المرأة في موكب الدعوة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
المرأة في موكب الدعوة

بقلم :الأستاذ مصطفى الطحان

إهداء وتقديم

إهداء

إلى أخواتنا المسلمات الداعيات

اللواتي فهمن إسلامهن حق الفهم..

فانطلقن يعملن ويجاهدن ويبنين صرح الإسلام العظيم.. قدوتهن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومثلهن الأعلى خديجة الكبرى.. وعائشة والداعيات المسلمات في كل عصر ومصر..

إلى كل هؤلاء أقدم كتابي (المرأة في موكب الدعوة).

أرجو القبول وأسأل الدعاء

المؤلف

بين يدي الكتاب

بداية الموضوع..

كانت البداية محاضرة ألقيتها في الخرطوم.. بمناسبة تأسيس الاتحاد الإسلامي العالمي للمرأة المسلمة.. وعندما رجعت إلى مختلف المراجع المتوفرة التي تحدثت عن المرأة المسلمة.. شخصيتها ودورها في البناء الحضاري..أذهلتني المفاجأة.. فقد كانت أدبياتنا في الموضوع محدودة للغاية.. بل ومتزمتة أكثر من اللازم..

وفي زياراتي الكثيرة إلى جهات الأرض الأربعة.. وجدت عند المرأة المسلمة تحفزا ورغبة في الالتزام، والعمل الدعوي، والتضحية بالوقت والمال في سبيل الله.. تعادل ما عند الرجل وتفوقه أحيانا.

فأين الخلل إذن..؟

• يكمن الخلل في بعدنا عن الفهم السليم المبني على المصادر الإسلامية الأصيلة المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.. وكم في ثنايا الكتب الأخرى من اجتهادات تجاوزت أحيانا الصحيح وتمسكت بالضعيف للوصول إلى آراء تناسب الكاتب في مرحلة محدودة أو بيئة معينة. حتى وصل الأمر في هذه القضية وغيرها إلى تفريط أو إفراط.

• ويكمن الخلل في أعراف تحكمت بالعقول.. خلال فترة طويلة من الجمود.. توقفت فيها الأمة عن الحركة.. وتوقفت فيها العقول عن الإبداع.. وجدير بنا جميعا وقد بدأت عجلة العمل الإسلامي بالدوران.. أن تتفتق العقول عن فكر صحيح يحكم مسيرة المرأة المسلمة السائرة في موكب الدعوة.

• ويكمن الخلل في نظرة الكثيرين (من إسلاميين وغيرهم) إلى المرأة باعتبارها كائنا جنسيا ينفتح على الحياة من موقع الانفعال الجنسي في طبيعته الغريزية وفي نتائجه التناسلية، وبذلك يختصرون حياتها في هذه الدائرة.. وهؤلاء لا ينظرون إلى الرجل هذه النظرة، في الوقت الذي لا نجد فيه فرقا بين الفريقين.

• ويكمن الخلل في أنانية الرجل الذي يحب الراحة والتمتع بمباهج الحياة الدنيا، ويصعب عليه أن يتحمل شيئا من التعب ليترك لزوجته فرصة المشاركة في العمل الإسلامي. إن إصرار الرجل على بقاء زوجه في البيت تسعى على خدمته وخدمة أولاده.. سيحرم المرأة المسلمة من الخروج لتتلقى درسا أو تعطي درسا أو تشارك في عمل يساهم في إصلاح المجتمع أو في بناء مجتمع نسائي إسلامي جديد[1].

ما هو الحلّ..

• الحل هو تصحيح وضع المرأة المسلمة.. في فهمها.. وتكامل شخصيتها.. وقيامها بدورها. وإذا كان الرجل اليوم هو المتحكم.. فالمطلوب منه أن يتنازل عن تحكمه ويطلق حرية المرأة لتبني المجتمع الحرّ.. فالمجتمعات الحرة لا يبنيها إلا الأحرار.

• وأن ترتفع الاهتمامات.. من الأمور الشكلية إلى الاهتمامات العالية.. ولتتخذ كل أخت مسلمة، صدّيقة هذه الأمة.. أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مثلا وقدوة.. المرأة التي انفردت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة.. كانت شريكته في محنته الطويلة، تقويه بمالها، وتدافع عنه بكل مالديها من قول وفعل. خاضت معه آلام الكفاح صابرة محتسبة راضية، لاينبض عندها عرق بلين أو تخوف. بصدرها الرحب كانت تستقبل العواصف.. كانت مع القلائل الذين صنعوا التاريخ..

وكذلك نحتاج اليوم أخوات مسلمات يصنعن مع إخوانهن الدعاة التاريخ الإسلامي من جديد.. فقد طال عهد التخلف.

• نحتاج إلى أخوات مسلمات يتمثلن دور أسماء وهي تشارك في ترتيبات الهجرة.. ودور نسيبــة بنت كعب وهي تحمي النبي يوم أحد بسيفها.. ودور عائشة بنت أبي بكر العالمة الفقيهة السياسية.. ودور نساء الأنصار الذين لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين..

كيف ستُستقبل هذه الأفكار..؟

هذه الأفكار الجريئة الخاصة بالمرأة.. لست أول من طرحها.. فهناك علماء وفقهاء في القديم والحديث قالوا بمثل ما قلناه.. وأنقسم الناس تجاههم إلى فرقاء:

فريق.. يستنكر ذلك أشد الاستنكار.. فالمرأة (عندهم) هي الجوهرة المصون.. المحفوظة في صندوق الحلي.. التي يجرح أناملها الهواء.. لا ترى أحدا ولا يراها أحد..

وفريق.. يمثل الرجال المتحكمين الذين لا يرغبون في التنازل عن جبروتهم.. ويمثل النساء اللواتي ألفن التحكم فتطبعن بطبعه.. وهم كذلك ضدّ أفكار هذا الكتاب.

وفريق آخر.. سيجد نفسه في هذه الأفكار.. يلتقطها وقد طال انتظاره.. وهو من الصنفين الرجال والنساء.. وحسبنا أن هذا الفريق هو المهم في حساباتنا.

والحمد لله رب العالمين

المؤلف

استانبول: 3/9/1418هـ
الموافـق: 1 /1 /1998م

[1] دور المرأة في العمل الإسلامي - فيصل مولوي، ص- 61.

مقدمة بقلم الشيخ محمد عبد الله الخطيب

بقلم : الشيخ محمد عبد الله الخطيب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،

فهذه رسالة حول: (المرأة في موكب الدعوة) وقد اشتملت على مقدمة وخمسة فصول تدور حول تكامل شخصية المرأة المسلمة، وحركتها في موكب الدعوة إلى الله، ومشاركتها الرجل في صياغة الحياة وصيانتها، ودور المرأة الريادي في صنع وإيجاد البيت المسلم، وحول زي المرأة ولباسها وزينتها، وسائر تصرفاتها، ولقد تناول المؤلف كل هذه الجوانب بالأدلة من القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح، وآراء الفقهاء والعلماء، مما زاد في قيمتها العلمية والإسلامية.

إن حقوق المرأة حقوق مكتسبة أعطاها الله لها، ليست منّة ولا تفضلا من أحد، بل هي حقوق لجميع المؤمنات في المجتمعات المسلمة، دون تفريق بين جنس وآخر، أو بين لون ولون، أو مجتمع غني وآخر فقير مظلوم لا حق له، وتستوي في هذه الحقوق ساكنة الكوخ، مع من تقيم في ناطحات السحاب سواء بسواء، ولا مجال أبدا لأي مقارنة بين نظام بشري وضعي، وبين نظام إلهي وضعه رب السموات والأرض لإصلاح أحوال البشر. النظام الإلهي هو المنحة الربانية العظيمة التي رفعت شأن المرأة وكرمتها، وأعطتها كل العناية والأمن والأمان، لتتمكن من أداء دورها العظيم في بناء الأجيال والأوطان، والإسلام يعطينا كل يوم الدليل على عظمته، ومدى تكريمه للمرأة، ومدى رفعه لقدرها في كل زمان ومكان.

إن المرأة في موكب الدعوة انتصرت على توجهات كثيرة، واستردت شخصيتها الإسلامية التي أوشكت أن تضيع، وعرفت دورها في إعداد الأجيال الصالحة، وبناء الفرد والأسرة والمجتمع، وبذلك أبطلت محاولات تقويض الأسرة، وهو هدف من أهم أهداف الصهيونية والصليبية والماركسية وكل القوى الهدامة.

أدركت المسلمة ضرورة التنشئة الاجتماعية، التي تدعمها التربية بالقدوة الصالحة، القدوة التي تمتد جذورها إلى الدين والأخلاق والآداب والمعاملات والذوق ومظاهر السلوك الخاص والعام.

وتحدث المؤلف عن الدور العظيم المشترك بين الرجل والمرأة في بناء الأسرة.

وأثبت أن الإسلام أوجب على الأبوين العمل في هذا البناء، ورعايته، وشرّع الأحكام لحمايته، كما بين الطريق الصحيح لتأديبه وتعليمه وحياطته بالرحمة والتقوى، حتى ينشأ الأولاد ربانيين مؤمنين، منذ اللحظة الأولى للحياة. وشدد الإسلام على الآباء في هذه المسؤولية، وهذا هو أحد الدعائم في بقاء المجتمع الإسلامي متماسكا، يقول صلوات الله وسلامه عليه:

(إن الله سائل كل راع عما استرعاه. حفظه أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته).

ويقول: (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتاب والسباحة، والرماية، وأن لا يرزقه إلا طيبا).

يقول د. عبد الواحد وافي.. في عمق العلاقة الزوجية، وفي قوة هذه الرابطة في الإسلام :

(في الواقع إن نظم الأسرة ليس من صنع الأفراد، ولا هي خاضعة في تطورها لما يريده لها القادة والمشترعون، وإنما يقوم وفق نواميس عمرانية ثابتة لا يستطيع الأفراد سبيلا إلى تغييرها، أو تعديل ما تقضي به.

والواقع أن نظام الأسرة في أمة ما يرتبط ارتباطا وثيقا بمعتقدات هذه الأمة وتقاليدها. وعرفها الخلقي وتاريخها، ولعل هذا هو السر في صمود الأسرة الإسلامية في وجه التيارات الغربية، التي تحاول اعتبار الزواج مجرد رابطة عقدية مدنية كسائر العقود المدنية، وتحررها من السند الديني والعقائدي الذي يحميها من عواصف الزمن ومخاطر الأغلال)[1].

إن المسلمة الداعية يجب أن تستيقظ لكيد الأعداء.. وأن تفند مزاعمهم، وأن تكشف محاولاتهم في دفع المرأة إلى التحرر من القيم الدينية والأخلاقية، فهذا انحراف خطير، وعامل من عوامل هدم كيان المرأة، وزعزعة كيانها.

جزى الله الأخ مصطفى محمد الطحان كل الخير على ما قدّم في هذه الرسالة الطيبة وتقبل منه هذا العمل وجعله في ميزانه اللهم آمين،،،

محمد عبد الله الخطيب
القاهرة في 1/11/1997م

[1] معلمة الإسلام - أنور الجندي.

مقدمة بقلم د. خالد المذكور

بقلم: د. خالد المذكور

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،

فقد اطلعت على كتابكم القيم المعنون بالمرأة في موكب الدعوة، ووجدته كتابا يحاكي واقع الدعوة في جميع مجالاتها، ومساهمة المرأة فيها مساهمة فعالة. ويثير في ثناياه قضايا عصرية طالما كثر التساؤل عنها واختلفت وجهات النظر فيها، وسيقت الأدلة النصية والعقلية عليها موجهة وشارحة.

ويتميز هذا الكتاب بالوسطية بين المُفرِطين والمفرّطين في هذه القضايا المعاصرة بالنسبة للمرأة على وجه العموم وللمرأة المشتغلة بالدعوة على وجه الخصوص.

ولعل تقلدك الأمانة العامة لاتحاد المنظمات الطلابية وحضورك الكثير من المؤتمرات واللقاءات والأنشطة خاصة في بلاد أوروبا وأمريكا، وإدراك مدى ما تعانيه الأقليات المسلمة في مثل هذه البلاد والمحافظة على أجيال المسلمين المستوطنين في هذه البلاد، أقول لعل هذا كان عاملا رئيسا من عوامل تأليف هذا الكتاب القيّم.

ويتميز هذا الكتاب بكثرة أدلته ومناقشتها وتحليلها وبكثرة أمثلته للمرأة في العهد النبوي وعهد الصحابة والوقت الحاضر.

وأعطى صورة جليّة واضحة لقيام المرأة الداعية وأثرها في أولادها وأسرتها ومجتمعها.

غير أن لكل بيئة تقاليدها وأعرافها وعاداتها التي قد تكون مناقضة للشريعة أو معاضدة ومساندة لها أو وقاية لها من باب سدّ الذرائع وهي قاعدة شرعية لا يستهان بها.

فجزاك الله خيرا ونفع بهذا الكتاب قارئه، وهو جهد طيب يضاف إلى مكتبة المرأة المسلمة الداعية وما يعينها على أداء واجباتها الدعوية لما يحبه الله ويرضاه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د. خالد عبد الله المذكور

الأستاذ في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الكويت

ورئيس اللجنة الاستشارية العليا

للعمل على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية

الكويت في 19/10/1997 م

رفقا بالقوارير

نستعير هذا الحديث الشريف الذي يطالب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم الخلق، المسلمين بالترفق بالمرأة.. وشبهها بالقارورة.. سريعة التأثر.. سريعة الكسر.. رائعة الشفافية.. رائعة العبير.

واليوم نناشد المسلمين أن يترفقوا بالنساء.. شقائق الرجال..ولا نعرف في الحقيقة سببا وجيها واحدا نفسر فيه هذا الإصرار من كثير من الرجال على كبت المرأة وحبسها واعتبارها من سقط المتاع.. فالمرأة ليست عدوا للرجل، ولا منازعا له، والله سبحانه وتعالى يقول: )بعضكم من بعض( [1].

هل هي عودة إلى الجاهلية..؟

أم هو تخلف يشمل الرجل والمرأة على السواء..؟

أم هو جهل الأكثرين بالنصوص الشرعية التي تتضمن التيسير، وتقاوم التعسير، وبخاصة نصوص السنة النبوية الصحيحة، فإن نصوص القرآن معلومة، أما السنة فقد ظهرت في الكتب، ونسيت في الدواوين الكثيرة من الجوامع والمسانيد والمعاجم والأجزاء وغيرها [2]..؟

• فإذا حرّر الإسلام المرأة وكرّمها.. فإن بعض من يزعمون الغيرة على دين الله أرجعها إلى الجاهلية حيث يقول: رحم اللهُ أياما كانت المرأة لا تخرج فيها إلا ثلاث مرات: من بطن أمها إلى العالم، ومن بيت أبيها إلى الزوج، ومن بيت زوجها إلى القبر[3] !

• وإذا رفع الإسلام الأوزار التي تثقل كاهلها.. ودفعها إلى جميع الساحات تعمل وتدعو وتجاهد في سبيل الله.. جاء من يتمسك بحديث واهن ضعيف منسوب إلى السيدة فاطمة رضي الله عنها يقول: (إن المرأة لا ترى أحدا ولا يراها أحد، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وضم ابنته إلى صدره وقال: ذرية بعضها من بعض)[4].

• في بطاقات فرحها يتجنبون ذكر اسمها.. وكأن مجرد كتابة الاسم عورة.. ونسي هؤلاء الذين يزعمون الغيرة.. أن القرآن ذكر أسماء النساء وان الأحاديث تحدثت عن خصوصيات البيت النبوي وذكرت أسماء أمهات المؤمنين.. وان علم التوثيق والتجريح الذي يباهي به المسلمون إنما قام على تسلسل الأسماء ومعرفة كل شيء عنها.

• وإذا وقعت جريمة ما، قالوا: فتش عن المرأة..! أو استشهدوا بالقول المنسوب كذبا وزورا إلى سيدنا علي: المرأة شرٌ كلها.. وشر ما فيها أنه لابد منها!. أيقول سيدنا علي كرم الله وجهه ذلك وعنده سيدة نساء العالمين..؟

• وإذا كرّمها الإسلام.. ووضعها نبي الإسلام عليه السلام في موقعها الصحيح، يستشيرها وتشير عليه.. جاء من يستشهد بالأحاديث الموضوعة: شاوروهن وخالفوهن.. أو طاعة المرأة ندامة، وهل تستقيم جدية الشريعة مع هذا العبث؟

• وإذا جعل الإسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.. وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين.. جاء من يستشهد بالحديث الموضوع: (لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة..).

• وإذا اعتبر القرآن وأد البنات من الحوادث الكونية الرهيبة، فقرنها مع أحداث يوم القيامة الكبرى، فقال تعالى: )إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا المؤودة سئلت بأي ذنبٍ قتلت...([5] .

يفعل القرآن ذلك، ويأتي من يزعم أن رسول الله قال: (نعم الختن القبر). أو (دفن البنات من المكرمات).. والحديثان موضوعان.

هل يستقيم هذا مع حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبناته حتى انه لم يقابل ابنته فاطمة رضي الله عنها مرة إلا وقبلها وأجلسها إلى جواره.. أو حبه لزوجاته..؟

• وفي ظل الصحوة الإسلامية المباركة حمل راية التشديد على المرأة بعض الكتاب وبعض الخطباء.. وازداد تشددهم كلما بدرت من الآخرين إشارة إلى الرغبة في إعادة المرأة إلى حظيرة الإسلام التي رفع بنيانها رسول الله صلى الله عليه وسلم..

قال مؤلف فاضل -في مجال الرد على من يرى مشروعية سفور وجه المرأة-: (عليكم قبل أن تعالجوا الحجاب أن تجمعوا من القوة والسلطة ما يطأ هامة كل شر ناجم، حتى إذا كان في المجتمع عينان اثنتان تحملقان إلى امرأة قد خرجت من بيتها سافرة، كانت فيه في الوقت نفسه سبعون يدا تمتد إليهما لتقتلعهما من محجريهما)[6] .

أين هذا التحدي المسرف من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ابن عمه الفضل بن العباس ينظر إلى الخثعمية الوضيئة المرة بعد الأخرى.. إنه لم يزد على أن أشاح بوجه الفضل إلى الجهة الأخرى..؟

• وقالت مؤلفة فاضلة: أورد الهيثمي في مجمع الزوائد عدة أحاديث كلها ضعاف ولكن مجموعها يقويها، تفيد أن القواعد من النساء فقط كن يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الشابات[7] .

وهذا الاتجاه يوضح كم هو الإصرار على إبعاد المرأة الشابة عن المسجد.. يستشهدون بأحاديث كلها ضعيفة ويتركون الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم التي تؤكد حضور المرأة الشابة للمسجد.

• وورد في مجلة إسلامية سؤال من قارئ جاء فيه: (نحن جماعة من الطلبة المسلمين ندرس في بلد أوروبي، نحاول أن نطبق الأحكام الشرعية على أنفسنا قدر المستطاع.. وقد تزوج أحدنا وزوجته تلبس اللباس الشرعي ولكنها تشعر بالوحدة والانفراد حيث لا توجد نساء أخريات يلبسن اللباس الشرعي أو يتكلمن اللغة العربية. والسؤال هو: ما المدى المسموح به من الاختلاط بين زوجة أخينا -مصحوبة مع زوجها- وبين الطلبة المسلمين هنا؟

وقد أجاب استاذ كريم على السؤال فقال: الاختلاط ممنوع أصلا في الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ودخول الرجال على النساء).

وواضح أن الاستشهاد خاطئ فالدخول الممنوع في الحديث هو الدخول على النساء في الخلوة. وواضح أيضا كم هذا الجواب بعيد عن فقه ابن القيم رحمه الله الذي قال: لا بد للفقيه أن يزاوج بين الواجب والواقع[8].

هذا من جانب..

ومن جانب آخر.. (فقد وجدنا من يريد إلغاء الفوارق بين الرجل والمرأة، فهي إنسان كما أن الرجل إنسان، وهما مولودان لذكر وأنثى، فلماذا يتفاوتان؟!

ونسي هؤلاء أن فطرة الله فرقت بينهما، حتى في التكوين الجسدي، لحكمة بالغة، وهي أن لكل منهما رسالة في الحياة تليق به وبطبيعته ومؤهلاته، فالأمومة بكل خصائصها وفضائلها ومتاعبها هي صميم رسالة المرأة، وهذا هو الذي جعل قرارها في البيت أكثر من الرجل.

وإذا كان هذا تفريق الفطرة، فلا ينبغي أن نهمله إذا خططنا لتعليم المرأة أو عملها. وهذا ما لاحظه العلم الحديث وأقطابه في هذا العصر.

ورأينا من هؤلاء من يتعسف في رد النصوص الصحيحة المحكمة دون برهان. كما فعلت أديبة كبيرة يوما حيث ردت -في محاضرة لها في قطر- حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) وهو حديث صحيح رواه البخاري في جامعه، وتلقته الأمة بالقبول، ولم يطعن فيه طاعن طوال القرون الماضية.

ورأينا من هؤلاء من يريد أن يحرّم ما أحلّ الله للرجل، من الزواج بأكثر من واحدة، لمن يحتاج إليه، ويقدر عليه، ويثق من نفسه بالعدل، مخالفين ما ثبت بنص القرآن الكريم، وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه وخلفائه من بعده، وعمل السلف في خير قرون هذه الأمة، وعمل خلف الأمة من بعدهم في شتى الأقطار، ومختلف الأعصار، وفي ظل جميع مذاهب الأمة إلى يومنا هذا.

بل رأينا من هؤلاء من يدعو إلى توريث البنت مثل ما يرث شقيقها رافضا أن يكون للذكر مثل حظ الانثيين، مخالفا جهرة كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة فقها وعملا طوال أربعة عشر قرنا، وما عُلم بالضرورة من دين الإسلام، مما لا يجهله خاص ولا عام.

رأينا من هؤلاء من يجهل أو يتجاهل أحاديث صحاحا صراحا، ليفتي بحل أشياء محرمة في شرع الله، يبرر بها الواقع القائم، أو يبرر بها اتجاهات الحكام في تحريم الحلال وتحليل الحرام، فتراهم يسكتون على إباحة القانون للزنى، وينكرون على تعدد الزوجات.

رأينا من أفتى بحل لبس ما سمي (الباروكة) مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه: (لعن الواصلة والمستوصلة) كما سمى الرسول الكريم هذا الوصل (زورا) أي تزويرا على الواقع، وأشار إلى انه من فعل اليهود.

ومثل ذلك من أفتى بأن لبس الثياب القصيرة التي تكشف عن الذراعين والساقين أو الشعر، والتي تشف وتصف -على ما نرى عليه ثياب الحضارة الوافدة على المجتمع الإسلامي- ليس أكثر من صغيرة من الصغائر يكفرها أداء الصلوات ونحوها.

وجهل من قال ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أهل النار النساء (الكاسيات العاريات) وحكم بأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وأن ريحها ليوجد في مسيرة كذا وكذا، والكاسيات العاريات هن اللائي لا تتوافر في ملابسهن الشروط الشرعية أي يلبسن ما يصف أو يشف، أو لا يغطي ما يجب تغطيته من الجسم. فلو كان ما يفعلنه من الصغائر ما حكم عليهن بالنار، ولا أعلن عن حرمانهن من الجنة، بل من مجرد شم ريحها.

ولو سلمنا بأن لبس الثياب المذكورة من الصغائر، فلا أحسب هؤلاء يجهلون إن الإصرار على الصغائر، ينقلها إلى درجة الكبائر، كما هو مقرر عند العلماء، حتى قالوا: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار.

بين تطرف وتطرف

ومن الحق أن يقال: أن كثيرا من تطرف المغالين المقلدين للغرب، كان رد فعل للتطرف من المغالين المقلدين للشرق. والتطرف لا ينتج إلا تطرفا مثله. والله لم يكلفنا أن نكون تبعا لغرب ولا شرق، ولا أسرى لقديم، أو حديث. إنما يجب أن يكون هوانا تبعا لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، من الهدى ودين الحق)[9] .

لهذا كان لابد من موقف يمثل (الوسطية) الإسلامية، التي لا غلو فيها ولا تفريط، ولا طغيان ولا إخسار، وهي التي يشير إليها قول الله تعالى: )ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان( [10] .

[1] آل عمران - 195.

[2] يوسف القرضاوي - مقدمة كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة ص 20.

[3] محمد الغزالي - مقدمة كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة ص 5.

[4] محمد الغزالي - مقدمة كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة ص 5 .

[5] سورة التكوير.

[6] تحرير المرأة في عصر الرسالة (المرجع السابق) 1: 34 .

[7] تحرير المرأة في عصر الرسالة (المرجع السابق) 1: 36 .

[8] (1) تحرير المرأة في عصر الرسالة (المرجع السابق) 1: 37 .

[9] يوسف القرضاوي- من مقدمة كتاب تحرير المرأة (ص- 14-16).

[10] الرحمن - 9.

الفصل الأول

تكامل شخصية المرأة المسلمة

المرأة قبل الإسلام

لقد أهدرت الحضارات القديمة: الصينية والهندية والرومانية واليونانية، وحتى بعض منتسبي الديانات كاليهودية والمسيحية، قيمة المرأة، وغضت من شأنها واعتبرتها من سقط المتاع، وأنها دنسة يجب أن تُحبس في البيت فلا تغادره.

يقول ديموستين المفكر اليوناني المشهور: (إننا نتخذ العاهرات للذة، والخليلات للعناية بصحة أجسامنا، ونتخذ الزوجات ليلدن لنا الأبناء الشرعيين). لا أهلية قانونية للمرأة ولا حقوق اقتصادية أو اجتـماعية لها من أي نوع كان.. بل إن إنسانيتها كانت موضع شك، حتى أنهم كانوا يتساءلون: هل المرأة إنسان له روح، أم هي حيوان نجس لا روح له..؟. وليست أهلا للتدين فالأصل فيها التجرد من الشرف كما يقول مانو فيلسوف الحضارة الهندية.. لهذه الأسباب وصفهم القرآن الكريم بقوله: )وإذا بُشّرَ أحدُهم بالأنثى ظلّ وجهُهُ مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشّرَ به، أيمسِكُهُ على هُونٍ أم يدسّهُ في التراب.. ألا ساء ما يحكمون...( [1].

الإسلام يحرر المرأة

وجاء الإسلام ليصحح المعادلة.. ليكرم الإنسان من حيث هو إنسان. قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم..)، وهذا التكريم يشمل الذكر والأنثى، السادة والعبيد، الأبيض والأسود، العربي والأعجمي، الغني والفقير، الحاكم والمحكوم.. المسلم وغير المسلم.

والبدء بتكريم الإنسان هو المدخل الحقيقي والصحيح نحو بناء حضارة إنسانية عادلة باقية.

إن النظم العالمية التي سبقت الإسلام لم تهدر قيمة المرأة فقط، بل أهدرت قيمة الإنسان إلا من طبقة صغيرة، كانت تعد بالآلاف في كثير من الأحيان، تختلف ميزاتها من مكان إلى مكان..

فعند الرومان.. السيد هو الروماني.. والروماني الحقيقي هو الذي يملك ألف عبد أو يزيد، وعند اليونان الناس طبقات ثلاث.. غالبيتهم العبيد. وعند الهندوس أغلبية الناس من طبقة المحرومين أو المنبوذين الذين ينجس بهم الماء والهواء. أما اليهود ففي تلمودهم أن الله لم يخلق الناس إلا ليكونوا حميرا يركبهم اليهود. أما حضارة الغرب الحديثة سليلة الحضارتين الرومانية واليونانية، فعندهم أن الأشقر صاحب العيون الزرقاء هو الذي يجب أن يسود، أما الشعوب الأخرى فمواصفاتها العقلية لا ترفعها إلا لدرجة الرقيق للسيد الأبيض.

جاء الإسلام فوجد الإنسان مهانا في جزيرة العرب وخارجها.. فقرر أول ما قرر كرامة الإنسان: (ولقد كرمنا بني آدم).

(لا فضل لأبيض على أسود ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).

(كلكم لآدم وآدم من تراب).

(متى استعبدتـم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا..؟).

ومع استغراب قادة قريش أن يسوي الإسلام بينهم وبين عبيدهم.. كان استغراب الجميع أشد وأقوى عندما قرر أن الكرامة الإنسانية تشمل المرأة والرجل على السواء لا فرق..!

)يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ..( [2].

في غاية الدقة والإحكام والسموق يقرر الإسلام: أن جميع الشعوب والقبائل والألوان والأجناس والذكور والإناث عند الله سواء، أكرمهم عنده أتقاهم له وأنفعهم لعياله.

الميلاد الحقيقي للإنسان

اليوم ولد الإنسان. كل الإنسان. كرمه خالقه رب العالمين، بعد أن خلع عنه كل ما تعارف عليه البشر من أغلال وأوزار.

وهكذا استعاد الإنسان الذكر والأنثى حقه ووُضِعَ في بداية الطريق.. ليبني لبني الإنسان حضارة ربانية متوازنة.. يرتفع فيها الإنسان بقدر ما يقدمه من خدمة في البناء الإنساني الصحيح.

وتتالت آيات الكتاب العظيم، يتلوها المؤمنون ليقتلعوا من نفوسهم كل غبش يعارض هذه الحقائق.

نفس واحدة

أولى هذه الحقائق هي أن الرجل والمرأة من أصل واحد:

قال تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا..( [3].

الجميع (ذكرانا وإناثا) من نفس واحدة هي نفس سيدنا آدم عليه السلام..

وأُمّ الجميع حواء، من نفس المصدر الروحي الذي نسب إليه بنوها.. فالأبناء إذاً وأمهم معهم داخلون في التقويم الإنساني المستـمد من خصائص تلك النفس الواحدة [4].

مسؤولية إنسانية واحدة

وفي المرحلة الثانية من استرداد المرأة لشخصيتها.. طالبها الإسلام بأن تكون مسؤولة عن تصرفاتها.. فالحرية لا قيمة لها بدون المسؤولية.. قال تعالى: )وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ( [5].

ثم قال: )أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ( [6].

فالأمر في البداية للاثنين (آدم وحواء) معا، والتكليف لهما كذلك، والنهي وتحمل المسؤولية كذلك.. ولا تزر وازرة وزر أخرى [7].

قال تعالى: )قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى( [8].

والرسول صلى الله عليه وسلم وهو ينادي بطون قريش من على جبل الصفا يقول يا معشر قريش: اشتروا أنفسكم. لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد مناف: لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب: لا أغني عنك من الله شيئا. ويا صفية عمة رسول الله: لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت محمد: سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا [9].

والجزاء واحد

أما الحقيقة الثالثة فهي أن الرجل والمرأة في الجزاء سواء.

قال تعالى: )فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ( [10].

وقال أيضا: )وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا..( [11] .

وفي ظلال هذه الحقائق الثلاث استكمل الإسلام شخصية المرأة من كافة الجوانب وأعطاها كل الحقوق.

النيل من شخصية المرأة

وبالرغم من استكمال الإسلام لشخصية المرأة.. وإعطائها كافة الحقوق التي تناسب فطرتها.. إلا أنها تعرضت ومازالت تتعرض لمظالم لا حصر لها.. في بعض المجتمعات الإسلامية.. وفي مجتمعات أخرى كثيرة.

ظلمت في المجتمعات الغربية، ولنستمع إلى الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر في كتابه (علم وصف الاجتماع) يقول: إن الزوجات كانت تباع في إنكلترا حتى القرن الحادي عشر، وإنه حدث أخيرا في القرن الحادي عشر أن المحاكم الكنسية سنت قانونا ينص على أن للزوج أن يعير زوجته لرجل آخر لمدة محدودة. وشر من ذلك ما كان للشريف النبيل من الحق في الاستمتاع بامرأة الفلاح إلى مدة أربع وعشرين ساعة من بعد عقد زواجها عليه.

وفي سنة 1567م صدر قرار من البرلمان الاسكوتلندي بأن المرأة لا يجوز أن تمنح أي سلطة على أي شيء. كما أصدر البرلمان الانكليزي في عصر هنري الثامن ملك إنكلترا قراراً يحظر على المرأة أن تقرأ الكتاب المقدس.

نتحدث عن أوضاع المرأة في انكلترا.. بينما هي أسوأ حالا في المجتمعات الغربية الأخرى.

ناقصات عقل ودين

أما في المجتمعات المسلمة فقد تمسك الجميع بتفسير خاص للحديث المروي عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمرّ على النساء فقال: يا معشر النساء ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله..؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل..؟ قلن: بلى.

قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم..؟ قلن: بلى. قال فذلك من نقصان دينها [12].

فسّروا الحديث بأن المرأة مخلوق ناقص لا أهلية له.. والحديث كان عظة للنساء في يوم عيد.. فهل نتوقع من الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم أن يغض من شأن النساء في هذه المناسبة البهيجة..؟

أما صياغة الحديث فليست صيغة تقرير قاعدة عامة أو حكم عام.. وإنما هي أقرب إلى التعبير عن تعجب رسول الله من التناقض القائم في ظاهرة تغلب النساء -وفيهن ضعف- على الرجال ذوي الحزم. ونحن نتساءل: هل تحمل الصياغة معنى من معاني الملاطفة العامة للنساء خلال العظة النبوية؟

إن كلمة ناقصات عقل ودين إنما جاءت مرة واحدة وفي مجال إثارة الانتباه والتمهيد اللطيف لعظة خاصة بالنساء، ولم تجئ قط مستقلة بصيغة تقريرية سواء أمام النساء أو أمام الرجال.. [13].

ولقد حفظ لنا القرآن الكريم من تاريخ المرأة في الحياة، ومواقفها من مشاكلها ودقائقها، ما أنبأ عن أهليتها وحكمتها في العديد من المواقف [14].

قال تعالى: )قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ( [15].

وبنت شعيب هذه لم ترَ موسى من قبل..

وهذا القدر من الرؤية ليس من شأنه أن يمكّن الإنسان من معرفة أسرار النفوس ودخائلها إلا إذا كان قد أوتي من قوة الفراسة ما أوتيته ابنة شعيب.

أما الحديث عن حسن الحيلة فتراه في قوله تعالى: )هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ( [16].

فبعد نظرها وحسن حيلتها أنقذت بها طفلا عنيت المقادير الإلهية بحفظه.

أما بعد النظر واستجلاء الحقائق الغامضة فنراه في قوله تعالى: ) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ( [17].

وقد رُوي أنها قالت: إن كان نبيا حقا لم تصادف هديتنا مكانا في قلبه، ولم تحل بينه وبين أمر ربه، وإن لم يكن فسوف يفرح بها ويعرض عن قتالنا.

أما الحديث عن تدبير الملك وحسن السياسة على أساس الشورى وعدم الاستبداد فتراه في قوله تعالى: )قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ، قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ، قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ( [18]. أفبعد شهادات القرآن هذه.. يأتي من يزعم أن المرأة لا أهلية لها..

[1] النحل - (58-59) .

[2] الحجرات - 13 .

[3] النساء - 1 .

[4] الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة - البهي الخولي، ص- 27.

[5] البقرة - 35.

[6] الأعراف -22.

[7] بعض الكتاب الجهلة أو المتحاملين وضع على كاهل المرأة عبء الشقاء الذي عانته البشرية منذ خلق آدم إلى قيام الساعة، لأنها (في زعمهم) هي التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة وانتهاك ما نهى الله عنه. وقد وجدوا في أسفار العهد القديم عند اليهود والنصارى ما يؤيد هذه التهمة. اتبعوا ذلك وأهملوا آيات القرآن الصريحة الواضحة، من مثل قوله تعالى: )ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما(. طه -115 .

[8] طه - 123 .

[9] رواه الشيخان .

[10] آل عمران - 195 .

[11] النساء – 124.

[12] البخاري ومسلم.

[13] تحرير المرأة (المرجع السابق) 1: 276 .

[14] القرآن والمرأة - شلتوت ص 18.

[15] القصص - 26.

[16] القصص - 12.

[17] النمل - 35.

[18] النمل 32 - 34.

حق المرأة في التعليم

والإسلام هو أول دين وأول نظام في العالم فرضَ العلم على الرجل والمرأة، لقوله صلى الله عليه وسلم: طلب العلم فريضة، واطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.

والمرأة مثل الرجل .. لن تستطيع القيام بدورها في المجتمع ما لم تتعلم أمور دينها ودنياها.. ولقد حثّ الإسلام على تعليم الفتاة وتربيتـها.. عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) [1].

وعن أبي سعيد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله) [2].

وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نساء الأنصار: لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين [3].

وقد ثبت أن الشفّاء بنت عبد الله المهاجرة القرشية العدوية علّمت حفصة بنت عمر أم المؤمنين الكتابة، بإقرار النبي إياها على ذلك.

وكما نبغ في الحياة العلمية رجال.. نبغت نساء.. قال الحافظ الذهبي: لم يؤثر عن امرأة أنها كذبت في حديث [4]. وقال الشوكاني: (لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه رد خبر امرأة لكونها امرأة. فكم من سنة قد تلقتها الأمة بالقبول من امرأة واحدة من الصحابة [5].

كان الناس يرون علم عائشة رضي الله عنها (وهي خريجة مدرسة النبوة) قد بلغ ذروة الإحاطـة والنضج في كـل ما اتصل بالدين من قرآن وحديث وتفسير وفقه، وكانت في المدينة مع الفقهاء الكبار كعبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن عباس في مقام الأستاذ من تلاميذه. كتب عنها الذهبي في كتابه (سير النبلاء) فقال: لو جمع علم الناس كلهم وأمهات المؤمنين لكانت عائشة أوسعهم علما..

يسألون: لماذا تخلف المجتمع الإسلامي؟

قد تكثر الإجابات.. والأهم فيها جميعا هو يوم تخلف العقل المسلم.. وما لم يعاد تشكيل هذا العقل فيستقيم مع الشريعة والحياة فلا أمل في تجاوز هذه المرحلة.

إن نظرة إلى واقع المرأة في عهد الرسالة.. كيف اقتحمت المسجد تنهل من منبع العلم.. وعندما لم تكتف.. طالبت بحلقات خاصة مع رسول الله تستزيد من علمه.. وتفاعلت مع هذا العلم.. وحولته إلى سلوك مثالي ميداني.. وإلى تربية رائعة ترضعها للأبناء.. وإلى مسيرة مباركة في كل ميادين الحياة.. لم تسأل المرأة (يومذاك) عن دورها في العمل السياسي.. أو الاجتماعي.. أو الاقتصادي.. فقد كانت تمارسه والهدي النبوي يشجعها ويأخذ بيدها..

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة أم المؤمنين لم تبلغ التاسعة عشرة من عمرها.. ومع ذلك فقد ملأت أرجاء الأرض علما، ففي رواية الحديث كانت نسيج وحدها ولم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من كان أروى منها، وقد روى لها عشرة ومائة وألفا حديث أخرجها كلها بقي بن مخلد الأندلسي في مسنده المصنف بالأسانيد المتصلة إليها..

قال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه خبر، وهي من المفتيات. قال ابن حزم: يمكن أن يجمع من فتياها سفر ضخم، وكانت من المفسرات أيضا قال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بالقرآن من عائشة. وكانت من أنفذ الناس رأيا في أصول الدين ودقائق الكتاب المبين، وكانت من العارفات بالطب والسياسة والرواية والتاريخ والأنساب، كما كانت رضي الله عنها تجيد القراءة.

ومن العالمات المجتهدات والمفتيات: أم سلمة، وحفصة، وأم حبيبة، وجويرية، وميمونة، أمهات المؤمنين، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وزينب بنت أبي سلمة ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو رافع: إنها أفقه امرأة في المدينة، وليلى بنت قائف، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شريك بنت ثويب، وأم الدرداء الكبرى، وعاتكة بنت يزيد، وسهلة بنت سهيل، وفاطمة بنت قيس، وأم سليم، وأم أيمن.

وقد عقد، محمد بن سعد جزءاً من كتاب الطبقات الكبرى لروايات الحديث عن النساء أتى فيه على نيف وسبعمائة امرأة روين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الثقات من أصحابه وروى عنهن أعلام الدين، وأئمة المسلمين.

أما واقع المرأة في القرون الأخيرة.. فقد كان مزريا.. ودورها هامشيا.. حاصروها وجهّلوها.. وزعموا انه لا يجوز للمرأة أن تدخل دور العلم.. وواجب تثقيفها يقع على أبيها أو زوجها.. وإذا كان الأب أو الزوج جاهلا.. فقد حرمت المرأة من نور العلم.. ومن فقه الحياة.

(واغتنمت المدارس الأجنبية الفرصة.. فقد رأوا الميدان مفتوحا لا مقاومة فيه، ولا شاغل يملؤه، فعبئوا كل جهودهم كي ينفذوا إلى صميم بنيان الأمة عن طريق التأثير في المرأة صانعة الأجيال، حتى قال المستشرق جب: إن مدارس البنات هي بؤبؤ عيني) [6].

[1] رواه البخاري.

[2] رواه الشيخان.

[3] مسلم.

[4] مقدمة الميزان - الذهبي.

[5] نيل الأوطار 8: 122.

[6] ماذا عن المرأة - د. نور الدين العتر، ص- 34.

دور المرأة في الدعوة

وإذا كان الخطاب في الأمم السالفة موجها للرجال فقط.. فهو في المجتمع الإسلامي موجه للرجال والنساء معا.

فيوم أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدعوة عشيرته الأقربين.. دعا عمه العباس.. ودعا عمته صفية.. ودعا ابنته فاطمة.. وضعهم أمام مسؤولياتهم، وأخبرهم بأن يختاروا لأنفسهم، ويسارعوا بالانضمام إلى ركب الدعوة، فهو لا يغني عنهم من الله شيئا.

هذا النداء.. هو أعظم وسام علقه الإسلام على صدر المرأة.. فلم يعد مجتمع الدعوة قاصرا على الرجال.. بل وانضمت المرأة إلى الموكب.. لترفع البناء يدا بيد ضمن توجيهات الوحي والنبوة.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)[1] ، ويقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا، فلما جاء الإسلام وذكرهنّ الله، رأينا لهن بذلك علينا حقا) [2].

ولم تستجب المرأة للدعوة تبعية للرجل.. بل فهمت أن الدعوة تعنيها كما تعنيه.. فسبقته أحيانا وكان يسبقها في أحيان أخرى. عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كنت أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان وأمي من النساء)[3] ، فلم تكن أم الفضل ولا ابنها على دين زوجها يوم كان العباس على دين قومه.

وفي السيرة روايات كثيرة عن تسابق الرجل والمرأة.. الكل يريد اللحاق بركب الدعوة ليكون الأقرب إلى رسول الله قائد الركب.

فما أن يعود النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء يرتجف خائفا حتى هدّأت خديجة (رضي الله عنها) من روعه، وبعد أن سمعت منه قصته قالت: والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتقري الضيف وتغيث الملهوف وتعين على نوائب الحق.. وأخذت بيده إلى ابن عمها ورقة بن نوفل..

كانت خديجة أول من آمن من النساء بل ومن الناس جميعا.. حملت هموم النبي وهموم الدعوة.. وعندما حوصر المسلمون في شعب بني هاشم كانت خديجة وحدها تقريبا صاحبة التدبير في تـموين المسلمين المحاصرين..

وخديجة الكبرى مجرد نموذج تقتدي به بناتها من بعدها في سيرهن الحثيث على طريق الدعوة.

(والمرأة أكثر اهتماما بدينها من الرجل، ويبدو أن ما حباها الله وخصها به من مشاعر الحنان والرحمة والرقة جعلها أقرب إلى الفطرة الدينية من الرجل. ولازلنا نرى كثيرا من المتبرجات يعدن باختيارهن إلى حظيرة الاحتشام والالتزام بآداب الإسلام، برغم الجهود الجبارة المبذولة من كل القوى المعادية للإسلام في الداخل والخارج..)[4] . فهل يحاول الدعاة والداعيات، فيأخذوا بأيدي أخواتهن اللواتي مازلن يغردن خارج السرب الإسلامي.. فيقربوهن من ميدان الدعوة.. بدلا من الكلام القاسي الجاهل الذي يؤذي المشاعر وينفّر الجميع.

عن عائشة أم المؤمنين أن أبا بكر ابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه.. وأفزع ذلك قريشا وقالوا: إنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا[5] .

هكذا تنقذف المرأة نحو الخير.. إذا وجدت الفرصة المناسبة والداعية الموفق.

والمرأة لا يؤثر عليها وهي صالحة فساد الرجل وطغيانه، ولاينفعها وهي طالحة صلاح الرجل وتقواه، فإنها ذات مسؤولية مستقلة فيما يتعلق بشؤونها أمام الله [6].

)ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( [7].

[1] أبو داود.

[2] البخاري.

[3] البخاري.

[4] من مقدمة كتاب فتاوي معاصرة - يوسف القرضاوي.

[5] رواه البخاري.

[6] القرآن والمرأة – شلتوت، ص- 7.

[7] التحريم – (10 – 11).

حقوق المرأة الاقتصادية وحقها في العمل

لم يكن للمرأة قبل الإسلام شخصيـة اقتصادية مستقلة.. بل كانت مجرد متاع يرثه الرجال.. ولقد وصف القرآن حالتهـا تلـك واستنكرهـا. قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ ([1] .

وأول مال يخص المرأة.. مهرها.. فهو خالص لها.. فريضة من الله على الرجل الذي يقترن بها.. لا يأخذ أحد منه شيئا إلا برضائها وطيب نفسها.. قال تعالى: )وآتوا النساء صَدُقاتهن نحلة( [2] .

وحتى لا تبقى المرأة عالة على الآخرين.. فقد قرر لها الإسلام حق التـملك بالميراث، فالمال يؤكد الشخصية ويقويها. قال تعالى: )لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا( [3]. وجعل لها كالرجل حق مباشرة عقود التصرفات بجميع أنواعها، وجعلها صاحبة الحق المطلق على ملكها.

لها أن تـمارس التجارة، ولها أن تضمن غيرها وأن يضمنها غيرها. يقول الإمام محمد عبده: (هذه الدرجة التي رفع اللهُ النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده، وهذه الأمم الأوروبية التي كان من آثار تقدمها في الحضارة والمدنية أن بالغت في احترام المرأة وتكريمها، لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها..) [4].

عملت المرأة في التجارة وفي الزراعة [5] وفي الرعي [6] وفي التمريض وفي جميع المجالات التي تناسب فطرتها وتطيق القيام بها.

روى الحاكم عن عائشة قالت: وكانت زينب امرأة صناعة باليد وكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله [7].

وكما احترم الإسلام دور المرأة الاقتصادي، فقد حثها النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون لمالها دور في إنماء المجتمع فقال: (تصدقوا، تصدقوا، وكان أكثر من يتصدق من النساء) [8].

وعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزينب زوج عبد الله: (زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) [9].

ومع الأسف فمازال بعض الرجال - ومنهم من يزعم الالتزام الإسلامي- يخافون هذه الاستقلالية الاقتصادية للمرأة.. فيدفعهم جشعهم أو تسلطهم للسيطرة على كل ما تـملك. والبعض الآخرون رجعوا إلى عهد الجاهلية فلا يجعلون لبناتهم نصيبا في الميراث.. فيبيعون تركاتهم صوريا لأبنائهم الذكور، ليحرموا الاناث من حقهم الذي قررته لهم الشريعة الغراء.

حق المرأة في العمل

(وإذا كانت علوم النفس والتربية تؤكد أن تفرغ الأم لوليدها ضرورة حيوية لكل من الولد والوالدة. فالأم في حاجة نفسية إلى وليدها.. كذلك الولد يحتاج أمه لحياته ولنفسه.. وبالتالي فإن خروج المرأة من البيت يعني إهمال النشء، وهذا يهدد الأجيال بفساد التربية، وحرمان الأمة من المواطن الصالح. ومع ذلك فهناك أعمال تحتاج المرأة أن تتخصص فيها مثل: التوليد والطبابة النسائية والتعليم في مدارس البنات وأمثالها من الأعمال. بعـد ذلك وفي إطار حاجة المرأة أو المجتمع فبإمكان المرأة أن تقوم بكل الأعمال التي تناسب فطرتها وتطيق القيام بها.. وتحمي شرفها وكرامتها) [10].

[1] النساء - 19.

[2] النساء - 4.

[3] النساء - 7.

[4] الإسلام والمرأة - محمد عبده، ص- 57.

[5] مسلم.

[6] رواه البخاري.

[7] على شرط مسلم.

[8] مسلم.

[9] رواه البخاري.

[10] ماذا عن المرأة - د. نور الدين عتر، ص- 167. وقال مثل ذلك الإمام حسن البنا في رسالته: المرأة المسلمة وواجباتها، ص- 25.

حقوق المرأة الاجتماعية

أعطى الإسلام المرأة حقوقا اجتماعية غير مسبوقة.. فقد قرر لها الإسلام أنها إذا بلغت، وظهرت عليها علامات الرشد، وحسن التصرف، زالت عنها ولاية وليها أو الوصي عليها سواء أكان أباً أم غيره، فيكون لها التصرف الكامل في شؤونها المالية والشخصية، واختيار المكان الذي تقيم فيه وليس لأحد من أوليائها أو أقربائها أن يجبرها على الإقامة عنده مادامت ذات عقل وعفة، قال الشيخ أحمد إبراهيم في كتاب الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية [1]:

(والأنثى إذا بلغت مبلغ النساء، فإن كانت بكرا أو ثيبا غير مأمون عليها فلأبيها أو من يقوم مقامه من الأولياء والمحارم والمأمونين عليها أن يحفظها عنده جبرا عنها، وإن كانت بكرا ودخلت في السن واجتـمع لها رأي وعفة، أو ثيبا مأمونة على نفسها، فليس لأحد من أوليائها أن يجبرها على الإقامة عنده) [2].

كما قرر لها الإسلام حقها في قبول أو رفض من جاء يطلب يدها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس للولي مع البنت أمر) [3].

وقال أيضا: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها) [4].

وهذه الخنساء بنت جذام زوّجها أبوها كارهة وكانت ثيبا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد زواجها) [5].

بل لها أن تباشر عقد الزواج بنفسها، جاء في الأحكام الشرعية: يشترط لنفاذ النكاح أن يكون كل من الزوجين حرا بالغا عاقلا إذا باشرا العقد بأنفسهما أو بوكيليهـما، أو باشره أحدهما مع وكيل الآخر) [6].

لقد حرر الإسلام المرأة فأصبح من حقها أن تبني مع الرجل الذي تختاره أسرة هانئة تحفها المودة وتحفظ ديمومتها الرحمة ويجد كل منهما السكن في ظلها.

قال تعالى: )وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(([7]).

وهذا يعني انه ينبغي أداء جميع الحقوق بين الزوجين في إطار من المودة والحب. فإذا ضعفت المودة بقيت الحقوق محفوظة، مثل: الرعاية.. اللطف.. الرحمة.. الإنجاب.. الثقة وحسن الظن.. المشاركة في المشاغل والهموم.. التجمل.. الاستمتاع الجنسي.. الترويح.. الغيرة.. المفارقة بالمعروف.

أما حق الرعاية فيوجب على كل من الزوجين مسؤوليتين خطيرتين.

• فعلى الرجل: مسؤولية القوامة ومسؤولية الإنفاق.

• وعلى المرأة: مسؤولية حضانة الأطفال وتربيتهم، ومسؤولية تدبير شؤون المنزل.

وأما حق اللطف فهو لكل من الزوجين.

قال تعالى: )وعاشروهن بالمعروف(([8]). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي([9]).

وحق الرحمة.. وهو لكل من الزوجين.

قال تعالى: ) وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (([10]). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر)([11]).

وحق الإنجاب.. وهو لكل من الزوجين.

قال تعالى: ) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً(([12]).

وحق الثقة وحسن الظن.. وهو لكل من الزوجين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة)([13]).

وحق المشاركة في الهموم والأمور العامة والخاصة.. وهو لكل من الزوجين.

ولقد أشرك النبي أزواجه في كثير من همومه وهموم الدعوة، ابتداء من نزول الحق على قلبه في غار حراء وقوله لخديجة: لقد خشيت على نفسي.. وحتى آخر يوم في حياته المباركة.. عندما قال لعائشة: ادعي لي أبا بكر، أباك وأخاك، حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمنّ، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر..([14]).

حق التجمل.. وهو لكل من الزوجين.

أما المرأة فتحب الزينة فطرة.. قال تعالى: )أومن يُنَشّؤُا في الحلية وهو في الخصام غير مبين(([15]). ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير النساء من تسرك إذا أبصرت)([16]). وعندما رأى رسول الله بذاذة هيئة خولة بنت حكيم.. سأل عائشة فقالت: امرأة لا زوج لها، يصوم النهار ويقوم الليل، فهي بلا زوج، فتركت نفسها وأضاعتها.. فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عثمان أما لك فيّ أسوة؟ إنك لتقوم الليل وتصوم النهار، وإن لأهلك عليك حقّا، وإن لجسدك عليك حقّا، فصلّ ونم، وصم وأفطر. فأتتهم المرأة بعد ذلك عطرة كأنها عروس....([17]).

وعن جابر بن عبد الله: قدم علي (رضي الله عنه) من اليمن فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حلّ (أي من الإحرام) ولبس ثيابا صبيغا (ملونة) واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا..([18]).

وعن سبيعة رضي الله عنها: فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب([19]). وفي رواية عند أحمد.. اكتحلت واختضبت وتهيأت...([20]).

وأما الرجل.. فقد لخص موقفه ابن عباس فقال: إنّي أحب أن أتزين لها كما أحب أن تتزين لي..

وحق المباشرة والاستمتاع الجنسي.. وهو لكل من الزوجين.

قال تعالى: (نساؤكم حرث لكم.. فأتوا حرثكم أنى شئتم)..([21]).

وقال رسول الله: (وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر..؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: بلى. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له فيها أجر..)([22]).

وحق الترويح.. وهو لكل من الزوجين.

عن عائشة قالت: وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب.. قال النبي: تشتهين تنظرين؟ قلت: نعم.. فأقامني وراءه خدّي على خدّه وهو يقول: دونكم يا بني أرفده([23]).

وحقّ الغيرة.. وهو لكل من الزوجين.

مثل الغيرة المحمودة في موطن الريبة، والغيرة المذمومة في غير ريبة.. والغيرة الزائدة.. وغيرة المرأة من الزوجة السابقة.. أو غيرتها من ضرتها.

وحق المفارقة..

فإذا أصاب الأسرة مكروه، فهما (الرجل والمرأة) مسؤولان عن معالجته عن تراض منهما وتشاور. قال تعالى: )فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما(([24]).

وللمرأة الحق في مفارقة الزوج إذا كرهته.. عن ابن عباس قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولاخلق إلا إني أخاف الكفر. فقال رسول الله: فتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فردت عليه وأمره ففارقها([25])..

بل إن بريرة طلب منها النبي صلى الله عليه وسلم أن تراجع زوجها (مغيث)، قالت: (يا رسول الله أتأمرني؟) قال: (إنما أناأشفع) قالت: (فلا حاجة لي فيه..)([26]).

مشاركتها في العبادات الجماعية

وشاركت المرأة في العبادات الجماعية، شهدت مع رسول الله صلاة الفجر([27])، وشاركته في صلاة الكسوف([28]) وصلاة الجنازة([29]) .. وفي الاعتكاف([30]).. والحج..ورسول الله يحذر المسلمين من أن يمنعوا إماء الله من مساجد الله([31]).

مشاركتها في الاحتفالات

شاركت المرأة في احتفالات الأعراس، عن سهل رضي الله عنه قال: (لما عرّس أبو أسيد الساعدي دعا النبيَ وأصحابه فما صنع لهم طعاما ولا قرّبه إليهم إلا امرأته أم أسيد)([32])، واحتفالات العيد([33])) وشاركت في مشاهدة الألعاب([34]).. وجميع أنواع النشاط الاجتماعي الذي كان يقوم به الرجال.. وزادت عليهم بالتـمريض.. فقد مرّضت إحدى الصحابيات وتدعى أم العلاء عثمان بن مظعون حتى توفي([35]).

في مجال الجنس

والجنس من متع الحياة في الدنيا والآخرة )زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين(([36]). وهو طيب حلال يثاب المرء على مباشرته مادام في حدود ما رسمته الشريعة، قال تعالى: )نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم(([37]).

وقال أيضا: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة(([38]).

فالسكون النفسي والجنسي هو الركن الأول في الحياة الزوجية، وهو تعبير بليغ عن شعور الشوق واللذة والحب الذي يجده كل منهما باتصالهما وإفضاء أحدهما إلى الآخر الذي به تتم إنسانيتهما فتكون منتجة أناسي مثلهما، وبه يزول أعظم اضطراب فطري في القلب والعقل لا ترتاح النفس وتطمئن في سريرتها بدونه([39]).

إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، إنما ينظمها ويطهّرها، ويرفعها عن المستوى الحيواني، ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية، فأما الزنا -وبخاصة البغاء- فيجرد هذا الميل الفطري من كل الرفرفات الروحية والأشواق العلوية، ومن كل الآداب التي تجمعت حول الجنس في تاريخ البشرية الطويل، ويبديه عاريا غليظا قذرا كما هو في الحيوان، بل أشد غلظا من الحيوان([40]).

والنفوس السليمة ترفض الزنا وتستقذره وتستبعده. عن أبي أمامة قال: جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:

• يا رسول الله: إئذن لي في الزنا.

فتصايح الناس وأنكروا قوله. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدناه منه وقال له:

• هل ترضاه لأمك؟ قال: لا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم.

• هل ترضاه لأختك؟ قال: لا.

• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم.

• هل ترضاه لابنتك؟ قال: لا.

• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذلك الناس لا يرضونه لبناتهم.

وهكذا ناقش الرسول صلى الله عليه وسلم المشكلة مع الشاب في صراحة ووضوح، ثم دعا له بدعوات موحية ذات مغزى عميق، فقال: اللهم طهّر قلبه، وحصّن فرجه، وغضّ بصره.

قال الشاب: فوالله ما التفتّ بعدها بشيء من ذلك أبدا.

والرجل هو الرجل وميله للمرأة فطري.. فكيف تستقيم غريزته وتهدأ..؟

يقول المصطفى: (إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يردّ ما في نفسه)([41]).

لقد سار رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهج يحقق التربية الجنسية السليمة، والثقافة الجنسية الرصينة، وقد ترتب على ذلك صحة نفسية ينعم بها الجميع رجالاً ونساء.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم مثال الإنسان الكامل، سواء في حالة الزوجة الواحدة أو في حال تعدد الزوجات، سواء في زهده وتقشفه، أو في كمال مباشرته لأزواجه واستمتاعه، وينبغي تصحيح فهمنا لموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الجنس بعد تصحيح تصورنا العام له.

لقد حضت الشريعة المرأة على أداء حق زوجها. عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، لعنتها الملائكة حتى تصبح)([42]).

وحضت الرجل على أداء حق زوجته. عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعهد كنته فيسألها عن بعلها فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشا ولم يفتش لنا كنفا مذ أتيناه (أي لم يجامعها). فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله ألم أُخبر انك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقّا.. وإن لزوجك عليك حقّا([43]).

ولقد حثّ الإسلام الزوجة والزوج أن يتجمل كل لصاحبه.. وأن يبدآ بالملاعبة والمضاحكة.. قال رسول الله: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك..؟([44]).

وفي الجو المتزمت الموروث الذي كان يفرض نفسه على البيئة المؤمنة.. كانت التعاليم الإسلامية على لسان النبي المعلم.. تحث المسلمين على التبسط مع نسائهم.. وعلى الاستمتاع الحلال.. كما كانت تحثهم على إزالة الهالة الضخمة من الإخفاء والتعتيم التي تحاط بكل ما يتصل بالجنس من قريب أو بعيد.

إن الإسلام ينظر إلى الجنس ككل طاقة حيوية في كيان الإنسان، خلقه الله ليعمل، ورتب له من المشاعر والأفكار داخل النفس ما يوائم ويواكب الطاقة الجسدية ليسيروا معا متوازنين متلاقيين كما يحدث في كل المسائل الحيوية الأخرى ، رتب له وهيأ له في منهجه المنزل من التنظيمات والتوجيهات والتشريعات ما يحقق أهدافه في أسلم وضع، وأنظف وضع، كطريقة الإسلام في كل شيء([45]).

ولم يعتبر الإسلام الأمرَ حلالا طيبا فحسب.. بل اعتبره عملا طيبا يستتبعه الأجر والثواب الجزيل.. كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله إن أحدنا ليأتي شهوته ثم يكون عليها أجر؟ قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليها وزر؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وضعها في حلال فله عليها أجر([46]).

والجنس النظيف هو غير الجنس الحرام الذي يعني الأزياء التي تبرز كل جسد المرأة في مظهر فاتن مثير،

أو الفيلم الهابط الذي يدعو إلى الرذيلة ويعرض في أكثر البلدان الفاحشة جهارا نهارا بلا ضوابط من أخلاق أو إحساس بمسؤولية تجاه الأسرة والأمة والمستقبل..

أو الملاهي أو علب الليل التي تتجرد فيها الفتاة من كل شيء.. ويشرد الفتى وقد لعبت الخمرة في رأسه في كل اتجاه..

أو الإذاعة والتلفزيون الذي تزيد فيه نسبة برامج الجنس عن 08% من مجموع برامجه..

أو الصحافة التي تتفنن في نقل كل ذلك للقراء.. المهم عندها أن تخرج المرأة إلى الملهى أو الشارع، وأن تتحرر من كل قيمة أو مبدأ..

أو المخدرات والمسكرات والإيدز..

أو الأدب الهابط المكشوف..

أو الاختلاط الماجن والنزوة الهابطة..

هذه الأنواع من الجنس.. غير الجنس النظيف المشروع.. الذي دعا إليه الإسلام.. )يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم، وريشا ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذّكرون(([47]).

)يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا(([48]).

هذا الجنس الهابط قد يكون في نهاية المطاف أكبر من خطر الطاقة الذرية. أو كما يقول المؤرخ أرنولد توينبي: يمكن أن يؤدي إلى انهيار الحضارات.

المرأة العصرية..

وهكذا حرّر الإسلام المرأة من الأغلال التي كانت تقيدها.. وأطلقها تعمل وتبني في كل المجالات المتاحة لنساء ذلك الزمان.. وستجد المرأة المسلمة المعاصرة مزيدا من ساحات العمل.. ومزيدا من المسؤوليات التي تستطيع الوفاء بها.. لبناء الحياة..

• فمن مسؤولياتها أن تتعاون مع الرجل لبناء أسرة فاضلة.

• ومن مسؤولياتها أن تتخصص في واحد من العلوم العصرية.. وخاصة العلوم التي تحتاجها المرأة كالطب والتعليم.

• ومن مسؤولياتها أن تعمل لتسدّ حاجة فردية أو أسرية أو اجتماعية.

• وإذا كانت المرأة أحد عنصري المجتمع.. فعليها كما على الرجل أن تشارك في كل الأنشطة الاجتماعية والسياسية.. وأن تعلم جيدا معنى التوجيه النبوي: (لا تزول قدما عبد حتى يُسأل: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)([49]).

[1] ص 158.

[2] الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة - البهي الخولي، ص- 34.

[3] رواه أبو داود والنسائي.

[4] رواه الجماعة إلا البخاري.

[5] رواه الشيخان.

[6] الأحكام الشرعية- الشيخ أحمد إبراهيم من كتاب الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة، ص- 35.

[7] الروم - 21.

[8] النساء - 19.

[9] ابن ماجة.

[10] النساء - 19.

[11] مسلم.

[12] النحل - 72.

[13] أبو داوود.

[14] رواه الشيخان.

[15] الزخرف - 18.

[16] الطبراني.

[17] الطبراني.

[18] مسلم.

[19] رواه الشيخان.

[20] رواه أحمد.

[21] البقرة - 322.

[22] مسلم.

[23] رواه الشيخان.

[24] البقرة - 233.

[25] رواه البخاري.

[26] رواه البخاري.

[27] رواه البخاري.

[28] رواه البخاري.

[29] مسلم.

[30] رواه البخاري.

[31] رواه البخاري.

[32] رواه الشيخان.

[33] رواه الشيخان.

[34] رواه الشيخان.

[35] رواه البخاري.

[36] آل عمران - 14.

[37] البقرة - 322.

[38] الروم - 21.

[39] حقوق النساء في الإسلام- محمد رشيد رضا، ص- 28.

[40] الإسلام والمشكلة الجنسية - مصطفى عبد الواحد، ص- 49.

[41] رواه الخمسة إلا البخاري.

[42] البخاري.

[43] البخاري.

[44] البخاري.

[45] من أجل حياة جنسية إنسانية وناجحة - د. أحمد ألأبيض، ص- 20.

[46] رواه مسلم وأحمد.

[47] الأعراف - 76..

[48] النساء - 1.

[49] الترمذي.

حقوق المرأة السياسية

مازال الكثيرون يتحفظون عند الحديث عن حقوق المرأة السياسية.. والأمر في تصورنا نوع من القصور.. سببه العادات المتوارثة والعرف الخاطئ. فالعمل السياسي واجب شرعي لا ينفك عنه أحد من الناس، إمّا على وجه العينية أو على وجه الكفائية. والعمل السياسي ليس نافلة ولا تطوعا بل فريضة تتأسس على مفهوم الاستخلاف الذي هو مصدر الالتزامات الإيجابية والسلبية التي تقع على عاتق كل مسلم([1]).

إن الكفاح الدامي الذي خاضه المسلمون الأولون ضد طغاة قريش كانت فيه المرأة المسلمة إلى جانب الرجل، فقد حفظ لنا التاريخ أسماء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وصهيب ومصعب وياسر وغيرهم، وحمل لنا كذلك أسماء: خديجة وعائشة وأسماء وأم أيمن وزنيرة وسمية وغيرهن.

ناضلت المرأة في سبيل الدعوة حتى كانت أول شهيدة في الإسلام، ولم ينس التاريخ المهاجرة العظيمة التي تركت ابنها وزوجها ومالها وبلدها وهاجرت إلى المدينة في سبيل دينها وإعلاء رايته..

أهلية المرأة للعمل السياسي

وإذا كان الفقهاء قد أقرّوا بأهلية المرأة أهلية كاملة في الولاية الذاتية والمتعدية على الأموال، والولاية المتعدية على الغير كالحضانة والوصاية، إلا أن بعضهم قد تحفظ على أهليتها لممارسة العمل السياسي، وكأنهم يرونها ناقصة الأهلية في هذا المجال. وقد استند هؤلاء إلى حديث رسول الله: (يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار)، فقلن: وبمَ يا رسولَ الله؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبّ الرجل الحازم من إحداكن"، قلن: وما نقصان ديننـا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟ قلن بلى، قال: فذلك من نقصان دينها)([2]).

وأكثر أهل العلم والخبرة يرون أن نقص المرأة هو نقص عرضي طارئ، وليس نقصا فطريا لازما، ولا يتعارض ذلك مع وجود نساء وهبهّن الله قدرات عالية قد تفوق قدرات الرجال([3]).

الوعي السياسي والتنظيم الاجتماعي

وإذا كانت المرأة تتمتع في الرؤية الإسلامية بالأهلية السياسية في مستوياتها المختلفة، فإن هذا يقتضيها أن تكون في ثقافتها واهتمامها بالشؤون العامة على المستوى الذي تحسن فيه أداء تلك الشؤون ومتابعتها وتعرف ما فيها من خطأ وصواب. كما أن الحركة السياسية لا تنفصل عن الحركة الاجتماعية، وقد يعدّ فهم هذه الأخيرة أهم مداخل فهم العمل السياسي للمرأة في المجتمع الإسلامي([4]).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال تعالى: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..(([5]).

لقد أثبت الله - في هذه الآية - للمؤمنات الولاية المطلقة مع المؤمنين، فيدخل فيها ولاية الأخوة والمودة والتعاون المالي والاجتماعي، وولاية النصرة الحربية والسياسية.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة الداعية من ذكر أو أنثى في السابق واللاحق وفي كل حين..

• في الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة كانت المرأة مع الرجل..

• في بيعة العقبة الأولى والثانية شاركت المرأة.. قال تعالى: ) يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله، إن الله غفور رحيم(([6]).

وإذا كانت البيعة الأولى، بيعة على الإيمان بالله وأن لا يشركن به شيئا ولا يزنين ولا يأتين ببهتان.. فقد كانت بيعة العقبة الثانية بيعة سياسية واضحة: أن يأمرن بالمعروف، وينهين عن المنكر، وأن يحمين الدعوة كما يحمين أبناءهن وديارهن، وأن لا ينازعن الأمر أهله، وعليهن الطاعة في المنشط والمكره بالمعروف. تلقى رسول الله هذه البيعة من الرجال والنساء على السواء وهاجر بعدها إلى المدينة.

والبيعة من أبرز جوانب العمل السياسي الذي تمارسه الأمة، فهي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم، بل وتسبق في الخبرة الإسلامية في عهد رسول الله إنشاء الدولة. فهي أساس المجتمع السياسي وأداة إعلانه والتزامه بالمنهج والشرعية.

• وبعد الهجرة.. ومع استكمال الوسائل التي تقوم عليها أركان الدولة، كانت المرأة تهتـم بشؤون المسلمين.. وتناقش رسول الله.. ويشاورها في الأمور الخاصة والعامة..

حاربن مع المحاربين في الغزوات.. وشاركن في صياغة الحرب والسلم. واستطعن في هذه الفترة الخاصة من حياة الأمة المسلمة أن يربين الجيل الثاني العظيم من أبناء المسلمين من أمثال ابن عمر وابن الزبير وابن عمرو وابن عباس والحسن والحسين جيل العمالقة علما وفهما وجهادا وثباتا.

عندما انسحب خالد بن الوليد بجيشه من غزوة مؤته لعدم تكافؤ الجيشين.. فرح المسلمـون بهذا الانسحـاب وعدّه رسولـه الله صلى الله عليه وسلم نصرا.. ولكنـه هزيمة في نظر المسلمات العظيمات فخرج أبناؤهن الذين تربوا تربية حرة على يد حرائر إلى ظاهر المدينة يهتفون في وجه خالد ويقولون: الفرّار.. الفرّار..

وهذه الخنساء التي لبثت دهرا تبكي أخاها صخرا.. حمدت الله عندما علمت أن أولادها الأربعة استشهدوا في سبيل الله ولم تزد أن قالت: الحمد لله الذي شرفني بمقتلهم.. وتلك المرأة التي أقبلت متلهفة تسأل الجيش فقالوا لها قتل زوجك قالت ليس عن هذا أسأل.. قالوا قتل أبناؤك.. قالت ليس عن هذا أسأل.. قالوا: النبي بخير فحمدت الله وقالت: كل مصيبة بعد رسول الله جلل.

هذه حفصة أم المؤمنين يدخل عليها أخوها عبد الله بن عمر فتقول له: أعلمت أن أباك غير مستخلف؟ قال: ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل وحلفت أن أكلمه في ذلك([7]). إنها مشغولة بأمور الأمة.. تخاف الفتنة وترجو الخليفة أن يستخلف.

أما أسماء بنت أبى بكر فقد سألها الحجاج: كيف رأيتني صنعت بعدو الله (يقصد أبنها عبد الله بن الزبير)؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك.. أما إن رسول الله حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير (المهلك) فلا أخالك إلا إياه([8]). لم تتهيب أسماء حاكما طاغيا من أن تعلن كلمة الحق أمامه.

أم الدرداء رضي الله عنها تقول للخليفة عبد الملك بن مروان: سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته فقالت: يقول رسول الله: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)([9]).

قمة عظمى صعدت لها المرأة المسلمة.. ولم يكن ذلك تصادفا أو فلتة عابرة.. بل من منطلق واضح: مساواة الرجل بالمرأة بالإنسانية والإسلام والتكاليف والأداء..

وللرجال عليهن درجة

قال تعالى: )ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة(([10]) .

وهذه قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرا واحدا عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: )وللرجال عليهن درجة(.

وهذه الدرجة فسرها قول الله تعالى: )الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم(([11])، وقد أحال في معرفة مالهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم في أهليهن. وما يجري عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم، فهذه الجملة تعطي الرجل ميزانا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشؤون والأحوال، فإذا همّ بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إنني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية).

وليس المراد بالمثل المثل لأعيان الأشياء وإنما أراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها إن لم يكن مثله في شخصه، فهو مثله في جنسه، فهما متـماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متـماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل([12]).

أما قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة فهي درجة الرياسة.

فالحياة الزوجية حياة اجتـماعية ولابد لكل اجتـماع من رئيس لأن المجتـمعين لابد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يُرجع إلى رأيه في الخلاف، لئلا يعمل كل منهم ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعا بحماية المرأة والنفقة عليها وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف([13]).

رئاسة مودة ورحمة

ورئاسة الرجل للمرأة هي رئاسة حب ومودة وتفاهم. قال تعالى: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة(([14]).

وقدوة الرجال في ذلك نبيهم صلى الله عليه وسلم إذ يقول:

(خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)([15]). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كنا معشر قريش نغلب النساء. فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فضجت علي امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، قالت: (ولِمَ تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل .. )([16]).

المرأة والشورى

ورئاسة الرجل لزوجه تقوم على الشورى لا الاستبداد.

قال تعالى: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(([17]).

وقال تعالى: )والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون(([18]).

وإذا كانت الشورى أساس الحكم.. فهي أيضا سلوك سياسي واجتماعي ينظم الدولة ورئيسها، وينظم الحياة الاجتماعية والأسرة في كل شؤونها.

كانت المرأة المسلمة يستشيرها النبي صلى الله عليه وسلم.. وتشير عليه، فعندما حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم تنفيذ المسلمين أمره بالحلق أو التقصير في أعقاب صلح الحديبية دخل على زوجه أم سلمة يستشيرها فأشارت عليه أن يخرج إليهم فيحلق وينحر فإذا رأوه فعل.. فعلوا مثله وهكذا كان..([19]).

ويوم رأي الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تغالي الناس في مهور النساء، نهاهم أن يزيدوا فيها على أربعمائة درهم، فاعترضت له امرأة في المسجد فقالت: أما سمعت قوله تعالى: )وآتيتـم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا(.. فقال: اللهم غفرا، كل الناس أفقه من عمر. وفي رواية أنه قال: امرأة أصابت وأخطأ عمر. وصعد المنبر وأعلن رجوعه عن قوله.

عن ابن عمر قال دخلت على حفصة رضي الله عنها فقالت: أعلمت أن أباك غير مستخلف..؟ قلت: ما كان ليفعل. قالت: انه فاعل. قال: فحلفت أن أكلمه في ذلك([20]).

كان للمسلمات رأي في اختيار الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد ورد أن سيدنا عبد الرحمن بن عوف استشار النساء في البيوت.. وكان لهن رأي كذلك في تسديد الحاكم.. كما كان لهن رأي كبير في الفتنة التي أعقبت استشهاد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وفي تراثنا صور رائعة لأدوار سياسية هامة قامت بها المرأة المسلمة عبر العصور.

المرأة تجير على الأمة

ومن حقوق المرأة السياسية في الإسلام أنها إذا أجارت أو أمّنت أحدا من الأعداء المحاربين نفذ ذلك، فقد قالت أم هانئ للنبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: إنني أجرت رجلين من أحمائي. فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ". وهذا الحديث صحيح متفق عليه. وفي بعض الروايات أنها أجارت رجلا فأراد أخوها علي كرم الله وجهه قتله فشكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأشكاها وأجاز جوارها.

وفي الحديث (أن المرأة لتأخذ للقوم)([21])، ومعناه: أن المرأة تجير على المسلمين، وهذا الأمر هو من أعظم الأمور وأخطرها في حياة الأمم والشعوب وعندما يعطاه للمرأة مثل الرجل معنى ذلـك أن الإسلام رفعها إلى نفس الذروة السامقة التي رفع إليها الرجل (وهو توكيد لثقة الإسلام المطلقة في كفاية الخصائص العالية التي أُهلت بها، وإعلان لكرامة مكانها في الحياة)([22]).

ويعدّ قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم لإجارة (أمان) المرأة أحد الأدلة على أهليتها السياسية، ولو كانت المرأة ناقصة الأهلية لما وثق في تقديرها ولما أجيزت تصرفات لها متعلقة بمصلحة الأمة([23]).

حق الانتخاب وحق الترشيح

والانتخاب هو اختيار الأمة لوكلاء ينوبون عنها في التشريع ومراقبة الحكومة، فعملية الانتخاب عملية توكيل، يذهب الشخص إلى مركز الاقتراع فيدلي بصوته فيمن يختارهم وكلاء عنه في المجلس النيابي يتكلمون باسمه ويدافعون عن حقوقه، والمرأة في الإسلام ليست ممنوعة من أن توكل إنسانا بالدفاع عن حقوقها والتعبير عن إرادتها كمواطنة في المجتمع.

وإذا كان الإسلام لا يمنع أن تكون المرأة ناخبة فهل يمنعها أن تكون نائبة..؟

قبل أن نجيب على هذا السؤال يجب أن نعرف أن طبيعة النيابة عن الأمة لا تخلو من عملين رئيسين:

1- التشريع: تشريع القوانين والأنظمة.
2- المراقبة: مراقبة السلطة التنفيذية في تصرفاتها وأعمالها.

أما التشريع فليس في الإسلام ما يمنع أن تكون المرأة مشرعة.. فالتشريع يحتاج إلى العلم في معرفة حاجات المجتمع وضروراته.. والإسلام يعطي حق العلم للرجل والمرأة على السواء..

وأما مراقبة السلطة التنفيذية فإنه لا يخلو أن يكون أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر. والرجل والمرأة في ذلك سواء في نظر الإسلام.

الولايات العامة

اختلفوا في أهلية المرأة للولايات العامة.. فقد أجاز فريق توليها الولايات العامة ماعدا الخلافة فقد عيّن عمر أمير المؤمنين لمنصب الحسبة وولاية السوق امرأة من قومه يقال لها الشفاء. ذكر ذلك ابن حزم وابن عبد البر وابن الأثير والحافظ وطائفة من الفقهاء والمؤرخين.. والشفاء هذه اسمها ليلى بنت عبد الله القرشية العدوية، أسلمت قبل الهجرة وكانت من المهاجرات الأول، وكانت من عقلاء النساء وفضلياتهن.

وجمهور الفقهاء على أن المرأة لا يجوز لها أن تلي القضاء مطلقا.. وذهب الإمام الطبري إلى جواز ذلك مطلقا.

أما أبو حنيفة رضي الله عنه فوقف موقفا وسطا بين الجمهور وبين الطبري فلم يسلبها ولاية القضاء إطلاقا، ولم يجزها لها إطلاقا، بل قال: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال، قياسا على جواز شهادتها في الأموال، فهي تقضي فيما يجوز أن تشهد فيه([24]).

حقوق وواجبات

وإذا كانت الحياة تقوم على التوازن.. كذلك الحقوق تقابلها الواجبات.. فإذا أعطى الإسلام المرأة كامل حقوقها.. طالبها بأن تؤدي جميع الواجبات. قال تعالى: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا(([25]).

[1] المرأة والعمل السياسي- هبة رؤوف عزت، ص- 92.

[2] البخاري ومسلم.

[3] تحدث عن هذا الموضوع بشكل جيد الشيخ فيصل مولوي في رسالته (دور المرأة في العمل الإسلامي).

[4] المرأة والعمل السياسي - هبة رؤوف عزت، ص- 102.

[5] التوبة - 71.

[6] الممتحنة - 12.

[7] رواه مسلم.

[8] رواه مسلم.

[9] رواه مسلم.

[10] البقرة - 228.

[11] النساء - 34.

[12] حقوق النساء في الإسلام - محمد رشيد رضا، ص- 31.

[13] حقوق النساء في الإسلام ص 36-37.

[14] الروم - 21.

[15] ابن ماجه.

[16] البخاري ومسلم.

[17] التوبة - 71.

[18] الشورى - 38.

[19] البخاري.

[20] رواه مسلم.

[21] رواه الترمذي.

[22] الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة - البهي الخولي، ص- 37.

[23] المرأة والعمل السياسي- هبة رؤوف عزت، ص- 106.

[24] وعلى هذا فليس في نصوص الإسلام الصريحة ما يسلب المرأة أهليتها للعمل النيابي ناخبة أو نائبة(المرأة بين البيت والمجتمع - البهي الخولي، ص- 130).

[25] الأحزاب - 36.

الفصل الثاني

مسلمات في موكب الدعوة - نماذج تطبيقية

كيف حدث التغيير

كيف حصل هذا التغيير الذي أحدثه الإسلام في واقع الدنيا.. والذي حارت في فهمه عقول الساسة والقادة.. كيف استطاع النبي العظيم صلى الله عليه وسلم مع مجموعة متواضعة من الرجال والنساء أن يقيم في بضع سنين دولة إسلامية في المدينة.. لم تلبث أن سيطرت على جزيرة العرب.. ولم تـمض خمسون سنة حتى استطاعت أن تسيطر على معظم العالم القديم المعروف يومذاك..؟

ولم يكن تغيير سيطرة واكتساح، بل تغيير عدل وانفتاح، ارتضت على أساسه الشعوب التي فتحت بلادها، الإسلام وراحت تدافع عنه وتنتسب إليه.. إن أحفاد الأقوام الذين فتح المسلمون بلادهم يعتزون بانتسابهم للفاتحين.. فالمسلم الهندي يعتز بالإسلام وبالقائد محمد بن القاسم الذي فتح بلاده. يتسمى باسمه ويسمي أبناءه وأحفاده بهذا الاسم.. بينما يستحيل أن ينسب مصري أو سوداني نفسه لكتشنر على سبيل المثال أو مغربي وسوري لديغول..

ذاك هو التغيير الإسلامي الذي بدأ بالإنسان ذكرا و أنثى فكرّمه، فاستجاب الإنسان ذكرا و انثى لهذا التكريم والاستخلاف في الأرض.. فتغيرت الدنيا بعد تغيره..

)إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..(.

ولنتتبع معا بعض حلقات هذا التغيير وكيف استجابت المرأة له..

حق المرأة في اختيار زوجها

• جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته.. فجعل الأمر إليها، أي أخبرها أن الأمر بيدها، إن شاءت أقرت ما صنع أبوها، وإن شاءت أبطلته، فقالت (قد أجزت ما فعل أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء)([1]).

فلم يعد الأمر أنثى تستحي من عارها.. بل معلمة تعلم الأجيال من النساء والرجال.. أن للمرأة الحق في اختيار زوجها.. وأن كلمتها في هذا الأمر هي فصل الخطاب.

إن أسلمت فذاك مهري

• خطب أبو طلحة أمَّ سليم ( الغميصاء بنت ملحان) قبل أن يسلم، فقالت: أما إني فيك راغبة، وما مثلك يُرد ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة لا يحل لي أن أتزوجك..

فقال: ما دهاك يا رميصاء..؟

قالت: وماذا دهاني..؟

قال: أين أنت من الصفراء والبيضاء. (يقصد الذهب والفضة)..؟

قالت: لا أريد صفراء ولا بيضاء، فأنت امرؤ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا.. أما تستحي أن تعبد خشبة نجّرها لك حبشي بني فلان.. إن أنت أسلمت فذاك مهري!

قال: حتى أنظر في أمري. فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. قالت: يا أنس (ابنها) زوّج أبا طلحة فزوّجها([2]).

هل في تاريخ العالم لوحة أعظم من هذه اللوحة المعبرة...؟

فلم يعد يهز وجدان المرأة المسلمة أصفر أو أبيض.. بل ارتفعت مع عظمة العقيدة التي آمنت بها إلى ذروة الإيمان السامقة.

زوجة عمر تراجعه

• عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: فبينا أنا في أمر أتأمره، إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا. فقلت لها: مالك ولما هاهنا؟ فيما تكلفك في أمر أريده..؟ فقالت: عجبا لك يا ابن الخطاب ما تريد أن تُراجعَ أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله رضي الله عنه..([3]).

ما أحسنت ولا أجملت يا عمر

جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت :

يا أمير المؤمنين إني وجدت صبيا ووجدت صرة فيها دينار، فأخذته واستأجرت له مرضعة، وأربع نسوة يأتينه ويقبلنه لا أدري أيتهن أمه، فقال لها: إذا هن أتينك فأعلميني، ففعلت، فقال لامرأة منهن:

أيتكن أم هذا الصبي؟ فقالت:

والله ما أحسنت ولا أجملت يا عمر! أتعمد إلى امرأة ستر الله عليها فتريد أن تهتك سترها..؟ قال:

صدقت([4]).

هكذا أصبحت المرأة بعد أن غيّرها الإسلام.. واعية جريئة تردّ على أمير المؤمنين العادل الفقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. وتنطق بالحكمة التي لا يسع عمر إلا أن ينزل عندها ويقول: صدقت.

أم أيمن تبكي انقطاع الوحي

• عن أنس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله يزورها.. فلما انتهينا إليها بكت.. فقالا لها: ما يبكيك..؟ ما عند الله خير لرسوله. فقالت: بل أبكي لأن الوحي انقطع من السماء..([5]).

هل يتصور دعاة حقوق المرأة.. أن امرأة مثل أم أيمن تخدم في بيت النبوة تصل إلى مثل هذا المستوى الرفيع من الإدراك. فهي لا تبك فقد حبيبها.. ولكنها تبكي لانقطاع صلة الأرض بالسماء.

أم حرام بنت ملحان

عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل يوما فأطعمته فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ يضحك، قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة.. قالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها..([6]).

وهذه لوحة أخرى، بطلتها أم حرام بنت ملحان، من بني النجار أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.. كانت كأخواتها المسلمات تتشوق للمساهمة في بناء المجتمع الجديد.. فما أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أقواما من أمته يركبون البحر يجاهدون في سبيل الله.. حتى تطلعت إلى هذا الشرف.. وقالت: ادع الله أن يجعلني منهم.

وإذا كان العرب أقوام صحراء لا يهابونها، وأقوام رماح وسيوف يتعايشون معها، فإن البحر جديد بالنسبة لهم.. يخافونه ويخشون مجهوله.. ولكن أم حرام تتقدم ولا تهاب، وتركـب أعالـي البحـر بصحبة زوجها ضمن جنود البحرية الإسلامية وهم يفتحون قبرص، وإذا كان رسول الله يصف هؤلاء الفاتحين بأنهم مثل الملوك على الأسرة فقد انفردت بينهم أم حرام بنوع آخر من المجد.. فمازال المسلمون في قبرص.. من يوم فتحت وحتى اليوم.. يهرعون إليها يلقون عليها التحية، ويأخذون منها العبرة.. فقد شاركت في بناء صرح الإسلام.

البيعة للرجال والنساء

روى كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه قال:

خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب (أم عمارة) وأسماء بنت عمرو (أم منيع). فاجتمعنا في الشعب حتى جاءنا رسول الله ومعه عمّه العباس، فبايعناه.

وقد روى الإمام أحمد عن جابر قال: قلنا يا رسول الله علامَ نبايعك؟ قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة.

قال جابر: فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة. وأما بيعة المرأتين فكانت قولا بدون مصافحة([7]).

والبيعة موثق وعهد يعطيه المسلم طائعا مختارا لربه، مستسلما لمشيئته، مدافعا عن دينه. فإذا كانت البيعة على الإسلام، فعهدهم أن لا يشركوا بالله شيئا. وإذا كانت البيعة على الجهاد، فعهدهم أن يبذلوا أنفسهم حمية لدينهم حتى تكون كلمة الله هي العليا. وإذا كانت البيعة على النصرة، فعهدهم أن يسمعوا ويطيعوا للقيادة المسلمة المخلصة في كل الظروف، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وأن لا ينازعوا الأمر أهله.

ولقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة من أصحابه رجالا ونساء، كبارا وصغارا.. فلكل موقع في المجتمع المسلم، ولكل حقوق وعليه واجبات.

ومن عجب أن بعض المفكرين المسلمين انحصر همهم في تحقيق كيفية بيعة النساء.. وكان الأولى أن يُبذلَ الجهد في إبراز دور المرأة السياسي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ منها عهدا وموثقا في كل الأمكنة والأزمنة مؤكدا مسؤليتها في حماية الدين والدفاع عنه بما تملك في المنشط والمكره في العسر واليسر وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

سمية أول شهيدة في الإسلام

أخرج الحاكم عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بياسر وعمّار وأم عمّار وهم يُوذَون في الله تعالى، فقال لهم: صبرا يا آل ياسر، صبرا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة. وطعن أبو جهل سمية في قبلها فماتت، ومات ياسر في العذاب.. أما عمّار فلم يتركوه حتى ذكر آلهتهم بخير.

هذه لوحة خالدة أبطالها ثلاثة: ياسر ابن عامر العنسي حليف أبي حذيفة المخزومي القرشي، وابنه عمار، وزوجه سمية بنت خيّاط. أسلم عمّار، وعرض الإسلام على أمه فأسلمت، وعرضه على أبيه، فقال له: متى تصحبنا إلى محمد لنسمع منه..؟

وأقبل المساء من ذلك اليوم وإذا أبو جهل عمرو بن هشام قد أقبل في فتية من بني مخزوم فوضعوا عمار وأبويه في الحديد، وأشعلوا في دار ياسر النار. وتفنن أبوجهل ونفر من سادة قريش وعبيدهم بتعذيب هؤلاء، يخزّونهم بالرماح والخناجر، يلهبونهم بالسياط، يعبثون بأجسادهم وهم يتضاحكون ويتصايحون، يطرحونهم أرضا، يحرّقونهم بالنار، يلقون عليهم الأحجار الثقال.. يسكبون عليهم الماء، وأبو جهل ينتظر متحرق النفس أن يسمع من أحدهم صيحة أو أنة أو شكاة.

ويمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرهط المعذبين، فيسمع المشركون صوت ياسر لأول مرة من يومهم ذاك، يقول:

• الدهر هكذا يا رسول الله، قال رسول الله:

• أبشروا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.

وتقول سمية، أشهد أنك لرسول الله، وأشهد أن وعدك الحق.

ويفقد أبو جهل أعصابه ويقول: لتذكرنّ محمدا بسوء أو لتموتن.. وتجيب سمية:

بؤسا لك ولآلهتك.

وأخرج الحنق أبا جهل عن طوره فجعل يضرب في بطن سمية برجله.. ثم يطعنها بحربة كانت بيده، فتشهق شهقة خفيفة ثم تكون أول شهيدة في الإسلام.

وسجلت سمية بنت خياط سبقها على رهطها.. وعلى أخواتها المسلمات.. آمنت بالله ورسوله وما كان لإيمانها أن تهزه الرياح العواتي، وثبتت في ميدان الجهاد كالجبال الرواسي، وتقدمت إلى ميدان الشهادة باطمئنان وتسليم واستعلاء. وهي تنظر إلى العلاء إلى بشارة النبي صلى الله عليه وسلم: إن موعدكم الجنة.

أم شريك القرشية العامرية

لم تكد المرأة المسلمة تجاهر بعقيدتها بعد إعلان الدعوة، وتتحرر من أسباب الكبت والتستر والحصار، وتخرج إلى دنيا الجهاد والعمل، حتى تكالبت عليها قوى الكفر في شراسة الوحوش الضارية لتفتنها عن دينها وتتفنن في تعذيبها فما زادها ذلك إلا ثباتا في الحق وتشبثا به.

فلم ترتد بعد إيمانها ولا ارتابت بعد تصديقها.. وإذا كان بعض الرجال نطق بكلمة الكفر ليتقي بها العذاب.. فإن امرأة واحدة لم تفعل ذلك..

كانت سمية في طليعة هؤلاء المعذبات في الله.. وكانت أول شهيدة في الإسلام. ومن المعذبات: حمامة أم بلال بن رباح، وجارية لبني عدي بن كعب. ولبيبة جارية بني المؤمل، والهندية وابنتها، وزنيرة الرومية. كن جميعا يلبسن أدرع الحديد ويطرحن في رمال الشمس المحرقة ثم يسلمن إلى زبانية الدماء.

وكان من هذا الرهط الكريم أم شريك القرشية العامرية التي راحت تدخل على نساء قريش سرا تدعوهن إلى الإسلام حتى ظهر أمرها لأهل مكة فأخذوها وحملوها على بعير ليس تحته شيء موطأ ثم تركوها ثلاثا لا يطعمونها ولا يسقونها وكانوا إذا نزلوا، أوقفوها بالشمس واستظلوا، وحبسوا عنها الطعام والشراب. وهكذا استهونت المرأة المسلمة الآلام والعذاب في سبيل الله وفي سبيل العقيدة.. موقنة بالنصر والعزة في الدنيا والشهادة والجنة في الآخرة([8]).

فاطمة بنت الخطاب

أخرج ابن سعد عن أنس رضي الله عنه قال: خرج عمر رضي الله عنه متقلدا السيف فلقيه رجل من بني زهرة قال: أين تعمد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمدا. قال: أفلا أدلك على ما هو أعجب من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أختك وختنك قد صَبَوا وتركا دينك الذي أنت عليه. قال: فمشى عمر ذامرا (متهددا) حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خبّاب. قال: فلما سمع خبّاب حسّ عمر توارى في البيت، فدخل عليهما فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطأه وطأ شديدا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده نفحة فدمّى وجهها. فقالت: -وهي غضبى- يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. قال عمر: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه. فقالت أخته: انك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ([9]).

وهذه لوحة أخرى يذكرها المؤرخون وكتّاب السير عندما يتكلمون عن إسلام عمر، الرجل القوي الذي اعتز الدين بإسلامه، والذي كان لا يسلك شعبا إلا وسلك الشيطان شعبا آخر.. لوحة تضم فاطمة بنت الخطاب.. المرأة التي دافعت عن زوجها المؤمن (سعيد بن زيد)، وتقول لأخيها بكل قوة: يا عمر، إن كان الحق في غير دينك، وتتحمل الضرب والإهانة ولا تتنازل عن دينها.. وعندما أراد أخوها تناول الصحيفة أبت وقالت: بل أنت رجس.

وأدرك عمر أن المعنى الذي أحال فاطمة بنت الخطاب إلى ما صارت إليه، من القوة والبأس بحيث تردعه وتأبى عليه.. بل وتأمره بأن يتطهر إن أراد قراءة الصحيفة.. لمعنى عظيم. فرأى في نفسه الجبارة في الجاهلية، تستسلم لقوة أخته المسلمة وليس بدعا هذا.. فالحق غلاب.. والإسلام أغلب.

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أن ينصر الله الإسلام بأحب العمرين إليه، فإن مفتاح إسلام عمر كان أخته فاطمة بنت الخطاب والفضل لمن سبق.

أسماء ذات النطاقين

أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة. )وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين(([10]).

وخرج المهاجران نبي الله وصاحبه أبو بكر إلى غار ثور ليمكثا فيه ثلاث ليال، حتى إذا خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، استأنف المهاجران طريقهما إلى المدينة.

كانت أسماء بنت أبي بكر عنصرا رئيسا في ترتيب الرحلة المباركة. حتى إذا مضت الثلاث، أتتهما بسفرة من الطعام يتبلغان بها في سفرهما، ولكن الوقت أعجلها أن تجعل للسفرة عصاما (علاقة) تعلقها به في الرحل. فلم تجد غير نطاقها، فشقته نصفين، فعلقت السفرة بشق منه، وتنطقت هي بالشق الآخر، فسمّيت من يومها (أسماء ذات النطاقين)([11]).

وذهب الاسم خالدا على الدهر، فإذا كانت صاحبته شابة صغيرة إلا أنها تحفظ السر، وترتب السفرة، وتمشي وحيدة إلى غار ثور، تكلأ الرفيقين بالرعاية والعناية، وتتصرف عندما نسيت العصام تصرّف الداعيات الحريصات الذكيات.

وحدثت أسماء فقالت: لما خرج المهاجران أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟

قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي. قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدّي لطمة طرح منها قرطي([12]).

وأبو جهل عظيم قريش وجبّارها، والمتآمر الأول على الدعوة وقائدها، نال منه المسلمون المستضعفون كما لم ينالوا من غيره، ولم ينسوا بعد كيف سقطت بيده سميّة، وبعدها ياسر زوجها شهيدين يشهدان ظلم الطاغية.. ومع ذلك تقف أسماء الصغيرة أمامه، وتحفظ سرّ المهاجرين، وتتحمل الإيذاء والضرب.. فلا يضرها ذلك مادام في سبيل الله، ومادامت تعلّم أخواتها الداعيات على مرّ الأيام كيف يتصرفن ويتحملن ويصبرن في مواجهة الطاغوت.

وتحدث أسماء فتقول إن أبا بكر احتمل معه ماله كله.. فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا. قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليه ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت، ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس.

وتضيف أسماء: ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك.

والإنسان ليعجب، كيف استطاعت هذه الشابة أن تتصرف هذا التصرف العاقل. من أين أتتها كل هذه الحكمة؟ فكرت كيف تهدّأ الشيخ، ولم تفكر من أين تأكل أو تشرب. ولكنها تربية أبي بكر، القريب من بيت النبوة، ولا غرابة بعد ذلك فيما يصدر عن أسماء من عقل راجح، وحكمة بالغة، وتصوّر للأهداف البعيدة، واستعلاء على تفاهات الدنيا، والتعلق بالآخرة..

ويخرج نعيم بن حمّاد في (الفتن) عن ضمام: أن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما أرسل إلى أمه أن الناس قد انفضوا عني وقد دعاني هؤلاء إلى الأمان. فقالت:

• إن خرجت لإحياء كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فمت على الحق، وإن كنت إنما خرجت على طلب الدنيا فلا خير فيك حيا ولا ميّتا([13]).

واللوحة التي نحن بصددها تصور موقف أسماء مع ابنها عبد الله بن الزبير فلقد استشهد الزبير أيام حرب الجمل، وبقيت أسماء بعده، تتعزى عن فقده بولدهما عبد الله.. والفتن متلاحقة، ظلمات بعضها فوق بعض، استشهد علي وبعده الحسين رضي الله عنهما.. ووصل الدور إلى عبد الله بن الزبير الذي احتمى بالكعبة من جور الحجاج، ولما أحاط الحجاج ومعه جند الشام ببيت الله الحرام وتفرق الناس عن عبد الله، دخل على أمه فقال:

• يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت:

• يا بني أنت أعلم بنفسك، فإن خرجت لإحياء كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمت على الحق، وإن خرجت في طلب الدنيا فلا خير فيك حيا ولاميتا، وإن قلت: كنت على الحق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين. قال:

• يا أماه أخاف أن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. قالت: إن الشاة لا يهمها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك واستعن بالله. فقبّل رأسها وقال:

• هذا رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا وما أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرماته ولكني أحببت أن أعلم رأيك فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتدّنّ حزنك وأسلمي الأمر لله. فقالت له أمّه:

• إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا، إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. فقال:

• جزاك الله خيرا، فلا تدعي الدعاء لي. قالت:

• لا أدعه أبدا. ثم قالت:

• اللهم ارحم طول ذاك القيام في الليل الطويل، وذاك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبرّه بأبيه وبي. اللهم قد أسلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين.

ثم أقبل عبد الله على القتال حتى قتل، فصلبه الحجاج على جذع فوق الثنية ثم أرسل إلى أمه أسماء، فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول:

• لتأتينّي أو لأبعثنّ إليك من يسحبك من قرونك. فأبت وقالت:

• والله لا آتيه حتى يبعث إليّ من يسحبني من قروني. فقال الحجاج:

• أروني مكانها، ثم انطلق حتى وقف عليها فقال:

• كيف رأيت، نصر الله الحق وأظهره. فقالت:

• ربما أديل الباطل على الحق وأهله، وإنك بين فرثها والجنة. فقال:

• إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال تعالى: )ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم(([14])، وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم. قالت:

• كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة وسرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنكه بيده وكبّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به، قد فرحت أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرحه يومئذ بمولده خير منك ومن أصحابك، وكان مع ذلك برا بالوالدين قواما بكتاب الله معظما لحرمة الله يبغض من يبغض الله عز وجل، أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعته يقول:

يخرج من ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه. فقام عنها الحجاج ولم يرجع.

ثم أنزل ابنها عبد الله فأتي به أسماء فغسلته وطيبته وحنطته ثم دفنته رضي الله عنها([15]).

وهذه اللوحة العظيمة، لامرأة عظيمة، تحتاج من الكتّاب أن يكتبوا حولها سفرا كاملا.. فهيهات أن تجد في تاريخ الأمم الأخرى مثل هذه الحكمة، والقوة، والشجاعة، والصبر، والإيمان. في مثل هذا الموقف العصيب تقف الأم مع فلذة كبدها شامخة لا تبالي، إلا بنصرة الإسلام: (إن خرجت في طلب الدنيا فلا خير فيك حيا ولا ميتا، وإن خرجت للحق فامض لما خرجت له..).. أعطوه الدنيا.. وجاء إلى أمه فأبت عليه.. وقالت: إن الأحرار لا يتراجعون عن طريق الحق.

هل أم غير أسماء تستطيع أن تقول لابنها (إن الشاة لايهمها السلخ إذا قتلت).. وهل بطلة أقوى من أسماء تستطيع أن تقول لطاغية العصر الحجاج: (أما الكذاب فقد رأيناه. ولا أخالك إلا مبير هذه الأمة).

هذه هي أسماء بنت أبي بكر، الداعية العظيمة والقدوة الرائعة لأخواتها الداعيات المسلمات اللواتي عرفن الطريق وأصررن على الولوج..

أم المؤمنين هند بنت أبي أمية المخزومية

أخرج ابن إسحاق عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت:

لما أجمع أبو سلمة رضي الله عنه الخروج إلى المدينة رحّل لي بعيره، ثم حملني عليه وجعل معي ابني سلمة في حجري ثم خرج يقود بي بعيره. فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا:

• هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت:

• فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه. قالت:

• وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد (رهط زوجي) وقالوا:

• والله لا نترك ابننا عندها. قالت:

فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت:

• ففرّق بيني وبين ابني وبين زوجي. قالت:

• فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمّي، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني. فقال لبني المغيرة:

• ألا تخرجون هذه المسكينة، فرّقتم بينها وبين زوجها وولدها؟

قالت: فقالوا لي:

• الحقي بزوجك إن شئت. قالت:

• فرد بنو أسد إليّ عند ذلك ابني. قالت:

• فارتحلت بعيري. ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خلق الله.

هذه صورة أخرى بطلتها الصحابية الجليلة أم سلمة، زوجها عبد الله بن عبد الأسد بن المغيرة، ابن عمة رسول الله، من أوائل من آمن بدعوة الإسلام، فأسلم وأسلمت زوجته هند بعده مباشرة. قاست هذه الأسرة المؤمنة مثل بقية المسلمين في مكة، أشد أنواع الاضطهاد، وحاولت قريش بشتى الوسائل أن تفتنهم في دينهم وأن تردهم عن الإسلام. ولما أذن رسول الله للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة، كانت هند وزوجها من أوائل المهاجرين. وفي الحبشة ولدت هند لزوجها ابنها سلمة.

وجاءت الأخبار إلى المهاجرين بأن الإسلام انتصر في مكة وأن أعدادا كبيرة من القرشيين دخلوا الإسلام. وعاد أبو سلمة وزوجه مع نفر من المهاجرين إلى مكة.. ليجدوا أن الأخبار التي وصلتهم غير صحيحة وان قريشا ضاعفت من إيذاء المسلمين.. وأنها علقت صحيفة في جوف الكعبة تعاهدت بموجبها على أن لا تتعامل مع بني هاشم الذين انضموا إلى محمد وضربت عليهم حصارا اقتصاديا وحاصرتهم جميعا في شعب أبي طالب. وإذ عاد نفر من المهاجرين ثانية إلى الحبشة فإن أبا سلمة دخل في جوار خاله أبي طالب وبقيت أم سلمة إلى جانب زوجها في مكة تقاسي ما يقاسي من الآلام والعذاب.. حتى كانت بيعة العقبة والأذن بالهجرة إلى المدينة فكان أبو سلمة وأم سلمة أول من تهيّأ للهجرة.. وكان المشركون لهم بالمرصاد، فهم مازالوا يطمعون في تحويلهم عن دينهم إلى عبادة الأوثان.. منعوها من مرافقة زوجها وانتزعوا منها وليدها، وحبسوها وحيدة... وصمدت أم سلمة واحتسبت كل عذاباتها في سبيل الله.. احتسبت بعدها عن فلذة كبدها الوحيد.. وعن زوجها رفيق دربها عبد الله..

اللوحة هذه درس تقدمه الداعية أم سلمة لأخواتها المسلمات خلاصته:

إن الأرض والوطن، والابن والزوج، والعشيرة والقرابة.. كل هذه المعاني وإن كانت شديدة الالتصاق بالإنسان.. فإن الداعية المؤمنة تتركها إذا وضعت في الميزان مع إيمانها وعقيدتها.

ليعلم أني لم أخنه في الغيب

أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني من أصدّق أن عمر رضي الله عنه بينما هو يطوف سمع امرأة تقول:

فوالله لولا الله تخشى عواقبه

وأرقنـي أن لا حبيـب ألاعبه

فوالله لولا الله تخشى عواقبه

لزحزح من هذا السرير جوانبه

ولكني أخشى – رقيباً موكلا بأنفسنـا لا يفتر الدهر كاتبـه

مخافة ربي والحياء يصدني وأكرم بعلي أن تنـال مراتبـه

فقال عمر رضي الله عنه:

• مالك؟ قالت:

• أغربت زوجي منذ أشهر، وقد اشتقت إليه. قال:

• أردت سوءا؟ قالت:

• معاذ الله. قال:

• فاملكي عليك نفسك، فإنما هو البريد إليه.

فبعث إليه، ثم دخل على حفصة رضي الله عنها، فقال:

• إني سائلك عن أمر قد أهمّني فافرجيه عني، في كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟

فخفضت رأسها واستحيت. قال:

• فإن الله لا يستحي من الحق. فأشارت بيدها ثلاثة أشهر وإلا فأربعة أشهر. فكتب عمر رضي الله عنه أن لا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر.

وهذه لوحة أخرى.. لامرأة مسلمة تخشى الله وتراقبه.. طال عهدها بزوجها، وقد خرج مجاهدا في سبيل الله، مع الجيوش التي انطلقت تحرر إرادة الإنسان من جور الطغيان. تتقلب في فراشها، وتتذكر زوجها. ولكن أين هو منها وقد اشتاقت إليه، وامتلأت نفسها رغبة فيه.. أين الرجل الذي يملأ عليها فراغها، ويسدّ جوعتها، وتتقلب سعيدة في نعمائه..

ويسمع عمر رضي الله عنه صوتها.. ويحس لوعتها ورغبتها.. فيسألها: أردت سوءا وتجيب معاذ الله.. إنها أبدا الراعية لنفسها، الأمينة على شرفها وشرف زوجها، الحافظة بالغيب على عهدها وعهد وليها.

)ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين(([16]).

هذه هي المرأة المسلمة الصابرة القانتة الحافظة للغيب التي أوحت لعمر ابن الخطاب بتشريع إجازات الجنود.. فقد كتب عمر بعد هذه الحادثة إلى قواد جيوشه بأن لا يحبسوا الجيوش فوق أربعة أشهر.

أم عمارة نسيبة بنت كعب تدافع عن النبي يوم أحد

ذكر ابن هشام عن سعيد بن أبي زيد الأنصاري رضي الله عنه: (أن أم سعد بنت سعد بن الربيع رضي الله عنهما كانت تقول: دخلت على أم عمارة رضي الله عنها فقلت لها: يا خالة، أخبريني خبرك. فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء. فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خَلَصَت الجراح إلي. قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غَوْر، فقلت لها: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قَمِئة، أقمأه الله. لمّا ولّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلّوني على محمد، لا نجوتُ إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير رضي الله عنه وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدوَّ الله كانت عليه درعان).

وهذه لوحة جديدة بطلتها الأخت المجاهدة أم عمارة، وهي نسيبة بنت كعب الأنصارية التي اشتركت في غزوة أحد.. تمرض الجرحى في بداية المعركة.. ثم تذبّ بالسيف وترمي بالقوس، وهي إحدى العشرة الذين تولوا حماية الرسول صلى الله عليه وسلم وقد انفض المسلمون من حوله فكانت من أظهر القوم في الدفاع عنه حتى قال صلى الله عليه وسلم: (ما التفت يمينا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني).

وأم عمارة هي واحدة من رهط كريم أوقفن حياتهن على خدمة الدعوة..

• ففي العقبة كانت أم عمارة ممن بايعن الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره.. ومن يومها ذاك ما نكثت عهدها ولا نقضت بيعتها... بل وجددت هذه البيعة يوم الحديبية فقد كانت ممن اشتركن في بيعة الرضوان.

• في أُحد جاءت تسعف الجيش وتضمّد الجراح وتسقى العطاش، وإذا بالأمر يقتضي التدخل بالسلاح، فكانت أسرع القوم تصول وتجول بين يدي الرسول.. حتى إن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يدعو ربّه فيقول: (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة).

• اشتركت في معظم المعارك إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

• وحاربت المرتدين واشتركت في حرب مسيلمة الكذاب حيث جاهدت أعظم جهاد وجرحت أحد عشر جرحا وقطعت يدها وقتل ولدها... رضي الله عنهم أجمعين.

ولم تكن أم عمارة إلا نموذجا لأخواتها الداعيات اللواتي خضن معارك الإسلام، واحدة بعد الأخرى.. بكل صدق اليقين، وكمال الغيرة على الدين، وحرصها أن لا تحرم من شرف الجهاد مع المسلمين، لتنال فخر المجاهدين وأجر الصابرين.

نساء غفار يداوين جرحى المسلمين

أخرج ابن إسحاق عن امرأة من بني غفار قالت: أتيتُ رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي نسوة من بني غفار فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى خيبر، فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال: على بركة الله. قالت: فخرجنا معه، قالت: وكنت جارية حديثة السن، فاردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم (على) حقيبة رحله. قالت: فوالله! لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح (وأناخ) ونزلت عن حقيبة رحله. قالت: وإذا بها دم منّي وكانت أول حيضة حضتها. قالت: فتقبضّت إلى الناقة واستحييتُ. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي، ورأى الدم قال: (مالك لعلك نَفِسْتِ) قالت: قلت: نعم. قال: (فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء، فاطرحي فيه ملحا، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك. قالت: فلما فتح الله خيبرا أعطانا رسول الله من الفيء، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي، فأعطانيها وعلّقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدا([17]).

وهذه لوحة أخرى، سجلتها المرأة المسلمة، وهي تساهم في بناء صرح الدعوة الإسلامية الأولى. لم تعد تكتفي بما تقوم به النساء عادة من رعاية الزوج وتنشئة الأبناء والقيام بشؤون البيت.. فبعد أن أعطاها الإسلام حقها وبدأت تستشعر إنسانيتها وكرامة موقفها ما عادت تقبل أن يسبقها الرجل حتى في ميادين القتال.

وهؤلاء مجموعة من المسلمات يطلبن من رسول الله مرافقة الجيش الزاحف نحو خيبر.. يداوين الجرحى ويعنّ المسلمين بما يستطعن.. وأختنا المسلمة عندما ارتقت اهتماماتها وارتفعت مسؤولياتها في بناء مجتمعها ما عادت تعبأ بصغائر الأمور، فها هي تحيض في الطريق، ولا تعبأ!، ولا يقعدها ذلك عن متابعة رسالتها في مداواة الجراح وإعانة المقاتلين.. كل ما يهمها: المشاركة.. والوسام الذي قلده لها رسول الله.. (قلادة علقها بيده في عنقي فوالله! لا تفارقني أبدا).

أتردون على رسول الله أمره..؟

عن أنس بن مالك قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها، قال: حتى أستأمر أمها، فذهب إلى امرأته فذكر ذلك لها، فقالت: لا والله إذا، وقد منعناها فلانا وفلانا. قال: والجارية في سترها تسمع، فقالت الجارية: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟! إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. قال: فكأنها حلت عن أبويها، فقالا: صدقتِ، فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رضيته لنا رضيناه. فقال: إني أرضاه. فزوجها. ففزع أهل المدينة (استغيث بهم)، وخرجت امرأة جليبيب فيها، فوجدت زوجها وقد قتل وتحته قتلى من المشركين قد قتلهم. قال أنس: فما رأيت بالمدينة ثيبا أنفقَ منها([18]).

هذه لوحة رائعة.. تمثل قصة جليبيب الذي رفض المسلمون تزويجه لسواد لونه.. ويختار له رسول الله شابة جميلة تقدم لخطبتها الكثيرون فرفضتهم. وصعب الأمر على والد الفتاة ووالدتها.. ولكن الشابة المسلمة التي كانت تدرك بعمق معنى تنفيذ أمر رسول الله.. قالت: أتردون على رسول الله أمره..؟

وهكذا تنازلت الفتاة التي فهمت دينها، عن كل الشروط التي تتمسك بها مثيلاتها عند اختيار شريك حياتها.. ابتغاء مرضاة ربها.

)وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا(([19]).

أسماء بنت عميس تدافع عن هجرتها

كانت أسماء ممن هاجر إلى الحبشة.. وعادت مع المهاجرين بقيادة جعفر بن أبي طالب، فوافقوا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر.

ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة. فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها. فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت أسماء بنت عميس. قال عمــر: الحبشية هـذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء نعم. قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم. فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم. وكنّا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة. وذلك في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيمُ الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا. قال: فما قلت له؟ قالت: قلت له كذا وكذا. قال: ليس بأحق بي منكم. وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان([20]).

وهل يمكن أن تقبل أسماء التي هاجرت إلى أرض البعداء.. في الله.. وفي رسول الله.. أن يكون أحد أولى منها برسول الله..؟

إنها تدافع عن هجرتها وهجرة إخوانها إلى أرض الحبشة.. فهي الوسام الذي تعتز به.. ولا تقبل من أحد أن ينال منه.

خولة بنت ثعلبة تشتكي إلى الله

عن عائشة رضي الله عنها قالت: إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سنّي وانقطع ولدي ظاهر مني. اللهم إني أشكو إليك. فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: )قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير(([21]).

وورد في الطبقات الكبرى عن عمران بن أبي أنس قال: كان من ظاهر في الجاهلية حرمت عليه امرأته آخر الدهر. وكان أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت.. فلاحَى امرأته خولة بنت ثعلبة (أي نازعها وشاتمها) فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم ندم على ما قال، فقال لامرأته: ما أراك إلا قد حرمت علي. قالت: ماذكرت طلاقا وإنما كان هذا التحريم فينا قبل أن يبعث الله رسولـه. فأت رسول الله فاسأله عما

صنعت؟ فقال: إني لأستحيي منه أن أسأله، فأت أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن تكسبينا منه خيرا، تفرجين به عنّا ما نحن فيه. فلبست ثيابا ثم خرجت حتى دخلت عليه في بيت عائشة فقالت: يا رسول الله إن أوساً من قد عرفت، أبو ولدي وابن عمّي وأحب الناس إليّ، وقد عرفت ما يصيبه من اللمم، وعجز مقدرته وضعف قوته وعيّ لسانه. وأحق من عاد عليه أنا بشيء إن وجدته وأحق من عاد عليّ بشيء إن وجده هو، وقد قال كلمة، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا. قال: أنت عليّ كظهر أمي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا قد حرمت عليه. فجادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك شدة وجدي وما شقّ عليّ من فراقه. اللهم أنزل على لسان نبيك ما يكون لنا فيه فرج. قالت عائشة: فلقد بكيت وبكى من كان معنا من أهل البيت رحمة لها ورقة عليها، فبينما هي كذلك بين يدي رسول الله تكلمه، وكان رسول الله إذا نزل عليه الوحي يغطّ في رأسه ويتربّد وجهه وتجد بردا في ثناياه ويعرق حتى يتحدر منه مثل الجمان. وسري عن رسول الله وهو يبتسم فقال: قد أنزل الله فيك وفيه. ثم تلا عليها: )قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها(. ثم قال: مريه أن يعتق رقبة. فقالت: وأي رقبة! والله ما يجد رقبة وماله خادم غيري. ثم قال: مريه فليصم شهرين متتابعين. فقالت: والله يا رسول الله ما يقدر على ذلك. قال: فمريه فليطعم ستين مسكينا. قالت: وأنّى له هذا؟ قال فمريه فليأت أم المنذر بنت قيس فليأخذ منها شطرَ وسْق تمرا فيتصدق به على ستين مسكينا. فنهضت فترجع إليه فتجده جالسا ينتظرها فقال: يا خولة ما وراءك؟ قالت: خيرا.. قد أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأتي أم المنذر فتأخذ منها شطر وسق تمرا فتصدق به على ستين مسكينا([22]).

هذه هي خولة بنت ثعلبة.. يقع عليها ظلم.. هو من بقايا الجاهلية.. فتهرع إلى رسول الله لتجد عنده الحل.. وعندما قال لها رسول الله: ما أراك إلا قد حرمت عليه.. قالت: يا رسـول الله إلى الله أشكـو.. فيسمع الله شكاتها وينزل فيها قرآنا يعطيها حقها.. ويريح بالها وبال زوجها.. ويرسم للمسلمين الطريق في مثل هذه المشكلة العائلية.

لم تعد المرأة التي تمثلها هنا خولة بنت ثعلبة.. أنثى فينظر إليها المجتمع على أنها من سقط المتاع.. بل عضو مهم في المجتمع.. إذا وقع عليها ظلم رفعت أمرها إلى رسول الله.. ثم إلى الله.. والله يسمع حوارها ويتكرم فيحكم في أمرها..

في خلافة عمر.. وقف طويلا معها يسمع كلامها.. فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز..؟ فقال: ومالي لا أقف.. إنها خولة.. أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمع عمر؟

زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجير أبا العاص

خرج أبو العاص بن الربيع إلى الشام في عير لقريش، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك العير قد أقبلت من الشام، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب، فلقوا العير بناحية العيص، فأخذوها وما فيها من الأثقال وأسروا ناسا منهم أبو العاص بن الربيع. فلم يعد أن جاء المدينة، فدخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسحر -وهي امرأته- فاستجارها فأجارته، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، قامت على بابها فنادت بأعلى صوتها: إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت الذي سمعتم، المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله، دخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه، ففعل وأمرها أن لا يقربها، فإنها لا تحل له مادام مشركا. ورجع أبو العاص إلى مكّة فأدّى إلى كل ذي حقّ حقّه، ثم أسلم ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما مهاجرا، فردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بذلك النكاح الأول([23]).

هذه لوحة معبرة.. فيها معاني كثيرة.. فالإسلام رفع مكانة المرأة بحيث تجير على القوم.. وتستطيع أن ترفع قضيتها أمام نادي قومها بملء فمها.. فيومها لم يكن صوت المرأة عورة.

أصابنا ما أصاب الناس

عن أبي موسى الأشعري قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فرأينها سيئة الهيئة. فقلن لها: مالك، ما في قريش رجل أغنى من بعلك! قالت: مالنا منه من شيء، أما نهاره فصائم وأما ليله فقائم. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فذكرن ذلك له، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عثمان أما لك فيّ أسوة؟ قال: وما ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمّي؟ فقال: أما أنت فتقوم الليل وتصوم النهار، وإن لأهلك عليك حقّا، وإن لجسدك عليك حقّا، فصلّ ونم، وصم وأفطر. فأتتهم المرأة بعد ذلك عطرة كأنها عروس فقلن: مه. قالت: أصابنا ما أصاب الناس([24]).

خطيبة النساء أسماء بنت يزيد بن السكن

قال ابن عبد البر: روي عن أسماء بنت يزيد أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين، كلهن يقلن بقولي، وعلى مثل رأيي: إن الله بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنّا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا بالجمعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربّينا أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله..؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرفي يا أسماء وأعلمي من وراءك من النساء أنّ حسن تبعّـل إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال...)([25]).

هذه لوحة مهمة.. في حياة المرأة والمجتمع.. وهي لا تعني أن تتوقف المرأة عن كل واجباتها وتكتفي بحسن التبعل لزوجها.. بل تعني:

• أنه بدون طاعة الزوج تنهار الأسرة وتخرب المجتمعات.

• وأنه لاحق بدون واجب.. وأن لهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف..

• وأن قيامها بحق زوجها وبيتها وأبنائها نوع آخر من الجهاد خصّ الله به المرأة دون الآخرين.

أم المؤمنين عائشة وحديث الإفك

قال تعالى:

) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ . لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ . لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ . وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ . يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(([26]).

وحديث الإفك، الذي تناول بيت النبوة الطاهر الكريم، وعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم إنسان على الله، وعرّض صديقه الصديق أبي بكر -رضي الله عنه- أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرّض رجلاً من الصحابة هو صفوان بن المعطل رضي الله عنه يشهد رسول الله أنه لم يعرف عنه إلا خيرا.. ويشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان..

هذا الحادث.. قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلق قلب رسول الله وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان.. شهرا كاملا. علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق.

ونحن هنا، نريد التعليق باختصار على موقف أمنا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها.. في خضم هذا الحدث الجلل.

• لقد أراد المرجفون النيل من الإسلام ومن صاحب الرسالة فاختاروا هدفهم في شخص السيدة عائشة بنت الصديق. فقد كانت شخصية هامة على كل الأصعدة: الأقرب من قلب رسول الله، والأفقه في دين الله، ومن بيت الصديق أقرب المؤمنين إلى رسول الله، ترعى المسلمات اجتماعيا، صاحبة رأي وفكر.. ومن هنا فإن تسديد الهدف لهذه الشخصية الكبيرة سيكون ذا وقع كبير وتأثير شديد على الإسلام وعلى صاحب الرسالة.

• كانت عائشة وهي الجارية حديثة السن حكيمة في تناولها للموضوع فلم تحاول إثبات براءتها بالكلام.. فما جدوى ذلك أمام حديث تناقله الناس وصدقه من صدقه، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقونني.. ولا أقول إلا كما قال أبو يوسف: )فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون(.

• عائشة البريئة.. كانت تدرك أن الله تعالى مبرئها.. ولكنها لم تتوقع أن ينزّل الله تعالى في شأنها قرآنا يتلى. ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها.. وهكذا رفع القرآن من مكانة المرأة، واهتم رب العزة لقضيتها.. وأنزل فيها قرآنا يتعبد المسلمون بقراءته إلى ما شاء الله.. فبعد أن كانت المرأة في أنحاء الدنيا في جاهلية العرب وخارجها إنسانا هامشيا لا يحسب له أحد حسابا.. إذا به تنشغل السماء بمظلمته.. وينزل القرآن.. يبرئ صاحبة هذه المظلمة.

• واستعلت عائشة بالوسام القرآني.. وكانت تفخر أبدا بقولها: (أنا التي أنزلت براءتي من السماء).

ولم يكن وساما لصدر أمنا عائشة فحسب بل ولصدر جميع بناتها المسلمات الداعيات في كل مصر وعصر.

زينب بطلة كربلاء

هي حفيدة النبي.. بنت علي بن أبي طالب.. وأمها فاطمة.. وجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. شهدت مأساة كربلاء.. ورأت بأم عينيها استشهاد أبيها وأهلها.. واجهت ابن زياد الأمير الطاغية بشجاعة نادرة وهي أسيرة لا تملك لنفسها ولمن معها شيئا.

قال زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.. فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه صلى الله عليه وسلموطهرنا من الرجس تطهيرا، لا كما تقول أنت، إنما يفضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا والحمد لله.

قال الطاغية: كيف رأيت صنع الله بأهلك؟

قالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه، فتختصمون عنده.

وفي موقف آخر لبطلتنا زينب يوم سيقت مع الأسرى إلى يزيد بن معاوية فقالت له: أظننت يا يزيد أنه أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا هواناً على الله وأن بك عليه كرامة؟ وتوهمت أن هذا لعظيم خطرك، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفيك جذلان فرحا. إن الله أمهلك فهو قوله: )ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين(([27]).

وستعلم أنت ومن بوأك ومكّنك من رقاب المؤمنين إن كان الحكم ربّنا والخصم جدّنا وجوارحك شاهدة عليك أينا شر مكانا وأضعف جندا.

هذه هي زينب بنت علي بطلة كربلاء.. بنت أمير المؤمنين علي وسيدة نساء العالمين فاطمة.. وحفيدة أعظم المرسلين.. فهل يستكثر عليها أحد مثل هذه المواقف..؟

هند بنت عتبة تبايع رسول الله

ذهبت هند بنت عتبة مع النساء متنكرة لتبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا:

قالت هند: إنك والله لتأخذ علينا ما لا تأخذ على الرجال، فسنؤتيكه.

قال: ولا تسرقن.

قالت: والله إن كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة والهنة.

فقال أبو سفيان وكان حاضرا: أما ما مضى فأنت منه في حل.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهند؟

قالت: أنا هند، فاعف عمّا سلف عفا الله عنك.

قال: ولا تزنين. قالت: وهل تزني الحرّة؟

قال: ولا تقتلن أولادكن.

قالت: ربّيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا فأنت وهم أعلم.

فضحك عمر حتى استلقى.

قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن.

قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.

قال: ولا تعصينني في معروف. قالت: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن واستغفر لهن الله([28]).

اللوحة اليوم تمثل هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان زعيم قريش.

حملت لواء التحريض على المسلمين.. حتى فتح مكة.. فلما أسلمت جاءت تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كانت قائدة في كل مواقفها.. في التحريض يوم أحد.. في تآمرها على سيدنا حمزة.. في وقوفها في وجه زوجها يوم أسلم.. وأخيرا في إيمانها وبيعتها وحوارها المتميز مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الخنساء بنت عمر

قدمت الخنساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومها بني سليم فأسلمت معهم وحسن إسلامها.

حضرت حرب القادسية ومعها بنوها الأربعة فصارت تعظهم وتحرضهم على القتال في سبيل الله وعدم الفرار من الزحف ومما قالت: (يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، وإنكم لأبناء أب واحد وأم واحدة ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم).

فلما أصبحــوا باشروا القتال واحـدا بعد واحد حتى قتلوا جميعا فلما بلغها استشهـادهم قالت: الحمد لله الذي شرفنــي بقتلهم وأرجو مـن ربي أن يجمعني بهم فـي مستقر رحمتـه، وكان عمر بـن الخطاب يعرف لها حسن صنيعها ومنزلتـها في الإسلام ويعطيها عطاء أربعة رجال حتى قبض رضي الله عنه.

هذه هي الخنساء الشاعرة.. التي ملأت الدنيا بكاء على أخيها صخر الذي مات في الجاهلية..

ألا يا صخر لا أنسـاك حتى

أفارق مهجتي ويشق رمسي

يذكرني طلوع الشمس صخرا

وأبكيه لكل غروب شمــس

فلما أسلمت.. ارتفعت اهتماماتها.. وتغيرت نظرتها فلم تعد تجزع لموت ابنها أو أخيها.. بل وهي التي تحرض أبناءها الأربعة ليموتوا في سبيل الله.. هكذا صنع الإسلام من الشاعرة الكبيرة في الجاهلية مسلمة خالدة عظيمة في الإسلام.

خولة بنت الأزور

خرجت خولة مع أخيها ضرار بن الأزور إلى الشام وأظهرت في الواقعات التي دارت رحاها بين المسلمين والروم بسالة فائقة.

أسر أخوها ضرار في إحدى المعارك فحزنت عليه حزنا شديدا وقالت في ذلك:

أبعد أخي تلذ الغمض عيني

فكيف ينام مقروح الجفون

سأبكي ما حييت على شقيق

أعز علي من عيني اليمين

فلو أنـي لحقـت به قتيـلا

لهان عليّ إذ هو غير هون

وإنّا معـــشر من مات منّا

فليس يموت موت المستكين

ثم هجمت على عساكر الروم كأنها النار المحرقة فزعزعت كتائبهم وحطمت مواكبهم ثم غابت في وسطهم فما هي إلا جولة الجائل حتى خرجت وسنانها ملطخ بالدماء من الروم، فقلق عليها المسلمون وهم لا يعرفون من هذا الفارس فقال رافع بن عميرة: ليس هذا الفارس إلا خالد بن الوليد. ثم أشرف عليهم خالد، فقال رافع: من الفارس الذي تقدم أمامك فلقد بذل نفسه ومهجته؟ فقال خالد: والله إنني أشد إنكارا منكم له، ولقد أعجبني ما ظهر منه ومن شمائله، ثم حمل المسلمون على الروم، فكانت أشد منهم حملا وضربا وكانت كأنها الصاعقة على القوم وهي ملثمة لا يعرفها أحد، فلما رأى خالد ذلك، أقسم عليها خالد وقال: عزمت عليك أيها الفارس أن تكشف اللثام عن وجهك حتى نعرفك، فلم يرد الفارس جوابا حتى أقسم خالد مرارا فقالت: أنا خولة بنت الأزور وقد علمت أن ضرارا أخي أسير. فركبت وفعلت حتى أخلص أخي، فقال خالد: نحمل بأجمعنا ونرجو من الله أن نخلص أخاك فنفكه.

قال عامر بن الطفيل: كنت عن يمين خالد حين حملوا وحملت خولة أمامه وحمل المسلمون وعظم على الروم ما نزل بهم من خولة بنت الأزور وقالوا: إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم من طاقة، وقد خلص المسلمون ضرارا أخاها من الأسر.

خولة بنت الأزور.. هي مجرد نموذج لمواقف المرأة المسلمة المجاهدة.

خديجة الكبرى مثلهن الأعلى

كان محمد صلى الله عليه وسلم، بعيدا عن ترهات قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور يتحنث ويتعبد ويتفكر في ملكوت السموات والأرض، وفيما وراءها من قدرة مبدعة.

وكانت خديجة تؤمن له الهدوء الشامل، والاستقرار الكامل، تأخذ له الطعام إلى الغار إذا أبطأ عنها.. وتكلؤه بحبها إذا حضر إليها، كانت مقتنعة بعمله.. مدركة بفطرتها السليمة أن لزوجها شأنا عظيما..

وعلى رأس الأربعين عاما، جاء الحق محمدا وهو في غار حراء، جاءه الملك فقال:

اقرأ، فقلت:

ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فضمني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال:

اقرأ، فقلت:

ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال:

)اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم(.

فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة، فقال:

زملوني زملوني، لقد خشيت على نفسي يا خديجة.

وتواجه خديجة العظيمة الموقف الكبير بمفردها، فلا تجزع ولا ترتبك ولا تتردد.. بل وتخاطب الزوج الخائف وتقول:

كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. آبشر يا ابن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.

ولا تكتفي بذلك التطمين الأوليّ لتثبيت القلب الخائف.. فتأخذ بيده إلى ابن عمها ورقة بن نوفل.. وكان شيخا كبيرا تنصر في الجاهلية.. فتقول له:

يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة:

يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة:

هذا هو الناموس الأكبر نزّله الله على موسى، ليتني فيها جَذَعَا أنصرك حين يخرجك قومك، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا([29]).

هل هناك شجاعة أعظم، أو حكمة أبلغ، أو موقف أكرم من فعل خديجة هذا وموقفها..؟

ألا تستحق أن تكون مثلهن الأعلى..؟

بل رغبت بالفراش عنك

نقضت قريش عهد الحديبية، وشعرت بخطورة الموقف.. فلم يعد لها قبل بمحمد وجنوده.. فقررت أن تبعث زعيمها أبا سفيان يفاوض عنها.. يعتذر عن الغدر ويطمع بأن يجدد محمد الهدنة.. وتهيب أبو سفيان لقاء محمد.. فرأى وهو السياسي المحنك أن يتوسل بابنته أم المؤمنين أم حبيبة إلى لقاء القائد المظفر محمد صلى الله عليه وسلم.

(وفوجئت به أم المؤمنين يدخل بيتها، ولم تكن قد رأته منذ هاجرت إلى الحبشة، فوقفت تجاهه بادية الحيرة، لا تدري ماذا تفعل أو ماذا تقول.. وعندما أراد الجلوس.. اختطفت الفراش.. ويسألها أبوها: أطويته يا بنية رغبة بي عن الفراش، أم رغبة بالفراش عني؟ وجاء الجواب: (هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك، فلم أحب أن تجلس عليه)!

هكذا تغيرت الموازين.. وانتهى عصر التفاخر بالآباء.. وانزاحت قيم الجاهلية.. ليرتفع مكانها لواء الدين الخالد.. وميزان الإيمان بالله وبرسول الله.

بنت بائعة اللبن

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتفقد أحوال الرعية ذات ليلة، فسمع امرأة تقول لابنة لها: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فأجابت الفتاة:

• يا أمتاه، أو ما علمت بما كان من عزمة أمير المؤمنين.. قالت المرأة:

• وما كان عزمته يا بنية؟ قالت:

• أنه أمر مناديه فنادى: لا يشاب اللبن بالماء، فردت المرأة قائلة:

• قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر! فردت الفتاة:

• يا أمتاه، إن كان عمر لا يعلم، فإله عمر يعلم، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء.. فلما أصبح عمر، قال لابنه عاصم: اذهب إلى مكان كذا وكذا، فإن هناك صبية، فإن لم تكن مشغولة فتزوج بها، لعلّ الله أن يرزقك منها نسمة مباركة([30]).

وصدقت فراسة الفاروق.. فقد تزوج عاصم من تلك الصبية، فولدت له (أم عاصم) فتزوجها عبد العزيز بن مروان.. فولدت له الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين.

جيل قرآني فريد

أخرج الطبراني عن أم سليم رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (اصبري، فوالله ما في آل محمد شيء منذ سبع، ولا أوقد تحت بُرمة لهم منذ ثلاث).

وأم سليم واحدة من هذا الجيل القرآني الفريد.. لم ينفرد الرجال دونهم بأي فضل..!

آمنوا وتحملوا في سبيل إيمانهم كل ما تفتقت عنه عبقرية الكفر من تعذيب واضطهاد.. وبايعوا رسول الله على الإسلام وعلى النصرة وعلى الجهاد.. صبروا على قلة الزاد، وكان طعامهم ومعهم نبي الله، التمرَ والماء.

وإذا كانت المرأة المسلمة اليوم وقد نسيت رسالتها، وقلدت في معركة الحياة غيرها، وصارت تشترط الشروط، وتعدد المآكل والمشارب، ولا ترضى بالقليل أو البسيط أو الرخيص..

إذا كانت فعلت ذلك فلأنها قطعت وشيجة صلتها بأختها الأولى أم سليم، وعائشة حب رسول الله، وفاطمة الزهراء التي تزوجت عليا وليس لها وله غير جلد كبش ينامون عليه بالليل ويعلفون عليه ناضحهم بالنهار. وعندما طلبت من أبيها خادما.. علمها دعاء بدل الخادم..

هذه هي المرأة المسلمة التي ربت أجيال الصحابة فكانوا أعظم جيل يحمل أسمى رسالة.. وبإمكان أختها المسلمة اليوم أن تواصل الطريق ولا تحتاج إلا لعدة أختها من قبلها: إيمان وعزم، وصبر على الدعوة ومصابرة.

سلام وكلام وطعام

أخرج البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال:

كانت منا امرأة تجعل في مزرعة لها سلقا (نبات يؤكل). فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلق فتجعله في قدر، ثم تجعل قبضة من شعير تطحنه فتكون أصول السلق عَرْقَه (أي بمثابة العظم بلحمه الذي يوضع في الطعام).

قال سهل: كنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة، فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك.

هذا الحديث الصحيح يذكره سهل بن سعد رضي الله عنه بمناسبة الجوع الذي تعرّض له أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ففي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا ثيابنا عن حجر على بطوننا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين. وفي أحاديث كثيرة تحدثت كيف خرج أبو بكر رضي الله عنه بالهاجرة (عند الظهيرة) إلى المسجد، فلقي عمر وسأله: يا أبا بكر، ما أخرجك هذه الساعة؟

قال: ما أخرجني إلا ما أجد من حاق (شدة) الجوع.

قال عمر: وأنا والله ما أخرجني غيره.

في ظل هذه الأوضاع المادية الصعبة، كانت امرأة مسلمة، مدركة لمسؤولياتها تجاه إخوانها في الدين وهم يعانون آلام الفقر والجوع.. تطبخ لهم كل جمعة، آكلة من سلق وشعير، وتقدمها لهم بعد صلاة الجمعة. يقول الصحابة: كنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذاك.

الشهيدة بنان الطنطاوي

كتبت لزوجها عصام العطار رسالة مؤثرة وقد أحست بالمؤامرة تكاد تطبق عليها وعلى أسرتها.

كم أتمنى يا عصام -وهذا جزءٌ من ضعفي البشري- أن نعود قبل موتنا إلى دمشق، وان نقضي ما بقي من حياتنا -إن كان في حياتنا بقية- هناك، وأن ندفن عندما يحمُّ أجلنا بجوار من سبقنا من أهلنا وأحبابنا في تربة الدحداح أو الباب الصغير.. ولكن يبدو لي -والموت يتعقبنا في كل وقت وفي كل مكان- أننا سندفن في الغربة كما عشنا في الغربة.. بعيدا عن الأهل والوطن.

أرجو يا عصام -إن كتب عليّ الموت في غربتي- أن تطلب من أمي وأبي وأخوتي وسائر أهلي العفو عما جرّعتهم إياه منذ سبعة عشر عاما من آلام الغربة وانشغال البال، وأن تخبرهم بما تعرفه يقينا من أنني ما ندمت قط على أن سلكت معك هذا الطريق، وبأنني كنت سعيدة كل السعادة بما كابدته معك في سبيل الله عزّ وجل.

عاهدني يا عصام، إذا قتلني الطغاة ألا يوهن عزمك الحزن، وأن تتابع جهادك كما كنت تجاهد من قبل بغاية القوة والإصرار والاستمرار.. وأنا أعاهدك -إذا كتب الله لك الشهادة- أن نتابع الطريق الذي سلكناه معك طريق الإسلام العظيم.. إلى أن نظفر بإحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر، ونلقى الله عزّ وجلّ وهو عنّا راض..

وسبقت رصاصات الغدر إلى قلب الشهيدة العظيمة الداعية الكبيرة بنان.. وبقي عصام كالطود الشامخ أمينا على الذكريات.. مستمرا على طريق الدعوة([31])..

رسالة مستمرة

• عبر التاريخ الإسلامي لعبت المرأة المسلمة دورا يتفاوت قوة وضعفا مع مدى تمسك الدولة بالأعراف والتعاليم الإسلامية. وفي العصر الحديث ظلمت المرأة كما ظلم الرجل.. ومنذ ستين سنة بدأت الحركة الإسلامية الحديثة تشق طريقها في وسط المؤامرات العاتية التي يدبرها الغرب والشرق ضد شعوبنا المسلمة.. ولعبت المرأة المسلمة التي آمنت بسمو هذه الدعوة دورا مشرفا في كل الظروف..

• في مصر حدثت في أوائل الخمسينات مجزرة للإسلاميين، أعدم من أعدم، وسجن من سجن، آلاف الأبرياء أصبحوا خلف القضبان.. وبالمقابل آلاف الأسر أصبحت بلا عائل.. الدعوة أصبحت بلا حراس، وقامت الأخت بالدور كاملا.. طمأنت من في السجون بأنها راعية للبيوت حافظة للأطفال أمينة للعهود.. فاطمأن الجميع وسارت قافلة الإيمان.. كلهم راع ومسؤول عن رعيته.

بعد عام 1965م حدثت مذبحة أخرى للدعاة.. وكان شهيدها هذه المرة المفكر الإسلامي سيد قطب.. حدثني أحد المقربين من هذه الأسرة أن رجال المباحث جاءوا صبيحة اليوم الذي تقرر فيه إعدام سيد.. جاءوا إلى أخته الصغرى حميدة وحاولوا إقناعها بأنهم لا يريدون إعدام سيد.. وما عليها إلا أن تقنع أخاها بالتنازل قليلا وتأييد النظام القائم.. واضطرت للذهاب إليه وأخبرته فقال لها: وماذا ترين يا حميدة؟

قالت: أرى أن تمضي لما تراه من الحق.. الحق أحق أن يتبع..

• كنت في زيارة المستشار مأمون الهضيبي في أعقاب عملية أجراها في قلبه.. فبادرني وقال: اذهبوا وفتشوا عن أولئك النسوة اللواتي قمن بدور عظيم في محنتنا.. يعادل بكل تأكيد دور من كانوا خلف القضبان..

• لقد تناوبت الأخت الفلسطينية مع زوجها في الخندق وهي تحمي الديار والذمار، ولم يضعا السلاح إلا يوم أقنعتهم الجيوش العربية أن دورهم انتهى، وهم -أي الجيوش- ستحرر البلاد. فسلموها للغاصب وأخرجوا أهلها مشردين لاجئين. إن من يتابع أحداث الكفاح الدامي في فلسطين اليوم يرى ويسمع الأخت المسلمة تهتف إلى جانب أخيها: بالروح بالدم نفديك يا فلسطين..

• يوم انسحبت الجيوش المدججة بالسلاح ودخل اليهود لبنان عام 2891م، لم يجد هؤلاء من يقاومهم غير الأخوات المسلمات.. كنّ يقذفنهم بالحجارة ويصببن الماء أو الزيت المغلي على رؤوسهم من شرفات المنازل..

• في تركيا ساهمت الأخت المسلمة التي انضمت إلى حزب الرفاه في المعركة الكبرى التي تخوضها تركيا في معركة إثبات الهوية.

• في ماليزيا تحتل الأخت المسلمة مكانها اللائق في الحركة الإسلامية.

• بل إن فتيات السودان يزاحمن أشقائهن الشباب في نصرة دين الله.. في كافة الميادين.. ميدان الخدمات الاجتماعية أو الإغاثة وحتى ميدان التدريب العسكري والمشاركة في تحرير جنوب البلاد.. في جميع بلدان العالم الإسلامي من فاسها في المغرب إلى أقصى شرقها في جاكرتا عانت الفتاة من الاعتداء على حريتها.. الأنظمة الفاسدة تريد إفسادها.. فلم تستطع هذه الأنظمة أن تتحمل رجعة المرأة إلى دينها والتزامها بحجابها فصارت قضية حجاب المرأة المسلمة وهو من ألزم خصوصياتها.. ومن أقرب الأمور التي تخص حريتها الشخصية.. صار الحجاب الشغل الشاغل لهذه الحكومات. وما تزال المرأة صامدة في معركة التغيير الحضاري..

[1] رواه الخمسة إلا أبو داود.

[2] حياة الصحابة 1: 290.

[3] الشيخان.

[4] البيهقي.

[5] مسلم.

[6] البخاري.

[7] أحمد وصححه الحاكم وابن حبان.

[8] مع المرأة المسلمة - منتدى المرأة المسلمة ص 15.

[9] حياة الصحابة 1: 437.

[10] الأنفال - 30.

[11] صور من حياة الرسول - أمين دويدار، ص- 246.

[12] سيرة ابن هشام 2: 131.

[13] الكنز 7 : 57، وحياة الصحابة 1:744.

[14] الحج - 25.

[15] الكامل لابن الأثير 4: 356، والبداية والنهاية لابن كثير 8: 333.

[16] يوسف - 25.

[17] رواه أحمد وأبو داوود.

[18] رواه ابن حبان.

[19] الأحزاب - 36.

[20] رواه البخاري ومسلم.

[21] رواه ابن ماجه.

[22] رواه البخاري ومسلم.

[23] فتح الباري.

[24] رواه الطبراني.

[25] الاستيعاب 4: 233.

[26] النور 11- 12.

[27] آل عمران - 178.

[28] القرآن والمرأة - محمد شلتوت، ص- 6.

[29] رواه الشيخان.

[30] اختيار الزوجين في الإسلام - حسن محمد يوسف، ص- 59.

[31] دور المرأة المسلمة - بنان الطنطاوي.

الفصل الثالث

المرأة والرجل معا في بناء الحياة

مازالت قضية المرأة تشغل بال الإسلاميين اليوم الذين يرغبون في إعادة بناء الأمة على أساس الإسلام وهدي شريعته.. وهم منقسمون في نظرتهم لهذه القضية.. ففريق يرى أن المرأة المسلمة يكفيها اهتمامها ببيتها.. وتربية أطفالها..وحسن تبعلها لزوجها.. مديرة لمطبخه ومربية لأطفاله ومدبرة لبيته.. إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرّته، وإن أقسم عليها أبرّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله.. إذا مرض هو أو أحد أبنائها كانت لهم الممرضة الساهرة.. إذا أحسن إليها شكرت، وإن قصّر معها صبرت.. هذا الفريق من الرجال تكفيه هذه المواصفات في المرأة المسلمة.

وفريق آخر من الإسلاميين لا يكتفي بذلك.. بل يصرّ على أن يعطيها ما أعطته لها الشريعة الغراء.. بأن تكون شريكة الرجل في بناء الحياة..

وإذا زعم الفريق الأول.. أن الزمان فاسد.. وأن الفتنة كبيرة.. وان ما أعطته الشريعة للمرأة إنما كان لزمان غير هذا الزمان.. زمان كانت الأخلاق فيه حميدة والآداب قرآنية والمرأة شديدة الالتزام والرجال شديدو الحرص.. إذا زعموا ذلك ردّ عليهم الفريق الآخر.. إن الشريعة واحدة.. وصاحبها هو الذي يعلم خلقه وما يصلح لهم.. وإن فساد الزمان تصلحه الشريعة.. ولا تزيده ردود الفعل إلا مزيداً من الإرهاق. ولا يزعمن أحد أنه أغير على أعراض المسلمين أو أغير على دين الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن رسول الله مع غيرته على أعراض المسلمين أن تنتهك يغار أيضا على عقول النساء وقلوبهن أن تضمر وتذبل.

كانت المعركة بين الإسلاميين.. وبين العلمانيين أو المتغربين، فأصبحت بين الإسلاميين أنفسهم.. والأمر في مجمله ظاهرة صحية.. فإذا ارتضى الفرقاء وضع هذه القضية على بساط البحث مع توفر حسن النية عند الجميع.. فسيصلون لا محالة إلى ما يرضي الله ويصلح المجتمع.. وفي الأثر (لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).

هذا الكتاب (المرأة في موكب الدعوة) يجد نفسه مع الفريق الثاني.. ليس تعصبا وإنما التزاما بالهدي، وفهما للواقع.

ولا بأس أن ننظر في المجتمع الإسلامي النموذج الذي أقامه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. ننظر في البيوت والطرقات.. في الدعوة والهجرة.. في الفداء والجهاد.. في البيعة والسياسة.. في اختيار الحاكم وتسديده.. في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. في الزواج والطلاق.. في الخطأ والصواب.. نحب أن نرى الهدي النبوي الكريم في كل زاوية (مهما صغرت) من زوايا المجتمع الإسلامي.. وكيف تصرفت المرأة فيها.

1- الرجل يسلم على المرأة والمرأة تسلم على الرجل

في الطريق أو البيت أو المسجد، يتقابل الرجل مع المرأة، فيتبادلان التحية والسلام. فقد ورد في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرّ بنساء فيسلم عليهن([1]) . وفي حديث آخر أن أم هانئ (بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم) أتت النبي فسلمت عليه فقال: مرحبا بأم هانئ([2]). وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرّ بجنبات أم سليم دخل عليها فسلّم عليها([3]).

2- اللقاء في المسجد

وفي المسجد يلتقون، والمسجد يومها مركز للصلاة والعبادة، ومركز للعلم والثقافة، ومركز للنشاط الاجتماعي والسياسي، ومركز للقاءات والاحتفالات، فكيف يمكن أن تكون المرأة بمنأى عن ذلك كله..؟

ولقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال من أن يمنعوا نساءهم أو بناتهم من بيوت الله ففي الحديث عن عبد الله بن عمر قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار..؟

قالت: وما يمنعه أن ينهاني..؟

قال: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تـمنعوا إماء الله من بيوت الله)([4]).

وإذا كان هذا الحديث قد ذكر صلاتي الفجر والعشاء.. فإنه صح أن النساء كن يشاركن في بقية الصلوات في المسجد.. ويشتركن في صلاة الجمعة وصلاة الكسوف والجنازة والاعتكاف وغيرها من الصلوات.

فإذا قيل الصلاة جامعة: أقبل المسلمون والمسلمات من كل الأرجاء ليستمعوا للتوجيه النبوي. عن فاطمة بنت قيس قالت: (نودي في الناس أن الصلاة جامعة، فانطلقت فيمن انطلق فكنت في الصف المقدم من النساء وهو يلي المؤخر من الرجال)([5]) .

في هذا المجتمع الفاضل، وتحت إشراف النبي صلى الله عليه وسلم، نبتت بذور الخير.. وأشرقت أنوار الحق.. ومن ثم انتشر نورها ليعم الأرض في أعظم دعوة هي دعوة الإسلام.. مع أعظم جيل هو خير القرون.. النساء فيه شقائق الرجال.. في أعظم لقاء مبارك بين فصائل المجتمع.

وفي كل مجتمع تقع انحرافات.. تقلّ أو تكثر.. تعالج بالطرق المناسبة.. ولكنها لا تحرم أحدا حقه.. فعندما وقعت حادثة اعتداء على إحدى المسلمات وهي في طريقها إلى المسجد لصلاة الصبح.. عالج النبي صلى الله عليه وسلم الحادثة.. ولكن ذلك لم يؤثر على حق المرأة في ارتياد المسجد([6]).

ولقد حث الإسلام المرأة التي تحضر إلى الصلاة في المسجد:

• أن تتجنب الطيب، لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا([7]).

• وأن تلتزم الصفوف الخلفية.. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (خير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها)( [8]).

3- المشاركة في طلب العلم

وإذا كانت المجتمعات المتحضرة تُبنى على العلم، فقد تسابقت المرأة والرجل في المجتمع المسلم للتزود من مناهل العلم، فطلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة.

جاء في الحديث أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله. فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله([9]).

كانت المرأة معتزة بعلمها.. وربما ناقشت الرجال وصححت لهم.. ففي الحديث عن أبي موسى قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت أسماء بنت عميس: يا نبي الله إن عمر قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم. قال: فما قلت له: قالت قلت له: كلا والله كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في أرض البعداء بالحبشة. قال رسول الله : ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم هجرتان([10]).

ولقد استدركت السيدة عائشة رضي الله عنها على ثلاثة وعشرين من أعلام الصحابة مثل عمر وعلي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم، وقد نقل عنها وحدها ربع الشريعة.

وعندما قال رسول الله: يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار (سارعن بالاستفهام والاستغراب) وقلن: وبم يا رسول الله؟

قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلب الرجل الحازم من إحداكنّ. قلن وما نقصان ديننا وعقلنا..؟ قال: أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟ فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟ فذلك نقصان دينها([11]).

فاطمأنت النساء إلى أنهن (وهن مظنة الضعف) يتغلبن على الرجال ذوي الحزم.. أما ماعدا ذلك من نقصان فيتعلق بفطرتهن وتكوينهن الجسماني الذي خلقهن الله عليه، وهو أمرٌ عارضٌ لا حيلة لهن فيه.

ومن يقرأ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجد عددا وفيرا منها، تسأل فيه المرأة رسول الله لتتعلم.. وفي الحديث عن سبيعة بنت الحارث وقد توفي عنها زوجها وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته.. فدخل عليها أبو السنابل وقال: والله ما أنت بناكح حتى تمرّ عليك أربعة أشهر وعشرا. قالت سبيعة: فلمّا قال ذلك جمعت عليّ ثيابي وأتيت رسول الله فسألته: فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي([12]).

لقد ترددت سبيعة فيما أفتاها به أبو السنابل.. فذهبت إلى النبي لتتأكد.. وتتعلم.

4- اللقاء في الحج

والحج برلمان المسلمين. على صعيده يلتقون من كل فج عميق.. ليشهدوا منافع لهم. ومنذ وقف الرسول القائد على صعيد عرفات يلقي بيانه الإسلامي الشامل.. والمسلمون يتسابقون للمشاركة في هذا المؤتمر العظيم.

وفي الحج يلتقي الرجال والنساء بالطواف والسعي وكل المناسك، ففي الحديث عن أبي جريج قال: أخبرنا عطاء (إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال) قال: كيف تـمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قلت: بعد الحجاب أو قبل؟ قال: أي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب([13]) .

5- المشاركة في الجهاد

والجهاد ذروة سنام الإسلام.. حمى بيضته.. ونافح مناوئيه..

ولقد شاركت المرأة الرجل الجهاد وحماية الدعوة.. كل حسب قدرته.

ففي الحديث عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.. ولقد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما (أي الخلاخيل) تنقلان القرب على متونهما.. ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها([14]) .

وعن الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة([15]).

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم أحد: (ما التفت يمينا ولا شمالا إلا وأنا أرى أم عمارة تقاتل دوني)([16]).

وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناس من أمتي يركبون البحر في سبيل الله.. فقالت أم حرام يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم.

قال: اللهم اجعلها منهم. فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية([17]) .

6- المشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كل مسلم ومسلمة.

قال تعالى: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(([18]).

وفي الحوار الذي دار بين الحجاج وأسماء بنت أبي بكر.. درس بليغ لمن أراد أن يتعظ.. قال الحجاج: كيف رأيتني صنعت بعدو الله (يقصد ولدها عبدالله بن الزبير)؟

قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك. بلغني أنك تقول له يا ابن ذات النطاقين، أنا والله ذات النطاقين. أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث أن في ثقيف كذابا ومبيرا. فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه([19]).

وعن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده، فلما أن كان ذات ليلـة قام عبد الملك من الليل فدعا خادمه فكأنه أبطأ عليه فلعنه، فلما أصبح قالت له أم الدرداء: سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته، فقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة([20]).

7- والرجل ينظر للمرأة بما يدعوهما للزواج

والزواج وسيلة المسلم لإقامة الأسرة.. التي هي اللبنة الأولى في إقامة المجتمع.. فإذا كانت الأسرة نتيجة إقبال من الشاب والفتاة، وحسن اختيار كل منهما للآخر، كانت بالتالي لبنة صالحة في بناء المجتمع الفاضل..

فعن سبيعة بنت الحارث.. التي توفى عنها زوجها وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطاب([21]).

وفي الحديث عن أبي هريرة قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله: أنظرت إليها..؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا([22]).

وعن المغيرة بن شعبة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها فقال: اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما. فأتيت أبويها وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك قال: فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر وإلا فأنشدك. قال: فنظرت إليها فتزوجتها([23]).

ينظر إلى الوجه وغير الوجه إن استطاع. عن محمد بن سلمة قال: خطبت امرأة. فجعلت أتخبأ لها حتى نظرت إليها في نخل لها. فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها([24]).

8- المشاركة في حفلات الاستقبال والزواج

والمناسبات كثيرة.. وإظهار المشاعر مطلوب.. والفرح مثل الحزن.. كلها تعبر عن ضمير الناس وعشقهم لدعوتهم. فعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقبلته النسوة وهن يهتفن طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.

وأورد الترمذي حديثا لبريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا)([25]).

ومن سنن الزواج: الإعلان، وإظهار الفرح، والوليمة، واجتماع الناس فرحين لفرحة أخيهم وأختهم..

في الحديث عن عائشة تصف حفلة عرسها قالت:

فجاءت بي أمي.. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سريره وعنده رجال ونساء من الأنصار.. فوثب الرجال والنساء، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا([26]).

وفي الحديث عن عائشة: أنها قالت زُفّت امرأة من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو([27]).

وفي رواية قال: هل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟ قلت: تقول ماذا؟ قال: تقول:

أتيناكم أتيناكـــــــم

فحيانــا وحياكــــم

ولولا الذهب الأحــــمـ

ــر مــا حلت بواديكم

ولولا الحنطــة السمــرا

ء مــا سمنـت عذاريكم

وعن عامر بن سعيد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، فإذا جوار يغنين فقلت: أي صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بدر، يفعل هذا عندكم..؟ فقالا: اجلس إن شئت وإن شئت فاذهب فإنه قد رخص لنا في اللهو عند العرس([28]).

وعن سهل قال: لما عرّس أبو أسيد الساعدي، دعا النبيَ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاما ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد([29]).

9- المشاركة في صلاة العيد وأفراحه

وإذا كان لكل أمة عيد، فأعياد المسلمين هي عيد الفطر وعيد الأضحى، فيهما يلتقي المسلمون، يتواصلون ويفرحون.. وفي الحديث عن أم عطية قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نُخرج البكر من خدرها، ونخرج الحيّض، فيكنّ خلف الناس، فيكبّرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته([30]) .

وفي العيد كان السودان يلعبون بالدرق والحراب، وعندما رغبت عائشة أن تنظر، أقامها النبي وراءه خدي على خده وهو يقول دونكم يا بني أرفده([31]).

وعن عائشة قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان. فقال أبو بكر: أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله..؟!

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا([32]).

10- اللقاء في الزيارة

والحب في الله هو الآصرة التي تجمع القلوب وترص الصفوف، وليس الإيمان إلا الحب والبغض في الله.. والحب هو سلامة الصدر، والدعاء في ظهر الغيب، والإيثار، ووسيلة كل ذلك التزاور.

في الزيارة تلتقي المرأة مع الرجل.

وفي الحديث عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟

قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا([33]).

وفي الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار([34]).

وفي الحديث عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود([35]).

وعن أنس أن جارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسيا كان طيب المرق فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يدعوه فقال: وهذه (يشير لعائشة)...؟ فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. فعاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه..؟ قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. ثم عاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه..؟ قال: نعم، في الثالثة. فقاما يتدافعان (أي رسول الله وعائشة) حتى آتيا منزله([36]).

وعن سهل قال: جاءت امرأة ببردة، وقالت: يا رسول الله إني نسجت هذه بيدي أكسوكها. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها فخرج إلينا وإنها إزاره([37]).

وعن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وُعِكَ أبو بكر وبلال قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك..؟ ويا بلال كيف تجدك..؟( [38]).

وعن أبي مليكة قال: استأذن ابن عباس على عائشة قبل موتها وهي مغلوبة (من شدة كرب الموت)، قالت: ائذنوا له فقال: كيف تجدينك..؟ قالت: بخير إن اتقيت([39]).

11- اللقاء على الطعام والشراب

واللقاء على الطعام والشراب محبب ومندوب.. ولقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يستجيبوا لإخوانهم إذا دعوهم..

في الحديث عن عائشة: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقُرب إليه لحم فجعل يناولها. قالت عائشة: فقلت يا رسول الله لا تغمر يدك.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن هذه كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان([40]).

وعن أبي هريرة: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا..؟

فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال أكرمي ضيف رسول الله([41]).

12- اللقاء عند مراجعة أولي الأمر

في الحديث عن عائشة قالت: إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه هي تشتكي زوجها إلى رسول الله([42]).

وعن جبير بن مطعم عن أبيه قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت أن جئت ولم أجدك..؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لم تجديني فأتي أبا بكر([43]).

وعن كعب بن مالك قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم.. فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا ولكن لا يقربك. قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء([44]).

وعن عائشة أن فاطمة والعباس عليهما السلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر([45]).

13- اللقاء عند التقاضي

في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين أو خلق إلا أني أخاف الكفر.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم. فردت عليه وأمره ففارقها([46]).

وعن عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالسة وعنده أبو بكر فقالت: يا رسول الله إني كنت تحت رفاعه فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه إلا مثل الهدبة (الخيط) وأخذت هدبة من جلبابها. فسمع خالد بن سعيد قولها وهو بالباب لم يؤذن له. قالت: فقال خالد: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله؟ فلا والله ما يزيد رسول الله على التبسم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة..؟ لا، حتى يذوق عُسيلتك وتذوقي عسيلته([47]).

اعتـراضـات

ولا يستسيغ الكثيرون النتيجة التي وصلنا إليها.. لا تشكيكا بالأحاديث وكلها صحيحة.. بل في تفسير الأحداث وتوجيهها..

• فهم تارة يقولون: إن الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو من خصوصياته، ويردّ الأئمة المعتبرون هذا القول.. بقولهم: ما أحله الله لنبيه فهو حلال لأمته ما لم يقم دليل على التخصيص([48]).

• ومنهم من يستشهد بالآية الكريمة (وقرن في بيوتكن) على انها القاعدة الأساسية في سلوك المرأة.. وان بيتها أولى بها وأنه هو الأصل وهو المقر، وما عداه استثناء طارئ لمقتضى الحاجة وبقدرها.. ويرد بعض الأئمة هذا القول، باعتبار الآية خاصة بنساء النبي([49]).

ومثل ذلك الآية الكريمة.. )وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن(([50]).

والآية هنا تخص نساء النبي.. والحجاب المقصود هو الساتر الذي تجلس المرأة خلفه (كالجدار).. لا اللباس السابغ الذي ترتديه المرأة المسلمة عند خروجها.

• ومنهم من يستشهد بالحديث: إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال الحمو الموت..

ولقد أجمع العلماء: البخاري والترمذي وائمة الشراح كابن حجر والنووي.. أن النهي هنا عن خلوة الرجل بالمرأة.

• ومنهم من يستشهد بحديث أم حميد أنها جاءت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: قد علمت، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك. وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة([51]).

وهذا الحديث لا يتناقض مع الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي نهى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال عن منع النساء حظوظهن من المساجد إلا إذا كان حضور المرأة إلى المسجد يضيع وقتها ويحول دون القيام بواجباتها البيتية.

• ومنهم من يستشهد بقول عائشة: لو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المسجد([52]). لقد رأت عائشة من النساء ما تنكره من تطيب وتزين.. ولكن أحكام الشارع لا ينسخها كلام أحد من الناس..

• ومنهم من يستشهد بالحديث: المرأة عوره فإذا خرجت استشرفها الشيطان([53]).

وهذا الحديث كناية عن الفتنة.. ولقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي علاج الفتنة فقال: فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه.

• ومنهم من يستشهد بالحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة عليها السلام: أي شيء خير للمرأة..؟ قالت: ألا ترى رجلا ولا يراها رجل، فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض).

والحديث ضعيف الإسناد لا يصلح للاحتجاج به..

• وهناك من يقول: إن هناك نصوصا تفيد مشروعية لقاء النساء بالرجــال، ولكن كثيرا من العلماء يرون منعَ مثل هذا اللقاء من باب سدّ الذريعة، وذلك أن طبيعة المرأة التي خلقها الله عليها فيها كثير من الفتنة، والواجب شرعا أن نعمل على درء الفتنة.

والجواب على ذلك:

أولا- أن التشريع إلالهي يقيم توازنا بين مقاصده وقواعده. فقد شرع للمرأة أن ترى الرجال ويراها الرجال ولم يحظر ذلك سدّا للذريعة. إنما وضع له آدابا رفيعة تكفل أمن الفتنة، فتتم الرؤية في طهر وعفاف.

قال تعالى: )ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن(([54]).

وقال تعالى: )قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم(([55]).

وقال تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ ويحفظن فروجهنّ(([56]).

ثانيا- وشرع للمرأة لقاء الرجال والاجتماع بهم ولم يحظره سدّا للذريعة. إنما وضع له آدابا تكفل أمن الفتنة فيتم اللقاء في طهر وعفاف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لايخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)([57]).

ثالثا- وشرع للمرأة الكلام مع الرجال، ولم يحظره سدّا للذريعة. إنما وضع له آدابا تكفل أمن الفتنة فيتم الكلام في طهر وعفاف.

قال تعالى: )فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا(([58]).

ومن يتتبع دور المرأة يجد الكثير من هذه الممارسات رغم احتمالات الفتنة([59]).

فلا سبيل للخلاص من الفتن بالهروب من مجالات الحياة التي شرعها الله، ولا بحظر ما أباحه الله،ولا بإقامة الحواجز والسدود على غير ما أمر الله.

معا في بناء الحياة

وكما رأينا.. فإن المجتمع المسلم.. تبنيه الفئة المؤمنة.. يشترك الرجل والمرأة في البناء..

• ولا أساس لما يقال بأن صوت المرأة عورة،

• وأنها بالتالي لا تسلم ولاترد السلام،

• وأثيرت شكوك حول صلاتها في المسجد،

• أو مشاركتها في حلقات العلم..

• أو في بقية مجالات الحياة..

• (نبينا يوصي بأن تذهب النساء إلى المساجد (تَفِلاتٍ) أي غير متعطرات ولا متبرجات، ولكن البعض يرى أن تذهب النساء إلى المساجد بثياب المطبخ، والبعض يرى ألاّ تذهب أبدا.

• وفي البخاري أن النبي أجاز أن يسلّم الرجال على النساء، فجاء من يقول: ذاك عند أمن الفتنة! أو ذاك مع النسوة المحارم أو العجائز أو الدميمات. لقد كان جهد الشراح وقف العمل بهذا التوجيه النبوي، وكلما امتد الزمن زادت هذه الشروح قوة حتى ألغت الأصل المتبع.

• ونبينا القائد محمد صلى الله عليه وسلم يفرض التعلم على كل مسلم ومسلمة.. فيأتي من يزعم أن عمر بن الخطاب منع النساء من تعلم الخط، كأنه يرى الأمية أولى بهن!..

المرأة الأوروبية أو اليهودية تشارك مدنيا وعسكريا في بناء الدولة.. والمرأة عندنا ليس لها دور ثقافي ولا سياسي.. ذكر اسمها عيب، ورؤية وجهها حرام، وصوتها عورة، وظيفتها الأولى والأخيرة إعداد الطعام والفراش!. ومازال هناك من يردد: إن السفهاء هم الصبية والنساء!)([60]).

بين الاختلاط المأمون والخلوة المحرمة

وهنا تبرز قضية الاختلاط. يقول بعض الكتاب المعاصرين([61]). الذين كتبوا في موضوع المرأة.. إن المجتمع الإسلامي مجتمع متعاون.. وإن هذا الفصل الجازم بين الجنسين لم يحدث في المجتمع الإسلامي إلا في عصور الانحطاط.. عندما مالت الحياة للترف وحبست المرأة في أقسام الحريم..!

والأحاديث التي ذكرناها وكثير غيرها تؤكد أن المجتمع المسلم كان مجتمعا فاضلا، يلتقي فيه الرجال بالنساء في معظم المناسبات.. في إطار من الفضيلة والأخلاق الكريمة([62])..

كثيرون لا يقبلون ذلك بل ويستفظعونه ويكثرون من الاستشهاد بالقول المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يسأل ابنته فاطمة عليها السلام فيقول: أي شيء خير للمرأة؟ قالت: ألا ترى رجلا ولا يراها رجل، فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض، وهو حديث واه ضعيف.

كنت في أحد المؤتمرات الطلابية في أمريكا.. وكان للأخوة قاعة وللأخوات قاعة أخرى تنقل إليها المحاضرات ويشاهدونها عن طريق التلفزيون.. وكان سؤال من إحداهن: وماذا نفعل إذا أصبحت بناتنا شابات في سن الزواج.. أين يراها الشاب المسلم وأين تراه.. والناس تعيش في مناطق متباعدة.. فإذا لم توفر لهن فرصة اللقاء في مثل هذه المؤتمرات.. أتستكثرون بعد ذلك أن يتزوج الشاب المسلم ممن يصادفها في الطريق.. أو أن تبقى الفتاة المسلمة أسيرة بيتها فلا تتزوج؟

ولقد أحاط الإسلام هذه اللقاءات والمشاركات بسياج من العفة والرصانة.. بحيث تؤدي الغرض، وتمنع الشطط. قال تعالى: )وقلن قولا معروفا(([63]).

فلا ينطلق اللسان كيفما يهوى.. ولا يتبذل اللقاء ولا يهبط مستواه.. وغض البصر ومنعه من الاسترسال يمنع الفتنة. قال تعالى: )قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها(([64]).

أما المصافحة فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إني لا أصافح النساء)([65]).

ومنع الإسلام الخلوة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)([66]).

هذه آداب عامة لابد من الالتزام بها في مثل هذه اللقاءات.. وهناك آداب أخرى أكثر صرامة تخص المرأة كالزي المحتشم والجدية في التخاطب والوقار في الحركة. قال تعالى: )ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن(([67]).

وقال تعالى: )فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا(([68]).

وقال تعالى: )ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى..(([69]).

تناقضات تحتاج إلى علاج

يصفون مجتمعاتنا بالمتخلفة.. أو النامية التي لم تستقر بعد، فهي كالزلزال الذي يهدأ قليلا ليثور ويجرف مع حممه كل ما يصادفه أمامه.. ولهذا التخلف أسباب عديدة.. بعضهم يرجعها إلى الحاكم المستبد الذي أضاع ثروة الأمة في حشد الأنصار وشراء الذمم وإطلاق جيش الاستخبارات والمحاسيب لحماية شخصه أو حزبه أو مكتسباته.. وبعضهم يرجعها للفرد المظلوم لِمَ لمْ يرفع عن نفسه الظلم.. أو يضرب في الأرض، فأرض الله واسعة.. أو يصبر ويصابر مهما كانت الظروف لتغيير المجتمع بشكل تدريجي.. المعادلة صعبة ولكنها ليست مستحيلة.. فالمكتسبات التي ينالها الفرد والمجتمع مثل المعالم على الطريق تبقى ويبقى تأثيرها مهما حاولوا اقتلاعها أو نسفها.. وبالتدريج يمتد الطريق وتزداد المعالم حتى يصل الجميع إلى المجتمع الفاضل المنشود.. تماما كما فعل المسلمون في المجتمع المكي.. تضافرت الجهود.. وكافح الجميع: النبي وأصحابه.. الرجال والنساء.. الكبار والصغار.. غرسوا في الأرض شجرة الإيمان ودافعوا عنها وسقوها بعرقهم وماء حياتهم.. هاجروا فرارا بدينهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة..

فتشوا عن مواقع آمنة ينطلقون منها.. حتى اشتد ساعد الدعوة وتهيأت الفرصة وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجا.. يومها ما كان أحد يسأل.. هل يجوز للصبية الصغيرة فاطمة أن تتقدم للدفاع عن أبيها.. أو هل يجوز للصبايا الصغار عائشة وأسماء أن يضطلعن بدور رئيس في ترتيبات هجرة النبي إلى المدينة.. لم يتساءل أحد عن استشهاد سمية إلى جانب ياسر تحت وطأة التعذيب على يد طغاة قريش..

لقد فهم المجتمع المسلم التعليمات النبوية.. عندما خاطب النبي عمه العباس وعمته صفية.. وخاطب ابنته فاطمة بأن يعملوا فلن يغني عنهم من الله شيئا.. فأخذ كل فرد طريقه في موكب الدعوة.. كل حسب قدرته.

والمجتمع المسلم اليوم الذي تحكمَ فيه المستبدون.. ونام فيه المكلفون.. وانشغل مصلحوه بقضايا فرعية جانبية لا قيمة لها في تحريك الهمم ولا نهضة الأمم.. مطالب اليوم أن ينهض معتمدا الوسائل التي نهض بها المجتمع المسلم الأول.. فلا يصلح هذا الأمر إلا بما صلح به أوله..

• فيعاد للمسجد دوره.. يرتاده الشاب والشابة.. يشاركون معا في إعادة بناء الحياة الإسلامية..

• وتنتشر حلقات العلم في المدارس والمعاهد والندوات.. يرتادها جميع طبقات الأمة.. فلا تتقدم أمة جاهلة مهما استطالت..

• وفي ندوات العلم ينشغل الرجال والنساء بالصالح النافع من العلوم ويزداد اهتمام الجميع بأحوال المسلمين.. فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.. وتنمحي أفكار التعصب والارتباط بالآباء والتفاخر بالأنساب.. ويصبح المسلمون كلهم أمة من دون الناس.

• وتؤسس الجمعيات والنقابات من كل لون والاتحادات الطلابية المحلية والعالمية.. تعمل على رفع مستوى الفرد والجماعة في كافة المجالات.. تمسح الشقاء والعوز عن كاهل المحتاجين.. وتعين أصحاب الأموال المكدسة على أنفسهم ليتحرروا من شحهم وبخلهم.. يسددون الحاكم ويساعدون المحكوم.. ويترفعون في أدائهم عن سفاسف الأمور.. الجميع يعمل الرجال والنساء.. فكلهم راع وكلهم مسؤول عن رعيته. في هذا الإطار العملي الجاد.. سيتشكل المجتمع بكل عناصره.. كما تشكل المجتمع الأول.. وسيصبح الأمر أكثر جدّية من السؤال عن دور المرأة...! يتسابق الجميع في أداء خدمة أكبر.. ستقتدي عنذئذ الفتاة المسلمة بأمها خديجة الكبرى عندما واجهت النبي الذي رجع من غار حراء يرجف فؤاده.. فزملته حتى ذهب عنه الروع.. وطمأنته بأن الله لا يخزيه فهو واصل للرحم يحمل الكلّ ويكسب المعدوم ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق.. وتنطلق به إلى ابن عمها ورقة.. تستشيره وتسمع منه.. لم تمكث خديجة واجمة خائفة.. تهرع إلى أقرب بيوتات بني هاشم تستنجد برجل ليعالج الموقف.. بل عالجته بشجاعة يحسدها عليها الرجال.

وستحاول الفتاة المسلمة أن تسبق الرجل في حرصها على دعوتها.. كما سبقت فاطمة بنت الخطاب أخاها عمر في الإيمان بالدين الجديد.. وستعتبر عندئذ النداء: الصلاة جامعة إنما هو نداء لها ولأخيها.. فتستجيب وتبادر من فورها لتنفيذ المهمة..

قال تعالى: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم(([70]).

هل يمكننا أن نتصور كيف ستكون شخصية المرأة في مجتمع يخشى فيه الرجل المرأة.. وتهرب المرأة فيه من الرجل..؟

فتنة المرأة

وفتنة المرأة كبيرة.. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)([71]).

وكذلك المال فتنة

عن كعب بن عياض: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)([72]).

وقال تعالى: ) واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة(([73]).

فإذا كانت الفتن كثيرة.. فلِمَ انفردت فتنة المرأة بكل هذا الغلو والتضييق..؟ وفصلت أحاديث موضوعة على قياس المرأة.. من مثل:

• طاعة المرأة ندامة.

• شاوروهن وخالفوهن.

• لولا النساء لعبد الله حقا حقا..

• لا تعلموهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف.

هل لأن الرجل استضعف المرأة.. وضعف أمام فتنة المال والأولاد..؟ إن مواجهة الفتنة ومعالجة آثارها هو الطريق الذي رسمه الإسلام لأبنائه الذين يريدون بناء أنفسهم ومجتمعاتهم البناء الأمثل والأفضل.

[1] رواه أحمد.

[2] البخاري ومسلم.

[3] البخاري.

[4] البخاري.

[5] مسلم.

[6] رواه أحمد.

[7] مسلم.

[8] مسلم.

[9] البخاري ومسلم.

[10] البخاري ومسلم .

[11] البخاري ومسلم .

[12] البخاري ومسلم .

[13] البخاري.

[14] البخاري ومسلم .

[15] البخاري.

[16] مسلم.

[17] البخاري ومسلم .

[18] التوبة - 71.

[19] مسلم.

[20] مسلم.

[21] البخاري ومسلم.

[22] مسلم.

[23] ابن ماجة.

[24] ابن ماجة.

[25] الترمذي.

[26] رواه أحمد.

[27] البخاري.

[28] النسائي.

[29] البخاري ومسلم.

[30] البخاري ومسلم.

[31] البخاري ومسلم.

[32] البخاري ومسلم.

[33] البخاري.

[34] البخاري ومسلم.

[35] البخاري ومسلم.

[36] مسلم.

[37] البخاري.

[38] البخاري.

[39] البخاري.

[40] سلسلة الأحاديث الصحيحة - الألباني.

[41] البخاري ومسلم.

[42] ابن ماجة.

[43] البخاري ومسلم.

[44] البخاري ومسلم.

[45] البخاري ومسلم.

[46] البخاري.

[47] البخاري ومسلم.

[48] الفتاوى - ابن تيمية 18 : 9.

[49] فتح الباري - ابن حجر 8 : 108.

[50] الأحزاب 53.

[51] رواه أحمد.

[52] الشيخان.

[53] الترمذي.

[54] النور - 31

[55] النور - 30.

[56] النور - 31

[57] البخاري.

[58] الأحزاب - 32.

[59] تحرير المرأة في عصر الرسالة 3: 136.

[60] قضايا المرأة - محمد الغزالي.

[61] أمثال د. يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي (رحمه الله).

[62] الإسلام حرّم الخلوة، وحرّج في الاختلاط إلا في ظروف الحاجة، وفي الإطار الواضح السليم، بعيدا عن الشبهات.

[63] الأحزاب - 32.

[64] النور 30-31.

[65] رواه مالك..

[66] رواه البخاري.

[67] النور - 31.

[68] الأحزاب - 32.

[69] الأحزاب - 33.

[70] التوبة - 71 .

[71] رواه الشيخان.

[72] رواه الترمذي.

[73] الأنفال - 28.

الفصل الرابع

دور المرأة في إقامة البيت المسلم

الأسرة هي المجتمع الصغير للإنسان، وقد نظم الإسلام علاقة أفراد الأسرة بعضهم ببعض بمجموعة من الحقوق والواجبات والآداب تجعل منهم مجتمعا مثاليا مترابط الأواصر، قائما على الحب، والتراحم والإيثار.. ورعاية الكرامة الشخصية لكل فرد، مع الاستمساك بأهداب العفة والحياء والوقار، وسائر المثل التي تنزع بالمرء دائما إلى معالي الأمور([1]).

ولما كانت المرأة هي الدعامة القوية في الأسرة، ولها الدور الرئيس في إقامة البيت المسلم، فقد رفع الإسلام من شأنها.. وجعلها محط عناية الزوج والأبناء على السواء.

جاء رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أحق الناس بصحبتي؟ قال النبي: أمك! فيقول: ثم من..؟ فيقول أمّك! فيعود الرجل للسؤال فيقول: ثمّ من؟ فيقول أمك! فيعود الرجل رابعة إلى السؤال، ثم من؟ فيقول: ثم أبوك، ثم أدناك فأدناك.

الزواج من حقائق الفطرة

الزواج من سنن المرسلين، ومن حقائق الفطرة، قال تعالى: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(([2]).

عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(أربع من سنن المرسلين: الحنّاء، والتعطر، والسواك، والنكاح)([3]).

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منّي)([4]).

ومن حكمة الله عز وجل أن خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وجعل الزواج الوسيلة الوحيدة والأكيدة لاتصال الرجل بالمرأة، بما يضبط الغريزة، ويحفظ النوع، ويصون المرأة من الضياع، ويحمي الرجل من تبديد طاقته فيما لا طائل وراءه. قال تعالى: )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء(([5]).

(ولقد عني الإسلام -وهو يقيم هذه العلاقة - بتصحيح النظرة إلى المرأة، وبإقامة العلاقة بين الجنسين على أساس من حقائق الفطرة، وبتوضيح هذه العلاقة في كل فرع من فروعها النفسية والعملية، بحيث لا تضطرب ولا تتأرجح، ولا يكتنفها الغموض في زاوية من زواياها)([6]).

والرجل يميل بطبعه للمرأة.. والمرأة تميل بطبعها للرجل. وحتى يصبح هذا الميل عاملاً إيجابياً في بناء الحياة، فقد ناشد النبي صلى الله عليه وسلم معاشر الشباب أن يتزوجوا، فقال:

(يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج. فانه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)([7]).

وإذا استجاب الشاب لهذا النداء، كان الله في عونه، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)([8]).

وكان زواجه سبيلا لإيمانه، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي)([9]).

وجعل الله هذا الزواج سبيلا إلى الغنى، قال تعالى: )وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم(([10]).

وجعل الله هذا الزواج عاملا رئيسا في تهذيب النفس وغض البصر وحفظ العرض، وسبيلا لإنشاء جيل مؤمن يقوم ببناء الحياة على أساس الإيمان([11]).

تيسير الأمور..

ولقد يسرت الدولة المسلمة أمر الزواج. فهي تدفع مهر الفقراء من بيت مال المسلمين. وتحث على تيسير المهور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الصداق أيسره([12]). وقال أيضا: (إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)([13]).

أركان الأسرة

وللأسرة ركنان: الرجل والمرأة.

فكيف يختار كلاهما الشطر الآخر..؟

وما هي مقاييس هذا الاختيار...؟

عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(ما استفاد المؤمن - بعد تقوى الله عز وجل.. خيراً له من زوجةٍ صالحة:

إن أمــرهـــا أَطـاعتــه،

وإن نظـر إِليها سَرَّتـه،

وإن أَقسمَ عليها أَبرَّته،

وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)([14]).

والنفس تميل إلى الجمال..

وتشتهي المرأة الجميلة. وحتى لا يترك الرجل لضعفه فيسقط في متاهات الجمال أو المال، بيّن له الإسلام الطريق السليم في اختيار شريكة حياته.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوج امرأة لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة ليغض بها بصره، ويحصّن فرجه أو يصل رحمه، بارك الله له فيها، وبارك لها فيه)([15]).

وليست هذه دعوة ضد الجمال.. فحب الجمال فطرة.. والله جميل ويحب الجمال.. والتجمل من خصائص المرأة . إنما المقصود أن لا يفتش الإنسان عن الجمال أو الحسب أو المال وحده على حساب المواصفات الأخرى.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء ذات دين أفضل)([16]).

فليس الزواج صفقة تجارية تُراجع فيها الأرصدة..! وليس الزواج مجرد متعة حسية، تستعرض فيها المرأة فتنتها وجمالها في ميدان العرض.. !

بل الزواج توازن بين كل هذه العوامل مع تركيز شديد على جانب الأخلاق والدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)([17]).

ومع ذلك يحض الإسلام كلاً من الرجل والمرأة على السواء أن يحسنا الاختيار.. وأن يدققا فيه.. فليست القضية أياماً تنقضي ويعود كل فريق إلى رحاله.. بل بقية العمر يقضياه معاً في سعادة غامرة تملأ قلوبهم وترفرف بأجنحتها على بيتهم، أو شقاء مستعر يدمر قلوبهم ويعصف بسلامهم وأمنهم. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أصابهن فقد أُعطي خيرَ الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجةً لا تبغيه حُوباً في نفسها وماله)([18]).

ومعظم النكسات التي تصيب قلوب المتزوجين، وتنكد عليهم، وقد تعصف بهم مرجعها إلى سوء الاختيار والانبهار ببعض الجوانب على حساب الجوانب الأخرى.

فقد يتم الاختيار نتيجة إعجاب سريع بموقف معين. وقد لا يتاح للخاطب أن يرى خطيبته إلا رؤية قصيرة، لا تعطي لأي منهما الفرصة في الاختيار السليم. وقد تكون نتيجة لمواقف عاطفية عابرة أو نزوة قاصرة، تنتهي مع انقضاء النزوة أو برود العاطفة. والصحيح أن يدخل الشاب البيوت من أبوابها.. وأن ينظر إلى المرأة فيمعن النظر.. ويدقق في شكلها.. ويدرس أوضاعها..

فعندما خطب المغيرة بن شعبة امرأة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: (اذهب فانظر إليها، فانه أحرى أن يؤدم بينكما)([19]).

ونصح الرسول رجلاً خطب امرأة من الأنصار، فقال له: (انظر إليها، فان في أعين الأنصار شيئا)([20]).

وكان جابر بن عبد الله يختبىء لمن يريد التزوج بها، ليتمكن من رؤيتها، والنظر إلى ما يدعوه إلى الاقتران بها([21]).

بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض النسوة ليعرفن بعض ما يخفَى من العيوب، فيقول لها:

(شميَّ فمهـا، شميَّ ابطيها، انظري إلى عرقوبيها).

وليست العناية بالمظهر فقط.. بل وبالمخبر أيضا. قال ابن الجوزي: ومن قدر على مناطقة المرأة أو مكالمتها فليفعل([22]).

إلى هذه الدرجة راعى الإسلامُ هذا الأمر.. بل وهيّأ أسبابه.

هذا بالنسبة للشاب الخاطب.. وكذلك يصح مثله للشابة أن تنظر إلى ما يدعوهـا إلـى قبول خاطبهــا([23]).

قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد)([24]).

وما لم يتفهم أولياء أمور الشباب والبنات هذه السعة في دين الله، فيتيحوا لأولادهم وبناتهم، مجال الرؤية عن قرب، والحديث المتبادل.. والجلسات المحتشمة التي تسبق الاختيار، في إطار الفضيلة والأخلاق الإسلامية.. ما لم يفعلوا ذلك فلن تكون النتائج حسنة لأبنائهم الأولاد والبنات.

لقد انقضى ذلك الزمن الذي كان الأب يختار لابنه أو لابنته شريك حياته.. وينبغي أن ينقضي، للتقليل من المفاجآت والمآسي التي تدمر حياة الأسر الغضة الصغيرة.

وعلى الآباء الذين يفهمون الدين على أنه تزمتٌ ورجعية، ويؤمنون بأن الفتاة إنسان قاصر لا يخرج إلا مرة للحياة من رحم الأم ومرة للاستعباد في بيت الزوجية ومرة ثالثة للقبر.. عليهم أن يراجعوا أنفسهم، ويعيدوا تربيتها على أساس الهدي الرباني والنبوي الكريم.

إن معظم الزيجات الفاشلة.. كان سوء الاختيار من أهم أسباب فشلها. كما كان سوء تصرف الآباء من أهم أسباب سوء الاختيار.. فليتق الآباءُ اللهَ في أبنائهم وبناتهم.

الزوجة الصالحة

فالرجل، والمرأة التي يختارها شريكة له، يكوّنان الأسرة المسلمة التي هي أساس المجتمع الإسلامي، وعليها يقوم بناء العمران كما يقوم عليها بناء الأخلاق الإنسانية في مجالات واسعة متشابكة.

ومن هنا، فقد شدّد الإسلام على ضرورة اختيار المرأة الصالحة ليكون البيت منسجما صالحا.. ويعيش الأبناء سعداء في كنفه، فلا تقع أعينهم على معصية.. أَوَ ليست المرأة الصالحة التي تبني بيتاً صالحاً.. ومجتمعا صالحا.. من أكبر النعم التي يحق للرجل أن يحمد الله عليها؟. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)([25]).

مواصفات الزوجة الصالحة

وللزوجة الصالحة مواصفات:

تطيع زوجها

• والبيت المسلم، مجتمع مصغر يقوم على: المودة والرحمة، والسكن النفسي والحسي، والمساواة من الناحية الإنسانية، قال تعالى:

)ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة(([26]).

(وهذه الدرجة مفسرة بقوله تعالى: )الرجال قوامون على النساء(([27])، فالحياة الزوجية هي حياة اجتماعية، ولا بد لكل مجتمع من رئيس، لأن المجتمعين لا بد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إلى رأيه في الخلاف، لئلا يعمل كلٌ ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعاً بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف..)([28]).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت الجنة)([29]).

وتسرّه إذا نظر إليها

• سرته بجمالها، وحسن منظرها، وتأنق ملبسها، وطيب رائحتها.

وسرته بترتيب منزلها، وتحويل بيتها إلى سكن حقيقي يأوي إليه الرجل المكدود. فيجد فيه: الحب والحنان، والراحة والأمان.

وسرته بالعناية بأطفالها: مظهرهم ومخبرهم، مطعمهم ومشربهم، وبكل شيء من شأنهم.

وسرته بجمال أدبها، وكريم خلقها، وحسن تبعلها، وبرّها زوجها، ورعايتها له في قلبه وشعوره وماله وعرضه.

وسرته بالتزامها بأوامر دينها، في صلاتها وصيامها، في تصدقها وإحسانها )فالصالحـات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله(([30]).

من هذه النظرة المؤنسة، والسكن الودود، والرحمة والمودة، يتولد الحب الذي يشعر فيه الرجل والمرأة براحة الجسم والقلب، واستقرار الحياة والمعاش، وأنس الأرواح والضمائر.. واطمئنان الرجل للمرأة والمرأة للرجل على السواء.

قال تعالى: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(([31]).

وإن أقسم عليها أبرته

• وهو تأكيد لمعنى (إذا أمرها أطاعته).. أو هو درجة أعلى في الطاعة.. فطاعة الزوجة لزوجها مجلبة للهناءة والرضا، والمخالفة تولد الشحناء والبغضاء، وتوجب النفور، وتفسد عواطف المودة، وتنشىء القسوة في القلوب.

وما من امرأة نبذت طاعة زوجها إلا حل بها الشقاء ولحقها البلاء. وكلما زادت طاعة الزوجة لزوجها ازداد الحب والولاء بينهما، وتوارثه أبناؤهما، لأن الأخلاق المألوفة إذا تمكنت صارت ملكات موروثة: يأخذها البنون عن آبائهم، والبنات عن أمهاتهن([32]).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تمسهم النار: المرأة المطيعة لزوجها، والولد البار بوالديه، والعبد القاضي حق الله وحق مولاه).

وقال أيضاً: (جهاد المرأة حسن التبعّل) أي إطاعة الزوج. وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء أفضل؟ قال عليه السلام: (التي تطيع زوجها إذا أمر، وتسره إذا نظر).

ولن يسر الرجل بمنظرها.. إذا كانت عنيدة مشاكسة عاصية متحدية!!

ومهما حسنت أخلاق الزوج أو الزوجة فلا بد من حدوث بعض الأمور التي تكدر العلاقات بين الحين والحين.. وهنا تتجلى الأخلاق.

قال أبو الأسود الدؤلي لامرأته: (إذا رأيتني غضبت فرضَّني، وإن رأيتك غضبت رضّيتك، وإلا لم نصطحب !).

وهنا يتجلى معنى: إذا أقسم الرجل على امرأته أمرا فعليها الوفاء والطاعة.. وخير النساء المبقيةُ على بعلها، المؤثرة راحته على راحة نفسها.

وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله

• روى ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، وقرأ قوله تعالى {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله(([33]).

(فالغيب هنا هو ما يستحيا من إظهاره، أي: حافظات لكل ما هو خاص بأمر الزوجية الخاصة بالزوجين، فلا يُطلِعُ أحدٌ منهما على شيء مما هو خاص بالزوج.

ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة ولا سيما حديث الرفث، فما بالك بحفظ العرض.

وعندي أن هذه العبارة أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرؤها خرائد العذارى جهراً، ويفهمن ما تومىء إليه مما يكون سرا، وهن على بعدٍ من خطرات الخجل أن تمسّ وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات، التي تدفع الدم إلى الوجنات، ناهيك بوصل حفظ الغيب (بما حفظ الله) فالانتقال السريع من ذكر ذلك الغيب الخفي، إلى ذكر الله الجلي، يصرف النفس عن التمادي في التفكير بما يكون وراء الأستار، من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبته عز وجل. فالمرأة الصالحة لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظةً من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة)([34]).

هذا معنى أن تنصحه في نفسها.. أما أن تنصحه بماله فمعناه أن تحفظ وتصون مال زوجها. فلا تعطي أحداً من أهلها أو من غيرهم شيئا من مال زوجها أو متاعه، إلا إذا أذن لها.. لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تعطي شيئا من بيته إلا بإذنه، فان فعلت ذلك كان له الأجر وعليها الوزر)([35]).

وللشابة حقوق.. وللثيب كذلك

وإذا حثّ النبي صلى الله عليه وسلم الشاب والشابة على التبكير بالزواج.. فهو لم يهمل المرأة الثيب. فما تكاد امرأة مسلمة تتأيم حتى يسارع المؤمنون إلى ضمّها إلى بيوتهم زوجة مكرمة، لا تنتهي حياتها بموت زوجها.. بل تبدأ من جديد في زواج جديد. وهذا سلوك متميز.. سبق إليه وتميز به الإسلام..

فإذا كانت الفطرة تجعل الرجل يميل للمرأة الشابة البكر يلاعبها وتلاعبه.. فإن الواجب يقتضي أن لا يهمل المجتمع أحدا ولا يضيع ثيبا..

عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة قال: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة.. ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا.. فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت زوجتك حفصة.. فصمت أبو بكر فلم يرجع إليّ شيئا.. فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه([36]).

وهذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هاجرت إلى المدينة وحدها فرارا بدينها، تدخل على أم سلمة وتقول لها: إني هاجرت إلى الله ورسوله.. وأنا أخاف أن يردني رسول الله كما ردّ أبا جندل وأبا بصير.. وامتحنها رسول الله ولم يرجعها إلى أهلها.. وكانت عاتقا فتزوجها زيد بن حارثة.. فلما قتل عنها تزوجها الزبير.. ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف.. ثم تزوجها عمرو بن العاص فماتت عنده.

وهذه عاتكة بنت زيد، وكانت صحابية أديبة ذات جمال وكمال ورأي، قتل زوجها عبد الله بن أبي بكر، فتزوجها من بعده عمر بن الخطاب، فلما قتل تزوجها الزبير بن العوام، فلما قتل تزوجها الحسين بن علي.

كان عبد الله بن عمر يقول: من أراد الاستشهاد فليتزوج عاتكة.

[1] المرأة بين البيت والمجتمع - البهي الخولي، ص- 14.

[2] الروم - 21.

[3] الترمذي.

[4] رواه الشيخان.

[5] النساء - 1.

[6] الإسلام ومشكلات الحضارة - سيد قطب، ص- 62.

[7] رواه الشيخان.

[8] رواه أحمد.

[9] رواه البيهقي في شعب الإيمان.

[10] النور - 32.

[11] المرأة المسلمة - وهبي سليمان الغاوجي، ص- 107.

[12] الحاكم.

[13] أحمد.

[14] ابن ماجة.

[15] رواه ابن حبان.

[16] رواه عبيد بن حميد.

[17] رواه البخاري ومسلم.

[18] رواه الطبري بسند جيد.

[19] الترمذي.

[20] مسلم.

[21] أبو داوود.

[22] صيد الخاطر - ابن الجوزي.

[23] المجموع شرح المهذب للشيرازي 15 : 295.

[24] الترمذي.

[25] رواه مسلم.

[26] البقرة - 228.

[27] النساء - 34.

[28] حقوق النساء - محمد رشيد رضا ص 38.

[29] رواه أحمد.

[30] النسـاء - 34.

[31] الـروم - 21.

[32] المرأة في التصور الإسلامي - عبـد المتعال محمد الجبري، ص- 93.

[33] رواه البيهقي - المرأة المسلمة - وهبي سليمان الغاوجي، ص- 151.

[34] البخاري.

[35] صفوة الصفوة 2: 55.

[36] البخاري (5122)


الأسرة حقوق وواجبات

الحقوق الزوجية

والحقوق الزوجية هي ما يُلزم به كل من الزوجين تجاه الآخر من حقوق يحميها القانون الإسلامي، وتتدخل السلطة لإجبار من أخلّ بشيء منها على أدائه كاملا لشريكه في الحياة الزوجية.

ولقد قرر القرآن الكريم هذه الحقوق في قاعدة تشريعيّة دقيقة هي قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}.

وهذا التوازن يتضح فيما قرره الفقهاء، أن تستحق الزوجة على زوجها: المهر، والإنفاق بالمعروف، والسكنى، وحسن العشرة (وعاشروهن بالمعروف)، ورعاية دينها وحسن توجيهها ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا).

وأن يستحق الزوج على زوجه: طاعته بالمعروف، واحترام رغبته (لو كنت آمراً أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)([1])، وأن تستجيب لزوجها كلما دعاها لفراشه (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة)([2])، وحسن تبعلها فلا تقع عينا الزوج على ما يكره، و القيام بأعمال المنزل، ورعاية الأبناء، ومتابعته في السكنى.. هذا بالإضافة إلى الحقوق المتبادلة التي تقيم السعادة الزوجية([3]).

حقوق الأولاد([4])

وإذا كان الإنجاب والذرية من أهم أهداف الأسرة.. فقد اهتم الإسلام برعاية الجنين قبل مولده.. والعناية بالمولود بعد ولادته، وتهيئة البيئة الصالحة لتنشئته([5]). يقول تعالى: )المال والبنون زينة الحياة الدنيا(([6]).

أما حقوق الأولاد.. فتبدأ بحسن اختيار أمهم.. وإحسان تسميتهم.. والإنفاق عليهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت([7]).

وبعد الرعاية المادية تأتي الرعاية المعنوية.

فللأولاد حق الحب والرحمة. قدم ناس من العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا: تقبّلون صبيانكم؟

فقالوا: نعم.

فقالوا: لكنّا والله ما نقبّل!

فقال النبي: أوَ أمِلك! إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة!([8]).

وللأولاد حق التعليم والرعاية والتوجيه السليم.. في كل طور من أطوار نشأتهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم : أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم([9]).

وللأولاد حق معاملتهم بالعدل والتسوية بينهم في العطف واللطف.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم : اعدلوا بين أبنائكم في النُّحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف([10]).

يريدون تحطيم الأسرة

هناك محاولات خطيرة تهدف إلى هدم الأسرة وإشاعة الفوضى..

بدأها دوركايم وليفي بريل ومدرسة العلوم الاجتماعية (الفكر النفسي التحليلي الفرويدي)، وتابع مسيرتها الأب الفاحش الخليع الذي لا يفتأ يزداد في وقاحته ورواجه، والأفلام السينمائية التي لا تذكي في الناس عواطف الحب الشهواني فحسب، بل تلقنهم دروسا عملية في الفاحشة، وانحطاط المستوى الأخلاقي في عامة النساء الذي يظهر في ملابسهن بل عريهن، وفي إكثارهن من الشراب، واختلاطهن بالرجال بلا قيد أو التزام([11]).. وتفلسف سيمون بوفوار([12]) دعوتها للإباحية في كتابها الجنس الثاني، فتدعو المرأة أن تناضل ضدّ الرجل الذي يتحكم فيها ويصوغ القوانين لمصلحته ضدها...

هذه الدعوات الفاسدة التي ينفخ فيه الشيطان وأعوانه.. هي التي تثمر هذا الانهيار الأخلاقي والاجتماعي الذي يعيشه العالم اليوم.. إن قضية الأسرة صارت في كثير من البلدان من مخلفات الماضي.. ومن رموز الرجعية.. ومن علامات التحكم بالمرأة.. يريدون تحطيم الأسرة، اللبنة الأولى في بناء المجتمعات.. ولم يدر هؤلاء أنهم بفعلهم هذا إنما يحطمون أنفسهم.

[1] أبو داود والحاكم.

[2] الشيخان.

[3] ماذا عن المرأة - د. نور الدين عتر، ص- 122.

[4] الأسرة في الإسلام - مصطفى عبد الواحد، ص- 90.

[5] الأسرة المسلمة في ضوء القرآن - حسن محمد باجودة، ص- 68.

[6] الكهف - 46.

[7] أبو داود والحاكم وأحمد.

[8] الشيخان.

[9] ابن ماجة.

[10] الطبراني.

[11] الإسلام ومشكلات الحضارة- سيد قطب، ص 155..

[12] الجنس الثاني - سيمون بوفوار.

الفصل الخامس

كلمات في لباس المرأة المسلمة وزينتها

وهذه قضية أخرى أضيفت إلى سلسلة قضايا أحاطت بالمرأة.. فأشغلتها وأربكت حسّها، وأدخلتها في دوامة لا تكاد تخرج منها. وهي كالعادة بين إفراط وتفريط..

بين إفراط وتفريط

تفريط من أقوام جردوا المرأة من ملابسها، وعرضوا مفاتن جسدها في الصحف والمجلات ودور الأزياء ودور العرض والتلفزيون.. يلهون ويعبثون بالحرمات لإشباع انحرافاتهم ونزواتهم.

وفي محاولة للدفاع عن أنفسهم زعموا أن تحرر المرأة لا يكون إلا بتجريدها من ثيابها..ولقد أساء هذا التحرر (المزعوم) لمكانة المرأة إساءة كبرى.. فلم تتعرض المرأة - عبر تاريخها - لمهانة أعظم وأكبر من المهانة التي فرضتها عليها جاهلية القرن العشرين..

فما معنى أن يُعرض جسد المرأة مع الإعلان عن ترويج سلعة.. وإذا بها عارية مع أنواع الصابون.. وأنواع الملبوسات.. وأنواع الأحذية.. لقد تفننت قنوات الإعلام -المرئية خاصة- في ابتكار الوسائل الدنيئة التي عرّت المرأة من ألبستها.. وبالتالي من كرامتها..

كان الرجل يتلهف إلى لقاء المرأة.. ويوم الزفاف كان عيدا عند الرجل وعند المرأة كليهما.. يؤرخون به لحياتهم.. ويحتفلون كل عام بمناسبته.. كان الرجل يسعى للقاء المرأة يفضي إليها وتفضي إليه في طهارة كاملة وشوق كبير، يرفع من درجة حرارته صيانة جسد المرأة من قبل.. فهو يرى شيئا جديدا.. ويلمس معان جديدة ويشعر بأنس وقرب ورحمة ومودة لم يشعر بهما من قبل.. )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(([1]).

أما اليوم فيهرب الرجل من الزواج ومن المرأة من أن يرتبط بها ارتباطا أبديا.. ولِمَ يفعل وجسدها معروض عليه ليل نهار.. وممارساته الشاذة منطلقة بين نساء كثير..؟! هل يتزوج ليتحمل المسؤولية وتزيد نفقاته بدون معنى.. إنه يمكث مع امرأة جميلة تعجبه، في بيت واحد، يتقاسمان أجرته.. ويصرف كل منهما على نفسه، حتى إذا ملّ منها بحث عن واحدة أكثر جمالا وحيوية وشبابا..

ويأتي اليوم الذي يذهب فيه الشباب.. ويغيض الجمال.. فأين تقضي هذه المرأة بقية حياتها..؟ في مأوى العجزة مستسلمة للأمراض النفسية والجسدية التي لا ينقذها منها غير الانتحار..

كان المتوقع أن ترفض جمعيات حقوق الإنسان.. وجمعيات حقوق المرأة.. هذا الانحدار المرعب الذي وصلت إليه المرأة.. ولكننا -وللأسف الشديد- لم نسمع غير أصوات قليلة لا تتناسب مع حجم الجريمة.. ترتفع لتقول.. (لقد عادت المرأة إلى عهد الحريم.. حاولت الحضارة الغربية إعطاء المرأة مكانتها.. فارتكست ورضيت بعرض مفاتن جسدها لمن يريد العبث أو التجارة..)! وهي لم ترض في الحقيقة ولكن شياطين الإنس وعلماء الجريمة زينوا لها ذلك فاستدرجوها.. واستغلوها.

الحضارة الحديثة تظلم المرأة

كنت أحاضر مرة في جامعة بودابست في المجر عن دور الشباب (الفتيان والفتيات) في إعادة بناء الأمة المسلمة.. وكانت القاعة تغص بالنساء المجريات المسلمات.. وطلبن بعد المحاضرة لقاء خاصا يسألن عن دور المرأة في الإسلام.. ومساواتها مع الرجل.. ودورها في البناء.. وتساءلتُ:

لم معظم المسلمين في هذه البلاد من النساء..؟ فأجبن بصوت واحد: لأنهن الطبقة التي ظلمت.. فهي محظية في شبابها.. وخادمة في مقهى أو ملهى عندما ينفض عنها المعجبون.. حتى إذا انتهت الرغبة فيها.. وجدت نفسها وحيدة لا زوج ولا ولد ولا أسرة.. شقاء ما بعده شقـاء.. ورأينا في الإسلام شيئا آخر فهرعنا إليه.. ولو علمت بنات جنسنا ما علمنا لأقبلن غير مترددات.

هذا من جانب..

أما في الجانب الآخر فقد دخلت قضية لباس المرأة دائرة الإفراط.. وظن الكثير من المسلمين أن صيانة المرأة لا تكون إلاّ في ردة فعل مقدارها مائة وثمانون درجة لما فعلته الحضارة المادية بالمرأة.

فإذا تعرّت هناك.. فالمطلوب هنا أن تتلفع بالسواد من أخمص قدميها إلى قمة رأسها.. لا يعرفها أحد.. ولا تكاد تبصر طريقها.

والإسلام يوم حرر المرأة التحرير الحقيقي.. أحاطها بالاعتدال، وأعطاها كافة الحقوق التي تتناسب مع طبيعتها، وأطلقها حرة كريمة للعمل في موكب الدعوة. ألبسها لباس التقوى.. واللباس الساتر السابغ الذي لا يصف المفاتن ولا يجسّدها.. وسمح لها ببعض الزينة المعتدلة في اللباس والوجه والكفين بما يتعارف عليه مجتمع المسلمين.. بدون إفراط ولا تفريط.

وطبيعة هذا البحث لا تسمح بالدخول في التفاصيل أو الآراء الفقهية المختلفة حول لباس المرأة وزينتها.. فلهذا الأمر كتب متخصصة أخرى([2]). ولكننا سنكتفي بذكر بعض الملامح حول هذه القضية.

المرأة في موكب الدعوة

كنت مرة في لندن أحاضر أخواتنا الطالبات حول قضية المرأة في موكب الدعوة.. وسألتني إحداهن في أعقاب المحاضرة عن النقاب الذي تلبسه.. هل تبقيه أم تكتفي بما تلبسه أخواتها من غطاء للرأس وستر للعنق وبقية البدن.. فقلت لها: أما النقاب فأنت التي تعرف متى تلبسه ومتى تخلعه.. الأمر الذي يطلبه منك الإسلام هو أن تنطلقي عاملة في موكب الدعوة.. كما انطلقت أخواتك من قبل.. وأنت التي تقدرين بعد ذلك هل يعيق النقاب عملك أم يسهله.. على قاعدة: الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات.

لباس المرأة المسلمة

والسؤال الآن: هل فرض الإسلام على المرأة لباسا معينا..؟

الواضح أن الإسلام لم يفرض طرازا معينا أو لونا محددا للباس المرأة.. وبعض الألوان والطرز التي تصر المرأة على ارتدائها في بعض البلدان.. إنما هو من قبيل العادات التي تعارف عليها الناس هنا أوهناك.

ومع ذلك فقد حدد الإسلام مواصفات ينبغي أن تتوفر في لباس المرأة المسلمة.. تلتزم بها عند خروجها من بيتها. وهذه المواصفات هي:

أولا- أن يكون اللباس ساترا لجميع بدن المرأة

عدا الوجه والكفين والقدمين.

وهذا مفهوم من قوله تعالى: )يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين(([3]).

والجلباب هو كل ما يُستر به: كالقميص وفي هذه الحالة إدناؤه إسباغه بحيث يغطي بدنها ورجليها.. وإن كان ما يغطي الرأس فإدناؤه ستر وجهها وعنقها، وإن كان المراد ما يغطي الثياب (المانطو) فإدناؤه تطويله وتوسيعه(1).

ولم يختلف أحد من فقهاء الأمة على ضرورة أن يكون لباس المرأة الذي تخرج به من بيتها واسعا سابغا ساترا لبدنها.. ولكن الخلاف وقع في ستر الوجه أو كشفه.. فهناك من فسر إدناء الجلباب بأنه ستر للوجه وبعضهم فسره بتغطية جزء من الوجه.. وبعضهم قال إن المعنى لا يحتمل هذه التفسيرات.. وإن الآثار التي تدل على كشف الوجه كثيرة ومعتمدة.

ثانيا- أن يكون مخالفا للباس الرجال

ومن المواصفات التي تـميّز لباس المرأة أن يكون مخالفا للباس الرجال. ففي الحديث عن ابن عباس قال:

لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال([4]).

وعن أبي هريرة قال: لعن رسول الله الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل([5]).

الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث ابن عباس قال: فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد فرب قوم لا يفترق زي نسائهم عن رجالهم في اللبس ولكن يمتاز النساء بالاحتجاب والاستتار.

ثالثا- أن يكون اللباس مما تعارف عليه مجتمع المسلمين

فلا يكون اللباس شاذا.. يطارد التقاليع التي تظهر هنا أو هناك، تبرز المفاتن وتطلب الشهرة.. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة)( [6]).

رأي الفقهاء في كشف الوجه

المذهب المالكي

جاء في الموطأ للإمام مالك: سئل مالك هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم منها أو مع غلامها..؟

فقال مالك: ليس بذلك بأس، إذا كان على وجه ما يعرف للمرأة، قال: وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله. وقد ذكر الباجي صاحب المنتقى شرح الموطأ: أن ذلك يقتضي: أن نظر الرجل إلى وجه المرأة وكفيها مباح لأن ذلك يبدو منها عند مؤاكلتها([7]).

المذهب الشافعي

أما الشافعي فقــد ذكر في كتابــه الأم: يجزئ الرجل والمرأة كل واحد أن يصلي متواري العورة، وعورة الرجل ما دون سرته إلى ركبته، وكل المرأة عورة إلا كفيها ووجهها([8]).

المذهب الحنبلي

أما المذهب الحنبلي فقد ذكر ابن هبيرة في كتابه الإفصاح عن معاني الصحاح، قال: قال أحمد في إحدى روايتيه: المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها.. والرواية الأخرى: كلها عورة إلا وجهها([9]).

ولقد ذهب ابن تيمية في هذه المسألة مذهب الحنابلة.

المذهب الحنفي

وقد ورد الأمر ذاته في المذهب الحنفي فقد جاء في الهداية للميرغيناني: بدن المرأة كله عورة إلا وجهها وكفيها([10]).

كشف الوجه ضرورة من ضرورات التعامل

واعتبر بعض الفقهاء كشف الوجه ضروريا في التعامل.

• فقد ورد في المغني لابن قدامة (وهو من أعلام الحنابلة): وللشاهد النظر إلى وجه المشهود عليها لتكون الشهادة واقعة على عينها. وإن عامل امرأة في بيع أو إجارة فله النظر إلى وجهها ليعلمها بعينها فيرجع إليها بالدرك([11]).

• وورد في المجموع للنووي - وهو من أعلام الشافعية-: ويجوز لكل واحد منهما (أي الرجل والمرأة) أن ينظر إلى وجه الآخر عند المعاملة لأنه يحتاج إليه للمطالبة بحقوق العقد والرجوع بالعهدة، ويجوز ذلك عند الشهادة للحاجة لمعرفتها في التحمل والأداء. وورد فيه أيضا: ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إبراز الكف للأخذ والعطاء فلم يجعل ذلك عورة([12]).

فالمذاهب الأربعة الكبرى متفقة في هذه المسألة.. وقررت جميعا بأن وجه المرأة ليس بعورة.. وأن كشفه ضروري في البيع والشراء والشهادة وبقية المعاملات.

ومع ذلك فإن لبعض الفقهاء آراء أخرى نستعرضها باختصار:

آراء بعض من يقولون بأن وجه المرأة عورة

• بعض فقهاء الحنابلة المتأخرين فرق بين عورة الصلاة وعورة النظر.. وفي ذلك يقول ابن تيمية: ليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا ولا عكسا([13]).

وقال ابن القيم: فإن العورة عورتان: عورة في النظر وعورة في الصلاة([14]).

فإذا صح كشف الوجه في الصلاة فلا يصح كشفه في بقية الأوقات.

ويستدل هؤلاء بقوله تعالى: )فاسألوهن من وراء حجاب(([15]).

والعبرة عندهم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ويردّ عليهم من لا يرى رأيهم فيقول: إن الآية بدأت بـ )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي( فهي إذن خاصة بنساء النبي لا بعموم النساء.

خوف الفتنة

وقال آخرون إن الوجه موطن الفتنة فلابد من ستره([16]).

وقال المتولي الشافعي: إن كانت المرأة الأجنبية جميلة يُخاف الافتتان بها لم يشرع السلام لا ابتداء ولا جوابا.. وإن كانت عجوزا لا يفتتن بها جاز([17]). وعلق على هذا الرأي الحافظ ابن حجر فقال: إن الجمال مظنة الافتتان بخلاف مطلق الشابة([18]).

ولقد ردّ فقهاء آخرون على ذلك فقالوا: وهل من سبيل إلى معرفة الشابة من العجوز والجميلة من غيرها بغير سفور الوجه؟

وفي الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قـال: أردف رســــول الله الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عَجُزِ راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي النبي، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده قد أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: نعم.

وفي رواية أخرى: (فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه)([19]).

ويتسائل الكثيرون حول هذا الحديث الصحيح.. فيقولون:

لِمَ لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخثعمية الوضيئة أن تستر وجهها خشية الفتنة.. إذا كانت جميلة إلى هذا الحد..؟

(إن عادة ستر الوجه حذرا من أن يراه الرجال ودرءا للفتنة، تولّد في نفس المرأة حياء من لقاء الرجال، ومن ثم تحرص على البعد عن مجتمعاتهم مهما كان الهدف من اللقاء شريفا خيرا.. كما تولد في نفوس الرجال الشعور بالحرج من لقاء النساء، وبسبب ذلك ينعزل النساء وتشتد العزلة مع الزمن بدعوى فساد الزمان.

لقد كان السمت العام للمجتمع الإسلامي في العهد النبوي هو مشاركة المرأة ولقاؤها الرجال في مختلف المجالات.

لقد لقيت المرأة الرجال في الزيارة، وحسن الرعاية، والضيافة، وتبادل الهدايا، والعيادة، وعمل المعروف، وفي الاحتفالات، وعلى الطعام والشراب.. هذا فضلا عن اللقاء الدائم في المسجد وفي ساحات الجهاد وفي النشاط المهني والاجتماعي والسياسي)([20]).

النقاب

والنقاب والجلباب والخمار لباس كانت تلبسه المرأة أيام الجاهلية.

أما الجلباب فقد أمر القرآن الحرائر بإدنائه لقوله تعالى:

)يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين(([21]).

وأما الخمار.. فقد نزل القرآن بوجوب لبسه: قال تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن(([22]).

أما النقاب: فلم يرد ذكره على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة حين قال: لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين([23]). وقال بعض الفقهاء: بكراهية النقاب وقت الصلاة.

وقياسا على الإحرام قال بعض فقهاء الحنابلة: بحظر النقاب فترة الإحداد تجنبا للترفه والتزين.

ولكن ما هو القول في الزينة..؟

وإذا جاز كشف الوجه.. فهل تجوز الزينة..؟

قال تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليُعلَمَ ما يخفين من زينتهن..(([24]).

قال العلماء: إن الزينة فيها باطن كالسوار للذراع والدملج للعضد، والقرط للأذن والقلادة للنحر والخلخال للساق، ومنها ظاهر كالكحل للعين والخضاب والخاتم للكف وشيء من الطيـب في الخـدين. ولما قال: ولا يبديـن زينتهن، عممّ اللفظ الباطنة والظاهرة.. ولما قال: إلا ما ظهر منها خصّ الظاهرة فجاز إبداؤها وبقيت الباطنة على المنع.

ولم يمنع الشارع المرأة من الالتزام بقدر معتدل من الزينة إلا في حال الحداد على الميت. وهي ثلاثة أيام، لا تزيد اللهم إلا على زوج أو حتى تضع المرأة إن كانت حاملا.

قال ابن القيم: فيحرم على المرأة الحادّة الخضاب والنقش والتطريف والاسفيداج (مسحوق أبيض تبيض به المرأة وجهها)([25]).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه([26]).

ورد في فتح الباري: طيب الرجال لا يجعل في الوجه بخلاف طيب النساء لأنهن يطيبن وجوههن ويتزين بذلك([27]).

والزينة من الفطرة. )قل من حرم زينة الله(.

والجمال مطلوب.. (إن الله جميل يحب الجمال)([28]).

والثياب جزء من الزينة.

عن أنس بن مالك أنه رأى على أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم بردَ حرير سِيَرَاء([29]).

وكل أنواع الزينة للنساء والرجال تحددها تعاليم الإسلام وأْعراف المسلمين.

عن سبيعة بنت الحارث أنها كانت تحت سعد بن خولة.. فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطاب فاكتحلت واختضبت وتهيأت، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: مالي أراك تجملت للخطاب؟ ترجين النكاح؟ فإنك والله ما أنت بناكح حتى تـمرّ عليك أربعةُ أشهر وعشر. قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي وأتيت رسول الله فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي([30]).

وعن زينب بنت أبي سلمة قالت: لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة رضي الله عنها بصفرة (طيب مخلوط بزعفران أصفر اللون) في اليوم الثالث فمسحت عارضيها (جانب الوجه وصفحة الخد) وذراعيها وقالت: إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا)([31]).

وعن أبي موسى الأشعري قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي فرأينها سيئة الهيئة، فقلن لها: مالك؟ ما في قريش رجل أغنى من بعلك! قالت: مالنا فيه من شيء، أما نهاره فصائم وأما ليله فقائم.فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فذكرن ذلك له، فلقيه فقال: يا عثمان أمالك فيّ أسوة.. فأتتهم المرأة بعد ذلك عطرة كأنها عروس فقلن لها: مَهْ قالت: أصابنا ما أصاب الناس([32]).

وعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا...([33]).

ويبلغ الأمر الشرعي بوجوب قدر من الزينة أقصى درجات الوضوح حين ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة اجتنابها الخضاب. عن عائشة قالت: إن امرأة مدت يدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فقبض يده، فقالت: يا رسول الله، مددت يدي إليك بكتاب فلم تأخذه، فقال، إني لم أدر أيد امرأة هي أو رجل. قالت: بل يد امرأة. قال: لو كنت امرأة لغيرت أظافرك بالحناء([34]).

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو كان أسامة جارية لكسوته وحليته حتى أنفّقه([35]).

وهنا سؤال يفرض نفسه: وما حكم النظر إلى المرأة؟

الأصل في المسألة هو غض البصر.

قال تعالى: )قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما تصنعون.. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن(([36]).

والآية تشير إلى أنه كان هناك شيء يُرى من المرأة عادة ويقتضي من الرجل غضّ البصر عنه. ولو أن الشرع أمر بستر وجه المرأة ما كانت هناك حاجة لأمر الرجال بغض البصر.

ومع ذلك فأكثر أهل العلم يقولون: بجواز النظر إلى وجه المرأة وكفيها بغير ريبة ولا مكروه.. وأما النظرة للشهوة، فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة([37]).

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة([38]).

ولا نعتقد أن الحياة الاجتماعية في المجتمع المسلم يمكنها أن تستقيم بدون هذا النظر البريء الذي تترتب عليه كل النتائج الايجابية في بناء الحياة..

اختيار الزوجة

• كيف سيختار الرجل زوجته ويتأكد من جمالها وحسنها.. وقد أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من مزايا المرأة الصالحة الناجحة بأن يُسرّ إذا نظر إليها..؟

هل يرسل أمه أم الخاطبة.. وهل تكفي نظرتهما.. أليس الجمال قضية نسبية..؟ وما يعجب شخص قد لا يعجب الآخر..؟

ولذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد على صحابي أراد أن يتزوج من أنصارية فقال له: أنظرت إليها..؟ قال لا. قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا([39]).. وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل([40]).

وفي رواية: وإن كانت لا تعلم.. وقال الأوزاعي: الأولى عدم علمها لأنها قد تتزين له بما يغره([41])...

وكيف يتأكد من جمالها بدون علمها إن كانت ساترة وجهها بنقاب أو غيره...؟

وأين يتمكن الرجل من رؤية زوجة المستقبل.. هل يرسل لها رسالة غرام ويواعدها سرا ويتناجيان كما يفعل العشاق.. ولكنه أمر لا يليق بمجتمع نظيف.. فالنتائج مرة في مثل هذه المواعيد..

إنه يراها في المسجد داخلة أو خارجة منه.. فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من أن يمنعوا إماء الله من بيوت الله..

أو يراها في المعركة.. وأيام الإسلام كلها معارك..

معارك اجتماعية لبناء الحياة الأفضل..

ومعارك سياسية.. تهتم بأمور المسلمين.. وتتخذ السبيل الأقوام لنهضتهم.

وأخيرا معارك تسترد الأرض وتحمي العرض وتحرر الإنسان.

أو يراها في موكب الدعوة تدعو إلى الله في كل مجالات الحياة.. حتى إذا وقعت في نفسه ووقع في نفسها كانت زوجة المستقبل.

كنت في زيارة لأمريكا ألقي محاضرة في اتحاد الطلبة المسلمين.. وكانت الشكوى المـرّة أن المسلـم يعيـش في المجتمع الغربي غريبا، وقد يكون هو وأسرته وحدهما في مدينة.. ولا يلتقي بالأسر المسلمة الأخرى إلا مرة أو مرتين في السنة.. فكيف تتزوج الفتاة المسلمة.. أو كيف يجد الشاب المسلم شريكة حياته.. ولاسيما أن برامج المؤتـمرات تخصص جناحا للرجال وآخر للنساء.. أناشد المسؤولين عن مثل هذه المؤتـمرات أن يمكّنوا الشباب من رؤية الشابات في مجتمع نظيف تحت سمع الأسرة وبصرها.. فيساهمون في بناء أسرة كريمة وبالتالي في بناء المجتمع المسلم..

تحذير مطلوب..

والنظرة الشهوانية سهم مسموم.. لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "النظرة سهم مسموم من سهام أبليس من تركها مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه".

وإتباع النظرة النظرة .. خطوة في الطريق الخطر.

والرجل يميل بطبعه للمرأة.. وإن النظرة الخاطفة قد تترك في نفس صاحبها أثرا يتفاعل مع كل ذرة من ذرات جسمه وعقله.. ومع ذلك فلم يمنعها الإسلام بل عالج آثارها.

عن أبي كبشة الأنماري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصحابه فدخل ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله قد كان شيء؟ قال: أجل مرّت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء فأتيت بعض أزواجي فأصبتها.. فكذلك فافعلوا فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال([42]).

كان رسول الله غنيا عن هذا البيان .. ولكنه يرشدهم للعلاج عندما يرى أحدهم امرأة جميلة وتقع في قلبه شهوة النساء.

وتحذير آخر..

ولباس المرأة الذي يغطي جميع بدنها باستثناء الوجه والكفين، والمخالف للباس الرجال، والذي تعارف عليه المسلمون، هو غير الدعوة إلى السفور التي شاعت في بـلاد المسلمين.. الدعوة التي نادى بها (مرقص فهمي) في مصر ودعا إلى تحرير المرأة من الحجاب.. أو الدعوة التي حمل وزرها قاسم أمين.. أو تصرف سعد زغلول الذي نزع حجاب هدى شعراوي.. فصفقت له هدى وصفقت له النساء لهذا الهتك المشين.. أو ما فعله أتاتورك يوم حرّم على المرأة المسلمة أن تلبس الحجاب.. أو ما فعله رضا بهلوي في إيران ومحمد أمان خان في أفغانستان([43]).. الأول لباس شرعي تصون به المرأة المسلمة شرفها وترضي ربها.. وتمارس بقوة أمور دعوتها.. والأمر الثاني.. هتك للستر.. وإشباع للغريزة الجامحة التي لا تعرف الحدود.. وإرضاء لما يريده أعداء الإسلام.

[1] الروم - 21.

[2] أهم هذه الكتب على الإطلاق كتاب: تحرير المرأة في عصر الرسالة للداعية عبد الحليم أبو شقة (رحمه الله).

[3] تحرير المرأة في عصر الرسالة: 4: 37، نقلا عن السراج المنير للخطيب الشربيني.

[4] البخاري.

[5] أبو داوود.

[6] أبو داوود.

[7] تحرير المرأة (المصدر السابق) 4: 166 نقلا عن المنتقى- شرح الموطأ 7: 252.

[8] المرجع السابق 4: 168 نقلا عن كتاب الأم للشافعي 1:89.

[9] المرجع السابق 4: 169 نقلا عن كتاب الافصاح 1:86.

[10] شرح فتح القدير على الهداية للكمال بن الهمام 1: 258.

[11] تحرير المرأة (المرجع السابق) 4: 151.

[12] تحرير المرأة (المرجع السابق) 4: 151.

[13] الفتاوي (22: 115)

[14] أعلام الموقعين (2: 80).

[15] الأحزاب- 53.

[16] الحجاب - المودودي، ص- 295.

[17] فتح الباري 13: 272.

[18] فتح الباري 13: 272.

[19] البخاري ومسلم.

[20] تحرير المرأة (المرجع السابق) 4: 128.

[21] الأحزاب- 59.

[22] النور - 31.

[23] البخاري.

[24] النور - 31.

[25] زاد المعاد 4: 356.

[26] الترمذي.

[27] فتح الباري (12 : 489)

[28] رواه مسلم.

[29] البخاري.

[30] البخاري ومسلم

[31] البخاري ومسلم

[32] الطبراني

[33] البخاري.

[34] النسائي.

[35] أحمد.

[36] النور30-31.

[37] التـمهيد لابن عبد البر.. كما نقله كتاب تحرير المرأة 4: 85.

[38] رواه الترمذي.

[39] مسلم.

[40] أبو داوود

[41] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6 : 185.

[42] أحمد.

[43] المرأة المسلمة - وهبي سليمان الغاوجي، ص- 191.

المراجع

مراجع البحث

1- القرآن الكريم.

2- كتب السنن.

3- فتح الباري.

4- مختصر صحيح مسلم.

5- سلسلة الأحاديث الصحيحة - الألباني.

6- سيرة ابن هشام.

7- الكامل لابن الأثير.

8- البداية والنهاية لابن كثير.

9- حياة الصحابة.

10- شعب الإيمان.

11- الفتاوى - ابن تيمية.

12- دور المرأة في العمل الإسلامي - فيصل مولوي.

13- معلمة الإسلام - أنور الجندي.

14- تحرير المرأة في عصر الرسالة – عبد الحليم محمد أبو شقة.

15- الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة - البهي الخولي.

16- القرآن والمرأة - شلتوت.

17- ماذا عن المرأة - د. نور الدين العتر.

18- فتاوى معاصرة - يوسف القرضاوي.

19- مع المرأة المسلمة - منتدى المرأة المسلمة.

20- صور من حياة الرسول - أمين دويدار.

21- اختيار الزوجين في الإسلام - حسن محمد يوسف.

22- قضايا المرأة - محمد الغزالي.

23- المرأة المسلمة - وهبي سليمان الغاوجي.

24- المــرأة فـي التصـور الإسلامي - عبـد المتعـال محمــد الجبري.

25- صيد الخاطر - ابن الجوزي.

26- المجموع شرح المهذب للشيرازي.

27- حقوق النساء في الإسلام - محمد رشيد رضا.

28- الأسرة في الإسلام - مصطفى عبد الواحد.

29- الأسرة المسلمة في ضوء القرآن - حسن محمد باجودة.

30- الإسلام والمرأة - محمد عبده.

31- الإسلام ومشكلات الحضارة - سيد قطب.

32- الجنس الثاني - سيمون بوفوار.

33- الحجاب - المودودي.

34- زاد المعاد - ابن القيم.