلمساني – لقد زحفت الآلاف إلى ميدان عابدين وقتذاك تطالب السيد محمد نجيب بالإفراج عن المعتقلين وتنحية الباطش ومعاقبة الذين قتلوا المتظاهرين عند كوبري قصر النيل وتطبيق شرع رب العالمين وأدرك القائمون على الأمر خطورة الموقف وطلبوا من المتظاهرين الثائرين أن ينصرفوا ولكن بلا مجيب فاستعان محمد نجيب بالشهيد عبد القادر عودة على تهدئة الموقف متعهدا بإجابة الأمة إلى مطالبها ومن شرفة قصر عابدين وقف الشهيد يطلب من الجماهير الثائرة أن تنصرف في هدوء وقد وعد رئيس الجمهورية بإجابة مطالبها ... فإذا بهذا البحر الزاخر من البشر ينصرف في دقائق معدودة وبمنطق الحكم الديكتاتوري الذي كان يهيمن على البلد حينذاك كان لا بد أن يصدر قرار في شأن عبد القادر عودة، فإذا كان الشهيد قد استطاع أن يصرف الجموع الحاشدة التي جاءت محتجة تطالب بإطلاق الحريات وإفساح المجال للحياة الدستور ية السليمة الأصلية والوفاء بالوعود وتأدية الأمانات .. فهو يمثل خطورة على هذا الحكم الذي كان مفهومه لدى الحاكم أن يضغط على الأجراس فيلبى نداؤه وعلى الأزرار فتتحرك الأمة قياما وقعودا.

ومن هنا كانت مظاهرة عابدين هي أول وأخطر حيثيات الحكم على الشهيد عبد القادر عودة بعد ذلك بالإعدام وذلك لم يكن غريبا أن اعتقل هو والكثيرون من أصحابه في مساء اليوم نفسه ووقفوا على أرجلهم في السجن الحربي من الرابعة صباحا حتى السابعة صباحا يضربهم ضباط السجن وعساكره في وحشية وقسوة.

يواصل الشيخ عمر التلمساني:

عندما سمعنا ونحن في السجن الحربي سنة 1954 بذهاب عبد الناصر إلى قبر الإمام الشهيد أدركت أن وراء ذهابه إلى القبر محاولة جديدة منه لتقسيم الإخوان إلى فريقين: فريق راض عنه وفريق آخر غاضب عليه لأنهم كما كان يقول عنهم دائما – عصاة – ويزعم أنه ليس معارضا للجماعة ذاتها وإنما هو يعارض أصحاب الأفكار المنحرفة فيها.

فلنعد إلى جمال حماد ...سرعان ما تبدل الحال مع مطلع عام 1954 ، فقد اشتعل الصراع بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، وعلى رأسه عبد الناصر ، ذلك الصراع الذي بلغ ذروته في مارس 1954 وأخيرا اختتمت الرواية فصولها في 14 نوفمبر 1954 ، بتنحية محمد نجيب عن منصب رئيس الجمهورية، ووضعه رهين الاعتقال، في استراحة ريفية نائية بضاحية المرج شمال القاهرة، (قصر زينب الوكيل زوجة النحاس باشا) حيث بقي بها ثمانية عشر عاما.

وسرعان ما حدث التحول الهائل في مقالات الكتاب، وأجهزة الإعلام، بل حتى في كتابات المؤرخين، واشتد التنافس بينهم، لا في تمجيد محمد نجيب، كما كان الحال عليه من قبل، ولكن في سلبه كل ما أضفي عليه، في الماضي من صفات العظمة، وآيات البطولة، وفي طمس معالم كل ما قام به من أعمال جليلة، سواء في خدمة جيشه، أو وطنه، ووصل الأمر، في الاستخفاف بشأنه، إلى حد تصوير دوره في قيادة الحركة، بأنه كان أشبه بخيال المآتة، وأنه كان في منزله لا يعلم شيئا عما يدور حوله من أحداث، طوال شهر يوليه 1952 وقد صور السادات هذه الصورة في كتابه "قصة الثورة كاملة" فقال: "كان نجيب مثل أي رجل في مصر، وفي مثل سنه، كان موظفا يجلس إلى مكتبه من الصباح حتى الظهر، وليس في ذهنه أي شيء عن العدالة الاجتماعية، أو عن الاستغلال، والاستبداد، ومحنة الاستعمار.

تخيلوا يا قراء ...السادات ... ربيب كمال أدهم .. الجاهل كما وصفه هيكل يقول ذلك .. بينما يقول عماد مطاوع – إسلام أون لاين – تحت عنوان: محمد نجيب .. قائد الثورة التي أنكرته؛ أن محمد نجيب قد حصل في عام 1927 على ليسانس الحقوق، بالإضافة لذلك كانت للرجل مكانة علمية مرموقة فهو مؤلف لعدة كتب قيمة، وكذلك حصل عام 1929 على دكتوراه الاقتصاد .. كما كان علما عسكريا فقد حصل على نجمة فؤاد الأول مرتين لبسالته، كما حارب في فلسطين 1948 ونال شرف الإصابة فيها 3 مرات، وحصل على رتبة فريق.

يكمل لنا جمال حماد جزءا آخر من الصورة:

وفي يوم 18 يناير 1923 أعلن عن إلغاء الملكية التي عدت مدانة بأن كانت دوما دعامة الإمبريالية في البلاد وأعلنت الجمهورية ... وفي 23 يونيو جرى احتفال عام ضخم أعلن فيه ممثلو مختلف الطوائف الدينية من مسلمين وأقباط ويهود مساندتهم للنظام المتماشي مع الشرائع الدينية .. وطبقا لعادة تعود إلى بداية الإسلام قام عبد الناصر بقراءة يمين المبايعة لرئيس الجمهورية الجديد، محمد نجيب:

"اللهم إنا نشهدك أنت السميع العليم على مبايعتنا اللواء محمد نجيب قائد الثورة بصفته رئيسا لجمهورية مصر .. وأشهد اللهم أيضا على أننا سننذر للوطن أرواحنا وأموالنا وعلى أن شعارنا سيكون دوما (الاتحاد والنظام والعمل) والله على ما نقول شهيد والله أكبر، عاشت الجمهورية ... والله أكبر والعزة لمصر".

ثم يصف عادل حمودة مشهدا من مشاهد النهاية الفاجعة: ثم حانت الساعة الفاصلة في نوفمبر 1954 عندما فوجئ الرئيس وهو يدخل قصر عابدين بضباط البوليس الحربي، وإذا بهم يقتادونه إلى فيلا قديمة في ضاحية المرج أقصى شرق القاهرة، على وعد بأن يعود بعد أيام، ولكنه ظل حبيس هذه الفيلا حتى عام 1982، إلى أن نقلوه إلى شقة أكثر ضعة لحين وفاته عام 1984.

لم يجد أول رئيس جمهورية مصري من سلوى إلا تربية القطط والكلاب .. طيلة 30 عاما هي فترة إقامته الجبرية في منزل بعيد بضاحية المرج، منع من مقابلة أحد حتى ظل لسنوات عديدة يغسل ملابسه بنفسه، حتى سمح له جنوده "ضباط الثورة" بخادم عجوز يرعاه، ولم يقفوا معه عند الحد بل تفننوا في إيلامه وتعذيبه، وانسحب ذلك على أسرته أيضا وتلك مأساة أخرى، فابنه الأكبر "فاروق" اتهم بمعاداة النظام بعد أن افتعل معه أحد أفراد الشرطة مشاجرة وزج به في السجن ليتعرض لأقسى ألوان التعذيب النفسي والجسدي ثم يخرج ليموت كمدا وقهرا.

والابن الأوسط "علي" الذي كان يكمل دراسته بألمانيا، ويقوم بنشاط هام في الدفاع عن القضية العربية وعن مصر ضد من يهاجمونها، اتهم من قبل أصدقاء والده القدامى الذين لم يعجبهم أمره بأنه يريد أن يعيد صورة والده إلى الأضواء، وقتل في بلاد الغربة وأحضروا جثته، ومنع الأب رغم توسلاته من شهود دفن ابنه أو الصلاة عليه، ولم يتبق له من الدنيا سوى ابنه الأصغر يوسف الذي تعثر في دراسته، وحصل على شهادة متوسطة ثم التحق للعمل بالحكومة، وتم فصله بقرار رئاسي (!!) ولم يجد أمامه إلا أن يعمل سائقا للتاكسي.

انتهت شهادة عماد مطاوع .. والقلب يصرخ: ما سر كل هذه القسوة والدموية؟

إن كان جمال عبد الناصر يريد الانفراد بالسلطة فلماذا تعذيب الرجل وقد نال ما يريد .. ولماذا كل هذا الازدراء من هيكل للرجل حين أراد أن يتكلم؟

شهادة أخرى في مجلة آخر ساعة العدد: 3490 ترويها ابنة المصور حسين الرملي: "كان والدي من الأشخاص المعدودين من الزائرين لمحمد نجيب، رغم إجراءات الزيارة المعقدة من الحرس .. وهذا غير أن نجيب نفسه كان يرفض مقابلة الناس، لأنه كان متعبا نفسيا، ولكنه كان يستريح عندما يشاهد والدي لدرجة أن والدي يكاد يبكي بعد كل زيارة لنجيب .. لأنه كان يشدد على والدي قائلا:

ودهم وكلمهم واتصل بيهم يا حسين ... ومن الأشياء التي كانت مؤثرة في نفس الرئيس محمد نجيب في المعتقل ... هو تصرفات الحرس المستفزة ومراقبتهم الدائمة لتحركاته التي وصلت في بعض الأحيان، أنهم كانوا يراقبونه، وهو يدخل الحمام ... يتحدث عادل حمودة في صحيفة البيان 6/ 7/ 2002 فيكشف لنا بعدا آخر للمأساة.

اليوم الأول لاعتقاله أحس محمد نجيب بأنه ألقي في الجحيم .. فقد سبقه أحمد أنور قائد البوليس الحربي إلى الفيلا .. ووزع 20 نقطة حراسة قوية ... حول السور ... وفوق السطح وبين الحجرات .. وكان تسليح الجنود ... مدافع رشاشة وقنابل يدوية ... ومدافع صغيرة .. وراح أحمد أنور يتصرف في تلك اللحظة وكأنه قائد يدير معركة حربية شرسة ... وفي تلك اللحظة أيضا سارع الجنود بتجريد الحديقة من أشجارها وبتجريد الفيلا من أثاثها ... وبتجريد محمد نجيب من أوراقه وكتبه وتذكاراته ... وكل ما سمحوا له به هو وزوجته وأولاده: ثلاث حقائق بها ملابسهم الضرورية .. لا يملك سوى أن يحاول كتابة مذكراته ... لكن ... حتى هذه لا يمكن منها.

وفي يوم السبت 20 نوفمبر كتب: "أنا اليوم أفضل ... حاولت ممارس ة رياضتي الصباحية لكن تعرضت لسخرية لم أحتملها من الضباط والجنود الذين يراقبونني".

وفي اليوم التالي: "تليفون من أنور أ؛مد سبني فيه بأفظع الألفاظ" .. وفي يوم الثلاثاء 23 نوفمبر كتب: "فوجئت بمجموعة من الحرس يدخلون علينا الحجرة التي أجلس فيها أنا وزوجتي ويجلسون بيننا .. حاولت أن أثنيهم عن ذلك ... عملوا ودن من طين وودن من عجين".

وفي اليوم التالي كتب: "لا أجد وسيلة أدافع بها عن أسرتي سوى أن أصلي وأقرأ القرآن وهذا ما جعلني لا أترك سجادة الصلاة ولا المصحف طوال هذا اليوم".

وكتب يوم الجمعة 28 نوفمبر: "سبني صلاح سالم وقال عني إنني مصاب بالشذوذ .. إلى هذا الحد وصل مستوى هؤلاء الذين رفعتهم من رتبة الذل إلى رتبة السلطة والنفوذ .. لو في البلد قانون محترم ما تجرأ أمثال صلاح سالم على أن يقول مثل هذا الكلام ولا حتى أقل منه ... لكني واثق أن الله سيريني فيهم يوما".

ينشر عادل حمودة أيضا بعض هذه النسخ من خطابات نجيب التي أرسلها إلى جمال عبد الناصر يطلب فيها أن يشارك في [[حرب السويس عام 1956]] على أن يعود بعدها إلى منفاه .. وخطاباته إلى عبد الحكيم عامر يشكو فيها مما يلقاه من معاملة الضباط الصغار .. وقد لخصها في تلغراف قال فيه: السيد المشير عبد الحكيم عامر – النائب الأول لرئيس الجمهورية – القاهرة: أرجو من سيادتكم إرسال مندوب يرى بعينه ما نحن فيه من آلام واعتداءات – التوقيع اللواء محمد نجيب ... العنوان قصر المرج قسم المطرية .. التليفون 86959 أو 8697575 والتاريخ: 11 أكتوبر عام1965.

وفي مقال آخر بنفس الصحيفة يوم السبت 13 يوليو 2002 يكتب عادل حمودة أن محمد نجيب كان يرسل برقيات التهنئة إلى جمال عبد الناصر في كل المناسبات القومية والشخصية.

ويذكر أيضا أنه - أي محمد نجيب – ذهب إلى جمال سالم (واحد من مشاهير الضباط الأحرار) لتعزيته في وفاة شقيقه صلاح سالم (عضو مجلس قيادة الثورة اشتهر بتجاوز الحدود الإنسانية مع خصومه) ... يقول محمد نجيب: وقد فوجئ بحضوري وتساءل مندهشا: هل أنت الرئيس نجيب؟ .. وهززت رأسي .. فاستطرد متأثرا: هل تعزيتي في صلاح بعد كل ما فعلنا فيك؟ .. فقلت له: الواجب واجب يا جمال ... وقبل ذلك زرت صلاح سالم وكان مريضا قريبا من الموت وعندما رآني أجهش بالبكاء .. وأمام أهله وحرسه قال: سامحني يا نجيب لقد حركنا الشيطان الرجيم ضدك ... ووجدت نفسي صامتا عاجزا عن حبس دموعي ..

يقول عادل حمودة:

إن صلاح سالم الذي راح محمد نجيب يزوره مريضا ويقرأ الفاتحة عليه ميتا كان قد تخصص في التشهير به .. وادعى عليه ما لا تحتمله رجولة رجل.

كلمات محمد نجيب ورسائله تفتت الصخر.

لكن هناك قلوبا أشد من الصخر قسوة.

ولم يكن الإفراج عنه يمثل أي خطورة بعد أن قام الجهاز الإعلامي الجبار بغسيل مخ الناس.

يا محمد حسنين هيكل .. ألم يقع في يدك وأنت تجمع أوراق الثورة والوطن والتاريخ وجمال عبد الناصر .. ألم يقع في يدك خطاب محمد نجيب إليه عام 1956 والرجل يتوسل ... ويتذلل كي يفلت من الورطة التي أوقعته فيها بطولته وسلامة طويته واستراتيجية جمال عبد الناصر للانفراد بالسلطة ... وتأييدك لكل هذا يا محمد حسنين هيكل ؟!

ألم يقع في يدك يا محمد حسنين هيكل خطاب أرسله له محمد نجيب من بلدة أطلق عليها اسم "س" في الصعيد كان قد خطف إليها أثناء حرب السويس بعد أن تردد أن بريطانيا ستنزل بالمظلات فوق بيته في المرج وتفرضه مرة أخرى رئيسا للبلاد بعد أن تتخلص من جمال عبد الناصر ... أما وصفه المكان ببلدة "س" فسببه أنه لم يكن يعرف إلى أين حملوه بالضبط؟

يقول خطاب محمد نجيب:

شخصي وسري جدا وعاجل وهام ... بسم الله الرحمن الرحيم .. بلدة س ... في يوم الاثنين 2 ربيع الثاني 1376 الموافق 5 نوفمبر 1956 إلى السيد الرئيس جمال عبد الناصر : السلام عليكم ورحمة الله وبعد .. فلست هازلا أو محاولا الدعاية لنفسي أو أن أتخلص من الوضع الذي أنا فيه ولكني مؤمن بصدق ما أقول لما تعلمه عني من أخلاقي ومن ميزاتكم الفريدة والقدرة على معرفة الرجال كما أن أي رجل شجاع أو وطني صميم يستطيع بسهولة أن يؤمن بصدق ما أسطره إليكم الآن ...

أريد أن نضرب للمواطنين بل للعالم أجمع مثلا جديدا على إنكار المصريين لذواتهم وعلى تضحيتهم بكل شيء في سبيل الوطن ... أريد أن ننسى كل شيء ونقف رجلا واحدا ندافع عن شرف مصر في هذه الساعة الحرجة من تاريخنا ... أريد أن تأمر بتمكيني من أعز أمنية وهي المشاركة في أقدس واجب وأشرفه وهو الدفاع عن البلاد ... لا كقائد أو ضابط بل كجندي عادي في جبهة القتال وباسم مستعار وتحت أية رقابة تشاءون دون أن يعلم أحد بذلك إلا من تقضي الضرورة بعلمهم.

وإني تأكيدا لإخلاصي أقول إنه لو خامركم أدنى شك فيما ذكرت فإني مستعد للقيام بأي عمل انتحاري كقيادة طوربيد أو أن أسقط محاطا بالديناميت على أي هدف مهم من أهداف العدو على نمط ما يصنعه اليابانيون ... وإني أؤكد لك أني إذا بقيت حيا بعد القتال فسأعود وأسلم نفسي لإعادتي إلى الاعتقال وأعدكم بأثمن ما أملك وهو شرفي العسكري فإذا أجبتم رجائي هذا غسلتم كل ما لحقني من آلام ... والسلام عليكم – المخلص لواء أ. ح. ...محمد نجيب "توقيع".

هل هو مهم الآن أن نروي قيام أحمد أنور بضربه بالحذاء وهو رئيس للجمهورية (ضرب المجرم أحمد أنور أيضا رموزا لمصر بحذائه منهم الشهيد عبد القادر عودة وأحمد حسين وعمر التلمساني) .. هل مهم الآن أن نعود إلى عام 56 حين فوجئ محمد نجيب بحضور ضابطين من البوليس الحربي هما جمال القاضي ومحمد عبد الرحمن نصير ليطلقا عليه سيلا من الشتائم ... ويصف محمد نجيب ما حدث: حاولت وقفهما بصرخة احتجاج فإذا بضابط منهما يرفع يده إلى صدري ويلكزني فيه، ودارت بي الدنيا وهانت علي الحياة وهممت بالهجوم عليه لكن أيدي الجنود حالت بيني وبينه. يتدهور الحال بالسيد الرئيس محمد نجيب الذي بايعه جمال عبد الناصر ... فيكتب استرحاما إلى المجرم أحمد أنور الذي ضربه بالحذاء وهو رئيس للجمهورية لصالح عبد الناصر ...عندما اختطفوه إلى الصعيد أثناء العدوان الثلاثي ذهبوا به إلى بيت شقيقة أحمد أنور ... وبقي هناك في غرفة رطبة 51 يوما تحت حراسة مشددة كانت تنام معه داخل الغرفة .. وكثيرا ما كان جنود الحراسة يقولون له إنه سيقتل الليلة وعليه أن يقرأ الفاتحة على روحه.

يقول محمد نجيب: ولم أكن أشعر بالخوف من هذا الكلام بل على العكس كنت أتمنى الموت فعلا ولكني كنت أرفض الانتحار.

أيامها راجت نكتة حزينة دامية ...تقول النكتة: وفي السجن التقى ثلاثة لا يعرفون بعضهم وبدوءا الحديثة لتمضية الوقف فسأل أحدهم الأول حول سبب سوقه إلى السجن فقال لأنه شتم محمد نجيب ... وسأل هذا الشخص السجين الثاني عن سبب وجوده في السجن فقال لأنه حيا محمد نجيب، وحينما سأل الاثنان الثالث عن سبب وجوده في السجن أيضا أخبرهم بأنه هو محمد نجيب.

لم يكن محمد نجيب من الإخوان المسلمين، ولا هو يمثل الشخصية التي نندم بشدة عليها فقد كان عسكريا مثلهم .. وعندما علم أن أحمد حسين يخطب خطبا حماسية أمر بوقفه بأي طريقة لأن الشعب المصري "لا يحكم إلا بالكرباج".

كان جمال عبد الناصر قد استخدم كل أنواع الحيل بل والغدر كي يصفي كل معارضيه في الجيش وليضمن ولاءه.

وحاول محمد نجيب رئيس الجمهورية أن يعادل قوة الوفد بقوة الإخوان ... كانت مصر قد فقدت عقلها وضميرها وقدرتها على الحكم والتمييز والمقاومة ... وكان الإخوان – ومعهم نجيب – قد أخطئوا خطأ العمر حين لم يستولوا تماما على الحكم في 27 فبراير 1954 .

كانت الفرصة التي لا تلوح إلا مرة ... وقد ضاعت بسبب تردد محمد نجيب وسذاجته ... وبسبب سلامة نية الإخوان والتزامهم الديني الذي يمنعهم من الخيانة والغدر ... وكان الطرف الآخر يخون ويغدر ويخدع حتى سحقهم جميعا ... واعتقلهم ... وسجنهم وحاكمهم مجنونه جمال سالم وأعدمهم ...

يصف الأستاذ عمر التلمساني أحوال السجون والمعتقلات في تلك الفترة فيقول:

لقد كان الضباط في أجهزة الأمن والسجون يجمعون معلومات من هنا وهناك ثم يطلبون من الأخ المعتقل أن يكتبها بخط يده ويعترف بأنه ارتكب أفعالا معينة فمن رفض كان يعذب حتى الموت ... فقد مات كثيرون بل عشرات من الإخوان من التعذيب للاعتراف بمسائل لا يعلمون عنها شيئا ولا دراية لهم بها ... حقا لقد حصل تعذيب في الحصول على الاعترافات بالغ الشناعة فيما يختص بالإخوان البعض استجاب والبعض الآخر لا يدري شيئا ولا يعلم شيئا فمات من التعذيب".

وامتد التخطيط المرسوم بدقة ليكمل الصورة ففي الجلسات الأولى للمحكمة الصورية ورد اسم – أو أريد لاسم محمد نجيب أن يرد – في خلال مناقشة المحكمة لأقوال هنداوي دوير المحامي وأن هناك اتفاقا تم بين محمد نجيب والإخوان أن يقوم محمد نجيب بمسايرة الإخوان بعد اغتيال الرئيس عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة وفي نفس اليوم أطاح عبد الناصر بآخر وجه كان ينافسه الشعبية الجماهيرية وصدر قرار مجلس قيادة الثورة بتنحية محمد نجيب من رئاسة الجمهورية وإبعاده من مجلس قيادة الثورة لينفرد عبد الناصر بحكم البلاد دون منافس أو معارض واحد.

أما ما دار في "كواليس" هذه المهزلة التي سميت محاكمة فهناك الكثير كانت أسئلة المحامين تستهدف إدانة المتهمين وليس الدفاع عنهم وإيجاد الثغرات والظروف المخففة لهم ... ووجه جمال سالم من ألفاظ السباب ما يعف اللسان عن ذكره وكان يكره بعض المتهمين على الاعتراف بالتهديد ولم يكن يسمح لمتهم أن يلتقي بمتهم آخر وكان يسمح للجمهور الذي يحضر المحاكمات أن يشارك المحكمة في ممارس ة السخرية والاستهزاء بالمتهمين.

أما صحافة تلك الفترة فكانت صحافة موجهة مزيفة للحقائق فقد أفاضت في ذكر الاتهامات وإلصاقها بقيادات وأعضاء الإخوان وتبارت فيما بينها في توجيه أفظع السباب والشتائم لجماعة الإخوان ولم تنشر سطرا واحدا من محاورات الدفاع وإنما كانت كل مساحتها مخصصة للادعاء ... والقول بأن محاولة اغتيال عبد الناصر كانت جزءا من مخطط شامل أو مؤامرة كبرى للإطاحة بنظام الحكم والقضاء على "الثورة".

كانت تلك الصحف هي الأم الشرعية لصحف الخيانة والكذب والدعارة والمخدرات والشذوذ التي تنتشر بيننا الآن ... في القرن الحادي والعشرين.

سوف نوافق جدلا على ما حدث للإخوان المسلمين ..فلماذا حدث للوفد ما حدث ...ولماذا حدث لمحمد نجيب ما حدث؟

نحن أمام شهوة هائلة للانفراد بالسلطة.

شهوة عارمة لا تبقي ولا تذر ...شهوة عاقلة تحمل فكرا استراتيجيا مخططا بمهارة عرف قبل أن يبدأ خطوته الأولى ماذا ستكون خطوته الأخيرة ... مهما كانت التفاصيل والعقبات والعوائق ...

يقول جمال حماد :

"وفي الوقت الذي تمت فيه تصفية العناصر المنافسة والمناوئة من العسكريين وخلا الجو تماما لعبد الناصر داخل القوات المسلحة بفضل مؤازرة صديقه الحميم عبد الحكيم عامر القائد العام كانت الخطة تنفذ بدقة ومهارة لإحكام السيطرة على الساحة السياسية في مصر عن طريق الإطاحة بكل القوى السياسية التي كانت موجودة على المسرح عند قيام الثورة في 23 يوليو 1952 صدر القرار بحل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة جميع أموالها لصالح الشعب وقيام فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات وفي 18 يناير 1953 ولحماية حركة الجيش من رقابة القضاء صدر مرسوم بقانون باعتبار التدابير التي اتخذها رئيس حركة الجيش لحماية الحركة ونظامها من أعمال السيادة العليا أي لا تخضع لرقابة القضاء وفي 15 فبراير 1953 صدر الإعلان الدستور ي بإعلان الدستور المؤقت الذي تقرر أن تحكم مصر بموجبه خلال فترة الانتقال.

وفي مطلع عام 1954 لم يكن باقيا في الساحة السياسية في مصر سوى جماعة الإخوان المسلمين التي أسهمت بدور بارز في مؤازرة حركة الجيش قبل قيامها وكذا بعد قيامها مما دعا قيادة الحركة إلى عدم تطبيق قرار مجلس الثورة الذي صدر في 16 يناير 1953 بحل الأحزاب على جماعة الإخوان المسلمين ... ولكن الخلافات العميقة التي نشبت بين مجلس الثورة وجماعة الإخوان المسلمين أدت إلى صدور قرار المجلس في 14 يناير 1954 باعتبار الجماعة حزبا سياسيا ورضوخها بالتالي لقرار حل الأحزاب الذي صدر منذ عام سابق وترتب على ذلك القرار حل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها وممتلكاتها والزج بقادتها في أعماق السجون.

وعندما اشتد الصراع بين عبد الناصر ومحمد نجيب وأعلن مجلس الثورة قبوله لاستقالة محمد نجيب يوم 25 فبراير 1954 لعب الإخوان المسلمون رغم حل جماعتهم دورا بارزا في إعادة محمد نجيب إلى السلطة مساء 27 فبراير عن طريق المظاهرات الشعبية الضخمة التي نجحوا طوال اليوم في حشدها وفي تولي قيادتها في شوارع القاهرة وميادينها خاصة ميدان عابدين.

وقد اضطر مجلس الثورة تحت الضغط الشعبي وتحت ضغط الرأي العام في الجيش خاصة في سلاح الفرسان إلى إصدار قرارات 5 و 25 مارس الديمقراطية التي تقرر فيها عودة الحريات والأحزاب والحياة الدستور ية إلى البلاد ... ولكن عبد الناصر مع طائفة من زملائه كانوا يأتمرون للنكوص عن هذه القرارات والاستمرار في الحكم العسكري وكان خوفهم الوحيد "أن تتكرر المظاهرات الشعبية الضخمة التي ملأت شوارع القاهرة يوم 27 فبراير والتي تزعمها بعض قادة الإخوان المسلمين للمطالبة بعودة محمد نجيب وعودة الحياة الديمقراطية مما كان كفيلا بإفشال المخطط الذي دبروه وهو قيام مظاهرات مأجورة تجوب شوارع العاصمة للهتاف ضد الديمقراطية والحريات والمطالبة بتراجع مجلس الثورة عن قراراته ...ونظرا لأن الإخوان المسلمين كانوا هم القوة الوحيدة المنظمة والتي كان عبد الناصر يخشى من تواجدها في الشارع لذلك قام بلعبة بارعة لكي يضمن سكوت الإخوان المسلمين وابتعادهم مؤقتا عن حلبة الصراع فقد تم الإفراج عن زعمائهم المعتقلين وهرع عبد الناصر إلى زيارة المرشد العام حسن الهضيبي عقب الإفراج عنه في منزله بعد منتصف الليل ومضى في سياسة التهادن مع الإخوان المسلمين بمنحهم الوعود عن قرب استئنافهم لنشاطهم السياسي ريثما تم إلغاء قرارات 5 و 25 مارس الديمقراطية والتخلص من الجبهة المعارضة للدكتاتورية العسكرية داخل الجيش، والمتمثلة في ضباط سلاح الفرسان ثم تحجيم زعامة ودور محمد نجيب بإرغامه على الاكتفاء بتولي منصب رئيس الجمهورية بدون سلطات حتى تم في النهاية تنحيته عن منصبه بعد بضعة أشهر ... وسرعان ما ظهرت نوايا عبد الناصر الحقيقية تجاه الإخوان المسلمين بعد أشهر ثلاث فقط من سياسة الملاينة والمهادنة التي اتبعها معهم فلم يكد يدبر حادث محاولة الاعتداء على حياته في مساء 26 أكتوبر 1954 خلال الاحتفال الكبير الذي أقيم في ميدان المنشية بالإسكندرية بمناسبة توقيع اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا والذي اتضح أن الذي قام به عامل يدعى محمود عبد اللطيفينتمي لجماعة الإخوان المسلمين حتى كشف عبد الناصر عن خبيئة نواياه وتعرضت الجماعة لمحنة دامية لم يسبق لها مثيل، فقد قامت على أثر الحادث حملة اعتقالات واسعة النطاق شملت عدة آلاف من الإخوان المسلمين وتشكلت محكمة عسكرية سميت بمحكمة الشعب برئاسة جمال سالم وعضوية محمد أنور السادات ولحسين الشافعي وأصدرت المحكمة حكمها بالإعدام شنقا على سبعة أفراد هم المرشد العام حسن الهضيبي ومحمود عبد اللطيفوعبد القادر عودة ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب وهنداوي دوير ومحمد فرغلي وقد خفف الحكم على حسن الهضيبي إلى السجن المؤبد لكبر سنه ومرضه بينما نفذ حكم الإعدام في الستة الآخرين ... وكانت ثلاث دوائر عسكرية فرعية من محكمة الشعب قد تشكلت في نفس الوقت ومثل أمامها في قفص الاتهام آلاف من الإخوان المسلمين وبلغ عدد الذين حكمت عليهم محاكم الشعب من الإخوان 867 شخصا سواء بالحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة ... وهذا العدد لا يشمل الأحكام العسكرية ... كما لا يشمل أحكام البراءة التي لم تنفذ فظل الأبرياء في السجن ... يسخرون من حالهم فيقولون إنهم قد حصلوا على حكم: "بالبراءة مع وقف التنفيذ".

التسلسل عبقري وسواء كان حادث المنشية مدبرا أو مصطنعا ... وسواء دبره محمود عبد اللطيفأو جمال عبد الناصر نفسه أم خبير في المخابرات الأمريكية ... وحتى لو لم يحدث قط .. لم يختلف التسلسل في أي شيء.

راقبوا يا قراء ولاحظوا ..أنتم لا تتعاملون مع أفعال وردود أفعال بل تتعاملون مع خطط سابقة التجهيز تتلمس لها الذرائع فإن لم توجد اختلقت ... وإلا فهل كان الحمار المالطي سبب احتلال مصر أكثر من سبعين عاما؟ هل كانت أسلحة الدمار الشامل سبب غزو العراق؟

هل كان جرح الدبلوماسي الإسرائيلي في لندن عام 82 سبب غزو لبنان ؟

لدينا شاهدان ومن الضباط الأحرار يؤيدان ما نقول ويتفقان معا من أن سحق الإخوان كان لا مفر منه. في برنامج قناة الجزيرة الشهير: "شاهد على العصر" يسأل المذيع والصحافي أحمد منصور السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية الأسبق عن سبب اشتراكه في الحكم بالإعدام على الشهيد عبد القادر عودة رغم أنه لم يكن ثمة شبهة عليه في حادث المنشية .. ويجيب لحسين الشافعي:

"تعلم أن الذي يضع نفسه في موضع شبهة في ظروف ثورية، لا بد أن يكون مستعدا أن يلقى شيئا يتجاوز حدود الذي قام به، لأنه أن يقف في الشرفة إلى جانب (محمد نجيب) في المرحلة التي كانت فيها الأزمة ... ويرفع عصا عليها منديل مخضب بالدماء في (عابدين) في استقبال المظاهرة التي كانت موجودة ، هذا في حد ذاته عمل كبير جدا، يضع نفسه موضع شبهة، قد يكون الجزاء فيها استشعارا لخطر هذا المظهر بالنسبة لردود فعله".

وهذا اعتراف كامل من لحسين الشافعي بأن الشهيد عبد القادر عودة قد أعدم بسبب شعبيته الطاغية وسيطرته على الجماهير.

هذا اعتراف كامل من عضو محكمة خارجة على الشرعية تحاكم وتعدم رجلا لأنه ساعد رئيس الجمهورية محمد نجيب ... هذا إرهاب وإجرام .. وهذه عصابة ...لكنه ليس إرهاب الإخوان المسلمين بل إرهاب الضباط الأحرار الذين انقلبوا على الشرعية وعلى رئيس الجمهورية ...وسينتظر جمال عبد الناصر ثلاثة عشر عاما حتى يقولها بنفسه: "البلد كانت بتحكمها عصابة" وكان يقصد مجموعة المشير وصلاح نصر.

لكن هؤلاء لم يكونوا سوى جزء من العصابة ...نعود إلى لحسين الشافعي .. يسأله أحمد منصور:

بعد 45 عاما من المحاكمة، أنت ترى أن (عبد القادر عودة) حوكم – في هذه المحكمة – على موقفه الذي وقفه من قبل؟

حسين الشافعي:

على كل حال، المرء يقول إنه في الثورات يمكن أن تحدث أمور فيها تجاوزات ... (...).

أحمد منصور:

هناك شخصيتان ممكن حكم عليهم بالإعدام، كانا مطلوبين من البريطانيين بسبب بطولاتهم في حرب (فلسطين)، وفي المقاومة المسلحة في عام 1950 ...ولا يحير الشافعي جوابا ... فيدافع عن نفسه بكلمات عامة ... لكن هذه الكلمات العامة كانت كارثة أخرى ... فهو يشبه الثورة بالشمس .. لها فلكها ومدارها ... وما دامت قد بزغت فليس مسموحا لأي كوكب آخر أن يظهر معها وإلا كان ككوكب يخاطر بالاصطدام مع الشمس وعليه أن يتحمل نتائج مخاطرته ...الحوار يوجز الأمر:

لحسين الشافعي (مقاطعا):

على أن الناس تعرف أن هناك فلك واحد لا بد أن تمشي فيه ...

أحمد منصور (مقاطعا):

والذي لا يريد أن يسير في إطار هذا الفلك؟

حسين الشافعي:

إذن يعمل فلكا جديدا، ويصطدم، وإذا اصطدم لا بد أن يتحمل مسئولية اصطدامه أحمد منصور:

الآن – سعادتك – تستند للأسانيد الإيمانية في هذا الأمر، وهناك – أيضا – بعض المراقبين أو المحللين – ربما يكونون من المستقلين – الذين يقولون إنه لم تحدث عملية قتل أصلا، فكيف يقتل ستة أفراد دون أن يكون هناك دم بدم، أو نفس بنفس؟

حسين الشافعي:

هذا رأيك، فأنت وما ترى.

أحمد منصور:

لا ... أنا أسأل سعادتك، وليس رأيي أنا، أي – الآن – النفس بالنفس، (وعبد الناصر ) لم يقتل، وحكم بالإعدام على ستة، وأعدموا بالفعل في ظل مقياس النفس بالنفس، أنا نفسي أسمع شهادتك للتاريخ بنفس الوضوح الذي تتحدث به سعادتك، أنا أعرف أن هذا أمر قاس، لكن أنا أكرر شكري لك على أنك قبلت أن تتحدث فيه، وفي نفس الوقت أمل أن تقول شهادتك فيه التي ستسأل عنها أمام الله - سبحانه وتعالى؟

حسين الشافعي:

والله، نحن سنحاسب لا بواسطة (قناة الجزيرة)، إنما هو الله، هو الذي سيحاسبنا، وما حدث لظروف واعتبارات تضع مصلحة الوطن والبلد في الاعتبار الأول، و"اللي يشيل قربة مقطوعة، تخر على دماغه".

يا إلهي ..اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك من أي كلمة تقريظ كتبتها في لحسين الشافعي ببسبب موقفه من السادات ومن مبارك ...أستغفرك وأتوب إليك ...خالد محيي الدين كان أكثر اختصارا ووضوحا:

"تصفية الجماعة كانت أمرا لازما لأن الثورة بقيادتها وحكمها لا يمكن أن تقبل أبدا بوجود قوة أخرى معها خصوصا وأن تلك القوى المسلحة .. وأي حاكم كان يجب أن يفعل ذلك ... الإخوان لا يريدون أن يفهموا ذلك ولا يريدون أن يفهموا وضعهم الآن".........حديث منشور في مجلة فلسطين.

بقي أن نستمع إلى شهادة أخرى للأستاذ أحمد حسين (نشرتها صحيفة الشعب في مذاكرته عام 1982) ... يقول أحمد حسين:

نحن الآن في عام 1955 أفرج عني وتنازلت عن القضية ولكنني ظللت مجروحا فلم يحدث في كل تاريخي النضالي أن أهنت كما أهنت واعتدي علي كما اعتدي علي في ظل الثورة ووقعت الواقعة: أطلق الرصاص في ميدان المنشية على جمال عبد الناصر وكان الضارب يدعى محمود عبد اللطيفمن الإخوان المسلمين وعلى الرغم من أن عبد الناصر نجا فقد ظن أنه أصيب في مقتل وراح يثرثر بكلام فارغ يكشف عما في عقله الباطن ... فراح يخاطب الشعب بقوله: غرست فيكم العزة والكرامة ... واستغل هذا الحادث للبطش بالإخوان المسلمين وتألفت محكمة خاصة لمحاكمتهم وقضت على زعمائهم بعقوبات قاسية وعلى الرغم من أن واحدا منهم وهو عبد القادر عودة ... كان مسجونا قبل وقوع الحادث فلم ينج من عقوبة الإعدام وفزعت من هول المحاكمة .. ومن فظاعة أحكامها، وأدركت أننا أصبحنا نعيش في ظل عهد جديد ... حيث لا قانون ولا حدود وإنما إرادة الحاكم ومطلق مشيئته ... فقررت أن أهاجر من مصر ... وإذا كان الوقت هو موسم العمرة، فقد قررت أن أسافر إلى السعودية طلبا للعمرة ... ومن السعودية أختار البلد الذي أتوجه إليه ... وإمعانا في التمويه والتعمية طلبت مقابلة عبد الناصر لأستأذنه في السفر ... وبالرغم من أنني كنت مقررا أن لا أتحدث في غير التحيات والسلامات والمجاملات العادية ... فقد كان هو الذي دفعني للكلام ... حيث لم أتمالك نفسي عن نقده ... سألني وما رأيك في الإخوان المسلمين؟ .. قلت: إنك تعرف رأيي أقصد الموقف الأخير ... ووجدتني أندفع بلا وعي أندد بإعدام عبد القادر عودة ... قلت: لقد كان باستطاعتك أن توفر 50% من النقد الذي وجه إليك لو وفرت حياة إنسان واحد وأسرع يقول: تقصد عبد القادر عودة؟ .. قلت نعم فإن عبد القادر عودة بريء من الحادث الذي وقع عليك، كما أنه بريء من أعمال العنف ومضيت أترافع في حماسة! ... هناك ثلاثة أدلة يكفي كل واحد منها لتبرئة عبد القادر عودة ... وقد ثبتت كلها أمام المحكمة:

الأول: أنه كان سجينا قبل وقوع الحادث بعدة أسابيع.

الثاني: أنه اقترح بعض الأعضاء القيام بمظاهرة مسلحة، فاستنكر عبد القادر عودة هذا الاقتراح بشدة.

الثالث: أن البعض اقترح بمظاهرة سلمية فرفض عبد القادر عودة القيام بأية مظاهرة.

وأصغى جمال عبد الناصر لمرافعتي ثم قال:

والله يا أحمد نحن لم ننظر للأمر من الناحية القانونية، بل نظرنا إليه من الناحية السياسية.

غادرت مصر إلى السعودية ، وأنا لا أكاد أصدق أنني هربت من الجحيم الذي أصبح الأبرياء فيه يعدمون لأسباب سياسية ... وبعد أن أديت مناسك العمرة وجاء وقت الرحيل رحلت ولكن لا إلى مصر بل إلى سوريا ...إنني أحترم المجاهد أحمد حسين كثيرا لكنني لا أوافقه فيما ذهب إليه ...لقد كان قتل الشهيد عبد القادر عودة جريمة ..وكذلك قتل الآخرين جميعا ... ومن قتل نفسا منهم فكأنما قتل الناس جميعا ...إعدام عبد القادر عودة إذن كان لسبب سياسي ...حياة إنسان تنهى لسبب سياسي ...قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق تهدر لسبب سياسي ... والسؤال هو: لا ..ليس سؤالا ..إنها إجابة ...لقد دبر حادث المنشية كله لهدف سياسي ...

يقول الأستاذ عباس السيسي في كتابه "حكايات عن الإخوان":

"وهم الذين رسموا له خطة تصفية الإخوان المسلمين من خلال حادث إطلاق الرصاص عليه في ميدان المنشية بالإسكندرية قبل نهاية 1954 ، أو المسرحية المرسومة دون إتقان للقبض على عشرات الآلاف من أبناء الإخوان المسلمين، وأنا أكتب هذا الكلام دون أن يكون لي أدنى ارتباط بهم .. ولكن ما حدث بعد إطلاق الرصاص أثار الشعب بأكمله، فالمفروض أن يتم القبض على مدبري الحادث والمحرضين عليه ... خمسة، عشرة، خمسين رجلا، وليس الإخوان المسلمين بأكملهم ... ومن هنا قال الشعب المصري والمراقبون اليقظون: "ليس هذا بتصرف غاضب بل تخطيط للتصفية! "تماما كما فعل (هتلر) حين أمر أعوانه بحرق البرلمان الألماني".

نعم تخطيط للتصفية ...تخطيط استراتيجي عبقري كانت آخر خطوة فيه محسومة قبل الشروع في الخطوة الأولى ...هل كان جمال عبد الناصر يجرؤ على كل هذا العبث بالدستور لولا حادث المنشية.

هل كان جمال عبد الناصر يجرؤ على أول استفتاء في التاريخ ينجح فيه الحاكم بنسبة 99.99% لولا حادث المنشية ...وهل كان ممكنا أن تنشر الأهرام موضوعاتها الداعرة في تمجيد ذلك كله لولا حادث المنشية ...سوف نعود إلى جمال حماد ليحكي لنا عن المصائب التي جرت:

"وفيما يتعلق بالدستور كانت لجنة خاصة قد شكلت بقرار من مجلس الثورة في 13 يناير 1953 لوضع مشروع دستور جديد بعد إلغاء دستور عام 1923 وقد روعي في تشكيل اللجنة التي ضمت 50 عضوا أن يمثل أعضاؤها مختلف الأحزاب والطوائف والهيئات علاوة على أن يكون من بينهم طائفة من جهابذة رجال القانون في مصر .. واستمرت هذه اللجنة التي كان يرأسها علي ماهر هي ولجانها الفرعية تعمل عملا دانيا لمدة عامين كاملين حتى انتهت من إعداد مشروع دستور جديد يتمشى مع أحدث وأفضل الدساتير في العالم وأقرته اللجنة الفرعية للصياغة وأحيل في 17 يناير 1955 إلى رئيس مجلس الوزراء وقتئذ جمال عبد الناصر لاستطلاع رأيه قبل عرضه على اللجنة العامة تمهيدا لإصداره ... ولكن عبد الناصر تجاهل هذا الدستور الذي أنفقت لجنة الدستور عامين كاملين في إعداده والتي استرشدت في صياغته بأبرز وأهم النظم الدستور ية في العالم واكتفى بأن عهد إلى مستشاره القانوني الخاص محمد فهمي السيد (قريب السيدة قرينته) بوضع دستور آخر بمعاونة المكتب القانوني برئاسة مجلس الوزراء الذي كان يتولى رئاسته ... وبعد دراسة استغرقت بضعة أشهر تم إعداد مشروع الدستور الجديد الذي عرض على مجلس الثورة وعلى مجلس الوزراء ... في أيام 10، 11، 13 يناير وبعد التصديق عليه صدر الدستور الجديد في 16 يناير عام 1956 أي في نهاية السنوات الثلاث التي حددت من قبل كفترة انتقال لإقامة حكم ديمقراطي سليم ... ودعي الشعب إلى استفتاء عام في 25 يونيو 1956 على الدستور الجديد وعلى رئاسة الجمهورية ... وقد حصل عبد الناصر في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية على 99.9% وهي نسبة لم يسبقه لها مثيل من قبل في تاريخ الاستفتاءات في العالم كما كانت نتيجة الاستفتاء على الدستور هي 99.8% في صف الموافقين عليه".

حتى جمال حماد ... وهو ليس من الإخوان المسلمين ولا من الوفد ولا من مصر الفتاة .. بل إنه زميل جمال عبد الناصر ... من الضباط الأحرار ... حتى هو لا يحتمل فيصرخ:

"ولعل خير ما نستدل به على مدى النفاق السياسي الذي كان سائدا في تلك الفترة أن تطلع على ذلك المقال الذي نشر بجريدة الأهرام العدد الصادر في 26 يونيو 1956 الذي نشرت فيه نتائج الاستفتاء بالعناوين الضخمة في صدر الصفحة الأولى وهو بالطبع صورة تكاد تكون طبق الأصل مما نشر في الصحف الأخرى وقد ورد في هذا المقال ما يلي بالحرف:

(فاز الرئيس جمال عبد الناصر برئاسة الجمهورية بنسبة عددية قدرها 5.494.555 وبنسبة مئوية قدرها 99.9% فوز إجماعي ساحق، بل وفوز تاريخي لم يحصل عليه مرشح في أي انتخاب ولم يتح مثله لرئيس أو زعيم ... وفي هذه الأرقام الدليل القاطع والبرهان الدامع على مبايعة الشعب الإجماعية للسيد الرئيس وتقدير جهده وجهاده من أجل مواطنيه وبلاده لا سيما إذا وضعنا في الحساب ما امتازت به هذه الانتخابات من حرية ونزاهة وسرية وهدوء لم تشهدها البلاد في سلسلة حياتها النيابية ... وإذا قورنت هذه النسبة الإجماعية التي فاز بها السيد الرئيس عبد الناصر بما ناله رئيس جمهورية أمريكا أو ألمانيا الغربية أو رئيس وزراء بريطانيا لكانت ضئيلة أمام النسبة التي نالها الرئيس جمال عبد الناصر ... فقد فاز "أيزنهاور" رئيس جمهورية الولايات المتحدة في الانتخابات الأخيرة بنسبة لا تتجاوز 33.86% وفاز "اديناور" رئيس جمهورية ألمانيا الغربية في انتخابات 1953 بنسبة لا تزيد على 86.2% وفاز حزب المحافظين بالحكم في إنجلترا بنسبة بلغت 38.26%، ونال الدستور كذلك موافقة إجماعية بنسبة عددية قدرها 5.488.225 وبنسبة قدرها 99.8% وهي نسبة تبلغ حد الكمال وتدل أرقامها يقظة الوعي القومي وتقديره) انتهى مقال الأهرام.

وبتولي عبد الناصر رئاسة الجمهورية وتصديق الشعب على الدستور الجديد أصبح مجلس قيادة الثورة منحلا وأصبح الناصر هو صاحب السلطة الشرعية في البلاد.

ألا يحدث أبدا أيها القارئ أن ترى شخصا لم تقع عليه عينك قبل ذلك أبدا لتصرخ: أنت أخو فلان أو ابن فلان أو من عائلة فلان ...؟ وتكون مصيبا.

ألم تفكر أيها القارئ أن مذبحة المنشية تمت بصلة القرابة إلى مذبحة المماليك .. وأن مذبحة مؤامرة المشير ومذبحة 15 مايو من نفس العائلة غير الكريمة ... وأن كل هذا ينبع من نفس ينبوع الغدر والخيانة ...ألا يحدث أحيانا أيها القارئ أنك تشهد موقفا فيذكرك بآخر .. وشتان ما بين الموقفين.

هل تذكرون فتاة العتبة التي اغتصبت جهارا أمام المئات .. وأربعمائة ديوث لم يحرك منهم ديوث ساكنا ولم ينتفض منهم لصون العرض أحد ...ألم يذكركم هذا الموقف أيام حدث بموقف الأمة العربية والإسلامية تجاه العراق وفلسطين.

هذه الآلية النفسية التي تقوم مقام الأمثلة في الرياضة والرمز في الأدب والنبوءة في الأسطورة ...ألم تجعلكم هذه الآلية نفسها تربطون ما بين اعتزال هيكل وتنحي عبد الناصر ...نفس الآليات النفسية ...نفس الانهيار ونفس الفشل ...نفس الهزيمة ونفس النكسة ...المشروع العسكري العلماني التحديثي ..والمشروع الفكري .. المشروع الفكري الذي ظل هيكل يكرسه نصف قرن ليحيط به بلاد العرب بسياج العروبة .. هذا المشروع أقصى ما وصل إليه هو تأمين قصر العروبة.

نعم ...تأمين قصر العروبة لشاغليه وأنجاله.

هذا هو الجزء الباقي من الناصرية ومن الضباط الأحرار شئنا أم أبينا ..وفي أحاديث هيكل الأخيرة المفعمة بالأسى واليأس لم يفصح هيكل عن سبب ذلك .. بل الأقرب أن كل ما قاله إنما كان ليخفيه ...لقد كان هيكل شريكا في كل شيء ... في الحرب والسلام والفن .. وأيضا في نصب المشانق والتعذيب ... وكان أسوأ ما فعله أن قدم لنا صورة خيالية تجعلنا الآن نصرخ:

"الثورة .. لم تكن كذلك".

"وهيكل .. ليس كذلك".

وتلك الصورة المثالية الحالمة ليست كذلك.

والبطولة والإبهار والمجد والزعامة والإلهام والفكر والحكمة والقداسة والعصمة والصواب المطلق ونفي الآخر وادعاء أن الآخر كان شيطانا رجيما .. كل ذلك لم يكن كذلك.

نعم .. برنامج صناعة النجم غير الحقيقة وألبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق.

كل ذلك .. لم يكن كذلك ..لذلك فإن هذا الألم الفاجع الذي فاض من محمد حسنين هيكل على قرائه هو أكبر من أن يكون ألم فقط .. إنه ألم آخر .. ألم ضمير ما دام برر الوسيلة بالغاية فلما ضاعت الغاية تبدت بشاعة الوسائل.

ألم ضمير يعرف ما لا نعرف ولا يستطيع الكشف عنه ...ألم خدعة هائلة .. اقتلوا الإخوان المسلمين ولكم ما شئتم.

فلما قتلوهم انقلبوا عليهم ...لكم كرهت كتاب مايلز كويلاند ولكم كرهت الاتهامات التي يكيلها لهيكل ثم لعبد الناصر ... ولكم كذبته ...لكنني أفاجأ بالدكتور مصطفى خليل وهو صنيعة هيكل وربيبه وتلميذه يقول في حوار أخير مع قناة الجزيرة أن معظم ما قاله مايلز كوبلاند كان صحيحا ...يا للألم ..كنت قد اقتنعت بما قاله هيكل عنه من أنه نصاب ومهرج ...فإذا به واحد من أهم رجال المخابرات الأمريكية ...وهيكل ليس جاهلا وليس غبيا ..بل على العكس تماما تماما ...اعترف أنه أسطورة وموسوعة ...لكنه لا يقول الحق ...إنه يلونه بما شاء له الهوى ...ولقد اصطدم الإخوان فعلا كما يقول هيكل لصحيفة العالم اليوم – بالأنظمة الأربعة في ستين عاما ... لكن الذي لم يذكره هيكل أن كل نظام منها كان أشد فسوقا وإجراما من سابقه ...هذه واحدة ...أما الأشد والأنكى فهي أن كل هذه النظم هي التي بادرت الإخوان بالعداء وبالخيانة والغدر وأن ذلك تم دائما نعم:

دائما بإيعاز ولصالح جهات وأجهزة أجنبية ...سوف نتناول هذا فيما بعد .. لكننا الآن نكرر:

هيكل لا يقول الحق ...إنه يلونه بما شاء له الهوى ...كان من الحقائق التي استقرت في أذهاننا، أن هيكل كاتب موضوعي عفيف ..ها قد اكتشفنا أنه ليس موضوعيا ... فهل كان عفيفا؟

فلنقرأ له والاستشهادات مأخوذة من مقالاته في الكتب وجهات نظر:

"دخلت الأم (يقصد الملكة نازلي) إلى الجناح الخاص بابنها والدموع في عينيها وفوجئ "فاروق" بها تنزل راكعة تحت قدميه تعترف له، ومؤدى اعترافها أنها أحبت أحمد حسنين وأنه أول رجل دخل حياتها وهي تريد من ابنها أن يسامحها بفهمه، وهو أول من يعرف أن علاقتها بأبيه لم تكن مرضية لا له ولا لها (وأفاضت في الشكوى)، ثم أقسمت أنه لولا "فاروق" وحرصها عليه لكانت تجرأت على طلب الطلاق رغم يقينها أن الملك "فؤاد" لن يمنحها هذه الفرصة أو لأقدمت على الانتحار، ولكن الأم كتمت أحزانها في قلبها وعاشت من أجل ابنها ... ثم راحت الأم تروي لابنها ما أصابها في القصر من ذل بسبب جبروت الملك "فؤاد" وضمن ما روته أنها ذهبت إلى عيادة الأسنان في القصر وفيها طبيب ألماني اسمه "شفارتز" وأن الطبيب بعد أن نظر في فمها، اكتشف اهتراء لثتها، وقال لها إن تلك "لا بد أن تكون عدوى "من صاحب الجلالة لأنه مصاب "بالبيوريا" (ولم تكن المضادات الحيوية قد ظهرت بعد لعلاجه)، ورغم علم الملك فؤاد بما أصابها فقد تأكد لها من تصرفه أنه يتعمد نقل مرضه إليها، وحدث حين ترددت أمامه مرة، أن أمر بحبسها في غرفة نومها أسبوعا كاملا عقابا لها أن تأففت من طلب له (...) ثم قالت الملكة الأم وهي في حالة صعبة إنها "لم تفعل شيئا في الحرام" وا فعلته أنها تزوجت "أحمد حسنين" على سنة الله ورسوله، حفاظا على شرف ابنها، واحتفظت بالزواج سرا حتى تنتهز فرصة مناسبة وتحكي له، وانتهت الملكة بأن قالت لابنها، إنها اعترفت بكل الحقيقة متوسلة إليه أن لا يؤذي "أحمد حسنين" بسببها، وهي تقسم له إن "أحمد حسنين" مخلص له ولعرشه، وإنه تردد في قبول الزواج ولكنها تعهدت له بأنها واثقة من أن ابنها وهو الأقرب إليها من كل الناس سوف يفهمها ويسامحها، وهي الآن أمامه راكعة على ركبتيها وإذا عفا عنها وعن "حسنين" بقيت عمرها تحت قدميه، وإذا أبى العفو فإنها سوف تشعل النار في نفسها وتنهي حياتها مثل أي بنت بلد "وقعت في الغلط" .. وفي ما بعد وعقب وفاة "أحمد حسنين" (باشا) في حادثة سيارة على كوبري قصر النيل سنة 1946 هرع الملك إلى بيت "حسنين" في الدقي، يسبق كل الناس ليأخذ من غرفة نومه أي ورقة تكشف عن علاقته بالملكة الوالدة ... وترامت وقتها شائعات بأن الملك أخذ بعض المقتنيات الذهبية والماسية (بالذات الأوسمة مما كان في بيت أحمد حسنين) ولم يكن ذلك منصفا.

هل قرأت أيها القارئ؟

كأنه هيكل آخر غير الذي نعرفه ...أسلوب .. نعم ... بلاغة .. حاضر .. جزالة ... موافق ... معلومات .. لا بأس ... لكن ..هل يوجد جملة واحدة يمكن توثيقها أو إسنادها ... خاصة أن كل ما حدث كان سرا بين الملك وبين أمه ... فكيف عرف هيكل كل هذه التفاصيل ...دعنا من التفاصيل المثيرة للاشمئزاز والغثيان ... (كيف استطاع هيكل على سبيل المثال أن يتوصل إلى أن الملك فؤاد كان يتعمد نقل البيوريا إلى الملكة نازلي) ..لا للاشمئزاز والقرف ...لا لامتهان عقول الناس ...لكن ... هذا هو اللون الذي يجب أن يصبغ به هيكل الملك وأبيه وأمه وزوج أمه ... هذا هو اللون الذي يسلب به ضحاياه إنسانيتهم ليتحولوا إلى حشرات مقززة يرحب الناس جميعا بدهسها بالأحذية ...هذا هو اللون الذي يجعلك لا تتساءل بعد ذلك عن شرعية أي إجراء اتخذ مع هذا الملك وعائلته القذرة ...وكان لا بد لنفس اللون أن يصبغ مصطفى النحاس أيضا ...لقد ظلمت الثورة النحاس ... وأساءت إليه ... وافترت عليه ... وغدرت به .. وخدعته .. وكانت معه بمنتهى الخسة ...هذا هو الواقع ... لا بد إذن من صبغ صورة مصطفى النحاس بما يجعله يستحق كل ما فعلته الثورة فيه.

لا بد إذن من تشويهه والتشهير به .. وبنفس الطريقة .. لا توجد واقعة يمكن إثباتها أو إسنادها ... يوجد فقط القدرة المذهلة للخيال البشري على تصور ما يشاء .. ثم سرده كما لو كان واقعا ...فلنقرأ إذن مصطفى النحاس مصبوغا بهوى هيكل:

كانت للنحاس (باشا) حياة خاصة حرص على صيانتها، لكنه تعرض سنة 1932 لواقعة أخرجت حياته الخاصة رغما عنه من الصوت الذي حرص عليه ... ففي تلك السنة التقى "النحاس" (باشا) بصحفية إيطالية يظهر أنها كانت على شيء من الجمال اسمها "فيرا" (ولم أجد في السجلات اسمها كاملا)، وطبقا للروايات (وهي موثقة)، أن لقاءات "النحاس" (باشا) بالصحفية الإيطالية تكررت، وفي بعض الشهادات أن "فيرا" كانت مدسوسة على "النحاس" (باشا) بتدبير من "إسماعيل صدقي" (باشا) رئيس الوزراء في ذلك الوقت، وكان قصده الإيقاع بزعيم الوفد بموافقة من الملك "فؤاد" والوسيلة كشف المقابلات المتكررة بين زعيم الوفد وبين الصحفية الإيطالية.

وكان "النحاس" (باشا) يقابل "فيرا" في عوامة على النيل عند شاطئ العجوزة المقابل لنادي الجزيرة، ورتب "صدقي" (باشا) لمداهمة يقوم بها البوليس للعوامة ومفاجأة من فيها بما لا يتوقعون.

وكان ذلك بعد ظهر يوم أحد، وتصادف وجود "أحمد ماهر" (باشا) في سباق الخيل في نادي الجزيرة، وحدث أنه تقابل مع "أحمد عبود" (باشا)، وإذا هو يفهم منه أن رئيس الوفد على وشك أن يقع في الفخ .. وأدرك "أحمد ماهر" خطورة الموقف وهرج مسرعا إلى موقع العوامة، وكان يعرفه، واقتحم طريقه إلى داخلها، والنتيجة أنه عندا وصل البوليس كان رئيس الوفد جالسا في صالون العوامة يتحدث مع واحد من أكبر معاونيه في قيادة الوفد وهو "أحمد ماهر" (باشا). وفشلت خطة الإيقاع بالنحاس (باشا).

إنني أنبه القارئ إلى أن الرواية كما رواها هيكل تستوجب لإقامة حد القذف عليه ... وليس فيها جملة واحدة يمكن إثباتها أو إسنادها ...يمكن للقارئ أن يتخيل، إذا كان هيكل قد كتب هذا عن الملك وأمه وأبيه، وعن مصطفى النحاس، فماذا يمكن أن يكتب عن الإمام الشهيد حسن البنا ، وكيف اضطر للسفر هربا من إلحاح الإمام الشهيد وهو يطارده كي يعمل صحفيا معه ...في ذلك الوقت كان هيكل في الثالثة والعشرين من عمره، وكان يعمل في صحيفة الإجيبشيان جازيت وثيقة الصلة بالسفارة الأمريكية ... وفي نفس هذا الوقت كان الإمام حسن البنا يقابل في الدول العربية مقابلة الملوك ...لا ينسى هيكل أيضا أن يقدم صك غفران جماعي وبأثر رجعي لكل الجرائم التي ارتكبت في حق الأمة ممثلة في الإخوان المسلمين ...لا ينسى ...وهو ليس جاهلا وليس غبيا ...بل على العكس تماما تماما ...أعترف أنه أسطورة وموسوعة ..لكنه لا يقول الحق ...إنه يلونه بما شاء له الهوى ...ولنقرأ صك الغفران الذي يمنحه للعهود جميعا كما يرويه عادل حمودة في صحيفة البيان الإماراتية:

وفي السجن وجد هيكل في زنزانته من التيار الديني ممن شملتهم اعتقالات سبتمبر 1981 ... ومن شاب اسمه "أكمل" ... لقيته قافل ... على حد تعبير هيكل ... سألته عن دوره في تعبد ربنا بالصلاة والعمل والاتصالات مع المجتمع ... بدأ يقول "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" قال هيكل: طيب يا رجل ... أنا باعتقد أن ربنا خلق الإنسان في الأرض ليعمل مهمة أكبر من كده ... ليعمر الأرض .. ليطور الحياة ... لأن في الإنسان جزء من نور الله ... لكنه لم يفهم ... ثم دخل المحامي الوفدي إبراهيم طلعت مناقشة سياسية معه ... لكنه تركهم ونام ... وحال هيكل أن يشده إلى الحديث ... فكان أن قال: "هذه أمور الدنيا لا أناقشها" ... والغريب أنه كان طالبا في كلية الهندسة.

إذن ... هذا الـ "قافل" ليس بشرا ... إنه وباء ... وهو خطر على الإنسانية والحضارة ... وهو غبي رغم أنه طالب هندسة ... ولا يفهم لا في العلم ولا في الدين .. وهو جلف عديم الذوق أيضا إذ يترك اثنين من أساطين المجتمع (هيكل وإبراهيم طلعت) لينام.

هذا نموذج لا يمكن أن تتعاطف معه ...وهو نموذج سوف تضطر للموافقة على ذبحه لإنقاذ الأمة من خطره .. هذه إذن شهادة براءة لكل الجلادين وما فعلوه بالإسلاميين ... بل إنهم لم يكونوا جلادين، بل مواطنين شرفاء اضطرتهم مناصبهم لمواجهة هذا الخطر الداهم.

الكارثة ..الكارثة ...الكارثة ... أن هذا المنطق بحذافيره هو الذي تتبعه أمريكا اليوم وهي تسحق دول العالم الإسلامي ...كنا نحن المشتل الذي استنبتت فيه البذور الشيطانية منذ خمسين عاما ... فهنيئا لك يا محمد حسنين هيكل ...مبروك ..هل تريد نجاحا أعظم من هذا .. ما فعلتموه منذ خمسين عاما هو الذي يفعله العالم اليوم ...والأكاذيب التي روجتموها عن الإخوان المسلمين منذ خمسين عاما هي التي يرددها الصليبيون واليهود اليوم ...وخداع الأمة بأن الإخوان يعاقبون بسبب إجرامهم وإرهابهم لا بسبب إسلامهم هو ذات ما تفعله أمريكا اليوم .. حين تسحق المسلمين وتدمر بلاد المسلمين وتغزوها ليس لأنهم مسلمون بل لأنهم إرهابيون ...مرحى لخطتكما الفذة .. خطتك أنت وجمال عبد الناصر ..أنتم أيضا ادعيتم أنكم لا تحاربون الإسلام .. وما حاربتم غيره ...ما حاربتم غيره ..ما حاربتم غيره ..ألم تفكر يا سيد القرطاس والقلم أن القصاص الإلهي كان عاجلا ...وبعد مذبحة المنشية كانت الهزيمة العسكرية في 56 والسماح لإسرائيل بالمرور في خليج العقبة ...ألم تلحظ أن محنة الإخوان الصاعقة في 1965 أعقبتها الهزيمة الصاعقة في 1967 ...أقدر يأسك وأفهمه ...فأنت مسئول ...وأنت ذكي جدا ... ومن المؤكد أنك تفه لكنك محاصر بين ماض لا تستطيع الهروب منه ومستقبل لا تستطيع الولوج فيه وكلمات الشهيد العظيم سيد قطب تطاردك:

"كل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنها هو من عملاء يهود، سواء عرف أم لم يعرف، أراد أم لم يرد، وأن اليهود سيظلون في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد وجودها وقوتها وغلبتها حقيقة العقيدة الإيمانية والشريعة الإيمانية، فهذا هو الطريق، وهذه هي معالم الطريق.

لماذا لم تتوسط لسيد قطب يا محمد حسنين هيكل ..لقد شاهدك الصحافي جابر رزق في السجن الحربي حين ذهبت تنقذ أحد أصحابك من بين براثن الجلادين ...لماذا لم تجنب جمال عبد الناصر هذا العار ...حتى نابليون وكرومر لم يحكما بالإعدام على الكتاب والعلماء والمفكرين ...كان هيكل هو المسئول عن مراجعة خبر إعدام الشهيد سيد قطب ... ليس في الأهرام فقط ..بل في كل الصحف ...كان مطلوبا منه أن يصبغ الخبر بالتقليل من شأن البطل الشهيد ... زهير مارديني .. كاتب ... ليس مصريا .. لا يحب الإخوان .. حاول مرتين أن يستمع إلى الإمام الشهيد حسن البنا لكنه لم يستطع الصبر أكثر من خمس دقائق ...لكنه بالرغم من ذلك كان يملك من الحيدة والنزاهة والضمير والوجدان والعقل ما دفعه للقول في كتابه الشهير "اللدودان: الوفد والإخوان" – دار اقرأ – بيروت:

"ولكن الصحيح أيضا أن لي بينهم أصدقاء كنت أعتز بصداقتهم في طليعتهم شهيد الدعوة وشهيد العلم والعلماء سيد قطب ... إنه أحقهم بلقب الشهادة، ذلك أنه لم يقتل أحدا ولم يحرض على قتل أحد، ومع ذلك فقد أعدم وقتل مظلوما، فكان سيد شهداء الإخوان وقطبهم الذي لا يدانيه قطب".

ثم يضيف زهير مارديني جملة كارثة ...نعم جملة كارثة ...هل تذكرون يا قراء ما سماه هيكل وكان صادقا بالجملة الكارثة في خطاب السادات إلى كيسنجر صباح يوم 7 أكتوبر 1973 ، حيث يخطره بأن الجيش المصري لا ينوي تطوير الهجوم .. وكانت هذه الجملة أشبه بتصريح مجاني للجيش الإسرائيلي لكي يتفرغ للجبهة السورية حتى يقضي عليها ثم يتحول بعد ذلك إلى الجبهة المصرية ... لقد صدق هيكل ... ومعه حق في أن يرفع مستوى التورط فيها إلى جريمة الخيانة العظمى ...نعود إلى الجملة الكارثة لزهير مارديني حيث يقول:

وهنا أذكر حديثا خاصا جرى بيني وبين الأستاذ: "مرتضى المراغي" مدير الأمن العام في تلك الأيام، والرجل الذي حقق في مقتل الشيخ حسن البنا ، سألته عن الانطباع الذي كونه عن الشيخ البنا فقال لي:

"زارني الشيخ حسن البنا في مكتبي شاكيا تصرفات رجالي حيال الإخوان، وكانت أول مقابلة خاصة بيني وبين الرجل الذي تربطه بوالدي شيخ الأزهر مصطفى المراغي صلات ودية، فقلت له: إن أنصارك يدعون أن يكون القرآن هو الدستور والقانون ومصدر التشريع والحكم، وأنت تعلم أن الدول الأجنبية وافقت على إلغاء الامتيازات شرط أن يكون التشريع وفق المبادئ الحديثة".

نعم ...جملة كارثة ...جملة كارثة تحكم بما هو أكثر من الخيانة العظمى على كل النظم السابقة واللاحقة .. "الدول الأجنبية وافقت على إلغاء الامتيازات شرط أن يكون التشريع وفق المبادئ الحديثة".

أي: نوافق على أن تحكموا .. لكن بغير دين الإسلام ...هذه هي المقايضة ...في البداية كان بيع الدين مقابل استقلال الأمة والدولة ...ثم أصبح بيع الدين ثمنا لاستمرار الدولة ...ثم تقلص الثمن إلى الاستمرار في الحكم، هل تذكرون يا قراء سؤالي لهيكل:

هل هي أزمة فكر قومي أم أزمة ضمير شخصي ..أظن أن هذا هو السبب ...لقد اكتشف هيكل أن الأمة دفعت ثمنا هائلا ظلت تدفعه ستين عاما أو يزيد .. وقد تقلص مقابل هذا الثمن في النهاية إلى شيء واحد هو استمرار حكم العسكر ...لقد اكتشف هيكل أنه لم يخطئ في الحساب فقط .. بل لقد ساهم في تمرير الصفقة مهما التمس من أعذار بأنه لم يكن يتخيل أن يحدث ما حدث ...نعم ..بدأت الصفقة مقابل القومية العربية ووحدة أساسها العروبة ...وانتهت إلى ضمان أمن العسكر ...وكان الثمن فادحا والخديعة أفدح ..وكانت كارثة الشريف حسين تتكرر ...لم تكن في الأولى مأساة وفي الثانية مهزلة ..بل كانت في المرتين مهزلة ...  

الباب الخامس: حادثة المنشية

  ناصية كاذبة خاطئة ...بريد القراء ..يتمزق قلبي مع بريد القراء ...وهذه رسالة طويلة جدا ودامية جدا من الابن العزيز أحمد صبحي ... ومثلها كثير.

وهي رسالة مزقت قلبي .. ولكم أشفقت عليك يا بني العزيز وعلى جيلك ... ذلك أن الصدمة التي استغرقت أنا ربع قرن كي أستوعبها تسحقكم أنتم في يوم أو بعض يوم ... فإذا الحلم الرائع كابوس .. وإذا المرجو هو طريق الهلاك ... وإذا الشرف عار والفخار شنار ...يا إخوتي في الله ... أنتم لا تتخيلون مدى رعبي إذ أمحص واقعة تاريخية لأنشرها أو لأهملها .. أفعل ذلك برعب ... مدركا أن خطئي قد يودي بي إلى النار ... ولكي أقرب الأمر لكم يا أيها الجيل الحبيب البائس المعذب المسكين ... فإنني أذكركم بذلك الفيلم السينمائي المسمى:

"الطريق إلى إيلات" لقد نسيت أسماء أبطاله لكنني أذكر تلك الواقعة التي كان الضابط يعدل المفجر ويطرق عليه كي يتواءم مع فتحته في الطوربيد ... وكانت كل حركة تحمل الخطر الهائل للانفجار المميت الذي يمكن أن يقضي على الضابط الفدائي في لحظة واحدة.

يا قراء: أنا أحس بنفس الإحساس وأنا أتناول أي واقعة تاريخية ... أخشى أن أخطئ الحساب ... أن أسيء فهما فأسيء قولا .. أن ينفجر في لغم التفسير الخاطئ للمعلومة التاريخية .. أو أن يضلني الهوى ... فلا أظفر حتى بتمزق جسدي إلى أشلاء وبموت يريحني .. وإنما هي النار ... فكلما تمزقت أشلاء تجمعت بقدرة الله كي أتمزق من جديد ... يكاد يجمدني الرعب من أن أخطئ أو ينزلق بي الهوى فأكون من الذين يصليهم الله نارا وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.

يا قراء: ليس لي من الأمر شيء .. بيد أني رأيت باطلا مصدقا وحقا يكذب فخشيت أن أقابل الله ولم أكشف للناس ذلك ...ووالله الذي لا إله إلا هو .. إنني لأتمنى أن يأتيني القراء ببينة تبرئ جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل وأصحابهما .. لأنني حين أدينهما إنما أدين في نفس الوقت بعض نفسي .. وحين أحكم عليهما الحكم القاسي الذي أحكمه الآن عليهم .. إنما أبتر بعض نفسي وبعض تاريخي .. وإن أنس لا أنسى تلك المرات والمرات والمرات التي كنت ألجأ فيها إلى شريط تسجيل خطاب عبد الناصر في المنشية ... كي أثبت لمن حولي أن الحادث حقيقي ... كان انفعاله يلهب مشاعري .. وكانت شجاعته تخلب لبي، نفس الشريط عندما أسمعه الآن أدرك كم كان الرجل بارعا في التمثيل وكم كان كاذبا...نفس الدليل وعكس النتيجة .. فكيف لا أخشى مكر ربي.

كان المطلوب تماما أن أقع في الخديعة وقد وقعت .. وكان المطلوب يا أمة أن تقعوا جميعا في ذات الخديعة .. ولقد وقعتم.

نفس الدليل ...فعندما أسمع الشريط أن أدرك أن جمال عبد الناصر ... الضابط المقاتل المحترف ذا الخبرة الطويلة في ميادين القتال وهي خبرة لم تحظ للأسى بنصر واحد ، هذا الضابط سيكون رد فعله الطبيعي والتلقائي والبدهي والفطري هو أن ينبطح على الأرض فور سماعه صوت إطلاق الرصاص ... خبرة حياته كلها تدفعه لذلك التصرف .. رد فعل انعكاسي لا ينتظر تدخل العقل ... تماما كما تضغط كابح السيارة بعنف عندما تكاد تدهم طفلا ... أنت ساعتها لا تفكر، بل إن قدمك تنتفض على الفور لتقوم بالضغط على الكابح كما تتحرك يديك على المقود لتبعد الكارثة ..كل هذا يتم دون تفكير ...وهو المنطقي .. نعم هو المنطقي الوحيد ...الأمر ليس أمر شجاعة ولا رباطة جأش ... الأمر أمر رجل دولة ... مسئول عن دولة وعن أمة وعن مصائر ... والأمر ليس مجرد مؤامرة لاغتيال رجل الدولة ...

بل قد يتهدد الخطر الدولة كلها .. واستقلالها ومصيرها .. والمفروض أنه لا يعرف من وراء تلك المؤامرة ... ولا حجمها ولا تشعبها ولا امتدادها ... فقد يكون مع هذا الذي يطلق الرصاص مائة شريك وقد يكون هناك آلاف يعاونونه في الخارج ... مسئولية رجل الدولة الحقيقي تدفعه للانبطاح على الفور .. ثم لمغادرة المكان بأقصى سرعة ... فما يدريه أن المكان ملغم وأن إطلاق الرصاص هو الإشارة الأولى وأن المكان كله سينسف بعد ذلك نسفا ... ومسئولية رجل الدولة تدفعه للتوجه بأقسى سرعة إلى أقرب مقر لقيادة عسكرية أو سياسية يستطيع فيها التحكم فيما يحدث والسيطرة عليه .. ألا يمكن أن يكون الأمر مقدمة لغزو؟ ..

من أين تسنى لجمال عبد الناصر أن يدرك أن المكلف باغتياله شخص واحد؟ .. لماذا لم يفترض أنهم عشرات فإذا فشل أحدهم كرر الآخر المحاولة ...لم يكن الأمر أمر شجاعة إذن ..بل كان أمر واحد يدرك .. ويثق .. ويعلم علم اليقين أن هناك شخصا واحدا تحت السيطرة هو الذي سيطلق الرصاص "الفشنك" .. وأنه لا خطورة البتة .. وأن المطلوب هو استجلاب مشاعر التعاطف والحب والجماهير بخطبة حماسية طويلة ...وأثناء ذلك كسر القلم الحبر في جيب عبد الناصر ...والجيب على اليسار ...ثم إن الصدفة العجيبة اقتضت أن يكون لون الحبر في القلم: أحمر!!

يا عجائب الصدف ...كانت هذه "الفشرة" وعذرا لاستعمال الكلمة التي لم أجد ما يعبر عن المعنى أكثر منها" أوسع بكثير من قدرة أي تفكير نصف عاقل على تصديقها ...لكننا ... وهذا هو التدهور والانحلال والتيه لتسفر الأمة عن أخس ما فيها ... وتكونت عصابة .. نعم عصابة من العسكر وبعض الشيوخ وجل الصحافيين وبعض الكتاب والمفكرين كل منها راح يزين الباطل ويدعو له ... وبدأ تأليه الحاكم .. حين تتحول رؤاه إلى عقيدة غير قابلة للنقاش ...في الدنيا نحاول دائما فرز الأحداث إلى حق لا شك فيه .. وإلى شك لا يقين فيه .. وإلى كذب لا حقيقة فيه.


فأما الحق الذي لا شك فيه فإنه بعد أن يمحصه العقل ويبلغ ذروته فإنه يتحول إلى عقيدة ...والعقيدة هي أمر انعقد القلب عليه فلم يعد يحتاج إلى مزيد من تفكير أو بحث أو نقاش ... انعقد ولن ينفك .. وذلك موجود على مستوى الدين .. وموجود بصورة أدنى على مستوى الحقائق اليقينية .. إن خمسة مضروبة في خمسة تساوي خمسة وعشرين .. وهي تساوي ذلك بدون أي تفكير جديد وبدون أن تستعيد أدلتك المنطقية وعلومك الرياضية .. ذلك أنك غير مستعد من البداية للدخول في نقاش سوفسطائي مع من ينكر ذلك.

بعد ذلك تأتي درجات من المتشابهات تحتمل النقاش والبحث والحوار والأدلة ... وعن طريق ذلك فقط قد تقترب هذه الوقائع من الحقيقة والصواب أو من الكذب والضلال ...كان حادث المنشية بافتراض أقصى درجات حسن الظن من ذلك النوع الأخير ...لكن ذلك لم يحدث ..فقد أراده الطاغوت عقيدة .. يكفر من لا يؤمن بها ويعاقب العقاب الشديد ...تماما كما فعل اليهود بالهولوكوست.

فلو أنهم على يقين من أنهم على صواب لما اهتموا كل هذا الاهتمام بسن كل هذه القوانين لاعتبار من ينكر الهولوكوست مجرما يستحق العقاب ...نفس الوضع حتى الآن بعد أكثر من خمسين عاما من حادث المنشية .. فالأمر ليس طروحا للنقاش .. إما أن تؤمن فتستحق المدح والتقريظ وإما أن تكفر فتنطلق عليك الكلاب المسعورة ...والإمان والكفر هنا ليسا بالله وإنما بحادث المنشية ...لقد كانت هذه الواقعة وحدها – تحويل الحادثة إلى عقيدة كفيلة بإثارة الشك كله في الأمر كله منذ البداية ...لقد آن الأوان لكي نسمع رأيا آخر في حادث المنشية ...رأي شيوعي ... ينقله إلينا طارق المهدوي في كتابه: "الإخوان المسلمون على مذبح المناورة".

والقارئ يعلم رأيي في الشيوعيين ...لكنني في نفس الوقت أحتفل بهذه الشهادة كثيرا لأسباب عديدة ... فأكثر كذب الشيوعيين في التفسير والتحليل لا في الوقائع .. كما أن الشيوعيين منذ عهد عبد الناصر حتى الآن هم المسيطرون على وسائل الإعلام القريبون من كواليس اتخاذ القرار ومخازن الأسرار ...ثم إن ضرب الإخوان كان قضية من أهم قضاياهم وفي جزء منها كانت لصالحهم لذلك من الطبيعي أن نجد أخبارها عندهم ..ثم إن هناك سببا أخيرا .. ذلك أنني عندما أريد أن أقيم الحجة على داعرة لن أبحث عن شاهد في رحاب مسجد .. ليكشف سرها ...والآن لنبدأ مطالعة شهادة إسماعيل المهدوي:

"كان مجلس قيادة الثورة قد استشار أحد خبراء الدعاية الأمريكيين في كيفية تحويل جمال عبد الناصر إلى زعيم قومي محبوب فاقترح عليهم هذا الخبير أن يدبروا محاولة فاشلة لاغتيال عبد الناصر على أن يظهر بصورة قوية أثناء تنفيذ هذه المحاولة الوهمية هذا لأن الشعب المصري عاطفي بطبعه وبالتالي فإن هذا الحادث سوف يدفع الجماهير إلى الشعور بأن رئيسهم يتعرض لخطر شديد وبأنه قد واجه الخطر بشجاعة وصلابة مما يدفعهم إلى الإعجاب به ويؤهله للحكم العاطفي ويزيد من شعبيته.

واشتركت المخابرات المركزية الأميركية في الترتيب لهذه العملية عن طريق فؤاد جلال وكيل جمعية الفلاح فأرسلت لعبد الناصر قميصا واقيا من الرصاص استلمه مدير مكتبه آنذاك عبد الرحمن مخيون ... كما كان جمال عبد الناصر قد نجح في احتواء بعض العناصر المؤثرة داخل جماعة الإخوان المسلمين مثل أحمد حسن الباقوري وصالح عشماوي وعبد الرحمن السندي وأتباعهم ورغم أن قيادة الجماعة قامت بفصلهم من صفوفها عندما أدركت ارتباطهم بعبد الناصر إلا أنه قد ظل لكل منهم رجال وأتباع داخل صفوف الجماعة يدينون له بالولاء الشخصي ومن بين هؤلاء الرجال كان المحامي هنداوي دوير أحد أتباع عبد الرحمن السندي يتولى رئاسة منطقة إمبابة في الجهاز العسكري الخاص حتى أن هذه العلاقة الخاصة بين دوير والسندي قد تسببت في تعامل قيادات الجهاز العسكري الخاص مع دوير بدرجة عالية من الحذر وصلت إلى أن رئيسه المباشر في الجهاز "إبراهيم الطيب" كان يرفض إخطاره بالأماكن التي يقيم فيها رغم أهمية ذلك في الاتصالات التنظيمية وقد قام عبد الرحمن السندي بتسليم هنداوي دوير إلى أحد ضباط البوليس وهو صلاح دسوقي ليقوم بتوجيهه حسب تعليمات السلطة العسكرية ...

وفي يوم 25/ 10/ 1954 قام دسوقي باصطحاب هنداوي دوير في زيارة سرية إلى منزل جمال عبد الناصر حيث دبروا معا عملية الاغتيال الوهمية واستلم دوير مسدسا وخمس عشرة طلقة مزيفة (فشنك) لتنفيذ العملية حيث قام بدوره بتسليمها إلى مرءوسه في الجهاز العسكري الخاص محمود عبد اللطيفالذي كان من أمهر رماة المسدس في جماعة الإخوان المسلمين على اعتبار أنها طلقات حقيقية وأمره بأن يقوم باغتيال جمال عبد الناصر أثناء إلقائه خطابا سياسيا بمناسبة إتمام توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا في ميدان المنشية بالإسكندرية يوم 26/ 10/ 1954 مستغلا في ذلك ضعف شخصية محمود عبد اللطيفوطاعته العمياء لأوامر رؤسائه، ورغم وجود مئات الإخوان في الجهاز العسكري الخاص بالإسكندرية إلا أن محمود عبد اللطيفقد سافر من إمبابة بالقاهرة لاغتيال عبد الناصر في منشية الإسكندرية!

وفي اليوم المحدد لإلقاء الخطاب وهو يوم 26/ 10/ 1954 قام رجال الأمن بطرد الجماهير التي كانت تنتظر عبد الناصر وبإخلاء السرادق المعد للخطاب تماما ثم أعادا حشوه من جديد بعشرة آلاف مواطن تم جلبهم خصيصا من مديرية التحرير في سيارات نقل كبيرة لتمرير المسرحية ورغم عدم السماح لجماهير الإسكندرية بدخول السرادق الممتلئ برجال مديرية التحرير إلا أن سلطات الأمن قد سمحت لمحمود عبد اللطيفبالدخول بل وبالجلوس على مقعد متقدم في مواجهة رئيس مجلس قيادة الثورة!! ومن الجهة المقابلة فقد قام عبد الرحمن مخيون بإلباس جمال عبد الناصر القميص الواقي من الرصاص الذي كان قد تلقاه من المخابرات الأمريكية وقد ألبسه إياه في مبنى البورصة بالإسكندرية ..

وأثناء قيام عبد الناصر بإلقاء خطابه أطلق محمود عبد اللطيفتسع طلقات في صدره إلا أن عبد الناصر لم يصب بأية إصابة ولو سطحية .. وفي نفس الوقت قام صلاح دسوقي بإطلاق عدة رصاصات دقيقة التصويب على ميرغني حمزة وأحد بدر وعلى جوانب المنصبة وجدران السرادق حتى يبدو للجماهير أن الذي أطلق على قائد الثورة هو رصاص حقيقي لأن هناك إصابات حقيقية وخدوشا وآثار إطلاق حقيقية، وبمجرد أن بدأ عبد اللطيف يطلق رصاصه الزائف حتى رفع عبد الناصر هامته مواجها للرصاص بصدره وهو يقول "أيها الإخوة ... إخواني المواطنين فليبق كل منكم في مكانه .. إنني حي ولم أمت وإذا مت فإن كلا منكم هو جمال عبد الناصر ... لقد زرعت فيكم العزة والكرامة ولن تسقط الراية أبدا" ...

وبعد أن أفرغ محمود عبد اللطيفمسدسه ألقى به على الأرض كما ألقي دسوقي بمسدسه أيضا على الأرض، وضبط المواطنون مسدس عبد اللطيف، وسلموه إلى السلطات كما ضبط أحدهم وهو نوبي يدعى آدم مسدس دسوقي وسلمه بدوره إلى السلطات وإزاء إعلان التحليل المعملي في الطب الشرعي بأن مسدس عبد اللطيف كان محشوا بالرصاص الزائف فقد اضطرت سلطات الأمن إلى الكشف عن مسدس دسوقي بدعوى أنه المسدس الذي استخدمه عبد اللطيف وبررت سبب هذا التضارب وهذا التأخير في الإعلان عن أداة الجريمة بأن المواطن الذي عثر على المسدس قد أبى إلا أن يقوم بتسليمه شخصيا إلى جمال عبد الناصر – ولما كان لا يملك قيمة السفر من الإسكندرية حيث وقع الحادث - للقاهرة حيث يقيم عبد الناصر فقد اضطر إلى السفر ماشيا على الأقدام حتى سلمه يدا بيد إلى قائد الثورة مما تسبب تأخير الكشف عن أداة الجريمة الحقيقية!! ..

وقد تسلق عبد الناصر أكتاف هذا الحادث المسرحي ليس فقد ليكسب ود وعطف الجماهير ولكن أيضا للإطاحة بالجميع بدءا بالإخوان المسلمين ومرورا بمحمد نجيب وانتهاء ببقايا المؤسسات والهيئات الديمقراطية فبعد هذا الحادث مباشرة أعلن على صفحات جريدة الجمهورية في 30/ 10/ 1954 حتمية استمرار الثورة إلى الأمام وحتمية المضي قدا في إجراءاتها وأنه كان بوده أن تستمر في سيرها الأبيض إلا أنه مضطر لأن يجعلها تسير في اتجاه دموي أحمر!!

واستلهمت سلطات الأم وهيئة التحرير هذا الإعلان فانقضت على مقار ومؤسسات ومنازل الإخوان المسلمين تحرق وتهدم وتدمر وتعتقل (...) وهكذا فقد تعرض الإخوان المسلمون لأوسع حملات الاعتقال والتعذيب والتنكيل حيث أودع عشرات الألوف منهم ومن أقاربهم وأصدقائهم في السجون والمعتقلات ... وكان على رأسهم حسن الهضيبي ومكتب الإرشاد، أما هنداوي دوير الذي يعتبر الحلقة الرئيسية في مسرحية المنشية فقد سلم نفسه في اليوم التالي على الحادث مباشرة وذلك كما قال هو ذاته عند محاكمته بغرض إعانة السلطات على ضبط المتهمين والأسلحة دون أن يطلب أي ثمن مقابل ذلك!! ... وأودع دوير السجن مع بقية إخوانه الذين أكدوا جميعا على أن إدارة السجن ومصلحة السجون كانت تعامله معاملة خاصة وممتازة في الوقت الذي كان إخوانه فيه معلقين كالذبائح في عنابر التعذيب!!

وفي 2/ 11/ 1954 تم تشكيل محكمة الشعب العسكرية للنظر في القضية رقم أ لعام 1954 المتهم فيها محمود عبد اللطيفبمحاولة اغتيال رئيس مجلس قيادة الثورة جمال عبد الناصر وكانت هيئة المحكمة تتكون من جمال سالم رئيسا ومحمد أنور السادات ولحسين الشافعي عضوين كما كانت هيئة الادعاء والنيابة العسكرية تتكون من زكريا محي الدين رئيسا ومحمد التابعي وإبراهيم سامي وسيد جاد وعبد الرحمن صالح ومصطفى الهلباوي وعلي نور الدين وأعضاء ..

ولم تكن محكمة الشعب تحاكم الإخوان المسلمين بقدر ما كانت تحكم عليهم فهي الخصم والحكم وهي الادعاء والدفاع وهي الشهود والجمهور، بل وهي القانون والدستور لا يردعها أي رادع عن انتزاع الإدانة ضد الإخوان بأية صورة من الصور، واعتمدت هذه المحكمة بشكل رئيسي على عنصرين اثنين هما الانهيار العضوي الذي أصاب الإخوان بسبب التعذيب الوحشي والانهيار النفسي الذي أصابهم بسبب خيانة دوير للعهد وللأخوة التي هي من وحي السماء، وكما كان هنداوي دوير مدللا من قبل سلطات الأمن والداخلية فقد كان مدللا أيضا من قبل سلطات الادعاء والمحكمة وذلك في مقابل خدماته الجليلة التي قدمها للعدالة أو بالأدق للمؤامرة حيث استمر يسرد عشرات التفصيلات الدقيقة والوهمية عن الجهاز العسكري الخاص وجماعة الإخوان المسلمين بل وعن رئيس الجمهورية محمد نجيب أيضا!!

وفي أكاذيبه المكشوفة ورط هنداوي دوير مرءوسه محمود عبد اللطيفحيث اتهمه بأنه كان متحمسا بشكل شخصي لارتكاب الحادث وأنه هو الذي اقترح أن يقوم بتنفيذه في الإسكندرية رغم محاولات دوير لصرفه عن ذلك واعتمدت المحكمة كلامه رغم قوة الحجة التي أوردها ببساطة "سباك" إمبابة محمود عبد اللطيففي تكذيبه للمحامي دوير عندما قال بأن مثل هذه الأمور لا تخضع للاعتبارات الشخصية وإنما هي أوامر واضحة من رئيس إلى مرءوسه لم يكن أمام عبد اللطيف سوى أن يطيعها أو يعرض نفسه للفصل من الجماعة بما يحمله ذلك من احتمالات!!

كما ورط دوير رئيسيه في الجهاز العسكري الخاص إبراهيم الطيب المسئول عن الجهاز في القاهرة ويوسف طلعت المشرف العام على الجهاز وذلك بادعائه أن إبراهيم الطيب هو الذي أخطره نقلا عن يوسف طلعت بأن الجهاز قد قرر الاتجاه نحو الإرهاب وأن عليهم أن يوجهوا ضربتهم باغتيال جمال عبد الناصر ثم التخلص بعد ذلك من كل أعضاء مجلس قيادة الثورة ورغم أن دوير قد رفض هذا الاتجاه إلا أن الطيب أمره بتنفيذ التكليف ومنحه المسدس المستخدم في الحادث وطلب منه أن يوفد محمود عبد اللطيفللقيام بهذه المهمة واعتمدت المحكمة أيضا كلامه رغم تكذيب الطيب وطلعت معا هذه الادعاءات في الوقت الذي لم يبخلا فيه على المحكمة بالمعلومات التفصيلية التي لديهما عن تنظيم الجماعة والجهاز الخاص ولم يكتف دوير بتوريط هؤلاء الثلاثة، بل ورط المرشد العام حسن الهضيبي أيضا عندما ادعى أن قرار الجهاز العسكري الخاص باغتيال عبد الناصر كان قد صدر بعلم وموافقة ومباركة حسن الهضيبي ، ورغم تكذيب الهضيبي وطلعت والطيب لهذا الادعاء إلا أن المحكمة اعتمدت عليه في سير القضية والتي تحولت من قضية شروع في قتل المتهم فيها هو محمود عبد اللطيفبشخصه إلى قضية قلب نظام الحكم بالقوة والمتهم في فيها هي جماعة الإخوان المسلمين وبالتالي فقد أصبح حسن الهضيبي هو المتهم الأول بصفته رئيس الجماعة كما ضمت قائمة الاتهام كل قادة وكوادر الجماعة ...

ولما كان مجلس قيادة الثورة يريد أن يحقق أكبر مكاسب ممكنة من وراء هذا الحادث، ولما كان قد ضمن إحكام قبضته على جماعة الإخوان المسلمين فقد دفع بهنداوي دوير إلى توريط اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية في هذه القضية الأمر الذي لم يتأخر عنه دوير حيث ادعى أن محمد نجيب كان على اتصال بحسن الهضيبي وأن الطرفين قد وضعا معا خطة لقلب نظام الحكم تبدأ بقيام الإخوان بعدة عمليات إرهابية وباغتيال عبد الناصر وأعضاء مجلس الثورة وبإثارة الاضطرابات والقلاقل الجماهيرية ثم يقوم محمد نجيب بتهدئة الجماهير بإعلان تصفية مجلس قيادة الثورة وتشكيل حكومة جديدة ثم يعلن الإخوان مبايعتهم لمحمد نجيب رئيسا للجمهورية ومبايعتهم لحكومته ويبدأ نجيب في الاتجاه بالبلاد نحو الوجهة الإسلامية التي يريدها الإخوان وأكد دوير أنه قد حضر بنفسه أحد الاتصالات التليفونية التي كانت تتم بين نجيب والهضيبي ...

ورغم زيف هذا الادعاء ورغم عدم مواجهة نجيب به أمام المحكمة إلا أن مجلس قيادة الثورة تلقفه على الفور وأعلن بموجبه عزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية وإعادة اعتقاله في المرج حيث ظل هناك حتى وفاته عام 1984، وفي 4/ 12/ 1954 أعلنت محكمة الشعب حكمها الأول بحق قيادات الإخوان وقد تضمن إعدام حسن الهضيبي وعبد القادر عودة ومحمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب ومحمود عبد اللطيف، وتضمن أيضا إعدام العميل هنداوي دوير لإسدال الستار نهائيا على مسرحية المنشية كما تضمن هذا الحكم الأشغال الشاقة المؤبدة بحق خميس حميدة وكمال خليفة وعبد العزيز عطية وحسين كمال الدين وصالح أبو رقيق ومنير الدلة وحامد أبو النصر والأشغال الشاقة خمسة عشر عاما بحق عمر التلمساني وسيد قطب وأحمد شريت وحسن دوح ... وتوالت الأحكام بحق 1125 وبينها خمسون حكما بالإعدام والمئات بالأشغال الشاقة المؤبدة والباقية بالأشغال الشاقة المحددة المدة وأودع ألوف الإخوان في المعتقلات بدون أحكام أو محاكمات أو حتى تهم محددة.

وبعد النطق بالأحكام رفض عبد الناصر تصديق أحكام الإعدام وطلب تخفيفها إلى الأشغال الشاقة المؤبدة لأن كل أغراضهم من وراء هذه القضية (المسرحية) كانت قد تحققت ولن يغير في الأمر شيئا أن ينفذ الإعدام في قيادات الإخوان أو يلغى ولكن جمال سالم اعترض على ذلك بشدة وصلت إلى حد إشهار مسدسه في وجه عبد الناصر بدعوى أنه أصدر أحكام الإعدام بمعرفة مجلس قيادة الثورة وأن اعتراض عبد الناصر عليها سوف يظهر جمال سالم وكأنه أصدر هذه الأحكام من تلقاء نفسه وبالتالي سوف يجعله عرضة للاغتيال فتراجع عبد الناصر وأقر تنفيذ أحكام الإعدام باستثناء حسن الهضيبي الذي استبدل الحكم بإعدامه بالأشغال الشاقة المؤبدة، وذلك حتى لا يتحول بنظر الجماهير إلى شهيد فتتعاطف مع قضيته كما حدث بعد اغتيال حسن البنا ... وفي 9/ 12/ 54 تم تنفيذ أحكام الإعدام ...

ولما جاء هنداوي دوير صاح بأعلى صوته أن الاتفاق لم ينص على هذه النهاية وأنه يريد أن يقول كل شيء إذ لا يمكن أن تأتي هذه التمثيلية على رأسه، ولكن أحدا لم يسمعه ومن سمعه لم يستجب لأنه كما كان متوقعا فإن السلطة لا يمكن أن تفي بعهدها مع من خان عهد إخوانه ووضع رقابهم في حبل المشنقة وبعد إسدال الستار بإعدام هنداوي دوير شرع شركاؤه في تحصيل مكاسبهم على النحو التالي:

- عبد الرحمن السندي تولى وظيفة كبيرة في شركة شل للبترول ومنحه جمال عبد الناصر فيلا فخمة مزودة بكل وسائل الراحة في مدينة الإسماعيلية السياحية.

- أحمد حسن الباقوري استمر وزيرا للأوقاف حتى عام 1959 ثم أصبح رئيسا لجامعة الأزهر حتى عام 1969 وتحول من حامل مبدأ إلى حامل حقيبة يد تحوي صكوك غفران إسلامية لكافة ممارسات عبد الناصر واستمر يتنقل بين أروقة وردهات الحكم المختلفة كرئيس لمعهد الدراسات الإسلامية ولجمعية الشبان المسلمين وكعضو في مجمع البحوث الإسلامية وفي مجمع اللغة العربية وفي مجلس الشورى وفي المجلس الأعلى للصحافة وغيرها.

- صلاح دسوقي ما لبث أن أصبح نائب وزير الداخلية ثم محافظا للقاهرة، ثم سفيرا وبعد ذلك تفرغ لإدارة عدة مشروعات اقتصادية كبرى في مقدمتها قيامه بملكية ورئاسة مجلس إدارة شركة سيناء للفنادق.

- أما جمال عبد الناصر قد كان المستفيد الأكبر من حادث المنشية حيث أزاح من طريقه الإخوان المسلمين وأطاح بمحمد نجيب ووجه الضربة القاضية للديقراطية كما تغيرت مشاعر الجماهير نحوه تغييرا جذريا بعد هذا الحادث وحظي بتعاطف وتأييد شعبي جارف استطاع بموجبه أن ينفرد بحكم البلاد حتى سبتمبر 1970.

انتهت الشهادة الشيوعية ...وبعد قراءاتي المستفيضة فإنني أظنها أقرب الشهادات لما حدث فعلا ...أقرب للصواب حتى من شهادات قادة الإخوان المسلمين ومنها شهادة الشيخ يوسف القرضاوي ... والأمر لا يعود إلى قصور في شهادات الإخوان، بل في سمة لا يملكون التحول عنها ... لأنها جزء من العقيدة ... فهم لا يستطيعون إلقاء التهم جزافا ولا الاتهام بالشبهة ولا الإدانة دون بينة ... وكل هذه الصفات تأتي بثمرتها القصوى في مجتمع إسلامي ... ومن هذا المنطلق سنفاجأ بالدكتور القرضاوي يدافع عن هنداوي دوير كأخ مسلم ليس لديه بينة على إدانته فمن واجبه إذن الدفاع عنه.

في بيت الدعارة تكون شهادة القواد هي المعتبرة ..وفي تجنيد الفنانات تكون شهادة الوزير إياه هي ما يؤخذ به ...وعلى هذا المنوال .. وبذات الاستدلال تأتي أهمية شهادة الشيوعيين على حادث المنشية.

سوف أقرأ معكم في فصل تال وقلبي يبكي استجوابا قام به الجلاد صلاح الدسوقي للشهيد سيد قطب .. ورأى الشهيد بنور الله كيف أن الحادث مدبر وملفق ... واستشاط الجلاد غضبا وراح يوبخ الشهيد ويؤنبه لأنه يظن أن الحادث مفتعل للإيقاع بالإخوان ...أريد أن أنقل لكم بعضا من رسائل القراء التي أدمت قلبي ... خاصة رسالة القارئ أحمد صبحي ... لكنني قبلها أنقل لكم شهادة للكاتب جلال أحمد أمين ... وهو كاتب علماني إلا أنه منصف وموضوعي وذكي حتى أنني أقول لأصحابي ساخرا "لا ينقصه إلا نطق الشهادتين كي يصبح كاتبا مسلما".

فإلى شهادته التي نشرتها مجلة أخبار الأدب العدد 1423 وهي شهادة تبدأ بصرخة جلال أمين في اتحاد الكتاب: ثورة يوليو صناعة أمريكية!! هذه هي الأعوام سواء في تاريخ مصر أو العالم تمثل بحق ما أسميه بالعصر الأمريكي، هذا العصر قسمته إلى مرحلتين، لكن يبدو أنني مضطر للقول إننا قد نكون مقبلين على مرحلة ثالثة وسوف أتحدث عن المغزى التاريخي لثورة يوليو، باختصار موقع أحداث الثورة في سياق التاريخ المصري والعالمي أو ما أسميه بالعصر الأمريكي!!

بعد ذلك واصل جلال أمين قائلا:

خلال الأربع أو الخمس السنوات السابقة على الثورة كان المصريون يشعرون بأن شيئا ما سيحدث .. كل شيء كان يشير إلى ذلك .. ملك فاسد ... أخبار عن قصصه مع النساء وموائد القمار، هزيمة 48، حكومات تتغير بلا سبب مقنع ... كل منها أكثر فسادا من الأخرى ... تفاوت في الدخل ... تزايد سكاني .. احتكار شريحة معينة من هؤلاء السكان لجميع الامتيازات.

هذا يفسر الفرح العظيم بالثورة ... نعم اعتبرناها أمرا طبيعيا ونتاجا للصورة السابقة، الذي كان غريبا فقط بالنسبة لنا هو أن من قام بالثورة ضباط .. قلنا: وماذا يضير في ذلك ... هم أبناؤنا في النهاية ويملكون مشاعرنا ذاتها ثم من كان سيتجرأ ويفعل ما قاموا به؟ وعلى هذا قبلنا المبادئ الستة التي قررتها الثورة ... وهنا لا بد أن ألفت النظر إلى أن كل مبدأ كان يمكن أن يفسر وقتها عدة تفسيرات ...في السياسة الداخلية كان السؤال: الجيش قام بالثورة ... ترى هل سيعود إلى ثكناته أم سيظل في الحكم؟ ... في السياسة الخارجية: تخلصنا من الاستعمار، لكن هل هذا معناه أننا سنصبح دولة حرة أم تابعين لأمريكا أم روسيا؟

في موقفنا من إسرائيل: هل نعقد صلحا معها أم نحارب على الفور أم نبني جيشا ونحارب؟

في التنمية: هل سنركز على الزراعة أم الصناعة؟ .. هل نعتمد على النفس أم الغير؟ .. هل ستكون الصناعة خفيفة أم ثقيلة؟

بعد ذلك طرح جلال أمين هذا التساؤل: ما الذي حدد الاختيار في كل ما سبق؟ .. أجاب على سؤاله بنفسه: الذي حدده في رأيي ظروف العالم ... لم يكن الاختيار بيد الجيش، نعم كانت دائرة الاختيار أضيق بكثير ... العالم وقتها كان يشهد مولد العصر الأمريكي وكل الذي فعلته الثورة يتمشى مع متطلبات هذا العصر.

قصة مذهلة!

قبل أن يبدي الحاضرون نوعا من الدهشة أو التساؤل قال جلال أمين:

سأضرب أمثلة لأدلل على ما أقول.

أكمل: هناك قصة ثابتة ومعروفة وحينما سمعتها للمرة الأولى أذهلتني وأربكتني، وهي أنه لم يتم الإعلان عن سقوط الملك إلا بعد توقيع السفير الأمريكي على البيان الذي أعده الضباط!!

القصة الأخرى أن رجال الثورة حينما وجدوا رئيس الوزراء علي ماهر يتلكأ في تنفيذ خطوات الإصلاح الزراعي قرروا إقالته، يصف أحمد حمروش مجلسا لهم كانوا يتناقشون فيه عن أهمية وجود رئيس وزارة جديد كالتالي: سليمان حافظ نائب رئيس مجلس الدولة يقول لهم: أقترح أن يكون رئيس الوزراء الجديد السنهوري ، فإذا بعلي صبري – حلقة الوصل بين الثورة وأمريكا وقتها – يهمس في أذن جمال سالم بشيء ما (!) وبناء على هذا الهمس يعتدل جمال سالم في جلسته ويقول: السنهوري على العين والرأس لكن نخشى من عدم موافقة الأمريكيين عليه، "بلاش" أحسن لأنهم يتهمونه بأنه يساري!

وواصل الدكتور جلال سرده لعدد من الأمثلة التي يوضح بها إلى أي حد لم يكن الاختيار واردا وإنما كان كل شيء يتم وفقا لما تريده أمريكا:

حتى التغيير عن طريق انقلاب عسكري شكل أمريكي، الإصلاح الزراعي الذي تبنته الثورة كان السبيل المفضل لأمريكا لأنها تظن أنه السبيل الوحيد لمنع انتشار الشيوعية!

أتساءل الآن أيضا: مساعدة مصر لثورة الجزائر هل كان اختيارا مصريا؟ .. تبنيها للقومية العربية هل كان اختيارا بالفعل؟

أيزنهاور أشار إلى فراغ موجود في الشرق الأوسط فرد عليه عبد الناصر بأننا سنسدده بالقومية العربية.

يحق لي أن أتساءل هنا:

هل هذا كان يناسب المصلحة الأمريكية لصد انتشار النفوذ الشيوعي؟!

أسارع بالقول أن التساؤل ليس معناه أن ما قامت به مصر من تبن للقومية العربية خاطئ لكن علينا أن نعترف لأنفسنا أن ذلك كان يصب في مصلحة أمريكا!

اعتمدنا دائما في الإصلاح الاقتصادي على المعونة الأمريكية مع أن الشعب المصري بالحماس الذي كان موجودا كان يمكن أن يتخلى عن ذلك!

حتى مفهوم التنمية ربطناه بمتوسط الدخل وهو مفهوم أمريكي تماما، فضفاض لا يتعارض مع شراء أسلحة ... المفهوم الصحيح للتنمية: إشباع الحاجات الأساسية للناس ... هذا المفهوم لا يسمح بالرفاهية التي يسمح بها الأول!! هل يتصور أحد أنه بعد خمسين عاما وصلت الأمية إلى خمسين بالمائة مع الإشارة إلى أن كوبا قد محت الأمية تماما خلال عامين ... وكلها أمور كما أقول تتمشى مع العصر الأمريكي!   مرحلتان

فصل جلال أمين بعد ذلك التغيرات العالمية التي حدثت خلال مرحلتي العصر الأمريكي ... وهي تغيرات فرضت نفسها على الحالة السياسية المصرية ...

1- في الخمسينيات والستينيات (المرحلة الأولى) لم تكن أمريكا قد تسلمت ميراث العالم بشكل حقيقي وابتداء من السبعينيات (المرحلة الثانية) كان هذا قد تم.

2- في (المرحلة الأولى) كان نمو الاقتصاد الغربي والأمريكي نموا غير مسبوق في تاريخ البشرية .. وابتداء من المرحلة الثانية تباطأ هذا النمو بشكل ملحوظ.

3- في الأولى كانت اليابان وأوروبا تعيد بناء اقتصادها، وفي الثانية بدأت تغزو الاقتصاد الأمريكي في عقر داره. 4- في الأولى انتشر نفوذ الاتحاد السوفيتي وفي الثانية لم يعد يشكل خطرا من أي نوع.

5- في الأولى كانت إسرائيل توطد أقدامها في فلسطين وفي الثانية كانت تسعى بكل الطرق إلى توسيع كيانها.

أريد أن أخلص إلى أن أمريكا في المرحلة الثانية كانت تريد اقتصادا أكثر انفتاحا على الغرب حيث لم تعد أسواقها كافية لاستيعاب منتجاتها .. وفتح الاقتصاد كان يتطلب طرد روسيا من المنطقة، نظاما أكثر سهولة في التعامل مع إسرائيل، القضاء على القومية العربية، تفكيكا لسلطة الدولة ... باختصار كانت أمريكا تريد دولة رخوة!

تحدث جلال أمين بعد ذلك عما أسماه بالمرحلة الثالثة .. أكد أنها بدأت ع سقوط الاتحاد السوفيتي ... ثم بدأ في تقريب أبعاد هذه الرحلة إلى الأذهان:

العدو القديم "الاتحاد السوفيتي" و"الاشتراكية" انتهى وكان على أمريكا البحث عن عدو جديد! لماذا؟ .. حتى يستمر إنتاجها للأسلحة، وحتى تروض الرأي العام الأمريكي، إنها تريد دائما أن تضعه في حالة خوف دائم، يقولون له: هناك من يتربص بك، من يحسدك، هذا هو السبب في تقبل الشعب الأمريكي للقهر المفروض دائما عليه من سلطته.

ما حدث في العالم أيضا خلال هذه المرحلة أن قوة إسرائيل قد نمت بينما أصاب العرب نوع من الإرهاق الشديد ... كذلك تنامي التهديد الاقتصادي لأمريكا خاصة بعد صعود قوى جديدة في الشرق الأٌقصى وقيام الاتحاد الأوروبي ولهذا كان على أمريكا أن تتعامل مع المنافس الجديد ...هذه الأحداث كانت تتطلب تغييرات في العالم العربي والإسلامي أكثر من أي منطقة أخرى لأنه ليس أنسب لأمريكا وإسرائيل من تسمية العدو الجديد بالإرهاب الإسلامي الأمر الذي يعطي مبررا لإسرائيل أن تفعل ما تريد والعرب في حالة – كما ذكرت – من الإرهاق والتعب ... الغرب يتهمهم بأنهم مجرمون فيكون ردهم:

والله جايز ... والله محتمل!!

علق ساخرا: وصلنا إلى حد أن نقبل أي إهانة يمكن توجيهها إلينا.

واصل: كانت نتيجة هذا أن الضربات التي تلقاها العرب خلال عشر سنوات لم يكن لها مثيل!

لقد نشر جلال أمين مقالا مشابها يؤكد فيه السيطرة الأمريكية على ثورة يوليو في عدد مجلة الهلال التذكاري بمناسبة مرور نصف قرن على ثورة يوليو ...لكنني أتساءل: هل لاحظ القارئ حديث جلال أمين عن قانون الإصلاح الزراعي ... وأنه كان طريقة أمريكية ...لقد ظللت أعواما لا أريد أن أصدق جلال كشك في انتقاداته العنيفة واتهاماته الأعنف لمحمد حسنين هيكل ... وكان أحد هذه الاتهامات هو الاختلافات بين نصوص كتبه ما بين الطبعة العربية والطبعة الإنجليز ية ... كنت دائما أدافع عن هيكل .. وكنت أقول لنفسي إن خصائص كل لغة تستلزم نوعا من الاختلاف في الأسلوب ... لكن واقعة محددة طعنت قلبي ...واقعة واضحة صريحة مريرة فاجعة تنال مباشرة من مصداقية هيكل الذي كنت أظن أنني فهمته، فهو لا يكذب أبدا كما أنه لا يقول الحقيقة كاملة أبدا ... كنت مقتنعا بذلك ...

وكنت أظن أنه مفيد على أي حال كمصدر للمعلومات وكمحلل بارع .. ولم أكن قد أمسكت به متلبسا بالتزوير .. وحتى عندما دبج جلال كشك آلاف الصفحات ... وحتى بعد كتابات مايلز كوبلاند ومصطفى أمين ظل رأيي في هيكل كما هو ... كنت دائما أنصف هيكل على حساب جلال كشك ... بل كنت أتهم مصداقية جلال كشك عندما يكتب عن الطبعات الأجنبية لمؤلفات محمد حسنين هيكل ...لكن الميزان بدأ يميل لصالح جلال كشك ... وفي واقعة محددة ولنقرأ في كتابه: ثورة يوليو الأمريكية الطبعة الثالثة – المكتبة الثقافية ص 95 و 96:

ونمضي في المقارنة بين ما قيل للغربيين المتنورين، وما أعدته مؤسسة تزييف التاريخ لقرائها بالعربية ... فنقارن بين صفحتي 49 الطبعة العربية وصفحة 8 من الطبعة الإنجليز ية (من كتاب ملفات السويس) فنفاجأ بأن الأستاذ قد أتحفنا بنص رسالة الوزير الأمريكي المفوض في مصر عن اللقاء بين فاروق وروزفلت، وترجمها مشكورا هو أو مكتب سكرتيرته السابقة، المتآمرة على "الزعيم" بواقع التسجيلات ...

ومنع الخطاب رقم 11 في قائمة الوثائق التي ازدان بها الكتاب العربي وطرب لها الأميون – ومن أجل استرداد المصداقية التي ضاعت! إلا أننا نكتشف أنه حتى في الوثائق، فإن الأخ الأكبر لا يتورع عن تنقيح التاريخ، بما لا يخدش حياء قرائه القاصرين ... ففي الوثيقة العربية سقط عمدا أهم ما قاله الرئيس الأمريكي للملك فاروق، الأمر الذي لم يكن بوسعه حذفه من الطبعة الإنجليز ية ... أو من يدري لعله فعل وأضافه الناشر الإنجليز ي لتعزيز المصداقية إياها! ... والنص المخفي هو:

واقترح الرئيس الأمريكي على ملك غير متجاوب، اقترح روزفلت تقسيم الملكيات الكبيرة في (مصر وتسليمها للفلاحين لزراعتها) وقد بلغ الحرص على دقة النص أن كلمة: فلاحين! كتبت هكذا: fellahin لتحديد الطبقة المقصودة بالتوزيع ... لماذا ضن "هيكل على البؤساء من قرائه العرب بهذا النص البالغ الخطورة؟! رغم التطويل المتعمد في الطبعة العربية والاختصار في الإنجليز ية ... لماذا؟!

الجواب معروف: لأنه يعزز حجة القائلين بأن الإصلاح الزراعي هي أصلا، مطلب أمريكي قديم منذ 13 فبراير 1945 أي قبل الثورة بسبع سنين ... وها نحن في أول لقاء بين رئيس أمريكي وملك مصر، لا يجد الرئيس الأمريكي ما يقترحه على "ملك غير متجاوب" بل مهتم أكثر بالشكوى من معاملة الإنجليز ، لا يجد الأمريكي ما يطلبه إلا الإصلاح الزراعي ... ولكن لأن هذه الحقيقة تعزز حجج خصوم الناصرية فقد استحقت أن تنسخ وفي أول ملزمة ... ولكن هيهات فقد بقي حكمها، بل ونصها الإفرنجي!

وعندما يكتب التاريخ بهدف إخفاء تهمة، فهو لا يكون تاريخا، بل شعوذة وتزويرا في مستندات رسمية ... هرعت إلى نسخة ملفات السويس عندي ولم أجد الجملة ...وظل الميزان يميل لصالح جلال كشك أعواما وأعواما ولكن ظلت هذه الواقعة تضيع في زحام مشاغلي وعدم تيسر طبعة إنجليزية ... حتى لجأت أخيرا إلى صديقي الأستاذ محمد طاهر وهو يقيم بالخارج فتفضل بإرسال صورة لصفحة 8 بالنص الإنجليز ي. وشعرت بطعنة الخيانة ..هيكل إذن درج على إخفاء ما يتعلق بعلاقة ثورة 23 يوليو بالمخابرات الأمريكية.

وكان نص الصفحة كالآتي:

Cuting the Lions Tail Populous and potentially the most powerful of the emerging Arab nations And Ethiopia, together with the British at their base in Aden, controlled the strategically vital at noon on 13 February 1945, straits between the Red Sea and the Indian Ocean.

Roosebelt received Farouk on board USS Quincy, anchored in the Great Bitter Lake.

To an unresponsive monarch, more interested in complaining about the iniguities of Killearn, he suggested that it might be agood idea to break up the large landed estates in his country and hand them over for cultivation by the gellahin.

At noon the following day he received the King of Saudi Arabia. They considerd the question of homeless Jews in Europ, the King insisting on the impossibility of cooperation between Arabs and jews, in Palestine or anywhere else, and the President promising that he would do nothing to assist the Jews against the Arabs and that he would make no move hostie to the Arab people.

The two leaders then went on to discuss the British and the French. We like the English, said the President, but we also know the English and how they insist on doing good themselves. You and I want freedom and sacrifiece to bring freedom and prosperity to the world, but on the condition that it be brought by them and marked "made in Britain". 'Ibn Saud smiled, and nodded assent.

Later the King said that he had never heard the English so accurately described.

'The contrast between, the President and mr Churchill is 'very great,' he told the American Minister in Jeddah 'Mr Churchill speaks deviously, evades unkerstanding, changes the stabject to avoid commitment, c. ordng me repeatedly to bring him back to the point. The President seeks understanding in conversation his effort is to make two minds meetb to dispel darkness and shed light on the issue. 'On his return Roosevelt told Congress that he had 'learnde more about the whole problem, the Moslem problem, the Jewish problem, by talking with ibn Saud for five minutes postwar harmony between America and the Arabs seemed to be about to open.

Tow months later roosevelt was dead.  

الباب السادس:إن لم نمت بالرصاص شهداء مأجورين فسوف نموت بالسياط عملاء مأزورين

إن لم تكن تهمكم الآخرة ... فاحرصوا على الدنيا؟!!

ناصية كاذبة خاطئة

هل المطلوب حقا أن ننبذ سيد قطب وعمر عبد الرحمن ومحمد بن عبد الوهاب ... أم أن المطلوب أن نترك القرآن والرسول ص والإسلام ...أليس عارا أن الأمة لم تفقد فقط فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل انتقلت منها إلى فاحشة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ...فمن أصر على قول المعروف أسوأ ما كان .. أفظع ما كان ... أخطر ما كان ... إن الخونة والحمقى قد مزقوا الأمة وراحوا يتناولون ما حدث لكل مزقة بمعزل عن الأخرى فلم يدركوا أن الهجوم على الجسد الإسلامي يحمل نفس الآليات والسمات ... فلو أننا كنا قد درسنا وفهمنا كيف تم ترويض تركيا لأمكننا إنقاذ مصر ... ولو فهمنا كيف أسرت وروضت واستعبدت مصر لأمكننا إنقاذ الجزيرة العربية ... ولو أمكننا إنقاذ الجزيرة ما سقطت العراق.

وهكذا دواليك ...لقد تعمد السلطان الذي افترق عن القرآن .. وخلفه طابور هائل من فقهاء السلطان والكتاب والخصيان أن ندرس كل جزء من عالمنا الإسلامي بمعزل عن بقية الأجزاء.

كل أولئك إذن ليسوا مجرد عملاء لأعداء الإسلام ... بل هم أعداء أصليين ... يدركون أن الإسلام حين ينتصر وهو حتما بإذن الله سينتصر سيفعل بهم ما سيفعله بالأعداء سواء بسواء ...أجل ...يجب أن ندرك ذلك ... هؤلاء جميعا ... ليسوا مغلوبين على أمرهم .. ولا هم مخطئين في اجتهادهم ... ولا هم يناورون ... ولا على أبصارهم غشاوة ..إنهم أعداء أصليون ...مصالحهم في ذات الجانب ...ومصالح أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله في الجانب الآخر ...وأريد أن أنبه القراء أن هذا الاستهداف المكثف لما يسمونه بالإرهاب والإرهابيين .. ليس للقضاء على المتطرفين والإرهابيين كما يزعم الخونة ... ولا للقضاء على الوهابية (لا يوجد ما يسمى بالوهابية ولكنني أستعمل المصطلحات الشائعة) ..إنما المطلوب هو القضاء على الإسلام ذاته ...نعم أي ساذج يدرك أن هدفهم ليس أسامة بن لادن ولا سيد قطب أو عمر عبد الرحمن أو محمد بن عبد الوهاب ... ذلك أن هدفهم الحقيقي هو القرآن والرسول ص والإسلام ... حتى السذج يدركون ذلك فلا ينكره إلا حاكم خان أو مثقف كفر.

بهذا المفهوم أكتب عن مصر وعيني على الجزيرة العربية وقلبي في العراق ...أكتب عن حادث المنشية دون أن أقصده وحده أو أن أقتصر عليه، ولقد كنت في الواقع أكتب عن خمسين عاما قادمة لا عن خمسين عاما ماضية!! أو على الأحرى كنت أكتب عن زمان يمتد للوراء قرنين على الأقل ويمتد في المستقبل إلى ما شاء الله له أن يمتد ..ول أكن حتى أقصد مصر ...كنت كالطبيب الذي يحصل من جسد المريض على عينة كي يشخص مرضا ألم بالجسد كله ...أو كمهندس المعمار الذي يتابع شرخا في البناء إلى جذوره في أساسات ذلك البناء دون أن يخدعه تماسك الطلاء ... وهو يدرك بالتأكيد أن كل ما يحدث على السطح إنما هو نتيجة لما يحدث في الأساسات المختفية تحت التراب..وجزء من تلك الأساسات كان في المنشية عام 54.

وكان يعود إلى ما حسبناه حين حدث بطولة فإذا به مقطع من مؤامرة ما زالت تحدث، وإن كانت قد غادرت إرهاب المؤامرة بعد أن انتفت دواعيه ليسفر عن وجهه دون أقنعة ..يكشف بعض المؤامرة مايلز كوبلاند ...عندما قرأت كتابه لعبة الأمم بداية السبعينيات سخرت منه كثيرا ... كان يوحي أنه الرجل الذي صنع الملوك والرؤساء، وأعاد شاه إيران إلى العرش، وجاء بحسني الزعيم، والحناوي، والشيشكلي، وجمال عبد الناصر إلى السلطة.

كنت أقرأ كتاب الرجل كما أقرأ كتابات كتابنا المهرجين ...كان الرجل يقص كيف بدأت علاقة ثورة23 يوليو بالمخابرات الأمريكية قبل قيامها بشهور ... وكيف استمرت بعد قيامها حيث فضل قادتها العلاقة ع المخابرات عن العلاقة الطبيعية عن طريق السلك الدبلوماسي ... ويقلب الرجل كثيرا من الحقائق المستقرة في أذهاننا ... وكيف اتفقت مصلحة عبد الناصر معهم في ضرب التيار الإسلامي ...حديث كوبلاند عن هيكل أسوأ بكثير من ذلك ..ولقد تجاهلت ذلك كله ...لكنني فوجئت بالدكتور مصطفى خليل في حوار له في برنامج شاهد على العصر – قناة الجزيرة – بتاريخ 8/ 9/ 1421هـ الموافق 4/ 12/ 2000م.

يسأله أحمد منصور:

- هل تعتقد أن اللي ذكره كوبلاند – وأنت كنت وزيرا ونائبا لرئيس الوزراء في عهد عبد الناصر – إن ما ذكره كوبلاند صحيح كله؟

ويجيب د. مصطفى خليل:

أعتقد أنه قال: الحقيقة في جزء كبير من الكتاب بتاعه.

يا إلهي.

قال الحقيقة في جزء كبير ...لو أن عشر ما قاله صحيح لكانت الكارثة كاملة .. والخيانة كذلك ...ثم سمعت أنه عرض على واحد من أقوى من تولوا رئاسة الوزراء في مصر – عبد العزيز حجازي – أن يجنده ... سمعتها من رئيس الوزراء نفسه في حوار على قناة المحور المصرية ...فالرجل لم يكن وهما كما لم يكن "نصابا" كما حاول هيكل أن يظهره ...تقول مجلة فلسطين في عددها بتاريخ السبت 27 سبتمبر 2003:

ومما لا شك فيه أن تاريخ المخابرات الأمريكية في مصر قديم ... قدم يقظة هذا الشعب ... ولكن النشاط المكثف للمخابرات الأمريكية بدأ منذ فجر ثورة يوليو 1952م ... وسجل المخابرات الأمريكية في مصر طويل ... ومرير مليء بالأحداث والأرقام بدءا من "كيرميت روزفلت" ومرورا بـ "ويليام ليكلاند" المسئول السياسي في السفارة الأمريكية آنذاك ثم "ستيفن مد" أحد البارزين من المسئولين عن عمليات المنطقة العربية والذي سبق له في عام 1949 أن كلف بمهمة الإعداد لانقلاب حسني الزعيم في سوريا (...) واستطاع أن يعقد علاقات طيبة مع عدد من كبار الصحفيين المصريين من بينهم محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين.

الصورة المثالية الحالمة التي يحاول هيكل رسمها للثورة إذن ليست مثالية على الإطلاق.

نعم ... برنامج صناعة النجم غير الحقيقة وألبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق.

كل ذلك .. لم يكن كذلك ...والصدق كان غائبا ...والكذب كان سائدا ولقد قهروا الأمة على أن يكون الكذب عقيدة لا تحتمل سؤالا واحدا ...نعم ...لم يكن الأمر سوء حظ ولا سوء تقدير ولا اختلافات رؤى ..بل كانت من البداية – ناصية كاذبة ...كان مشايخ من الأزهر يفتون بعبادة الشيطان ..وكان المذيع الشهير حمدي قنديل – لن ينسى الأمريكان ولا الشيطان هذا الصنيع له أبدا – يذهب إلى السجن الحربي ليسجل مبايعة الإخوان المسلمين لعبد الناصر ... كانوا تحت وطأة التعذيب يعدون أنهم سيبايعون .. لكنهم كانوا يتراجعون أمام الميكروفون فيرفضون التسجيل ... وكان المذيع الكبير الشهير الإنسان القومي المهذب "الشيك" ينادي الزبانية قائلا:

"شيلوا القرف ده" وهو يقصد أن يأخذوهم ليعطوهم جرعة أخرى من التعذيب تقنعهم بالتسجيل معه.

لا بطولة ولا رومانسية ولا إبهار ولا حتى مأساة ...إنما إجرام ..وناصية كاذبة خاطئة ...ولكن .. فلنؤجل كوبلاند وأضرابه الآن ... ولندخل في جحيم مستعر آخر من الألم تحمله رسالة من القارئ أحمد صبحي الذي ينقل لنا في ثنايا رسالته الطويلة مقتطفات من خطبتين لجمال عبد الناصر ، واحدة منهما يوم المنشية، والثانية بعدها بأيام ...لا حول ولا قوة إلا بالله ...لعلك يا سيدي تعلم أن جيل الشباب في بلادنا تربى ونشأ على الأوصاف الأسطورية لعبد الناصر – بطل العروبة – عدو إسرائيل وأمريكا رقم 1.

القائد الذي لم يسالم ولم يهادن ..لم تكن أخطاؤه إذن كما علمونا سوء تقدير – بل كانت جزءا عظيما ن المؤامرة على الإسلام في بلادنا ...الآن فقط أدركت أنه من أكبر أعداء الإسلام في القرن العشرين ...(....).

يصنع مسرحية المنشية ثم يقول بعد نجاته المزعومة:

"فقد وضعت فيكم العزة ... فليقتلوني ... فقد وضعت فيكم الكرامة" مع أن التاريخ يذكر أن فترة حكمه من أسوأ فترات كرامة الشعب المصري.

وفي كلمة الرئيس جمال عبد الناصر في دار هيئة التحرير في ميدان الجمهورية بمناسبة نجاته من حادث المنشية يقول:

ولكني كنت حريص – كما كان إخواني حريصين – على أن تستمر هذه الثورة ثورة بيضاء يتألف فيها الجميع، ويعمل فيها الجميع من أجل عزة الجميع، ومن أجل كرامة الجميع، ومن أجل حرية الجميع ... حينما قلت هذا كنت أعلم أن الهضيبي قد اختفى، وأن الهضيبي في مخبئه أعلن الجهاد ... أعلن الجهاد ضد من ...؟ ... لا ضد اليهود ، لا ضد الإنجليز ، ولكن ضد الثورة وضد رجال الثورة ... وكنت أعلم أن الهضيبي يتآمر ضد من .. ضد هؤلاء الناس الذين قاموا في 23 يوليو ، يشعرون بمشاعركم، ويطالبون بأهدافكم، وينادون بما تطالبون به .. يطالبون بمطالبكم؛ لأنهم كانوا يحسون بإحساسكم، ولأنهم كانوا يشعرون بمشاعركم" (...) (إن قائمة الاتهامات التي ستحكم بها المحكمة المجرمة كاملة منذ اليوم الثاني للاغتيال .. وحتى قبل سماع أقوال المرشد العام المستشار حسن الهضيبي ... م ع) ...

يواصل عبد الناصر :

"قلت هذا – يا إخواني – وأنا كنت أعلم ماذا يدبره الهضيبي وماذا يدبره أعوان الهضيبي، ولو كنتم ترجعون قليلا إلى الماضي، في الأيام اللي قبل الاتفاقية، لوجدتم أن أنا ما كنتش باحضر اجتماعات عامة لسبب بسيط، كنت أعلم أن الهضيبي يبيت أمرا ضد جمال عبد الناصر وضد إخوان جمال عبد الناصر ... وأنا في عدم حضوري هذه الاجتماعات لم أكن حريصا على حياة جمال عبد الناصر ، إخواني لم يكونوا بهذا حريصين على حياتهم، ولكنا كنا حريصين على أن تتم هذه الاتفاقية التي تحقق للوطن جلاء كاملا ناجزا، والتي تخلص الوطن لأول مرة منذ أكثر من سبعين عاما من الاستعمار ومن الاحتلال ... قررنا أن احنا ما نحضرش اجتماعات عامة، لأن احنا كنا نعر ف إن فيه ناس متربصين – بأوامر من الهضيبي وبأوامر من أعوان الهضيبي – علشان يقوموا بأعمال فردية أو يقوموا باغتيالات.

(...) .. (ولنذكر شهادة الوزير أحمد طعيمة ... وكيف أن هذا التوتر كان سائدا للدرجة التي جعلت عبد الناصر وزملاؤه يتجنبون الظهور ... وبرغم هذا فإن الملاك الرحيم جمال عبد الناصر يرفض اعتقال المرشحين لاغتياله .. لينقلب إلى شيطان رجيم بعد أيام فقط ... م ع).

ويواصل عبد الناصر :

"أنا مش فاهم تحت أي اسم من الأسماء وتحت أي معنى من المعاني، وفي أي سبيل يسير بنا الهضيبي، يدي كل واحد طبنجة .. يدي كل واحد مسدس ويقوله: تعالى نقيم صرح الدين! دين إيه اللي حيتقام بالكراهية؟! دين إيه اللي حيقام بالبغضاء؟! دين إيه اللي حيقام بالحسد والضغينة؟! دين إيه اللي حيقام بالتقتيل؟! مش تقتيل الأفراد ... مش تقتيل الأشخاص، ولكن تقتيل الرسالات، تقتيل المبادئ، تقتيل المثل العليا".

(....) "نسي الهضيبي هذا – يا إخواني – واعتمد على أننا نقول: إن هذه الثورة ثورة بيضاء، وأننا نتسامح وأننا نتعاون وأننا نتحاب وإننا نتآلف ... والله إن الهضيبي في مخبئه قد غره هذا، وقد اعتقد أن هذا ضعفا، لم يعتقد أن هذا تسامحا، وأن هذا التعاون كان من أجل بناء الوطن، ومن أجل عزة الوطن ... ولكني أقول اليوم أمامكم أيها الرجال يا بناة مصر: إذا كان هذا التسامح وإذا كان هذا التآلف، وإذا كنا نمد أيدينا ونجد أن النتيجة هي الخيانة والغدر، إذا كانت هذه هي النتيجة فإن التسامح وإن التآلف، وإن الثورة البيضاء لن تكون أبدا في مصلحة مصر، وإنها ستكون ضد مصر، وإنني إذا خيرت – يا إخواني – بين الثورة العرجاء، وبين الثورة الحمراء، فلن أقبل أبدا ثورة عرجاء، ولتكن ثورة حمراء".

(هل يختلف هذا عن رأي رامسيفيلد أو بوش أو شارون في الإسلام والمسلمين ... م ع).

(...) وأقول اليوم مرة أخرى: إننا لن نسمح مطلقا بأن تبقى في هذا الوطن جماعة من الجماعات تعتمد على جهاز سري، ولن نسمح مطلقا أن تقوم هناك دولة داخل الدولة أو تكون حكومة داخل حكومة تعتمد على الخداع، وتعتمد على التضليل، وتعتمد على الإرغام، وتعتمد على الرصاص، وتعتمد على التقتيل، وتعتمد على الإرهاب، لن تقوم هناك ديمقراطية ولن تكون هناك حرية طالما كان هناك إرهاب، وطالما كان هناك غدر، وطالما كان هناك تهديد، وطالما كان هناك تخويف".

(مرة أخرى: من الذي يتكلم ... عبد الناصر أم رامسيفيلد .. وبإيجاز شديد فإنه يتجاهل نقاطا ثلاثة: الأولى: أنه ليس ثمة مجال للشك في أنه ظل عضوا نشيطا في التنظيم الخاص لمدة أربعة أعوام، وكذلك معظم زملائه، وهو يعرف جيدا أن اسمه التنظيم الخاص وليس السري، والثانية أن هدفه الرئيسي كان القتال في فلسطين وعلى القناة، أما الأمر الثالث فإنه قد نكل بالجماعة بينما قرب السندي رئيس التنظيم وجماعته ومنحهم الوظيفة والمال والسكن ولم يكن يرفض لهم طلبا حتى ماتوا ... ومات ... م ع).

"إنني لا أقول هذا لأنهم حاولوا أن يعتدوا على جمال عبد الناصر ، مطلقا .. أبدا ... والله يا إخواني ... وأنا لم أحمل لمحمود عبد اللطيفهذا حقدا ولا ضغينة ... مطلقا، وأقسم لكم بالله إني حتى الآن لم أحمل له أي حقد، ولم أحمل له أي ضغينة لأني أعتقد أنه مضلل وأنه مخدوع .. ولكني – يا إخواني – أوجه الاتهام لهؤلاء المخادعين المضللين الذين أرادوا أن يضللوا أبناء مصر وبعضا من أبناء مصر، يضللوهم من أجل تحقيق أغراض ... أغراض حقيرة أغراض هزيلة، أغراض شخصية أغراض نفعية، واستغلوا في هذا – يا إخواني – الإسلام، واستغلوا في هذا – يا إخواني – الدين واسم الدين".

(وربما تكون هنا كلمة الصدق الوحيدة في الخطاب .. وهي أنه لا يحمل ضغينة لمحمود عبد اللطيف... وأنه كان مخدوعا .. وأنه حتى لا يوجه له الاتهام .. م ع) ..

انتهى الخطاب ويواصل القارئ الأستاذ أحمد صبحي رسالته الطويلة:

انظر يا سيدي إنه يقلب الحقيقة 180 درجة – يتكلم كما لو كان الإخوان هم من غدروا به وليس العكس – وأعتقد يا سيدي أن كلمة الإرهاب سمعها الناس أول ما سمعها كانت في هذا الخطاب.

يقول إن الإخوان قبل الثورة كانوا من أتباع الملك - فمن قتل حسن البنا إذن – في الوقت الذي كان هو يحضر للثورة – أغفل أنه كان عضوا في الإخوان – ويلمح بين حين وآخر أن الثورة ستصبح حمراء.

وكالعادة يصفق الشعب ويصبح جمال بين يوم وليلة شخصية طاغية وأكثر جماهيرية من محمد نجيب.

لا حول ولا قوة إلا بالله.

ما هذا هل تحول المصري فعلا إلى مهرج كما قال عمر التلمساني.

شعب امتلأت أذنيه وقلبه بالشعارات الجوفاء .. كيف سيحرر هذا فلسطين .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... أخوك أحمد صبحي ...انتهى الخطاب ...المزعج ... المرعب .. المخيف أن من يتابع ما يحدث لعالمنا العربي الإسلامي يدرك على الفور أن الأمر لم يكن أمر إرهاب أبدا وأن المنبع كله واحد .. منبع نجس كافر يهدف إلى تقويض الإسلام بالتقسيط بعد أن فرضوا على أمته التجزئة.

يجلس الكاتب العلماني الاستراتيجي يتيه علينا فخارا باستراتيجيته ليقول لنا جملا من نوع:

"وهكذا نلاحظ أن إسرائيل تشن علينا حربا كل عشرة أعوام تقريبا ...".

يقولها اللبنان ي ... يقولها السوري ... يقولها الأردن ي ... يقولها المصري وابن الجزيرة ... وكل واحد منهم يقصد وطنه فقط دون نظرة إلى أن الهجوم ليس على هذا ولا على ذاك بل على الإسلام نفسه.

أما كاتبنا الاستراتيجي نفسه فهو واحد من أفراد العصابة ... ولم يكونوا ليسمحوا له أن يكون كاتبا لولا أنه نحى الإسلام كمرجعية.

وبدون الإسلام ليست لنا أية قضية ...نعم ...بدون الإسلام ليست لنا أية قضية ..بالإسلام سندرك أن الأمر لا يتعلق بحرب كل عشرة أعوام بل بحرب لم تتوقف أبدا.

بالإسلام سندرك أن ما حدث مع علي بك الكبير بتأييد موسكو ... هو ما حدث مع محمد علي بتأييد فرنسا هو ما حدث مع كمال أتاتورك والرئيس: (...) والملك (...) ... و ... و ...كلها فصول في نفس القصة ...أما من يتناول فصلا في القصة ويعتبره الحكاية كلها فلن يفهم أبدا ..والكارثة ..الكارثة ...أن عدم الفهم هذا غالبا ما يكون جريمة متعمدة مع سبق الإصرار والترصد ...جريمة مدفوعة الثمن ..من هذا المنطلق إذن كانت كتاباتي في الحلقات الماضية ...وكان المفروض أن يأتي هذا المقال بعد شهور أخرى أكمل فيها ما حدث بعد مذبحة المنشية في مصر لكي يكون هو الأخير في الدراسة – والكتاب".

لكن إحساسي بالكارثة المحدقة الوشيكة كان يطاردني ...كنت أكتب عن مذبحة المنشية وهم المستقبل في وجداني ... وكان النذير داخل قلبي يصرخ:

- أسرع ... قبل القارعة ...وحاولت الإسراع ما استطعت، بل وحاولت أن أسبق سياق الأحداث فرحت أناشد علماءنا ونخبتنا خاصة في مصر والسعودية :

اصبروا وواجهوا رحمكم الله فأنتم البقية الباقية التي تحمل ميراث النبوة ... اصبروا واصمدوا وواجهوا رحمكم الله فأنتم اليوم في وضع الإمام أحمد بن حنبل ... لا يباح لكم رخصة في المواجهة ولا تقية فأنتم بالنسبة لأمة لا إله إلا الله محمد رسول الله بمثابة العالم الذي يزل بزلته عالم ...ودعونا نسمي الأشياء بمسمياتها:

ليس ثمة تثريب علينا في ممارس ة الإرهاب بمعناه الإسلامي لكي نرهب به أعداء الله.

وليس هناك في الإسلام متطرفين وإنما هناك مستمسكين بالعروة الوثقى ولا ينفي هذا أن كل ابن آدم خطاء ... ليس هناك متطرفون بل هناك حكام لا يستنكفون أن يضيعوا الإسلام وأهله مرضاة لسادتهم ... وتثبيتا لدعائم ملك لم تعد تمسك بأطرافه المتهاوية إلا العمالة للكفار.

يا أهلنا ...إنكم تمرون الآن بما مر به إخوتكم في مصر منذ خمسين عاما .. حين تعرضت مرجعية الإسلام للاغتيال .. فغم على الأمة ... ترددت نخبتها ... وخان بعض علمائها مالئوا الطواغيت تماما كما يحدث الآن ... فخاف الأغلبون أن يقتلوا – شهداء بالرصاص - ... وكانت النتيجة عندنا – وستكون في كل مكان آخر يفعل علماؤه ما فعله علماؤنا – أن ماتوا ويموتون حتى الآن بالسياط والاعتقالات وقد نحى الإسلام عن المرجعية تماما تماما. رفضوا الموت مأجورين فماتوا مأزورين.

رفضوا ميتة العز والفخار فماتوا ميتة الخزي والعار.

يا علماءنا: إن الأرض عطشانة إلى دماء عالم شهيد يقف للسلطان الجائر ...

يا علماءنا إن: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه).

ويا علماءنا في الجزيرة: عن أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ .. قال: "إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم" .. قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ .. قال: "الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالكم".

يا أهلنا وعلماءنا: إنكم الآن من الأمة بمثابة الإمام أحمد بن حنبل في المحنة فإذا ثبتم أنقذتم الأمة وإذا استسلمتم هلكت الأمة ... وما أقول لكم إلا ما قاله الأعرابي للإمام أحمد: يا هذا إنك وافد الناس فلا تكون شؤما عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك إن لم تقتل تمت وإن عشت عشت حميدا.

يا أهلنا وعلماءنا فلتطلبوا من طواغيتكم أن يأتوكم بآية من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تجيبوهم إلينا.

ويا علماءنا: لقد سئل الشهيد سيد قطب لماذا كنت صريحا كل الصراحة في المحكمة التي تملك عنقك؟ ... فقال: لأن التورية لا تجوز في العقيدة، ولأنه ليس للقائد أن يأخذ بالرخص.

يا علماءنا: واجهوا الطاغوت.

والطاغوت الآن لا يهدف إلا ترويضكم ترويض النخاس للعبيد ... وحتى إذا كانت ثمة أخطاء من بعضكم فما يرفع طواغيتكم إلا كلمة حق يراد بها باطل ... إن كانت كلمة حق ...ولكنني كنت أسابق الكارثة .. وكان قلب ينبئني أن ما حيك لمصر وللإسلام في مصر عام 1954 يعطي الآن ثماره المرة في الفالوجة وجنين .. بل في الرياض ودمشق وعمان .. و ... و ... وأن بذور الشيطان التي استنبتت في رحم الثورة تعطي ثمارها بعد خمسين عاما ...لم يكن الأمر أبدا أمر إرهاب ولا خروج على القانون ... بل كانت مؤامرة أمريكية تنفذها أصابع مصرية ضد الدين وضد الأمة.

ولقد نجح برنامج صناعة النجم على غير الحقيقة فألبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق ...الطهر كان عهرا ...والبطولة كانت خيانة ...والخونة حاكموا الأبطال ..الآن أستطيع أن أكرر نفس الكلمات عن كل بلد في العالم الإسلامي يتابع الصليبيين والصهاينة فيما يدعون أنه الحرب على الإرهاب .. وأصرخ:

ليست إلا الحرب على الإسلام ...إن كل بلد مسلم وطني كما أن مصر وطني .. فالإسلام هو الوطن ...وأنا لست من فصيلة بعض شيوخنا ... الموظفين .. الذين يعبدون الحاكم لا الله ... الشيوخ الذين اعتبروا أن حدود سايكس بيكو تحدد صلاحية فتاواهم ... فما يصلح لمصر لا يصلح للعراق ... وهؤلاء الشيوخ أنفسهم .. يطلقون فتاوى عابرة للقارات إذا ما طلب منهم سفير أمريكي أو حتى حاخام إسرائيلي ذلك.

الإسلام وطن ... ومن هذا المنطلق أتكلم ... بل أصرخ .. لو كانت الحقيقة هي ما تقوله البيانات الرسمية فإن المعتقلين والمطاردين إرهابيون ... لكننا تعودنا في عالمنا الإسلامي كله .. تعودنا على كذب خسيس مجرم يغطي على خيانات مجرمة ... تعودنا في عالمنا الإسلامي على خائن .. نعم ... خائن يلبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق ... وهذا الخائن لا يفعل ذلك عن اختلاف في الفكر أو حتى خطأ في الرأي ... بل يفعله .. ببساطة .. وبمباشرة ... وبكلمة واحدة: لأنه خائن!!

لا تسألوني عن تفاصيل هذه الخيانة ولا عن أسبابها ولا حتى ثمنها .. لأن التفاصيل والعدد تضاهي عدد المسئولين!! لكنني أتكلم الآن عن خائن ينفذ دون أن يسأل عن السبب أوامر سادته ويحصل على الثمن ... وفي أغلب الأحوال يكون هذا الثمن تسترا على فضائحه وإخفاء لسرقاته وجرائمه .. فيطلق عن طريق أجهزته تلك الحملات الهستيرية المجنونة الصارخة التي لا تسمح لصوت العقل أبدا أن يتدخل .. بل إن أي تساؤل مجرد تساؤل – لا يعني إلا التورط مع الإرهابيين المجرمين واستحقاق العقاب مثلهم .. في هذه الحملات الهستيرية المجنونة لا تتم فقط الإدانة محاكمة ... ولا يكتفون بسحب الجنسية حين يسحبونها، بل إنهم يسحبون الصفات البشرية نفسها ... إنهم إرهابيون وخارجون على القانون ومتطرفون ورجعيون، وهم مجرمون أشرار .. خوارج كفرة .. وهم ليسوا بشرا ...

نعم ...هم ليسوا بشرا ..فذلك وحده هو الذي يجعل المجتمع يتقبل اعتقالهم وسجنهم وتعذيبهم، بل وقتلهم وتشويههم والتمثيل بهم لأنهم ليسوا بشرا ..هكذا فعل محمد علي بالمماليك ..هكذا فعل الفرنسيون مع سليمان الحلبي ...وهكذا فعل أتاتورك بالخلافة ..وهكذا فعلت الثورة في مصر مع شهداء الإخوان.

وهكذا يفعل الطواغيت في عالمنا الإسلامي مع أفضل المجاهدين والعلماء ...وفي كل هذه الأحوال كان المتهم (بفتح التاء المشددة) هو البطل.

وكان المتهم (بكسر التاء المشددة) هو الخائن ...ألا تشمون يا قراء تلك الرائحة النتنة التي تنبعث من توجيه كل هذه الاتهامات لكل من يحاول أن يوقف خيانة الحكام ...ألا تذكركم هذه الرائحة برائحة أخرى مثلها .. رائحة الصليبية والصهيونية وما فعلوه وما يفعلونه بشعوب العالم الإسلامي.

فشعوب العالم الإسلامي ليسوا بشرا .. إنهم إرهابيون متخلفون وأي كلمة للدفاع عنهم لا تعني إلا أنك تستحق العقاب مثلهم.

نفس المنهج ..نفس المنبع ..نفس الشيطان ..نفس الكفر ...نفس الخيانة ...فهل تدركون الآن يا قراء لماذا كتبت عن حدث المنشية الآن؟!

البيانات التي كان يطلقها وزير الداخلية المصرية أيام حادث المنشية كانت أشد م البيانات التي يصدرها وزراء الداخلية في عالمنا الإسلامي الآن ... ولا تقل عما يقوله رامسفيلد وذيوله في العراق ...واللهجة كانت واحدة ...والتفاصيل كانت واحدة ...والتفاصيل كانت مروعة ورهيبة .. وكان الإخوان المسلمون (أو الإرهابيون، أو الوهابيون، أو السلفيون، أو الأصوليون .. أو أي صفة يكون الإسلام قاسمها المشترك الأعظم) ينوون حرق البلاد وإغراقها .. وكان لديهم من المتفجرات ما يكفي لنسف القاهرة عشر مرات ... و .. و ... و ...وكانت كل الاعترافات وليدة التعذيب الهجمي الوحشي المجنون بأحدث أجهزة التعذيب الأمريكية ... وبرغم كل الاعترافات وكل الصحف وكل المجلات وكل الإذاعات فقد كان كل ما روجته الآلة الإعلامية الجبارة كاذبا ... وكان على رأس المروجين عميل حقير نجس ينفذ ضد دينه وأهله، بوعي أو بدون وعي ... بعلم أو بجهل مخططا صليبيا صهيونيا للقضاء على الإسلام.

وكان عبدا للشيطان. وحول الأجهزة التي يرأسها ويحركها إلى أجهزة لسحق أمن الأمة وروحها بدلا من أن تكون أجهزة لحماية الأمة ...وشيئا فشيئا تم تحويل كل القوى التي يجب عليها حماية الأمة إلى قوى ضد الأمة .. فالحاكم ما بين أحمق ومغفل وجاهل تم خداعه وقد حالف أعداء أمته مقابل بقائه على العرش ... وجهاز الأمن الغبي فقد عقله وتحول إلى حيوانات ووحوش مسعورة .. والنيابة أضحت تضاهي الشرطة في خستها أما القضاء فلم يعد سوى ألعوبة وقلم يكتب ما يملى عليه، وكلما ازدادت درجة التفريط في الضمير كلما ارتفعت درجة المنصب الذي سينسد إليه بعد خيانته .. وكذلك الصحافة وكل أجهزة الإعلام.

وكان المجرمون يحاكمون الأبطال. وما يزالون ..كان الكافر يطلب من المؤمن أن يتوب ..وكان الخائن يدين البطل ويحكم عليه ..ولم يعد الأمر أمر أنظمة حكم، بل أمر عصابات مجرمة لا تتورع عن قتل أي شرطي يحاول مقاومتها أو كشفها.

نعم ... منطق العصابات لا منطق الحكومات ..لذلك ... فكون وزير هنا أو هناك يطلق مثل هذه الاتهامات لا يعني صحة كلامه ... ولا لمثله إلا أن من يصفهم بالإرهابيين هم إرهابيون فعلا .. لك ... لو صدق معاليه ... وأن الأمة كلها تظنه صادقا، بل تلحقه بكل سابقيه من عبدة الشيطان ... ذلك لأن القواد حين يمتدح فتاة فذلك لا يعني سوى أنها ككتاب السلطة مجرد داعرة ... أما عندما يشهر بأخرى فهذا لا يعني سوى طهارتها وعفتها ...معاليه أو سموه أو سعادته أو حتى فخامته وجلالته في أغلب الأحوال خائن باع أمته وبلاده.

أحسب يا أمة .. ويا إخواننا في العالم الإسلامي أن حكايات كحكايات حسن عشماوي ومحمد فرغلي ويوسف طلعت ومحمد الصوابي وسيد قطب التي كتبت لكم عنها في الشهور الماضية تتكرر الآن بحذافيرها.

أحسب يا أمة .. ويا إخواننا في العالم الإسلامي أن كلابا للنار كجمال سالم وشمس بدران والدجوي وفؤاد علام هي التي تطارد الآن أبناءنا وإخوتنا وعلماءنا في شتى أرجاء العالم الإسلامي وتروج عنهم الأباطيل ...أحسب يا أمة ... ويا إخواننا في الجزيرة أن الخيانة وهي بالتأكيد موجودة .. لكنها بالتأكيد من نصيب الطرف الآخر... من نصيب واحد من مجموعة في مؤسسة الحكم.

أحسب يا أمة ... أن كل الذي يحدث إنما هو مخطط ...مخطط ومنشور ومعروف للدنيا كلها إلا لشعوبنا التي تسلط على إعلامها القوادون وعلى ثقافتها الشواذ ...عني أنا ... ليس لدي شك أن ما يحدث كله بتدبير أمريكي صهيوني ... وأنه يحدث باختراق كامل واشتراك – للأجهزة العميلة التي تدربت في أمريكا – كما أن الجماعات الإسلامية الجهادية غير محصنة ضد الاختراق على الأقل في التضليل بمعلومات خاطئة.

كانت البيانات كاذبة .. وكان كذبها معروفا على الأقل للخاصة ومنهم العلماء ... لكن الجبن أذل أعناقهم .. فتصنعوا أنهم يصدقون الطاغوت فأفتوا لصالحه .. ولقد سمعنا من علمائنا في مصر عام 54 نفس ما نسمعه الآن من بعض علماء السلطة ضد من تسميهم البيانات الرسمية بالإرهابيين.

أخزاكم الله يا علماء السوء ورفقاء الشيطان وفقهاء السلطان.

هذا التصور وأحسبه حقيقة يفضح موقف فقهاء السلطان ...في مصر ... في عام 54 خرج علينا شيخ الأزهر .. وشيوخ فيه .. ومفت للديار ... وعلماء وكتاب .. يدينون من سموهم بالإخوان المجرمين .. وكان أول من أطلق على الإخوان المسلمين هذا الاسم هم الصهاينة عام 48 ثم الجهاز الإعلامي للثورة عام 1954 ثم المخابرات الأمريكية بعد ذلك ... ولو أن بيانات جمال سالم وصلاح سالم وزكريا محيي الدين وجمال عبد الناصر أيامها كانت صحيحة لكان موقف العلماء صحيحا .. ولكان الإخوان المسلمون كما وصفوهم .. ولكن الأمر كان على العكس تماما ... كان كيرميت روزفيلت ومايلز كوبلاند من المخابرات الأمريكية يحركان كل شيء ... بل كان الأخير مستشارا لوزير الداخلية المصري عام 1954 م.

سوف نقطع التواصل لبرهة نعرض فيها لما نشرته مجلة أمريكية منذ أكثر من 24 عاما حسبما تنقل لنا صحيفة القدس العربي في عددها الصادر بتاريخ 29 – 10 – 2002 تقول الصحيفة:

كانت إحدى ألعاب وخطط الحرب التي تنبأت بشكل محدد، بغزو عراقي محتمل للكويت وقد وضعت مسودتها في البنتاغون ... كما أن مقالات قد نشرت في المجلات الأمريكية تتحدث عن احتمالية من هذا القبيل ... فقد نشرت مجلة فورتشن في عددها الصادر يوم 7/ 5/ 1979 أي قبل 12 سنة من حرب عاصفة الصحراء، سيناريو لعبة حرب تضمنت تفصيلا لكيفية رد الفعل الأمريكي العسكري والخطط التي ستطبقها الولايات المتحدة في حالة غزو عراقي للكويت قائم على نزاع الحدود أو حول أمور أخرى ... وقالت الجلة في الصفحة 158 تحت عنوان: "إذا غزا العراق الكويت".

قد تقوم القوات العراقية المسلحة بصورة رئيسية بمعدات روسية باجتياح الكويت بسرعة .. وإذا طلب منا تقديم المساعدة فسوف تشتمل ضربات جوية تكتيكية ضد العراق ومعداته الأرضية وإسناده الجوي ... وربما تكون هناك تهديدات بتدمير المنشآت النفطية العراقية والتسهيلات التابعة لها ... وقد يتطلب الأمر، من أجل طرد القوات العراقية البرية، استعمال قطع بحرية من الأسطولين السادس والسابع وجنود مشاة من الفرقتين الثانية والثمانين، والواحدة بعد المائة ... وتصورت الخطة جيشا في الهواء لنقل القوات واستعمال الجسر الجوي الاستراتيجي لقوات الدفاع الجوي الأمريكي، والذي يضم سبعين طائرة عملاقة من طراز سي – 5 أي C5 – A ومائتين وثلاثين طائرة من نوع C 141 المخصصة للنقل فضلا عن سبعمائة طائرة تموين وقود في الجو من طراز KC-135 للتزود بالوقود جوا ...كان ما حدث مخططا ومعروفا إذن ...وكان منشورا ...ولم يكن يحتاج إلى أي جهد من مخابراتنا لمعرفته ...ولما كان الأمر هكذا .. فإن كل من استدعى أمريكا إلى المنطقة ويجب لو توفرت القدرة محاكمته ...وأظن أن تهمة التآمر على الدين كله ثابتة في حقهم أيضا لو وجد علماء على استعداد للاستشهاد ...وهذه المطاردات والمحاكمات والهجمات الهستيرية الجارية الآن إنما تتم ضد من يقف ضد الخيانة.

وإن المسئولية الأولى تقع على عاتق العلماء الذين أصرخ فيهم:

الأرض عطشى إلى دمائكم ففروا إلى الله.

لست أطالب منكم مقاومة مسلحة بل أطلب منكم الوقوف على ثغر الدين.

آخر ثغر نملكه ...فلا تفرطوا فيه ..ولا تسمحوا باختراقه ...الآن سوف أقفز على التفاصيل ...سأتجنب السباب والإدانة .. ليس لأنهما غير واجبين .. ولكن لأن كل الإدانة لا تكفي وكل السباب لا يشفي ...سوف أتجنب ذلك لكي أتناول بقدر ما أستطيع من إيجاز كتابا واحدا في طبعات مختلفة ... أو قصة واحدة في حلقات متعددة والمأساة أن هذه الحلقات تمتد عبر قرنين، وقد تحالف بعض حكامنا مع بعض كتابنا الخونة ومثقفونا المستغربين على أن يضعوا على أبصارنا غشاوة حتى لا نرى تلك الحقيقة.

نعم ... القصة منذ البداية واحدة ...مغزاها القضاء على الإسلام ... خطوة خطوة .. ببطئ شديد حتى لا يتنبه المسلمون ويستيقظوا ..نعم ...ما يحدث حلقات متعددة في مسلسل واحد كان اسم إحدى حلقاته الأولى محمد علي ... وكان اسم حلقة أخرى كمال أتاتورك ... و ... و ... و .. إياد علاوي ...حلقات في مسلسل واحد لأنظمة متعددة صنعها أعداء الإسلام ونصبوها كي تهدم الإسلام .. ولا يهم هنا هل كانت هذه الأنظمة تعرف أم لا تعرف ... وكل نظام من هذه الأنظمة قام على كاهل شخص لم تكن مواهبه الشخصية ولا وضعه السياسي يؤهله للزعامة فادعى أنه قام ليدافع عن بلاده، بينما هو يسلمها للأعداء، ولينصر الإسلام، فاستولى على الحكم بتخطيط أعداء الإسلام ثم انقلب على المسلمين ثم أطلق أجهزة إعلامه لتشويههم ثم أعد لهم مذبحة كبرى ... (وهذا ما سفعله علاوي حتى بالشيعة).

كل واحد من هؤلاء الحكام كان وسيلة في يد أعداء الدين والأمة سواء علم أو جهل.

وكل واحد منهم كان حلقة يمهد للحلقة التي تليه .. فلم يكن من الممكن على سبيل المثال أن تشن هذه الحملة المسعورة على الجزيرة العربية في أوائل القرن العشرين ... أو منتصفه .. كان لا بد أولا من التغريب وإضعاف الخلافة الذي قام به محمد علي ... ثم القضاء على الخلافة وتهوين أمر الخروج من الإسلام كما فعل كمال أتاتورك ... ثم القضاء على شمولية المرجعية الإسلامية وكان هذا دور القوميين وعلى رأسهم عبد الناصر ومن تولوا أمر الثقافة والإعلام في عهده ...كثيرا ما أسأل نفسي: أي الجريمتين من جرائم الناصرية أشد: قتل كاتب الظلال وسحق حركة الإخوان أم تولية الشيوعيين الملحدين أمر الثقافة والإعلام في مصر (أليس غريبا تسللهم ليقودوا الثقافة والإعلام حتى في الدول التي كانت تناصب عبد الناصر العداء ... لكن هذا موضوع آخر).

كان الإغراء هو سبيل الغواية لمحمد علي ...ثم كان السحق العسكري لتركيا ...ثم كان السحق الفكري لمصر ... ثم الهزيمة العسكرية بعد ذلك ..وطوال الوقت كان الذين يدعون الحكم باسم الإسلام، والبلاد التي تزعم أنها تطبق شريعة الإسلام، كانوا يقومون بدور خطير ... دور إيهام العالم الإسلامي أن القالب الرئيسي محفوظ فيها وأنهم أمناء عليه ... وأنهم إن ناوروا وداوروا إلا أن الإسلام خط أحمر لن يسمحوا بتجاوزه .. وبغض النظر عن صدق الادعاء أو زيفه إلا أنه أعطى نتائجه .. وكان من أخطر هذه النتائج أن العالم الإسلامي لم يتنبه في الوقت المناسب إلى مدى الحقد الصليبي الذي تحمله أمريكا للعالم الإسلامي ... وبسبب هذا الموقف المخاتل لوكلاء أمريكا في حكم شعوبنا خلف أقنعة مزيفة للإسلام لم يتنبه العالم الإسلامي إلا وأمريكا تبدأ الحرب المباشرة السافرة عليه .. وهو في أسوأ حالاته وأضعف حالاته ...كان الإخوان المسلمون من أسبق الفئات إدراكا لخطورة أمريكا وإسرائيل ومن يقرأ مقالات حسن البنا في ثلاثينيات القرن الماضي أو مقالات سيد قطب في أوائل خمسينياته سوف يذهل من مدى صفاء البصيرة وبعد النظر الذي تناولوا به هذه الأمور ... حتى أن واحدا من أفضل من كتب عن الإخوان من خارجهم كتب مندهشا: ماذا يريدون؟ ... لقد وقفوا ضد عبد الناصر حين تحالف مع روسيا ثم وقفوا ضد السادات عندما تحالف مع أمريكا ... ولم يدرك المسكين مع من هم!!

أما خالد محيي الدين فيكتب في مذكراته أن منشورات الضباط الأحرار كانت تهاجم دائما الاستعمار الأنجلو أمريكي حتى مارس 1952 حين طلب جمال عبد الناصر الاقتصار على الوقت استعمار البريطاني فقط ...الكاتب محمد جلال كشك يقول إن هذا هو الوقت الذي وصل فيه كيرمت روزفيلت أحد أهم الأشخاص في المخابرات الأمريكية إلى القاهرة – والذي كان مسئولا قبل ذلك عن انقلاب الشيشيكلي في سوريا ثم بعد ذلك في الانقلاب على مصدق في إيران .. ولقد كان الإخوان أول من اكتشف علاقة الثورة بالأمريكيين وهو الاكتشاف الذي شاركتهم فيه بعد ذلك كل القوى السياسية في مصر بعد ذلك ... ولولا السحق الذي قام به عبد الناصر للإخوان لكانت وجهة نظرهم هي التي سادت ... لكنه نجح في تشويه صورتهم وسحقهم – كأفراد لا كفكرة - ... ولم يكن صدفة أن ما فعله عبد الناصر منذ خمسين عاما ... وهو بنفسه ما تقوم به بعض حكومات الدول الإسلامية الآن ...ولم يكن المقصود حسن البنا أو سيد قطب أو الإخوان المسلمين ... بل الإسلام والقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم.

والآن في فإن المستهدف ليس الإرهابيين بل المجاهدين ... وليس الإرهاب بل الجهاد .. وليس فكر المتطرفين بل دين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

يا أمة .. إنني أرى نذر مذابح هائلة في شتى أرجاء عالمنا الإسلامي ... أرى في كل مدينة عربية فلوجة ليس لها ما للفلوجة من شرف ..وجنين ليس لها ما لجنين من بطولة ...وبالرغم من انعدام الشرف وغياب البطولة فسوف تلقى معظم مدائننا العربية نفس التدمير والمذابح وستتناثر فيها الأشلاء.

وتذكروا يا قراء مذبحة المماليك .. ومذابح كمال أتاتورك .. ومذابح الثورة المصرية ضد الإخوان المسلمين ... وتذكروا أيضا مذابح سوريا وتونس والمغرب واليمن .. و (...) ... و ... (...) ..لا أريد أن أغوص في التاريخ كثيرا .. لكنني أثبت هنا أنني أرى مؤامرة خطيرة: ثمة مؤامرة على الإسلام كله وعلى كل بلد إسلامي ... مؤامرة ضد الدين والدولة .. وهناك شق في الحكام ضالع في المؤامرة .. شق لا يتورع عن أي درجة من العهر والعري والخيانة والكفر كي يتمكن من الوصول إلى الحكم أو الاستمرار فيه ... هذا الشق يحرك الأمور من بعيد بكفر وفجر وخسة ... ينتظر سقوط الثمرة (لم يدرك الغبي جمال سالم أن عبد الناصر كلفه بالقضاء على الإخوان لا لثقته فيه، بل لكي يفقده كل شعبيته، ولكي يكون مكروها حتى يسهل القضاء عليه هو نفسه بعد ذلك ... وهو ما تم فعلا ... وتم معه القضاء على رئيس الجمهورية محمد نجيب).

إنني أحذر وأنذر ... أن هذا الخائن المتآمر الذي يحرك الأمور من بعيد .. سينقض على السلطة في الوقت المناسب ... ولمصلحة أمريكا ... وستتكرر نفس المأساة التي حدثت في مصر عام 54.

نعم ... أحذر وأنذر ... من أن هذا الخائن المتآمر سيفعل بالإسلام ما فعله به كمال أتاتورك في تركيا وبورقيبة في تونس وجمال عبد الناصر في مصر ... ولكي يصل إلى مآربه فسوف يسحق عشرات الآلاف من العلماء والمفكرين والكتاب بل والناس العاديين الذين يحافظون على دينهم ... وسوف يتحول الإسلام إلى تهمة لا حق لمن توجه إليه هذه التهمة في أي حق من حقوق البشر ... وسوف تنتهي أية شرعية وطنية لتبدأ شرعية أمريكية إسرائيلية لمن يتمتع بصفات غير طبيعية من خسة وغدر وكفر ... وهي الصفات التي ستشكل وثائق اعتماده وتعيينه.

نعم سيذبح علماء وساسة وكتاب ومسئولون ومواطنون ...وستهدر كرامة أمتنا كلها ... لا ليوم أو يومين .. ولا لعام أو عامين بل إلى أن يشاء الله ...وسوف تغمض أمريكا ومنظمات حقوق الإنسان أعينها حتى تتم المذبحة ... ولكنني أحذر وأنذر من أن مذبحة هذا الخائن المتآمر ستطال حتى النخبة القائدة معه ... فسوف تكون أمامه ثلاث قوى داخل الحكم لا بد أن يتخلص مها:

قوة من هم أكبر أو أقوى أو أسبق منه فمنهم من يمكنه إفشال المؤامرة ومنعها من ناحية أو إنجاحها لحسابه من ناحية أخرى ...ثم قوة من يمكن أن ينافسوه في خيانته ليقطفوا ثمرتها بدلا منه .. أو من يتوسم فيهم أنهم أكثر خسة وكفرا منه مما يمكنهم أن يقدموا لأعداء الإسلام أكثر مما يمكنه هو تقديمه ..ثم قوة من ما يزالون يقبضون على دينهم أو حتى وطنيتهم من الأمراء لأنهم سوف يقاومون خيانته ..كل هؤلاء سيذبحون ..فيا أهلنا في بلاد المسلمين .. أو في بلاد من كانوا مسلمين: لقد أعذر من أنذر ...

ويا حكامنا: إن لم تكن تهمكم الآخرة .. فاحرصوا على الدنيا!!


الباب السابع: أباطيل هيكل وحقائق سيد قطب ظلمات التيه وأنوار الحق

العلاقة السرية بين الضباط الأحرار وإسرائيل!!   بطل سحر الساحر وبرغم كل هالات الدعاية والإعلان التي أحاطت بحلقات هيكل على قناة الجزيرة فقد كانت ردود الفعل عند أنصاره أقرب إلى خيبة الأمل والذهول ... وبغض النظر عن مئات التفاصيل، ثم بإزالة مئات الأقنعة .. يظهر الشكل النهائي سافرا .. وهو الترويج للحل الأمريكي .. كان ثمة جزء في خلفية الصورة المأساوية يثير السخرية والضحك، فالقائد المهزوم هو الذي ينتقد ويحلل أسباب الهزيمة (متنصلا من مسئوليته) ولا يكتفي بذلك بل يرسم خطط المعارك القادمة، ويبدو أن ذلك تقليد ناصري أصيل، فهكذا فعل عبد الحكيم عامر، عندما هزم في 56 هزيمة عسكرية مهينة، ليقود حرب 67 بعد أن رسم خطتها.

نعم ..كان ظهور هيكل على قناة الجزيرة يدخل ضمن المسموح به أمريكيا ...ولا أريد أن أتورط فأقول: إنه يدخل في إطار المأمور به .. أمريكيا ..ولقد تابعته وطعم الحنظل في فمي، يتحدث عن السودان، التي كانت دائما مزيجا متنافرا لا يمكن أن يستمر أو أن يستقر (هل تقول أمريكا غير هذا) وعن القضية الفلسطينية التي قتلت وهي على وشك الانتهاء، وعن شارون القوي الذي حقق كل أحلامه، وعن السيستاني، الذي يمثل أفق الحل الوحيد العاقل في العراق، وكنت أمسح عيني وعويناتي، فربما يكون المتحدث رامسيفيلد، أو على الأقل كيسنجر، لكنني كنت في كل مرة أفاجأ بأنه محمد حسنين هيكل ..وكنت على أضواء هذا كله أفهم ما حدث للإخوان المسلمين ... وما حدث في المنشية ... وما حدث في طرة .. وما يحدث الآن في شتى أرجاء عالمنا الإسلامي ...وفي الحلقة التاسعة من حديثه على قناة الجزيرة وردت جملة كارثة على لسانه ... جملة كارثة تكشف السر كله منذ ما قبل عام 52 وحتى الآن ... جملة كارثة تلخص الحكاية كلها ... بأنصع بيان وبلا لبس ...وكلمة "الجملة الكارثة" هي من اختراع هيكل نفسه، حين قالها عن السادات ومستشاره للأمن القومي محمد حافظ إسماعيل، تعليقا على فقرة جاءت في خطاب الأخير إلى هنري كيسنجر ثاني أيام حرب 73، يوم 7 أكتوبر ، حيث كشف له في خطاب رسمي سري أن القوات المصرية لا تنوي تطوير عملياتها العسكرية، ويرى هيكل أن الجملة بهذا الشكل ترقى إلى الخيانة العظمى، لأنها كشفت سرا عسكريا وقت الحرب، كما أنها أتاحت الفرصة لإسرائيل كي تبدأ بالإجهاز على سوريا قبل أن تستدير إلى مصر ... (أنا واحد من الناس أدرك صادقا الحجم الهائل لانتصار حرب رمضان، لكن هذا لا يمنعني من التنويه بما رآه كبار الاستراتيجيين من أننا عام 73 هزمنا عسكريا، أذكر منهم الشيشيكلي الذي كتب ذلك في مذكراته، ولقد ذكرت المزيد من التفاصيل عن هذه النقطة في كتابي: اغتيال أمة، ولا يمنعني أيضا من أن أدين بمنتهى الاشمئزاز والازدراء الأداء المتدني للقادة مقابل الأداء العبقري للجيش .. لأبناء مصر العاديين).

دعنا من هذه التفاصيل .. لكننا فقط نبرز الجملة الكارثة وسياقها كي نستعملها في سياقنا الحالي على بينة

في الحلقة التاسعة يقول هيكل:

(الحياة صراع قوى ورؤى ومصالح وأنا فاكر كيسنجر قال لي ملاحظة مهمة ... قال: أنا أعتقد أن مجتمعكم قابل لتغييرات كبيرة قوي والعبارة من أستاذ علوم سياسية وفاهم بيقول إيه وقال جمال عبد الناصر جاء وفي ذهنه تغييرات عميقة وبدأ يزيح طبقة يعتبر أنها غير صالحة وبدأ يدعو طبقات جديدة إلى دخول الساحة .. لكنه نجح في إخلاء الأرض من الطبقة القديمة ... لكن القوة الجديدة لم تدخل الأرض ... وظلت خلاء فضاء وأنا أعتقد أن هذا الرجل في هذه اللحظة لم يكن بعيدا عن الحقيقة ... وبالتالي اللحظة كانت خلاء وفضاء والأمريكان فكروا يملوها فبدءوا يجعلونها غير واثقة من نفسها عبر ثقافة الهزيمة ثم اعمل فيها أبنية طبقية مختلفة وأول مشروع كان تشجيع التوكيلات التجارية وتركة القطاع العام ... وأنا معنديش مشكلة لو الموضوع للصالح العام لكن ميبقاش إعادة فك وتركيب أمريكاني ...).

نعم ..هذه هي الجملة الكارثة، بل الجملة المعجزة ...ودعوني أذكركم على الفور بخطبة عبد الناصر في ميدان الجمهورية في اليوم التالي لحادث المنشية:

وأقول اليوم مرة أخرى: إننا لن نسمح مطلقا بأن تبقى في هذا الوطن جماعة من الجماعات تعتمد على جهاز سري، ولن نسمح مطلقا أن تقوم هناك دولة داخل الدولة أو تكون هناك حكومة داخل حكومة تعتمد على الخداع، وتعتمد على التضليل، وتعتمد على الإرغام، وتعتمد على الرصاص، وتعتمد على التقتيل، وتعتمد على الإرهاب، ... لن تقوم هناك ديمقراطية ولن تكون هناك حرية طالما كا هناك إرهاب، وطالما كان هناك غدر، وطالما كان هناك تهديد، وطالما كان هناك تخويف". نفس المنهج!!

ونعود إلى هيكل في بداية حلقاته، عندما حذر من وفرة المعلومات لا من شحتها، ومن أنه مع وفرة المعلومات لا يمكن فهم ما يجري حولنا دون وضعه في سياقه العام.

على أن المشكلة لا تقتصر على الفهم أو عدم الفهم بل تتعداها إلى أنه لا يمكن الاستفادة من التاريخ دون ربط أجزائه لنعرف كيف حدثت الحكاية، كيف دبر لها وكيف خطط، وما هي العوامل المساعدة، وما هي العوامل المباشرة، والأخرى غير المباشرة، وكيف تم تضافر ذلك ليؤدي إلى نتيجة معينة ... و ... و ... و ... نعم ... لا بد أن نفهم ما حدث في إطار سياقه العام.

السياق الذي يقول إن العصر الأمريكي قد بدأ بنهاية الحرب العالمية الثانية، وأن الصراع في تلك المرحلة كان بين أمريكا من ناحية وبريطانيا وفرنسا من ناحية أخرى، وفي هذا السياق فقط، يمكن فهم كيف أن بريطانيا فضلت تسليم الحكم في اليمن الجنوبي للشيوعيين نكاية في الأمريكيين، كما يمكن فهم كيف أن بريطانيا الرأسمالية كانت تشجع الأحزاب الشيوعية، ومنها الحزب الشيوعي المصري.

كان العصر الأمريكي قد بدأ، وكان العالم هو المسرح أو قطعة الشطرنج على حد تعبير هيكل، وبالرغم من ذلك، فلست أتصور كيف كذبوا إلى هذا الحد وكيف صدقناهم إلى هذا الحد وهم يصورون أمريكا هذا التصوير الساذج، وكيف فوجئت بحركة انقلاب الضباط الأحرار التي سميت بعد ذلك ثورة.

لولا خشية الإطالة لتطرقت إلى وحدة المنهج الأمريكي، في مصر، والعالم العربي والإسلامي، بل أيضا في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، حيث تحولت وكالة المخابرات المركزية إلى وزارة خارجية وثقافة العالم الثالث.

في هذا السياق قامت الثورة في مصر ... تحت إشراف كامل وبمعونة كاملة من الأمريكيين الذي كان مسئول مخابراتهم كيم روزفيلت أو من أنابه قد التقى بالضباط الأحرار قبل ثورة يوليو بأربعة شهور على الأقل.

نستطيع أن نقول أيضا إنه لولا التعضيد الأمريكي للثورة لما نجحت ...ونستطيع أيضا أن نقول إنه لولا التعضيد الأمريكي لعبد الناصر لما نجح في الانتصار على كل خصومه.

ولقد بينت في مقالات سابقة أنني لا أظن أن الضباط الأحرار كانوا عملاء للمخابرات الأمريكية كالشيشيكلي وجنرالات أمريكا الجنوبية، وإنما كانوا أغبياء بلا خبرة دخلوا في مناورة أكبر من ذكائهم دون منهج ديني ودون دعم شعبي فسحقوا.

ولقد تحدثت في مقالات سابقة عن ثلاثة أهداف جوهرية لكل طرف، ثلاثة أهداف كانت هي الأساس الذي تم البناء على قواعده.

كانت أهداف أمريكا:

1 – لا للشيوعية ..

2 – لا للإسلام ...

3 – لا لتهديد أمن إسرائيل ... (راجع في هذا الصدد تصريحات محمد نجيب الودية تجاه إسرائيل، والاتصالات غير المباشرة مع عبد الناصر ، والتي ترتب عليها عدم اعتراض البضائع المتوجهة إلى إسرائيل عبر قناة السويس ، وراجع أيضا تصريحات المجنون المجرم جمال سالم من أنه لا يهمه أن تتزوج ابنته يهوديا).

وكانت أهداف عبد الناصر هي أن تضمن له أمريكا:

1 – عدم تدخل القوات البريطانية لقمع الانقلاب.

2 – مساعدة الجيش في الاستيلاء على الحكم.

3 – استمرار عبد الناصر في الحكم.

نعم ...لم يكن الأمر خيانة أو عمالة مباشرة .. لكنه كان اتفاقا كاملا ...وكان على أمريكا أن تصنع من عبد الناصر نجما وبطلا كي يستطيع إنجاز مهمة بدت في ذلك الوقت غاية في صعوبتها: القضاء على الإخوان المسلمين والشيوعيين والوفد، ولكي تتم عمليات الهدم الشاملة تلك كان لا بد من بناء جزئي هنا وهناك، كان لا بد على سبيل المثال من مشروع الإصلاح الزراعي وهو كما كشفنا في مقال السابق مشروع أمريكي بالكامل ... ومنذ عام 1945 - ... كما كان حتميا إعدام عمال كفر الدوار لكي تتعمد القطيعة مع الشيوعيين بالدم ...

لقد نجح عبد الناصر في أداء الدور الذي توسمت أمريكا أن يؤديه ببراعة مذهلة، لا أظن أن أحدا سواه كان يستطيعها ..هل كان أحد سواه يستطيع سحق الإخوان المسلمين، بل والنجاح في تشويه سمعتهم وتلويث تاريخهم إخفاء عضويته السابقة في تنظيمهم الخاص.

وهل كان أحد سواه يستطيع القضاء على الشيوعية في العالم العربي، وإنني أرجو أن يلاحظ القارئ أننا نتحدث عن الشيوعية منذ نصف قرن، حيث كانت جاذبيتها تغزو العالم الغربي كله، ولم يكن ثمة زعيم عربي يستطيع القضاء عليها دون كاريزمية عبد الناصر ...الهدف الأمريكي الثالث، وهو ضمان أمن إسرائيل، لم ينجزه عبد الناصر بصورة مباشرة، لكنه سيق في حرب ذكاء وضغوط خسرها بالكامل كي يحصل الأمريكيون منه نعم منه على أكثر مما كانوا يحلمون، بل أن يحصلوا بتعبير موردخاي هود قائد الطيران الإسرائيلي في حرب 67 – على ما يفوق أحلامهم جنونا.

سوف نعود إلى هذا الهدف على الفور، لكننا نستمهل القارئ كي نثبت أن أحدا من الطرفين لم يخدع الآخر، ولقد أدت أمريكا مستحقاتها كاملة، كما أدى عبد الناصر مستحقاته كاملة ... ولولا خشية الإطالة أكثر مما أطيل لكشفت كيف أن إسرائيل هي التي رفضت أي اتفاق مع عبد الناصر (راجع الحلقات الأولى لحديث هيكل في الجزيرة، وراجع أيضا حديث أحمد حمروش مع إبراهيم عيسى في قناة دريم، وكتب هيكل وأحمد حمروش ورشاد كامل وثروت عكاشة والشيشيكلي وأحد أبو الفتح).

كان التعاون كاملا حتى عام 56، وكان الأمريكيون وراء كل كبيرة وصغيرة.

وكانوا يتدخلون حتى في تعيين الوزراء ... وغني عن القول دورهم في تلفيق حادث المنشية للقضاء على الإخوان وعلى محمد نجيب ... كما استمر التعاون بصورة أقل بعد ذلك، إذ كانت الوحدة مع سوريا مطلبا أمريكيا ملحا، كانت سوريا على وشك السقوط في براثن الشيوعية، ولم يكن هناك من يستطيع القضاء على الشيوعية هناك بل واقتلاعها من جذورها سوى الزعيم الملهم ذي الكاريزمية الخارقة، ونشأت دولة الوحدة برعاية أمريكية، وبمجرد أن تم إنجاز المطلوب: وهو القضاء على الشيوعيين، فقد دبرت أمريكا انقلاب الانفصال، وقد أضيف إلى مكسب القضاء على الشيوعيين جائزتان هائلتان لأمريكا وإسرائيل، وهي القضاء على أمل تحقيق الوحدة العربية بالقضاء على القوميين، وبالقضاء على الإخوان المسلمين، كان أداء عبد الناصر وصديقه عامر في سوريا فاجعا ... كانت سوريا تتصرف كحبيبة وكان هو يريدها كجارة ... وتم الانفصال بعد القضاء على الشيوعيين، وهم برغم كامل احتقارنا لهم، كانوا يشكلون في ذلك الوقت، عملاء مناوئين، عملاء للروس أو الصينيين، ومناوئين للأمريكيين، ولأمتهم العربية الإسلامية.

كانت مهمة عبد الناصر التي أداها باقتدار هي هدم فئات ثلاث في سوريا :

الشيوعيون ...

الإخوان المسلمون ...

الوحدويون ...

ولقد أدى مهمته بنجاح ساحق ...أوجز فأقول إن العلاقة مع أمريكا قد بقيت فاعلة حتى عام 65، وحتى ذلك العام كانت مصر تعيش على القمح الأمريكي ... ولم يكن ذلك بقية زكاة أو أموال صدقة!!

بعدها حدثت القطيعة النهائية واستبدل عبد الناصر سيدا بسيد رغم أنه كان يستطيع أن يكون هو السيد. كان قد أدى مهمته كاملة بالنسبة لأمريكا.

كان قد قضى على الإخوان، والشيوعيين، وكان قد أمن الحدود مع إسرائيل خمسة عشر عاما، فقد كان كعسكري غربي الثقافة والهوى يفضل الحرب النظامية (فضلا عن أنه كان أساس يتجنب الحرب ما استطاع) وكان بالتالي ضد الحرب الجهادية، ضد عمليات الفدائيين، ولم تكن إسرائيل تتمنى أكثر من هذا، ولتلك الفترة الطويلة، حيث تحول بعدها الممكن إلى مستحيل، وكانت أمريكا تسوق عبد الناصر على أرض قتل وإلى طريق هلاك، سحقته فيها وسحقت مشروعه بعد أن قام لها بكل ما تريد: عبد الناصر جاء وفي ذهنه تغييرات عميقة وبدأ يزيح طبقة يعتبر أنها غير صالحة وبدأ يدعو طبقات جديدة إلى دخول الساحة ... لكنه نجح في إخلاء الأرض من الطبقة القديمة لكن القوة الجديدة لم تدخل الأرض ..

نعم ..هذه هي الجملة الكارثة ...كان الهدف الأمريكي منذ البداية أن تأتي بمن يزيل ويسحق الفئات أو القوى القادرة على مواجهة المشروع الأمريكي ...ولقد قام عبد الناصر بهذا الدور الذي لم يكن يستطيع القيام به غيره (لاحظوا أنه نفس الدور الذي قام به في سوريا ) والذي يعترف هيكل نفسه به ... والعبارة من أستاذ علوم سياسية وفاهم بيقول إيه ...وليس كذلك فقط ... بل و:

وأنا أعتقد أن هذا الرجل (كيسنجر) في هذه اللحظة لم يكن بعيدا عن الحقيقة.

نعم ...تلك هي الجملة الكارثة ...وتلك كانت مهمة عبد الناصر التي أداها دون إرادته ورغما عنه ودون أن يفهم ... ولعله ككل مغفل في التاريخ قدر ودبر ... قتل كيف دبر ... أنه بالمناورة قد يقدم تنازلا هنا وتنازلا هناك في سبيل الوصول إلى غاياته النهائية ... لم يحسب حساب غدر أمريكا ولا بطش القدر .. ليموت بعد الهزيمة الساحقة في 37 بعد أن ترك دمارا في العالم العربي كله، دمارا كان هو بالضبط الذي خططت له المخابرات الأمريكية.

لقد فضل حرب الجيوش وهي حرب محكوم علينا بالهزيمة فيها نظرا لاعتبارات عديدة منها تخلفنا الحضاري وموازين القوى – وترك الحرب الفدائية الجهادية الاستشهادية، لم يكن يريدها ولا يحتملها، لأن أولئك المجاهدين الذين سيواجهون أمريكا وإسرائيل لم يكونوا لينكصوا عن مواجهة ظلمه.

دعنا من الكلمة الصفيفة لهيكل وسخريته من مقولة الإمام مالك – وفي قول سيدنا عمر – أن أمر آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها، وهو الجهاد ... دعنا من ذلك ...كان محتما أن نهزم في الحروب النظامية ..وكان الاحتمال هائلا أن نحقق مكاسب هائلة في الحرب الجهادية ..وفعل عبد الناصر ما هو ضد مصلحة الأمة تماما ... كان يجب أن نحارب كأفراد وأن نفكر ونخطط كمؤسسات أو جماعات ..فعلنا العكس ... حاربنا كمؤسسات وفكرنا كأفراد وانهزمنا في المجالين.

نعم ...أنا لست مع من يتهمه بالخيانة المباشرة ..ولكن شهوته للسلطة أعمت قلبه، ولم يدرك أنه لم يكن بالنسبة لأمريكا حليفا كما ود، ولا ندا كما ظن، ولا مناوئا كما تمنى، بل كان مقاول هدم، والمحزن حتى الكارثة، أنه لم يدرك أنه كان يهدم أمته.

وثمة ملاحظة هنا ... من المؤكد أن إعدام عمال كفر الدوار كان عربون صداقة لأمريكا.

فهل كانت أحداث التنكيل بالإخوان عام 65 محاولة لتقديم عربون آخر لإنقاذ العلاقة التي تهاوت؟

لاحظوا أن حكوماتنا المحلية لم تتوقف عن دفع العربون والأقساط المستحقة منذ جاءوا، بل تحول الأمر إلى صورة العمالة الكاملة حين أصبح التهديد بوصول الإسلاميين إلى السلطة هو الفزاعة والمبرر الوحيد لعدم التوقف عن التعذيب والقهر والبطش والفساد.

في الحلقة العاشرة كان هيكل يعتذر بكبرياء مفرط عن بعض الأخطاء التي وقع فيها، حيث كانت كما قال في معظمها سهوا فيما عدا خطأ يتعلق بمعدلات زيادة السكان في مصر.

لكنه لم يتطرق إلى خطأ آخر يفضح ضحالة ثقافته الإسلامية، عندما نسب للشاعر الكبير البوصيري قاعدة فقهية للإمام الشاطبي، وذكرها بألفاظ مشابهة ابن قيم الجوزية ...

يقول هيكل:

وأنا معجب جدا ببعض الفقهاء المسلمين مثل البوصيري الذي يقول حيثما توجد مصلحة الناس فهناك شرع الله. وقد ولد الإمام "شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري" بقرية "دلا" إحدى قرى بني سويف من صعيد مصر، في (أول شوال 608هـ = 7 من مارس 1213م) لأسرة ترجع جذورها إلى قبيلة صنهاجة" إحدى قبائل البربر، التي استوطنت الصحراء جنوبي الغرب الأقصى، ونشأ بقرية "بوصير" القريبة من مسقط رأسه، ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة حيث تلقى علوم العربية والأدب ... وقد اشتهر الإمام بمدائحه النبوية، التي ذاعت شهرتها في الآفاق.

وقد ذكرت التفاصيل عن أصوله البربرية كي نسألهيكل معا عن موقف القومية العربية لا رحمها الله من البربر والأكراد والأفارقة الزنوج وأبناء النوبة و ... و ... و ...

أما من قال الجملة التي ذكرها هيكل فهو الإمام العلامة أبو محمد القاسم الشاطبي المتوفى سنة 590هـ، وهو من أبرز علماء القرآن الكريم الذين أنجبتهم الأمة الإسلامية في تاريخها، وكان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تصحح النسخ من حفظه.

نفس المعنى قاله الفقيه، المفتي، شيخ الإسلام الثاني أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الشهير بـ "ابن قيم الجوزية" والمولود – رحمه الله – في السابع من شهر صفر الخير سنة (691هـ).

إن هيكل الذي يستعمل العامية المصرية، وهو آخر الباقين الكبار من أنصار القومية العربية، التي تعتبر اللغة ركيزتها الأساسية، كان هو الذي أسند أكبر منبر ثقافي في مصر، في الأهرام، للصليبي لويس عوض، أحد رواد الكتابة بالعامية (مذكرات طالب بعثة) .. لويس عوض الذي جعل من القبطي الخائن المعلم يعقوب بطلا .. المعلم يعقوب الذي تبرأ منه حتى أقباط مصر ... والذي خشي العقاب على خيانته ففر مع انسحاب الحملة الفرنسية ... جعله لويس عوض بطلا ... أما هيكل فقد جعل لويس عوض بطلا ...لست أدري كيف أن هيكل ... أحد زعماء الدعوة للقومية العربية ... وبعد أن استبعد الدين يهجر الفصحى التي تجمع بين العرب ويفضل عليها العامية التي تفرق بين العرب ... لينسحب كل بلد إلى حدود سايكس بيكو ... وهو الحل الأمريكي.

لا ريب أن المثقف الموسوعي هيكل يعلم أن الدعوة إلى العامية كلها دعوة ضد الإسلام وضد العروبة ... بل أكاد أقول إنها كفر لأن المقصود الوحيد منها هو هجر القرآن والسنة ... وليس ثمة مقصود آخر مهما ارتفعت الدعاوى واستترت الوجود بالأقنعة.

الدعوة إلى العامية دعوة كافرة خسيسة مجرمة لا يتبناها إلا خائن أو أحمق ... الدعوة إلى العامية دعوة بدأت بالمستشرقين الكفار وحمل لواءها بعدهم الوطنيون الأقذار ... بدأت بأعداء الإسلام وعلى عاتقهم النجس تستمر ...بدأت في العصر الحديث – بالمستشرق الألماني "ولهم سيبيتا" ثم مواطنه "نولدكه" ثم مهندس الري الإنجليز ي "ويليم ويلكوكس" والأمريكي "تشارلز فيرجسون" .. بدأت بهم لكنها ترعرعت على أيدي عميل خائن كسلامة موسى (الذي يتأسف عليه هيكل لأنه لم ينل ما يستحق من تكريم وتمجيد) ولويس عوض الذي وضعه هيكل على رأس الصفحات الثقافية في الأهرام ليشكل ثقافة الوطن ... ولا بد أن المثقف الموسوعي هيكل قد قرأ للناقد الإنجليز ي الأشهر "إليوت" أن ثقافة المجتمع هي دينه ...تذكروا اختيارات هيكل في الأشخاص ولا تنسوا أبدا ذكاءه وأن الأمور عنده لا تتم عفو الخاطر ...تذكروا اختياره للطفي السيد كمثل أعلى ..لطفي السيد الذي تجاهل الدين والعروبة والقومية وحتى الوطنية حين ذهب رغم التحذير والاحتجاج والاعتراض والرجاء .. ذهب ليحتفل بافتتاح الجامعة العبرية في القدس عام 1925 ... لذلك عندما يأتي هيكل ليختاره اليوم كمثل أعلى فإنه لا يختاره اعتباطا .. ومرة أخرى هو الحل الأمريكي ...لقد أصابني الاشمئزاز وأنا أقرأ فصلا في كتاب الصحافي رشاد كامل بعنوان "هيكل: حقائق ووثائق" وقد أجرى فيه الكاتب البحث بطريقة مضنية لكنها تسفر عن نتائج مذهلة ... إن الكاتب يذكر الموضوع، ثم يذكر ما كتبه هيكل عنه في كتب مختلفة وأزمنة مختلفة ... وكيف يخفي الوقائع الهامة أحيانا وكأنها لم تحدث قط ... ثم كيف ... حين ينشر أحد الأجانب أو يكشف سرا مخفيا ... كيف ينبري هيكل عندئذ ليذكر ما لم يذكره أبدا قبل ذلك ... ولم يضطره للبوح به سوى أن سواه وهو دائما خواجة – قد فضح السر ويكاد يوجهه وجهة لا تروق لهيكل ... عند ذلك ينبري ليروي التفاصيل.

يورد رشاد كامل عشرات النماذج من هذه الطريقة ... ربما يكون من أهمها ما حدث مع صديق هيكل الحميم دينيس هاميلتون رئيس تحرير صنداي تايمز ... والحكاية طويلة لكن فحواه أن هيكل لم يذكر حرفا واحدا مما حدث حتى تسربت الوثائق الإسرائيلية بعد الحدث بثلاثين عاما ... وهنا فقط كان على هيكل أن يقول روايته. ولقد قلت لكم يا قراء أنني شعرت بالاشمئزاز ... بل بالرعب ... وتذكرت ما نقله لنا الدكتور عبد العزيز حمودة عن "توماس كون" في كتابه الهام: "بنية الثورات العلمية" (1962)، حيث يصور عالما تحكمه الفوضى المطلقة: "إن الضوابط المستقلة والعامة لم يعد لها وجود، وقد فشلت عملية الاتصال، وأصبح العالم المشترك للأشياء وهما .. والحقيقة ذاتها تصنع ... ولا تكتشف ... وبدلا من جماعة من العقلاء تسير على نهج موضوعي سعيا وراء الحقيقة، أصبح لدينا مجموعة من الرحل المعزولين تشكل العقيدة دون قيود منظمة".

نعم يا قراء ...لم تعد هناك حقيقة تكتشف بل حقيقة تصنع دون قيود منظمة.

وهذا ينطبق على ما يقوله لنا هيكل ..ليس ثمة أشياء تكشف بل عقائد تصنع .. ولقد شعرت بالغثيان حين قرأت في نهاية نفس الفصل معلومات موثقة أخرى عن عبد الحكيم عامر ... هذه المعلومات وردت في نفس الكتاب "الحائط الحديدي" الذي كشف دور هيكل – هاميلتون في الاتصالات المصرية الإسرائيلية السرية:

"ما يلفت الانتباه وجود واقعة مثيرة للانتباه في كتاب "آفي شليم" لم يتطرق إليها هيكل ولم تلفت انتباهه! وكان بطل الواقعة المشير الراحل "عبد الحكيم عامر" ... إذا كان الرئيس "جمال عبد الناصر " هو الرجل الأول في مصر، فقد كان المشير "عبد الحكيم عامر" في عيون المحللين والمهتمين بالسياسة هو الرجل الأول مكرر!! وفي كتاب "الحائط الحديدي" هناك سرد ومفاجأة تتعلق بالمشير "عامر" نفسه! وكان الطرف الثاني هو "ما يرآميت" الذي كان قد تولى منصب رئيس جهاز الموساد في مارس 1963 ويقول "آفي شليم": "مع اقتراب عام 1965 من نهايته تلقى "آميت" دعوة للذهاب إلى القاهرة من أجل الالتقاء سرا بعبد الحكي عامر "النائب الأول للرئيس ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية (!!) ... وبما أن "عامر" كان الصديق الشخصي المقرب "لناصر" فليس من الأرجح أن الدعوة قد وجهت دون علم "ناصر" ... وقد كان "أميت" نفسه يؤمن بأن هذه فرصة للاتصال بناصر يجب ألا يدعها تفلت من يده، وكانت مصر في ذلك الوقت تمر بأزمة اقتصادية خانقة، وقد كان "عامر" يرغب في أن تقوم إسرائيل بمساعدة مصر للحصول على مساعدة اقتصادية أمريكية ... وفي المقابل وعد بأن تقوم مصر بالحد من دعايتها المضادة لإسرائيل وتقليص نطاق المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل والسماح للبضائع الإسرائيلية بعبور قناة السويس ولكن ليس في ظل العلم الإسرائيلي (...) انتهت الرواية، المثيرة، لكن الأكثر غرابة وأيضا إثارة أن محمد حسنين هيكل ! في دراسته المهمة والممتازة طوال خمسة أشهر (في مجلة الكتب وجهات نظر) لم يشر إليها من قريب أو بعيد، لا بالإشارة ولا بالتلميح!! ولا أدري لماذا؟! الغريب أن هذه الواقعة الغريبة أزيح الستار عنها لأول مرة عام 1980 عندما صدر كتاب مهم هو "مأساة عبد الحكيم عامر" للكاتب الصحفي الأستاذ "حمدي لطفي" وصدر الكتاب عن سلسلة كتاب الهلال، وفات على الجميع قراءة تفاصيل الواقعة الخطيرة التي أشار إليها الآن "المؤرخ اليهود ي آفي شليم".

كان "الطيار عصام الدين خليل" الذي تولى لفترة منصب مدير كتب نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة للمشروعات الحربية الخاصة، ورئاسة مكتب مخابرات الأبحاث العلمية والصناعية العسكرية، كان أحد المصادر المهمة للأستاذ حمدي لطفي، فقد سأله بالحرف الواحد ص 106 ما يلي: لقد سمعت قصة ترددت على نطاق ضيق جدا بعد نكسة 67 وبعد القبض عليك – ولا أدري مدى صحة هذه القصة؟! ... سمعت أن إسرائيل اتصلت بالمرحوم عبد الحكيم عامر سرا ولعبت أنت دورا في هذا الاتصال وإنها – أي إسرائيل – عرضت بعض الاقتراحات للحيلولة دون قيام حرب جديدة، وأنها طرحت بعض التحذيرات، حدث هذا عام 1966 ... ما هي حقيقة هذه القصة؟ وجاءت إجابة الطيار عصام الدين خليل مفاجأة بل قنبلة سياسية فقال: ردا على سؤال حمدي لطفي ما يلي بالحرف الواحد:

لقد وضعت بالفعل في نهاية عام 1966، وكنا في فرنسا، نمثل وفدا عسكريا برئاسة المرحوم المشير "عبد الحكيم عامر" وكنت عضوا بالوفد – وذات مساء ونحن نتناول العشاء بفندق "كريون" اتصل بي ممثل لإسرائيل عن طريق بعض الوسطاء، والتقينا لأول مرة في بار الفندق، ولم يكن في حراستي غير "متولي حارس المشير، وكنت أنقل أولا بأول ما يدور بيني وبين ممثل إسرائيل إلى المشير "عبد الحكيم عامر" ... واستمرت الاتصالات إلى الأشهر الأولى من عام 1967 ثم توقفت تنفيذا لرغبة وقرار الرئيس الراحل.

وفي نفس الكتاب عاد "حمدي لطفي" يسأل: لماذا اختاروك أنت بالذات وإلى ماذا كانوا يهدفون، ومن هو مثل إسرائيل الذي تحدث إليك؟! ... وأجاب اللواء طيار (عصام خليل" على السؤال السابق بقوله:

لقد سألتهم الجزء الأول من سؤالك ... لماذا وقع اختياركم "علي بالتحديد"؟! وقالوا لأننا نعلم أن أحدا من قادة مصر لن يشك أو يرتاب في صدق ما تنقله إليهم، وبالتالي لن يتبادر إليه أدنى شك في عدم جدوى التأثير عليك أو تجنيدك لحسابنا! ... أما من هو مندوب إسرائيل، فقد كان أحد قادة مخابراتهم (!!)

لم ينته تماما الاستشهاد الطويل برشاد كامل ... لأنه ينهي هذه الصفحات بسخرية مريرة فيقول: "... ولم يشر الأستاذ "هيكل" بحرف أو بكلمة لهذه القصة حتى الآن، وربما يتاح لنا في المستقبل معرفة تفاصيل أكثر عنها، أقول ربما، فقد كان ما يجري في الكواليس مثيرا ومحيرا" ... أما أنا فإنني أعيد في مرارة قول "توماس كون": "أصبح العالم المشترك للأشياء وهما ... والحقيقة ذاتها تصنع .. ولا تكتشف ... وبدلا من جماعة من العقلاء تسير على نهج موضوعي سعيا وراء الحقيقة، أصبح لدينا مجموعة من الرحل المعزولين تشكل العقيدة دون قيود منظمة".

ونعود إلى هيكل – إن كنا قد تركناه - .. نعود إليه في حلقته الأخيرة على قناة الجزيرة حيث راح يسخر من الجهاد، راح يسخر وهو يلبس عمامة الدين أو على الأخرى قلنسوته ليشرح لنا أمر ديننا وأنه أينما كانت المصلحة فثم شرع الله ... ولكنها كلمة حق يراد بها باطل، ولطالما استعملها المستشرقون لهدم الدين.

وهيكل الذي اعتذر عن خطئه في نقل بيان للأمم المتحدة لم يعتذر لخلطه المعيب بين كبار مفكرينا الإسلاميين.

وكما لو كان الإمام، الأديب، الناظم، الناثر صلاح الدين الصفدي (696 – 784هـ) يقصد هيكل حين نبه إلى أولئك الذين جعلوا من فكرة المصلحة التي يكون شرع الله حيث كانت حجة على الدين، يبطلون ما يشاءون، ويثبتون بها ما يشتهون، ... ولو أننا رجعنا إلى القاعدة الفقهية التي اعتمدها هيكل، ككثير من المستشرقين، وهي: [حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله] فإنها مقيدة بما يراه علماء الإسلام العاملون مصلحة، وبما يراه أهل الحل والعقد من أئمة الإسلام الأعلام المتقين الله جل في علاه، لا ما يراه السفهاء والزنادقة مصلحة ... لذا فالمصلحة الشرعية ينبغي أن تتقيد بهذا القيد لزوما، لا بما يراه هيكل ورامسيفيلد وفندي وفريد زكريا وفريدمان وفقهاء سلاطيننا.

ربما يحتج الكثيرون لأنني أعامل فكر هيكل وعبد الناصر بما تبين بعد نصف قرن ... وربما رد علي أحد حواريي هيكل مستعملا عبارة من عباراته الرشيقة المشحونة بالمعنى كأن يتهمني بأنني أمارس الحكمة بأثر رجعي ... ولو أن أحدا لم ينبههم للهاوية التي كانوا يوشكون على الوقوع فيها لحق لهم ذلك.

نعم ...كان يحق لهم أن يقولوا حاولنا وفشلنا ... أو اجتهدنا فأخطأنا ولنا أجر ...كان يحق لهم ذلك لو لم ينبهم أحد ...فلو ثبت أن أحدا نبههم وتجاهلوا تنبيهه فإنه يحق لنا أن نستعمل عبارة من عبارات هيكل الرشيقة، لنصف بها هيكل وعبد الناصر ، لنقول بتعبير هيكل – إنهما قد وقعا في خطأ أشد سوءا من الخيانة.

ولو أنهم بعد خطئهما الأشد سوءا من الخيانة اعترفا وتابا وعملا صالحا يصلح ما أفسداه لنسينا خطاياهما ولدعونا الله الذي وضع فينا شفاعته لهما بالغفران ...ولو أنهم بعد خطئهما الأشد سوءا من الخيانة ذهبا إلى من نبههما ليعترفا له بالفضل وليلتمسا منه النصح والمشورة لدعونا لهما بالمغفرة ولسامحناهم ...ولو أنهم بعد خطئهما الأشد سوءا من الخيانة تجاهلا من نبههما حين رأى بأول رأيه آخر الأمر لفسرنا هذا التجاهل على أنهما خجلان منه ... ولالتسمنا لهما المعاذير .. فذلك حياء والحياء من الإيمان ..لكنهما لم يفعلا أيا من ذلك ...لم يذهبا إليه ليشكرا بعد نظره وسابق تنبيهه ...ولا ذهبا ليعتذرا ...ولا تجاهلا الأمر حياء وخزيا ... بل ...بل ...قتلاه ...نعم ...قتل الجلادان جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل الشهيد العظيم سيد قطب.

قتلاه ...قتلا من نبه إلى الهاوية وحذر منها فالأمر إذن يتجاوز الخطأ والخيانة والجنون.

قتلاه ..وأقصر الجريمة على ناصر وهيكل لأن سواهما كانوا أنصاف رجال وأشباه بشر ... كانوا أصفارا على اليسار بلا معنى ولا قيمة ...بل لقد هتف أحد أصدقائي ذات مرة:

هيكل هو الذي قتل سيد قطب ...هو الوحيد الذي كان يمكن له أن يدرك حجمه وتأثيره وخطورته ...وهو الوحيد الذي كان يمكن له أن يحرض عليه ... ثم إنه كان الوحيد الذي كان يمكنه التوسط لمنع إعدامه ....لكنه لم يفعل ... بل كان هو من أوكل إليه كتابة خبر إعدام الشهيد في ثلاثة سطور بالبنط الصغير نشرت بنفس النص في كل الصحف ...ويصف الصحافي محمد رجب يوم الإعدام يقول:

المكان: سجن الاستئناف العمومي بباب الخلق ...

الزمان: صباح الأحد 28 أغسطس عام 1966م ...

المشهد: العلم الأسود يرفرف فوق أكبر سارية بسجن الاستئناف ... هذا المشهد لا يشير إلا لشيء واحد ... يعرفه الناس جيدا برؤية العلم الأسود ... حكم بالإعدام سينفذ هذا الصباح ... الحكم هذه المرة ... جزء من تاريخ مصر ... بل هو رموز هذا العصر ... وقد يمتد أثره إلى عصور تاريخية تالية ... وقد يؤدي دورا في أحداثها ومجرياتها ... لذلك قررت الدولة أن ينفذ هذا الحكم سرا .. كيلا تهيج المشاعر الإنسانية في الشارع المصري والعربي على حد سواء ... وحرصا على ألا تبالغ وكالات الأنباء التي ترقبه وتترقبه في نقل وصفه إلى هذا العالم بأسره ... والسبب الأهم ... وضع بعض رؤساء الدول الذين يتدخلون بين ساعة وأخرى لمنع تنفيذ هذا الحكم بأي ثمن – أمام الأمر الواقع فلا يبقى أمامهم سوى الدعاء بالرحمة على الفقيد بعد إعدامه ... وصدرت الأحكام حاسمة وقاطعة إلى كل وسائل الإعلام بعدم إبراز أخبار هذا الحكم، بل كان بعض الصحفيين لا يعرفون أن الحكم قد نفذ إلا بعد إتمام الإعدام بساعات طوال ... وهناك صحفي تمكن من حضور حكم الإعدام ... بشرط أن يخرج من مبنى السجن لا يسمع، لا يرى، لا يتكلم.

نودي على المتهم ... الاسم: سيد قطب إبراهيم .. العمر: 60 عاما .. المهنة: أستاذ سابق وعالم من خيرة علماء المسلمين .. التهمة: محاولة قلب نظام الحكم ... الرجل المحكوم بإعدامه يبدو أشجع ممن حوله وكأن الموت يفر منه رعبا بينما هو مقبل عليه ... كانت المرة الأولى، ربما أيضا الأخيرة ... التي شوهد فيها عشماوي (الرجل الذي نفذ عملية الإعدام) كرجل له قلب ... إنه لا يمارس مهنته كما اعتاد ... إنه الآن مكره على تنفيذها ... أول مرة يتصادف فيها أن يقوم عشماوي بإعدام شخص يعرفه، بل ويعرفه عن قرب ... دون أن يلتقي به من قبل ... كان يسمع عنه من أقاربه ومعارفه وأصدقائه ... يحفظ شكله دون أن يراه ... يعرف أسماء كتبه وكأنه قد وقع له بإهداء خاص ... شيء صعب بل ومرير ... أن تقتل رجلا تحترمه ... أصعب منه أن ينظر إليك مبتسما وأنت تلف حبل المشنقة حول عنقه ... كما كانت نظرات سيد قطب إلى عشماوي لحظة الإعدام ... لا بد بعد تلاوة الحكم وأسبابه .. من حديث الواعظ الذي تنتدبه وزارة الأوقاف ... إلى المتهم قبل لحظات إعدامه ... طلب الواعظ من سيد قطب أن يتلوا الشهادتين ... أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكن سيد قطب يبتسم في بشاشة وهو يربت على كتف الواعظ قائلا: وهل ترى أني جئت إلى هنا إلا من أجل هذه الكلمات؟ ويكاد الواعظ أن يخر مصعوقا أمام العالم الأكبر والداعية الإسلامي الأشهر ... بهت لون الواعظ ... اصفر وجهه .. تحشرج .. تاهت كل الكلمات فوق لسانه ... تمتلئ ملامحه وصوته بالخجل ... تضاءل أمام نفسه فجأة ... ولم تنقذه غير نظرات حانية عطوف من عين الشيخ العالم سيد قطب.

ممثل النيابة يختتم حديثه هو الآخر بجملة تقليدية: نفسك في حاجة؟ ... لكن الشيخ العالم لم يطلب شيئا ... لا شيء في تلك اللحظة يعدل حلاوة اللقاء مع الخالق ... لذلك كان سيد قطب ... حريصا على أن يلبي النداء ... إن لم يكن قبل موعده بلحظة ... ففي لحظة موعده بالضبط ... كل هذه الإجراءات كانت تضايقه ... لأنها تؤخره عن موعد الحب الأكبر ... واللقاء العظيم بملك الموت ... وتقدم سيد قطب نحو المكان الذي سينتهي فيه أجله الدنيوي ... كان يعرف أن الحجرة التي يدخلها الآن هي آخر ما تشاهده عينه ... وفيه ستصعد روحه للسماء ... ليخرج بعدها من نفس الحجرة ... جثة لا نبض فيها ... لكنه كان واثق الخطى رابط الجأش ... قوي الأعصاب ... في قمة تركيزه واتزانه ... وفي مثل هذا الموقف فإن عين المحكوم بإعدامه تقع أول ما تقع على الحبل المفتول الذي يتدلى من سقف المشنقة .. لكن الحبل المشؤوم لم يكن هدفا لنظرات سيد قطب، بل انشغاله بالشهادتين همسا ... كان قد نقله إلى عالم آخر ... يختلف كثيرا عن عوالم المحيطين به ...لم يكن الشعب المصري يدري بما حدث ... الناس يمارس ون حياتهم الطبيعية ... الحذر هو السمة الغالبة على أفراد الشعب المصري ... لا أحد يتحدث في السياسة ... الأخ لا يأتمن أخاه ... والصديق يشك في صديقه ... ووظيفة المرشد (الجاسوس) كان يشغلها أقرب المقربين إليك ... وأن الشعب كله أصبح يرفع شعارا "ارفع صوتك كما تريد يا أخي ما دام أن ذلك يتم في سرك" لو كان الشعب يعرف في ذلك اليوم أن حكم الإعدام قد نفذ في سيد قطب لأخرج كل مرارته الوجدانية وستكون أشد التهابا من مقالات الصحفيين التي لم تنشر ... لأنها لم تكتب أصلا.

دخل سيد قطب الحجرة مرفوع الرأس ... وقبل أن يرتدي سيد قطب "الطاقية" قاتمة اللون ... همس بكلمات سريعة ... أشبه بالدعاء ... كاد عشماوي يرتعد وهو يسمعها تتقاذف واحدة تلو الأخرى من فم سيد قطب ... سأل الصحفي عشماوي وألح عليه أن يعرف ماذا قال سيد قطب ... تلك اللحظة الأخيرة من عمره ... أخبره عشماوي بآخر سبع كلمات قالها وهي: اللهم اجعل دمي لعنة في عنق جمال عبد الناصر ... ولكن الصحفي الكبير لم يستطع أن ينشر كلمة واحدة من الكلمات السبع ... وتدلى جسده النحيل من حبل المشنقة ... ظنت القيادة السياسية أنها أعدمت المد الإسلامي ... وخنقت فكر الإخوان ... وشنقت عقلهم المفكر ... الشيء الوحيد المؤكد أن الذي أعدم وشنق هو جسد سيد قطب ليس المد الإسلامي أو فكر الإخوان .. الحاكم الدكتاتور يمكنه تعذيب الأجساد وإعدامها أينما وحيثما شاء ... لكنه يعجز عن مقاومة الفكر والعقيدة ...لم تمض سويعات قليلة على تنفيذ حكم الإعدام في الشهيد سيد قطب حتى كانت السماء ترد بعنف بالغ .. وتضيء اللون الأحمر ... في مظاهرة احتجاج مثيرة ... هطلت الأمطار والثلوج في عز الصيف ... بينما كان الجو جحيما لا يطاق منذ اليوم الأول من أغسطس وحتى لحظة إعدام سيد قطب ... الصهد يشع من الأرض ... والعرق يبلل الوجوه ..ز ونار تتأجج في الأبدان ... فجأة ... تكهرب الجو ... تناثرت قطع الثلج من السماء وكأنها تقذفها علينا ... وترجمنا بها ... دفاعا عن سيد قطب وحبا لإيمانه وثقته وبراءته .. وفي اليوم الثاني أقيمت صلاة الغائب على روح سيد قطب في معظم الدول العربية ...انتهت شهادة الصحافي محمد رجب ..

لكنني أركز فيها على فقرتين شدتا انتباهي: "وهناك صحفي تمكن من حضور حكم الإعدام .. بشرط أن يخرج من مبنى السجن لا يسمع، لا يرى، لا يتكلم".

"ولكن الصحفي الكبير لم يستطع أن ينشر كلمة واحدة من الكلمات السبع".

فمن كان هذا الصحافي؟

وهل يمكن أن يكون سوى محمد حسنين هيكل ؟

كان سيد قطب أشبه بسراج وهاج يكشف نوره الزيف والكذب لذلك حرص المزيفون والمزورون على قتله.

كان طودا شامخا للدفاع عن الوطن والأمة لذلك حرص الجواسيس والعملاء على قتله.

كان ..وكان ..لكنهم قتلوه ...نعم ... نبه سيد قطب إلى الكارثة ...ليس تنبيها مجملا يمكن أن يفسر بألف تفسير كلها صحيح وكلها خطأ.

لا ...بل كان يقرأ بنور الله .

وكان يرى بنور الله ...وكان يقدم التفاصيل المذهلة كأنما يراها ... تفاصيل تقاطرت بعد صدور كتابه عاما بعد عام وعقدا بعد عقد ... ولكي أشرككم معي يا قراء في بعض هذه التفاصيل المذهلة فلندلف على الفور إلى كتاب "الحرب الأمريكية بمنظار سيد قطب" حيث رسم الشهيد العظيم منذ عام 1951 خارطة مذهلة كأنما كتبها بالأمس، لقد كان واعيا منذ ذلك الوقت المبكر لخطورة الشيوعية، وداوتها للأمة المسلمة، ودعم الاتحاد السوفيتي لليهود ودولتهم على أرض فلسطين، ... وحذر من أن روسيا تريد توظيفنا في صراعها مع أمريكا، مع أنها في الحقيقة لا تريد الخير لنا، فدائما تريدنا ذيولا ذليلة لها ... وذكر خطأ انضمامنا إلى إحدى الكتلتين، لأنهما عدوتان لنا، لكنه يقرر أن وجود الكتلتين متواجهتين ضروري، لحفظ "التوازن" الدولي.

لم يطمس عداءه للكتلتين على نور بصيرته فأدرك – وقال إنه ليس من مصلحة البشرية قضاء إحدى الكتلتين على الأخرى، وانفرادها بالهيمنة على العالم، لأن في هذا الانفراد التسلطي تدمير للآخرين، وقضاء على السلام العالمي. في هذا الكتاب المذهل، وهو تحت يدي لكنني أعتمد في هذه الفقرات على تلخيص أعده: د. صلاح الخالدي جزاه الله خيرا، بعد مراجعة دقيقة للكتاب، إذ أنني أعترف أنني عندما قرأت مقدمة الدكتور صلاح الخالدي غلب علي الظن الذي هو إثم، فظننت أن الدكتور الخالدي لفرط حبه للشهيد العظيم قد حمل الأمور أكثر مما تحتمل، أو أنه لوى أعناق الكلمات كي يثبت بعد نظر الشهيد العظيم وشمول رؤيته، وقرأت المقدمة وأنا على جمر كي أنتقل لأقرأ كلام الشهيد ... وأشهد الله أن الدكتور صلاح الخالدي لم يتجاوز ولا تعسف ولا لوى أعناق الحقائق، وأنه لم ينطق إلا بالصدق ولم يشهد إلا بالحق ... بيد أنني أعتمد على تلخيصه لثقتي بأنه سيكون أفضل من تلخيصي ... توقع الشهيد العظيم زوال الاتحاد السوفيتي، وانفراد أمريكا بالهيمنة على العالم، ولكنه توقع أن ذلك الانفراد لن يكون إلا لفترة قصيرة، ولا بد من ظهور قوة أخرى تقف أمام القوة الأمريكية، لأن طبيعة الحياة البشرية تأبى انفراد قوة بذلك، وتوقع ظهور قوة "أوروبا" لمواجهة القوة الأمريكية.

وتنبأ الشهيد بأن هيمنة أمريكا على العالم بعد زوال الاتحاد السوفيتي معناها الخسارة الأكيدة للبشرية:

"وويل للبشرية يوم يوقعها سوء الطالع في ربقة هذا الصلف الأمريكاني، بلا قوة في الأرض يخشى، ويعمل لها حساب".

يقرأ الشهيد بنور الله ما سيحدث فيقول: "إن السلام العالمي لا يمكن أن يتحقق على يد أي من الكتلتين: الرأسمالية الأمريكية والشيوعية السوفيتية ... وستبقى البشرية تعيش ويلات الحرب طالما بقيت الكتلتان متصارعتين".

وهو لا يكتفي بالنبوءة أو بالوصف، بل يحدد طريق الخلاص للأمة المسلمة، من الحرب الشاملة التي تحشد أمريكا حشودها، فالخلاص لن يكون بالانضمام إلى المعسكر الأمريكي، ولا بالانضمام إلى المعسكر الشيوعي.

ويرى الشهيد بنور الله ما سيحدث فيذكر أن المعركة القادمة ستدور على أرضنا، فيقول بالحرف: "ستدور في تركيا وإيران، والعراق وسوريا ، ومصر والشمال الأفريقي .. وفي باكستان وأفغانستان ، وفي منابع البترول الإيرانية والعربية، وفي عبادان والظهران .. إنها ستدمر كل مواردنا نحن، وتحطم حياتنا نحن، وتدع أرضنا بقعا خرابا يبابا" ... ويرى الشهيد بنور الله فيكشف المجرمين والخونة منذ ذلك الوقت المبكر تذكروا يا قراء: هذا الكلام مكتوب منذ عام 1951 – ويكذب مزاعم دعاة الانضمام إلى المعسكر الأمريكي، لتحقيق الخلاص من المشكلات، فأمريكا حريصة على إيقاعنا في المشكلات.

ويرى الشهيد بنور الله ما فيفضح التحالف المريب بين الرأسمالية المحلية في بلاد المسلمين وبين أمريكا الباغية، لأن الاستعمار الأمريكي هو السند والحماية لهؤلاء الأتباع من أصحاب الأموال والتوجيه، وهم التوجيه، وهم المنتفعون من الحرب القادمة، بزيادة أموالهم، ولن يخسروا منها شيئا، بينما ستكون الشعوب والجماهير وقود المعركة، والمتضررة منها.

ويرى الشهيد العظيم بنور الله ليقرر أن طريق الخلاص الوحيد للأمة المسلمة يكمن في عدم الانضواء تحت راية الشرق أو الغرب، بل في إنشاء الكتلة الثالثة، المستقلة عن الكتلة الرأسمالية والكتلة الشيوعية، الكتلة الإسلامية التي تقول: لا لكل من أمريكا وروسيا".

انظروا يا قراء إلى استعلاء المؤمن بدينه وثقته بربه ...انظروا وقارنوا بالجعجعات الفارغة التي قذفتنا في الهاوية ...انظروا وانبهروا ... فالشهيد العظيم يرى الحرب مع أمريكا آتية لا ريب فيها ...وهو لا يهرب منها ولا يدعونا للهرب بل يحرضنا على المواجهة ويعدنا بالنصر فيدعو إلى وجوب مواجهة أمريكا ومقاومتها، عندما تبدأ حربها الشاملة على بلاد المسلمين، مؤكدا على أن المسلمين قادرون على إيذائها وإزعاجها، وإلحاق الهزيمة بها في النهاية، لم يكن عند الشهيد أي شك في أن الحرب الشاملة التي تعد لها أمريكا العدة آتية بل إنه يحدد بمنتهى الصرامة والحسم وبنور الله، يحدد تحديد كلمة الإسلام فيها في بنود أربعة:

الأول: يحرم الإسلام هذه الحرب، ويلعنها القائمين عليها، ويحرم مشاركة المسلمين فيها.

الثاني: يحرم الإسلام مساعدة الدول التي حاربت المسلمين في دينهم، وأخرجتهم من ديارهم، ويحرم عقد المعاهدات والاتفاقيات معهم، ويحدد هذه الدول: أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا.

الثالث: يوجب الإسلام على المسلمين جهاد الأعداء المحاربين وقتالهم، واليقين بأنهم في حالة حرب معهم، وفي مقدمتهم: أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، ودولة اليهود على أرض فلسطين.

الرابع: يوجب الإسلام على المسلمين مقاطعة الأعداء المحاربين مقاطعة تامة، وذلك بعدم إمدادهم بالأطعمة أو المهمات، وعدم تقديم المساعدات والتسهيلات لهم، وعدم التعاون والعمل معهم.

مرة أخيرة يا قراء تذكروا أن هذا الكلام كتب بل نشر – عام 1951 حيث واصل الشهيد العظيم بعده رسم الطريق الوحيد إلى السلام: ذلك السلام الذي لن يتحقق في واقع الحياة إلا بعد أن تخطو الأمة المسلمة خطوتين متلازمتين:

الأولى: رجوع كل دولة في بلاد المسلمين إلى الإسلام، وتطبيقه الجهاد الهادف في كافة مجالات الحياة، وتربية المسلمين عليه.

الثانية: تكتل الدول الإسلامية كلها في كتلة واحدة، ووقوفها أمام الطامعين فيها من الأمريكان وغيرهم. وهذه الكتلة الإسلامية هي التي تجمع المسلمين، وتحقق التوازن بين الكتلتين المتصارعتين: الرأسمالية والشيوعية، وعند ذلك، عند ذلك فقط سوف يتحقق "السلام العالمي" الذي تتنادى إليه البشرية كلها.

قارنوا يا قراء بين استراتيجية الإخوان وفي سويداء القلب منهم فكر الشهيد وبين الاتصالات السرية للضباط الأحرار مع الثورة.

قارنوا بين أباطيل هيكل وحقائق سيد قطب ... قارنوا بين ظلمات التيه ونور الحق.


الباب الثامن: مذبحة طرة ... أقسمت أن أروي

  أنا لا أكتب في الفراغ يا قراء ... ولا أنا أجتر تاريخ الألم، ولست شغوفا بإيلامكم، ولا أنا أنفصل – بالهروب – عن الواقع المروع الدامي الذي نعيشه، بل إنني أشعر إذ أكتب عن وقائع المنشية 1954 ومذبحة طرة عام 1957، أشعر أنني كطبيب يكشف مسببات المرض الأولى قبل أن يستفحل وينتشر بعشرات الأعوام والحقب، أو كمهندس معماري يكشف عن أساسات البناء الخرب – الذي قام على أساس الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين – الذي نخره السوس ليسفر في النهاية عما يحدث الآن في فلسطين والعراق وسائر أرجاء العالم الإسلامي، فهذا الامتهان الذي تمتهنه أمريكا للعراق وحبة العين وسويداء القلب: الفلوجة – واليهود لفلسطين وروسيا للشيشان والصين لتركستان ... و ... و ... كنا قد بدأناه نحن في بلادنا في مواقع عديدة وأزمنة مديدة ... منها ما حدث في مصر في الفترة التي أكتب عنها.

لكنني قبل أن أترك هذا الجزء أنوه وأنبه وأسأله:

لو أن ثورة 23 يوليو ، أو حتى دول حرب عام 48 حاربت اليهود كما يحارب أهل الفلوجة أمريكا اليوم، فهل كانت إسرائيل ستولد أو تعيش إن ولدت؟ ... وهل كانت أمريكا ستأتي لتفعل بنا ما تفعله اليوم من الأفاعيل؟ ...

ليلة القدر كانت ابنة أختي تسألني باكية:

هل تعتقد أن المجاهدين في الفلوجة سينتصرون؟

وأجبتها على الفور:

من المؤكد أنهم لن يهزموا أبدا، مهما كانت النهاية، ففي حروب المجاهدين لا توجد هزيمة وإنما تكون نتيجة أي معركة هي نيل إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

ثم أردفت قائلا: ولقد لقن هؤلاء المجاهدين – حتى ولو استشهدوا جميعا – أمريكا درسا سينقذ بقية العالم الإسلامي من براثنها الوحشية ويتيح لهم فرصة لالتقاط الأنفاس حتى يتخلص من حكامه وجلاديه، ليستطيع مواجهة الصليبيين واليهود كما واجه أهل الفلوجة الأمريكيين.

وفي ليلة القدر أيضا كان الناس في صلاة القيام والتهجد ... كان الناس مشحونين بالألم، وعندما خالف الإمام تعاليم عبد الشيطان فدعا على أمريكا بالخراب ولأهل الفلوجة بالنصر ضج المسجد كله بالبكاء الذي بلغ حد الصراخ.

لكنني أعود لأقول إن ما يحدث اليوم إنما هو حصاد ما زرعناه بالأمس أو ما زرع فينا ... وأنه يعود إلى مصائبنا وكوارثنا أعوام 52 و 54 و 57 و ... و ... و ... يعود إلى إنهاء دولة الخلافة عام 1924 و ... و ... وليس ما يحدث الآن سوى حصاد الشوك الذي زرعناه.

ونعود إلى تفحص أساسات البناء المتداعي الخرب ...نعود إلى التاريخ ..كان ذلك عام تسعة وستين وتسعمائة وألف .... بعد الجريمة البشعة الهائلة التي توج بها النظام الناصري جرائمه بقتل الشهيد سيد قطب بثلاثة أعوام، وبعد مصيبة الهزيمة العسكرية الهائلة التي توج بها النظام الناصري هزائمه العسكرية بعامين، وقبل عام من موت عبد الناصر ، الذي مات بعد الشهيد سيد قطب بأربعة أعوام تقريبا، لم يهنأ فيها يوما واحدا، بل عاشها كلها بين كوارث الهزائم وإذلال الأعداء وخيانات الأصدقاء وانفضاض الخلان ومصائب الأمراض وآلامها المبرحة حتى وافاه الأجل.

لقد كانت أكثر وسائل التعذيب شيوعا في السجن هي الجلد بالسياط على الأقدام – أقول أكثرها شيوعا وليس وحشية ... فقد كان هناك دائما وسائل أكثر وحشية بكثير – وكانت هذه الوسيلة تمارس ضد الإخوان المسلمين، وهو ما كان يسبب لهم آلاما مبرحة، ولقد لاحظ البعض أن المرض الذي ابتلى به الله جمال عبد الناصر في قدميه كان يسبب له آلاما لا تقل ضراوة دون الحاجة إلى ضرب سياط ... ولقد عانى رجال – بل ونساء – الإخوان من إهمال طبي جسيم أودى بحياة الكثيرين منهم، وشاءت المشيئة أن يقع أطباء عبد الناصر في عديد من الأخطاء الطبية الجسيمة في علاج أمراضه كالسكر والذبحة والجلطة، وربما تكون هي السبب المباشر في موته.

نعم ...حياة عبد الناصر كلها كانت مليئة بالتوتر .. لكن هذه الفترة بالذات ... منذ قتل الشهيد إلى موت القاتل كانت حافلة بكل أنواع الألم الجسدي والنفسي، بل والإذلال والمهانة – عملية الاستيلاء على الرادار مثلا – وكأنه كان قصاص جبار منتقم.

كان ذلك في عام تسعة وستين وتسعمائة وألف ... كنت طبيب امتياز في القصر العيني ... وتفشى وباء الكوليرا ... وكان جهاز الإعلام الكاذب قد غير اسم الوباء إلى "أمراض الصيف" ... وكلف مفتشو الصحة بالنزول إلى الشوارع لتطعيم المواطنين ... وكلفنا – كأطباء امتياز – للقيام بعملهم ... وكان المكان الذي كلفت للعمل فيه هو مفتش مكتب صحة قصر النيل الذي تتبعه معظم فنادق النجوم الخمس آنذاك .. وكان زملائي يحسدونني، فقد جرت العادة أن تستقبل تلك الفنادق حملة التفتيش على الإجراءات الصحية ومعايير النظافة في تلك الفنادق بوجبة فاخرة، يتلوها كتابة تقرير فاخر عن الفندق.

في الفندق الأول الذي ذهب إليه رفضت – وسط احتجاج باقي أعضاء اللجنة – دعوة الغداء، وأصررت على التفتيش، لأفاجأ أن المطبخ في بدرون الفندق غارق في مياه المجاري، حتى أن الطباخين ومساعديهم يخطون وسط هذه المياه على قطع كبيرة من الأحجار ... وكان الرذاذ المتناثر من المجاري يصل إلى الطعام، بل كانت أدوات الطعام تسقط وسط المياه ... كتبت تقريرا بذلك، ورفض المسئولون في الفندق التوقيع، ووجهنا بنظرات الوعيد والتهديد، التي أعقبها أمر عاجل بإنهاء انتدابي في قصر النيل ونقلي إلى حي شعبي.

ليس ذلك هو المهم ...المهم هو حالة الاشمئزاز العنيف، والغثيان والقرف التي ما زالت تنتابني كلما تذكرت الواقعة ...لا تتعجل يا عزيزي القارئ ولا تتخيل أن الخيط أفلت مني وأن السياق انقطع ... لا تتعجل ولا تعجب كما عجبت أنا نفسي من تداعي هذه الواقعة إلى خاطري إذ أكتب ما أكتب ... وربا يكون السبب في تصوري أنني كطبيب يبحث عن جذور المرض أو كالمهندس المعماري أتفحص الأساس الخرب للبناء المتداعي الموشك على الانهيار، أو ربما يكون السبب في جملة سوف يقرأها القارئ في هذا المقال ... جملة وردت في كتاب كتبه كاتب مسيحي عاش وعاصر وشاهد مذبحة طرة ... وظن أن كل الإخوان المسلمين في كل السجون سوف يقتلون كما قتل شهداء المذبحة وأنه لن يبقى منهم أحد ليروي للعالم وقائع المذبحة، فأقسم هو أن يرويها، بل وسمى الكتاب نفسه: "أقسمت أن أروي" ... وفي مقدمة هذا الكتاب جاءت تلك الجملة التي نوهت عنها حيث تقول:

"إن الدكتاتورية تبدو في العادة ضخمة خطيرة من الخارج ... إنها تبدو صلبة براقة لا تقاوم ... أما من الداخل فهي عفنة .. إنها أشبه بالأضرحة البيضاء التي تبدو جميلة فعلا في مظهرها ... ولكنها من الداخل مليئة بعظام الموتى وجميع أنواع القذارة".

نعم ... وهذه الحالة من الاشمئزاز العنيف التي انتابتني وأنا أشاهد الطعام في فنادق النجوم الخمس يقدم مختلطا بمياه المجاري هي نفس الحالة التي انتابت روكس معكرون وهو يرى الديكتاتورية بمظهرها الأبيض الأنيق وجوفها الخرب العفن ... أقول إن هذه الحالة تنتابني كلما ولجت بابا من أبواب ثورة 23 يوليو ، التي طلاها الإعلام المزيف بعلامات النجوم الخمس، لأفاجأ بعد الدخول من ذلك الباب، بطوفان يثير نفس حالة الاشمئزاز العنيف، والغثيان والقرف التي تنتابني كلما بحثت جزئية من تاريخ الحكام الظالمين مع المسلمين، وعلى الأخص موقف الثورة مع الإخوان المسلمين، والتي شكلت انعطافا حادا تميز عما عداه، إذ تم التنكيل بالمسلمين وسط حرب إعلامية وغسيل مخ لم يسبق لهما مثيل، حرب إعلامية وغسيل مخ تمخضت في نهاية الأمر عن اعتبار كل الشباب الذين يصلون الفجر في المساجد مشتبهين خطرين، أما المعتكفين فإنهم يهددون أمن الدولة، وفي الثقافة التي يشكل عمودها الفقري المسلسلات المنحلة، أصبح التحدث بالعربية الفصحى دليلا أكيدا على الإرهاب، رغم أن شرعية وجودهم المزيفة تعتمد على اللغة العربية والقومية العربية ولم يكن غريبا إذن أن يتطور الأمر على أيدي الصليبيين واليهود ، ليصبح كل مسلم إرهابيا، وكل إرهابي يستحق القتل، ولا يحتج على قتل الإرهابي أو احتلال وطنه إلا إرهابي مثله!!

تلك البذرة السامة الملعونة ... كانت ثورة 23 يوليو من أول من نجحت في تهجينها ... والكارثة أنها انتقلت من مصر إلى بقية العالم الإسلامي كالوباء ... كانت تختلف عن البذرة التي نشأت في تركيا برعاية كمال أتاتورك، الذي سرعان ما اكتشفت الأمة ليس مجرد عمالته بل كفره، مما جعل الأمة تعزف عن تجربته وتنفر منها، في مصر كان الوضع يختلف مع تجربة غربية أنجح بكثير من تجربة كمال أتاتورك، فقد كان الناس متفونين بالزعيم، جمال عبد الناصر ، حتى بعد أن قرأوا في كتاب لعبة الأمم لمايلز كوبلاند، أن ثورة 23 يوليو كانت أنجح تجارب المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط.

وإنني أعترف للقارئ، أنه كان يمكنني التماس المعاذير، أو حتى تقليل حجم الإدانة، لو أن ما جرى ضد الإخوان المسلمين إنما جرى لصالح فئة إسلامية أخرى، لكن المحزن حتى الموت، أن محاولة السحق تلك، تمت لمصلحة الصليبيين واليهود ... ومع سبق الإصرار والترصد ...

إلا أنني أعيد تذكير القارئ بما وصلنا إليه في الأعداد الماضية حيث تثبت شهادات اليساريين والشيوعيين والعلمانيين أن حادث المنشية كان مدبرا، كما أعيد تذكير القارئ أننا لم نجرؤ على الشك في ذلك إلا بعد برع قرن من الحادث، ولم نتحدث عن تلك المؤامرة بيقين إلا بعد نصف قرن من نجاحها.

وخلاصة الأمر أن أجهزة الأمن قد اخترقت خلية من خلايا الإخوان وسيطرت على محمود عبد اللطيفبوسيلة لم يكشف اللثام عنها حتى الآن، والمتهمون فيها كثيرون، وفي النهاية ذهب صلاح دسوقي مع محمود عبد اللطيفإلى سرادق المنشية، وأطلق صلاح دسوقي الرصاص من مسدسه، وهو المسدس الذي حمله خديوي آدم بعد خسة أيام ليسلمه إلى جمال عبد الناصر ، بدلا من المسدس الذي قيل إنه ضبط مع محمود عبد اللطيف، والذي تجاهلته التحقيقات بعد ذلك، حيث ثبت أنه لم يطلق منه رصاص ... وعزل محمود عبد اللطيفبعيدا عن السجن، في غرفة بجوار غرفة الضابط حسين عرفة ، صهر أحمد أنور من الضباط الأحرار، ومدير البوليس الحربي، وظل هناك لا يتصل به أحد حتى صدر الحكم بإعدامه، وسيق إليه وهو يصرخ أنهم لم يتفقوا معه على هذا.

المذهل أن الأمور كانت واضحة أمام الشهيد العظيم سيد قطب، رغم وجوده في السجن، ورغم التعذيب، ورغم التعتيم الإعلامي الذي لا يضارعه إلا تعتيم الأجهزة الأمريكية المجرمة على صدام حسين بعد خمسين عاما.

إنه يواجه المجرم صلاح دسوقي بعد أسابيع من الحادث: "وعندما كان السيد صلاح دسوقي يستجوبني هنا في السجن الحربي عام 1954 صارحته برأيي في تدبير الحادث (...) قال لي وقتها وقد هدأ اضطرابه: جايز! ... ولكن واحدا من الإخوان المسلمين هو الذي قام بالحادث".

ثم يتحدث الشهيد عن البطش الذي مارس ته الدولة ضد المسلمين: ".. كانت تملأ نفسي شعورا بالظلم الذي أصاب آلاف الأفراد وآلاف الأسر والبيوت ... بناء على حادث واضح جدا تدبيره – حتى ولو لم يعلم بالضبط في ذلك الوقت من دبره – وبناء على الرغبة من حماية النظام القائم من خطر ضخمته أجهزة غريبة الأهداف واضحة كذلك من كتبهم وجرائدهم وتقريراتهم وفي مقدمتها تقرير جونسون عن نهر الأردن ... ثم تضخم هذا الشعور وأنا أرى النتائج الواقعية في حياة المجتمع المصري من انتشار هائل للأفكار الإلحادية وللانحلال الأخلاقي نتيجة لتدمير حركة الإخوان المسلمين ووقف نشاطها التربوي، وكأنما كان وجود هذه الجماعة سدا قد انهار وانطلق بعده التيار".

ويظل التصور واضحا أمام الشهيد العظيم بعد عشرة أعوام قضاها في السجن، وعندما يفرج عنه بوساطة من الرئيس العراقي عبد السلام عارف 1964، يضيف بعض التفاصيل الأخرى، وللمرة الأولى يتهم صلاح دسوقي صراحة، كما يشير بصورة واضحة إلى مؤامرة مشتركة بين الداخل والخارج لصالح اليهود والصليبيين. يقول الشهيد لبعض زواره من الإخوان:

"... وكان أول سؤال توجهوا إلي به الاستفسار عن حقيقة حادث المنشية في أكتوبر سنة 1954 وعدم تصديقهم بأنه عمل الإخوان لأنه ظاهر فيه من الوصف الذي سمعوه أنه لا يمكن لإنسان عاقل أن يحاول ارتكابه على هذا البعد بمسدس .. وقد أخبرتهم بما بلغنا عن تدبيره بواسطة صلاح واللواء الذي مات أخيرا في الإسكندرية وثالث لم نعرفه بعد".

ولقد عايش الشهيد مذبحة طرة ... ولدينا عنها عشرات الشهادات .. أهم شهادات الشهداء فيها هو شهيدنا العظيم نفسه أما أهم شهادات الأحياء فهي شهادة لواحد من أبناء أحد شهداء تلك المذبحة..هذا الشخص ... الشاهد ابن الشهيد ... هو الدكتور محمد مورو .. رئيس تحرير المجلة التي تقرأها الآن أيها القارئ .. ولنبدأ بها .. لأنها موجزة عاصفة دامية وتلم بأطراف الأمر كله:

شهادة الدكتور محمد مورو – رئيس تحرير مجلتنا الحبيبة المختار الإسلامي (في مقابلة مع الصحافي أحد عبد الهادي – صحيفة شباب مصر).

"أبي كان عضوا في الإخوان وقد استشهد في السجن عام 1957 في حادث طرة ... حيث كان الإخوان معتقلين أيام عبد الناصر ... وعندما اندلعت حرب 1956 طلبوا المشاركة في الحرب حيث قدموا مذكرات لإدارة السجن بذلك .. وكان أبي من بينهم ... وكل الذين قدموا هذه الطلبات تم تصفيتهم إما بالتعذيب أو رميا بالرصاص من غير محاكمات ...كانت تهمة أبي أن أحد أصدقائه اعتقل ضمن المعتقلين من الإخوان وكان أبي يعمل وقتها في هيئة قناة السويس وكنا نقيم في الدقي ... وحرص أبي على إرسال نصف مرتبه لعائلة صديقه المعتقل عن طريق حوالة بريدية متصورا أن المروءة غير مجرمة ...

وكان أبي وقتها قد شارك في معارك الإخوان عام 1951في معارك القناة ضد الإنجليز ...ونظرا لحرص أبي على إرسال نصف المرتب تم اعتقاله .. والتهمة تمويل الإخوان .. وكانت صدمة له لم يصدقها وهو ما دفعه إلى الصدام أكثر من مرة مع إدارة السجن والمحكمة ... ويهتف ضد النظام في قلب المحكمة فقد فاض الكيل به ... وحكى الكثيرون عنه ... وعن قوته ومواجهته للظلم الذي حاق به ورفض كتابة ثمة التماس للخروج.

وعندما تقرر تصفية الإخوان داخل الزنازين هرول داخل إحدى الزنازين ولما لم يستطع إغلاقها بالترباس وقف خلف الباب بقوة لمنع الحرس من اقتحامها لتصفية من فيها فأطلقوا عليه الرصاص وتركوا زنزانته ومن فيها ... وكل من في الزنزانة نجا إلا هو فقد تلقى الرصاص في جسده نيابة عنهم ... بينما تم تصفية الكثيرين منهم في الزنازين الأخرى".

انتهت الشهادة الموجزة للدكتور محمد مورو، وإني أناشده أن يفصل ما أوجز وأن يطلب ما اختصر فذلك ليس حق الشهداء علينا فقط، بل هو حق الأحياء أيضا.

الشهيد سيد قطب يعطينا المزيد من التفاصيل

" ... بعد كل ما قاساه الإخوان المسلمون بعد حادث المنشية من اعتقال الألوف منهم، وتعرضهم لألوان من التعذيب الطويل، وسجن المئات منهم وهم حوالي الألف وتخريب بيوتهم، وتشريد أطفالهم ونسائهم الذين لم يشتركوا في أي نشاط دون أية كفالة من الدولة ولا حتى معونة للبيوت التي انقطعت أرزاقها وللأطفال والنساء الأبرياء. بعد هذا كله رأيت أن هناك محاولات تبذل لخلق ظروف وملابسات يمكن بها إيقاع مذبحة كبرى للمسجونين والمعتقلين تحت ستار كستار حادث المنشية ...ويستطرد الشهيد ليصف كيف دسوا على الإخوان أناسا من الإخوان وإما انخدعوا وإما خانوا ليحاولوا إقناع قيادات الإخوان بالهروب من السجن ... ورفض الشهيد العرض على الفور مدركا أنها خدعة، ورفض العرض أيضا كل قيادات الإخوان في السجن، أما الأستاذ صالح أبو رقيق فشتم من عرضه عليه المشروع وعنفه، أما معروف الحضري فقد قال في عصبية: دي دسيسة لتدبير مذبحة كبرى للإخوان الذين في السجون والذين في الخارج جميعا.

وفشلت محاولات استدراج الإخوان حتى حدثت واقعة غريبة يعبر عنها الشهيد قائلا:

"في ذلك الوقت كان قائد كتيبة ليمان طرة وهو الصاغ عبد الباسط البنا وقد رأيته يزور مصحة الليمان ثلاث مرات ويسلم علي – على غير معرفة سابقة – ويحدثني في ضرورة تخليص الإخوان الذين في السجون لأنهم هكذا يستهلكون تماما وخصوصا هؤلاء الذين يقطعون الأحجار في جبل طرة مع كبار المجرمين ... ومع معرفتي أنه لم يكن يوما ما من الإخوان في حياة أخيه الشهيد حسن البنا فقد سألته: وكيف ذلك؟ فقال: إنه كقائد لكتيبة يضع نفسه وأسلحة الكتيبة تحت تصرفنا لأنه لم يعد يطيق منظر طابور الإخوان في الجبل ... وهنا تذكرت خطة جمال ربيع ورنت في أذني كلمات معروف الحضري العصبية: دي دسيسة لتدبير مذبحة كبرى للإخوان الذين في السجون والذين في الخارج جميعا ... وقلت له: إحنا متشكرين على عواطفك ولكن نحن نرى أننا أدينا واجبنا وانتهت مهمتنا بدخول السجون ولم نعد نستطيع عمل شيء فمن أراد أن يعمل غيرنا فليعمل ... وانقطعت زيارته عني بعد ذلك ... ثم نقل من الكتيبة ورحل بعدها عدد من الإخوان – وفيهم كل كبار المسئولين وكل أعضاء النظام الخاص كما سمعت أو معظمهم – ولم يبق من كبار الإخوان إلا الأستاذ منير دلة، وكان جمال ربيع فيمن رحلوا إلى الواحات وقد ظل هناك كما علمت من الأستاذ صالح أبو رقيق فيما بعد يحاول محاولته بين الإخوان".

إنني أستأذن القارئ هنا لإضافة قصيرة ولكنها هامة ...إن مهمة الطواغيت وكلاب النار لا تقتصر على قتل المجاهد أو محاولة تدمير معنوياته، بل تتعدى ذلك إلى محاولة تدمير أسرته بالتضييق عليها، وهي خطة ما زالت متبعة حتى الآن، وفي اعتقالات الإخوان الأخيرة، أغلقوا مكاتب وعيادات المعتقلين كي يمنعوا عنهم مورد رزقهم، وثمة وقائع تاريخية ثابتة عن محاولة دفع الزوجات والبنات للانحراف، (راجع مذكرات الدكتور يوسف القرضاوي ) بل وتعدى الأمر ذلك كما حدث في واقعة بورسعيد الشهيرة، إلى قيام أمين شرطة بمحاولة اغتصاب زوجة بعد مشاركته في اليوم السابق في اعتقال زوجها بصورة مهينة .. أما ما يحدث في السجون ومقار الأمن فحدث ولا حرج.

ولكن هذه لم تكن هي الإضافة الهامة التي كنت أريد أن أضيفها، لقد كانت مجرد تمهيد لها ... فالنجاح الأكبر لكلاب الشيطان لم يكن في تدمير الأسر أو دفعها للانحراف كي تكون عبرة وعظة، بل كان في استقطاب أفراد من هذه الأسر ليكونوا أعوانا للطاغوت ومؤيدين لفكره، إذ أنهم، تحت وطأة سيف الطاغوت وذهبه، يعرفون ماذا يمكن أن يحدث لهم إذا رفضوا الغواية كما يعرفون كم المكاسب الهائلة التي يمكن لهم أن يجنوها إذا استجابوا لهذه الغواية، وكلما كبرت قيمة المجاهد كلما ازدادت قيمة أفراد أسرته، فالضربة الكبرى إذن أن يتم استقطاب أفراد أسرة أكبر شهيد في الإخوان، الإمام حسن البنا رضي الله عنه.

وهنا أكتفي بالإشارة، ولقد ذكرت دور الصاغ عبد الباسط البنا على الفور، أما جمال البنا فإن دوره لا يحتاج إلى مزيد من الكشف.

لكنني أنبه القارئ ألا ينخدع أبدا بألقاب: شقيق فلان وأن يتذكر دائما أن ابن نوح عليه السلام لم يكن من أهله، كما أنبهه إلى أن الصحف الرسمية والعميلة لا تكاد تطلق لقب: "المفكر الإسلامي الكبير" إلا على المشكوك في إسلامه أصلا.

نعود إلى شهادة الشهيد:

"لم تفلح المحاولة للمذبحة على هذا النطاق الواسع ... ولكن محاولة أخرى قد أفلحت في ليمان طرة عام 1957 ... كان هناك ضابط برتبة ملازم أول في ذلك الوقت أو يوزباشي اسمه عبد الله ماهر ... على علاقة ظاهرة بالخمسة الشبان اليهود المسجونين في حادث جاسوسية يؤدي لهم خدمات واضحة حتى ليحمل لهم طعامهم الآتي من بيوتهم بنفسه الأمر غير المعهود في الليمان ... ويحتفي بأخت واحد منهم حفاوة مكشوفة للسجانين والنوبتجية من المذنبين (...) وظلت خطة الاستفزاز وشحن الجو بالتوتر من جانب الضابط عبد الله ماهر ورئيسه هذا حتى جاء يوم علم الإخوان الذين يخرجون للجبل أن هناك خطة لضربهم بالرصاص في الجبل بحجة محاولتهم التمرد أو الهرب، فرأوا تفويتا لهذه الخطة أن يعتصموا بالزنازين في اليوم التالي ويطلبوا حضور النيابة لإخطارها بما وصل إلى أسماعهم من تلك الخطة التي تدبر لهم وهنا أمرت الكتيبة بضربهم بالرصاص داخل عنبرهم، بل داخل الزنازين بالنسبة لعدد كبير منهم ... وقتل 21 وجرح حوالي ذلك.

وواضح أنه كان في الإمكان وهم داخل عنبر مغلق اتخاذ إجراءات أخرى إذ يكفي في هذه الحالة سحب السجانة القلائل من العنبر وإغلاقه من الخارج وقطع الماء والزاد عنهم 24 ساعة فقط ... وهنا يستسلمون حتى لو كانوا فعلا متمردين! ... ولكن الإجراء الذي اتخذ وفي ظل ذلك الخط المتسلسل من الحوادث يدل بوضوح على أنها خطة مذبحة متصلة وراءها يد مدبرة ... لا يهمني الآن تعيينها بقدر ما يهمني ما تركته هذه السلسلة مقصودة بالذات القضاء عليها لصالح جهات أجنبية ... وأن شتى التدبيرات تتخذ وشتى الوسائل لتدمير أشخاصها بالتعذيب أو تذبيحهم أو تخريب بيوتهم للقضاء في النهاية على الاتجاه من أساسه.

ويستطرد الشهيد:

ولعله لم يكن من المصادفات كذلك أن يكون السيد صلاح دسوقي هو المشرف على التحقيق في مذبحة طرة ... وقد شاع بين الإخوان في ذلك الحين أن التحقيق الذي تجريه النيابة كان يتجه في أول الأمر إلى اعتبارهم مجنيا عليهم وأنه بعد حضور السيد صلاح وحضور محقق آخر اتجه التحقيق إلى اعتباره جناة (في العدد القادم إن شاء الله سنكتشف كيف صدقت توقعات الشهيد عند افتضاح المؤامرة بعد أكثر من ربع قرن).

وبعد شهادة الشاهد الشهيد والشاهد ابن الشهيد توجد شهادة بالغة الأهمية، لأنها تأتي من شخص لا يمكن اتهامه بالتحيز للإخوان ولا للإسلام ... لأنه مسيحي لبنان ي ... رأى المذبحة وهالته بشاعتها ووحشيتها فأقسم أن يروي تفاصيلها ... ولأن هذه الشهادة لا يمكن تجريحها أو اتهامها بالانحياز فإننا نحرص على إيرادها، حيث يقسم مؤلف الكتاب "روكس معكرون" أن يروي نبأ المجزرة الرهيبة التي تقشعر لها الأبدان، ليبدأ كتابه بهذه الكلمات المروعة الدامية والتي سبق أن أوردناها في صدر المقال:

"إن الدكتاتورية تبدو في العادة ضخمة خطيرة من الخارج ... إنها تبدو صلبة براقة لا تقاوم .. أما من الداخل فهي عفنة إنها أشبه بالأضرحة البيضاء التي تبدو جميلة فعلا في مظهرها ... ولكنها من الداخل مليئة بعظام الموتى وجميع أنواع القذارة".

ثم يذكر روكس معكرون أسماء بعض رفقائه في السجن مناديا نادبا ثم قائلا:

"... لقد عشت معكم أياما وليالي ... وأنا مسيحي وأنتم مسلمون ... وما شعرت معكم بغير الألفة والود والمحبة والإقدام المتبادل ... وما لمست فيكم غير إيمانكم بدينكم ... وإيمانكم بوطنكم وإيمانكم بإنسانيتكم (...) وكنت لكم أخا ... وشهدت الكارثة الرهيبة ورأيت إخوتي يسقطون صرعى ... ورصاص الطغاة الآثمين يسلبكم الحياة ... بعد أن فشلت كل أساليب الغادرين أن تسلبكم الإيمان ... وأقسمت أن أروي للتاريخ مأساتكم الهائلة ... إلى الرأي العام العالمي ... وإلى الضمير الإنساني".

أقدم قصة هذه الأيام والليالي السوداء التي عشتها في ليمان طرة ودفعت من كل ساعة من ساعاتها بل في كل لحظة من لحظاتها دمي وأعصابي ونور عيني ... ويخطئ من يظن أنني في هذا الفصل سوف أستغل صناعة الكتابة أو براعة القلم في تجسيم الحقائق في التزيين أو التزييف أو التشويه ... إنني لا يمكن أن ألجأ إلى شيء من هذا فإن الحقيقة وحدها تكفي، وأن الواقع الأكثر هولا مما قد يخطر على أي بال ... وأن الأحداث الأفظع لأقدمها للتاريخ شاهدا ولأهدي هذا المجهود إلى أرواح الشهداء الذين استشهدوا لإيمانهم بالحق لوجه الحق وحده، وأشهد الله على ما أقول ... والله على ما أقول شهيد".


وإنني لأحب أن أسأل سؤالا بسيطا إن كان من حقي كمواطن عربي شهد مأساة سجون الجمهورية العربية المتحدة: لماذا يتحدث حكام القاهرة عن العزة والكرامة والحرية وليس عندهم إلا الوحشية والعبودية والمذلة ... تجار الضجيج باعة السراب ... صناع العذاب ..لقد قدر لي أن أكون الإنسان الوحيد الذي شهد هذه المحنة الفظيعة .. وخرج من السجن ... ومن سجون الجمهورية العربية المتحدة وحدودها جميعا ليتصل بالعالم الحر.


"وأنا كمسيحي لا بد مؤد حق الشهادة الخالصة ... وأنني كمواطن عربي لا بد ملب واجب البلاغ الصادق .. وكصديق للشهداء الذين ذهبوا ... وللسجناء الذين يرسفون إلى اليوم إنما أؤدي الأمانة والواجب". قصة المذبحة فظيعة، بل أفظع قصة عرفها القرن العشرون ... بدأت مقدماتها يوم صلاة الجمعة، حيث كان السجين الشيخ حسن أيوب وهو من جماعة الإخوان المسلمين يقوم بالوعظ والإرشاد لكل من حضر الصلاة ... وكان ذلك في فناء العنبر، ولم يكد ينتهي الشيخ حسن من وعظه حتى فوجئ المصلون بسياط الزبانية تلسع ظهورهم وتفرقهم ... وقد نال النصيب الأكبر من هذه السياط الشيخ حسن المسكين ... (...) ... ووقعوا على الشيخ حسن وعشرات المصلين محاضر جلد ... ووضعوهم في غرفة التأديب ... وجن جنون المسجونين (كل المسجونين) من هذا التصرف الأحمق ... منهم من قال: لا صلاة بعد اليوم ... ومنهم من قال الكفر سيد في هذا المكان ... وتكهرب الجو بين الإدارة والإخوان ... وبدأت المعاكسات السخيفة.

أصدر طبيب أول الليمان محمد فؤاد السيد أمرا بإخراج الإخوان المرضى بالمستشفى إلى عنابرهم ... وقد كتب على تذكرة علاج كل فرد منهم ... كلمة (خروج) أي الخروج من الملاحظة لأنه شفي ... وذلك دون مراعاة الضمير الإنساني الذي يحتم عليه أن يقف إلى جانبهم ويبقيهم في أسرتهم في المستشفى لما يعانون من أمراض خطيرة، كان سببها آلات تعذيب حكام القاهرة.

وأبى طبيب أول الليمان أن يقف بعيدا عن ممالأة أسياده؟!

وفي الصباح خرج الإخوان من المستشفى محمولين إلى العنبر، كل يئن من آلامه وأوجاعه .. آلام الضرب والتعذيب قبل مجيئهم إلى الليمان ... آلام لا تطاق أذاقتهم إياها المخابرات المصرية في السجن الحربي ... حيث تفننت هذه المخابرات المصرية في السجن الحربي ... وتفننت بأساليب العذاب وألوانه ... فمن كماشة حديدية تطوق الرأس وتضغط حسب الطلب! ... إلى نفخ في الأدبار حتى يصبح الأدمي بالونا معلقا على السقف ... إلى غير ذلك من أساليب وحشية دنيئة.

وتقرر إخراج جميع الإخوان من غرفهم صباح الغد وسوقهم إلى الجبل لتكسير الحجار دون استثناء المرضى منهم وتكهرب الجو من جديد وبات الإخوان ليلتهم في قلق شديد ينتظرون الغد ويحسبون ألف حساب لملاقاة المجهول. (أذكر القراء بأنه كان معلوما لديهم أن إخراجهم للجبل سيكون تكأة لقتلهم بتهمة محاولة الهرب .. لذلك رفضوا الخروج إلى الجبل ... ولأنهم يعلمون أيضا أن قوانين أي سجن في العالم تمنع إطلاق النار داخله).

ونعود إلى روكس معكرون:

"وجاء الصباح المنتظر ... وجاوزت الساعة السابعة صباحا ولم تفتح الأبواب ... وذلك على غير عادة ... قفزت من غرفتي إلى الفتحة الصغيرة بباب الزنزانة استطلع الخبر ... لم أر شيئا ... إلا أنني سمعت وقع أقدام كثيرة ... ثم رأيت ضباطا أعرفهم.

البكباشي: فؤاد سعد الدين والنقيب: محمد صبحي والملازم الأول: عبد العال سلومة والنقيب: أحمد زكي والملازم: حسين سعيد وكلهم من ضباط السجن، وكلهم مدججون بالسلاح ومعهم عدد وافر من الزبانية يشكلون حلقة ويتشاورون.

ولم تمض دقائق معدودات على هذا الوضع حتى توجه السجانون إلى الدور الثالث وفتحوا أبواب الزنازين بكاملها وأخرجوا الأصحاء من الإخوان إلى شرفة الدور ... وتركوا بقية الدور مقفلة ... وبعد دقائق دوت طلقات نارية كثيرة، ولم أسمع سوى صوت واحد ردده الجميع جميع الإخوان الله أكبر ... الله أكبر ... وبقي الرصاص يدوي إلى أن اطمأن الطغاة إلى استشهاد المجموعة البريئة.

(جملة اعتراضية: إذ أكتب هذا أشاهد على شاشة قناة الجزيرة الآن جنديا أمريكيا يطلق الرصاص على جريح عراقي أعزل ... داخل المسجد ... ينتفض الجريح الأعزل ويموت .. وأنا أشاهد ذلك فأبكي .. وتمتزج دموع ما أكتب بدموع ما أشاهد) ...

ونعود إلى روكس معكرون:

"وخيم صمت رهيب على سكان العنبر حدادا على الشهداء ... وتمخضت المجزرة عن استشهاد واحد وعشرين شهيدا وستة وخمسين جريحا استشهد منهم بعد ذلك أحد عشر متأثرين بجراحهم .. جاوزت الساعة العاشرة ولم تفتح الدور الباقية وكنت أود ألا تفتح ... لأن قلبي كاد ينصهر من فرط الألم لاستشهاد الأصدقاء الأوفياء ... ونظرت إلى من معي بالغرفة .. جورج المذكور وقد احتل زاوية من الغرفة مذهولا خائفا ... وقلت له أهذه هي قومية عبد الناصر وديمقراطية الثورة وعدالة العهد؟ ... وأجابني بصوت خفيض خلته ينبعث من القبور: "شو بدك بها الحكي .. مش وقته".

وظننت بأن الأبواب لن تفتح قبل أن ينقلوا الجثث من العنبر ... إلا أن آدمية الطغاة خيبت ظني وفتحت الزنازين – كل الزنازين – وأمرنا بالخروج من الغرف لقضاء حاجياتنا.

وما بالك أيها القارئ العزيز إذا علمت بأننا كنا نتخطى الجثث وكأننا في ميدان حرب ... جثث في كل مكان أمام غرفتي وفي الفناء وعلى سلم العنبر ... كم كنت أود أن يطلق الرصاص على الأعداء ... أعداء بلادنا ... وليس في صدور أبناء عروبتنا الخلص الأبطال .. ولكنه الطغيان بأقسى أنواع ظلمه ووحشيته ...أعود إليك أيها القارئ العزيز لأسرد لك بقية القصة .. قصة المجزرة ... مجزرة القرن العشرين ...أطلقت صفارة السجان .. ونودي على جميع سكان العنبر بالنزول إلى الفناء .. وامتثل السجناء للأمر ... أمر سجانهم صاحب الحول والطول يفعل بهم ما يسعده من الآن العذاب والحرمان ... فهو يعرف قانون الليمان حاكم مطلق الصلاحية.

اجتمعنا نحن السجناء في فناء العنبر ... وأجلسونا القرفصاء ... وجلست هذه المرة دون مجرد التفكير والاعتراض على هذا الوضع .. وكانت إدارة السجن قد استدعت بقية الإخوان الذين كانوا في غرف تأديب ومنهم الدكتور حمدي .. ووقف الملازم أول عبد العال سلومة وقال لنا جميعا:

أيها النزلاء ...يسر إدارة الليمان أن تسعدكم بمشاهدة الإخوان المسلمين يقومون بألعاب بهلوانية للترفيه عنكم ... وحضرتني في تلك اللحظة صورة نيرون يقهقه وروما تحترق ...وأعطى الضابط الخليع أوامره للإخوان المسلمين ليدوروا سريعا حول العنبر، ومن ورائهم شرذمة من الزبانية تلهب ظهورهم بالسياط ... وشرذمة أخرى تقذفهم بالكلس الحارق على وجوههم ... إن وحشية هولاكو كانت لتبدو معدومة إذا ما قورنت بوحشية القائمين على السجن يستمدون أوامرهم من وزارة الداخلية فينفذونها بدقة وإخلاص ... ثم نودي على الإخوان مرة أخرى ليوزع عليهم الضابط الهمام أسماء جديدة ... ولكنها أسماء لنساء صورة من المهانة والتحقير لم تعرفها الإنسانية من قبل ... ولم يكتف سلومة بهذا القدر من التحقير بل سولت له نفسه أن يأمر أحدهم – أعرفه جيدا يدعى محيي الدين عطية وهو طالب في كلية الحقوق – أمره بأن يضاجع أخا له ... واقشعرت الأبدان – أبدان السجناء كل السجناء – وبكى محيي من فرط الألم واستنكر بشدة أمر الضابط الرفيع ووقع أرضا ومغشيا عليه.

ويستطرد روكس معكرون:

"عزيزي القارئ .. طالما أني تعرضت في حديثي عن طرق التعذيب وأساليبه التي ابتدعتها مخابرات عبد الناصر وزكريا محيي الدين واتبعها القائمون على السجون في مصر فلا بد أن أروي لك قصة تعذيب سجين عرفته الجامعة العربية ... من أنشط رجالها، إنه الأستاذ صالح أبو رقيق الذي كان يشغل منصب رئيس قسم شمالي إفريقيا في الجامعة وعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين ... وكان قد جيء به إلى الليمان مع مجموعة من زملائه أعضاء مكتب الإرشاد ... بعد أن عوقبوا بالأشغال المؤبدة من محكمة الثورة، وجاء معهم أيضا الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان ... والذي خفضت عقوبته من الإعدام للأشغال الشاقة المؤبدة.

أدخلوهم الليمان حفاة وشبه عراة ... ووضعوهم في الدور الثاني من عنبر "1" أي العنبر الذي أسكنه ... وقد عرفت منهم صديقا قديما هو الأستاذ صالح المذكور وهرعت فورا لمقابلته ... ولكن الضابط المسئول عن مراقبتهم خيب أملي، إذ منعني من مقابلته ... وأضاف بأن لديه أوامر مشددة بالنسبة للإخوان ويحظر على جميع المسجونين الاتصال بهم .. ورضخت للأمر وعدت إلى زنزانتي ... وجمعت كل ما فيها من معلبات محفوظة ... لحم وسردين وخضار إلى غير ذلك، وأرسلتهم لصالح خفية من النوبتجي الذي يقوم على خدمتي ... وأرسلت أيضا حذاء خفيفا للمرشد العام ... وفي اليوم التالي التقيت بصالح بعيدا عن الضابط المراقب فشكرني من الأعماق وقدمني للمرشد العام ... وشكرني الأستاذ الهضيبي بدوره أيضا ... ولم أستطع الجلوس معهم نظرا للرقابة الشديدة التي كانت قد فرضتها عليهم إدارة الليمان.

وبعد أيام سمح لهم بالخروج إلى فناء العنبر ... حيث أصبح الاتصال بهم أمرا ليس بالعسير وجلست معهم ... وكان صالح يتحدث مع سعد كامل المحامي والدكتور شريف حتاتة، وهما من مجموعة الشيوعيين المسجونين وقلت لصالح:

لقد سمعنا من الزبانية هنا ... إنكم كنتم ضيوفا على الباستيل ... والباستيل كما يعرف جميع المساجين هو السجن الحربي ...

وتنهد صالح وقال:

أيوة يا أخي، كنا بالباستيل، وأي باستيل .. رحم الله باستيل فرنسا ...

وقلت: بالله عليك يا صالح، أخبرنا ماذا جرى معك شخصيا هناك؟

وقبل أن أترك له مجال التردد .. قلت مضيفا:

لقد تسربت إلينا أخباركم وأنتم في الباستيل، بواسطة الزبانية هنا ... إلا أنني أرجو سماع القصة منك بالذات ..

وقال صالح: ماذا أقول؟ ... أشياء لا تقال .. ولا يمكن أن يتصورها عقل ...

قلت: فليكن ... لقد صممنا على أن نسمع القصة منك على حقيقتها ...

وقال صالح: فتح باب الباستيل الضيق، فاستقبلوني بلون جديد من الشتائم والسباب ... والسياط أيضا ... ثم صدرت أوامر حمزة البسيوني قائد السجن الحربي هكذا:

معك دقيقة من الوقت تكون بعدها (عريان زي ما ولدتك أمك).

قلت للجاويش: ولماذا؟

قال: هنا يا (....) ...؟ لا يسأل لماذا؟ ولم نتعود أن نسمعها من أحد من قبل ... اخلع ثيابك فورا ... وإلا ...

قلت للجاويش:لا داعي لكل هذا التهديد .. سأترك شيئا يستر عورتي فقط!

وخلعت ملابسي ولكن "البسيوني" لم يرتح لي .. فأمر زبانيته بإهدار كرامتي ... وحاولت الاحتجاج بشدة ... فتناولتني السياط من كل جانب وبكل غلاظة، حيث مزقت جسدي وأنهكت قواي ... وغبت عن وعيي ... وأفقت أخيرا لأجد نفسي في غرفة مظلمة ضيقة يعلو أرضها شبر من ماء ... وبابها موصد ... صنعت خصيصا لهذه الغاية ... غاية التعذيب والإرهاب وقضيت ليلة ليلاء عرفت فيها أبشع صور التنكيل والإجرام.

كنت مرهقا للغاية .. ألتمس هنيهة من راحة ... ولكن كيف الوصول إلى ذلك ... كيف أنام وفراشي من مياه ولم أستطع الجلوس ... وبقيت واقفا أنتفض من البرد وأتلوى من العذاب والألم ... إلى أن جاء الصباح ... أخرجوني من الغرفة منهوك القوى، لا أستطيع حراكا ... ولكن ليدخلوني هذه المرة في غرفة كبيرة يتدلى من سقفها جنزيران من حديد ... في نهاية كل منهما حلقة حديدية.

وسألت الزبانية ...

- ألا من راحة؟

فأجابني أحدهم: كل الراحة ... إنه وقت الفطور .. سنقدم لك الآن وجبة الإفطار ثم بعد ذلك نتركك لتأخذ قسطا وافرا من الراحة!

واقترب اثنان منهم لوضع قدمي في حلقات الحديد... وثرت عليهما وعلى هذا التنكيل ببني البشر ... وعلى الثورة البربرية ... وعلى الديكتاتورية، وعلى الاستبداد المطلق! ... واستجمعت قواي وأشبعتهم ضربا ... وازداد عددهم وتغلبوا علي ... ووضعوا قدمي بالحلقات الحديدية، حيث تدلى رأسي إلى أسفل وشدت قدماي إلى فوق، وانتظرت تمزيق جسدي بالسياط ... ولكن يا لهول ما فعلوا ...كم كنت أتمنى الموت ... ولا أرى ذلك؟!

وسكت صالح .. وأفلتت من عينه دمعة تروي قصة التعذيب والتحقير وهدر الكرامة.

وسادنا الصمت جميعا ... وكأن على رءوسنا الطير.

ثم قطع السكوت الأليم أحدنا، إذ قال: نحن مسيرون هنا ... فلا تحزن يا أستاذ صالح .. أكمل.

وقال صالح باختصار ...لقد حضروا منفاخا ووضعوا مقدمته في مؤخرتي .. ونفخوني به، حتى أصبحت تماما كالبالون ... وأما عن الآلام وتقطيع الأوصال ... فحدث ولا حرج.

وقلت لصالح: شكرا لك على خروجك من الباستيل حيا ... وكلمات مواساة كثيرة.

ولم يشأ أحد منا بعد ذلك أن يسأل عن بقية وجبات الطعام".

فيما مضى، كانت إحدى وسائل الخداع التي وقعت في حبائلها، أنني كنت أستجيب لمن يقول:

لا تتحدثوا عن جرائم التعذيب في بلادنا مهما كانت، لأن ذلك يقلل من حجم جرم إسرائيل وأمريكا، على الأقل يقول العالم: "إذا كانوا هم يفعلون ذلك بأبناء أوطانهم فلماذا تستنكرون أن تفعل أمريكا وإسرائيل نفس الشيء؟".

ولم أكن قد أدركت بعد أن من فعل ذلك ويفعله بنا هم أمريكا وإسرائيل في الحالتين ... مرة بالإنابة ومرة بالأصالة ...والآن أيها القارئ ..بعد أن قرأت ما قرأت.

ألم تسأل نفسك : هل كان يمكن أن يحدث في الفلوجة البطلة ما يحدث فيها عام 2004دون أن يتم التمهيد له بما حدث في القاهرة عام 54 و 57 و ... و ... و ... أيضا بما حدث في دمشق وبغداد والرياض وعمان وطرابلس وصنعاء ... و ... و .. و ...وهل أصابتك أيها القارئ مثلي – حالة الاشمئزاز والغثيان والقرف أم أنك تبكي وتنتحب؟!  

واسوأتاه وإن غفرت

ما أشد خجلي من نفسي، من مواقفي ومن مواقفكم يا قراء، فأنا وأنتم من فصيلة أولئك الذين قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، وأنا وأنتم ارتضينا أن نغش أنفسنا لنفرق بين عدو وبعيد وقريب أشد عداوة، ربما يكون وصف جمال عبد الناصر – عليه من الله ما يستحقه – لهذا القريب وصفا صحيحا، عندما قال وهو يواجه اليهود – مهزوما ومحاصرا – في فلسطين، أن العدو الحقيقي ليس في حيفا وتل أبيب وإنما في دمشق وعمان والقاهرة .. ونحن نزيد عليه باقي العواصم جميعا.

كنت خجلا من نفسي ومنكم ومن الأمة ومن العالم ومن التاريخ.

ما أشد خجلي من نفسي، من مواقفي ومن مواقفكم يا قراء، فأنا وأنتم من فصيلة أولئك الذين قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، وأنا وأنتم ارتضينا أن نغش أنفسنا لنفرق بين عدو بعيد وقريب أشد عداوة، ربما يكون وصف جال عبد الناصر – عليه من الله ما يستحقه – لهذا القريبة وصفا صحيحا، عندما قال وهو يواجه اليهود – مهزوما ومحاصرا – في فلسطين، أن العدو الحقيقي ليس في حيفا وتل أبيب وإنما في دمشق وعمان والقاهرة ... ونحن نزيد عليه باقي العواصم جميعا.

كنت خجلا من نفسي ومنكم ومن الأمة ومن العالم ومن التاريخ ...كنت خجلا وقد أدركت أن كلاب النار من شيوخ وفقهاء قد حاولوا تشويه الدين كي يحارب ضدنا، فانطلق كلب منهم يسمى المجاهدين خوارج، وعوى آخر بأنهم الفئة الضالة، ونبح ثالث يحذر اليهود والنصارى من الإسلام إذا ما أصر الغرب على تطبيق الديمقراطية ... لأن الإسلام هو اختيار الناس وهو الذي سينتظر ، وراحت باقي كلاب النار تلوي عنق الدين لتحرم الجهاد، ليس في بعض عواصم العرب حيث الشبهة والالتباس، بل في بغداد، حيث يوجد مصدر وحي إسلامهم الأمريكي ... لعنهم الله ... وحتى قال أحد الكتاب ساخرا:

الحمد لله أنه لم يكن عند الفيتناميين فقهاء كفقهائنا يحرمون عليهم قتال الأمريكيين، ولو كان عندهم مثل أولئك الفقهاء ما انتصروا أبدا ...خجلت من كل شيء ...من الفقهاء الذين اعتبروا التوحيد تكفيرا والجهاد في سبيل الله إرهابا ...نعم الدعوة إلى التوحيد عدها كلاب النار تكفيرا ...والدعوة إلى الجهاد عدها حطب جهنم إرهابا ...وليس يبقى بعد هذا وذاك من الإسلام شيء.

ومن أجل هذا خجلت...خجلت أيضا من بعض الحكام الذين انحازوا للعدو ضد أمتهم.

وخجلت من الأمة التي لم تغير المنكر ولم تقوم الاعوجاج ...لكن أقسى الخجل كان من الله ... خجلت حتى من أن أدعوه ليغفر لي خطيئتي وتقصيري، إذ يحدث للمسلمين ما يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان و ... و ... وأنا آمن في بيتي لم أجاهد ولم أدافع ... واستطبت أن أمتشق قلما لا سيفا وأن تسيل مني قطرات الدمع لا قطرات الدم ...خجلت .. وأنا أفكر كم مرة سأعاني ما هو أشد من الموت وأقسى عندما يسألني الله يوم القيامة: ماذا فعلت ... ولماذا لم تستشهد مع الشهداء .. لماذا لم تجاهد أعداء الله ...خجلت ... حتى طغى الخزي والخجل على الرعب والفزع والخوف والجزع ...خجلت وقلت لنفسي: حتى لو غفر لي الله يوم القيامة فلن ينقطع خجلي بل لعله يزيد ... ففيض كرمه سيزيد من عظم جرمي ... ولعلي قبلها وحينها وبعدها أصرخ واسوأتاه ... وا سوأتاه وإن غفرت!!

خجلت ... أغرقني الخزي وشلني الخجل، وأصبحت حائرا: ماذا أكتب، هل أظل غارقا في ماض هو الأب الشرعي للحاضر، أم أكتب عن الحاضر متجاهلا الجذور، والحاصل أنني كلما حاولت الكتابة تمزق قلبي، وانجرح ...نعم ... جرحت ..وكان الجرح طويلا وكان الطول طويلا: كطول المسافة بين الفلوجة ووادي النطرون، وكان الجرح عميقا وكان العمق عميقا، عمق المسافة ما بين الأزهر وما بين الكعبة، وكان الجرح عريضا وكان العرض عريضا عرض الهوة التي صنعها عليهم اللعنة بعض ملوك ورؤساء أمروا شيوخا وفقهاء بعدم القنوت على الأعداء فاستجابوا، كان الجرح طويلا وعميقا وعريضا وكان التناقض مبينا ثم كان التطابق مهينا بين الشيخ والحاخام والقسيس، فرأينا رجل دين يتذرع بالكذب – مستقويا بأعداء الأمة – ويبتز، وعالم دين يفتي وقد ارتد – بالردة ولا يهتز، وأمة ذاهلة ران عليها الصمت فلا أدري أماتت حية أم تعيش ميتة.

أظلمت الدنيا أمام ناظري واتسعت الرؤية ولم تضق العبارة فأدركت أن جهدي المقل سيظلم أي حدث يتناوله، فتحجرت الكلمات كما تحجرت الدموع.

وظللت أقاوم حتى اللحظة التي اشتد فيها علي الألم إلى حد لا يطاق حين رحت أقرأ اعترافات أحد أسرى جوانتانامو، إذ يقول إن أقسى تهديد كان يوجه إليهم هناك، في جوانتانامو، التهديد الذي كان يدفعهم للاعتراف بأي شيء وكل شيء بغض النظر عن ارتكابهم هذا الشيء من عدم ارتكابه، هذا التهديد كان نقلهم إلى إحدى عواصم العرب وأجهزتها الأمنية الرهيبة ... وفي اليوم التالي كنت أستمع لتصريحات ولي أمر عربي وهو يحكي عن خياناته لله والدين والأمة .. كان يحكيها بفخر المنتصر ونشوة المتباهي بحكمته ... و ...نزفت كرامتي وإحساسي وشرفي، ورحت ألعن هذه الأجهزة ابتداء من أصغر جندي ووصولا إلى إبليس ومرورا بالخفير والوزير. نزفت .. نزفت .. نزفت .. نزفت ... وكدت أستسلم لخاطر طالما يراودني ويلح علي ... ألزم خاصة بيتي وأعتزل الناس ... لكن صديقا واجهني:

أنت إذن تولي الدبر غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة.

ثم انطلق بغضب شديد فيما يشبه الصراخ:

بؤ إذن بغضب من الله ومأواك جهنم وبئس المصير.

ووجدتني عاجزا حتى عن الاستسلام والعجز ...لنعد إذن إلى ما كنا فيه .. ولنستكمل الشهادات عن مذبحة طرة ...ولقد نشرت في مقال ماض شهادة يوسف معكرون عن مذبحة طرة .. والآن نستكمل هذه الشهادات إن شاء الله ... ونستكملها لا لنبش الماضي ولا استعادة المحن ولا إثارة الإحن، بل لأفضح ما يزال يمارس حذو النعل بالنعل في بعض عواصم العرب ...أذكرها لتعلموا كم تكذب بيانات الشرطة وكم تدلس النيابة وكم يظلم القضاء ..أذكرها لا لكي تضموها إلى مقتنيات الذاكرة، بل لتعلموا أن ما يحدث اليوم أمامكم يتضمن نفس الكذب والظلم والتدليس، ولتنتهي كل بلادنا إلى ذات الكارثة: فكر مكذوب وشعب مضروب واقتصاد منهوب ووطن مسلوب.

أذكرها لتعلموا أن جذور ما حدث في أبي غريب كانت في طرة .. وبذور ما يحدث في جوانتانامو كانت في أبي زعبل ... وإنني أقصد الكلمات بمعناها الحرفي لا المجازي ... وتماما كما يحدث الآن من إحضار المعتقلين من جوانتانامو لكي يعذبوا في بعض عواصم العرب ... كان يحدث أيامها نفس الشيء ... إلا أن الغرب الصليبي المجرم لم يكن قد كشف بعد عن وجهه المجرم كله ... .. فلم تكن هناك جوانتانامو ... وعندما أقول اكتفوا أقصد أيضا المعنى الحرفي ... أي أقصد أن ما حدث للإخوان كان يتم بإيعاز واتفاق مع أمريكا.

غير أنني أنبه القارئ إلى أن ما يجترئ به بعض السفلة من أذناب كل طاغوت، الذين سيعلقون على فضح القمع والقتل والتعذيب الذي تعرض له الإخوان بأنهم هم الذين أحدثوا بنفسهم هذه الإصابات لتشويه صورة النظام!! .. بل وبلغت سفالة بعضهم أن قالوا إن الإخوان يتسولون بعاهاتهم ... رغم أنهم أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بسبب ما حدث للشيوعيين وهو لا يصل إلى معشار وهو لا يصل إلى معشار معشار ما حدث للإخوان المسلمين.

يعتبر الملفقون والمنافقون اختلاف بعض الروايات تضاربا وتعارضا في هذه الشهادات التي أوردتها وأوردها ... ولم يكن الأمر كذلك .. فالأساسيات واحدة والجرائم ارتكبت والناس ماتوا بالفعل أو أصيبوا بجروح بالغة وعاهات دائمة ولقد صمد الأكثرون صمودا مذهلا فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.

الجريمة حدثت إذن، وإن كان هناك خلاف فهو في التفاصيل، وهو خلاف لا يقدح في الرواية، لأن الواضح أن أساس هذا الخلاف ليس التعارض والتضارب ... وإنما التكامل، لأن كل واحد يحكي ما رآه وما اتصل بعلمه، ثم إن أكثر نقاط الخلاف لا تتعلق بالأحداث بل بتبريراتها أو تراتبها ... ولا بد أن يضع القارئ في اعتباره أوضاع الشهود عند المذبحة ... كانوا معزولين عن العالم وعن بعضهم البعض، وكانوا يرون الأحداث من خلال ثقب في باب أو شرخ في جدار، أو كانوا يرون ذلك أو بعضه وهم معلقون كالذبائح تنهال السياط عليهم تمزق لحومهم ... وحتى عندا أفرج عنهم بعد عشرة أعوام أو عشرين عاما كانت عناوين بيوتهم قد تغيرت بعد أن شرد الطاغوت أهلهم وكانت تهمة من تبرع ببضعة قروش لمعتقل من الإخوان المسلمين: السجن عشرة أعوام ... تشردت أسرهم وتغيرت عناوينهم فلم يستطيعوا رتق مزق الذكريات ليكونوا منها صورة متكاملة لما حدث ...والآن ... إلى الشهادات عن مذبحة طرة:  

شهادة الأستاذ مصطفى مشهور

في سنة 1957م كان عبد الناصر يخطط لخلع الملك حسين عن طريق الضباط الإخوان في الأردن ، فكشفوا هذا المخطط، وأفشلوه فاغتاظ منهم، وأراد أن ينتقم منهم، ومن الإخوان المسجونين في طرة، ففي طرة كان السجناء يخرجون إلى الجبل، لتكسير الحجارة، ثم يعودون، والمريض منهم يأخذ تصريحا طبيا، كيلا يخرج إلى الجبل.

وذات يوم صدر الأمر بخروج جميع السجناء إلى الجبل، السليم منهم والمريض، فاستغرب الإخوان هذا الأمر، وشكوا في أسبابه، فلم يخرجوا.

كان رد إدارة السجن أن مجموعة من الجنود يحملون الرشاشات، دخلوا على الإخوان في الزنازين والعنابر، وصوبوا الرشاشات نحوهم بعشوائية همجية، فاستشهد منهم واحد وعشرون شهيدا، وسميت "مذبحة طرة".


شهادة الأستاذ إبراهيم قاعود

كان (ليمان طرة) أحد تلك السجون التي دخلها الإخوان في سبيل دعوتهم وفكرتهم ... وكان به ما يقرب من (183) أخا معظمهم من الشبان الصغار السن، من طلاب المدارس الثانوية والجامعات الذين كان للشهيد محمد يوسف هواش فضل تجميعهم وتنظيمهم بعد أحداث 1954 م أثناء فترة هربه.

كما كان يوجد بالسجن بعض الإخوان القدامى من الرعيل الأول، وفي مستشفى الليمان كان يوجد الشهيد سيد قطب، والشهيد محمد يوسف هواش ... وكان من تكاليف الإخوان في الليمان الخروج يوميا للجبل لتكسير الحجارة ونقلها ..وكان يقوم على إدارة الليمان مجموعة من أسوأ الضباط ... كانت تحمل للإخوان حقدا وكراهية شديدة منهم (عبد العال سلومة، عبد الله ماهر، عبد اللطيفرشدي).

وكان مدير الليمان في ذلك الوقت اللواء سيد والي الذي قاد المذبحة بعد ذلك.

وقد افتعلت إدارة السجن مجموعة من الأحداث كانت بمثابة استفزازات للإخوان حتى يوجد المبرر لتنفيذ المذبحة: أول هذه الاستفزازات كانت في يوم الأربعاء 22/ 5/ 1957م، منع الإخوان من صلاة الجماعة في فناء عنبرهم بصورة استفزازية، ثم منعت صلاة الجماعة في الأدوار الخاصة للإخوان ، ثم منعت صلاة الجماعة داخل الزنازين بنفس الصورة. وفي يوم السبت 25/ 5 حدثت مشادة بين الضابط "عبد العال سلومة" وثلاثة من الإخوان دون داع سوى الاستفزاز. وفي يوم الأحد 26/ 5 قال هذا الضابط نفسه مهددا بتصريحات غريبة (فيه أوامر عالية بجر الإخوان لمعركة تخلص فيها على ثلاثين ... أربعين ..)، وكرر هذه التصريحات بصورة مستفزة.

وفي يوم الأربعاء 29/ 5 أثناء إحدى الزيارات لعدد من إخوان شبرا، أخرجت إحدى الأخوات "دجاجة" وأعطتها لأخيها الأخ: عبد الغفار السيد، فثارت ثائرة الضابط عبد الله ماهر وصرخ بصوت مستفز "ممنوع أخذ أي شيء من الزوار" وأنهى الزيارة ... ووضع القيد الحديدي من الخلف في يد كل أخ من الذين كانوا في الزيارة، وأرسلهم إلى زنازين التأديب وأرسل أهاليهم إلى قسم شرطة طرة، واتهموا بإحداث شغب أثناء الزيارة. وفي يوم الخميس 30/ 5 منعت الزيارات الخاصة بالإخوان بدون مبرر.

وفي يوم الجمعة 31/ 5 أغلقت الزنازين حتى الصلاة، وفي المساء أخرجوا الإخوان الموجودين في مستشفى الليمان، وأعادوهم إلى العنابر، ونبهوا على الجميع بضرورة الخروج للجبل.

وفي يوم السبت 1/ 6 والذي حدثت فيه المذبحة ... كان تفصيل الأحداث كالتالي:

"رأى الإخوان أن يتخلصوا من هذه الحالة التي لا تراعي فيها الإدارة أي قانون من قوانين السجون فكتبوا طلبا للإدارة ... لطلب النيابة للتحقيق فيما يجري معهم، وحددوا ما يطلبون باعتبارهم مسجونين سياسيين على أكثر تقدير ... وسلمت شكاوى بهذا المعنى لكاتب العنبر لتأخذ خط سيرها الروتيني ... وانتظر الإخوان داخل الزنازين حتى العاشرة صباحا.

ثم طلبت الإدارة أربعة منهم (أحمد البس، عبد الرازق أمان الدين، حسن دوح، عبد الحميد خطاب)، وأدخلوهم حجرة وكيل العنبر، فوجدوا مدير الليمان وحوله الضباط، وبيد كل واحد منهم مسدسه، وبعد فترة من الحديث ذهب مدير الليمان إلى مكتبه ومعه الضباط وتركوا الإخوان الأربعة في حراسة بعض الجنود.

وبعد فترة ليست طويلة فوجئ الإخوان بإحضار عدد من السلاسل الحديدية، وبدءوا في سلسلة الإخوان فيها، ثم أخذوا يفتحون الزنازين فيخرج من كل زنزانة ثلاثة من الإخوان يفتشون ثم يسلسلون في السلسلة، وهكذا حتى تم سلسلة خمسة عشر أخا .."   وكان واضحا أن إدارة السجن ستحملهم إلى الجبل بالرغم منهم ... فرفض الباقون الخروج من زنازينهم ... (...).

وهنا فشلت الخطة التي دبرتها إدارة السجن لإخراج الإخوان بالسلاسل إلى الجبل ثم ضربهم هناك بدعوى قيامهم بالتمرد ومحاولة الهروب، ففكرت الإدارة في خطة أخرى نفذت بعد ساعتين من فشل الخطة الأولى (...) دخلت الكتيبة العنبر، وصعد عدد منهم إلى الدور الرابع الذي يعلو الدور الثالث الذي يسكن فيه الإخوان ... ومن الدور الأولى أطلق أحد الضباط طلقة كانت بمثابة إشارة البدء في المذبحة فصاح أحد الإخوان: "فشنك" ولكن توالي إطلاق النار وسقط بعض الإخوان مضرجين في دمائهم ... وعندئذ صاح أحدهم: "الضرب في المليان يا إخوان ... ادخلوا زنازينكم ... وأغلقوا الأبواب عليكم" فأسرع الإخوان إلى داخل الزنازين وأغلقوا الأبواب عليهم، واستطاع بعضهم أن يسمكر الأبواب عليهم.

وعندما دخل الإخوان الزنازين صعد بعض الضباط ومعهم جاويش، فكان الجاويش يفتح باب الزنزانة فيدخل الضابط فيطلق النار على من فيها بمسدسه، أما الزنزانة المغلقة فيضع في فتحة الزنزانة فوهة مسدسه ويطلق النار على من بداخلها، واستمر إطلاق النار ساعة أو أقل قليلا، بعدها خيم صمت رهيب على الليمان، والجميع في ذهول، واستمر هذا الصمت الرهيب والإخوان في ذهولهم ... بين قتيل ومضرج في دمائه ومصاب وجرحه ينزف ... وثالث ذهب عقله ... ورابع لا يدري هل هو ميت أو حي!!

وبعد توقف الضرب فتح باب المخزن، وهجمت قوة من الضباط والعساكر على من فيه، وأطلقوا عليهم الرصاص، وأجهزوا على الجرحى والمرضى منهم بالشوم، ثم انطلقوا إلى المخزن الآخر، ولكن بابه قد أغلق بفعل رصاصة سمكرت الباب، فذهبوا إلى الزنزانة المجاورة للمخزن الثاني، وأجهزوا على كل من كان فيها، ثم صدرت إليهم الأوامر بالانسحاب.

وبقيت هذه الحالة حتى جاء الليل .. وبدأت حركة داخل العنبر بدخول الحراس وفي أيديهم الشموع: يبحثون عن حصاد المذبحة، وكان الحصاد 16 قتيلا ... و 22 جريحا.

ووقف الحراس والضباط في الطريق الموصل إلى المستشفى يجهزون على المصابين ضربا بالعصي الغليظة، حتى انضم عدد من الجرحى إلى القتلى ... فأصبح عدد القتلى (21) قتيلا، واتجه تفكير إدارة السجن إلى تفسير الحادث على أنه اشتباك بين الإخوان بعضهم البعض وأن بعضهم قتل البعض الآخر بالسكاكين، وبناء على ذلك أخذوا يوسعون مكان الطلقات حتى تكون كالطعن بالسكين، ثم أرادوا أن يصوروا الحادث على أنه اعتداء من الإخوان على الحراس ... ولكن لم يكن بين الحراس حارس واحد مصاب ... ولذلك لم يستسغ وكلاء النيابة أيا من هذين التفسيرين .. مما اضطر المسئولون إلى استبدال وكلاء النيابة بضباط مباحث تنكروا في هيئة وكلاء نيابة، وحفظوا التحقيق في المذبحة.

وبعد ذلك دخل على المحققين "صلاح دسوقي" الذي كان يعمل وقتها أركان حرب وزارة الداخلية، وقال موجها حديثه لمدير الليمان يوسف والي: "برافو يا أبو السيد ... أنا كنت متأكد إن مفيش حد يقدر يقوم بهذا الأمر إلا أنت ... أنتم ما خلصتوش عليهم ليه؟" فاطمأن الضباط وعلت وجوههم الابتسامات. وقد فسر الضابط "أحمد صالح داود" ضابط المباحث العامة والذي حضر المذبحة لأحد الإخوان (الأخ محمد الشيخ) أسباب المذبحة بقوله:

"إن سبب المذبحة هو أن الإخوان المسلمين بالأردن وقفوا ضد جمال عبد الناصر ، بأن أفسدوا انقلابا دبره ضد الملك حسين، فانتقم جمال عبد الناصر من إخوان الأردن بضربكم هنا في مصر".

وكانت النتيجة النهائية للمذبحة كالتالي: 21 شهيدا، 23 جريحا، 6 فقدوا عقولهم وأرسلوا لأسر الشهداء لاستلام جثثهم بشرط ألا يعلم عن موتهم أحد، وألا تقام لهم جنائز، ويتم دفنهم ليلا بحضور أحد الأقارب، وبقيت مقابرهم تحت الحراسة مدة لا يقترب منها أحد. .....(الإخوان المسلمون في دائرة الحقيقة الغائبةإبراهيم قاعود)

يصرخ الصحافي الأستاذ جابر رزق في كتابيه: "مذابح الإخوانفي سجون ناصر" و "مذبحة الإخوان المسلمينفي ليمان طرة: وثائق جديدة تنشر لأول مرة":

كانت هذه الضراوة والقسوة والوحشية التي واجه بها عبد الناصر الإخوان في السجن الحربي ... وتحت السياط، وعلى أعواد المشانق وبأقصى العقوبة في غياهب السجون .. تهدف إلى استئصال شأفة "الدعوة" في قلوب المؤمنين بها والقضاء على "الجماعة " بأي طريق كان حتى لو تطلب ذلك إطلاق الرصاص على العزل من المسجونين داخل الزنزانات ... وهذا ما فعله في أول يونيو سنة 1957 داخل سجن ليمان طرة ... فالتعذيب الوحشي، وقسوة الأحكام التي وصلت إلى حد الإعدام تحت السياط والدفن في صحراء العباسية ... والشنق على أعواد المشانق والمبالغة في إصدار الأحكام بالسجن مددا تتراوح بين 25 سنة و 5 سنوات أشغال شاقة ... والضغط والتضييق وتكدير حياة المسجونين بكل الوسائل ليلا ونهارا في السجون المدنية ... وإرهاب أهالي الإخوان خارج السجون والضغط على الزوجات والأبناء والآباء والأمهات وإرغام زوجات الإخوان على طلب الطلاق من أزواجهن ومحاولات الانحراف بمن يستطيعون الانحراف به من أهالي الإخوان خارج السجون كل هذا كان وسيلة وليس هدفا في ذاته كان وسيلة لتدمير الإيمان في قلوب الإخوان بدعوتهم والانفضاض عن جماعتهم!!

وهذا هو الثمن ... أو بعض الثمن الذي قدمه جمال عبد الناصر للأمريكان في مقابل كفالته ودعمه وتصفية كل القوى التي تقفز عقبة في طريق خلق شخصية (الزعيم) وإفراده بالسلطة والزعامة!! ... وكان عبد الناصر يظن أن هذا الهدف سهل ميسور، ويعتقد أنه لن يبقى من الإخوان من يتحمل هذه الضراوة ويبقى على استمساكه بدعوته وتمسكه بجماعته ... ولكن خاب ظن عبد الناصر (...) وليس أدل على ذلك من أنه رغم محاكمة كثير من الإخوان الذين لم يمكنوا أجهزة الأمن من القبض عليهم، وإصدار أحكام غيابية عليهم إلا أنهم لم يتقاعسوا ولم يتوقفوا عن العمل للدعوة، والشهيد محمد يوسف هواش الذي أعدمه جمال عبد الناصر في مذبحة 1965 ظلما وزورا باعتراف شمس بدران نفسه في مجلة الحوادث اللبنان ية خير مثال لما أقول ... لم تتمكن أجهزة عبد الناصر من القبض عليه ... واختفى الشهيد هواش وأخذ ينظم من بقي من الإخوان خارج السجون ويقودها هو، واستطاعت أجهزة الأمن أن تكتشف نشاطه الجديد (....) وتمكن هواش من الإفلات للمرة الثانية من أجهزة عبد الناصر ... وأخذ يشكل تنظيما آخر وكان هذا التنظيم من شباب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات ... وكان من بين هؤلاء من لا يزيد سنه عن الخامسة عشرة إلا قليلا وحتى أقطع طريق على المضللين وأزيل الغشاوة التي صنعتها دعاية عبد الناصر ورجال إعلامه المفترين للكذب أقول إن هذا التنظيم الأخير كان من أجل تمويل أسر المسجونين التي لا عائل لها!!

ويواصل الأستاذ جابر رزق شهادته بذكر أسماء المجرمين الرئيسيين المسئولين عن المذبحة: أمثال صلاح الدسوقي الشيشتاوي رجل عبد الناصر وجاسوسه على زكريا محيي الدين، وأركان حرب وزارة الداخلية وقتئذ وأحد الذين غمسوا أيديهم في دماء الإخوان منذ مذبحة السجن الحربي الأولى سنة 1954 والذي أشرف على تنفيذ مذبحة ليمان طرة ... وزكريا محيي الدين وزير الداخلية وقت المذبحة ... "وكان صلاح الدسوقي ... وزكريا محيي الدين بدورهما يرفعان لعبد الناصر التقارير عن الإخوان لأنهم يعلمون درجة اهتمام عبد الناصر وحرصه على القضاء عليهم ولا يمكن أن يتصور أي إنسان يعرف جمال عبد الناصر وتسلطه وجمع مقاليد الأمور كلها في يده ... أن ضباط السجن سواء مدير الليمان اللواء سيد والي ... أو الضباط المغاوير عبد العال سلومة وعبد اللطيفرشدي وعبد الله ماهر أن يصنعوا هذه المذبحة من عندياتهم ... بل لا يمكن أن يتصور إنسان أن زكريا محيي الدين وزير الداخلية ... أو صلاح الدسوقي الشيشتاوي أركان حرب الوزارة يستطيعان أن يصدرا أمرا بإطلاق الرصاص على الإخوان المسلمين العزل داخل سجن الليمان لتكون أبشع مذبحة في القرن العشرين ... وأخصب صورة لغدر جمال عبد الناصر ونذالة معاونيه!!

ويقول جابر رزق: "إنني لا أتصور أن زكريا محيي الدين كان يستطيع أن يصدر أمرا بإطلاق الرصاص على هؤلاء العزل من الإخوان داخل زنازينهم دون أمر من جمال عبد الناصر شخصيا لا لأن زكريا محيي الدين أقل إجراما من جمال عبد الناصر ولكن لأن جمال عبد الناصر استطاع بمعاونة الأمريكان أن ينفرد بكل السلطة وكل الذين بقوا بجانبه في السلطة كانوا إمعات وخدما له وكلاب حراسة لنظامه ينفذون أوامره هو ويحققون رغباته وكل ما يتصورون أنه يرضيه!!".

ويواصل جابر رزق صراخه ونزيفه:

إن مذبحة ليمان طرة هي بحق مذبحة المذابح ... بمعنى أنها أشد الأهوال التي لاقاها الإخوان في سجون عبد الناصر ... وهي تجسيد أحط دركات الخسة والغدر والنذالة التي اتسم بها جمال عبد الناصر في تلك الحقبة السوداء التي مكن فيها من حكم مصر وصنع المأساة التي تعيشها الأمة العربية كلها وليست مصر وحدها".

ثم يستدعي جابر رزق شهوده:


شهادة عطية محمد عقل

لا تزال ساعة إطلاق الرصاص الرهيبة محفورة في ذاكرتي ... ولا تزال صورة تساقط الشهداء من إخواني ماثلة أمام عيني ... ولا تزال أصوات حشرجة الموت لبعض الإخوان باقية في أذني!!

لن أنسى صورة أخي الشهيد [[محمد عفيفي الذي كان لا يزال طالبا صغيرا في الثانوي والذي كان يقيم معي في زنزانة واحدة ولن أنسى لحظة إطلاق الرصاص علينا حين قفز أمامي ليحميني من الرصاص ويتلقاه عني فيسقط مضرجا في دمه الزكي!

ولن أنسى صوت الشهيد أحمد قرقر (والد الدكتور محمد مورو) حين قال بصوت عال: اللهم اجعلني أول شهيد!! (...)

"قبل يوم المذبحة بأيام ثلاثة جاءت زيارة مجموعة إخوان شبرا فخرجنا للزيارة وكان معنا الأخ عبد الغفار السيد، وكانت أخته قد أحضرت معها بعض الطعام، وأرادت أن تعطيه له كما تعودت خلال الزيارات الأخرى ... لكن ... فجأة ظهر الضابط عبد الله ماهر في مكان الزيارة ... وبطريقة استفزازية أحسسنا أنه جاء لينفذ أمرا معينا ... صرخ بصوت مستفز وبغلظة شديدة:

ممنوع أخذ أي شيء من الزوار ...في نفس الوقت كانت أخت الأخ عبد الغفار السيد تعطي أخيها ما أحضرته من طعام كالعادة فإذا بالضابط عبد الله ماهر يجذب عبد الغفار بشدة من أمام أخته حتى لا يأخذ منها ما تريد أن تعطيه من طعام ... وكاد عبد الغفار أن يقع على الأرض ... فاستند على الضابط عبد الله ماهر فاعتبر عبد الله ماهر استناد عبد الغفار عليه إهانة واعتداء عليه!!

فأنهى الزيارة ... وهاج وماج ... وأرغى وأزبد ... وجرى إلى إدارة الليمان .. قال:

إن الإخوان اعتدوا علي ..وتم عقاب الإخوان عقابا شديدا ثم أصرت إدارة السجن على خروجهم إلى الجبل رغم إعلانهم الاعتصام بزنازينهم وطلب النيابة.

كانت لائحة السجون تقضي بجلد من يمتنع عن الذهاب إلى الجبل للمرة الأولى 12 جلدة، ورأى الإخوان أن 12 جلدة أهون من قتلهم بالرصاص إذا ذهبوا إلى الجبل ... لم يكونوا ممتنعين كما قال عطية محمد عقل، بل استشعروا الخطر على حياتهم، خاصة عندما حاول السجانون إخراجهم إلى الجبل مسلسلين ومقيدين، رفضوا، وطلبوا حضور النيابة لتحميهم ولتحقق في توجسهم من مذبحة، قيل لهم اخرجوا إلى الجبل أولا مقيدين مسلسلين – ثم تأتيكم النيابة.

ورفض الإخوان: ففي الجبل يمكن تلفيق مبرر كمحاولة الهروب، أما داخل الزنازين حيث يمنع القانون إطلاق الرصاص فالتلفيق صعب.

قال لهم مدير الليمان:لا بد من الخروج إلى الجبل أولا .. ثم تأتيكم النيابة بعد ذلك ...فقلنا:

نحن نفضل أن تقتلونا هنا داخل زنازيننا من أن تقتلونا هناك في الجبل ... وفي نفس الوقت الذي حضر فيه المدير إلينا يطلب منا الخروج إلى الجبل، كانت الكتيبة تعد الذخيرة والسلاح ... حان وقت أذان الظهر ... وخرج مدير الليمان من العنبر وبدأ الإخوان يستعدون للصلاة وقلنا إن أقصى ما يمكن أن تتجاوزه إدارة الليمان هو ضربنا بالشوم لأن القانون يمنع مجرد دخول سلاح داخل العنبر ... وأن هذه العملية لن تتم قبل عودة السجانة من الجبل ... وجمعنا الإخوان في نصف الزنازين الداخلية، وتركنا النصف الثاني الواقع في مقدمة العنبر خاليا من الإخوان حتى لا يصطادنا السجانة في مقدمة العنبر؟ ... إن الطرقة ضيقة لا تسمح بحركة أكثر من اثنين وبذلك لن تتمكن القوة كلها من اقتحام الزنازين كلها مرة واحدة ... صلينا الظهر .. وخرجنا نقف في الطرقة أمام الزنازين ننتظر ماذا سيحدث.

وحدث ما توقعنا ... وأكثر مما كنا نتوقع رأينا عددا كبيرا من جنود الكتيبة يصعدون إلى الدور الرابع الذي فوقنا ... ورأينا آخرين يأخذون وضع الاستعداد في الدور الثاني، وصعدت مجموعة ثالثة إلى الدور الذي نحن فيه .. تقدم عدد من السجانة يحملون الشوم ومن خلفهم كان هناك مجموعة من الجنود يحملون السلاح وبدأت المذبحة ... وأعطيت إشارة البء وأطلق علينا الرصاص من أربعة أماكن، من الدور الذي فوقنا ومن الدور الذي أسفل منا ... ومن المجموعة التي معنا في نفس الدور! .. ومن مجموعة رابعة كانت تقف على السور الخارجي للعنبر ... وكانت ساعة رهيبة لا تنسى .. سمع الإخوان صوت الرصاص ... فقال أحد الإخوان يطمئن الإخوان:

- فشنك ... فشنك .. لا تخافوا!!

لم يكمل الأخ عبارته حتى جاءته رصاصة فسقط شهيدا ..(...) وتيقنا أن الضرب في المليان وليس الرصاص فشنك، وأسرع الإخوان إلى داخل الزنازين يحتمون بها من الرصاص المنهمر عليهم من كل جانب .. دخلت إلى الزنزانة التي بجوار المخزن فكان الرصاص يأتينا (...) مخترقا باب الزنزانة نفسه ... وقفت في ركن بعيد عن مرمى الرصاص .. ووقف أحد الإخوان في مواجهة الباب فجاءته رصاص فلقي مصرعه في التو أمام أعيننا .. ثم جاءتني أنا رصاصة في كعبي: لم أشعر إلا بالدماء تنزف من كعبي ... (ويرفض عطية محمد عقل الذهاب إلى المستشفى ... فقد علموا أنهم يجهزون على من يذهب).

استمر إطلاق الرصاص فترة من الزمن ليست قصيرة ثم توقف إطلاق الرصاص ... وبعد مضي وقت قليل فتح باب المخزن ... وهو عبارة عن حجرة كبيرة وبها عدد أكبر من أي زنزانة أخرى ... بعد فتح باب المخزن الذي يقع بجوارنا سمعنا إطلاق الرصاص على من فيه وأعقبه ضرب الشوم وسمعنا أصوات نزع وحشرجة موت خفتت وتلاشت!! لقد قتل أغلب من في المخزن .. وأصيب البعض بالجراح التي جعلتهم على حافة الموت.

توقعنا بعد انتهائهم من هذا المخزن أن يدخلوا علينا زنزانتنا لأنها تجاور هذا المخزن لكنهم ذهبوا إلى المخزن الآخر المقابل للمخزن الأول ولكنهم لم يستطيعوا فتح الباب لأن طلقا ناريا سمكر القفل ... وأرادوا أن يفتحوه فأطلقوا على القفل بعض الطلقات فزاد انغلاقه .. فذهبوا إلى الزنزانة المجاورة للمخزن الثاني وهي الزنزانة المقابلة لزنزانتنا ... أجهزوا على كل من فيها ... ثم صدر الأمر بانسحاب جميع القوة ... انقطع إطلاق الرصاص ... وخيم صوت الموت على العنبر .. ولم نعد نسمع غير حشرحات الموت ودعوات وتضرعات الجرحى.

وجاء الليل ... وصعد آخرون يسألون عن القتلى وسحبوهم على الأرض خارج الزنازين ثم دخلوا زنازين النصف الأول من العنبر التي كنا قد أخليناها قبل بدء المذبحة وألقوا بالجرادل في الحوش وبعض الأشياء التي يمكن أن تستخدم في الضرب وأرادوا بذلك أن يصوروا الأمر كأنه صدام بين الإخوان وبين السجانة ...ثم صعد أحد الضباط يسأل عن الجرحى لإسعافهم في المستشفى، وفعلا أخرج من العنبر الذين أصيبوا وبعضهما كان يجر من رجله من داخل الزنزانة إلى طرقة العنبر ثم على السلالم حتى يصلوا به إلى حوش العنبر وفي الطريق خارج العنبر وحتى باب المستشفى كان هناك بعض السجانة يستقبلون الجرحى بالشوم والمدى ويخلصون عليهم، إن كثيرين من الذين نقلوا إلى المستشفى لإسعافهم أجهزوا عليهم قبل أن يصلوا إلى المستشفى أو تركوا ينزفون إلى أن فاضت أرواحهم!!

وأخيرا جاءت النيابة للتحقيق: وكان الوقت ليلا ... دخلت العنبر لتعاين مسرح الجريمة بعد أن صور الأمر على أنه معركة بيننا وبين السجانة.

@@ وأقاموا الدليل على ذلك بالجرادل التي كانت ملقاة بحوش العنبر والأواني الحديدية الأخرى التي قالوا إننا كنا نضربهم بها!!

ثم طلبنا واحدا واحدا لسماع أقوالنا أمام النيابة، وكان هناك في الطريق إلى مكتب التحقيق كمين يتلقى الأخ الذاهب إلى التحقيق ويعطيه (طريحة) من الضرب بالشوم والسياط والصفعات ويهدد بالمزيد من الضرب في العودة حتى يرهب فلا يقول الحقيقة ... لكننا قلنا الحقيقة كما رأيناها وكما حدثت ... أدانت النيابة إدارة السجن ولم تنطل عليها الخدعة ولم تقبل أن الحادث كان معركة بين الإخوان والسجانة ... ولم تعجب نتيجة التحقيق المسئولين في وزارة الداخلية ... فنحوا وكلاء النيابة هؤلاء وجاءوا بوكلاء نيابة آخرين وأعيد التحقيق معنا ... ولم يكن أسلوب تحقيقهم معنا أسلوب وكلاء نيابة لأنهم كانوا يعنفوننا ... ويوجهون إلينا الشتائم، ويومها قيل إن وكلاء النيابة هؤلاء ليسوا إلا ضباط مباحث انتحلوا شخصيات وكلاء النيابة.

بقينا في الليمان بعد المذبحة ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع بدأت إجراءات ترحيلنا ... إلى أين؟ لا نعرف ... واستمر تعذيبنا طوال هذه الأيام الثلاثة ... وأغلقوا علينا الزنازين طول الوقت، وكانوا يأخذوننا مجموعة ... مجموعة ... ويضربوننا بقسوة ووحشية ... واستمرت هذه العملية حتى يوم الترحيل وفي مساء اليوم الرابع ساقونا إلى عنبر التأديب وأجلسونا القرفصاء وبقينا على هذا الوضع حتى الساعة الواحدة صباحا حيث وصلت السيارات التي رحلنا فيها ... سلسلونا مجموعات كل مجموعة مع بعضهم ... وشحنونا في السيارات بطريقة لا إنسانية وأغلقوا أبواب السيارات علينا ... وانطلقت بنا إلى جهة لا نعلمها ومن حولنا حراسة شديدة ... أخيرا وصلنا إلى سجن القناطر واستقبلنا استقبالا حافلا رهيبا ظننا لقسوة وضراوة مستقبلنا أنهم جاءوا بنا إلى هنا ليخلصوا علينا ...رأينا شخصيات كبار المسئولين في وزارة الداخلية ... وقيل إن زكريا محيي الدين كان حاضرا استقبالنا ... كان الضرب ينهال – علينا ابتداء من دخولنا من الباب الخارجي وحتى أغلقت علينا الزنازين.

كان الهول شديدا، جردونا من ملابسنا ... أو شبه الملابس التي كنا نرتديها وأعطونا غيرها أشد منها قذارة وقضينا أكثر من أربعة أشهر داخل الزنازين لم نر فيها الشمس إلا من خلال شراعات الزنازين ولا نخرج من الزنزانة إلا إلى دورة المياه وفي شكل طابور تعذيب ... كان السجانة يأمروننا بالجري في طرقة السجن أمام الزنازين وأثناء الجري كانوا يلهبون أجسادنا بالكرابيج أو بالشوم ... وندور دورة أو دورتين على هذا الوضع ثم نذهب إلى الدورة لنفرغ جردل البول ونملأ زمزمية ماء الشرب ... ونغسل قروانة الأكل ..ز كل ذلك نفعله والضرب ينهال علينا ولا يتوقف حتى نعود إلى الزنزانة من جديد لتغلق علينا.

وبقينا بنفس الملابس القذرة مدة أسبوع، أخرجونا إلى الحمام وأصر عبد العال سلومة الذي نقل معنا إلى سجن القناطر على أن نخلع ملابسنا في الدور الثاني حيث نقيم ونهبط السلم عراة كما ولدتنا أمهاتنا وكان إذا رأى أحدا منا يستر عورته يلهب ظهره بالكرباج!! .. وكان عبد العال سلومة يعلم جيدا مدى ما يسببه لنا هذا الوضع من آلام نفسية ...و ... وأتساءل يا قراء وأصرخ:

هل كان لدولة فعلت ذلك بأبطالها ومجاهديها أن تستمر؟ .. وهل كان لأمة سكتت على هذا فلم تمنعه أن يكون إلى غير هذا المآل والهوان؟

بل أتساءل يا قراء وكثير منكم عاش هذه الفترة ... ومن لم يعشها يعيش الآن مثله أتساءل هل ذهبتم لتقاتلوا مع ربكم أم جلستم خانعين في انتظار نتيجة القتال بين أولياء الله وأعدائه ..أتساءل يا قراء وأصرخ: هل كان يمكن للإسلام أن يستباح في العالم كله كما يستباح الآن لو لم يستبحه حكامنا في بلادنا منذ نصف قرن.

أتساءل يا قراء وأصرخ: لولا قيام ولاة أمورنا – عليهم من الله ما يستحقون – بما قاموا به لإضعاف الإسلام، فهل كان يمكن للأقليات أن تجرؤ على الأغلبية هذه الجرأة الوقحة ... لتكون دولة داخل الدولة ... بل دولة فوق الدولة ...أتساءل يا قراء كم مرة ستعانون ما هو أشد من الموت وأقسى عندما يسألكم الله يوم القيامة:

ماذا فعلتم ... ولماذا لم تستشهدوا مع الشهداء؟ ... لماذا لم تجاهدوا أعداء الله؟ أتساءل هل تشعرون بالخجل كما شعرت ... هل تشعرون أم يطغى الخزي والخجل على الرعب والفزع والخوف والجزع؟ ...أتساءل: حتى لو غفر لكم الله يوم القيامة .. فهل ينقطع خجلكم أم تجأرون:

وا سوأتاه ... وا سوأتاه وإن غفرت ...وا سوأتاه وإن غفرت ..وا سوأتاه وإن غفرت ...  

الباب التاسع: مذبحة طرة

المشروع القومي جزء من المشروع الصهيوني الأمريكي.

حكوماتنا ليست علمانية ولا هي ضد الدين: إنها ضد الإسلام فقط.

العلاقة بين أبي غريب وأبي زعبل ... وبين جوانتانامو وطرة.   خدعت صديقي الناصري، وهو إنسان فاضل يظن نفسه ناصريا وليس كذلك، إذ سألته ذات يوم عن المواصفات التي يتمنى توافرها في الزوج الذي يتوقع تقدمه لابنته، وظن الرجل أن هناك زوجا حقيقيا قد وسطني في الأمر، وتركته على ظنه، ورحت أصف له محاسن الزوج وقوة شخصيته ولمعة عينيه وطوله الفارغ وجاذبيته الطاغية وسمرته المحببة، وقلت له إن الرجل نفسه ليس غنيا؟ لأنه تعفف عن السرقة من وظيفته، ثم أخذت أجيب عن أسئلة ذلك الصديق، وبعد فترة بدأ الشك يتسرب إلى صديقي فواجهني مقطبا جبينه مضيقا عينيه قائلا:

ليست هذه طريقتك في الحديث ولا في التفكير، ورغم أني أعلم أنك عاطفي إلا أنك تفكر دائما بموضوعية، بل لقد تعلمت منك أنه فيما عدا المطلقات لا يوجد أمر كله خير أو كله شر، فلماذا يبدو هذا الزوج المحتمل كامل الأوصاف؟! وقلت كالمستدرك:

كنت على وشك التطرق إلى عيوبه، أو على الأحرى إلى عيبه الوحيد، فذلك الشاب رغم ذكائه وشجاعته وحنانه به عيب واحد رأيته بعيني، فقد رأيته ذات مرة يمسك قطة بين يديه ويذبحها بهدوء، ودم بارد، ولقد واصل ذبحها رغم صرخاتها الفظيعة، لم ينقبض له ملمح ولم ترتجف خلجة، وعندما عاتبته صارحني مهموما بأنه يضطر إلى ذلك كل آن وآخر حتى تخاف باقي القطط فلا تجرؤ على اقتحام مكانه.

وقفز صديقي قفزة الملدوغ قائلا:

أنت هازل بلا شك ... أتريدني أن أزوج ابنتي لمثل هذا المجرم الذي لا قلب له ولا رحمة عنده؟!

ورحت أناشد الصديق أن يتروى، وأن يعيد التفكير بموضوعية، وأن يقارن العيب الواحد بالمزايا المتعددة ... والرجل يكاد يفقد صوابه ويصرخ:

أنا لا أفهمك، لا يمكن أن تكون جادا، فهذا العيب الواحد يمحو مميزاته كلها ويلغيها ويعريها، فكلها اصطناع وزور، والذي يذبح القطة بمثل هذه القسوة والفظاعة لا يمكن أن يكون نبيلا ولا شريفا ولا شجاعا ولا عفيفا كما تقول، كما أن وسامته وجاذبيته لا يمكن أن تعني إلا مزيدا من وسائل الغش والاحتيال، وأنا لا أستأمن مثل هذا الرجل على ابنتي أبدا.

وهنا جاء دوري أنا لأصرخ أنا في وجهه:

أنت لا تستأمن هذا الرجل على ابنتك لأنه ذبح قطة وتستأمن جمال عبد الناصر على أمة، وقد ذبح بشرا من خيرة الناس؟!

وكانت مفاجأة صديقي أكثر مما تصورت، وكأن زلزالا أصابه، أو كأن مقذوفا أطلق على بيته، لكن هذا المقذوف لم يخترق الجدار ويمضي، كما أنه لم يقتصر على هدم غرفة أو حتى دور كامل، لقد أصاب النقطة الحاسمة في أساس محور ارتكاز البناء فتصدع البناء كله.

بدا لي أنه قد رأى برهان ربه، فواصلت هجومي قبل أن يدركه الشيطان ليساعده على ترميم بنائه المتصدع: دعني أحكي لك هذه الواقعة: كان الشهيد عبد القادر عودة من أصدقاء عبد الناصر المقربين، حتى أن الشهيد لم يقتنع بتحذيرات المرشد منه، وكان ما كان من قدرة الشهيد على صرف مئات الآلاف من المتظاهرين، ثم القبض عليه، وتعذيبه، ثم تحديد إقامته قبل حادث المنشية بشهر، ثم الحكم بإعدامه بعد ذلك بتهمة اشتراكه في التدبير لحادث المنشية (كيف وإقامته محددة، بل وهي محددة بالذات كجزء من التدبير لحادث المنشية، حيث قامت الثورة باعتقال الشخصيات المحورية التي يمكن أن تقاوم خطة الثورة لسحق الإخوان بعد تمثيلية المنشية، وكان من هؤلاء الشهيد عبد القادر عودة، والمرشد الحالي: الأستاذ محمد مهدي عاكف، والذي حكم عليه أيضا بالإعدام الذي خفف إلى المؤبد).

وواصلت وأنا حريص على ألا يلاحظ أن كلماتي مبللة بالدموع:

لقد قرأت مقابلة أجراها موقع إسلام أون لاين مع نجل الشهيد: الدكتور خالد عبد القادر عودة، الذي يعد الآن أحد أبرع علماء الجيولوجيا في الوطن العربي رغم ما وضعوه في طريقه من عوائق، ولأترك كلماته تحكي بعض ما حدث:

لقد تم حكم الإعدام في والدي – يرحمه الله – يوم 7/12/ 1954 م بسجن مصر بباب الخلق، وكان صدور حكم الإعدام مفاجأة كبيرة لنا: لأن الشهيد كان يلتقي قبل حادث المنشية كثيرا بعبد الناصر (....) تم القبض على الشهيد عقب حادث المنشية مباشرة، لكن تم تحديد إقامته قبلها بنحو شهر بمنزله في شارع أورستا بالدقي (...) مما يدل على أن هذه الحادثة مدبرة ومعد لها مسبقا (...) يوم 5/ 12/ 1954 (قبل تنفيذ الإعدام بيومين)، ذهبنا كلنا نحن الثمانية – أبناء الشهيد – مع الوالدة – عليها رحمة الله – التي كانت تحمل أخي الرضيع (زياد)، وذهب معنا أخوالي الاثنين إلى مجلس قيادة الثورة لمقابلة عبد الناصر ، فرفضوا دخولنا القصر وتقديم الالتماس لوقف تنفيذ حكم الإعدام في حق الشهيد (....) ولك أن تتخيل أسرة سيعدم عائلها، لا لشيء سوى أنه يرفض أن يتخلى عن دعوته التي اصطفاه الله بها ليبلغها للناس، فكان منظرا فريدا ... أم تحمل طفلا رضيعا يبلغ من العمر ثمانية شهور ... يتعلق بها أحمد (عامين) ويمشي خلفها فاروق (سبع سنوات)، وكنت في العاشرة من عمري في ذلك اليوم العصيب، وتسير بجواري أختي نجوى، وتمسك بيد أختها الصغرى ناهد (تسع سنوات)، ومعنا إخوتي فيصل ومحمد في الثقافة (الثانوية العامة)، والمفارقة الغريبة أن خالي – نقيب شرطة في ذلك الوقت – عندما حاول الدخول لمقابلة عبد الناصر هدده العسكري بوضعه في السجن في حالة عدم الانصراف!! وبسبب الإصرار على مقابلة عبد الناصر خرج علينا مندوب من طرفه، وأخذ منا الالتماس، ودخل به إلى عبد الناصر ، ثم خرج ومكتوب على الطلب "مرفوض المقابلة" ... وجاءت الشرطة بالليل إلى البيت وأخبرتنا بأن مقابلة الشهيد ستتم صباح الغد يوم 6/ 12/ 1954 بسجن مصر، فذهبنا إلى هناك (....) والمنظر الذي لا يمكن أن ينمحي من الذاكرة أن العساكر والضباط الموجودين معنا وحولنا – يبكون بتأثر شديد، ونحن منهمرين في البكاء ... الوحيد الذي كان لا يبكي هو الشهيد – عليه رضوان الله – وخصني بوصية خاصة دون إخوتي، قائلا: "يا خالد ... صل وصم، ومت على مبدئي ... وأغمي على أخي الأكبر فيصل، لأنه كان أكثرنا تعلقا بوالده، وتم نقله إلى طبيب السجن، وأصر الشهيد على مقابلته على انفراد فحمله اثنان من عساكر السجن إليه وهو في شبه غيبوبة، وقرر الأطباء أنه أصيب منذ ذلك الحين بحالة "فصام في الشخصية"، وبعد تنفيذ حكم الإعدام تسلم أخي فيصل وعمي عبد القادر عودة وأخوالي أبو بكر (وكيل النائب العام) ومغازي (نقيب شرطة) الجثة ... وتم دفنه بمقابر باب الوزير دون إقامة سرادقات للعزاء (...) ... وحدث أيضا أنني منعت من السفر للحصول على الدكتوراه عام 1969م، واضطررت لمقابلة محمد أنور السادات ، ووعدني ببحث الموضوع مع عبد الناصر ، والمؤسف أني قابلت أغلب المسئولين للتوسط من أجل سفري – ومنهم حسين الشافعي – ولم تتم الموافقة على سفري إلا بعد تعب مضن وجهد جهيد بناء على وساطة السادات وحاتم صادق (زوج ابنة عبد الناصر ).

وبعد الموافقة على سفري صدر أمر من مكتب الفريق أول محمد فوزي – وزير الحربية في ذلك الوقت – بالقبض علي وترحيلي لأقرب منطقة تجنيد، بتهمة التهرب من التجنيد، علما بأنني كنت عضو بعثة داخلية ومعافى من التجنيد لسن 28 أو الحصول على الدكتوراه .. أيهما أقرب!!

(لن أعلق يا قراء على مدى الخسة ... ولن أعلق على ذهولي من حجم الحقد الأسود الذي حمله هؤلاء المسئولون للإسلام وأهله ... وهو ذهول لا أملك له حتى الآن تفسيرا ... فإن كان بدافع الكراهية للشهيد فما ذنب أبنائه ... وإذا كان بسبب العمالة لأمريكا فما سر كل هذا الإخلاص والحماسة في التنفيذ؟! ... أم أن الأمر كراهية شيطانية للإسلام)..كنت أرتجف من الغضب، وكانت الدموع تنهمل من عيني صديقي الناصري وهو يهمس:

كفاية ... كفاية ...

ولم يعد بعدها ناصريا، وكان دليلا آخر أضيف إلى يقين سابق عندي يقول إن نسبة التسعات الخمس الملعونة (99.999% تنطبق على من يظنون أنفسهم ناصريين، إنهم لا يفهمون توحش الناصرية وبعدها عن الإسلام وتوافق جوهرها مع العلمانية والحداثة: يعني باختصار: مع المشروع الأمريكي ... وهي جزء منه وتمهيد لمرحلة التوحش فيه ...!!

أنبهك مرة أخرى يا قراء أن عبد الناصر ليس قضيتي، لكنني كعالم الجيولوجيا الذي يدرس طبقات الماضي ليفهم الحاضر، وكيف لي أن أفهم كيف ماتت الأمة فلم تشتعل شوارعها بالغضب الحارق وعواصمها تحتل، وأبناؤها يسحقون وتنهش الكلاب أجسامهم الطاهرة، ويغتصب شيوخها ورجالها ناهيك عن نسائها، كيف لي أن أفهم من غير أن أتابع خطوات قتل هذه الأمة أو دفعها للغيبوبة منذ حقب وحقب، وتأتي على رأس هذه الحقب الحقبة الناصرية، وعلى رأس الحقبة الناصرية ما حدث في ليمان طرة عام 1957، ليس بسبب عدد الشهداء في تلك المذبحة: 21 شهيدا، ومثلهم بعد ذلك، ليس بسبب من ماتوا، بل بسبب أمة عاشت بعد ما حدث، وكأنه ما حدث، عاشت وبسببه كأنها – الأمة كلها – ماتت!!

أنبهكم يا قراء أن سقوط فلسطين كان أمرا طبيعيا بعد سقوط دولة الخلافة ... أنبهك يا قراء أن اكتساح بغداد كان أمرا طبيعيا بعد اكتساح الإسلام في مصر.

أنبهكم يا قراء أن الباقي كله سيسقط دولة بعد دولة وبلدا بعد بلد وقبيلة بعد قبيلة، بل ورجلا بعد رجل وامرأة بعد امرأة ما دامت قوتنا الضاربة الوحيدة مكبلة بأيدي حكامنا ... وما دام الإسلام معزولا ومعتقلا ومسجونا ومهانا ...ولم يعد الأمر الآن استعادة عزة فقدناها عندما التمسناها في غير الإسلام، بل أمر المحافظة على الوجود .. مجرد الوجود ... وليس لدينا من سلاح للمحافظة على هذا الوجود سوى الإسلام ...فكيف تخلت الأمة – وكيف تتخلى – عن سلاحها الوحيد ..لكن ...كيف يمكن أن تفهم كيف تحولت الأمة إلى هذا المسخ الضعيف العاجز الذي لا يقاوم ولا يدافع عن عزته ولا حتى عن مجرد وجوده دون أن نسمع هذه الشهادة عن الكيفية التي تم بها إخصاء الأمة وترويضها ... شهادة الصحافي الراحل: "عبد المنعم سليم جبارة".

يقول في صحيفة آفاق عربية 21/ 11/ 2003 مكثت في السجن الحربي ثلاثة شهور قبل المحاكمة، ذقنا خلالها أنا وإخواني شتى أنواع التعذيب تحت إشراف مسئولي الداخلية، وقد مات بالفعل أناس بسبب ذلك (...) فقد كانت حصص التعذيب يومية من المساء حتى الصباح الباكر، حيث كان يتم التحقيق تحت سياط التعذيب بعد المغرب، وعلى سماع أغاني "أم كلثوم" وغيرها، فقد كانت السياط والكرابيج تشرح الأجساد وتلهم الجروح، وقد تعفن جسد أحد إخواننا بسبب كثرة الضرب بالسياط مع غياب أي رعاية صحية، فلم يكن موجودا سوى زنزانات بشعة، مخصصة للتعذيب، وغرف للصعق بالكهرباء، وأخرى مليئة بالماء، يوضع فيها السجن حتى أنفه وأجساد معلقة على (العروسة) تنهال عليها السياط في السجن الحربي ، الذي كان سلخانة بالفعل للتعذيب، يقوم به زبانية (...) ... وكان "حمزة البسيوني" يشرف على ذلك، ويقول: "أين ربكم، وأنا أسجنه؟" (...) ... انتقلنا بعد السجن الحربي إلى (طرة)، وكنا نتكبد المشقة في العمل بالجبل، فهناك ما يسمى بمقطوعية لا بد من إنجازها، وإلا فالعقاب والتأديب، هذا بالإضافة إلى التضييق الذي كنا نلاقيه من إدارة السجن في الوقت الذي كان معنا في العنبر مساجين يهود، متهمون في أحداث تفجيرات بعض دور السينما، إلا أنهم كانوا يعاملون معاملة حسنة، ويقدم لهم ما يريدون ... بينما كنا نعامل بصورة قاسية، ويتم تفتيشنا بصورة مهينة، وتتطاول إدارة السجن على من يزورنا، وقد حدث احتكاك مع الأهالي الزائرين قبل الحادث، وتم تحويلهم إلى قسم الشرطة، كما تضاعف التضييق علينا، وهو الأمر الذي جعلنا نطالب بتدخل المسئولين للتحقيق في ذلك، فقد كان هناك أدلة على تهديد حياتنا، ولذلك طلبنا من إدارة (الليمان) عدم خروجنا للعمل في الجبل في أول يونيو 1957م، وأن تضمن لنا حماية أرواحنا، إلا أن مدير السجن – وكان يدعى "سيد والي" جاء ومعه كتيبة السجن تحل الجنازير والسلاح، وشعرنا بنيات مبيتة لإجبارنا على الخروج للجبل واغتيالنا، بزعم أننا كنا نخطط للهرب، ولذلك أخبرنا مدير السجن بأننا لا نرفض العمل، ولكننا نريد تأمين حياتنا وحضور النيابة أو أحد المسئولين، فأمرنا أن ندخل الزنازين، وتم إغلاقها علينا، وبعد فترة من الوقت – وأذكر أن الحادث كان يوم السبت في أول يونيو من عام 1957م – بدأت بنادق كتيبة السجن تحصدنا الواحد تلو الآخر، وتم فتح أبواب كل زنزانة على حدة، وأجهزوا على من فيها بالعصي وغيرها، واستشهد البعض بالرصاص، والبعض من كثيرة الضرب بالعصي الغليظة، ومن أصيبوا اصطحبوهم – بعد معركة بشعة بين طرف مسلح بصورة كاملة والآخر أعزل تماما – وأجهزوا عليهم في أثناء، خروجهم لمستشفى الليمان (...).

من منكم يا قراء يستطيع أن يميز بين شلو ضحية في طرة وشلو ضحية في أبي غريب ...لكن ... دعونا نعود الآن إلى كتاب الأستاذ جابر رزق رحمه الله (مذبحة الإخوان المسلمين في ليمن طرة – دار اللواء للطباعة والنشر – لنورد باقي الشهادات).

ويضيف الكتاب إلى شهادة الأستاذ عبد المنعم سليم جبارة تفاصيل أخرى منها أسماء إدارة السجن المجرمة التي قادت المذبحة: اللواء إسماعيل همت – ومعه مدير الليمان سيد والي وهو مجرم وله تاريخ طويل مع المسجونين السياسيين أحمق ... أرعن .. اشتهر بالغدر والجبن ... وفريق من ضباط الليمان، آخر من المباحث العامة ... قيل إنه صلاح الدسوقي الشيشتاوي ... الصاغ الذي ولغ في دم الإخوان وتناثرت على ملابسه عظامهم وقطع لحمهم وبقع دمائهم.

وفجأة ... دوى صوت اللواء الهمام إسماعيل همت في مدخل العنبر ... "اضرب" ... معلنا بدء المعركة .... أغرب معركة في تاريخ مصر ...(...).

انهال الرصاص من كل مكان على الأبرياء العزل من الخارج ومن الداخل ومن أعلى، كانوا يتوقعون كل شيء إلا أن يضربوا بالرصاص غدرا وغيلة داخل الزنازين ... في داخل العنبر حتى أن الشهيد سيد شوقي هتف مع أول طلقات الرصاص ... إنه فشنك يا إخوان إنه فشنك ..وكان "سيد شوقي" هو أول الشهداء حين اخترق الرصاص جبهته.

دخل الضابط عبد اللطيف رشديرغرفة المخزن، وكان عبارة عن زنزانة واسعة، وهوى ومعه فرقة بالشوم على من فيها حتى تناثرت الدماء ... ونهشت الجماجم، وتلطخت الجدران بقطع اللحم المتناثرة ... ودفق الدماء ... ومضى أحمد متولي الطال بكلية الزراعة، وأحمد حامد قرقر المحاسب وعلي حمزة الترزي ومصطفى حامد تلميذ الثانوية العامة وحامد صوان عامل النسيج في المحلة ... وخيري عطية طالب الأزهر ... وغيرهم .. وغيرهم ... مضوا إلى ربهم شهداء أطهار (...) وتحول الظالمون إلى الزنازين المجاورة فأجهزوا على من كان فيها بالشوم، وكان في واحدة منها الشهيدان عبد الفتاح وعطاء الله ... وكانا مصابين بالحمى منذ أيام لا يستيطعان حراكا ولا يدريان عما يجري حولهما شيئا فأجهزوا عليهما ... ودخل الضابط عبد الله ماهر إحدى الزنازين الملاصقة للمخزن ليفرغ مسدسه في قلوب ضحاياها.

يتحدث الصحافي عبد المنعم سليم جبارة عن استشهاد الشهيد أحمد قرقر بصورة تختلف عما ورد في شهادة ابنه الدكتور محمد مورو أحمد قرقر (رئيس تحرير هذه المجلة: المختار الإسلامي) ... "وفي المخزن ... الزنزانة الواسعة استشهد أحمد قرقر ... رجل ... والرجال قليل ... انهالت عليه الضربات بالعصي والشوم وأحاط به زبانية الإجرام في أبشع وأقسى صورة للإجرام ... صورة العهد الناصري وعلى رأسه من زعم أنه جاء يرفع الرءوس بعد طول انحناء واستبداد فإذا به لا يكتفي بتنكيسها، بل يتمادى في تحطيمها وبترها بعد أن عجز عن استذلالها ... وكطبع أحمد قرقر الشهم الأبي الحر الوفي المسلم التقي أنكر ذاته وتلقى الضربات عن إخوانه وألقى بجسده فوق أجسادهم وهو يظن أنه يدفع عنهم حتى هوى الشهيد بعد أن لفظ آخر أنفاسه شجاعا كريما على الطريق الذي سار فيه عمار وياسر وسمية وبلال: الحياة في حرية وعزة، أو الشهادة في صدق وكرامة .. وكما قلت في جزء سابق، فإن اختلاف الشهادات لا يعني التشكيك في الرواية، إنها كصورتين للأشعة: أمامية وجانبية، بتباين الشكل فيهما كثيرا بسبب اختلاف الزاوية، لكنهما يشخصان نفس المرض، فالواقعة قد حدثت والشهيد قد استشهد، أما الشهود فإن الظروف الرهيبة المروعة التي عاشوا فيها لم تمكنهم من التمييز بين أشلاء وأشلاء وبين دم ودم.

على أنني شخصيا أميل إلى الرواية الأخيرة لاستشهاد الشهيد أحمد قرقر، فهي الأقرب إلى صفاته وسماته وشهامته، كما أن شهادة ابنه الدكتور محمد مورو هي شهادة من سمع لا من شهد، كما أن من نقلوا الوقائع إليه، ربما خففوها كي لا يؤلموه.

والأمر لم يكن يحتاج إلى هذه الإطالة، لكن حثالة النخبة العلمانية من كلاب جهنم تتصيد مثل هذه الاختلافات الطبيعية في الروايات كي تنثر الغبار على الحدث كله، دون وازع من صدق أو رادع من ضمير، ولقد أردت فقط أن أقول إن مثل هذه الاختلافات طبيعية.  

شهادة الحاج أحمد البس

شهادة الحاج أحمد البس تحمل لي مرارة خاصة، ففضلا عما أورده الأستاذ جابر رزق عليه رحمة الله، فقد سمعت الرواية بنفسي من الحاج أحمد البس منذ أكثر من عشرين عاما ... سمعتها – ويا ويلي – لم أفق إلا بعدها بأعوام – ذلك أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ... وكانت غواية الموضوعية وعدم التحيز قد أسلمتني إلى ما يشبه الإرجاء، لكن، له الحمد والمنة .. فلقد حسمت في النهاية أمري.

قال الحاج أحمد البس:

"لم يكن الأمر أمر تحقيق ... ولكن كانت حفلة الاستقبال التي تمثل أول علقة يأخذها الداخل إلى جهنم السجن الحربي كمجرد تسخين ... أمرت بخلع ملابسي جميعا ... وطرحت على الأرض على بطني .. وأمسك بعض الزبانية بيدي ورجلي ... وهوى الباقون بسياطهم يمزقون جسدي ... وانتزعت نفسي منهم وقمت واقفا فوضعوا كرسيا فوق رأسي وأرغموني على الجلوس وهم يضغطون على الكرسي ... وأخذوا يضربونني على أفخاذي ... فوقفت وجريت على خرطوم المياه لأشرب وأروي ظمئي ... فلحقوا بي وأعادوا معي ما فعلوه حتى هبطت تماما ...وجاءوا بالعروسة الخشب وأوثقوني بها ومزقوا ظهري بالسياط .. أخيرا فكوا وثاقي لكنني لم أقو على الوقوف على قدمي ... فسقطت على الأرض ولم أستطع الوقوف إلا بعد ضرب شديد انهالوا به علي ... أوقفوني بجانب جدار ... ووجهي للحائط بجوار إخوة آخرين ...وكانوا يمرون علينا بالأسياخ المحماة في النار ... يكوون بها أجسادنا حتى تبرد فيأتون بغيرها محماة ... وفي هذه الأثناء كان الواحد منا لا يحس بحرارة النار أكثر من أنه يسمع صوتها "يطش" وهي تلمس لحم ظهره ... أو كتفه أو إليته!!

واستمر هذا التعذيب طوال الليل ...ثم ألبسوني جلبابا ... التصق بأكثر جسمي الممزق والمغطى بالدماء (...) أمر الطبيب بإرسالي إلى شفخانية السجن الحربي ... فدخلت حجرة خاوية من كل شيء قضيت فيها عشرين يوما كان الوضع المريح لي فيها أن أكون في وضع الساجد على البلاط لأن أي مكان في جسدي غير ركبتي وكفي لا أطيق أن ألمس به الأرض ... وكل يوم كان السجان (العسكري) يدخل علي بطبق به طعام ... فأحاول إخراج لساني لأتناول شيئا مما في الطبق ولكنني لم أكن أستطيع لانتفاخ وجهي وشفتي من الضرب.

قضيت في المستشفى عشرين يوما، ثم أخرجت إلى عنبر 4 من السجن وسكنت مع الشهيد محمد يوسف هواش الذي أعدمه جمال عبد الناصر ظلما ... وكان عنا خمسة إخوة آخرون ... وكنا جميعا، مرضى، ولكن الحراس لم يعاملونا كمرضى، بل كمسجونين ولم يراعوا أنني كنت ألبس فقط بنطلونا ولا يمكنني أن ألبس شيئا على بقية جسمي ... يعني نصف جسمي الأعلى عار ومملوء بالقيح خاصة ظهري ... وفي أحد الأيام أمرونا بالخروج من الزنازين والنزول إلى ساحة العنبر بسرعة ... فهبطنا، ثم أمرونا بالصعود إلى الدور الثاني ... فصعدنا، ثم أمرونا بالنزول فنزلنا ... ثم أمرونا بالصعود فصعدنا كل ذلك كان في عجلة، لأن من يبطئ يضرب عشرات الكرابيج ... وكنت أنزل مع النازلين ... وأصعد مع الصاعدين جسمي مكشوف من أعلى ... وفي إحدى مرات الصعود (...) أمسكني – أحد الإخوان – من ظهري ليستعين على الصعود بسرعة فجمع جلدي من رقبتي إلى أسفل بين أصابعه وسهل الأمر القيح الذي كان في ظهري ... فانكشف لحم ظهري تماما ... فأخذني أحد الإخوان الأطباء (الدكتور مصطفى أبو العينين) طبيب أمراض النساء بالإسكندرية الآن وأمرني أن أنام على بطني على أرض فناء العنبر ... وأخذ يرد جلد ظهري إلى مكانه ... واحتاج ذلك إلى وقت طويل ... ولما فرغ من ذلك قال لي:

لقد أنقذت من الموت بأعجوبة ... لأني حينما أرجعت الجلد إلى مكانه قذفت القيح من تحته، ولو بقي القيح يوما آخر لوصل إلى صدرك ومت ...وتم كل ذلك من غير بنج ... ومن غير ميكروكروم أو حتى إسبرينة أو شاش للغطاء ...من منكم يا قراء يستطيع أن يميز بين قيح ضحية في السجن الحربي وقيح ضحية في جوانتانامو ...بعد شهرين تم ترحيل الحاج أحمد البس من السجن الحربي إلى ليمان طرة، واعتبر هو ذلك نوعا من الإفراج، لأن هول السجن الحربي لا يعادله هول ...لم يكن – لهف قلبي – يعرف ما ينتظره في الليمان، ولنستمع إليه يقول:

دخلت ليمان طرة وجروحي من السجن الحربي لم تندمل تماما، ووجدت بالليمان ما يقرب من مائتين من الإخوان من بينهم الأستاذ منير الدلة رحمه الله والأستاذ سيد قطب رحمه الله ... ومحمد هواش ... رحمه لله ... تقبلهما الله في الشهداء (أعدمهما عبد الناصر في مذبحة سنة 1965).

بعد اندمال جروحي خرجت مع الإخوان أقطع الأحجار في الجبل ... (...) استمر الأمر كذلك حتى يوم السبت الحزين أول يونيو سنة 1957 حيث وقعت المجزرة ... التي لا مثيل لها ... إلا المذبحة التي أقامها اليهود في "قرية دير ياسين" في فلسطين.

أصرخ يا قراء: : هل كان جمال عبد الناصر ورجاله – وما ينطبق عليه ينطبق على كل الحكام العرب – بلا استثناء – هل كان يستطيع أن يفعل مثل ذلك في يهودي أو نصراني ...؟

هل كان يستطيع؟

ولا تلوموا الخارج ... لوموا أنفسكم ...لوموا خنوعكم وذلكم ...

تتفق شهادة الحاجة أحمد البس مع الشهادات الأخرى ... ويكتب عن يوم المذبحة:

وفجأة دخلت الكتيبة العنبر وصعد عدد منهم إلى الدور الرابع فوق الدور الذي يسكن فيه الإخوان ... ومن الدور الأول أطلق أحد الضباط طلقة كانت بمثابة إشارة البدء في المذبحة ... فقال أحد الإخوان:

فشنك ...ولكن توالي إطلاق النار وسقط بعض الإخوان مضرجين في دمائهم ... عندئذ صاح أحد الإخوان:

الضرب في المليان يا إخوان ... ادخلوا زنازينكم وأغلقوا الأبواب عليكم ... أسرع الإخوان إلى الزنازين وأغلقوا الأبواب عليهم واستطاع بعض الإخوان أن يسمكروا الأبواب عليهم بالمسامير ولم يتنبه البعض إلى إحكام غلق الباب ... وعندما دخل الإخوان الزنازين صعد أحد الضباط ومعه جاويش فكان الجاويش يفتح باب الزنزانة التي لم يحكم غلق بابها، ويدخل الضابط فيطلق النار على من فيها من مسدسه ... أما الزنزانة المغلقة فيوضع في فتحة الزنزانة (النضارة) فوهة مدفع ويطلق على من في داخل الزنزانة فيصاب من يكون في مواجهة الباب ... أما الذين استتروا بالجدار فقد نجوا بأعجوبة!!

استمر إطلاق النار ساعة أو أقل قليلا بعدها خيم صمت رهيب على الليمان والجميع في ذهول!! واستمر هذا الصمت الرهيب ... والإخوان في ذهولهم ... بين قتيل مضرج في دمائه ومصاب ينزف .. وثالث ذهب عقله ... ورابع لا يدري هل هو ميت أو حي؟ .. وبقيت هذه الحالة حتى جاء الليل، وبدأت حركة داخل العنبر، دخل الحرس في أيديهم الشموع يبحثون عن حصاد المذبحة ... فيجمعون الذين قتلوا معا .. والذين جرحوا معا ...وكان الحصاد 21 قتيلا .. و 22 جريحا ...ووصل الغدر والخيانة إلى أسفل الدركات حين وقف الأنذال من الحراس والضباط في الطريق الموصل إلى المستشفى يجهزون على المصابين ضربا بالعصي الغليظة حتى انضم عدد من الجرحى إلى القتلى!! وكان أحد هؤلاء الأنذال حارسا مسيحيا يسمى (متى) ... وفكر المنفذون للمذبحة سريعا ... ماذا سيقولون للنيابة التي لا بد أن تأتي وتحقق في الحادث، لقد اتجه تفكيرهم في تصوير الحادث على أنه اشتباك بين الإخوان بعضهم مع البعض وأن البعض قتل البعض الآخر بالسكاكين .... والمدى!!

بناء على هذا التفكير أخذوا يوسعون مكان الطلقة حتى تكون كالطعنة بالسكين ... أو يوصلون مكان طلقتين ببعضهما!!

في اليوم الثاني من الحادث خرج 21 نعشا ليلا تحت الحراسة المشددة وسلمت الجثث إلى أهلها ليدفنوهم ليلا بحضور أحد الأقارب ... والد ... أو ابن ... أو ابنة ... أو أخ فقط ... وبقيت المقابر في الحراسة مدة لا يقترب منها أحد.

وفي اليوم الثالث: من بقي من الإخوان أحياء أخرجوا من الزنازين ... وأمروا بخلع ملابسهم جميعا حتى الملابس الداخلية وأعطيت ملابس قذرة جاكيت وبنطلون ممزق وحشروا كل خمسة عشر أخا في زنزانة لا تتسع إلا لثلاثة فقط واضطر الإخوان أن يبقوا وقوفا في هذه الزنازين مدة 24 ساعة حتى أخرجوا من الليمان في اليوم الرابع ... وسلسلوا عصر هذا اليوم كل عشرين أخا في سلسلة وأجلسوا على الأرض حتى جاء الليل ثم أخرجوا من باب الليمان الذي أضيئت الأنوار أمامه وأحيطوا بالجنود المسلحين ... وأدخل الإخوان في السيارات بطريقة مفزعة ... وكان منظرا شديد الهول ... بعض الإخوان صعد إلى السيارة والبعض الآخر لا يزال على الأرض والجميع مسلسلون في سلسلة واحدة وعملية الجذب مستمرة فالتوت الأيادي ... وكسرت المعاصم وانطلقت الصرخات والآهات حتى تم ركوب الجميع.

سار موكب المظلومين (....) حتى وقفت السيارات أمام سجن القناطر ... فأنزلونا وفتشونا مرة ثانية في حين أن ملابسنا لا تكاد تستر أجسادنا ... وأدخلونا واحدا واحدا من الباب الجانبي – للعنبر المظلم وكان يقف على الباب حارس يمسك بيده كرباجا يهوي به على كل أخ يدخل الباب المظلم ولا يكاد الأخ يتأوه من الضربة حتى يهوي عليه حارس آخر بكرباجه ثم حارث ثالث ... ورابع ... وهكذا، فيعلو صراخ الإخوان في الظلام ولا يدري الواحد منهم أين يتجه حتى يصل إلى سلم في وسط العنبر فيجد حارسا ممسكا كرباجا يهوي به عليه آمرا إياه بالصعود فيصعد إلى الدور الثاني حيث يجد حارسا آخر على آخر السلم يهوي عليه بالكرباج (...) لقد فقد ستة من الإخوان عقولهم أثناء عملية الدخول هذه إلى سكنهم الجديد في سجن القناطر وانضموا إلى القتلى والجرحى فأصبح حصاد المذبحة خمسين أخا ...وبقينا حوالي ثمانية شهور لا يخرج من هذه الزنازين إلا واحد من كل زنزانة يلقي بفضلات البطون ويملأ زمزمية الماء حتى أصبح الإخوان كالأشباح ... مجرد هياكل غائرة العيون شاحبة الوجوه مصفرة ...

يا إلهي !!

ماذا كان يمكن أن يفعله البابا شنودة أو كيرلس، ولا أقول أمريكا وأوروبا – لو حدث للمسيحيين ذلك أو بعض ذلك!!

ماذا كان يمكن أن يفعله آخر حاخام في مصر – ولا أقول إسرائيل – لو حدث ذلك ليهودي واحد!!

أما شيوخنا ... فقد تستروا على ذلك وبايعوا الرئيس المفدى ...وشيوخ إفتائنا أفتوا بأن الإخوان مجرمون ... وبأن الشهيد عبد القادر عودة والشهيد سيد قطب ورفاقه يستحقون الموت طبقا للشريعة الإسلامية ... نعم ... جرءوا – لعنهم الله – وفعلوا ذلك باسم الإسلام لا باسم اليهود ية ولا باسم النصرانية ..  

شهادة حسن عبد الستار

والآن فلنذهب إلى شاهد آخر ... ولتعلموا يا قراء أنني أحاول الاختصار قدر ما أستطيع، رغم أنني أشعر أنه لا حق لي في أن أختصر أو أن أحذف، إلا إذا جاز لنا أن نختصر الصرخة أو نختزل الدمعة أو أن نلخص الألم، وعلى المستوى الشخصي فإنني لا اشعر بأي تكرار فيما أقرأ، لكنني لظروف الكتابة في مجلة أكتفي بشاهد أو شاهدين على نفس الواقعة، وأهمل الشهادات الباقية ... أهملها والألم يعتصر قلبي.

الجديد في شهادة حسن عبد الستار هو مقارنته لمعاملة السلطة المصرية (المسلمة) للإخوان المسلمين من ناحية ومعاملة نفس السلطة للجواسيس اليهود الذين كانوا في ليمان طرة في نفس الوقت.

كانت زيارة الإخوان المسلمين تتم في المكان المخصص للزيارة حيث كان يفصل بين المساجين وأهليهم الزائرين سلك سميك لا يسمح بدخول أي شيء من المأكولات أو الملابس الداخلية أو الأحذية أو الأدوية إلا بعد عناء شديد ورجاء كثير ... وكان أهالينا يعودون بما أحضروه لنا من أشياء ضرورية بعد أن تعييهم الحيل وبعد أن يصم الضباط آذانهم أمام وجائهم وإلحاحهم.

أما اليهود الخمسة ... (وهم يهود قضية لافون)، بل الجواسيس الإرهابيون الخمسة فكانت معاملتهم ممتازة، وكانت زياراتهم تختلف تماما عن تلك الصورة، كانوا دائما محل عناية ورعاية السادة ضباط السجن وبصفة خاصة النقيب عبد الله ماهر، والملازم أول عبد العال سلومة ... لذلك كانت زيارتهم دائما (خاصة) وفي مكتب حضرة الضابط، وكانت كافية لأن يقال فيها كل ما يريد اليهود أن يقولوه، فهم يتكلمون اللغة العبرية التي يجهلها الضباط، أما بخصوص ما يحضره زوارهم معهم من كل شيء فكانوا لا يتكلفون حتى حمله من مكان الزيارة إلى العنبر، بل كان سيادة الضابط يأمر أحد الحراس السجانة ليحمله عنهم على مرأى ومسمع من جميع، المسجونين المحرومين من مثل تلك المعاملة، بل أكثر من ذلك كان الضابط يحضر إلى هؤلاء الجواسيس الخمسة ويجلس معهم في زنزانته بالساعة وأكثر حتى أثار ذلك انتباه الجميع لدرجة أنه لما كان أحد المسجونين يسأل أحد اليهود عن العلاقة التي تربطهم بالضابط عبد الله ماهر كان يجيبه الجاسوس "فكتور" بأنه صديق أختي ... كان يقول ذلك بلا خوف ولا حياء.

ثم يتحدث حسن عبد الستار عن الملابسات التي أدت إلى المذبحة فيقول:

... عندئذ فقط اتضحت أمامنا خيوط المؤامرة وأيقنا أن الأمر يدبر للقضاء علينا جميعا في الجبل، ومن السهل جدا أن يقال إننا حاولنا الهرب أو تمردنا فأطلقوا علينا الرصاص، وبهذه الحجة يمكن إبادتنا عن آخرنا والقضاء على 180 مسجونا من الإخوان ليحافظوا على المسجونين الباقين وهم حوالي 250 مسجون ويكون الأمر منطقيا أمام العالم!!

مر يوم الخميس والجمعة ويوم الجمعة ونحن نفكر ونفكر ... ونحاول الاتصال بإدارة السجن للتفاهم مع المسئولين فيها ولكن جميع الأبواب كانت مغلقة ولا مجيب!! ... (...).

ثم تبدأ المذبحة:

"... سمعنا ضجة كبيرة عند مدخل العنبر، فنظرنا نستطلع الأمر، فإذا بكتيبة الليمان بكامل أسلحتها وعدد جنودها حوالي ألف جندي وصف ضابط، انقسموا إلى قسمين ... قسم توجه إلى الدور الثاني، والقسم الآخر صعد إلى الدور الرابع، واصطفوا في الطرقات من الجانبين وأخذوا وضع الاستعداد لإطلاق النار ... ووجدنا أنفسنا محصورين من أسفل ومن أعلى حيث كنا نقيم نحن في الدور الثالث ... كل هذا رأيناه بأعيننا ولكن لم يدر بخلدنا أنهم قد وصلت بهم حالة الهوس والجنون إلى أن يطلقوا علينا الرصاص في المليان، فلم يحدث لمثل هذه المجزرة من مثيل حتى ولا في سجون الدولة الشيوعية التي امتهن فيها الإنسان أسوأ درجات الامتهان ... وكنا نعلم حين امتنعنا عن النزول إلى الجبل حتى تحضر النيابة أن لائحة الليمان الداخلية، والتي تنظم طريقة الثواب والعقاب على المسجونين كانت تعاقب كل ممتنع على العمل بالجلد من 12 إلى 16 جلدة في الامتناع الأول، ثم تضاعف العقوبة في الامتناع الثاني، ثم تكون ثلاثة أمثال العقوبة، ثم يخزن نهائيا ... إننا كنا نتصرف ونحن على معرفة باللائحة وكنا على استعداد لتحمل العقاب الذي تحدده على من هم في مثل حالنا، ولكن لم يمر بخيالنا أن الكيد والحقد علينا قد وصل إلى هذه الضراوة التي وصلت إلى حد قتلنا بهذه الطريقة الهمجية البربرية ... ما كاد الجنود يأخذون أماكنهم في وضع الاستعداد حتى دخل مدير الليمان ومعه بعض المدنيين من خارج الليمان عرفنا منهم صلاح دسوقي ... وكان وقتئذ أركان حرب وزارة الداخلية وشغل منصب محافظ القاهرة بعد الحادث، رفع مدير الليمان العميد سيد والي يده بالمسدس إلى أعلى وأطلق منه رصاصة كانت بمثابة إشارة البدء في الخطة الرهيبة، بعدها فتحت النيران من الألف قطعة سلاح التي يحملها جنود الكتيبة دفعة واحدة، وظننا في بادئ الأمر أن الرصاص "فشنك" أسرعنا إلى الزنازين نحتمي بها والرصاص يتعقبنا من شراعات أبواب ونوافذ الزنازين من فوق السور الخارجي، حيث كان حاملو البرنات والرشاشات الثقيلة يصوبونها على شبابيك زنازيننا – واستمر الضرب على هذه الصورة الرهيبة حوالي أربعين دقيقة من جميع الجهات، من أسفل ومن أعلى ومن الخارج عن طريق الشبابيك!! أربعون دقيقة كانت كدهر كامل ونحن نسمع دوي الرصاص يختلط بصرخات مكتومة وآهات وتضرعات إلى الله بالدعاء أن يكشف الغمة ... ويفرج الكرب!!

لم أعد أحتمل يا قراء ... وأظنكم كذلك .. فدعوني أرفه عنكم قليلا بجزء من شهادة الصحافي عبد المنعم سليم جبارة ادخرتها لأوردها هنا:

"وإذا كان قد قدر لنا أن نرى مساخر ومساوئ هؤلاء الضباط في الليمان، وخاصة تصرفاتهم مع اليهود ونسائهم – وما كان يشاع ويقال عن لقاءات في الخارج خارج الليمان فإنه قد قدر لنا أن نرى الوجه الآخر بأنفسنا أيضا في سجن القناطر حيث تم ترحيلنا بالجنازير والحديد ليلا، في القناطر رأينا مارس يل نزيلة سجن النساء وكانت تقضي 15 سنة حكم عليها بها في فضيحة "لافون" ولكنها لم تكن في سجن ... فستانها الهفهاف وشعرها المرسل وحذاءها العالي وحركتها بين سجن النساء وسجن الرجال ومكتب المدير المفتوح لها دائما (....) مارس يل اليهود ية أيضا لم تكن حبيسة زنزانة ولم تلبس ملابس السجن ولم يقفل في وجهها باب السيد المدير ... !! أما الإخوان فقد ألبسوهم الأسمال البالية ... حفاة ... جياعا ... تنهال عليهم السياط صباح ومساء ... بلا رحمة ولا شفقة".

يا إلهي!!

راشيل؟؟

فايقة مصراتي؟

يهود فضيحة لافون؟! .. وعزام عزام؟!

وفاء قسطنطين؟!

الانبهار ثم الانهيار أمام كل دين غير الإسلام والبطش كل البطش بالإسلام.

التعامل الوحشي المتغطرس مع طلاب الأزهر في كارثة: "وليمة لأعشاب البحر" والخنوع حتى التذلل وتسول الصفح في قضية الراهب المشلوح وقضايا أخرى!!

يا إلهي!

هل يحتاج اللغز إلى نصف قرن كي يحل؟!

وهل تحتاج الومضة إلى خمسين عاما كي تضيء؟!

لقد كان سعد زغلول وحكومات الوفد .. وحتى حكومات الأقلية قبل الثورة حكومات علمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة ...دعنا من رأي الإسلام في العلمانية في أي صورة من صورها ... وهو معروف ومشهور .. لكن تلك ليست قضيتنا في اللحظة الراهنة ...فضيتنا هي الفرق بين علمانية الوفد وعلمانية الثورة كمثل وكنموذج للعالم العربي والإسلامي ...قبل الثورة كانت الحكومات علمانية لا فرق عندها بين دين ودين ...بعد الثورة ... لم تكن الحكومات – كلها – كما خدعنا وظننا حكومات علمانية ... نعم ... لم تكن كل تلك الحكومات علمانية كما ظننا.

نعم ...يا إلهي !!لم تكن علمانية ...ولم تكن ضد الدين ...كلها ... لا فرق بين حكومة وحكومة .. ولا بين بلد وبلد ... فكلنا في الهم شرق كانت – وما زالت – ضد الإسلام فقط ...ضد الإسلام فقط ...ضد الإسلام فقط ... أما علاقتها باليهود ية والمسيحية ... وحتى البوذية فليست علاقة حياد ولا علاقة فصل، بل علاقة خنوع وركوع ومذلة واتباع ...ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!

الباب العاشر: موتي يا أمة ... موتي!!

شهادات حرة للشرطة عن المذبحة   قلب مكسور، وجرح مفغور، وذنب أمة أخشى أن يكون غير مغفور، وعقل مهدر، وخطايا بلا مبرر وبلا استغفار وبلا توبة، ونار ليست سلاما، وطوفان بغير سفينة نوح، وردة لا أبا بكر لها، وفتنة بلا عمر، وصليبيون دون صلاح الدين، وتتار دون قطز، وخونة يبرئهم قضاة النار ويلبسونهم ملابس الأبطال، ودعار يضعون شروط العفة ويدعون براءة الأطفال، ومزورون يشرفون على صندوق الانتخاب، وزنادقة يحددون شروط الإيمان، وعهار يدرسون الأخلاق، وطواغيت جعلوا من أنفسهم حراسا على الحرية، ومجالس أمة دونها مجالس الشيطان، وصحف بزت مسيلمة، وكذب ليس له في التاريخ مثيل، وخسة ليس لها في العالم نظير، فأنساها نفسها وسلط عليها من الطواغيت مثل أولئك الذين تسلطوا عليها.

ربما كانت فكرة خطأ الحكام مقبولة منذ خمسة قرون، أو من قرن، أو حتى من نصف قرن، لكنه بعد ذلك كله يصبح وزر أمة تستحق الاستبدال .. أمة أعطاها الله فما شكرت ولا عملت ... وبارك الله لها في نسلها وحرثها وما لها فضيعته كله لم يبق لها إلا الهباء والذل والعار ... أمة كانت تستطيع أن تقوم حكامها ولو بالسيف لكنها استنامت للباطل فقادها حكامها للذل والعار والخراب والدمار ... لست أقصد حاكما بعينه ... وسبق أن نبهت أنني أظن أن واحدا كسعد زغلول لم يكن خطره على الإسلام والمسلمين أقل من عبد الناصر ... ذلك أن قسوة عبد الناصر وجبروته وهزائمه المروعة أفقدت تجربته معظم سحرها وحرمتها القدرة على مزيد من الغواية، بينما سعد زغلول استمر حتى اليوم يقدم ملامح تجربة تغري البعض بالتكرار.

وطوال هذه الحلقات المتطاولة الممتدة أحذر القارئ وأنبهه أنني لا أكتبها انتقاصا من الفكر القومي أو هجوما على الاتجاه الناصري انتصارا لحكم آخر أو لشخص آخر ... ولو أنني فعلت ذلك لكنت كذلك الذي يدعو قومه إلى الكفر باللات والإيمان بالعزى ... أو إلى الكفر باللات والعزى والإيمان بهبل!!

وأصل المسألة ورأس المشكلة ليس صراعا سياسيا بين هذا ولا ذاك هو الصراع بين الإيمان والكفر ...أصل المسألة هو الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا ... وكلمة الذين كفروا هي السفلى ...أصل المسألة قضية قديمة قديمة قديمة أحسب أنها جوهر الابتلاء البشري كله وربما سبب وجوده .. قضية فلسفية ...أصل المسألة قضية مبدأ الوجود والكون: هل المادة هي العلة الأولى لذاتها؟

لن نسأل الآن عن الإنسان مم خلق ولا لماذا خلق ولن نتطرق إلى غاية الوجود .. إنما نسأل فقط عن النقطة الأولى ..هل المادة هي نقطة البدء ..؟ .. هل هذا الوجود أزلي وجد قبل اللانهاية مستديم لبعد النهاية دون خالق ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب ولا غيب ولا ملائكة ولا رسل؟ ... أم أن المادة نفسها لم تتكون إلا طبقا لأوامر إرادة كما يقول مالك بن نبي في كتابه الهائل: الظاهرة القرآنية (الهيئة العامة لقصور الثقافة) ... حيث تحل الإرادة الإلهية محل الصدفة في المذهب المادي ... والأمر هنا لا يعود إلى الموازنة بين نوعين من العلم أو الفلسفة، بل يعود إلى الصراع بين عقيدتين، عقيدة تؤله المادة وأخرى ترجع كل شيء إلى الله سبحانه وتعالى ... لقد كانت قضية تأليه المادة هي النبع الشيطاني لأفكار الكفر التي ترعرعت في القرن الثامن عشر والذي يليه .. أما بداياتها فقد كانت أبعد من ذلك بكثير.

لقد ضم ملاحدة الغرب الدين إلى الخرافات والأساطير ... وهؤلاء يرون أنه لا وجود لشيء خارج نطاق الحواس الخمس: ما تراه العين وتسمعه الأذن وتشمه الأنف ويتذوقه اللسان ويحسه الجلد، ويضاف إليه البديهيات المجردة التي يستنبطها العقل من المعلومات التي تلتقطها الحواس الخمس ولا شيء سواها.

ولقد تمخض الفكر المادي فولد العلمانية والحداثة وما بعد الحداثة والماركسية والاشتراكية والقومية والرومانسية (التي أبطلت عبادة الله لتحل محلها عبادة الحبيب).

وخلاصة القول أن القومية تنتمي لهذا الفكر اللاديني ...وبصورة أوضح: الفكر الإلحادي ...ليس للدين في القومية أي مرجعية أو احترام .. بل هو يمثل الرجعية والجمود والتخلف وعصور الظلام – مقابل التنوير العلماني الصليبي – وفقه البداوة سيادة الجهل وسيطرة الخرافة .. وسوف يكون الإيمان بالغيب قريبا للخرافة ... والإيمان بالبعث دليلا على انهيار ملكات العقل ...هذا كله يؤدي بالفكر القومي إلى عزل الدين عن الدولة كحل مؤقت، إلى أن يتم تنوير الناس وإخراجهم من الإسلام وهدايتهم إلى الكف!!

هذه هي القاعدة الفكرية للعلمانية وللقومية ...هذه هي القاعدة الفكرية التي موهها علينا كلاب النار من العلمانيين والماركسيين والقوميين الذين تجمعوا كلهم على قلب رجل واحد ليعيدوا الصنم الأمريكي ...أتأمل فأصرخ .. ما كان لنا أن ننخدع ولا أن تضلنا الغواية أو ينطلي علينا التمويه.

أتأمل فيغرقني الخزي والعار ...خزي وعار بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن الأمة ..ز أتأمل في كتابات العلامة الأستاذ محمد قطب .. وأكاد أصرخ:

لم يكن لي وللأمة أي عذر في الوقوع في الخطأ وارتكاب كبيرة أن تخدع ..نعم ... ما كان لنا أن نخدع .. كانت الحقائق واضحة وجلية ... وكان علينا أن نتعرف على أتاتورك الثاني بسمات أتاتورك الأول ..يصف العلامة محمد قطب بعض ما كان منذ انضمام التنويريين إلى عميل المخابرات البريطانية لورانس والثورة على استبداد العثمانيين ومظالمهم ... ولقد كان هناك بالفعل ما يشتكي منه من الحكم العثماني ... وما يحتاج إلى تصحيح ... وبدلا من أن يساعد التنويريون على التصحيح ساعدوا الصليبيين على استبدال الاستعمار البريطاني والفرنسي بالحكم العثماني حيث حمل الاستعمار للمسلمين الإذلال وتذويب الشخصية عن طريق الغزو الفكري والتغريب، وإشعار العرب بالدونية، فضلا عن احتضان الأقليات التي لم يكن لها كيان ظاهر من قبل، وتكبيرها، والنفخ فيها، وتسويدها على الأكثرية العربية المسلمة، زيادة في الإذلال.

وبالرغم من أننا هجرنا الإسلام لمصلحة القومية والقطرية والتقدم والتنوير إلا أن محمد قطب يلاحظ أن الاستعمار بدلا من وفائه بالعهود فعل العكس، فقد قامت الصليبية والصهيونية العالمية برعاية العديد من الانقلابات العسكرية التي أزاحت الحكام الذين بذلت لهم الوعود وأبرمت معهم المواثيق والعهود، ليأتي حكام لم تبرم معهم عقود ولم تبذل لهم عهود، انقلابات عسكرية تذهب بحكومات دائنة لتأتي بحكومات مدينة ... (دائنة لأنها ساعدت المستعمر وتطلب الثمن لنفسها أو للوطن ... ومدينة لأن الاستعمار هو الذي ساعدها حين أتى بها) ... فالأولى تطلب الثمن والثانية تدفع الثمن.

يقول الأستاذ محمد قطب :

"كانت الانقلابات العسكرية نوعا من العسف لا شبيه له في طغيانه وجبروته وبشاعة جرائمه في الأنفس والأموال ... وما ارتكب في سجونهم ومعتقلاتهم من أنواع التعذيب الوحشي أهوال تقشعر الأبدان من سماعها فضلا عن وقوعها على الذين وقعت عليهم بالفعل .. وحشية يتعفف عنها الوحش ذاته ... فالوحش يفعل ما يفعل بفريسته ليأكل، لا لينقم، ولا ليتلذذ بإيلام الفريسة ... أما هذه الوحوش الآدمية فقد كانت فعل ما تفعل لشهوة الانتقام، وتلذذ برؤية الألم الوحشي ينزل بأجساد المعذبين، وتصل نشوتهم إلى قمتها إذا وصل التعذيب إلى الإهلاك.

ما يتكشف الآن بعد نصف قرن أن المقصود كان بند المؤامرة الرئيسي ..ز ألا وهو إخراج الإسلام والمسلمين من المعركة ضد الصليبية الصهيونية ...كانوا يعرفون أن الاتجاهات الأخرى – بنات سفاحهم – كالقومية والعلمانية وحتى الماركسية ستغير توجهها كله في اللحظة الملائمة لتكون خدا للصليبية والصهيونية ... كان الإسلام وحده هو العصي على التطويع ... وكذلك المسلمون.

يواصل العلامة أطال الله عمره:

"لم تكن تجربة الانقلابات العسكرية في حرب الإسلام جديدة تماما بالنسبة للاعبين الجدد في المنطقة .. فقد سبقتها التجربة التركية على يد أتاتورك، وكان المدير الحقيقي لها هو اليهود ية العالمية، لإزالة الدولة الإسلامية التي ترفض بإصرار إعطاء اليهود وطنا قوميا (...) قام أتاتورك – بالدور المطلوب تماما، فلم يكتف بإزالة دولة الخلافة العقبة القائمة يومئذ في وجه إقامة الدولة اليهود ية في فلسطين بل نكل بالمسلمين تنكيلا وحشيا فقتل منهم عشرات الألوف، من علماء الدين ون المتمسكين بالدين عامة (....) كانت تلك التجربة في الحقيقة هي "الرصيد" الذي رجعت إليه الصليبية الصهيونية وهي تخطط لحرب الإسلام في المنطقة، والذي أقامت على منواله "أتاتورك" آخر، هو جمال عبد الناصر ، ليقوم بنفس الدور ... ولنفس الأهداف ... وإن اختلفت الوسائل بعض الشيء ما بين أتاتورك الأول، وأتاتورك الجديد.

تميز هذا العهد بالعنف الإجرامي في محاولة القضاء على الحركة الإسلامية، والمذابح الوحشية، وفنون التعذيب البربرية التي تعرض لها المسلمون بالجملة، مما لا مثيل له في التاريخ كله، إلا ما حدث من محاكم التفتيش في الأندلس للقضاء النهائي على الإسلام هناك ..ز وقد كان اختيار "العساكر" حكاما في المنطقة مقصودا لهذا الأمر بالذات، قبل أي شيء آخر، كما كان المقصود منه كذلك إخضاع شعوب المنطقة بالقوة الإرهابية لتقبل الصلح مع إسرائيل ... (...).

ثم ينبه العلامة محمد قطب إلى نقطة جوهرية بالغة الأهمية والخطورة حين يلاحظ أن كل ما حدث للإخوان المسلمين في عام 1954 وثيق الصلة بتقرير معاصر أعده "جونسون" المندوب الخاص للرئيس أيزنهاور في "الشرق الأوسط" المكلف ببحث القضية الفلسطينية وتقديم تقرير الرئيس أيزنهاور عن الحل الأمثل للقضية.

وقد قام "جونسون" بالمهمة التي كلف بها وكانت الجملة الختامية التي ختم بها تقريره تقول:

"ولكن طالما أن جماعة الإخوان المسلمين وهي جماعة قوية مسلحة متعصبة يبلغ تعدادها حوالي المليون في مصر والبلاد العربية الأخرى ... طالما أن هذه الجماعة باقية بقوتها فلن يمكن تنفيذ هذا الحل ولن تستقر الأمور في الشرق الأوسط!!"

وكان المعنى واضحا بكل تأكيد .. معناه: اقضوا لنا على هذه الجماعة لكي "يمكن تنفيذ هذا الحل ولكي تستقر الأمور في الشرق الأوسط!!".

ورفع التقرير في يونيو 1954 إلى الرئيس أيزنهاور فوافق عليه .. وأعطيت الإشارة لجمال عبد الناصر للتنفيذ. وتمت المذبحة البشعة على يد السفاح "البطل"!!

وقتل من قتل على حبل المشنقة أو على يد الزبانية في أثناء التعذيب.

جوهر ملاحظات الأستاذ محمد قطب هو ما تدور حوله مقالاتي منذ بدايتها وحتى نهايتها.

فقد كنت طوال الوقت أريد أن أبرهن أن ثورة 23 يوليو كانت حلقة من أخطر حلقات المؤامرة على العروبة والإسلام .. وأنه بدونها ما كان للأمر أن يصل بنا إلى ما وصلنا إليه.

المدهش أن بعضا منا ما يزال ينظر إلى هذا التفسير بار رغم أن هذا البعض يسلم تماما عندما نقول له إن مؤتمر بال الذي قرر فيه زعماء اليهود ضرورة إنشاء الدولة الصهيونية خلال خمسين عاما في فلسطين، كان حلقة من أخطر حلقات المؤامرة .. ولا يستطيع أولئك البعض أن يبرروا كيف يؤمنون بمؤامرة لا تقل خطورة غرست بذورها عام 1952 وآتت أكلها عام 2004 وكانت الثمار ثمار حنظل لها مرارة الصبار وطعم الذل والعار ومذاق السم.

إنني أكرر النذير والتذكير والتحذير أنني لا أكتب تاريخا ولا أدخل غمار معركة من عارك الأفاقين واللصوص والخونة الذين يسمون أنفسهم ساسة ولا السكيرين اللصوص الملحدين الذين يسمون أنفسهم قوميين أو ناصريين، ولا حتى للسذج المغفلين الذين لم يفهموا بعد أن الناصرية ضد الدين ... لكنني في نفس الوقت أحذر وأنذر من التحالف في أي معركة سياسية أو عسكرية مع من كانوا أصل الداء ومن هم جزء من المؤامرة، الذين تحولوا من حجر موسكو إلى حجر أمريكا وإسرائيل دون المرور بمصر.

يقول عبد العظيم رمضان عن تلك الفترة: "كان عبد الناصر يعمل وهو جالس على حجر أمريكا (...) وكانت أمريكا تؤيده " ... المرجع: ملفات ثورة يوليو – طارق حبيب – الناشر الأهرام.

وأذكر القارئ بما أقر به مصطفى خليل عن تابعين من توابع معركة 56: موافقة مصر على مرور البضائع الإسرائيلية في سفن غير إسرائيلية في قناة السويس وكذلك على فتح خليج العقبة أمام إسرائيل.

وأذكر القارئ باعترافات صلاح دسوقي عما أسر به عبد الناصر له من رغبته في التفاهم مع إسرائيل ... وكان هذا قبل تمثيلية المنشية، كما يقول طارق حبيب، وكما يؤكده أحمد حمروش ص 433 مؤكدا أن إسرائيل هي التي رفضت محاولات عبد الناصر – وقبله محمد نجيب – لعقد اتفاق!!

يكشف أحمد حمروش أيضا جزءا من الخدعة التي تعرضنا لها في إخراج وعرض صفقة الأسلحة التشيكية .. حيث صور لنا الإعلام الكذوب انهيار الغرب عندما فوجئ بها، حمروش يكشف لنا علم أمريكا بالصفقة قبل إبرامها بزمان طويل، وكان الذي أبلغهم بها هو جمال عبد الناصر شخصيا!! ... أحمد حمروش : قصة ثورة 23 يوليو 23 يوليو ص 437 ... ويكشف حمروش أيضا في ثنايا كتابه زيف دعاوى الإرهاب التي يتهمون بها الإخوان ... ويكاد لولا الشيطان أن يعترف بالحقيقة وأن يقر أنه جهاد لا إرهاب ... ولقد حاول اليسار الاستيلاء على جزء من إعجاب الأمة بجهاد الإخوان – إعجاب الأمة لا رضا الله فقاد كمال رفعت وحسن التهامي عملية نسف سفارة البرازيل، كما قادهما جمال عبد الناصر في محاولة اغتيال حسين سري عامر ... أما مجدي حسنين فقد قام بالهجوم على حارة اليهود ... وحرق مكتبا في شارع الجيش ... وفي عام 54 عرض أحد أعضاء مجلس القيادة اغتيال محمد نجيب ...ولاحظوا يا قراء أن أحدا لم يصف كل ذلك بأنه إرهاب .. حتى يكاد وصف الإرهاب يقتصر على الجهاد.

ولاحظوا يا قراء أن اتهامات الإرهاب التي تكال للإخوان المسلمين لا تلحق أعضاء أساسيين في تنظيم الإخوان وبالذات في التنظيم الخاص .. أشخاص كجمال عبد الناصر ... رغم أنه هو الذي كان يحضر لهم السلاح ويدربهم على استعماله.

يعترف أحمد حمروش بأن اللجنة التأسيسة للضباط الأحرار عام 49 كانت مكونة من خمسة أشخاص فقط ... كانوا كلهم أعضاء في الإخوان المسلمين ...!! هؤلاء الخمسة هم: جمال عبد الناصر وحسن إبراهيم وخالد محيي الدين وكال الدين حسين وعبد المنعم عبد الرءوف .. وكلهم كانوا أعضاء في التنظيم الخاص الذي عرف بعد ذلك بالسري كما يقول أحمد حمروش (ص 116 و 145) ... وكانوا قد تجاوزوا مرحلة الخضوع المطلق للإخوان المسلمين (نفسه ص ن ذلك بعد انتهاء حرب فلسطين بالهزيمة الساحقة وبعد استشهاد الإمام حسن البنا .

وبعد ذلك بقليل بدأت اتصالات الضباط الأحرار بالمخابرات المركزية الأمريكية التي كان من ضمن من تعتمد عليهم في ذلك الوقت محمد حسنين هيكل وضابط مخابرات مصري (نفسه ص 182) يتلو ذلك اعتراف شبه صريح من حمروش بالرعاية الأمريكية للثورة في ص 183 وما بعدها – أما ص 287 فإن حمروش يذكر فيها ما قاله عبد الناصر لآل سراج الدين في أبريل 54 من ضرورة الحك على فؤاد سراج الدين بالسجن وأنه يستعد للقضاء على الإخوان المسلمين ... وكان ذلك قبل فرية مؤامرة المنشية بشهور عديدة!!

لم يكن الأمر أيامها ولا هو الآن أمر إرهاب ...لم يكن كذلك .. فقد كان الذي يمارس الإرهاب أيامها جمال عبد الناصر وليس المسلمون ... كما أن الذي يمارس الإرهاب الآن هم الأمريكيون والصهاينة وليس المسلمون ... لم يكن الأمر أمر إرهاب (أولئك المتأسلمون الإرهابيون المتخلفون) كما يدعي القوميون اليوم في كبرياء صليبي وازدراء صهيوني رضعوه من الصليبيين والصهاينة ... لم يكن كذلك وإلا فليفسروا لنا ما ذكره حمروش في ص 310 من خطبة عبد الناصر أمام ضريح الإمام الشهيد حسن البنا في 12 فبراير 1954 "أشهد الله أني أعمل وكنت أعمل لتنفيذ هذه المبادئ وأفنى فيها وأجاهد في سبيلها".

وليفسر لنا أحد ما ذكره حمروش ص 303 عن ذهاب عبد الناصر وكمال الدين حسين إلى حسن عشماوي وصالح أبو رقيق عضوي مجلس الإرشاد لإبلاغهما بموعد الحركة ليقوم الإخوان بدورهم في حماية المنشآت وطريق السويس ليلة قيام الثورة ...كانوا أبطالا مجاهدين ولم يكونوا إرهابيين ...وليجبنا أحد:

إذا كانوا إرهابيين ن أجل قضية الخازندار فمن الذي أصدر عفوا خاصا عن قتلة الخازندار في 11 أكتوبر 1952.

ومن الذي حاكم قتلة الإمام الشهيد حسن البنا بعد حفظ القضية ...ثم من الذي أفرج عن الجناة بعد الصدام مع الإخوان ... وبعد أن تم تحويل القضية إلى دمية في يد الثوار الأحرار الذين كانوا بدورهم دمى في يد الماسون الأحرار والصليبيين الأحرار.

وكما اتهموا الإخوان زورا بالإرهاب اتهموهم بالتخلف والرجعية والإيمان بالغيب وتحضير العفاريت ... ولاحظ الخلط الشيطاني بين الصواب والخطأ.

سوف يتهمون الإخوان بعقد جلسات لتحضير العفاريت ...وبعد أن ينتهي المطلوب من فرية تحضير العفاريت ضد الإخوان ستستعمل نفس الفرية مرة أخرى ... سوف يستعملها هيكل شخصيا أيام شهر عسله مع السادات ضد إخوانه الناصريين – مراكز القوى ومعهم قائد الجيش محمد فوزي – حين يتهمهم بتحضير الأرواح والعفاريت ... لكنه أي هيكل شخصيا – سيتجاهل تماما شهادات ثروت عكاشة وأحمد حمروش ومجدي حسنين ، فكل أولئك يبرءون الإخوان من تلك الجلسات مؤكدين أن مجموعة تحضير الأرواح كانت تضم، جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وثروت عكاشة وخالد محيي الدين ومجدي حسنين !!

هكذا يكتبون التاريخ ويشوهون الخصوم ويلفقون التهم ...لم يكن الأمر أمر إرهاب إذن فقد كانوا هم الإرهابيين ... ولم يكن أمر تخلف وإيمان بالأساطير فقد كانوا هم المتخلفين ...ولكنه كان دورا أنيط بهم وطلب منهم القيام به فقاموا ... حتى ولو لم يكن بعضهم ... أو حتى جلهم يعلم ..يا إلهي ..لقد ابتلع الكثيرون الطعم الذي ادعى ذات يوم أن عبد الناصر ليس مسئولا عمن جاءوا بعده فقد كانوا في الواقع انقلابا عليه لا استمرارا في مساره ...وكانت تلك غواية دفعت الأمة وما زالت ثمن التورط فيها ...من الذي حول التعذيب من وضع استثنائي يستتر مرتكبه استتار المجرمين مقترفي الفضائح الذين يجلبون على أنفسهم ونظمهم العار إلى منهج رسمي أو شبه رسمي ... من الذي جعل من تزوير الانتخابات السبيل الوحيد إلى السلطة.

من الذي حول الصحافة والإعلام جلها وكله – إلى شهود زور؟!

من الذي وضع مسخ المحاكم الاستثنائية والعسكرية؟ ... ثم تدخل الدولة في القضاء والتي أسفرت عما يصفه شيخ القضاة وضميرهم المستشار يحيى الرفاعي بالوضع الكارثي للقضاء.

من الذي أنشأ القطاع العام على أسس فاسدة لينهار كله مخلفا خرابا هائلا أثناء عملية نزح الثروة من طبقة الباشوات إلى طبقة السوير باشوات (اللصوص الأحرار والحزب الحاكم؟)

من الذي قضى على حمية الناس الذين كانوا يغيرون الوزارات بمظاهراتهم؟

من الذي أفسد التعليم بادعاء مجانيته وهو في الواقع جهل باهظ التكاليف؟

(كانت الشهادات المصرية معترفا بها في العالم كله ... والآن أصبحت حتى الدول العربية لا تعترف بها). من ذا الذي أفسد الجيش حتى حدث ما حدث عام 67 وما يزال؟

من ذا الذي أفسد الشرطة أكثر مما كان فسادها لتتحول إلى قطاعات أشد إجراما من أعتى العصابات؟

من الذي مهد لسيطرة الأمن على كل شبر من الوطن وإفساده بالتالي لكل شبر من الوطن؟

من الذي حول النيابة إلى قطاعات أشد سوءا من رجال الأمن؟

من الذي جعل القضاء يكرس كل هذا ... (في حكم أخير كان القاضي يهدر دفاع متهم بأن اتهاماته تمت تحت التعذيب، بحجة أنه كتب إقرار للنيابة أنه لم يتعرض للتعذيب، وتجاهل القاضي – قاضي النار – أن الإقرار بعدم التعذيب تم تحت التعذيب)...من الذي جعل علماء الدين سوء؟ وفقهاء الرحمن فقهاء شيطان؟

من الذي سلب الشعب رجولته ونخوته وقدرته على قول لا؟

من ذا الذي جعلنا نبدد ولا نصون؟ ... من ذا الذي أوصلنا في النهاية إلى العجز حتى عن التهديد ... من ذا الذي جعلنا نهون؟

من الذي جعل الحفاظ على النظام لا على الوطن هدف الدولة؟

من ؟

من؟

من؟

من؟

أنا أجيبكم.

الذي فعل ذلك كله هو سفاح 54 وسفاح 57 وسفاح 65 لقد كانت مذبحة طرة ذات تأثير بالغ في وجداني ... لأنه حتى الشيطان لا يستطيع أن يجد لها أي مبرر ...يستطيع الشيطان أن يدعي فرية المنشية عام 54 كمبرر لسحق الإخوان ...ويستطيع عام 65 أن يفعل نفس الشيء ... باستخدام فرية المؤامرة حتى وإن صحت.

لكن ماذا يمكن للشيطان أن يقول عام 57 عن ضحاياه الذين كانوا جميعا في قبضته.

إنني أقصد الشيطان فعلا ... وإن كنت أقصد أيضا أن جمال سالم وآخرين من الضباط الأحرار قد سمى جمال عبد الناصر : الشيطان!!

ماذا يمكن أن يقال في مذبحة طرة .. سوى أنها كانت تستهدف السحق الكامل لبقايا الإخوان ... سحق الإبادة والإخراج من معركة كانت الصليبية والصهيونية تدرك أن رحاها ستنفجر بعد نصف قرن ...يا لها من حماقة عندما يستنكر البعض ذلك وكأنما تفعل أمريكا ما تفعله الآن دون تخطيط مسبق ...ولقد تنبأ الشهيد الغالي سيد قطب بذلك كله ... ونحن نستطيع أن نفهم الآن بعد نصف قرن أن الهدف من ذلك كان واضحا ومحددا: ألا وهو إخراج الإسلام والمسلمين من المعركة بين المؤمنين والكفار ... وهي معركة تدور ضد الغاصب على أرضنا لا على أرضه ... إنها جهاد دفع لا جهاد طلب.

نعم ...تمت مذبحة طرة للقضاء بالرعب كما بالقتل على بقايا أي فكرة جهادية عند المسلمين.

نعود إلى الأستاذ جابر رزق في شهادة شهوده ...نعود إليه مع عبد الغفار السيد لنقرأ في شهادته تفاصيل جديدة عن التعذيب والتلفيق والتزوير والخسة والبشاعة والوحشية والكذب والاختلاق ... تفاصيل نواجه بها الأشرار والأقذار من الكتاب العلمانيين الذين يواجهوننا في منتهى الصفاقة:

هذه هي اعترافاتهم بتوقيعاتهم ..

يقول عبد الغفار السيد:

التحقيقات كانت يوميا وأثناء الليل ورأيت فيها كل ألوان التعذيب ..ز الضرب بالكرباج .. الشلح على العروسة الخشبية ... السير بالأحذية الميري على أجساد الإخوان وهم راقدون على الأرض.

وفي بداية التحقيق نزعوا عني كل ملابسي ولم يبقوا علي إلا سروالي .. بدءوا يسألوني ... وعندما لم أجبهم بما يريدون قالواعني إنني بتلائم عليهم .. فقال أحدهم:

خذوه ... عشرة!

أخذني "أمين" (وهو شبيه بصفوت الروبي الذي سيظهر فيما بعد) ... وأخذ يضربني بالكرباج: ... واحد ... اثنين ... ثلاثة ... أربعة .. عشرة ...وهو بعد ..حتى إذا ما صدرت أية آهة .. يبدأ العد من جديد ...واحد ... اثنين ... ثلاثة ... أربعة ...وهكذا كلما تأوهت أو استغثت ... يبدأ العد من جديد ... وهكذا حتى انتهى التحقيق معي ..وعند تسليمنا الادعاءات أعطوا كل واحد منا "علقة" حتى يقهرونا على التوقيع بأن هذه الأقوال أقوالنا.

كانت هذه طريقة الحصول على الاعترافات التي يواجهنا بها وحوش بشرية من أمثال قضاة النار وكلاب جهنم وكتاب ومفكرون وجلادون كرفعت السعيد وشمس بدران وصلاح عيسى وعبد العظيم رمضان واللواء فؤاد علام الذي طالما ارتكب مثل هذه الجرائم ... ليظهر على شاشات الفضائيات ساخرا مستهجنا ادعاءات الذين يتحدثون عن التعذيب.

كان عبد الغفار السيد هو صاحب قصة الاشتباك مع المجرم عبد الله ماهر والذي ورد ذكره قبل ذلك. يضيف شاهدنا بعض التفاصيل عن خسة الحكم وتشفيه وانتقامه خاصة من كبار السن الذين كانوا أصدقاء شخصيين لعبد الناصر مثل الأستاذ منير الدلة عليه رحمة الله ... (هل تذكر أيها القارئ كتاب روكس معكرون ... والمنفاخ؟!) وكان ذلك بإرغامهم على حمل ما لا يطيقون من الحجارة في الجبل ومنع الشباب من مساعدتهم.

لدينا الآن شاهد بالغ الأهمية ... وتنبع أهميته بأنه رجل شرطة .... وصل إلى رتبة اللواء ... وهي رتبة لا تؤمنه بقدر ما تهدده، ولعل القراء يتذكرون ما حدث للواء محمد إمام عندما اصطدم بالطواغيت فقتلوه وابنه ... وثمة لواء آخر، أعرفه شخصيا، شهد شهادة حق أقل خطورة بكثير من شهادة اللواء مجيد الخولي، ومع ذلك، أحالوه للاستيداع، وهددوه بقتل أبنائه إن واصل شهادته.

علينا إذن أن نستقبل شهادة اللواء مجيد الخولي بما تستحقه من احتفال، فهي شهادة كان يمكن أن يدفع فيها حياته، فضلا عن ذلك كله فقد كان اللواء مجيد الخولي شاهد عيان.

يؤكد اللواء مجيد الخولي أن المذبحة كانت جريمة مدبرة، شارك في ارتكابها بعض الضباط والجنود، رغما علمهم أن ما أقدموا عليه كان جريمة قتل وحشية.

كان مجيد الخولي ضابطا في ليمان طرة، وقد هاله كم الاستفزاز والظلم والافتراء التي يتعرض لها الإخوان المسلمين ... وقد رآهم الرجل على عسك ما روجت أجهزة إعلام الطاغوت ... يقول اللواء بالنص:

(كانت هذه المجموعة تضم صفوة الشباب المؤمنين، وكان إيمانهم تجسيدا وتطبيقا عمليا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل" ... وكانوا يلتزمون بما يصدر إليهم من تعليمات مهما بلغ شططها وذلك في هدوء دون مناقشة، وكانوا هادئي الطبع لا يتكلمون إلا همسا، ولا يرتفع لهم صوت مهما حاق بهم، ولا يصدر عن أي منهم لفظ جارح أو ما يسيء إلى الغير أو ما يسبب إثارة المشاكل مع إدارة السجن وكانوا موضع احترام وحب الجميع من ضباط وحراس وأطباء ومسجونين، وهم بالإضافة إلى ذلك منهم المثقفون من الأطباء والمهندسين، ومنهم الطلبة في المراحل النهائية من التعليم الجامعي الرفيع الشأن).

عندما تولى مجيد الخولي شئون الإخوان توقفت المشاكل تماما فقد كانوا يلتزمون بكل ما يتفق عليه، لكنه يفاجأ بإبعاده عنهم وإسناده مسئولية متابعتهم إلى ضباط عرفت عنهم الشراسة وسوء السلوك.

يقول اللواء مجيد الخولي:

وفي أحد الأيام، وكنت بمكتبي المجاور لمكان الزيارة، سمعت ضجة وصراخا صادرين من مكان الزيارة وتبين أن أحد الضباط (ب) تدخل في الإشراف على الزيارة – دون أن يكلفه أحد بذلك – ومع وجود الضابط المكلف أصلا بهذا العمل، وحاول وضع يده في صدر إحدى السيدات اللائي يزرن الإخوان مدعيا أنها تخفي شيئا حاولت تسليمه للمسجون – ولم يكتف بذلك، بل حرص الحراس على أعمال أثارت ثائرة المسجونين الإخوان، وحدثت مشادة بينهم وبين الضابط (ب) وانتهى الأمر بإنهاء الزيارة، ثم تطورت الأمور، وأخذت منزلقا آخر ينبئ بخطر يوشك أن يقع.

استمر الحال على هذا المنوال حتى كان يوم المذبحة البشعة (...) سمعت صوت مأمور أول الليمان يناديني ليخبرني بأنه هو الذي سيشرف على خروج مسجوني الإخوان (...) وكان قد أمر أثناء ذلك بإحضار فرقة الحلاقين، مع إعداد القيود الحديدية المخصصة لتقييد مجموعة كبيرة من المسجونين لدى نقلهم من سجن لآخر تلافيا لهربهم.

هنا تأكد لي أن الأمر أخطر مما تصورته، وتقدمت إليه أستوضحه الحقيقة، فأجابني بأنهم يدبرون للهروب من الجبل ... فقلت له على الفور "يا افندم الأفضل عدم خروجهم للعمل ... وفي هذا ضمان كاف للحيلولة بينهم وبين الهرب" .. ولم يكن مدير الليمان يتوقع هذا الرأي، لأن التعليمات تقضي فعلا بأن المسجونين الذين يخشى هروبهم، يمنعون من الخروج للعمل وتشدد الحراسة عليهم داخل السجن.

ويسأل مجيد الخولي فما علاقة الحلاقين بالأمر ولماذا شرعوا يحلقون لإخوانه شعرهم كنوع من التكدير والإهانة ... وتمت المذبحة (...)

حضر الأستاذ أحمد موافي رئيس النيابة ومعه فريق من وكلاء النيابة لمباشرة التحقيق ... وكان الضباط قد اتفقوا على الأقوال الملفقة التي سيدلون بها أمام النيابة منعا لأي تضارب بها وتم الاتفاق على أن تكون أقوال الجميع كالآتي:

ثمة معلومات وصلت إلى علم الإدارة بأن المسجونين الإخوان أعدوا العدة للخروج من بوابة الليمان فور فتح الليمان في الصباح ... هكذا ... وقد تمكنوا من الحصول على أحد مفاتيح الليمان، كما أنهم أعدوا علما يحمل شعارهم المعروف ليتقدمهم عند خروجهم من الليمان، وأنهم – أي الضباط والحراس – لما أرادوا تفتيش غرف المسجونين في الصباح، تصدى لهم المسجونون بالعنف رافضين إجراء التفتيش، مما اضطر القوة إلى استخدام السلاح دفاعا عن النفس".

ويسأل أحمد موافي مجيد الخولي عما حدث ... ويسرد الخولي إليه بوقائع المذبحة باختصار، وما تم عليه من اتفاق بخصوص الأقوال التي سيدلي بها في التحقيق ...

يقول اللواء مجيد الخولي:

طلبني السيد وكيل النيابة ... أدليت له بالحقيقة كاملة ... ثم بدأ بمعاينة موقع الجريمة حيث حشدت إدارة السجن كميات هائلة متنافرة من أشياء وادعت أن الإخوان استعملوها في العدوان على الضابط ... وأدرك وكيل النيابة الأمر فتساءل ساخرا:

وكيف سمحتم بوصول كل هذه الأشياء إليهم من الأصل؟

وخرجنا من العنبر، وتوجهنا إلى حيث توجد جثث القتلى، كانت ملقاة على الأرض عارية تماما في حر الشمس، وارتاع الرجل لما شاهده .. جثث محطمة الجماجم .. وأخرى مثل بها أبشع تمثيل نتيجة ضربها بالشوم .. ولم يعلق الرجل مكتفيا بتوجيه نظرة إلى الضباط ...وكانت التوجيهات الصادرة تقضي بتوصيل الجثث إلى المدافن مباشرة في الجهة التي تحددها أسرة القتيل لدفنها دون مراسم جنازة ... وتم ذلك فعلا ...

سأل وكيل النيابة:

هل يوجد بالليمان العصى الغليظة المسماة (الشوم)؟

فأوضحت له أن تلك العصي بطل استعمالها وهي محفوظة بالمخازن، طلب فتح المخازن لمناظرة العصي ... (...) وكانت المفاجأة التي لم أتوقعها ... العصي الغليظة (الشوم) التي استخدمت في المذبحة أعيدت إلى مكانها في المخازن وبعضها ملوث بالدماء ... وأمر وكيل النيابة بإرسالها إلى الطب الشرعي لتحليل ما عليها من آثار الدماء.

كان واضحا أن السيد وكيل النيابة ليس شخصا عاديا ...كان غاية في الذكاء، كان دقيقا جدا، وكان يبدو وكأنه قرأ وقائع المذبحة من مشاهدته لهذه العصي ... وبدأ السيد وكيل النيابة عمله بطل باستدعاء الضابط (ج) الذي كان مكلفا بقيادة القوة المنوط بها إطلاق النار، وحضر فعلا وبدأ استجوابه على النحو التالي:

سأله أولا عن معلوماته .. وكان يعلم مقدما أن إجابته ستكون هي نفس الإجابة التي قررها في التحقيق الذي أجري في الصباح ... واستمر في مناقشته بأسلوب أثار إعجابي، واستمرت المناقشة أكثر من ساعة تناولت موضوعات مختلفة، وكان واضحا أن السيد وكيل النيابة واثق من نفسه، ممسك بزمام الأمر، حتى وصل إلى بغيته من حيث فقدان الضابط لقدرته على الاستمرار على أقوال واحدة وبدأ في الإدلاء بالحقيقة كنت مشفقا على الضابط، إلى أن وصل التحقيق إلى نقطة معينة هي مربط الفرس ... وكانت الأسئلة على النحو التالي:

س: ما هو الأمر الصادر إلى سيادتك من مدير الليمان؟

ج: الأمر هو إطلاق النار في اتجاه سيقان مسجوني الإخوان.

س: ما هي الحالة التي كان عليها المسجونون وأفراد القوة من حراس وضباط الليمان وقت صدور أمرك بإطلاق النار؟

ج: كان الجميع في حالة اشتباك وتماسك.

س: هل كان في مقدور قوة إطلاق النار تنفيذ الأمر الصادر إليهم دون إصابة أفراد الحراس سيما وأنهم كما ذكرت كانوا في حالة تشابك؟

ملاحظة: في هذه اللحظة تصبب العرق على وجه الضابط، وتغير لونه ...واستمر وكيل النيابة في توجيه حديثه إلى الضابط:

س: يا حضرة الضابط بماذا تبرر إصابة المسجونين إصابات مباشرة في مواضع قاتلة ... وبعضهم تحطم جمجمته وتناثرت محتوياتها ... يا حضرة الضابط إذا كان الأمر صادرا باستعمال السلاح ضد المساجين خارج الغرف فبماذا تبرر وجود مسجونين داخل غرفهم مصابين ومقتولين نتيجة إصابتهم بطلقات نارية ... وهل كان مصرحا باستخدام دافع رشاشة مع استعمال البنادق .. يا حضرة الضابط هذه مذبحة ... هذه وحشية.

رد الضابط: إحنا كنا ثني دفاع شرعي.

س: دفاع شرعي ضد أناس عزل من السلاح ... دفاع شرعي لقتل مسجونين دخلوا الغرف فعلا؟ هل هذا يعقل ... ثم بماذا تبرر وجود كسور في أذرع بعض المسجوني؟

يواصل اللواء مجيد الخولي اعترافاته أو شهادته:

يحق للقارئ أن يتساءل عن نتيجة تحقيق الحادث: في زيارة للأستاذ أحمد موافي رحمه الله في منزله بالدقي كان طبيعيا أن أسأله عن هذا الموضوع، وأجاب:

بالنسبة لي كرئيس نيابة رفعت التحقيق إلى الأستاذ النائب العام بالنتيجة التي ترضي ضميري ... والواقع أنني أحسست من أول لحظة أن هناك تدبيرا لطمس معالم الجريمة ... ولكن التحقيق كشف كذب الكثيرين ...هذا ما قاله الرجل لي والله وحده يعلم نتيجة التحقيق ...ثمة لواء آخر يدلي لنا بشهادته التي عرفها من زملائه ومرءوسيه وهو اللواء عبد اللطيف راشد المحامي:

إلا أنه لم يطل عليهم – ضباط الليمان – موقف الخوف والفزع ... إذ دخل عليهم صلاح الدسوقي الششتاوي – الذي كان في ذلك الحين "أركان حرب وزارة الداخلية" – وشد على يد العقيد سيد والي وأشاد بموقفه مثنيا عليه ومهنئا، قائلا له بالحرف الواحد "أنا قلت يا أبو السيد ما فيش شخص يقدر يعمل هذا العمل العظيم إلا أنت، وليتك خلصتنا من الباقية" (...) وبعد أن قال صلاح الدسوقي ما قال أمام المحقق من رجال النيابة تحول التحقيق وجهة أخرى، لحفظ التحقيق وإهدار تلك الدماء ...وهكذا انتهت قضية مذبحة ليمان طرة ... انتهت في الظاهر فقط ... لكنها كانت كالنطفة الحرام التي تمخضت عن حمل سفاح لا يعد ولا يحصى ... بعد مخاض مروع رهيب امتد نصف قرن وما يزال ..فصل السودان عن مصر كان حمل سفاح ..سحق ثقافة الأمة ونشر ديماجوجية العسكر الشرسة وثقافتهم السطحية الجاهلة كانت حمل سفاح ..تخريب الوحدة كان حمل سفاح ..إهدار كرامة الناس كان حمل سفاح ..تدمير النيابة والقضاء كان حمل سفاح ..تدمير الجامعة كان حمل سفاح ..إيقاف المشروع النووي تزلفا لأمريكا كان حمل سفاح (كان ذلك لمن لا يعلم في الستينيات).

خفض الميزانية العسكرية في أول عام بعد الثورة وفي آخر عام قبل النكسة حمل سفاح.

هزيمة 67 كانت حمل سفاح

الالتهاب الكبدي الذي انتشر بسبب حقن الطرطير التي فرضتها الثورة بتقصير وجله – حمل سفاح ...تشرذم المسلمين وهوانهم على العالمين حمل سفاح ...تغول إسرائيل حمل سفاح ..تفرق العرب والمسلمين حمل سفاح ..وفي هذا كله كان للثورة الفضل الأول والأكبر ..وتصوروا لو أن عبد الناصر لم يحنث بقسمه وعهده للإخوان ولو أنه استغل عطش الأمة لبطل يقودها وينقذها من الهاوية للدفاع عن الأمة وعن الإسلام والمسلمين ...فقادها تحت راية الإسلام .. انتهت مذبحة طرة التي لا يذكرها ولا يستشهد بها من كلاب النار أحد ..انتهت ..انتهت بعد أن تحولت السجون إلى مجازر بشرية ليس لها قانون وليس فيها دين ولا ضمير ..انتهت بعد أن سبقنا جوانتانامو وأبي غريب.

انتهت وقد تحول الوحش الذي صيغ خصيصا للتعامل مع الإخوان المسلمين إلى وحش مطلق السراح بغض النظر عن هوية ضحاياه ..ولكي نثير بعض نخوة العلمانيين إن كانت لديهم نخوة أو لو كانوا بشرا، فإننا لن نحدثهم عن تعذيب الإخوان المسلمين بل عما حدث لسجين عادي في إجراء روتيني – وللقارئ أن يستثير خياله ليتصور إن كان هذا هو العادي فكيف يكون غير العادي.

نحدثهم عما كتبه سعد زهران (وهو من أهل الشمال: يساري) في كتابه: "الأوردي: مذكرات سجين" الصادر عن المركز الثقافي العربي (بيروت – الدار البيضاء) ... ويستعرض في بعض صفحاته نماذج التعذيب المروعة أو بداية الستينيات ... واقعة حقيقية بطلها الشاويش أمين تومرجي الأوردي، فذات ليلة اشتد المرض بأحد المسجونين فحضر الطبيب فوجده قد فارق الحياة فكتب محضرا بذلك، وترك للشاويش أمين أن يقوم بتشريح الجثة ... (لا يذكر سعد زهران إن كان المسجون سياسيا أم جنائيا) ...وفي اليوم التالي ... وصل الشاويش أمين إلى السجن في الصباح ليجد جثة السجين المتوفى تنتظر التشريح ... ولكن، يا للعجب، حين ضرب الشاويش أين المشرط في بطن المتوفى، بدأت الجثة تتحرك ... أدرك الشاويش بسرعة أن طبيب السجن أخطأ في تشخيص الحالة ... لم يكن السجين قد توفي وإنما كان في حالة غيبوبة شديدة بسبب المرض، فلما ضرب المشرط أحشاءه حركه الألم.

ولم يتردد الشاويش أمين لحظة، اتجهت يداه المهولتان بسرعة نحو عنق السجين وكتم أنفاسه حتى أجهز عليه هو يصيح بانفعال شديد:

ارقد يا ابن الكب! ... ارقد: الدكتور كتب في الأوراق الرسمية إنك مت ... موت يا ابن الكلب حا تعمل مشكلة للدكتور .. موت ... موت!!"

حدث هذا على مرأى ومسمع من اثنين من المسجونين العاديين ممن يعملون نوبتجية في مرافق السجن" (صفحة 161). انتهت القصة الفاجعة في كتاب سعد زهران.

وتجسدت الصور أمامي حتى كدت أراها ..كان القوميون والناصريون هم الطبيب والشاويش أمين في نفس الوقت .. وكان المريض هو الأمة ...وكان الطبيب قد أخطأ التشخيص طيلة خمسين عاما ... لكنه لم يجرؤ على مواجهة الخطأ ... فبادر بقتل المريض بدلا من أن يساعده على النجاة ... موت ..موت ...مت يا شعب وموتى يا أمة ... لقد سلطت أجهزة الدولة الرسمية على الأمة كل وسائل القهر والتزوير والتشهير والسحق والقتل ... وكان نصيب الإسلام والمسلمين من كل ذلك هو النصب الأوفى ..وكأن لسان حال هذه الأجهزة يقول:

لقد أقنعنا الغرب بسكون العين وبفتحها معا - بأننا قمنا بدورنا في القضاء على الإسلام ... وأننا ما دمنا نقوم بهذا الدور فإن استمرارنا في الحكم من حقنا ... فمن ذا الذي يريد أن يكتشف الغرب الآن أن الإسلام ما يزال حيا ...

فموتي يا أمة إذن ...

موتي يا أمة ..

موتي ...

موتي ...

أليس هذا ما تقوله أجهزة الدولة الرسمية للأمة منذ خمسين عاما؟!