المحطة الثالثة ( من الاردن الى البصرة )

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
المحطة الثالثة ( من الاردن الى البصرة )

كانت رغبتي في دراسة الهندسة، وفي سبيل ذلك تقدمت لجامعات عدة وأمضيت عام 1968م سعياً وراء ذلك' غير أنني لم أُوفق في تحصيل القبول.

لا أذكر ما الذي جعلني أفكر في باكستان! فتوجهت إليها في نهاية عام 1968م عن طريق العراق، ثم بحراً في باخرة معدة لنقل البضائع إلى كرا تشي، في رحلة بحرية مدتها 8 أيام بلياليها، فكانت بالنسبة لي تجربة فريدة من نوعها خلفت ذكريات خاصة لا تنسى منها:

أنني سافرت براً بالباص من اربد إلى البصرة، وكانت المرة الأولى التي أغادر الأردن، وكنت أحمل معي متاعاً ثقيلاً في حقيبة كبيرة ، وكنت أعتبر هذا السفر تحدياً لي.

فهل أستطيع الوصول إلي مرادي مع الحفاظ على أمتعتي ونقودي ..؟! ولذلك كانت درجة التيقظ والحرص عالية جدًا.

وللمزيد من التعب والحيرة تبين لي أن الباص الذي أركبه هو في الأصل متوجه من اربد إلى الكويت، مروراً ببغداد ثم البصرة ...

ولقلة الخبرة والتجربة، تبين فيما بعد أن هذا الباص لا يدخل مدينة البصرة، التي كنت أقصدها، بل يمر قريباً منها؛ لذلك طلب إلي النزول من الباص، على المثلث الذي يربط طريق بغداد - الكويت الرئيسي بمدينة البصرة.

وفعلاً نزلت مع حقيبتي التي تكبرني حجماً ووزناً. وكانت الحيرة تملأني، واللعنات الصامتة على سائق الباص - الذي لم يوصلني إلى البصرة - تملأ صدري ... كان الوقت قبل الغروب ولم أكن أدرك في حينها أين أنا ولا الاتجاهات الأربعة، لولا بقايا قطعة من حديد صدئة، بعض ما كتب عليها قد أكل عليه الدهر وشرب، تشير إلى البصرة.

لحظات رهيبة بالنسبة لي استذكرت فيها والدتي، ودعاءها الدائم لي ولإخواني بالستر والتوفيق، وقلت في نفسي يا الله ...! ولم يقطع علي شرودي، وحبل أفكاري إلا وقوف سيارة خاصة بيضاء، من نوع بيجو أمامي.

قال لي سائقها: أين تقصد؟ قلت: البصرة. فقال: تفضل ... ! كدت أطير من الفرح، وأنا بين مصدق ومكذب!! ساعدني الرجل على حمل الحقيبة ووضعها في السيارة، ثم ركبت وانطلقنا إلى البصرة، ولكن في واقع الحال إلى جهة مجهولة عمليا بالنسبة لي ... فلذلك كانت تنتابني وساوس وأوهام لا أدري مصدرها.

وكانت تنقطع هذه الأفكار بين الفينة والأخرى؛ لأرد على أسئلة السائق ... من أين أنت؟ وأين تقصد؟ وما اسمك؟ وكان لا يزيد على الترحيب بعد كل جواب.

من الأمور التي تشغل بالي في الطريق، هل عليَّ أن أعطيه أجراً، على جميل صنعه أم لا؟ هل هو فاعل خير أم سائق أجرة؟ ورغم أن الأميال التي قطعناها كانت قليلة إلا أنني شعرت أنها طويلة جداً. فلما بدأ عمران البصرة يظهر في الأفق بدأت أرتاح شيئاً فشيئاً.

لملمت ما بقي لدي من شجاعة وسألته: من أين أنت؟ فقال: من الكويت وأقصد زيارة البصرة. وكان هذا في صيف عام 1968.... دخلنا البصرة، وعرف أنني أريد فندقاً أسكن فيه حتى موعد الباخرة، فأرشدني إلى فندق، وحمل معي حقيبتي، وقابل المسؤول وأوصاه بي خيراً، ثم أراد الانصراف فرجوته أن أقدم له أجر صنيعه الكريم، فابتسم، وقال سأزورك غداً إن شاء الله في الفندق، ونتفاهم، ثم غادر وتركني في حيرة جديدة ... على ماذا نتفاهم .... ؟ !!

دخلت غرفتي ...

وتنفست الصعداء ...

وحمدت الله ... أن وصلت سالما ... بحقيبتي ... ونقودي ...

لم يمسسهما سوء!!

ودخلت في نوم عميق ... لم أصح منه إلا في ساعة متأخرة ... لأصلي المغرب والعشاء جمع تأخير.

جاء الرجل في الصباح واطمأن علي، وتجاذبنا أطراف الحديث، عرف أنني متوجه للدراسة في باكستان عن طريق البحر مع شركة "كرما كنزي" التي تنطلق من البصرة، وتحمل مع البضائع بعض الركاب، الذين يقصدونها؛ لرخص أجورها، وكنت واحداً منهم.

كنت أستجمع شجاعتي لشدة حيائي منه للطفه ووقاره عندما كنت أريد أن أسأله، فقلت له: بالأمس أردت أن أقدم لك الأجرة على صنيعك فأجلت ذلك إلى اليوم. فضحك، وقال : في يوم من الأيام كنت مع زوجتي وبناتي في سيارتي على طريق بغداد - الكويت، وكان الوقت ليلا، وقدر الله أن تعطلت السيارة وأصبحنا في ضيق شديد.

وكنت أجتهد بالطلب من السيارات التي تمر أن تساعدنا فلا مجيب، وبعد انتظار طويل، إذا بسيارة خاصة صغيرة، يستقلها مجموعة من الشباب الأردنيين، تستجيب للإشارة وتقف أمامي، وبعد أن عرفوا الأمر، قاموا بإصلاح سيارتي.

ثم تابعنا المسير باتجاه الكويت ...

وكان هؤلاء الشباب يسيرون خلفنا ...

زيادة في الاطمئنان علينا...

حتى وصلنا الكويت... شكرتهم ... شكراً جزيلاً ...

وحاولت مكافأتهم ... فرفضوا ...

وقالوا: هذا أقل الواجب.

ومنذ ذلك الحين قطعت على نفسي عهداً أن أقدم ما أستطيع من مساعدة لمن أعرف ولمن لا أعرف، علني أسدد بعض جميل هؤلاء.

وهذا أقل الواجب ...

ولازالت كلماته ـ جزاه الله خيراً ـ في أذني إذ أردفَ القول ناصحاً: "أنت في بداية حياتك ... وأنت الآن بعيد عن رقابة والديك.

فتذكر أن الله يراك في كل مكان ....

أنصحك أن تلتزم شرعه ....

واختر الصحبة الصالحة ....

والزم دراستك ....

واستفد من وقتك ...

وعُد لوالديك بعلم نافع ...

تكسب المزيد من رضاهم ... ورضاء الله ..." ·

كلمات من نور ... ساقها الله على لسان هذا الرجل المجهول... فكانت مطابقة تماما لكلمات أقرب الناس لي ... وأكثرهم حرصاً على مصلحتي ... كم أتمنى لو عرفته أكثر لإكرامه ... ولكن ما ضره أني لا أعرفه؟! مادام علام الغيوب لا تخفى عليه خافية...

فجزاه الله عني خير الجزاء ...

وأكرمه حياً أو ميتاً ...

على جميل صنعه وحُسن خلقه ...

فلست أملك له غير الدعاء، والاقتداء بصنيعه.

فعمل الخير مع من تعرف ومن لا تعرف ... ورضاء الوالدين وطاعتهما ... قطعاً من موجبات رحمة الله وتوفيقه.

المصدر