الإخوان المسلمون والسلطة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون والسلطة الإمام البنا والانتخابات

باحث بموقع إخوان ويكي

موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)

توطئة

بعد تأكيد الإمام البنا أن السعي إلى السلطة وطلبها من أهداف الإخوان المسلمين وواجبهم تجاه دعوتهم، وأنه لا يكتمل إيمانهم بغير ذلك سبيلاً، وذلك ليس بدافع شخصي أو لتحقيق مكاسب مادية، بل لإقامة الوحدة الإسلامية، وتحكيم شريعة الله الغراء، نتوقف بالبحث عند الجانب التطبيقي لتلك الأقوال النظرية.

كان الإمام البنا يسعى للتغيير، ويخطو خطوات عملية في إقامة الحكم الإسلامي عن طريق العمل المجتمعي، وتهيئة قلوب الناس وعقولهم لقبول ذلك عن طريق التدرج الذي انتهجته الدعوة الإسلامية ابتداء، وكان الإمام البنا يحرص على قدسية الدعوة، وطهر الجماعة، وسمو الغاية من أن تنجرف لمعترك السياسة؛

لذلك كان من القواعد الأساسية التي قام عليها بناء الجماعة ألا يخترق صفوفها أو يسجل في أعضائها عظيم أو وجيه من الذين عرفوا بميولهم السياسية الخاصة أو نزعتهم الحزبية الحادة؛ حتى لا تكون الجماعة أداة حزب لتحقيق مغنم مادي أو كسب سياسي.

إلا أن قيام الحرب العالمية الثانية، وإعلان الأحكام العرفية على مصر، وفشل بريطانيا في كسب تأييد جماعة الإخوان لها في الحرب ضد قوات المحور كان خطًا فاصلاً في فكر الإمام البنا السياسي، حيث ازداد "ضغط الإنجليز على الحكومة المصرية فى وزارة حسين سرى باشا، وكان من نتائجه أن تعطلت اجتماعات الإخوان، وتوقفت نشاطهم، وروقبت دورهم، وغلقت صحفهم ومجلاتهم، ومنعت الجرائد جميعًا من أن تذكر اسمهم فى أية مناسبة، أو تشير إليهم بكلمة، وأغلقت مطبعتهم وضاعف الإنجليز ضغطهم، وضاعفت الحكومة شدتها". (1)

وتم نقل الإمام حسن البنا بقرار تعسفي إلى قنا في 19 مايو 1941م، ثم اعتقل الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للجماعة في أبريل 1941م، وتبعه اعتقال الأستاذ حسن البنا المرشد العام فور عودته من قنا، والأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة في 14 أكتوبر 1941م ليترافق ثلاثتهم في معتقل الزيتون.

الإنتخابات في فكر الإمام البنا

نتيجة لذلك فكر الإمام البنا في اتباع الطرق الشرعية القانونية في الدفاع عن الجماعة، وممارسة دورها في النور ووفق القانون دون تعسف أو تدخل من أحد.. فكر الإمام البنا في خوض تجربة الانتخابات البرلمانية؛ لأنه "المنبر الذى كانت تعلن فيه شكاية أهل الحق فى ذلك الوقت، وكانت الصحف لا تجرؤ حينذاك على التوقف عن نشر مضابطه، فكان ما ينشر من مناقشات المجلس هو البصيص الوحيد من النور الذى ينير الظلام أمام المكبوتين المضطهدين". (2)

ولما كان للبرلمان دوره في سن القوانين والتشريعات، وأهميته في تحقيق مصالح الأمة، ورعاية الدين وحفظ الشريعة وهي أهداف الإخوان كان لزامًا عليهم أن يشاركوا في اختيار ممثليهم؛ وقرر الإخوان وضع قرار المؤتمرون في المؤتمر الدوري السادس للإخوان المسلمين المنعقد في يناير عام 1941م بالإذن لمكتب الإرشاد بترشيح الأكفاء من الإخوان للهيئات النيابية المختلفة؛ لإبداء رأى الجماعة فيما يهم الدين والوطن موضع التنفيذ في أقرب فرصة.

أضف إلى ذلك أن دعوة الإخوان قد حققت تواجدًا ملحوظًا في القاعدة الشعبية في القرى والنجوع والمدن وبقى عليهم بعد ذلك "أن يصلوا بهذه الدعوة الكريمة إلى المحيط الرسمى، وأقرب طريق إليه "منبر البرلمان"؛

فكان لزامًا على الإخوان أن يزجوا بخطبائهم ودعاتهم إلى هذا المنبر؛ لتعلو من فوقه كلمة دعوتهم، وتصل إلى آذان ممثلى الأمة فى هذا النطاق الرسمى المحدود بعد أن انتشرت فوصلت إلى الأمة نفسها فى نطاقها الشعبى العام؛ ولهذا قرر مكتب الإرشاد العام أن يشترك الإخوان فى انتخابات مجلس النواب.

وإذن فهو موقف طبيعيى لا غبار عليه، فليس منبر البرلمان وقفًا على أصوات دعاة السياسة الحزبية على اختلاف ألوانها، ولكنه منبر الأمة تسمع من فوقه كل فكرة صالحة، ويصدر عنه كل توجيه سليم يعبر عن رغبات الشعب، أو يؤدى إلى توجيهه توجيهًا صالحًا نافعًا". (3)

وقد أوضح الإمام حسن البنا في رسالته: لماذا يشترك الإخوان في انتخابات مجلس النواب أهمية المشاركة وثمارها على الدعوة في حال النجاح أو عدم التوفيق، يقول الإمام حسن البنا: وسيفيد الإخوان من هذه الخطوة فوائد جليلة..

سيفيدون على أسوأ الفروض انتهاز هذه الفرصة لنشر الدعوة فى هذا المحيط الذى تعترك فيه الفكر، وتشتجر فيه الآراء، وما كان لدعوة الحق الكريم أن يخفت صوتها فى وقت تعلو فيه كل الأصوات، ويختلط فيه الحابل بالنابل, ولا قيام للباطل إلا فى غفلة الحق.

وسيفيدون بعد ذلك أن يفهم الناس أن دعوتهم لا تقف عند حدود الوعظ والخطابة، ولكنها تحاول أن تشق طريقها إلى المنابر والمجتمعات الرسمية، وأن على المؤمنين بهذه الدعوة أن يهيئوا أنفسهم لهذا الميدان، وأن يستعدوا لخوض غماره.

وسيفيدون إرشاد الناس إلى هذا المظهر الكريم من مظاهر التنافس الفاضل الشريف فى هذا الميدان، وهذه فوائد مقطوع بها مهما كانت النتيجة الانتخابية.

وسيفيد الإخوان بعد ذلك إذا قدر لهم النجاح وهو المأمول إن شاء الله هذه الصفة الرسمية لدعوتهم، وهذا التسجيل الرسمى لنجاحهم فى وصولها إلى آذان الشعب ومداركه.

وسيرى كثير من الناس فى هذا النجاح بوادر الأمل القوى فى نهضة جديدة وحياة جديدة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

سيخوض الإخوان هذه المعركة وعمادهم تأييد الله إياهم، ودعايتهم فكرتهم التى اختلطت بصميم نفوسهم وأرواحهم، وعدتهم إيمان أنصارهم بأحقية الفكرة بأن تقود الأمة وتهدى الناس سواء السبيل". (4)

تلك هي أهداف الإخوان وغاياتهم من المشاركة الانتخابية، وهم مستفيدون في كلا الحالتين لأنهم لا يطمحون إلى المنصب لذاته، ولكن لأنه وسيلة لغاية أسمى، فإذا تيسر السبيل لتلك الغاية من هذه الوسيلة أو غيرها فسيان ذلك.

الإمام البنا والإنتخابات البرلمانية 1942

وحان الوقت، فبعد حادث 4 فبراير عام 1942م تشكلت حكومة جديدة برئاسة النحاس باشا، وأقدم النحاس باشا على حل مجلس النواب، وفتح باب الترشيح لانتخابات جديدة، ورأى الإخوان أن الفرصة مواتية لتطبيق قرارهم السالف، ولكنهم مع ذلك كانوا حريصين أشد الحرص على ما أخذوا به أنفسهم من سنة التدرج فلم يتقدم منهم إلا المرشد العام، وفى دائرة الإسماعيلية بالذات التى كانت بصفة أعظم مهيئة لتلقى هذا الترشيح ومناصرته بكل سبيل، والأستاذ محمد عبد الرحمن نصير عن دائرة بنها.

لم تكن تلك أول مشاركة سياسية لجماعة الإخوان المسلمين؛ فقد حرص الإخوان على الإدلاء بأصواتهم في انتخابات مجلس النواب السابقة؛ لأن ذلك واجب ديني ووطنى على كل فرد، حيث صرح الإمام البنا أن "الصوت الانتخابي من حق الوطن، فلا يصح أن يتأخر قادرٌ عن إبداء صوته في قضية هي من أمس القضايا بالواجبات الوطنية، فاحرصوا على أداء الواجب، ولا تعطلوا أصواتكم ولا تهملوها". (5)

ولأن هناك دوائر شتى لم يترشح فيها الإخوان فقد قسم مكتب الإرشاد فى نشرته في مارس عام 1942 المرشحين إلى ثلاثة أنواع(6):

أولاً: من سيتقدمون على مبادئ الإخوان سافرة، وهؤلاء سيساعدهم المكتب بكل قواه، ويجب على كل أخ أن يساعدهم كذلك ما استطاع، والمعروف من هؤلاء الآن المرشد العام عن دائرة الإسماعيلية، والأستاذ محمد عبد الرحمن نصير عن دائرة بنها.
ثانيًا: من قدموا للإخوان خدمة سابقة، واتصلوا بالإخوان من قبل ثقة وثيقة، وبدا منهم حسن الاستعداد للفكرة الإسلامية، وهؤلاء سيناصرهم المكتب والإخوان أيًا كانت ألوانهم السياسية على أن تكون المناصرة بحكمة ولباقة، وهؤلاء لا يعرفون إلا بعد ظهور الترشيحات، وحينئذ سيرسم المكتب لكل دائرة طريق مناصرتها لمرشحها هذا.
ثالثًا: بقية النواب الذين لم تسبق للإخوان صلة بهم، وهؤلاء يناصر الإخوان منهم القوى المتدين الذى لا يجاهر بالعصيان، ويأخذون عليه العهد والموثق فى وضوح وصراحة أن يكون إلى جانب الفكرة الإسلامية، وأن يخدمها فى البرلمان، وسيكتب المكتب كذلك لكل دائرة عند ظهور الترشيحات بتوجيهاته المفصلة فى هذه الناحية.

وهكذا فإن الإخوان المسلمين يساندون كل من يدافع عن الفكرة الإسلامية ويمثلها أيًا كان انتماؤه السياسي، فهم يمدون يد العون للجميع لتحقيق الأهداف النبيلة، ولا يدخرون في ذلك جهدًا، وهم في ذلك يدعون إلى التعاون المشترك والائتلاف الوطني للوصول إلى التكامل، وتبني التوجهات السياسية التي تخدم الوطن، وتعلى من شأنه.

ومن ثم "تقدم الإمام حسن البنا بترشيح نفسه عن دائرة الإسماعيلية بناء على رغبة الإخوان؛ فمدينة الإسماعيلية مهد الدعوة الأول وذات مكانة خاصة لدى الإمام البنا، كما أن أهلها جميعًا مسلمين ومسيحيين يؤيدون الإمام البنا، وليس أدل على ذلك من أنهم ما أن علموا بنية الإمام البنا فى ترشيح نفسه حتى قاموا بدفع تأمين الترشيح له ليرشح نفسه نائبًا عنهم.

وقد نشرت مجلة "الإثنين" التى يرأس تحريرها مصطفى أمين تحت عنوان "مَنْ زعيم المعارضة فى البرلمان الجديد؟" فأجابت: "إنه حسن البنا؛ لأنه سينجح بلا منازع".

لكن هذه الفرحة وهذا الأمل لم يدوما طويلاً؛ فسرعان ما تبدد الأمل كأنه حلم، فلم يكن لقوى الشر أن تسمح له باعتلاء منصة مجلس النواب، وإبلاغ دعوتهم للعالم من فوق أعلى هيئة تشريعية في البلاد، ولذا فقد أسرع الإنجليز بمطالبة مصطفى النحاس بالضغط على الإخوان لإثناء الإمام البنا عن الترشيح بأي ثمن وإلا فسيتم إعلان الحرب على الإخوان بكل وسيلة، وذلك بعد أيام من ترشيح الإمام البنا، وعلى أثر ذلك أرسل النحاس باشا صهره عبد الواحد الوكيل يطلب منه مقابلته ليكون على بينة من أمر هذا الترشيح.

في هذه الفترة انتهز اللورد كيلرن وجود صديقه النحاس باشا فى الوزارة فطلب منه حل جمعية الإخوان المسلمين، وقد دهش النحاس لاهتمام الإنجليز بهذه الهيئة الناشئة، وتكرر طلب اللورد كيلرن، وفى هذه المرة أضاف طلبًا جديدًا؛ وهو الحيلولة دون فوز الإمام البنا فى دائرة الإسماعيلية التى يعسكر فيها قوات الإنجليز، وبعد هذا الإلحاح من السفير البريطانى استدعى النحاس باشا الإمام حسن البنا.

تنازل الإمام البنا عن الترشح للإنتخابات

تمت المقابلة بين الإمام البنا ومصطفى النحاس بفندق مينا هاوس، وصارح النحاسُ الأستاذ المرشد بحرج الموقف، وطلب منه التنازل عن الترشيح لمصلحته ومصلحة البلاد، لكن الإمام البنا رفض ذلك وأعلن أن هذا حق دستورى يكفله له القانون، وأن هذا هو قرار الإخوان ولا يستطيع هو بقرار فردى أن يعدل عن ذلك؛

لكن النحاس أكد للإمام البنا أن هذا الأمر خارج عن إرادته، وأن الإنجليز جادون فى تهديداتهم؛ فهم يستطيعون أن يدمروا البلد فى ساعتين، كما سيقومون بحل الجماعة ونفى زعمائها خارج القطر إذا لم يتم التنازل، وترك للإمام البنا التفكير فى هذا الأمر على أن تتم مقابلة أخرى فى هذا الشأن، وأن يتعهد النحاس باشا بتنفيذ ما يريده الإخوان فى مقابل ذلك التنازل.

وقد عرض المرشد الأمر على هيئة مكتب الإرشاد فلم توافق الأغلبية على التنازل، إلا أنه شخصيًّا وافق عليه، لا خوفًا من النفى ولكن حرصًا على قيام الجماعة واستمرارها فى تنفيذ أغراضها، ورعاية لمصلحة البلاد فى هذه الظروف الحرجة؛ فالإنجليز أَمْلَوا على الملك إقالة على ماهر رئيس الحكومة السابق حين أعلن حياد مصر فى الحرب خلافًا لرغبة الإنجليز، كما أجبروا الملك على تكليف النحاس رئاسة الوزارة تحت ضغط القوة، فلا توجد قوة فى البلاد تستطيع مجابهة الإنجليز، فضلاً عن تهديدهم بتدمير البلاد، وأخيرًا استقر رأى الإمام البنا على التنازل.

وتوجه الإمام البنا مرة أخرى لمقابلة النحاس بوساطة سليم بك زكى الذى أوضح للنحاس مدى انتشار دعوة الإخوان فى المدن والأقاليم، وقد أعلن الإمام البنا تنازله أمام النحاس، ولكن فى مقابل أن يترك للجماعة حرية مزاولة نشاطها بعودة الصحيفة والمطبعة، وتم الاتفاق على أمور كان من بينها:

  1. إحياء الأعياد الإسلامية لا سيما مولد النبى، وجعله عيدًا رسميًّا للدولة، وقد أصدر رئيس الحكومة حديثًا مستفيضًا تحية لهذه الذكرى الكريمة.
  2. إلغاء البغاء فى كافة أنحاء البلاد.
  3. إصدار قانون بوجوب استعمال اللغة العربية فى تعامل جميع الشركات والمؤسسات ومراسلاتها.
  4. تحريم الخمر.
  5. بذل جهد مشكور فى وضع أساس إنشاء الجامعة العربية.

وقد تعهد النحاس بالنهوض بهذه المطالب، ولكن ما تم تنفيذه هو إلغاء البغاء فى القرى، وتحريم الخمر فى المناسبات الإسلامية.

وقد كتب الإمام برقية بإعلان تنازله عن الانتخابات، لكن النحاس رفض ذلك، وطالب البنا أن يشير فى بيان تنازله إلى الجهد الذى بذله رئيس الحكومة لإقناعه بالتنازل وذلك مراضاة للإنجليز، فذكر الإمام ذلك حتى لا يخسر النحاس ويفوت الفرصة على الإنجليز ولكنه لم يخالف مبادئه، وكتب "إلى دولة وزير الداخلية نظرًا لظروف خارجة عن إرادتى أعلن تنازلى عن الترشيح فى دائرة الإسماعيلية". (7)

يقول الإمام البنا معلقًا ومبررًا لذلك التنازل:

" وقد انتهى هذا الدور الانتخابى بما تعلمون من تنازلى عن الترشيح بناء على محاولات رئيس الحكومة رفعة النحاس باشا الذى صرح بأنه أمام تبليغ من الإنجليز فإما التنازل وإما إعلان الحرب على الإخوان المسلمين بكل وسيلة فى الوقت الذى كنا نحن أحرص ما نكون على ألا نصطدم بقوة مصرية لتستفيد من هذا الاصطدام الدسائس الإنجليزية، وكنا نعمل جاهدين على ادخار هذه القوى جميعًا، وعدم تعريضها للضياع والتفريق إبان الحرب؛ لتعمل متكاتفة حين تنتهى، ويجىء الوقت المناسب فى سبيل الوطن والأمة والإسلام وبهذا التنازل تفادينا هذا الاصطدام فعلاً، وتمكنا من السير بالدعوة فى طريقها المرسوم رغم ما تجدد بعد ذلك من عقبات". (8)

فكانت الانتخابات وسيلة لتحقيق تلك الغايات الإسلامية التي تبدو للعيان بسيطة وساذجة، ولكنها مظاهر إسلامية لا يمكن التنازل عنها، وأثبتت جماعة الإخوان أنها لا تسعى لسلطة على حساب وطن أو دين أو دعوة، وأنها تغلب المصلحة العامة على الخاصة.

الإمام البنا والإنتخابات البرلمانية 1944

أقيلت وزارة النحاس باشا في أكتوبر 1944م، وجاءت وزارة أحمد باشا ماهر الذي حل مجلس النواب, وباشرت الحكومة إجراءات الانتخابات من جديد، " وامتنع الوفد عن دخول الانتخابات كما امتنعت الأحزاب من قبل، وكان الإخوان أمام قرار المؤتمر السادس من جهة وأمام التزامهم لأهل دائرة الإسماعيلية من جهة أخرى، وأمام ما يأملون ويعلمون بالتجربة من أن البرلمان هو الرئة الوحيدة للتنفس، واستنشاق بعض نسمات الحرية فى ظل الأحكام العرفية الخانقة يرون أنه لا بد لهم من التقدم إلى الترشيح من جديد؛

ومع هذا فلم يقدموا على هذه الخطوة إلا بكل حكمة ورزانة وتعقل، وإلا بعد أن كاشفوا رجال الحكومة القائمة بأنهم لا يقصدون بذلك إحراجها ولا مناوأتها، وإنما يريدون أن يزاولوا حقًا مكفولاً لكل مواطن بطريقه المشروع، ومع هذا الاحتياط فقد اجتمع مكتب الإرشاد العام وأصدر قرارًا واضحًا وأعلنه على رءوس الأشهاد وفى الصحف والجرائد السيارة بأن هيئة الإخوان لا ترشح أحدًا من أعضائها بصفته الإخوانية، وأن من يرون أن يتقدموا إلى الترشيح فإنهم يتقدمون بصفته الشخصية كمستقلين، ولهذا فإنه محظور أن تستخدم دور الإخوان لدعاية انتخابية، أو أن يظهر خطباؤهم ورؤساءهم والبارزون منهم فى الحفلات التى تقام لهذا الغرض إلا بصفتهم الشخصية كذلك.

وقد رجا المكتب بعد ذلك عددًا كثيرًا من الإخوان أن يعدلوا عن الترشيح والتقدم حتى أصبح عدد المتقدمين من الإخوان لا يزيد على بضعة أفراد: المرشد العام فى الإسماعيلية، والأستاذ محمد نصير فى بنها، والأستاذ أحمد السكري فى الفاروقية، والأستاذ عبد الفتاح البساطى فى الفيوم، والأستاذ عبد الحكيم عابدين فى مطر طارس، والأستاذ محمد حامد أبو النصر فى منفلوط, أما محمد أفندى حمودة الذى رشح فى دائرة السويس فقد نهى عن ذلك نهيًا صريحًا فلم يصغ إليه وأبى إلا أن يتقدم لثقته بأصدقائه وإخوانه ومحبيه فى هذه الدائرة التى كان له فيها جهاد مشكور، ولأسباب خاصة حالت الظروف دون التقدم للانتخابات". (9)

وجاءت أيام الانتخابات، وجرت فيها من المهازل والتزوير ما يعجز اللسان عن وصفه، ولندع المجال لشاهد عيان يروي لنا تفاصيل ذلك، يقول الأستاذ محمود عبد الحليم:

"سافرت إلي الإسماعيلية ضمن عدة مئات من الإخوان من مختلف أنحاء البلاد لنشهد هذه المعركة التي توقعنا أنها ستكون معركة حامية، لكن الذي رأيناه قد فاق كل ما خطر ببالنا، ولولا أننا شهدنا بأعيننا لما صدقنا أن يحدث هذا الذي حدث، وشاء الله أن تكون أكثر بلاد القطر ممثلة لتري بعينها الجريمة التي لم يحدث لها مثيل من قبل، ولا أعتقد أن يحدث مثلها من بعد حتى تكون كل البلاد في مصر علي علم بما حدث، ولكي يكون القارئ في مخيلته صورة مصغرة لما حدث فسأضع تحت ناظريه بعض مناظر من أحداث ذلك اليوم:
المنظر الأول: خرج أهل الإسماعيلية منذ الصباح الباكر متجهين إلي أماكن اللجان الموزعة في أنحاء الدائرة ليدلوا بأصواتهم، ومع كل منهم تذكرته الانتخابية، فوجدوا أمام مدخل كل لجنة سيارة ضخمة من سيارات نقل الجيش البريطاني تغلق هذا المدخل وتحول بين الناخبين وبين الدخول إلي اللجنة.
المنظر الثاني: كثر عدد الناخبين بمرور الوقت أمام مقار اللجان، ولما طال انتظارهم ولم تتحرك السيارات المعترضة حاولوا اقتحام السيارات للدخول، فإذا بقوات ضخمة من بوليس القنال والبوليس المستقدم من القاهرة ومن جهات أخري تعترض طريقهم وفي أيديهم الأسلحة والهراوات.
المنظر الثالث : يلجأ الناخبون إلي الأستاذ المرشد يشكون إليه فيتصل بالمحافظ فيطمئنه المحافظ، ولكنه لا يعمل شيئًا فيلجأ إلي الحكمدار الإنجليزي فيتز باتريك فيرد عليه بأن عنده تعليمات من الجهات العليا ينفذها.
المنظر الرابع: القوات الضخمة من البوليس فجأة تهاجم الناخبين المحتشدين أمام مقار اللجان، وتعمل فيهم هراواتهم وتهددهم بأسلحتهم حتى تبعد بهم بعض الشيء عن مقار اللجان، ثم تطوقهم تطويقًا محكمًا، وهنا تري ناقلات ضخمة من ناقلات الجيش البريطاني قادمة وهي محملة بعمال الجيش البريطاني، وفي سرعة جنونية تتجه إلي مقار اللجان، وتكون السيارات المعترضة للمداخل قد أفسحت الطريق فتدخل هذه السيارة حتى باب المبني الذي به لجنة الانتخابات، وتلصق مؤخرتها بالباب وتفرغ حمولتها من العمال فيدخل كل منهم ويقدم للجنة تذكرة باسم ناخب من ناخبي اللجنة، ورئيس اللجنة وأعضاؤها يعلمون أن أحدًا من هؤلاء العمال لا يحمل بطاقة انتخابية باسمه، بل ليس منهم من يعرف الاسم المكتوب في البطاقة التي يقدمها، وكل ما لقنه هؤلاء العمال هو أن ينتخبوا الاسم الذي حفظوه وهو اسم المرشح المنافس للأستاذ المرشد الدكتور سليمان عيد متعهد توريد الأغذية لمعسكرات الجيش البريطاني.
المنظر الخامس: بعد أن تفرغ السيارة حمولتها تظل في وضعها حتى تؤدي الحمولة المهمة المكلفة بها، ثم ترجع الحمولة إلي مكانها في السيارات حتى إذا امتلأ رتل السيارات التي جاءت معًا ينطلق الرتل دفعة واحدة خارج مقر الدائرة وفي سرعة جنونية بين صفوف جنود البوليس حتى تختفي عن الأنظار داخل المعسكرات البريطانية؛ وبعد قليل يأتي رتل آخر ويمثل الدور نفسه.
المنظر السادس: يدخل الأستاذ المرشد مقر إحدى اللجان، ويضبط بنفسه أمام أعضاء اللجنة مائة تذكرة انتخابية مزورة يحملها غير أصحابها من هؤلاء العمال، ويقدمها لوكيل النيابة فلا يتخذ وكيل النيابة أي إجراء سوي أنه يتسلم التذاكر قائلاً إنه سيجري تحقيقًا دون أن يفعل شيئًا.
المنظر السابع: أمام هذه المهازل وهذا الإجرام لم نتمالك نحن الإخوان الزائرين أعصابنا فوجدنا أنفسنا نهاجم سيارات الجيش البريطاني المحملة بالعمال ونحاول منعها من دخول اللجان، فإذا بقوات البوليس تهاجمنا بقيادة فبتز باتريك الحكمدار، وقد رأيت هذا الحكمدار الإنجليزي يأمر الجنود بحملنا في سيارات نقل جاءوا بها، وحملت أنا شخصيًا مع مجموعة من الإخوان إلي إحدى هذه السيارات وسط مناقشات حادة بيننا وبين هذا الحكمدار، وبعد أن دخل رتل السيارات القادم من المعسكرات البريطانية والذي كنا نهاجمه إلي مقار اللجان أمر هذا الحكمدار بإطلاق سراحنا.
المنظر الثامن: عند انتصاف النهار قرر الإخوان أن يقوموا بعمل عنيف قد يؤدي إلي وقوع ضحايا من الجانبين، ويبلغ ذلك مسامع الأستاذ المرشد فيحضر حيث يجتمع الإخوان وينهي إليهم رأيه بعدم موافقته علي هذا الإجراء ويقول: إن دماء الإخوان أعز عليه من أن تسفك في سبيل معركة مهما بلغنا في أهميتها فإنها لا تعدو أن تكون معركة جانبية.

وينقضي هذا اليوم الأخير وتعلن نتيجة الانتخابات بسقوط المرشد العام في الدائرة التي يعلم كل مصري وكل عربي بل ويعلم العالم كله أن هذه الدائرة هي عقر داره، وأن رجالها ونساءها وأطفالها لا يهتفون إلا باسمه ويؤثرونه علي آبائهم وأمهاتهم". (10)

ويضيف الأستاذ محمود عساف الذي عاين ذلك بنفسه أيضًا:

"احتج عبد القادر عودة على التزوير, وكان يعمل قاضيًا ورئيسًا لإحدى اللجان, فصدر أمر وزير العدل بنقله فورًا من الإسماعيلية فأبى عبد القادر عودة هذه الإهانة، واستقال من القضاء، وكانت تلك باكورة صلته بالإمام الشهيد وبالإخوان المسلمين الذين صار وكيلاً لهم فيما بعد قبل أن يغتاله نظام الحكم شنقًا.
وكانت الأصوات التي حصل عليها الإمام محدودة جدًا في كل اللجان, فقد بدلت الصناديق بغيرها إلا لجنة واحدة كانت منسية, حصل فيها الإمام على 100 % من الأصوات, تلك كانت لجنة الطور حيث كان وكيل الإمام فيها الخواجة خريستو صاحب محل البقالة الوحيد هناك". (11)

وبعد إعلان فوز سليمان عيد طلب الإمام البنا من أهالي الإسماعيلية كظم الغيظ، وأن ينصرف كل منهم إلى منزله لكي يُفوتوا على الإنجليز فرصة الاصطدام بهم حقنا للدماء.

إن تواطؤ الكافة لظلم شخص كل جريرته أنه يريد الإصلاح لهذا البلد أمر يدعو للأسف على كل أنصار الديمقراطية التي يعدونها مطية يمتطونها كلما كانت موصلة لأهدافهم، وإلا فإنها غير جديرة بالاحترام، وستظل انتخابات مجلس النواب عام 1944م وصمة عار على الوزارة والشرطة والقضاء، وجديرة بلعن الاستعمار أينما حل وحيثما ارتحل.

تقيم التجربة

قال الإمام البنا يقيم تلك التجربة الفريدة:

"لقد أقدمنا على هذا الميدان مخلصين كل الإخلاص برآء كل البراءة مدفوعين إليه بحب الخير، والحرص على المصلحة، والغيرة على الدعوة المقدسة، والرغبة فى اختصار الوقت، وإعلان رسالة الإصلاح الإسلامى من فوق هذا المنبر الرسمى، وما كان يدور بخلدنا، أو يخطر ببالنا أن يتصور فرد واحد ما تقوله الناس بعد ذلك من أن هذا انحراف عن الخطة الوطنية المجردة إلى الحزبية السياسية البغيضة، وأنه استغلال للدعوة البريئة أريد به الوصول إلى الجاه الدنيوى والكرسى الحكومى؛
وأن الإخوان بعد أن كانوا دعاة دين قد أصبحوا محترفى سياسة وأنهم بذلك ينافسون الأحزاب القائمة ويناوئونها ويخاصمونها، ويعلنون عليها حربًا لا هوادة فيها، فعليها أن تعلن عليهم الحرب من كل مكان، وأن تتغدى بهم قبل أن يتعشوا بها، هذه التى ما كانت تخطر لنا ببال والتى ينقضها من أساسها مسلك الإخوان فى دورتين من دورات الانتخابات؛

فإن الذى يتابع ما ذكرنا من خطوات سابقة يخرج ولا شك بالنتائج الآتية:

أولاً: أننا لم نكن نطلب من وراء هذا الترشيح حكمًا ولا مغنمًا بدليل أننا لم نقدم فى المرة الأولى إلا اثنين وفى المرة الثانية إلا ستة.
ثانيًا: أننا لم نقصد بذلك مناوأة أحد أو خصومته بدليل أننا تنازلنا فى المرة الأولى، وتفاهمنا فى المرة الثانية، وأعلنا فى كلا المرتين أننا نشجع أهل الخير والصلاح مهما كانت ألوانهم الحزبية.
ثالثًا: أننا لم ننحرف بذلك عن نهج الدعوة القويم، وصراطها المستقيم فقد أعلنا فى وضوح، وخصوصًا فى المرة الثانية أن المرشحين إنما يتقدمون بصفتهم الشخصية لا بصفتهم الإخوانية، وأن من واجب الإخوان أن يناصروا من المرشحين من يأملون فيهم العمل لصالح الفكرة الإسلامية هذا فضلاً عن أن نجاح الإخوان فى البرلمان من خير ما يساعد على ظهور الدعوة وقوتها ونجاحها، وهو حق مكفول لكل مواطن ومن الظلم أن يحرم منه شخص بسبب انتسابه إلى الدعوة أو جهاده فى سبيل الفكرة" (12)

وقد كتب الإمام البنا قبل انتخابات مجلس النواب عام 1948م يؤصل للمشاركة البرلمانية، ويرد على تساؤلات الإخوان، ويدحض الشبهات، لتستبين الحجة، وليكون الإخوان على بصيرة وبينة مما يخوضون فيه من العمل السياسي الشريف النزيه.

وجوب طلب السلطة

يقول الإمام البنا مؤصلا لوجوب السعي إلى المشاركة البرلمانية:

"هل أمام أصحاب الدعوات، وحملة الرسالات فى هذا العصر من سبيل مشروعة إلى تحقيق مقاصدهم، والوصول إلى أهدافهم إلا هذه السبيل الدستورية السلطة التشريعية أولا، فالسلطة التنفيذية بعد ذلك، وإنما يكون طلب الحكم والسعى إليه عيبًا وعارًا وسبة إذا أريد به الجاه الزائف والعرض الزائل، أما أن يقصد من وراء ذلك تحقيق مناهج الإصلاح، وإظهار دعوة الخير، وإعلاء كلمة الإسلام والحق فلا عيب فيه ولا غبار عليه بل لعله يكون من أقدس الواجبات وأعظم القربات، ويجب أن نطلب ونسعى إليها لأنفسنا بل لدعوتنا ورسالتنا ليحكم الناس بعد ذلك لنا أو علينا أما هذا الموقف السلبى فليس وراءه إلا ضياع الوقت بغير طائل، وإلا فما هى الوسيلة التى يراها الإخوان لتحقيق رسالتهم غير التقدم إلى البرلمان؟ الوعظ والإرشاد والدعوة والإقناع ومخاطبة النفوس والأرواح وهى سبيل الفلاسفة والخيالين لا سبيل المصلحين العمليين". (13)

فالوعظ والإرشاد وحده لا يكفي لإصلاح المجتمع، فكيف تسعى للقواعد تنبي عقولهم، وتزيد إيمانهم، وتترك رأس الدولة التشريعية يشرع من القوانين ما يهدم ما تبنيه في عام كامل بقانون واحد، وقديمًا قال الشاعر:

كيف يتم للبنيان تمامه
إذا كنت تبني وغيرك يهدم

فهي رؤية ثاقبة لدور الدعاة الحقيقي، ومعرفة بصيرة بأهمية التشريع والبرلمان في إصلاح المجتمع.

وقال الإمام البنا يزكي كفاءة الإخوان ودرايتهم بمشكلات الأمة وطرق علاجها:

"مع تطور الحوادث العالمية، وجسامة التقلبات الدولية، وتعرض الشعوب العربية والإسلامية إلى كثير من التطورات التى تفرض على الغيورين عليها، والحريصين على مصلحتها أن يكونوا فى مراكز تسمح لهم بالتوجيه والتواجد الحقيقى، ومن أولى بذلك وأقدر عليه من الإخوان، وهم قد درسوا هذه القضايا، ومارسوا الجهاد فى سبيلها بألسنتهم وأقلامهم ودمائهم وأرواحهم، ونفذوا بذلك إلى دقائقها وخفاياها، وأصبحوا أعرف الناس بمواردها ومصادرها فكيف يرضون لأنفسهم أن يتخلفوا عن الركب ويقعدوا فى ساعة العسرة، وما الفرق بين هذا الموقف وموقف التولى يوم الزحف، والفرار عند لقاء الخصم وعهدنا بالإخوان أنهم الكرارون لا الفرارون أسرع الناس إلى تلبية النداء وإجابة الدعاء". (14)

فما أقبح أن ينسحب القادرون على قيادة دفة الأمور وسط تلك الأمواج العاتية التي تهدد سفينة البلاد ليتولى قيادتها الضعفاء فاقدو الكفاءة فيودوا بسفينة الأمة إلى المجهول "فتخطفه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق".

الإمام البنا يبدد مخاوف الإخوان

يطمئن الإمام البنا جموع الإخوان المتخوفين من خطر العمل السياسي على الدعوة، وإخلاص رجالها، وتغيرها في نظر الناس بأن الغاية بالمقاصد لا بالشكليات؛

يقول الإمام البنا:

"وإذا قلتم: إن ذلك سيصبغنا بالصبغة الحزبية، وسيجر علينا الخصومات السياسية، وسيلون الدعوة بغير لونها الحقيقى، ويقذفها بسيل من الاتهامات المغرضة نحن فى غنى عنه، ويباعد بيننا وبين كثير ممن يرجى منهم الخير ويجعلنا حزبًا فى مصاف الأحزاب، مع أننا نؤمن ونعتقد ونقول: إن دعوتنا بشمولها وعلوها وسموها تفوق الأحزاب؛

والجواب على هذا، أن العبرة بالمقاصد والغايات لا بالظاهر والشكليات وبالحقائق والمسميات لا بالأسماء والصفات وما دمنا بمقصدنا ودعوتنا وأسلوبنا فوق الخصومة الحزبية والغايات الشخصية والمطامح المادية فلا يضيرنا أبدًا ما يقول الناس وسيجذب الله إلينا قلوب أهل الخير أينما كانوا وسيكون انصراف المنصرفين عنا دليلاً على تخير الله لنا ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم.
وأية دعوة هذه التى تريد إلا يكون لها خصوم وأعداء، وسنة الله الماضية فى الدعوات أن تظل هدفًا لسهام الخصومات والاتهامات ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾(العنكبوت: 2-3)، وما دمنا فكرة سامية ودعوة عالية، وجماعة نقية، وأمة تقية، فليقل الناس: حزب أو غير حزب، وليظنوا بنا ما شاءوا، فإن الظن لا يغنى من الحق شيئًا، ومهمتنا أن نحاول بالدعاية الصادقة والجهود الدائبة أن تصحح الأفهام، وتحارب الأوهام، فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل". (15)

تصور البعض إسقاط تصور السياسة المليئة بالأكاذيب والمناورات على دعوة الإخوان المسلمين التي دخلت المعترك الانتخابي، ولم يفطنوا أن دور الإخوان هو تنظيف تلك السياسة لتتماشى مع أحكام الإسلام وشرائعه، وليس لهذه السياسة أن تلوث اناسًا وقفوا انفسهم لتطهيرها، واتخذوها وسيلة لتحقيق غاية أسمى.

الإنتخابات أخلاق

كان الإمام البنا حريصًا أن تكون المشاركة الانتخابية نظيفة مما يشوبها في العادة من الافتراءات والأكاذيب وتجريح الأشخاص والهيئات، وإطلاق الشائعات لتشويه صورة الخصم، ويحرص على الخروج من الانتخابات بأصدقاء جدد؛

يقول الإمام البنا:

"ونحن أحرص ما نكون على أن تظفر الدعوة بهذا الموضع من القلوب، وستكون المعركة الانتخابية الإخوانية معركة مثالية في البعد عن المثالب الشخصية، أو إثارة الأحقاد والحزازات، فإذا فهم الناس هذا المعنى وبادلونا إياه فسندخل أصدقاء ونخرج أصدقاء، وإذا لم يفهموه ولم يقدروه فهم الملومون، وليست الدعوة ولا أصحاب الدعوة بمكلفين بأن يتجنبوا طرائق نجاحها خشية الناس، والله أحق أن نخشاه، وأية دعوة في الدنيا نريد ألا يكون لها منافسون وخصوم؟ وحسب الدعوة وأصحاب الدعوة شرفًا ألا يخاصموا الناس في الباطل، بل في الحق، وأن يحاربوا بأنظف الأسلحة وأنبل الوسائل". (16)

كما شدد الإمام البنا على ضرورة مراعاة الآداب الإسلامية، والالتزام بالأخلاق الحميدة، والسعي بالوسائل النظيفة إلى الغايات النبيلة، والحرص على كسب القلوب؛ لأن ذلك أولى وأبقى.

يقول الإمام البنا:

"إن أشرف معركة هي معركة الانتخابات لمجلس التشريع الأعلى في البلد، فمن أهم الواجبات أن تكون على أطهر حال وأشرف مثال، بعيدة عن السباب والشتائم، لا تنال فيها الأعراض، ولا تنتهك الحرمات، ولا تدنسها الغيبة الفاحشة، والنميمة الكاذبة، والرياء القاتل، والنفاق الوبيل، ولا مانع من أن يعرض الإنسان مناهجه أو منهاج من يناصره، ويتكلم عن مزاياه وفضائله، ويدلي بالحجج والبراهين على صلاحيته، ولكن لا يصح مطلقًا أن يغتاب المنافس ويسبه ويشتمهن ويلصق به المعايب والتهم بحق أو بغير حق، فإن ذلك ليس من الدين، ولا من المروءة ولا من الإنسانية في شيء، ولئن قالوا إن ذلك جائز في عرف السياسة، فإن الإسلام لم يتسامح فيه أبدًا ولم يجزه أبدًا. ستنتهي الانتخابات وتبقى الحزازات أو المجاملات، فلأن يبقى المعروف بينكم خير، ولا تنسوا الفضل بينكم في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة والتساند". (17)

وفي مجال الدعاية الانتخابية حرص الإمام البنا على أن تكون بريئة مطهرة مما يعتاد الناس فعله، يقول الإمام البنا:

"ستقوم دعاية الإخوان على المبادئ والأهداف، وسيرى الناس أمامهم لونًا فريدًا جديدًا من ألوان الدعاية الانتخابية البريئة المطهرة تستمد من قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(الحجرات: 11). (18)

فأي أخلاق تلك التي يدعو إليها الإمام حسن البنا في معركة أسلحتها الكذب والافتراءات والشائعات وتجريح الأشخاص والهيئات؟!

وأي إنسان يقدم على تلك الخطوة وهو يعلم أن طريقه محفوف بالمخاطر، وربما صار هو نفسه هدفا لتلك الأكاذيب والشائعات؟! ولكن ذلك لا يثنيه عن إصلاح تلك البيئة، وغرس القيم والسلوكيات الفاضلة النبيلة في نفوس أصحاب تلك المعارك الانتخابية، فإن استجابوا فقد سبق بالفضل والمحاولة، وإلا فقد أقام الحجة، وأبان السبيل، وكفاه أن يطبق ذلك على نفسه، داعيًا غيره إلى اعتناق ما يؤمن به.. فليس لمصباح الطريق أن يقول إن الطريق مظلمة، ولكنه إذا تكلم قال: ها أنا ذا مضىء.

المراجع

  1. مجلة الإخوان المسلمين اليومية، السنة الثالثة، العدد (719)، 2 ذو القعدة 1367- 5 سبتمبر 1948م، ص 7
  2. مجلة الإخوان المسلمين اليومية، السنة الثالثة، العدد (719)، 2 ذو القعدة 1367- 5 سبتمبر 1948م، ص 7
  3. مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، السنة الثانية، العدد (46)، 18 ذو القعدة 1363- 4 نوفمبر 1944، ص 3
  4. مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، السنة الثانية، العدد (46)، 18 ذو القعدة 1363- 4 نوفمبر 1944، ص 3
  5. مجلة الإخوان المسلمين، السنة الرابعة، العدد (3)، 7 صفر 1355- 28 أبريل 1936م
  6. مجلة الإخوان المسلمين اليومية، السنة الثالثة، العدد (719)، 2 ذو القعدة 1367- 5 سبتمبر 1948م، ص 8
  7. أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين جمعة أمين، دار التوزيع والنشر، القاهرة، الطبعة الأولي، 2004 4/ 272 وما بعدها
  8. مجلة الإخوان المسلمين اليومية، السنة الثالثة، العدد (719)، 2 ذو القعدة 1367- 5 سبتمبر 1948م، ص 9
  9. مجلة الإخوان المسلمين اليومية، السنة الثالثة، العدد (719)، 2 ذو القعدة 1367- 5 سبتمبر 1948م، ص 9
  10. الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، محمود عبد الحليم، دار الدعوة، الإسكندرية، الطبعة الخامسة، 1994، 1/327 وما بعدها
  11. مع الإمام الشهيد حسن البنا، محمود عساف، مكتبة عين شمس، القاهرة، الطبعة الأولي، 1993، ص 115
  12. مجلة الإخوان المسلمين اليومية، السنة الثالثة، العدد (719)، 2 ذو القعدة 1367- 5 سبتمبر 1948م، ص 10
  13. مجلة الإخوان المسلمين اليومية، السنة الثالثة، العدد (719)، 2 ذو القعدة 1367- 5 سبتمبر 1948م، ص 10
  14. مجلة الإخوان المسلمين اليومية، السنة الثالثة، العدد (719)، 2 ذو القعدة 1367- 5 سبتمبر 1948م، ص 10
  15. مجلة الإخوان المسلمين اليومية، السنة الثالثة، العدد (719)، 2 ذو القعدة 1367- 5 سبتمبر 1948م، ص 10
  16. مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، السنة الثانية، العدد (46)، 18 ذو القعدة 1363- 4 نوفمبر 1944، ص 3
  17. مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، السنة الثانية، العدد (46)، 18 ذو القعدة 1363- 4 نوفمبر 1944، ص 3
  18. مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، السنة الثانية، العدد (46)، 18 ذو القعدة 1363- 4 نوفمبر 1944، ص 4