المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل

كتاب لـ: عبد القادر محمد سيلا

تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة

إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وجعل ميزان الكرامة فيما دعا إليه: التقوى والعمل الصالح، فكانت المساواة وإلغاء الفوارق والتمييز العنصري واللوني روح الحضارة الإسلامية، التي جاءت نسيجًا متشابك العطاء من حيث المساهمات البشرية؛ إلى درجة لا يمكن معها أن تصطبغ بغير اللون الإسلامي والعطاء الإنساني ﴿ صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَة ﴾ .

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الثاني عشر (المسلمون في السنغال: معالم الحاضر وآفاق المستقبل ) للأستاذ عبد القادر سيلا ، في سلسلة الكتب التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر ، مساهمة منها في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، إلى جانب العطاء الصحفي والدور الإعلامي الإسلامي الذي تضطلع به مجلة ((الأمة))... يأتي لونًا جديدًا، ويشكل إضافة نوعية نرجو الله تعالى أن تكون باكورة لمجموعة من الدراسات الميدانية لحاضر العالم الإسلامي وواقع المسلمين في العالم، ولعلّ مجموعة الاستطلاعات المصوّرة التي قدمتها ((الأمّة)) في هـذا المجال قد حققت قدرًا لا بد منه من المعرفة بأحوال المسلمين ومشكلاتهم والتحديات التي تواجههم؛ والتي نأمل أن نتمكن من جمعها وترتيبها وتقديمها في سلسلة كتاب الأمة مستقبلًا إن شاء الله، إلاّ أنّ البحث المتخصص في كتاب يبقى له من الشمول والإحاطة والاستقراء الكامل ما يجعله ذا عطاء متميز، خاصة إذا كان المؤلِّف من أبناء المنطقة، و ((أهل مكة أدرى بشعابها))

ولا بد لنا من الاعتراف بالتخلف المخجل في مجال الدراسات الاجتماعية، وحسبنا في ذلك معرّةً أن تكون دراسات غير المسلمين عن حاضر العالم الإسلامي هـي التي تغطي الجانب الكبير من مصادرنا للمعلومات، ودليلنا إلى المعرفة...

أما بالنسبة لأفريقيا بالذات -التي نزعم أنها القارة المسلمة- فمعظم مصادرنا للمعلومات والإحصاءات السكانية، ودليلنا إلى معرفة العبادات والعادات القبلية تكاد تكون كنسية محضة، في الوقت الذي لا يزال كثير منَّا لا يرى آفاقًا للعمل الإسلامي إلا بالوقوف طوابير أمام الأبواب المغلقة والجدران المسدودة.

ونكاد نقول هـنا بأنَّ هـذا الواقع البائس الذي نحن عليه، وهذه الإحباطات المستمرة التي نعاني منها إنما جاءت نتيجة لعدم وجود الدراسات المتأنية والدقيقة لعالم المسلمين وقضايا العالم بشكل عام.

ذلك أننا نحاول التحرك في عالم لا ندرك أبعاده تمام الإدراك على أحسن الأحوال، وكثيرًا ما تكون انتصاراتنا لقضايا كثيرة انتصارات عاطفية بعيدة عن أية معرفة وبصيرة؛ وحسبنا هـنا أن نأتي بأنموذج واحد من عمل غير المسلمين إلى جانب مئات النماذج والألوف من الدراسات التي تتعهدها الدول أحيانًا، وتستقل بها بعض المعاهد والمؤسسات الخاصة المتخصصة أحيانًا أخرى؛ ففي دراسة إحصائية حول الأديان أصدرت جامعة ((أوكسفورد)) موسوعة أسهم فيها أكثر من خمسمائة خبير في الأديان، تجولوا في مائتين واثنتي عشرة دولة ومقاطعة في العالم لأخذ العينات وإجراء الدراسات الإحصائية، واستمر هـؤلاء الخبراء في العمل حوالي أربع عشرة سنة متواصلة، وكان مما جاء في هـذه الدراسة أن الدوائر الكنسية قلقة جدًّا من ظاهرة المدّ الإسلامي في القارة الأفريقية، إذ أنَّ الإسلام ينتشر فيها بسرعة مذهلة، وقد بلغ معدّل نمو الدين الإسلامي 235% وينبع التخوف الكنسي من ظاهرة المدّ الإسلامي في أفريقيا من إدراك الأعداء أن الإسلام يلقى قبولًا سريعًا لدى الإنسان الأفريقي، لأنه دين الفطرة الذي جاء بالمساواة وإلحاق الرحمة بالناس؛ بعيدا عن التمييز العنصري و أوضار الاستعمار اللذين ترافقا مع الوجود النصراني.

والحقيقة أنَّ الخارطة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية لأفريقيا بالشكل المطلوب لا تزال غائبة عن المسلمين بشكل عام وعن المؤسسات والجمعيات والجماعات المعنية بشؤون الدعوة الإسلامية بشكل خاص.

ولقد آن الأوان لتأخذ وسائلنا في العمل الإسلامي شكلًا مدروسًا يأتي استجابة لرؤية صحيحة عن الواقع الذي نتعامل معه، وقد يكون من الأمور المؤسفة أن الكثير من الدراسات والتقارير التي تقدم عن أفريقيا -والتي نحاول فيها تقليد أعداء الإسلام- تحفظ في الأدراج، ويلفّها الإهمال والنسيان، ولا تجد طريقها إلى التحليل والدراسة، ومن ثم وضع الخطط على ضوئها. ومع ذلك نبكي على ضياع أفريقيا بين الأطماع الاستعمارية والمؤسسات التنصيرية والاستلاب الصهيوني.

ولعلّ من أبسط متطلبات الدعوة إلى الإسلام اليوم في أفريقيا، وفي العالم بأسره: تشكيل الأقسام واللجان المتخصصة بقضايا أفريقية ونكاد نقول: تشكيل اللجان المتخصصة بكل دولة من دولها بل بكل قبيلة من قبائلها لتعد الدراسات الدقيقة وتضع دليل العمل الذي يمكّن من فهم طبيعة الإنسان المخاطب، وذلك بدراسة الخلفية التاريخية لثقافته وعقيدته واهتماماته، واستحضار تاريخه بشكل عام؛ حتى نتمكن من معرفة المداخل الصحيحة لشخصيته، وحتى يأتي الكلام مطابقًا لمقتضى الحال، وحتى نخاطب الناس على قدر عقولهم، كما يقول سيدنا علي رضي الله عنه، خشية أن يفتتن الناس ويكذّب الله عزّ وجلّ ورسوله  : ﴿ خاطبوا النّاس على قدر عقولهم، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟ ﴾

وكم أسفت أثناء زيارتي لبعض المؤسسات المعنية بشؤون الدعوة في غربي أفريقيا عندما طلبت إليها إطلاعي على ما لديها من دراسات أستطيع بواسطتها الإفادة من الزمن المقرر للزيارة والدخول إلى تلك البلاد من الأبواب الصحيحة، فلم أظفر بأكثر من ملاحظات عامة قد يمتلكها عامة المسلمين لا تسمن ولا تغني من جوع، حيث لم تقدم لي جديدا.

وقد يكون مفيدًا هـنا أن نأتي على ذكر بعض النماذج من مسالك أعدائنا في هـذا المجال... فإلى جانب الدراسات والبحوث كلها وعمليات المسح الاجتماعي والتحليل الثقافي الموجهة التي قدمتها الكنيسة ومن ورائها الاستعمار عن أفريقيا ، والتي تعتبر إلى حدٍّ بعيد دليل عملٍ لكل من يفكر بالتعامل مع هـذه القارة التي يُعاد تشكيلها من جديد، فإنَّ هـناك دورات تدريبية لمدة أربعة أشهر أو سنة تُقام في معظم الدول الاستعمارية خاصة الولايات المتحدة ، تدرب فيها العناصر المهيأة للذهاب إلى أفريقيا، وتزود بكل المعرفة المطلوبة حول المناخ والبيئة.

وحول السكان وطبائعهم وعقائدهم ولهجاتهم المحلية، وما يثيرهم وما يرضيهم؛ ومن ثمَّ يسافر المبعوث إلى هـناك، ويختص بمعايشة قبيلة والانتساب إليها وحمل اسمها والحياة معها والحديث بلهجتها المحلية وكأنه جزء منها، ومن ثم يكون قادرًا على أداء رسالته التي جاء من أجلها، ويقدم دراسات تعتبر إضافة حقيقية لعمل من سبقوه في هـذا المجال.

وفي محاولة لإلغاء كل نسب بين أفريقيا والإسلام تكرس اللهجات المحلية، وتوضع لها أبجديات بالحروف اللاتينية بعد أن ألغي الحرف العربي -كما هـو الشأن في تركيا والملايو وغيرهما من بلاد المسلمين- وتصنف المعاجم، ويوفر المستعمر المتخصصين ويقيم مخابر لتطوير اللغات المحلية المتعددة وتأصيلها؛ ومن المفارقات العجيبة أن تكون لغة المستعمر -الفرنسية- هـي اللغة الرسمية في السنغال وفي بقية الدول الأفريقية التي كانت تخضع لهذا الاستعمار ، في الوقت الذي تحرم فيه العربية وحرفها.

وهي لغة العقيدة والدين لشعب السنغال، وعدد المسلمين فيه يربو على 95% من مجموعه: والسنغال قديم عهد بالإسلام منذ أن انطلقت منه حركة المرابطين من ألف سنة تقريبًا.

ولكن، ربّ ضارة نافعة -كما يقولون- ذلك أنّ التحدي الثقافي والضربات الموجعة أسهمت إلى حدّ بعيد بيقظة الأمة، وأعطت حركة المد الإسلامي زخمًا جديدًا بعد أن استشعرت هـذا التحدي، فقامت المدارس العربية الإسلامية التي تعتبر بحق حصون الإسلام ولغة التنزيل، ولقد أثبتت وجودها حتى على المستوى الرسمي.

وأمر آخر لا يقل خطورة عن أمر اللغة، وإنما هـو مكمل لها، وقد ركزه المستعمر على يد بعض الأفارقة أنفسهم، وهو الدعوة إلى الإسلام الأسود ؛ ليكون إسلامًا خاصًا بالأفريقي، ولقد تركزت هـذه الدعوة في السنغال ، وأمر التركيز على السنغال ليس خافيًا على أحد؛ لما يتمتع به من الموقع والتأثير على غربي أفريقيا خاصة وعلى سائر أفريقيا عامة، يقول (( بول مارثي )): (إنَّ ثوب الإسلام أيا كانت بساطته ولياقته، لم يفصَّل للسود، فهؤلاء يفصِّلونه من جديد لمقاييسهم، ويزينونه حسب ذوقهم... إنّ الإسلام الأسود بحكم اختلاف البيئة والمحيط الاجتماعي مغاير لإسلام العرب ) وقد ألَّف (( فينسان مونتي )) كتابًا في الستينيات تحت عنوان ((الإسلام الأسود)) هـذا إلى جانب الدعوات إلى الإقليمية التي تحاول تسوية النصرانية بالإسلام، واعتبار كل منهما دينًا طارئًا على أفريقيا، والدعوة إلى العودة بالأفارقة إلى أديانهم القديمة.

ومحاولة الانحراف بالإسلام من داخله عند العجز عن مواجهته ليست جديدة ولا مبتدعة، وما الأفاعيل التي دبرت لحركة المسلمين السود في الولايات المتحدة عنَّا ببعيدة، ومع أن الإسلام في أفريقيا بخير، والمسلمين يكافحون بوسائلهم البسيطة، ويواجهون أعظم التحديات المزوَّدة بأكبر الإمكانات والدراسات المتقدمة، حيث يصدق فيهم قول الرسول  : ﴿ درهم سبق ألف درهم ﴾

إلاَّ أنَّ ضرورة الالتفات إلى أفريقيا بشكل سليم ومدروس أصبح أمرًا لا يحتمل التأخير؛ وقد يكون المطلوب مزيدًا من الدراية وفقه المجتمع ومشكلاته التاريخية، وفي تقديرنا أنه لا تتوفر الحكمة المطلوبة في أمر الدعوة ما لم تتحقق تلك الدراية وتتحصل المعرفة والتصور الكامل والدقيق للواقع الذي انتهى إليه الناس هـناك، لأنَّ الحكمة في أبسط مدلولاتها هـي: وضع الأمور في مواضعها؛ فكيف تتأتى الحكمة في معالجة القضايا والمشكلات إذا لم نتمكن من معرفة أبعاد هـذه القضايا، وأسباب تلك المشكلات وتاريخها، والعمر الذي تُووضعت من خلاله؟ وكيف يمكننا توفير المقدمات والعناصر التي تقودنا إلى الحكمة في الدعوة والمعالجة؟

ومن المعروف تاريخيًّا أن انتشار الإسلام في بعض مناطق أفريقيا كان عن طريق التجار والمسافرين، وكان سلوكهم الإسلامي المتميز يبعث على الإيمان ويثير الاقتداء عند الإنسان الأفريقي الذي أشعره الإسلام بقيمته ومساواته بالآخرين، وقد لا يكون هـؤلاء على درجة كافية من الفقه والعلم بدين الله تعالى إلى جانب عوامل أخرى مما أورث اختلاط الإسلام ببعض العقائد والعادات الأفريقية القديمة، واعتبر الكثير منها من الإسلام؛ ولا بد هـنا من الحكمة البالغة في المعالجة؛ وقد تكون المعالجة الأخطر والأكثر ضررًا في التفكير الذي يمارسه بعض الذين يعملون في مجال الدعوة الإسلامية بعقل ضيق، ونظر عليل، وفقه قليل، فيوزعون السكان بين التنصير والتكفير ، ويحاصرون أنفسهم فلا يجدون مجالًا لدعوتهم وكأن بعض من تصدوا لأمر الدعوة الإسلامية تخصصوا بتفريق وحدة المسلمين!!

يحدث هـذا في الوقت الذي تفعل الكنيسة ما تفعله من قبول للعادات الأفريقية ابتداءً، لتكون الوسيلة إلى جذب هـؤلاء الأفارقة إلى النصرانية ، ويوالي البابا زياراته للقارة الأفريقية لمواجهة المد الإسلامي ومحاولة انتزاع أفريقيا من المسلمين.

واليوم تتابع النصرانية المدعومة ماديًّا ومعنويًّا من أوروبا وأمريكا توسعها في أفريقيا ، وتتغلب على المصاعب التي عاقت تقدمها، خاصة قضية ارتباطها بالثقافة الاستعمارية الغربية؛ فتبذل الجهود لصبغ النصرانية بالصبغة المحلية، وإقامة (مسيحية أفريقية ) فالبروفيسور (( مبيتي )) يقول: إنه حان الوقت لكي تتصالح المسيحية مع الديانات الأفريقية وأساليبها، وأن يكون طابعها (صنعت في أفريقيا )، كما قال بابا الفاتيكان في زيارته لأوغندا عام 1969م: ((إنّ تكييف الحياة المسيحية في المجالات الدعوية، وفي مجالات الطقوس والنشاطات التعليمية والروحية، ليس ممكنًا فقط؛ ولكن الكنيسة تشجعه، وتجديد أساليب القداس هـو مثال حي على ذلك، وفي هـذا الاتجاه يمكنكم ويجب عليكم أن تكون لكم مسيحية أفريقية)).

ولقد قام المنصِّرون باستثمار طويل الأجل، وحضَّروا الأطر المطلوبة لعهد ما بعد الاستعمار عندما أشرفوا على التربية والتعليم في عهد الاستعمار، وحاولت الكنائس المشاركة في مشاكل وطموحات الشعوب الأفريقية، مثل الاستقلال الوطني، وإنهاء التفرقة العنصرية لتأمين استمرارية دورها في عهد الاستقلال، وقد شعرت هـذه الكنائس بالحاجة إلى التعاون والتنسيق فيما بين مختلف مذاهبها، وها هـي الآن تعمل مع بعضها في هـيئات، مثل: المجلس الوطني المسيحي في كينيا ، والمجلس المسيحي التنزاني، ومجلس كنائس جنوبي أفريقيا، ومجلس الكنائس في زيمبابوي ؛ بل إنَّ هـناك محاولات لإزالة الفروق المذهبية بين مختلف المذاهب المسيحية في أفريقيا... كمخطط للاستقرار والتوسع في المستقبل.

ونحن بهذا لا نقر الخطأ، ولا نريد الإبقاء على الواقع، لكننا لا يجوز بحال من الأحوال أن نخطئ الوسيلة في المعالجة فنعمل على تصليب الواقع وتنفير الناس بالمواجهة المباشرة، بل لا بد من أن نبدأ بالتعليم الصحيح المرتكز إلى الكتاب والسنة، وأن نستفيد من العاطفة الإسلامية في بناء أجيال جديدة ابتداءً، لتنحسر -شيئًا فشيئًا، وجيلًا فجيلًا- دائرة الخرافات والبدع، وبذلك تتم التصفية تلقائيًّا فالعلل المزمنة التي مرَّت عليها القرون لا يمكن أن تعالج بخطبة أو بدرس بعيدًا عن سنة التدرج.

ومما لا شك فيه أن للحركة الصوفية دورًا كبيرًا غير منكور ضد المستعمر، وفي نشر الإسلام وحمايته أيضًا، ولها اليوم رصيد كبير من الأتباع والمريدين؛ ولا شك أيضًا أن بعض شيوخها الأوائل كانوا على درجة من العلم، وإن انحدرت الأمور بالوراثة في بعض الأحيان إلى أحفاد قد لا يكون لبعضهم نصيب من ذلك، وإنما جاءت المحافظة عليها بدافع بناء الزعامات وتحصيل المنافع؛ والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن بعض الحكام، ومن قبلهم المستعمر -شأنه في كل مكان من العالم الإسلامي- استغلوا جهل بعض من انتهت إليهم زعامة الطرق الصوفية ، وكان هـذا الجهل مدخلهم لاحتواء هـذه الطرق، وتنميتها والإغداق عليها، وتوظيف أتباعها لأغراض ليست خافية على أحد، حيث ينعمون على شيوخها بالهدايا والأوسمة، مما يشوه الصور الجهادية التاريخية والدور الكبير في حماية ونشر الإسلام في أفريقيا، ويكرس صور الانحراف لمحاربة الإسلام الصحيح.

وبعد؛ فقد يرى بعض الإخوة القرَّاء في الكتاب الذي نقدمه استطرادات كان بالإمكان الاستغناء عنها، كما يرى بعضهم الآخر ضرورة الاقتصار على الملامح المضيئة لإثارة التفاؤل وبعث الأمل في النفوس، ورغبة منَّا في تقديم الصورة كاملة، ومن جميع جوانبها آثرنا الإبقاء على جميع أجزائها.

ونقطة أخرى قد لا تحتاج إلى التأكيد وهي أنَّ للمؤلِّف وجهة نظره في تقويم بعض ظواهر العمل الإسلامي في السنغال ، وهذا لا يعني بالضرورة وجهة نظر ((الأمّة))فمن الحقائق الثابتة أن السنغال تشكيل مركز الثقل والمحور الأساسي بالنسبة للمسلمين في غربي أفريقيا خاصة، وفي أفريقيا عامة، وهو يعد بحق بوابة الإسلام إلى أفريقيا، ونحن في ((الأمّة))نعتز غاية الاعتزاز بتقديم هـذه الدراسة المستقصية عن الإسلام والمسلمين في السنغال لتكون نواة وباكورة لدراسات جادة عن حاضر العالم الإسلامي وواقع المسلمين، تقدم الصورة الدقيقة والأمينة، وتتحقق بالحضور التاريخي، وتستشرف آفاق المستقبل لتكون دليلًا يهتدي به المسلمون الذين يمارسون الدعوة اليوم؛ خاصة وأنها جاءت بقلم أحد أبناء السنغال، الأخ عبد القادر سيلا ، ولعلَّ تقديم هـذا الكتاب بقلم أخ من البلد نفسه دليل على عالمية المنهج الذي عزمت ((الأمّة)) الالتزام به في أن تكون لجميع المسلمين، وأن تنطلق من مفهوم الأخوة إسلامية الشاملة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الحمد لله الذي هـدانا لهذا وما كُنَّا لنهتدِيَ لولا أن هـدانا الله ﴾ (الأعراف: 43)

وصلى الله على نبيه الكريم وسلم تسليمًا كثيرًا.

يغمرنا الأمل أن يساهم هـذا الكتاب في التعريف بالإسلام في السنغال تعريفًا من شأنه أن يقرّب إلى ذهن غير المتخصص وضع العقيدة الإسلامية في ذلك القطر الإسلامي، ويعكس -بكل صدق وأمانة- رؤية واضحة عن ماضي وحاضر ومستقبل الإسلام هـناك.

وقد ارتأينا ألاَّ نورّط أنفسنا في نقل صور زاهية متألقة باهية تدغدغ عواطف القارئ، وتستحوذ على مجامع مشاعره، وتدخل البهجة والحبور على نفسه، دون أن تبلّ غليله، أو تشبع رغبة الاطلاع لديه، لأنها لا تعكس الواقع المعاش، بل تطمره وتشوّهه بالتمويه والتزيين والتهويل، مما يحول دون معرفة الحقائق، ويثبط العزم عن تهيئة ظروفٍ لمعالجة ما يستحق العلاج.

وليس المقصد هـنا طرح مختلف أوجه القضايا الإسلامية في السنغال على بساط الدرس والتحليل، وإنما رائدنا أن نعرض -جهد المستطاع- لبعض الأمور المطروحة في الحقل الإسلامي بهذا البلد كي يسترشد بها العاملون في هـذا الميدان.

وقد تعرضنا قصدًا لعدد من العثرات لدى مسلمي السنغال، علّ هـذا أن يساهم في إنارة الطريق أمام أولئك الذين سيتصدّوْن لتدارك ما لا يستحيل تداركه، ويصلحون ما لا مناص من إصلاحه، ويواصلون العمل لترسيخ قواعد العقيدة الإسلامية السليمة؛ إذ الإحساس بالثلم والثغرات ومعرفة مواقع الهفوات من شأنه أن يحفز على الاطلاع عليها، واستيعاب أبعادها، واحتوائها ثم إيجاد حلّ لها.

هذا ولا يتمارى اثنان في توفر العدد العريض بجانب الإسلام في السنغال -حوالي 95%- وفي اكتظاظ المساجد فيه بمن يعمرها، مما يبرهن على تشبث أهله بتلابيب شعائر دينهم.

إذا ترى ماذا يعوز الإسلام في هـذا البلد ما دام مسلموه ملتزمين بالشعائر؟

لا مراء أن في السنغال أقلية تنتسب إلى المعتقدات التقليدية ينبغي تجنيد القوى لإبلاغها دعوة التوحيد وجذبها نحو العقيدة الإسلامية، وسدّ الطريق على المنصِّرين الذين يعمل معظمهم لصالح الاستعمار ، بيد أن هـناك أولوية لا تقل شأنًا عن دعوة عناصر جديد إلى الإسلام، ألا وهي: العمل من أجل العودة بالأغلبية المسلمة إلى حظيرة دينها، وتنقية العقيدة من الشوائب، وغربلة المفاهيم الخاطئة، وإنقاذ المسلم من المعاناة الروحية والارتباك في الولاء.

لا يجهد الزائر للسنغال ملاحظة اهتزاز مواقف المسلم السنغالي من جراء عوامل داخلية وخارجية، يحمل بعضها سمة قيم مجتمع تقليدي أخنى عليها الدهر، أما بعضها الآخر فقد نجم عن طغيان المادة وسيطرة نمط الحياة الأوروبية بفعل رسوبات الاستعمار، فخلف كل ذلك عقلية تجعل المسلم السنغالي يرضى بازدواجية الانتماء وثنائية الولاء، إذ كان أمامه خياران:

إمّا أن يستكين للانصهار والذوبان في بوتقة الحضارة الغربية النصرانية التي تمحو هـويته الإسلامية، ويضيع في خضم الثقافة المادية الماجنة؛ وإمّا أن يرضى بالإسلام دينًا ويلتزم بما يترتب على ذلك من أمور؛ ويعتبر هـذا من مشكلات الإسلام والمسلمين في السنغال.

على أننا لا نعتقد، أنها في كل صورها وألوانها وأبعادها خصائص ينفرد بها مسلم السنغال، بل هـي قاسم مشترك بينه وبين إخوة له في عدد من الأقطار الإسلامية الممتدة من جناحها الغربي؛ السنغال، إلى ما وراء إندونيسيا شرقًا، إذ قلما يخلو بلد من بلاد المسلمين من بعض ما يعانيه هـذا البلد الأفريقي، سواء تعلّق الأمر بالحقل السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي.

وفيما يخص السنغال، هـناك بصيص من الأمل، بل هـناك أمل كبير في أن يتم تصحيح الأوضاع بما يرضي الإسلام -إن شاء الله تعالى- وذلك بفضل الصحوة الإسلامية المباركة التي ظهرت طلائعها في الأفق، والتي يسندها جو من الحرية السائدة في البلاد.

عبد القادر محمد سيلا

الفصل الأول: المـعطيات الجغرافيـة والبشريــة

الموقــــع

تقع جمهورية السنغال في أقصى نقطة من غربي القارة الأفريقية بمنطقة ((بين مدارين)) بين درجتي عرض شمالًا 12.30 درجة و 16.30 درجة، وبين درجتي طول 11.30 درجة و 17.30 درجة.

المساحة والمناخ

تبلغ مساحة السنغال: (196 , 197 ) كيلو مترًا مربعًا.

والبلاد عبارة عن سهول منبسطة تقل فيها التضاريس باستثناء مرتفعات ((كيدوغو)) [KEDOUGOU ] وهضبات: تياس [THIES ].

ووقوعها في منطقة ((بين مدارين)) جعلها ذات مناخ متنوع حيث تتميز المناطق الداخلية بارتفاع كبير في درجة الحرارة التي تصل أحيانًا إلى (40 ) درجة مئوية، في حين تتمتع المناطق الساحلية -وبالأخص إقليم الرأس الأخضر حيث تقع العاصمة- باعتدال نسبي في درجة الحرارة إذ تتراوح ما بين 17 و 25 في فترة ما بين ديسمبر ويونيو.

ويمتاز فصل الصيف بهطول الأمطار ابتداءً من شهر يونيو إلى شهر أكتوبر، وتتناقص كمية الأمطار كلما ابتعدنا من الجنوب نحو الشمال، والشمال الغربي اللذين هـما في طريق التصحر.

وتنقسم البلاد إلى مناطق طبيعية أساسية:

  • منطقة حوض السنغال.
  • منطقة ((فيرلو)) [FERLO ] وتقع في الوسط الشرقي.
  • منطقة الوسط الغربي.
  • منطقة الشاطئ ونياني [NIANYES. ]
  • منطقة كازامنسا [CASAmANCE ]
  • منطقة السافان [SAVANE ]

الأنهــار

يعتبر نهر السنغال من أكبر أنهار البلاد، إذ يبلغ طوله (1.750) كيلو مترًا، ينبع من (( غينيا ))، ويجتاز (( مالي )) حيث رافديه ((بافين)) [BAFING ]، و ((باكوي)) ـ [BAKOI ]ونهر السنغال صالح للملاحة في بعض أجزائه في بعض فصول السنة.

• ويأتي بعده نهر ((كازامنسا)) ـ [CASAmANCE ] البالغ طوله (300 ) كيلو متر، ويصلح للملاحة طول السنة.

• ونهر غامبيا: ويبلغ من الطول (1.050 ) كيلو متر، ولا يعبر السنغال إلاّ قسم يسير منه. إلى جانب هـذه الأنهار يوجد ((سين)) و ((سالوم)) وهما ساعدان للمحيط الأطلسي.

ويطل السنغال على المحيط الأطلسي بحوالي (500 ) كيلو متر. وموقعه الاستراتيجي جعله الباب الأمامي لأوروبا نحو غربي أفريقيا وأمريكا الجنوبية .

الحدود والســـكان

يحد السنغال شرقًا: مالي، وغربًا: المحيط الأطلسي، وجنوبًا: الغينيتان [ كونكري وبيساو ] وشمالًا: موريتانيا .

(أ ) السـكان

أ- يبلغ تعداد سكان السنغال ستة ملايين نسمة 1982 نسبة الشباب منهم 52% كما توجد نسبة عالية من غير السنغاليين (مليون تقريبًا) على رأسهم الجالية الموريتانية واللبنانية، ثم المهاجرون من مالي والرأس الأخضر .

ب- التمثيل السكاني من حيث الانتماء العرقي والديني

يتركب الشعب السنغالي من جماعات متساكنة من عهود عريقة في القدم، لكنها جماعات لم يكن يجمعها وحدة سياسية أو لغوية، بل احتفظت كل جماعة باستقلالها السياسي ومقوماتها الثقافية وقيمها الأخلاقية، ويمكن ملاحظة تلك الفروق حتى يومنا هـذا.

على أن مما يثلج الفؤاد أن ظروفًا موضوعية في طريق التوفير لتكوين وحدة وطنية تسمح باندماج مختلف العناصر التي يتشكل منها الشعب السنغالي، وذلك بفضل سهولة المواصلات والاتصالات وانتشار الإسلام، موحد الشعوب. ومن نتائج هـذه العوامل أن إحدى الجماعات العرقية ولغتها سيطرتا على الساحة السنغالية منذ قرن تقريبًا، فساعد ذلك على تجانس الشعب، وقضى إلى حد بعيد على التنافر القبلي السائد في مناطق عديدة من القارة الأفريقية. علاوة على أن الجماعات العرقية أو اللغوية لا قيمة لها، حيث لا تتعدى اللغات المحلية -وهي تعكس عدد الجماعات العرقية- سبعًا، من بينها: أربع لها أهمية باعتبار تعداد الناطقين بها.

النصرانية بعض الأتباع من ((السرير))، كما لا تزال المعتقدات التقليدية حية فيها، ولها أتباعها وكهنتها، لكنها تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام تقدم الإسلام. وينتسب مسلمو ((السرير)) إلى الطريقة التجانية والمريدية .

(ج) ((بول وتكلور)) [PAUL]

الـ ((بول)) أو فلاتة، رعاة أبقار غير متمركزين بعدد وافر بإقليم بعينه، وتميل بشرتهم إلى البياض، وملامحهم وسيمة يشبهون الإثيوبيين. دخل الفلاتيون الإسلام من عهد بعيد، غير أن طائفة ((توكلور)) -وهي تتكلم بلغة ((بولار)) مثل: ((بول - الرعاة))- تسكن أصلًا حول ضفاف نهر السنغال ، وبالأخص في القسم الغربي منه، وقد أسلمت قبل وصول المرابطين المنطقة، وأدّت دورًا هـامًا في نشر الإسلام في المناطق المجاورة لها، وتشتغل بالزراعة، وبفعل جفاف شمالي السنغال هـاجر عدد من أفرادها إلى مناطق أخرى. وينتمي حوالي 90% من التوكلور والبول إلى الطريقة التجانية.

(د) جماعة ((جولا)) [DIOLA]

توجد ((جولا)) في جنوبي السنغال المعروف باسم ((كازامنسا))- [CASAmANCE ] وتتعاطى الزراعة، وخصوصًا زراعة الأرز، وتم إدخالها في الإسلام على يد جارتها ((ماندنكي))، وتبلغ نسبة الإسلام بينها 70% على أن الإرساليات التنصيرية بدأت تبذل جهدًا كبيرًا لنشر النصرانية بين ظهرانيها، وخصوصًا في مقاطعة ((ووسوي ـ OUSSOUYE)) ومنذ فترة قريبة، بدأت جهات إسلامية سنغالية تهتم بالمنطقة لنشر الإسلام فيها، ومنافسة البعثات الكاثوليكية (هـ) جماعة ماندنيكي)) (([mANDINKE],,

وجاخانكي [DIAKHANKE ] وبامبارا [BAmBARA ] لا تتجاوز نسبة هـذه الجماعة 7% من مجموع السكان، يقطن معظمها في جنوبي وشرقي البلاد. وتتعاطى الزراعة والتجارة، ويعود إسلامها إلى عهد إمبراطورية مالي ، وتنتسب أغلبيتها إلى الطريقة القادرية .

(و) هـناك مجموعات عرقية ولغوية متميزة

تحتل مراكز دنيا من حيث عدد أفرادها لكن بعضها يؤدي دورًا لا يستهان به في مجال التجارة كجماعة سراخولي [SARAKHOULE ] وتقطن في أقصى الشمال الشرقي من السنغال، ولها ماضٍ مجيد في الإسلام حيث إنها مؤسسة مملكة ((غانا)) التاريخية في القرون الوسطى.

الأديان (الإسلام والنصرانية والمعتقدات التقليدية)

وقد اتضح من خلال هـذه اللوحة التي رسمناها لتعكس التشكيلات العرقية ومواطن كل جماعة ونشاطها ونسبة انتشار الإسلام بينها، أن الديانة الإسلامية تستقطب ما لا يقل عن 95% من السكان في الوقت الذي لا يصل عدد النصارى على مختلف نحلهم ومللهم (200.000 ) نسمة من أصل (6.000.000 ) نسمة.

وتحسن الإشارة إلى أن النصرانية تجد الأتباع من بين جماعتي: ((جولا والسرير)) على أنه لا تزال السباق على جميع الأوراق الرابحة لكسب المعركة، أضف إلى ذلك أن هـذه الفئة في سبيل الانقراض والتلاشي نهائيًّا لنفور الشباب من تلك المعتقدات البالية.

الطبقات الاجتماعية

الطبقات الاجتماعية، موضوع الحديث هـنا، لا تعني بالضرورة تفاوتًا في مستوى الدخل، وليس أساسها غنى وثروة فئة، وفقر وحرمان فئات أخرى من المجتمع الواحد.

فمفهوم الطبقة في المجتمع السنغالي، وفي عدد من المجتمعات في غربي أفريقيا أساسه أصلا تقسيم الأدوار و المهام داخل المجتمع الواحد.

ونظرًا للتحديد الدقيق لتلك الأدوار برزت حدود وأسوار لا سبيل لتخطيها بين أفراد المجتمع الواحد نتيجة تباين مناهج حياتهم، وهكذا وجدت طبقة المحاربين والحدادين والنساجين والصيّادين والعبيد... كل فئة تقوم بمهمة في المجتمع تختلف عن مهام طائفة أخرى.

وتختلف أسماء هـذه الفئات الاجتماعية من جماعة لأخرى، لكن تتفق تقريبًا على وجود الطوائف التالية:

  • طبقة النبلاء، وتتألف من الأمراء والأعيان وكبار رجال الدولة، وتقوم بأعباء السلطة السياسية.
  • طبقة الأحرار، وتشمل الفلاحين والمشايخ، وعامة الشعب ويطلق عليها لدى بعض الجماعات ((بادولو)) [BADOLO ] وتعني: الفقراء والمستضعفين...
  • طبقة الحرفيين، وتشمل طوائف عديدة: نساجين، صيادين، إسكافيين ومغنين...
  • طبقة العبيد، وهي على نوعين: عبيد الملك، وعبيد آخرين، حيث إن الأولين باعتبارهم ركيزة عرش الملوك ليسوا مملوكين إلا بالاسم.

على أن تقسيمات ثانوية تحصل داخل بعض الفئات لا محل للتعرض لها هـنا.

ومع مرور الزمن اختفى الأصل المهني لهذه الفئات، فأصبحت حقائق اجتماعية لها وقعها في تصرفات الأفراد والجماعات وعلاقاتهم.

ورغم التطور الحاصل في عقلية السنغاليين، فلا تزال هـذه الفروق حقيقة اجتماعية معاشة، وخصوصًا في الأوساط المحافظة وبالأخص منها في الريف؛ فلا تقبل طبقة الأحرار مصاهرة طبقة الحرفيين مثلًا.

وتجد الإشارة إلى أن الاستعمار الفرنسي استعان بالطبقات الاجتماعية الدنيا لتحطيم الطبقات العليا التي قاومته، وذلك لإهانتها على يد الطوائف التي كانت مهانة من قبل.

المعطى الاقتصادي

السنغال دولة زراعية أساسًا، وزراعتها تقليدية تقادم عهدها حيث تتمحور على قوة عضلات الفلاح دون تدخل المحراث التقليدي؛ فضلًا عن الأدوات الميكانيكية المتطورة‍‍ ويعد ذلك أحد أمراض البلاد المزمنة.

وإذا كان الاكتفاء الذاتي أساس الاقتصاد السنغالي قبل عهد الاستعمار ، فإن الإدارة الأجنبية لم تغير شيئًا ذا قيمة كبيرة، فلم تتطور زراعة المواد الغذائية الاستهلاكية بل تم تشجيع إنتاج الفول السوداني المهيأ للتصدير، وفي الوقت ذاته أهملت المحصولات الأخرى، ولم يتزامن ذلك كله مع صناعات متطورة ومتنامية.

على أن هـناك بعض المصانع، وخصوصًا في إقليم الرأس الأخضر الذي يتمتع بعدد كبير من المصانع مما جعله في الصف الأول من المناطق الصناعية في غربي أفريقيا.

أما جوف الأرض فيحتوي على بعض الثروات المعدنية التي لم يُستغل أكثرها مثل: الفوسفات، الحديد، المرمر، الذهب.

كما تتمتع البلاد بثروة سمكية هـائلة، ويشتغل 10% من السكان بصيد الأسماك.

التراث الثقافـي

تبعًا لتغاير أصول ولغات وتاريخ الشعوب المتساكنة في السنغال ، فإن الحديث عن التراث الثقافي في هـذا البلد متشعب، غير أن مما يسهل المعضلة وجود تشابه ملحوظ بين مختلف ألوان التراث الثقافي لهذه الشعوب، فضلًا عن الاتجاه القوي نحو توحيد وسائل التعبير عن هـذه الثقافة منذ زمن؛ وذلك لتدخُّل عوامل سبقت الإشارة إلى بعضها حين الحديث عن التركيب السكاني.

وتتميز هـذه الثقافة بالشفوية ، أي: أنها لم تدون؛ إذ لم تدخل الكتابة إلى السنغال إلا بعد انتشار الإسلام، فأغلب ما تمت كتابته كان باللغة العربية أو باللغات المحلية بالحروف العربية ويغلب عليه طابع الإسلام.

وتحتل القصص والأمثال والشعر والأغاني والموسيقى وآلات الطرب مركز الصدارة.

ويعتبر فن القصص أهم مقومات الأدب الشعبي . والتراث القصصي عبارة عن أساطير وأقاصيص تقوم الحيوانات بدور الأبطال فيها، وتتقمص دور الإنسان، وتتصرف تصرفاته، وتتكلم بلسانه؛ داخلة في خفايا نفسه، منتقدة تارة المجتمع، وحاثَّةً طورًا آخر على عمل الخير ومكارم الأخلاق والرفق بالأيتام والضعفاء، وتنتهي الأقاصيص بالعبر والحكم، وقد تأثر بعض هـذه القصص بالإسلام فأصبح يستعير منه لونه ومادته.

وكان ولا يزال حتى يومنا هـذا -خصوصًا في الأرياف- يتحلق الرجال والنساء والولدان حول ضوء النار، يوقدونها للمسامرة، وخلالها يستمعون إلى القاصّ يحكي لهم أقاصيص وأساطير شيقة تخلب الأفئدة، وتستحوذ على مجامع القلوب.

والى جانب الأقاصيص تحتل الملاحم درجة عالية في التراث الشعبي، وتدور غالبًا حول شخصيات تاريخية حقيقية أو أسطورية.

وتعد ملحمة (( محمد تشام )) بلغة ((بولار)) أغزر وأغنى ملحمة في هـذا الباب، فهي تروي حياة ومعارك المجاهد (( عمر الفوتي ))؛ وكان المؤلف قد شارك شخصيًا في جميع حملات الفوتي العديدة، فهي في نظر بعض العارفين لا تقل قيمة عن ملاحم (( هـوميروس )).

ويعكس ذلك كله تنوع وثراء (( الفولكلور )) السنغالي الذي يسير في طريق التأصيل والحفظ والثبات... هذا وسيأتي الكلام في فصل مستقل عن اللغة العربية باعتبارها أهم مكونات التراث الثقافي السنغالي.

نبذة عن التاريخ السياسي للسنغال

ليس القصد هـنا عقد دراسة مستفيضة عن تاريخ السنغال ، بل الهدف إعطاء فكرة عن الشكل السياسي السائد قبل الاحتلال الفرنسي، مما يساعدنا على استيعاب الظروف التي اكتنفت انتشار الإسلام.

على أن تاريخ السنغال مرتبط إلى حد ما بتاريخ بعض الأقطار المجاورة له، مثل: (( مالي )) التي كانت تسيطر في فترة ما على أجزاء شاسعة من غربي أفريقيا، ومناطق من شرقي وجنوبي السنغال، ولا بد أن يعترف الدارس أنه ما كانت هـناك وحدة سياسية حقيقية بين الأراضي التي يطلق عليها اليوم اسم السنغال، وإنما كانت مقسمة إلى دويلات لا تجمعها إلاّ صلات واهية، وأهم هـذه الوحدات السياسية هـي:

مملكة ((جولوف)) [DIOLOF]

تقع جولوف في الوسط الغربي من السنغال، وتقطنها جماعتا ((أولوف)) و ((بول)) ـفلاتةـ وكانت أقاليم عديدة تابعة لها ثم انفصلت عنها بسبب اضطرابات داخلية، وعاصمتها ((يانغ ـ يانغ)) [YANG-YANG ] ويحمل ملكها لقب ((بوربا)) [DOURBA].

مملكة ((والـو)) [WALO]

وتقع في منطقة الفيضانات ما بين مدينتي (( بودور )) PODOR و (( أندر )) N'DAR، وتقطنها جماعة ((أولوف)) أساسًا وكانت عاصمتها (( أندير )) N'DER.

وقد كان الفرنسيون يدفعون لها إتاوة منذ استقرارهم بمدينة ((أندير)) سنة 1659م إلى أن تم ضمها إلى المستعمرات الفرنسية عام 1856م.

مملكة ((كاجـــور)) [DIOR]

وتحتل سهلًا واسعًا بين المحيط الأطلسي وأقاليم (( جولوه )) و (( سين )) و (( سالوم )) وكانت لامباية [LAmBAYE ] مقرَّ بعض ملوكها.

كانت تسكن هـذه المملكة بصفة أساسية جماعة ((أولوف)) وكانت مسرحًا لمعارك عديدة في القرن التاسع عشر ضد الاستعمار إلى أن سقطت بيده عام 1886م.

فوتا -الإمامة- "fouta - toro"

تقع فوتا على ضفاف نهر السنغال، وتمتاز عن غيرها من المناطق السنغالية بأنها عرفت الإسلام قبل سواها، وقامت فيها أول حكومة إسلامية تطبق شريعة الله تعالى.

فبعد فساد وانحلال نظام ((ساتيك)) ساتيك : اسم النظام السائد في (فوتا) قبل حركة المسلمين الهادفة إلى تصحيح الوضع.

قامت حركة مباركة بقيادة (( سليمان بال )) و (( عبد القادر كان ))، فأطاحت بحكم الاستبداد.

وكان من محاسن نظام الإمامة أنه قام بنشر الإسلام ورعاية المساجد وتشجيع مجالس العلم. ويحسن أن يُسجل هـنا بكل اعتزاز ما كتبه أحد المستعمرين المعاصرين للإمامة وهو (( بيتيون )) [PETION ] بخصوص تحريم أئمة ((فوتا)) ممارسة النخاسة في مملكتهم باعتبار ذلك منافيًا لمبادئ الإسلام ﴿ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ﴾ فقد كتب ((بيتيون)): ((رفض الإمام ـملك بولـ هـدايا الشركة، محرمًا بيع رعاياه، ومانعًا مرور قوافل العبيد)).

وفي الحقيقة حملت ((فوتا)) أمانة نشر الإسلام في الأقاليم المجاورة لها، وهي التي أمدت السنغال كذلك بأهم رجالاته الدينية والفكرية منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى الربع الأول من القرن الحالي، أمثال: عمر الفوتي ـ 1864م، مابا جاخوبا ـ 1867م، مالك سي ـ 1822م، أحمد بامبا ـ 1927م.

ممالك كازا منسا

وتعتبر جماعة ((بينونك ـ [BAINONKE ] ـوهي في طريق الانقراض ـ أقدم سكان جنوبي السنغال، ومؤسسة مملكة كازامانسا وقد قامت جماعتا ((مانديكنكي وجولا)) باحتوائها.

أما جماعة ((جولا)) فلم تشتهر بمؤسسات سياسية منظمة ذات قيمة تاريخية تستحق الذكر، في حين شيدت جماعة ((ماندينكي)) في إطار إمبراطورية مالي أو خارجها ممالك في ((كازامنسا وغامبيا ونياني ونيومي ووولي )) وكانت قد جاءت بالإسلام من مالي، وبطول العهد ضعف عندها الوازع الإسلامي، وظهرت لدى أمرائها المعتقدات التقليدية الأرواحية.

والقاسم المشترك لهذه المؤسسات السياسية كلها باستثناء نظام الإمامة في ((فوتا تورو)) أن صلاحيات ملوكها كانت في الأساس ضيقة ومحدودة، ومع مرور الزمن اتسع نطاقها حتى أصبح نظام طغيان واستبداد ليصل إلى ذروته مع طلوع القرن التاسع عشر.

وهذه الإمارات التي أثبتنا أسماءها ومواقعها نماذج لإمارات أخرى لم نتعرض لها، كما أنها جميعًا ـعدا الإمامة في فوتاـ تطغى عليها الأرواحية كدين رسمي كان يتعايش مع الإسلام.

المعتقدات

لم يكن الإسلام سائدًا في أي إمارة من الإمارات المذكورة، وإن كان حضوره ملموسًا في جميعها، حيث كانت الجالية الإسلامية تكوّن كتلة اجتماعية متماسكة مشكّلة جماعة ضغط سياسي هـام وعنصر تطور، وركيزة للإدارة الحكومية.

وتكمن أهمية الوقوف على بعض المعتقدات الأرواحية في أنه يساعد على فهم عقلية المسلم السنغالي الحالي، وتعليل بعض مواقفه وتصرفاته التي قد تتنافى مع مبادئ الإسلام، فهي مواقف وتصرفات يستغربها من يجهل حقائق اجتماعية وتاريخية كانت خلفية لها.

فالإنسان السنغالي، شأن غيره من الأفارقة، متشبث بالقيم الروحية ، فقلما يقوم بحركة هـامة أو تافهة دون أن تسبقها فكرة دينية.

بل الأمر كما قال (( دولافوص )) [DELA FOSSE ] ((لا وجود لأية مؤسسة في أفريقيا السوداء، سواء أكانت في الميدان الاجتماعي أو السياسي، بل حتى في مجال النشاط الاقتصادي، لا تنبني على تصور ديني، أو لا يكون الدين حجر الزاوية فيها.

فهذه الشعوب التي يستنكر أن يكون لها دين هـي، في الواقع، من بين الشعوب المتدينة على وجه الأرض)) ((أديان أفريقيا السوداء)) : ديشام DE SCHAmPS الأرواحيـة [L'ANmISmE ]

الأرواحية هـي الاعتقاد بقوة روحية في الأشياء، أي: اعتقاد أن للأشياء أرواحًا مشابهة لتلك التي لدى الإنسان.

ويعتقد أتباع الأرواحية أن الروح هـي مبدأ الفكر والحياة العضوية في آنٍ واحد.

وتهدف العبادة عند معتقديها إلى تزويد الحياة البشرية بمدد من القوة، وضمان بقاء الإنسان لأطول مدة. أما المرض والإعياء والفشل... فأعراض تدل على نقص القوة الحية.

وتتركب أهم عناصر تلك المعتقدات من:

  • إله سام خالق للأكوان، بعيد عن العالم الأرضي؛ مما حمله على إنابة الكهان عنه
  • آلهة من درجة دنيا، وهي مندمجة في قوة الطبيعة.
  • أجداد الجماعات، وهم بمنزلة الأرباب.
  • قوة خفية تتمثل في التعاويذ والتمائم .

ويعيش المعتقد بالقوة الحيوية في محيط تؤطره الغيبيات في مختلف أكناف حياته، وتدفعه عقيدته إلى اعتبار العالم المحيط به ألغازًا غامضة وأسرارًا دفينة لا يتطاول إلى كشف كنهها إلا عقول خاصة لها استعداد خاص لتلقيها من ((اللامرئي))...

لا أمن ولا سلامة لغير الموهوبين الذين رؤيتهم معتمة، ولا مندوحة لهم إلا الالتجاء إلى الكهنة والسحرة ، و إلى الطقوس والقرابين والتمائم والتعاويذ لاستعطاف قوة الطبيعة، واتقاء شرها، والتقرب إليها زلفى، واستدرار رحمتها...

وتتمثل المؤشرات غير المرئية في أرواح الجدود، ضامنة استمرارية حياة القبيلة أو العشيرة المنتمية إليهم، وفي أرواح الموتى بصفة عامة، وفي الطلاسم والتعاويذ التي يصنعها الكهان، زاعمين أنها ذات أو السيئة.

فأساس فكرة عبادة أرواح الأسلاف ـالتي يُعتقد أنها وسيطة بين الأحياء والآلهة وأنها شفيعةـ هـو أن الحياة على الأرض لا تتوقف بمفارقة الروح للجسم، بل هـي استمرار سرمدي للفعالية والحيوية، إذ ليس الموت حدثًا يسبب قطع الصلاة بين الأحياء والأموات، إنما هـو غفوة وارتخاء من جراء ضعضعة في القوة الحيوية…

على أن غموض الطبيعة وصعوبة فك ألغازها حدا بالإنسان الذي هـذا معتقده إلى الاستنجاد بالكهنة طلبًا لتفسير أو تعليل مظاهر الطبيعة، والارتماء في أحضان صانعي التمائم والتعاويذ، وجعله متشائمًا، محاطًا بأنواعٍ لا تحصر من الخرافات تعتّم عليه حياته.

ومن سوء حظ أتباع الأرواحية أنهم لا يضعون فاصلًا بين الروح والمادة، فالإنسان والموجودات الأخرى ليسوا سوى قوة حية ذات فاعلية تخضع ـفي اعتقادهمـ لمشيئة طبيعة فاعلة…

ويكون الوسيط بين الإله والأحياء جدّ الجماعة الأسطوري، أو تمثالًا أو قناعًا أو حجرًا أو حيوانًا أو شجرًا، أو أي مظهر آخر من مظاهر الطبيعة، ويتباين دور الآلهة الوسطاء وعددهم وأهميتهم من منطقة لأخرى، ومن جماعة لجماعة ثانية…

وتعتبر عبادة الحيوانات من أقدم العبادات المعروفة في غربي أفريقيا.

فلدى بعض الجماعات في السنغال ـقبل إسلامهاـ اعتقاد مفاده أن الجماعة ونوعًا من الحيوان من جرثومة واحدة.

ونجد بقايا هـذا الاعتقاد ليومنا هـذا لدى بعض القبائل السنغالية المنحدرة من إمبراطورية مالي .

فقد جاء في سيرة حياة الكاتب الغيني (( لاي كامارا )) [LAYEKAmARA ] أن والده قال له ذات يوم:

عشيرتنا. فقد ظهرت لي في جيلنا هـذا، وبعد أن شرح الوالد لابنه كيف تم لقاؤه مع جنية عشيرته قص عليه الحوار الذي دار بينهما؛ حيث قالت له الحية: ((قدمت، كما نبهتك سابقًا لكنك لم ترحب بي، بل لاحظتك وأنت تتهيأ لأسوأ استقبال لي، فقد لمحت ذلك في عينيك، لماذا تنظر إليّ هـكذا؟ أنا جنية أجدادك، وبصفتي كذلك قدمت نفسي إليك لأهليتك. إذن لا تخف مني؛ واحذر من طردي فإنني جالبة لك النجاح)) LAYE KAmARA:((LENFT NOIR((14,16 et 17

وتحت وابل من الأسئلة وإلحاح شديد من ((لاي كامارا)) الذي كان طفلًا صغيرًا رأى أباه يداعب حية صغيرة الحجم ذات مساءٍ، حكى عليه القصة، وهي على جمالها تعكس جانبًا واقعيًا من حياة هـذه الشعوب التي اعتنقت الديانة الإسلامية منذ عهود قديمة وظلت تحتفظ ببعض بقايا معتقدات مجتمع ما قبل الإسلام.

يرتبط الحيوان بالإنسان بالعهود، ويتحاور معه، ويساعده على تذليل الحياة، مقابل تقديمه وتنظيم طقوس له. فهو يجسّد جنية العشيرة، فقتله أو مسّه بأذًى بجلب المصائب والنوائب للفرد والجماعة معًا، بينما استرضاؤه يؤدي إلى الرفاهية والنجاح، فوق ذلك كله فليس الحيوان أخرس ولا أعجم بل له لغة يتفاهم عن طريقها مع خواص الناس، ويعقد عهودًا ومواثيق تبقى سارية إلى أبد الآبدين… في زعمهم.

ولم تكن الحيوانات وحدها محل عبادة وتقديس لدى معتقدي القوة الحيوانية وإنما يعبدون بعض النباتات والمعادن.

يحتوي الشجر على روح فعالة؛ فإنه ـعند اجتثاثه ـ يجب استرضاؤه بالقرابين والأدعية؛ خصوصًا إذا كان دوحًا وذلك قصد إبطال رد فعله، وتتصرف الجنُّ في المعادن تمنحها لمن يتخذها أولياء وأخلاء، وتمنعها عمن لا يسترضيها.

والمعدن بحد ذاته كائن حي يستطيع أن ينفع ويؤذي. وبقصد اتقاء شره ينبغي لطائفة الحدادين أن يكون لهم استعداد تام لمواجهته، فهم لذلك يتسلحون بالأسرار والأدعية يخيفون بها القوى المعادية في المعدن. وكذلك يتحصن الصيادون ـفي البر والبحرـ بالأدعية تقيهم من شر فرائسهم، وكان كبار الصيادين من أمهر وأكبر الكهنة والسحرة.

الطقوس وأماكن العبـادات

تتركب الطقوس من عناصر عدة، منها: الرقص على إيقاعات الطبول ـ تم ـ تم ـ والغناء الذي يستغرق جزءًا هـامًّا منها، ثم القرابين التي تقدم إلى أرواح الجدود في مناسبات عندما يصيب المرض أحد أفراد الأسرة، أو حين يستعد الفلاح للبذر، أو حينما يحل موسم الحصاد، أو يلمُّ بالبلاد جفاف، ففي هـذه المناسبات يتقرب الأرواحيُّ بدجاج أو غنم أو بقر فيذبحه على قبر أسلافه.

وتعد ثمرة ((الكولا KOLA)) الكولا: البندق الأفريقي، يعتقد كثير من علماء السنغال أنه هـو الطنبول ـ وكذلك علماء غربي أفريقيا عموماـ وهو خلاف ذلك، ولقد استعملنا الكلمة الأجنبية لشهرتها.

مقدسة ورمزًا للاحترام، وتقدم حتمًا في الحفلات الدينية، وقد تأثر المسلمون بهذه العادة فأصبحت عنصرًا هـامًا في حفلاتهم في السنغال.

وهناك ممارسات معقدة وشائكة تقوم بها فئة من الكهنة، فضلًا عن أن الطقوس متشعبة ومتعددة، لا قانونًا محدودًا يربطها، حيث تختلف شعائر شعب عن آخر، وجماعة أو منطقة عن أخرى، بل حتى بين قريتين متجاورتين؛ ونتيجة لفقدان ضوابط لها، وخشونة بعض مظاهرها وتعددها، وعدم هـيمنة واحدة منها فإنها أصبحت تلفظ أنفاسها الأخيرة أمام قوة الإسلام موحد الشعوب.

وما استطاعت الأرواحية ـإلا نادرًاـ تأسيس هـياكل للعبادة، إذ غالبًا ما يكون المعبد عبارة عن محراب صغير، أو زاوية في بيت رئيس الأسرة يمارس فيها أفرادها شعائر الأرواحية.

وقد يكون ضريح زعيم الجماعة موضح تقديس حيث تصب عليه الألبان والمياه وتذبح عليه القرابين…

ظاهرة الخوف من الطبيعة والسحر والسحرة

تتكون تصورات المجتمع التقليدي السنغالي ومدركاته من تجارب كثيرة، منها: تلك التي تأتي من العالم المرئي، أي: من ظواهر الطبيعة المباشرة.

فليست الطبيعة مجرد مادة ترى وتلمس وتحس بل وراءها قوة فاعلة متحركة ومحركة تتصرف في مجاري الأمور حبذا لو اعتقدوا أن القوة للرب الواحد الأحد.

يخضع لها الإنسان ويرتبط بها ارتباطًا لا فكاك له، فرخاء الهيئة الاجتماعية وسلامة أعضائها وحياة كل فرد خاصة أو عامة من صحة ومرض ونجاح وفشل وسعادة وشقاء تتوقف على التأثيرات الطيبة أو السيئة الآتية من العالم غير المرئي.

وهم لذلك لا يرون أملًا للوصول بمشروع من مشاريعهم إلى مرافئ النجاح إلا إذا أمنوا شر قوى الطبيعة التي تطاردهم وتلاحقهم ولا تدعهم يتنفسون لحظة.

وسوف نرى أن الخوف من ثوران الطبيعة، والعمل على ابتغاء مرضاتها، والتحصن ضدها لم يختف في السنغال رغم انتشار الديانة الإسلامية بين ظهراني أهله.

السـحر في مفهوم الأرواحـيين

والسحر في مفهوم الأرواحيين نوعان:

  • (1) سحر أبيض نافع ملتمس يذب الأرواح الشريرة والأشباح الحوامة في جنح الليل ويجلب الخير والسعادة والبناء والمنفعة والازدهار، ويزيد في دخل الفرد والجماعة، وكثيرًا ما يستعان به لمعرفة مدى نجاح مشروع ما، كالسفر أو الزواج، أو كشف نوع المرض، وتحديد الوصفة الملائمة لعلاجه...
  • (2) سحر أسود ضار تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر ـوخصوصا بمصاصي الدماءـ منتشر بموريتانيا. وبصفة عامة يعتقد بعض الناس هـناك أن كل ((الكور)) أي : السود من صنعة السحر، وأنهم من مصاصي الدماء وبغيض يفتك بالنفوس، وينشر الأمراض والأوبئة ويفسد الحرث والنسل ويتسبب في إمساك الأرزاق…

وتستعمل عدة صيغ وأصول للوصول إلى نتيجة للنوعين.

يحصل الساحر على أجوبة عما يطرح عليه من مسألة بواسطة أدوات خاصة وتقنية يملك سرها (!!) على أنه يقوم باستقراء المعطيات والإشارات، ويفسر الرموز، ويفك الألغاز ليركب في النهاية المعضلة المطروحة أمامه، فيعطي جوابه عنه، ولا تقف مهمته عند هـذا الحد، بل يتولى العلاج إن كان الأمر يتعلق بمرض، وهو عبارة عن تمائم وتعاويذ تتركب من قشور وعروق أشجار معينة أو أعواد وقرون. وقد يكتفي الساحر بنفاثات في العقد، ويعلق المريض الحجاب بعنقه أو بمرفقه أو بأي جزء آخر من جسمه وقد يدفن بعضًا من ذلك في أماكن يعيّنها الساحر.

ويتنوع مجال نشاط الساحر حيث يعالج مختلف مسائل مجتمعه: على كاهله إنزال المطر إذا ما هـدد الجفاف الزراعة، وإخصاب الأرض، والتدخل للتخفيف من حدة فوران الطبيعة!!.

كما أن هـناك سحرًا نافعًا، وسحرًا ضارًّا، فيوجد سحرة نافعون طيبون، وآخرون خبثاء ضارون؛ فالأولون يساعدون على تذليل مصائب ومصاعب الحياة، بينما الأشرار مسؤولون عن الوفيات في تلك المجتمعات لا يموت حتف أنفه، وإنما وراء كل وفاة أو مرض ساحر، فهناك إيمان راسخ بوجود مصاصي الدماء، يمتصون دماء ضحاياهم دون أن يشعر الضحية إلى أن يموت.

والأمراض والأضرار التي تصيب المجتمع بصفة عامة، وهم محل شؤم ونحس، يفر منهم الناس ويتقون شرهم.

ويعتقد هـؤلاء أنه يوجد أشخاص سحرة بدون أن تكون لهم يد في ذلك، أو سبق إصرار لارتكاب جريمة الإيذاء، فبعضهم ولدوا سحرة، ويتهم بالسحر الأطفال ذوو الخلقة المشوهة، والتوائم، وذوو العاهات، والمنحدرون من طبقات اجتماعية مستضعفة. ويبدو جليًّا من خلال الاتهام الموجه إلى طوائف متميزة من المجتمع أن هـذه المعتقدات لا ترتكز على أسس ذات معيار علمي وعقلي مقبول.

ومما يؤسف له أن المسلمين رغم كونهم أكثر من 95% من سكان السنغال لما يتمكنوا بعد من التخلص من عدد من الخرافات، كخرافة مصاص الدماء تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر منتشر في مخلتف مناطق أفريقيا السوداء، بل تسرب وأثر في قرارات القضاء، ومن ذلك ما قررته محكمة في جمهورية ( الجابون ) سنة 1964 في شأن قضية اعترفت فيها محكمة في تلك البلاد بإمكانية تحول الإنسان إلى حيوان.. وملخص القضية :ادعاءأن رجلا تحول إلى قرد في إحدى الغابات، فاصطاده قانص آخر، وجاء في حيثيات المحكمة ما يلي:
حيث إنه من المعروف لدى الجمهور في (الجابون ) أن الأشخاص يتحولون إما على فهود أو فيلة.. ليقضوا على أعدائهم، أو ليحموا حقولهم ويفسدوا حقول جيرانهم..هذه أمور يجهلها القضاء الأوربي، ويحق للقضاء في (الجابون)أن يأخذها بعين الاعتبار !!..
وحيث يجب الاطلاع على أنه يتم فعلا تحول الإنسان إلى حيوان مفترس، وذلك قصد طمأنة فريسته التي ترى الصياد على هـيئة حيوان؛ من أجل إمساكها دون عناء؛ بحيث إن المحكمة اقتنعت بأن( أكو جوزيف ـ (AKOUJODEPH قد تحول بمبادرة منه إلى قرد في الغابة حيث يحتمل أن يكون قانصا دون سلاح، ونتيجة لذلك فإن بيكو ( قاتل الإنسان القرد ) من النبلاء... وما كان يمكن أن يطلق النار في واضحة النهار على رجل لا وجود لأية عداوة بينه وبينه.
REN DUMONT AFRIQUE NOIRE ESTMAL PARTIE.P 250 كما أن صانعي الطلاسم حلُّوا محل الكهنة في المجتمع الأرواحي، كما سيأتي.

وخليق بالملاحظة أنه في ظلّ الديانة الأرواحية لا يعترض الإنسان سبيل قوة الطبيعة قصد تسخيرها والتأثير عليها وفق حاجاته، إنما هـي التي تؤثر عليه وتوجهه حسب مشيئتها ـبزعمه وتصونه وترعاه، أو تبيده وتهمله، وبديهي أن يعيش معتقد هـذه الخرافات في هـلع واضطراب دائمين.

وقد وجد الإسلام في السنغال أرضية صالحة: فقد كانت الأنظمة السياسية مستبدة وطاغية لا تحترم قانونًا ولا عهودًا، وكانت قائمة على استفزاز الفلاحين واستغلالهم، وتجريدهم من أقل مقومات الاستقرار والأمن، وكانت تلك الإمارات تمارس معتقداتها الأرواحية، وهي أدْيان مشتتة، لا صلة تجمع أتباعها، ولا نظام يقرب بعضهم إلى بعض، ولا طقوس تتشابه… وعندما لاح نور الإسلام تداعت أركان الأرواحية ، ولا تزال تتقهقر.

  • (1) سحر أبيض نافع ملتمس يذب الأرواح الشريرة والأشباح الحوامة في جنح الليل ويجلب الخير والسعادة والبناء والمنفعة والازدهار، ويزيد في دخل الفرد والجماعة، وكثيرًا ما يستعان به لمعرفة مدى نجاح مشروع ما، كالسفر أو الزواج، أو كشف نوع المرض، وتحديد الوصفة الملائمة لعلاجه...
  • (2) سحر أسود ضار تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر ـوخصوصا بمصاصي الدماءـ منتشر بموريتانيا. وبصفة عامة يعتقد بعض الناس هـناك أن كل ((الكور)) أي : السود من صنعة السحر، وأنهم من مصاصي الدماء وبغيض يفتك بالنفوس، وينشر الأمراض والأوبئة ويفسد الحرث والنسل ويتسبب في إمساك الأرزاق…

وتستعمل عدة صيغ وأصول للوصول إلى نتيجة للنوعين.

يحصل الساحر على أجوبة عما يطرح عليه من مسألة بواسطة أدوات خاصة وتقنية يملك سرها (!!) على أنه يقوم باستقراء المعطيات والإشارات، ويفسر الرموز، ويفك الألغاز ليركب في النهاية المعضلة المطروحة أمامه، فيعطي جوابه عنه، ولا تقف مهمته عند هـذا الحد، بل يتولى العلاج إن كان الأمر يتعلق بمرض، وهو عبارة عن تمائم وتعاويذ تتركب من قشور وعروق أشجار معينة أو أعواد وقرون. وقد يكتفي الساحر بنفاثات في العقد، ويعلق المريض الحجاب بعنقه أو بمرفقه أو بأي جزء آخر من جسمه وقد يدفن بعضًا من ذلك في أماكن يعيّنها الساحر.

ويتنوع مجال نشاط الساحر حيث يعالج مختلف مسائل مجتمعه: على كاهله إنزال المطر إذا ما هـدد الجفاف الزراعة، وإخصاب الأرض، والتدخل للتخفيف من حدة فوران الطبيعة!!.

كما أن هـناك سحرًا نافعًا، وسحرًا ضارًّا، فيوجد سحرة نافعون طيبون، وآخرون خبثاء ضارون؛ فالأولون يساعدون على تذليل مصائب ومصاعب الحياة، بينما الأشرار مسؤولون عن الوفيات في تلك المجتمعات لا يموت حتف أنفه، وإنما وراء كل وفاة أو مرض ساحر، فهناك إيمان راسخ بوجود مصاصي الدماء، يمتصون دماء ضحاياهم دون أن يشعر الضحية إلى أن يموت.

والأمراض والأضرار التي تصيب المجتمع بصفة عامة، وهم محل شؤم ونحس، يفر منهم الناس ويتقون شرهم. ويعتقد هـؤلاء أنه يوجد أشخاص سحرة بدون أن تكون لهم يد في ذلك، أو سبق إصرار لارتكاب جريمة الإيذاء، فبعضهم ولدوا سحرة، ويتهم بالسحر الأطفال ذوو الخلقة المشوهة، والتوائم، وذوو العاهات، والمنحدرون من طبقات اجتماعية مستضعفة. ويبدو جليًّا من خلال الاتهام الموجه إلى طوائف متميزة من المجتمع أن هـذه المعتقدات لا ترتكز على أسس ذات معيار علمي وعقلي مقبول.

ومما يؤسف له أن المسلمين رغم كونهم أكثر من 95% من سكان السنغال لما يتمكنوا بعد من التخلص من عدد من الخرافات، كخرافة مصاص الدماء تجدر الإشارة إلى أن الاعتقاد بالسحر منتشر في مخلتف مناطق أفريقيا السوداء، بل تسرب وأثر في قرارات القضاء، ومن ذلك ما قررته محكمة في جمهورية ( الجابون ) سنة 1964 في شأن قضية اعترفت فيها محكمة في تلك البلاد بإمكانية تحول الإنسان إلى حيوان.. وملخص القضية :ادعاءأن رجلا تحول إلى قرد في إحدى الغابات، فاصطاده قانص آخر، وجاء في حيثيات المحكمة ما يلي:
حيث إنه من المعروف لدى الجمهور في (الجابون ) أن الأشخاص يتحولون إما على فهود أو فيلة.. ليقضوا على أعدائهم، أو ليحموا حقولهم ويفسدوا حقول جيرانهم..هذه أمور يجهلها القضاء الأوربي، ويحق للقضاء في (الجابون)أن يأخذها بعين الاعتبار !!..
وحيث يجب الاطلاع على أنه يتم فعلا تحول الإنسان إلى حيوان مفترس، وذلك قصد طمأنة فريسته التي ترى الصياد على هـيئة حيوان؛ من أجل إمساكها دون عناء؛ بحيث إن المحكمة اقتنعت بأن( أكو جوزيف ـ (AKOUJODEPH قد تحول بمبادرة منه إلى قرد في الغابة حيث يحتمل أن يكون قانصا دون سلاح، ونتيجة لذلك فإن بيكو ( قاتل الإنسان القرد ) من النبلاء... وما كان يمكن أن يطلق النار في واضحة النهار على رجل لا وجود لأية عداوة بينه وبينه.
REN DUMONT AFRIQUE NOIRE ESTMAL PARTIE.P 250 كما أن صانعي الطلاسم حلُّوا محل الكهنة في المجتمع الأرواحي، كما سيأتي.

وخليق بالملاحظة أنه في ظلّ الديانة الأرواحية لا يعترض الإنسان سبيل قوة الطبيعة قصد تسخيرها والتأثير عليها وفق حاجاته، إنما هـي التي تؤثر عليه وتوجهه حسب مشيئتها ـبزعمه وتصونه وترعاه، أو تبيده وتهمله، وبديهي أن يعيش معتقد هـذه الخرافات في هـلع واضطراب دائمين.

وقد وجد الإسلام في السنغال أرضية صالحة: فقد كانت الأنظمة السياسية مستبدة وطاغية لا تحترم قانونًا ولا عهودًا، وكانت قائمة على استفزاز الفلاحين واستغلالهم، وتجريدهم من أقل مقومات الاستقرار والأمن، وكانت تلك الإمارات تمارس معتقداتها الأرواحية، وهي أدْيان مشتتة، لا صلة تجمع أتباعها، ولا نظام يقرب بعضهم إلى بعض، ولا طقوس تتشابه… وعندما لاح نور الإسلام تداعت أركان الأرواحية ، ولا تزال تتقهقر.

الفصل الثاني: طرق انتشار الإسلام في غربي أفريقيا

(أ) الإرهاصات الأولى

ظهرت الدعوة الإسلامية في بداية القرن السابع الميلادي بقلب الجزيرة العربية في فترة من التاريخ كانت البشرية فيها بأمس الحاجة إلى رسالة من السماء تنقذ المجتمعات من الانهيار، وتصفي القلوب من شوائب الشرك، وتوجه العقول نحو عقيدة الوحدانية، وكانت الأقطار الأفريقية بعيدة كل البعد عن الحركة الدينية الجديدة، اللهم إلا ما كان من هـجرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم إلى الحبشة ( إثيوبيا اليوم ) بإيعاز من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه ﴾ سيرة ابن هـشام..

وقام بعض الصحابة رضوان الله عليهم بهجرتين إلى الحبشة، وهما هـجرتان لم تخلفا أثرًا ذا بال على المجتمع الحبشي، لأن المهاجرين ـلأسباب خاصةـ كانوا يعتبرون لاجئين سياسيين، كما في مصطلحات العصر الحديث، فلم تكن هـجرتهم من موطنهم نتيجة اقتراف جريمة يعاقب عليها القانون، بل ابتعادهم من قلة كان لأسباب عقيدية، وسياسية؛ لأن الدعوة الإسلامية كانت تهدف أساسًا إلى تغيير القواعد التي تنبني عليها المؤسسات الدينية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الجاهلي…

(ب) انتشار الإسلام في غربي أفريقيا

إذا كانت الطلائع الأولى من الصحابة رضوان الله عليهم، لم يتمكنوا من القيام بالدعوة إلى الإسلام في فجر البعثة بأفريقيا، فإن المسلمين الأوائل عرفوا العالم الأفريقي قبل انتشار الإسلام في القارة الأفريقية.

فقد كانت الصلات بين العالمين العربي والأفريقي قديمة وسابقة لظهور الإسلام: فقد كان جزيرة العرب على صلة اقتصادية ودينية وسياسية بشرقيّ أفريقيا، ولم يكن الحضور الأفريقي مقتصرًا على العبيد الذين يجلبون من القارة السوداء، بل كانت للحبشة ارتباطات وثيقة باليمن جنوبي الجزيرة العربية.

لذلك لا يدهشنا اهتمام الإسلام الباكر بأفريقيا باعتباره استمرارًا طبيعيًّا لتلك العلاقات التاريخية وتطورًا حتميًّا لها.

على أن الإسلام اختار ـخلال تقدمه نحو أفريقياـ مسلكين اثنين:

  • أولهما مائي: وهو طريق باب المندب المحاذي لساحل شرقي أفريقيا، حين كان المسلمون يعبرون البحر الأحمر للتوجه نحو الصومال والحبشة وزنجبار … وكان الاتصال بين هـذه المناطق الأفريقية وشبه الجزيرة العربية مباشرة.

وتبعًا لذلك كان شرقي أفريقيا متأثرًا في شؤون دينه بمناطق الخليج العربي، ويتجلى ذلك في انتشار المذاهب الفقهية والطرق الصوفية التي كان يتمذهب بها سكان الجزيرة.

  • ثانيهما بري: اتخذه الإسلام للدخول في شمالي وغربي أفريقيا ـوهو بيت القصيدة هـناـ وهو معبر سيناء الذي اختاره عمرو بن العاص رضي الله عنه لفتح مصر، ولما استتب الأمر لجيوش الإسلام بأرض الكنانة تطلعت إلى فتح شمالي أفريقيا، حيث اتجهت صوب برقة فتونس فالجزائر ثم المغرب ، وتراخت الدعوة في شمالي أفريقيا برهة من الزمن بحكم أنها ظلت هـناك بين مد وجزر، وما أن استقرت في المغرب حتى بدأت تتبلور في جنوبي الصحراء الكبرى ويقال : إن بعض السود شاركوا في فتح الأندلس، وإن القوط أسروا جنديا أسودا من جنود المسلمين، وكانوا لم يسبق لهم أن عاينوا إنسانا أسود، فسخنوا ماء كثير ورموه فيه، وجعلوا يحكون بشرته ظنا منهم أن سواده ناجم عن صدأ التصق به..

(ج) مسالك قوافل المسلمين من شمالي أفريقيا

كانت هـناك عدة مراكز هـامة في شمالي أفريقيا ينطلق منها الدعاة المسلمون نحو غربي القارة، وسيؤدى ((المغرب العربي)) دورًا طليعيًّا في نشر عقيدة وحضارة الإسلام فيما وراء الصحراء الكبرى، وسيؤثر أيما تأثير على مسلمي تلك البلاد: فمن شمالي أفريقيا والأندلس جاء وساد المذهب المالكي ، ومنه وفدت الطرق الصوفية: القادرية ، والتيجانية ، والشاذلية ، كما سيأتي بيان ذلك في محله.

أما تحديد تاريخ موثوق به لوصول الإسلام إلى غربي أفريقيا فليس بالسهولة بمكان لعلة بسيطة؛ هـي أن اعتناق غالبية الشعوب الأفريقية للإسلام لم يتم عن طريق حملة عسكرية ليؤرخ له بسقوط مملكة ما وتجدر الإشارة إلى أن الإسلام دخل غانا قبل وصول المرابطين إليها وسقوط تلك المملكة على أيديهم.، أو هـزيمة جيوش معادية للمسلمين في واقعة ما، وقيام نظام الإسلام على أنقاضها، إنما انتشرت الديانة الإسلامية في تلك المناطق بفعل احتكاك التجار المسلمين بسكانها، وجهود الشيوخ السياح القادمين من شمالي أفريقيا، وبفضل تفاني الأفريقيين الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام.

على أن التاريخ احتفظ لنا بأسماء مراكز تجارية تقع على الطرف الشمالي من الصحراء الكبرى، كانت تنطلق منها قوافل التجار المحملة بالبضائع ـمنسوجات وخرزـ يقايضونها بالذهب والعاج والعبيد...

وها هـي بعض مراكز الانطلاق:

  • (1) برقة بليبيا : كانت قوافل المسلمين تغادر برقة محملة بالبضائع وتتوجه صوب بيلما [BILmA ] حتى تصل منطقة بحيرة تشاد ، وقد تصل القوافل نفسها بلاد برنو [ BORNO ]
  • (2) القيروان بتونس : كان التجار المسلمون يغادرون القيروان بجمالهم المحملة بمنتجات ((أفريقية)) إلى (( نكيدة )) حيث تقع مناجم النحاس، ومنها تقصد كانو [KANO ] في بلاد (( الهوسا )) بنيجيريا .
  • (3) تلمسان بالجزائر : كانت قوافل التجار المسلمين تنطلق من تلمسان إلى ثنية نهر النيجر حيث تقع مدينتا تمبكتو وغاو الشهيرتان.
  • (4) طريق لمتونة : وهي الآتية من المغرب الأقصى على امتداد ساحل المحيط الأطلسي إلى حوض نهر السنغال .

ويبدو أن الإسلام سلك الطريق الثالث والرابع للوصول إلى السنغال لارتباط هـذا الأخير تاريخيًّا وجغرافيًّا بإمبراطوريتي غانا ومالي اللتين كانتا على صلة وثيقة بالجزائر والمغرب، فضلًا عن أن حركة عبد الله بن عباس ياسن رابطت فترة من الزمن في جزيرة سنغالية قد تكون (( أندر )) ((N'DAR)) هـي مدينة تقع في جزيرة من المحيط الأطلسي بشمال غربي السنغال.

مملكة غانــا لا ينطبق موقع جمهورية غانا الحالية على المملكة التي كانت تحمل هـذا الاسم.

ليس من السهولة بمكان تحديد موقع غانا جغرافيًّا بشكل دقيق، إذ يظهر أن كل المؤرخين ـ وهم جميعًا عرب- الذين كتبوا عنها في القرون الوسطى لم يعاينوها، وإنما نقلوا أخبارها عن غيرهم انظر بهذا الصدد كتاب ( مونتي (L'ISLA NOIR:mONTEIL.P.60. ، وكادت الروايات الشفهية أن تنسى غانا يقول المؤرخ (تسير نيان) في كتابه ( سون جاتا) : إن غانا كانت تعرف لدى شعب ( ماندين )باسم ( واغادو WAGADU) انظر الصفحة 62 من الكتاب المذكور.

ويبدو أنها كانت قوية وثرية ارتبطت بعلاقات وثيقة مع بربر الصحراء الكبرى، وقد تكون حدودها الشمالية وراء مدينة (( أودغشت )) الغنية بالملح، وقد يكون بعض أطراف السنغال جزءًا منها.

وكانت تشتمل على جزء هـام من موريتانيا الحالية ومناطق من غربي مالي ، وكانت (( أودغشت )) الواقعة في قلب الصحراء قد احتلتها غانا سنة 990م وظلت تحت سيطرتها إلى أن فتحها المرابطون سنة 1054م.

وكانت عاصمة غانا هـي ـكومبي صالح- القريبة من مدينة نيرو ، وكانت العائلة المالكة تحمل الاسم العشيري ((سيسي)) [CUSSE ] وهي من جماعة ((سونينكي))؛ ولم ينتشر الإسلام بين أفراد الطبقة الأرستقراطية الحاكمة غير أن صلتها بالمسلمين كانت قوية.

الإسلام في غانـا

إن اختلاف التجار المسلمين على بلاد غانا، وتكاثف التبادل، والوفود والتسامح الديني الذي كان يتحلى به النظام القائم، ساعد ذلك كله على تغلغل العقيدة الإسلامية بين الأهالي سلميًّا؛ وبلغ الأمر إلى أن أفرادًا من الجالية الإسلامية تقلدوا وظائف عليا في البلاط الملكي؛ وكانت معرفة المسلمين بالكتابة والقراءة عاملا حاسمًا في هـيمنتهم على مرافق هـامة من جهاز الإدارة العامة والحياة الاقتصادية؛ وبمرور الزمن ازدادت أهمية الجالية الإسلامية في غانا إلى درجة أن كان لها حي خاص بها بعاصمة المملكة فيه اثنا عشر مسجدًا.

وظلت غانا محتفظة باستقلالها السياسي إلى أن لاحت في الأفق حركة عبد الله بن ياسن الإسلامية.

نهاية غانــــا

تاق المرابطون إلى فتح مملكة غانا، فبعثوا أولًا جيشًا بقيادة يحيى ابن عمر سنة 1054م، فاستولى على (( أودغشت )) وطرد منها الحامية الأفريقية.

ومن ((أودغشت)) توجهت جحافل لمتونة نحو عاصمة غانا (( كومبى صالح )).

وكان المرابطون يستهدفون نشر الإسلام في منطقة لم يكن الإسلام معروفًا لأهلها جميعًا في ذلك العهد، وهذا خلاف ما يزعمه بعض المؤرخين أن لعاب قادة المسلمين كان يسيل لَدَى ذكر ثروة غانا، حيث ينبت الذهب مثلما ينبت العشب، فاندفعوا إلى فتحها.

وعندما تولى أبو بكر بن عمر زعامة جيوش المرابطين في الصحراء، نجح في الاستيلاء على ((كومبي صالح)) سنة 1076م.

ويلاحظ أن سيطرة المرابطين على غانا لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما قامت انتفاضات وثورات ، ليست ضد الإسلام الذي جاءت به جماعة أبي بكر بن عمر، بل كانت تستهدف تحقيق إدارة غانية.

ففي غضون ذلك، استشهد ابن عمر أثناء اشتباكات مع الغانيين، وبوفاته اضمحلت سلطة المرابطين السياسية، في الوقت الذي كان يحقق ابن عمه يوسف بن تاشفين انتصارات باهرة في المغرب والأندلس .

لم تكن انتصارات أصحاب عبد الله بن ياسن ذات بال من الناحية العسكرية والسياسية، إذ لم يدم وجودهم في غانا أكثر من خمس عشرة سنة، لكن هـذا الحضور الخاطف ترك أثرًا طيبًا للإسلام في المنطقة كلها لمساهمته في توصيل صدى الإسلام إلى نواحٍ بعيدة من غربي أفريقيا لم يكن قد وصلها من قبل، مما مهد الطرق أمام دعاة حققوا ما لم تحققه الحملة العسكرية.

وخليق بنا أن نلمح إلى أن بعض المصادر تشير إلى أن ملك تكرور (( وارانجاي ))[ WAR N'DIAYE ] الملقب بأبي الدرداء قد أخذ نصيبًا وافرًا في حملات المرابطين بعد أن أسلم.

والخلاصة أن حملة المرابطين على غانا لم يترتب عليها ترسيخ مباشر لدعائم الإسلام بقوة السلاح في تلك البلاد، إنما تمخض عنها أن طائفة من سكان المدن الذين لم يسلموا قبل الحملة المرابطية اعتنقوا الإسلام؛ إضافة إلى تشبث شعب ((سونينكي)) بالعقيدة الإسلامية من ذلك العهد إلى يومنا هـذا.

ورغم جهود المرابطين ومسلمي غانا بقي الإسلام محصورًا في رقعة جغرافية صغيرة إلى أن برزت مملكة مالي في الساحة السياسية في المنطقة والتي حملت الدين الإسلامي إلى أدغال ومجاهل غربي أفريقيا كله.

مملكة مالـي [mALI]

يبدو أن كلمة مالي تحريف لماندين، وهذه الأخيرة تعني شعب مالي في لغتها الأصلية.

خلاف مملكة غانا، ظلت أخبار إمبراطورية مالي راسخة في الذاكرة الجماعية من شعب ((ماندين)) مثلما نقل أحوالها سياح وتجار العرب والبربر المسلمين الذين جابوا الصحراء الكبرى واتصلوا بأنفسهم بشعوب وأمراء مالي.

وتم وصول أخبار هـذه المملكة السودانية إلى العالم الإسلامي خلال رحلات ملوكها نحو الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة .

وكانت مملكة مالي واسعة؛ حيث تصل حدودها إلى ما وراء (( غاو )) شرقًا، والسنغال غربًا، وسيكاسو جنوبًا، وولاتة شمالًا.

وينتسب ملوكها إلى جماعة ((ماندين أو ماندينكا))ـ [mANDING ] التي تعيش حول نهر النيجر وبالأخص في الجزء الغربي منه، وشرقي السنغال وجنوبيه، وعلى ضفتي وادي غامبيا الذي يعتبر واديًا ماندنيكيًّا، وغينيا بيساو ، وغينيا كوناكري ، وبوركينا فاسو ، وساحل العاجل وسيراليون …

وقد يربو تعداد الناطقين بلغة ((ماندين)) بغربي أفريقيا على عشرة ملايين نسمة، وقد انعكس تباعد مساكنهم على لهجاتهم، لكنها لهجات متقاربة يتفاهم الناطقون بها دونما صعوبة.

ينتمي أربعة وتسعون في المائة من هـذه الجماعة إلى الإسلام، بينما تتمسك فئة منها بالديانات التقليدية الأفريقية؛ وخليق بالملاحظة بهذا الخصوص أن هـذه المعتقدات تحتوي على عناصر عديدة من أصل إسلام، الأمر الذي يدعو إلى الاعتقاد بأن الديانة الإسلامية عمت فعلًا شعب ماندين خلال فترة من تاريخه، ثم تسرب إلى إسلامه التدني والضعف والفتور بفعل انقطاع بعض جماعاته عن موجات التجديد، وبحكم انعزالها عن الحركات الإسلامية.

وتكمن أهمية جماعة ماندين في أنها قامت بنشاط دائب وحافل طوال عهود عديدة لنشر الإسلام في غربي أفريقيا، وذلك على صعيدين:

  • على مستوى السلطات الرسمية، [ملوك مالي].
  • وعلى مستوى الأفراد ((التجار المتجولين الدعاة)) جولا كلمة (جولا) هـذه لا يحسن خلها بكلمة مشابهة؛ أعنى ( جولان DIOA ( التي هـي اسم لإحدى الجماعات بجنوبي السنغال، في حين أن ( جولا) التي نحن بصدد الحديث عن دورها في نشر الإسلام بغربي أفريقيا تنتسب إلى جماعة ماندين، وتتعاطى التجارة أساسا في نشاطاتها. [DIOULA ]

يعزى دخول الإسلام إلى بلاد ماندين إلى حادثة طريفة، مفادها أنه حوالي سنة 1050م أصاب قحط شديد أرض ماندين، فانقطع المطر وأشرف الحرث والنسل على التلف، وكانت العادة تقتضي في مثل هـذه النازلة أن يتدخل الكهنة والسحرة لاستعطاف الآلهة، وكان (( برا ماندانا )) [BARAMENDANA ] أميرًا لماندين وقتئذٍ، فنهض بنفسه لتنظيم طقوس عديدة، تم خلالها تقديم القرابين، فلم يُجْدِ ذلك كله نفعًا.

وكان ينزل في (( كانغابا )) [KANGABA ] عاصمة إمارة ماندين، رجل مسلم لم يشاطر الأمير وشعبه طقوسهم، ولما لاحظ فشل المحاولات كلها وبطلان الوسائل المستعملة جميعها، وتمكن البؤس واليأس والأسى من نفوس أهل مالي، عرض على الأمير مساهمته في التضرع مقابل إسلام ((برا ماندانا)) فقبل هـذا الأخير العرض، واعتنق الدين الإسلامي، ثم تعلم ما تيسر له من مبادئه، ثم خرج الرجلان نحو ربوة تطل على ((كانغابا)) فصليا صلاة الاستسقاء، ولدى الانتهاء منها جعل الشيخ يدعو رافعًا يديه إلى السماء والأمير يؤمن. وما كان ينهيان تضرعهما حتى هـبت ريح باردة مبشرة، وملأت السحب الداكنة السماء مثقلة بالبركة، فهطلت أمطار غزيرة عمت أرجاء البلاد، وامتلأت الأودية، وفاضت الشعاب، وارتوت الحقول، وحييت المزارع.

وما إن رأى الأمير الغيب يسقي مملكته حتى بادر إلى دعوة شعبه إلى الدين الجديد، ومن ذلك التاريخ البعيد بدأ انتشار الإسلام بين ظهراني شعب ماندين.

ويبدو أن (( سون جاتا كيتا )) [SON DIATTA KEITA ] كان المؤسس الحقيقي لمملكة مالي؛ على أنه على الرغم من وجود ملحمة شهيرة تدور حول شخصيته تصدح بها شعوب ماندين تخليدًا لذكراه، فإننا نجهل حياته الحقيقية غير الأسطورية، وبالأخص ما يتعلق بإسلامه.

في حين خلد التاريخ ذكرى أولاده وأحفاده لما نهضوا به من أعمال جلّى لدفع عجلة الإسلام إلى الأمام في منطقة غربي أفريقيا؛ وسجل التاريخ بالخصوص أسماء مانسا : في لغة ماندين تعني الملك، ويلاحظ من ناحية أخرى أن ابن بطوطة يطلق كلمة مالي اسما لمدينة كان يقطنها منسا سليمان، أي : عاصمة مملكة مالي.

( منسا موسى وولي ) [SON DIATTA KEITA ] (1255-1270م )، أحد أبناء (( سون جاتا ))، وكان ((موسى وولي)) قد حج بيت الله في موكب حافل.

ويعد (( موسى كانكو ))[KANKOU ] أو كانكا [KANKA ] من أشهر ملوك مملكة مالي وأكثرهم نفعًا للإسلام في تلك الحقبة، وكان على جانب من الذكاء والفطنة والعلم، وكان يتكلم اللغة العربية بطلاقة؛ وقيل: إنه ألف كتابًا في الفقه المالكي.

قام ((منسا موسى)) هـذا برحلة إلى المشرق الإسلامي لأداء فريضة الحج سنة 1324م فتركت في العالم كله صدىً كبيرًا لما تميزت به من أبهة؛ ولما قيل عن ثروة هـذا الملك الأفريقي، ومما زاد في صدى هـذه الرحلة أن منسا موسى اصطحب معه ستمائة رقيق كانوا يحملون على ظهورهم الذهب والتبر الخالص، وأنه أنفق أموالًا طائلة على المساكين والمعوزين بمكة والمدينة .

ولم تقتصر هـذه الرحلة التاريخية على جانب أداء المناسك؛ بل إلى جانب ذلك كانت رحلة تبادل ثقافي في واسع النطاق؛ أولى((منسا موسى)) خلالها عناية خاصة بالعلماء، فاتصل بنخبة منهم بالقاهرة التي عرج عليها، فتباحث معهم حول قضايا مختلفة تهم العالم الإسلامي، كما اهتبل فرصة وجوده في تلك الديار المعروفة بالعلم لاقتناء كمية وافرة من كتب فقه المالكية ، وأبدى اهتمامًا خاصًا بالفن المعماري الإسلامي الأصيل، فاتصل خلال تنقلاته في المغرب والمشرق الإسلاميين بمهندسين معماريين للاستفادة بهم والأخذ عنهم.

وقد نجح فعلًا في إبرام عقد عمل مع أحد المهندسين المعماريين من عرب الأندلس ، هـو الشاعر أبو إسحاق الساحلي الأندلسي انظر بهذا الصدد كتاب السيد حسن إبراهيم ( انتشار الإسلام في القارة الأفريقية ) حيث يقول فيه : إن الفضل يعود إلى أبي إسحق في إدخال فن البناء بالآجر في غربي السودان، وقد وافته المنية أثناء عودته إلى بلاده.، الذي قبل أن يصحب ((منسا موسى كانكو)) إلى مملكته حيث أشرف على تشييد مبانٍ عمومية عديدة في كل من ( نيامي )، عاصمة مالي يومذاك، وفي مدن أخرى هـامة من تلك البلاد.

ولما أنهى أبو إسحاق المهام المنوطة به، وصله((منسا موسى)) بصلات باهظة تقدر باثني عشر ألف مثقالٍ ذهبًا ! واقتدى بـ((منسا موسى)) خلفاؤه، فاعتنوا بالعلم وأهله؛ وكان ابن بطوطة ، الرحالة المغربي، الذي زار مملكة مالي سنة 1352م، أيام حكم (( منسا سليمان ))-أخي موسى كانكو- شاهد عيان للنهضة الثقافية والعمرانية، وانتشار الإسلام والرقي الاجتماعي في مالي، حيث يقول:

((إن أهل مالي كانوا يربطون أولادهم بالقيود ولا يفكون وثاقهم إلى أن يحفظوا كتاب الله عن ظهر قلب))

وبخصوص التشبث بالعبادات يقول الرحالة المغربي:

((إذا كان يوم الجمعة، ولم يبكر المرء إلى المسجد فإنه لن يجد مكانًا يصلي فيه، وذلك لشدة الزحام وكثرة إقبال الناس على أماكن العبادة.

أما استتاب الأمن فحدث عنه ولا حرج، فقد كان أهل مالي يتمتعون بمستوىً أخلاقي رفيع، لدرجة أن المرء لا ينزعج إذا ما ضاع له مباع لأنه متأكد من العثور عليه حيث أضاعه؛ سالمًا من أي أذى))

ومن خلال شهادة ابن بطوطة نستطيع أن نتعرف على ملامح الإسلام في مملكة مالي، وعلى مدى تمكنه من نفوس شعب ( ماندين ) حيث أصبح دين الدولة الرسمي.

إلى جانب السلطة الرسمية المتمثلة بملوك مالي أنفسهم، فإن الموجات البشرية التي هـاجرت من مالي في أوج عظمتها نحو غامبيا وغينيا بيساو بزعامة أحد جنرالات ((سون جاتا كيتا))، هـو (( تيراما خان تراوري )). ((TIRAmA KHAN TRAOURE)) ((الذي حمل جنوده معهم الديانة الإسلامية خلال حماتهم في (( جولوف )) وغامبيا وجنوبي السنغال، ثم توالت هـجرات الجماعات من مالي نحو ما يعرف بـ (( تليجي ))TILIDJI)) ((أي الغرب، وخصوصًا بعد اضمحلال هـذه المملكة في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.

حيث رحل عدد كبير من مسلمي مالي إلى غامبيا وغينيا اللتين كانتا تابعتين له، يضاف إلى هـذه الهجرات دور التجار الماندينكيين المعروفين بـ((جولا)) وكان لهؤلاء دور في نقل الإسلام إلى المناطق الغابوية الصعبة الولوج للمزيد من الاطلاع على دور جماعة ماندين في نشر الإسلام بجنوبي السنغال، راجع مذكرتنا المقدمة لنيل دبلوم المدرسة الوطنية للإدارة والقضاء بعنوان : تأملات حول الإسلام لدى ماندين في كاسا منبسا ـ سنة1978م داكار ـ باللغة الفرنسية.

ظهور الإسلام في السـنغال

وقد ضربنا صفحًا عن ذكر مملكة (( سنغاي )) التي قامت على أنقاض مملكة مالي، والتي قام ملوكها بنشاط هـام لنشر الإسلام بغربي أفريقيا، ويعتقد أن شأنها شأن مالي، كانت تحكم بعض أجزاء السنغال خصوصًا شماليّه؛ (( فوتا )) التي تعتبر أول منطقة تمكن فيها الإسلام في هـذا البلد منذ بداية القرن العاشر الميلادي.

وقد يكون (( وارانجاي OURAN'DJAYE)) أول أمير سنغالي يعتنق الديانة الإسلامية. وقيل: إن ابنه (( لابي LABI)) الذي اعتلى العرش بعد وفاة والده، كنت له يد طولى في انتصار المرابطين سنة 1056م على خصومهم من قبيلة ((أكدالة)) البربرية.

وباستثناء شرقي وجنوبي السنغال -للأسباب التاريخية السالفة الذكر- فإن باقي مناطق البلاد مدين لـ((فوتا)) بإسلامه.

العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام في السـنغال

تضافرت عدة عوامل فساعدت على انتشار الإسلام سلميًّا في القطر السنغالي، وكان بعضها عائدًا إلى طبيعة الدين الإسلامي نفسه، وبعضها الآخر راجعًا إلى عوامل استجدت في الساحة السنغالية. ونتعرض فيما يلي لأهم تلك العوامل:

جاذبية العقيدة الإسـلامية

تستهوي الأرواحي نحو الإسلام وحدته وتجانسه وتناسقه وتماسك المسلمين وتشابههم؛ إذ يتقاسم جميع أفراد الجماعة الإسلامية عقيدة واحدة وعبادات متحدة لا تتغاير مهما تباين مكان وزمان ممارسيها، ومهما تباعدت أصول ولغات وألوان وظروف حياة أتباعها.

لهذا اعترف ( أنتيامبا ANTIAmBA - ) من جماعة (دوغون (DOGON ) دوغون قبيلة في جمهورية مالي مشهورة بصناعة الأقنعة.

بعد تجوال طويل في عدد من القطار أحس أثناءه بالعزلة التامة والغربة والوحشة، وكان سبب ذلك بعده عن موطنه الأصلي الذي بمجرد أن غادره بدأ اعتباره أجنبيًّا في معتقده وفي طقوسه الدينية وعاداته حيث لم يشاهد أحدًا يمارس ما يمارسه، فلا يشارك أحدًا من الأرواحيين من مناطق أخرى في العبادة، والعكس بالعكس -قائلًا: ((يسوغ أن يكون الخطأ وحده المتعدد)) فروليش : مسلمو أفريقيا السوداء:ص91.

الرقي الاجتماعي الذي يخولّه الإسلام لأتباعه

علاوة على هـذه الوحدة الروحية فإن الإسلام يهيئ للفرد المسلم نوعًا من التفتح على العالم يكفل له استعدادًا فكرياًّ يوفر له عوامل تساعد على الرقي الاجتماعي، ويدفعه إلى التطلع إلى حياة أفضل، ويخرجه من وضع اجتماعي وثقافي واقتصادي متدن إلى وضع أعلى وأرقى: يبدأ أولًا من المظهر الخارجي؛ ملابس بيضاء ناصعة نظيفة جميلة تروق ناظريها، وجسم نزيف يفوح بالعطر يتعهده المسلم على مدى اليوم بالوضوء، ومساكن راقية -بالقياس إلى مساكن الأرواحي- ينبعث منها من حين لآخر أريج البخور… ويتعاطى المسلم النشاط التجاري مما سمح له أن يكوّن مركزًا اجتماعيًّا بفضل ثروته، أضف إلى ذلك أن المجتمع الإسلامي مهما كانت بساطته يتوفر على مؤسسات عمومية يتعهدها جميع أعضاء الجماعة دون تمييز: مساجد وجوامع ومدارس ومجالس العلم مما لا نظير له في المجتمع الأرواحي، ولا يحسن إهمال دور معرفة القراءة والكتابة التي يتمتع بها بعض أفراد المسلمين، فهما لغزان طالما حيّرا عقل الأرواحي الذي ظل يتطلع إلى كشف كنههما لأنهما الطريق الموصل إلى مصافّ الإنسان المتطور.

سهولة وبساطة العقيدة الإسلامية

على أن سهولة وبساطة عقيدة الإسلام ساهمتا في انتشاره بسرعة، فالإيمان بوحدانية الله تعالى، والاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والالتزام بمقتضى هـذه العقيدة يجعل المرء كامل العضوية في الجماعة الإسلامية دونما قيد أو شرط، حيث إنه غير مطالب أن يتخلى عن زوجاته التي لا تتجاوز الأربع…

الصلاة جماعة

إن للصلاة جاذبيتها الكبيرة خصوصًا حين تؤدي جماعة: يؤُم الإمام الجماعة، ويرتل آيات من الذكر الحكيم، وعندما يقوم بحركة يتبعه المأمومون بحركات منسقة ومنظمة لا تصاحبها ضوضاء ولا صخب ولا هـرج، خلاف ما يقترن بطقوس الأرواحيين من فوضى…

دور التجار المتنقلين

لا يقل دور التجار شأنًا في هـذا المجال عن غيرهم؛ فهؤلاء وإن لم يكونوا دعاة متخصصين فهم أثناء عرض بضائعهم على الأرواحيين كانوا يقومون بالدعوة إلى الإسلام حيث يتعرف غير المسلم إلى الأصهار إلى دين أزواج بناتهم.

فهكذا استطاع التجار المسلمون ((جولا))المتنقلون تبليغ الدعوة إلى المناطق النائية و ((الغابوية)) من مجاهل أفريقيا، مما يفند المزاعم القائلة : إن الإسلام وقف على تخوم الغابات الكثيفة حيث لا تتجاسر أفراس العرب على التوغل فيها؛ زد على ذلك أن هـذه الأفراس ـإن وجدت في بعض مناطق القارة الأفريقيةـ لم تقم بأدنى دور في نشر الإسلام بغربي أفريقيا.

وكان جولا [DIOULA ] ولا يزالون يجوبون أرجاء غربي أفريقيا كلها، ويتصلون بشعوبها، وكانوا متخصصين في تجارة ثمرة ((كولا)) [KOLA ] وهي ثمرة شجر ينبت في المناطق الغابوية يلاحظ أن ثمرة ((كولا)) مقدسة لدى عدد من الشعوب غربي افريقيا، تقدم كهدايا، وتوزع بعد المآدب، وتكون جزاء هـاما من أدوات متعاطي الطلاسم، وتوضع على أضرحة من يعتقد فيهم الولاية، والاسم العربي الصحيح لها، هـو البندق الأفريقي، ويطلق عليها في بعض الأوساط الإسلامية المتعلمة كلمة : طنبول ولا أعتقد أنها هـي البندق الأفريقي، ويبدو لي أن استعمال كلمة ((كولا)) أقرب إلى الفهم عند الحاجة ، ومن المسلم به أن إشعاع الإسلام بدأ في المناطق الحضرية حيث كانت المراكز التجارية وطرق القوافل والمدن الهامة يروج فيها التبادل التجاري.

دور الشيوخ في نشر الإسلام في السنغال

لقد ثبت تاريخيًّا أن التجار المتنقلين ((جولا)) [DIOULA ] قاموا بنشر العقيدة الإسلامية أثناء أسفارهم وتجوالهم، لكن الدور الأول يرجع في ذلك إلى شيوخ أفارقة وعرب وبربر أبلوا البلاء الحسن في هـذا المجال، فقد ((عم الإسلام في المنطقة ـغربي أفريقياـ بفضل شجاعة وتفاني هـؤلاء الرجال المتواضعين من الشيوخ المخلصين المجهولين الذين كانوا يسلكون أوعر المسالك، حاملين عيابهم المليئة بالزاد والكتب)) سيدوباجان كوياتي، تعرض له مونتي في كتابه : الإسلام الأسود، المشار إليه سابقا.

وقد لاحظ أوروبيون كانوا يقومون بزيارة السنغال في القرن الخامس عشر الميلادي، حضور شيوخ من المغرب وتلمسان وموريتانيا في بلاط كل من ملك (( كاجور وجولوف وسين وسالوم ))… ويذكرنا هـذا الحضور بوجود المسلمين في قصور ملوك غانا ، وكذا بسبب اعتناق أمير مالي الإسلام على يد شيخ كان في عاصمته أثناء أزمة حادة.

وكانت الجالية الإسلامية في القرن الخامس عشر الميلادي ذات شأن كبير في مختلف أقاليم السنغال، فلاحظ أحد الرحالة الأوروبيين سنة 1506م أن ((ملك وأعيان إمارة (( جولوف )) كانوا مسلمين، ولديهم شيوخ بيض من أئمة ودعاة الإسلام، وكانوا يعرفون القراءة والكتابة، ويأتي هـؤلاء الشيوخ من بلدان بعيدة من الداخل، ومن مملكة فاس والمغرب (كذا) ويقدمون بهدف إدخال السود إلى عقيدتهم عن طريق الدعوة)) شيخ تجاني سي : الطريقة السنغالية للمريدين La confrerie Senegalaise desMourides p.35.

وكان الشيوخ يقومون بالدعوة إلى الإسلام دونما قلق أو إزعاج يأتيهم من طرف السلطات الرسمية؛ ذلك بأنهم كانت تحيط بهم هـالة من التعظيم، فعلى الرغم من كون غالبية الأمراء لا يدينون بالإسلام، وكون المسلمين أقلية، فإن الأرواحيين على مختلف نحلهم ومللهم يحترمون الشيوخ ولا ينالونهم بسوء، وقد أشار إلى هـذه الحقيقة (( موللين )) [mOLLIEN ] أثناء زيارته لبعض أقاليم السنغال في القرن التاسع عشر: ((يحصل الإسلام كل يوم على تقدم، وسيصبح قريبًا الدين الوحيد لإقليم (( كاجور ))؛ إذ بقي القصر وحده متشبثًا بالوثنية)). ويعلل ((موللين)) نجاح الإسلام بـ ((الحصانة التي تجعل شخص الداعية المسلم مقدسًا عند الأمراء الوثنيين، مثل ما هـو محترم لدى المسلمين، مما يساعد على انتشار الإسلام عند هـذه الشعوب.)) شيخ تجاني سي: الطريقة السنغالية للمريدين La confrerie Senegalaise desMourides p.35.

وخليق بنا أن نتدارك هـنا أن كلمة شيخ التي تقابل [mARRABOUT ] بالفرنسية، هـي عكس كلمة ((تبدو)) [TIEDO ]، التي تعني: الشخص الذي يشتغل بالعبادة، والدعوة ، وتكوين الناشئة، والذكر، وكبح الأهواء، والبعد عن المرح، والزهد في حطام الدنيا؛ ولا يتعاطي كل ما من شأنه أن يحدث فصلا بينه وبين نشاطه الديني.

طائفة ((تيدو))

كلمة ((تيدو)) هـذه لدى جماعة ((ولوف))تقابل ((سونينْكي))عند جماعة ((ماندنيكي)) وتعني: الخبث والوحشية والدناءة والخشونة والكفر، وهي فئة كانت ـ كما لا حظ (( بولان ))ـ : منتشرة في مختلف أنحاء السنغال وتشكل ((ميلشيات)) السلطات القائمة آنذاك، وكانت تعيش على السرقة والنهب وتمارس كل أنواع المنكرات والموبقات.

ويبدو لأول وهلة من التناقض الفاضح أن يعتبر أشخاص هـذه صفتهم مساهمين في نشر الإسلام، ولكن معرفة علاقة هـؤلاء بشعوبهم، وتصرفاتهم القاسية تجاهها، توضح جليًّا مدى دورهم عن غير قصد منهم في الدعوة إلى الإسلام، والتفاف الناس حوله، وذلك أن طائفة ((تيدو)) كانت تسطو على ممتلكات وأرواح ((بادولو)) بادولو بلغة ((ولوف)) تعني : الضعيف المغلوب على أمره؛ وتطلق على عامة الشعب.

بسبب وبدون سبب، وتتحكم في حياتهم، وتتصرف فيها كل حق، وتثـقل كواهلهم بالضرائب التي يحلو لها أن تجبيها، ثم لا تمر إلا فترة وجيزة على ذلك حتى تعاود الكرة لتستولي على كل ما تقع عليه يدها من أموال وأمتعة وأثاث…

ولقد بلغت من غطرسة ( داو دمبا [DAW DEmBA ] ـ 1640 - 1647م )، أحد ملوك تيدو، أنه كان((يمنع السود ـ رعاياه ـ من الزواج)) ويطرد العجزة من حضرته، ويحظر على ((بادولو)) ارتداء السراويل، وتمليح ((الكسكس)) لأن الملح صالح للأمراء -وحدهم- ولم يهيأ لعامة الشعب.

وقد صور (( مير MAIRE)) ـ الذي زار إمارة ((والو)) في القرن السابع عشر الميلادي بشكل بشع استبداد (( براك BRAK))، ملك تلك الإمارة، حيث قال: ((إذا لم يتمكن -أي براك- من استعمال الاستبداد تجاه البلدان المجاورة فإنه يمارسه ضد شعبه؛ كان يجوب البلاد، يقيم يومين في قرية وثلاثة أيام في أخرى؛ حيث يكلف أهل القرى بتغذيته هـو وحاشيته المكونة من مائتي خبيث… ولأتفه إساءة يخربون القرى ويسترقّون بعض أهلها.)) شيخ تجاني سي : الطريقة السنغالية للمريدين La confrerie Senegalaise desMourides p.35.

من خلال استبداد وقساوة ((تيدو)) برزت الدعوة الإسلامية أمام ((بادولو)) منقذًا لهم مما هـم فيه، وحصنًا يصونهم من غلبة وقسر السلطة الاستبدادية، فكانت قرى وبيوت الشيوخ ملجأً للمستضعفين ومأوى لعامة الشعب.

لذلك كلما تفاقمت ضغوط ((تيدو))، تكاثف إقبال الناس على الإسلام وارتفع إحساس المسلمين بضرورة الذب عن الحق وحماية ((بادولو))حتى أصبح الاصطدام بين الطائفة الإسلامية وأنظمة ((تيدو)) أمرًا لا مناص منه.

ولم تكن دواعي تلك النزاعات المسلحة -في أغلب الأحوال- إكراه الناس على اعتناق العقيدة الإسلامية، بل كان الدافع الموضوعي حماية المجتمع السنغالي ككل، والدفاع عن كيان الجماعة الإسلامية بصفة خاصة.

وكان كلما ازدادت قوة أتباع الإسلام، نما خوف طائفة ((تيدو)) وصعَّدت مناوشتها للمسلمين. ولعل الحادثة التي تعرض لها الشيخ (( مابا جاخو با ))، وهو يومئذٍ طالب لدى أحد الشيوخ في ((كاجور)) من الدلائل على أسلوب القسر عند ((تيدو)).

وملخص الحادثة أن الشيخ ((مابا جاخو با)) كان يعمل يومًا في ضيعة شيخه فإذا بأحد أفراد ((تيدو)) يسطو على الضيعة لاختلاس الغلال والأموال منها، فتعرض له الشيخ وما كان سوى جولات حتى أردى المعتدى قتيلًا.

وتدخل في هـذا الإطار ثورة الشيخ (( سيلا با ـ [CHEIKHSYLLABA])) بإقليم كازا منسا، التي تعود أسبابها إلى أن قد تكون جماعة ((بينونك)) أولى سكان جنوبي السنغال المعروف باسم كازا منسا.

((بينونك)) [BAINOUNK ] ـ وهي صاحبة السلطة في تلك البلاد ـ كانت تحول بين ((سيلا)) وتلامذته وأفراد الطائفة الإسلامية كافة في المنطقة وبين ممارسة شعائر الإسلام.

وكان يأتي بعض أفراد ((بينونك)) وقت الإفطار في شهر رمضان فيصبون الخمور على موائد المسلمين، وأمام تعنت وتمادي هـذه الجماعة الطائشة اضطر الشيخ ((سيلا)) لمنازلتها وإعلان الجهاد المقدس ضدها، فانتصر عليها ومزقها شر ممزق، وكانت تلك الانتفاضة سببًا لانتصار الإسلام وانتشاره بجنوبي السنغال.

وحتى الإدارة الفرنسية الأجنبية كانت قد شجبت قساوة نظام ((تيدو))، وامتدحت جهود الشيخ ((مابا جاخو))، الذي كانت تعتبره ألد أعدائها، وذلك لدور هـذا الشيخ في استتاب الأمن في (( شالوم وسين ))، وعمله لتوفير الكرامة لشعبه، ودوره في ترسيخ قواعد العدالة في المنطقة التي كانت تحت نفوذه (أعتقد أن الثورة الماضية باسم الحضارة الإسلامية ضد الطغيان الأعمى ووحشية ((تيدو)) ستكون مقبولة لدى شعب ((ولوف)) الخاضع للحيف ) ((بيني لا براد)) : أحد حكام فرنسا في السنغال، كان قد دارت بينه وبين الشيخ مابا جاخوبا معارك ضارية كانت سجالا بينهما.

وهذا الكلام صادر من أحد أقطاب الاستعمار الفرنسي في السنغال؛ الذي لم ير بدّا من تعرية نظام ((تيدو)) الغاشم.

ويشير بعض المؤرخين إلى أن الأمير (( لاتجور LATDIOR)) لم يخذله قائده العسكري (( دمبا وارسال DEmBA WAR SALL)) إلاّ عندما حرم عليه وعلى أتباعه النهب والغصب والسطوة على أموال ((بادولو)).

ومن نافلة القول: الإلحاح على التدليل بأن المسلمين لم يحملوا السلاح لفرض دينهم على غيرهم بغربي أفريقيا، وإنما انجذب إلى الإسلام أناس نالوا من حيف وجور سلطة لا تدين بدين ولا تحترم عهدًا ولا ترضخ لسلطان قانون…

وكفى برهانًا على ما نقول؛ مراجعة الأوضاع السائدة في مختلف أقاليم السنغال، وخصوصًا في فوتا في القرن الثامن عشر قبل حركة الشيخ سليمان بال ، حيث نجد أن الظلم قد طفح والاستبداد بلغ كل مبلغ، ولم يصبح هـناك مندوحة سوى الاحتكام إلى حد السيف، ومما جعل الأمر يستفحل في فوتا أن حكامها (ساتيك ) [SATIK ] وهنوا واستكانوا إلى حد التنازل عن بعض سيادة البلاد لصالح جيرانهم من ترارزة منطقة في موريتانيا، مجاورة لـ ((فوتا تورو)).

والبيع في أسواق النخاسة. قام الأفارقة بدور في هـذه التجارة، حيث كانوا يبيعون بني جلدتهم غلبة وظلما.

ولما قويت شوكة (تور ودو ) [TORODO ] كلمة تورودو تطلق على النخبة المتعلمة من سكان فوتا تورو، التي كانت تكون الأرستقراطية الحاكمة في نظام الإمامة : الذي أقامه الشيخان : سليمان بال، وعبد القادر كان واستتب الأمر للمسلمين في فوتا ، وقامت دعائم الإمام (( ألماميا )) ((ألماميا)) أطلقت على أنظمة قامت في فترات متقاربة ومناطق متجاورة في ( فوتا جالون) غينيا حاليا، و( فوتا تورو) في السنغال؛ ويطلق على القائم بالأمر في تلك الأنظمة اسم (ألمامي) وهو تحريف لكلمة : الإمام.

، لم يفرض النظام الجديد عقيدة الإسلام على أحد، بل انصب اهتمامه على تعمير البلاد وتصعيد الدعوة إلى العقيدة الإسلامية، وتشييد المؤسسات الدينية، والسهر على مصالح رعاياه، وحمايتهم من تعسف الطغاة والظالمين، وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية على الحياة العامة.

حدثت عدة انتفاضات إسلامية في مناطق مختلفة من السنغال خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين ضد استبداد ((تيدو)).

ففي جنوبي السنغال قامت حركة إسلامية كبيرة باسم ((كاندايا [KANDAYA])) وخصوصًا بمنطقة (( باكاو [PAKAO ]))، وكانت رد فعل لظلم وتعسف ((سونينكي [SONINKE ] وكان القبطان)) بوللتيه [PELLETIE ] قد عايش جانبًا من تلك الحركة سنة 1843م فكتب عنها يقول: ((لم يصبح لـ (سونينكي) قيمة اليوم، حيث قتل المسلمون منهم قسمًا كبيرًا، والقليل الباقي منهم قَبِلَ بسيطرتهم، ولم يعد ملك (بوتيه BOUTHIE ) ذا وزن، شأنه شأن ( سونابا SOUNABA) زعيم (سندنير SANDINIER) الذي أعلن إسلامه)) كرستان روش : غزو ومقاومة شعوب كازا منسا CONQUETE REISISTANCE DES PEUPLES DE CASAmANCE.

ومما يؤسف له حقًّا أن نرى بعض المثقفين السنغاليين لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة وتدبر طبيعة النزاعات المسلحة التي دارت رحاها بين الطائفة الإسلامية وطغمة ((تيدو))، ففاتهم إمعان النظر في ملابسات تلك الحقبة الخطيرة من تاريخنا سيأتي الكلام على هـذا في الفصل المخصص للحركات الإسلامية.

، فانزلقوا يصفون حروب المسلمين الدفاعية بعدم الشرعية ؛ متأثرين بالنزعات الاستعمارية المعادية للإسلام التي كانت تبث السموم لتثبيط هـمم أبناء الإسلام حتى لا ينهضوا للدفاع عن حوزة دينهم، وفضلًا عن ذلك فقد قام الاستعمار بمحاربة حركات المقاومة الإسلامية الهادفة، وشجب مواقف قادتها البطولية، وقذف أعمالهم بكل أنواع القدح والقذع، وشوّه سيرة كل زعيم مسلم عارض مشاريع الاستعمار والاستغلال، فاتهم بعضهم بالاستبداد ، وبعضهم الآخر بالقسوة واستغلال الإسلام لأغراض شخصية… ومن هـنا وقع الأستاذ (( شيخ توري ))، رئيس الاتحاد الثقافي سابقًا في حبائل الدعاية الاستعمارية حينما صرح أمام مؤتمر عقد في مدينة (( أبيدجان )) في إبريل سنة 1962م قائلًا: ((إن كل الحروب التي حدثت في أفريقيا منذ وصول الإسلام حتى الآن مستنكرة وقابلة للانتقاد)) فنسان مونتي في كتابه : L'ISALm NOIR

هذه النسب بخصوص تكاثف الجماعات في السنغال تقريبية؛ إذ لا تعتمد على إحصاءات رسمية، وإنما اعتمدنا فيها على تقديرات عامة وملاحظة كثافة وجود جماعة من تلك الجماعات في منطقة ما فقدرنا نسبة عدد أفرادها بالقياس إلى الجماعات الأخرى.

الحركات الإسلامية في السنغال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر

هـناك حقيقة لا مناص من ذكرها: وهي أن الإسلام لم يتم انتشاره في السنغال بفعل أعمال عسكرية، وإنما عمّ هـذا البلد بفضل تضافر عدة عوامل سبقت الإشارة إلى بعضها، ولا ينبغي لأي دارس بجدية أن يعبأ بادعاء ( ديشام ) [DESCHAmPS ] القائل: ((إنَّ الإسلام لجأ أحيانًا إلى الغزو الوحشي -كذا- وقد جرّ تعصب وكبرياء الفاتحين إلى احتقار الوثنيين وإخلاء سبيلهم ليعيشوا، وتارة إلى استعبادهم، وحينًا آخر إلى ترك الخيار لهم بين الإسلام والموت)) ديشام : أديان أفريقيا السوداء Deschamps:Les Religions D'Arique NOIRE.

على أنَّ التاريخ يفند هـذه المزاعم بشهادة المستعمرين أنفسهم الذين اضطروا إلى الاعتراف بأهمية وعدالة الحركات الإسلامية ((أعتقد- يقول (( لا براد )) - أن الثورة الماضية باسم الحضارة الإسلامية ضد الطغيان الأعمى ووحشية ((تيدو)) ستكون مقبولة لدى شعب ((ولوف)) الخاضع للحيف)) ( بيني لا براد) حاكم سابق لمستعمرة السنغال.

كانت هـذه الوحشية التي يتحدث عنها ((بيني لا براد)) أحد العوامل التي تسببت في قيام ثورات المسلمين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.

ومن قدر الله عز وجل أن تلك الحركات الإسلامية على اختلاف أرضية انطلاقاتها ظهرت في فترات تاريخية متقاربة نسبياًّ، واستغرقت مدى قرن ونصف القرن، وبرزت جميعها بعد انحلال وانقراض الإمبراطوريات: غانا ومالي وسنغاي بغربي أفريقيا، وبعد انقطاع الصلات بين ضفتي الصحراء الكبرى تجدر الإشارة إلى أن بعض رجال الدولة المسلمين في غربي أفريقيا حولوا تجديد الاتصال بدول المغرب العربي، من ذلك مثلا: قيام ( أحمد الشيخ ) أحد سلاطين دولة ( الدينة ) في ( ماسينا ) بالكتابة إلى السلطان سيد عبد الرحمن أحد ملوك الدولة العلوية، وإلى العثمانيين في الجزائر لتقديم ولائه لهم، لكن رسائله ضاعت في رمال الصحراء، ولم تصل إلى أصحابها.

إثر اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وتحول النشاط التجاري عن بعض أطراف البحر الأبيض المتوسط، مما ساهم إلى حدّ ما في زعزعة دول شمالي أفريقيا، ونجم عن هـذا الوضع انصراف الأنظار عن ذهب ( بلاد السودان ) أي: غربي أفريقيا.

ومما زاد الطين بلة أن تزامن ذلك كلّه مع سقوط مدينة (( تمبكتو )) الشهيرة بالعلم على يد القائد العسكري المغربي (( جودر باشا )) والباشوات الذين حكموا هـذه المدينة من بعده، وكانت سيطرتهم على ((تمبكتو)) عامل تقهقر حضاري ، وتدهور اقتصادي ، وتأخر ثقافي ، لما كان لـ((تمبكتو)) من مركز إشعاعي هـام، ولكونها هـمزة وصل بين شماليّ أفريقيا وغربيّها؛ كما كانت محط رجال العلم، وموطن علماء كبار من سود وبيض، ومنار هـداية يقصدها طلبة العلم من كل حدب وصوب.

ولما استولى عليها((جودر)) ورجاله حوَّلوها إلى شبح مخيف، يعيث فيها العسكر فسادًا، ويفشون فيها الفجور؛ الأمر الذي جعل الحركة العلمية والثقافية تتردّى وتتدني، واصطدمت طغمة الباشا ((جودر)) بعلماء المدينة فأبعدت بعضهم من علماء تمبكتو الذين أبعدوا عنها : العلامة أحمد بابا السوداني، الذي لاقى الأهوال أثناء نقله لى مراكش، عاصمة أحمد الذهبي، وقد انكسرت رجله خلال الرحلة وقد تصدر للتدريس في جامع الكتبية بمراكش إبان وجوده في جنوبي المغرب كأسير...
ولا يخفى على أحد دور المغرب والمغاربة في ترسيخ دعائم العقيدة الإسلامية في غربي أفريقيا، حيث كانت دور العلم فيه ولا تزال، خاصة جامعة القرويين بفاس، محط رحال طلبة العلم من الأفارقة المسلمين، ومناهل عذبة للعرفان؛ وكاتب هـذه السطور واحد ممن درسوا في هـذه الجامعة سنتين كاملتين، ولا يبرح يحتفظ بذكريات عطرة عنها.

، واضطهدت بعضهم الآخر، الأمر الذي أدّى إلى اتساع رقعة الانقطاع بين شمالي وجنوبي الصحراء الكبرى؛ وكان لذلك كله انعكاسات وانتكاسات على الساحة الإسلامية في السنغال ، ثم تزامن ظهور المغاربة في مملكة سنغاي مع تقهقر الدعوة الإسلامية بغربي القارة الأفريقية، لأن هـذه الدولة كانت قاعدة قوية لنشر الإسلام حيث نشطت فيها الحركة الإسلامية تحت رعايتها.

أضف إلى ما سبق: تحوّل الأنظار عن بعض مناطق البحر الأبيض المتوسط بفعل تصاعد القوى الصناعية الناهضة بأوروبا ؛ التي أصبحت تتطلع إلى كشف أسواق جديدة توزع فيها منتجاتها الصناعية، ولتضمن توفر المواد الخام لمصانعها، وفي الوقت ذاته كانت ترنو بنهم إلى أراضي ما وراء البحار للاستيلاء عليها، واستغلال ثرواتها الطبيعية، واستعباد شعوبها.

وكانت مملكة سنغاي تستقطب شعوبًا عديدة من غربي أفريقيا، وتسيطر على أراضٍ شاسعة، وبعد انقراضها تفككت إلى إمارات ومشيخات صغيرة لا يضم بعضها إلاَّ رقعة من الأرض يسيرة، فتحولت غالبية حكوماتها إلى أنظمة استبدادية ، تمارس ضد شعوبها أبشع صور الطغيان ، فحينئذٍ ازداد شعورالمسلمين بالظلم، ونما إحساسهم بالاضطهاد الذي أصبحوا موضعًا له، فقاموا بمناهضته، وزاد من مقاومتهم له أنهم ينتمون إلى عالم يغاير عالم الأرواحية والاستبداد ، وكان لا بد والحالة هـذه من تغيير الوضع لصالح الجماعة الإسلامية.

ويسوغ تلخيص أهداف وأسباب قيام الحركات الإسلامية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين فيما يلي:

  • حماية المسلمين من ظلم وغطرسة ((تيدو)).
  • صيانة استقلال البلاد والحيلولة دون المساس بسيادتها.
  • محاولة إعادة الوحدات السياسية على غرار مملكتي مالي ، وسنغاي .
  • إعادة الكرامة الإنسانية لإنسان هـذه المنطقة دون نظر إلى أصوله ومعتقداته بعد أن كانت كرامته مداسة من قبل نظام ((تيدو)).

وكانت الحركة الإسلامية هـذه على وشك إنجاز أهدافها لولا أن عاجلها الاستعمار الصليبي الغربي، وفوّت على الإسلام فرصة ذهبية للانتشار الكلي في غربي أفريقيا، ولو انتشر الدين الإسلامي على يد سلطة زمنية تسهر عليه وترعاه لما عرف ما يعرفه النوم من تحريف وتشويه؛ لأنَّ وضعه الحالي ناجم عن كونه انتشر في ظل أنظمة كانت تجهد نفسها للإجهاز عليه، وعندما استعصى ذلك عليها، رحبت بكل ردّة إلى الأرواحية ، أو أي تحريف يموّه حقيقته وينحرف بالمسلم عنه.

بهدف تصحيح الأوضاع قامت الحركة الإسلامية في ( فوتا تورو ) وتأسست إثرها الإمامة ما بين عامي 1776م و 1881م.

وخليق بنا أن نبيِّن أن من مزايا هـذا النظام بعده عن الاستبداد، حيث كان يشترط فيمن يتقلد مهام الإمامة ((ألماميا)) أن تتوفر فيه صفات: العلم والاستقامة والتقوى ، والورع ، فضلًا عن أن المنصب غير وراثي؛ يتطاول إليه كل من اجتمعت فيه شروط الإمامة .

لا غرو حينئذٍ أن تحقق الإمامة في ((فوتا)) إنجازات في ميادين شتى: فقد حرمت النخاسة في أراضيها رفض الإمام ( ملك بول ) هـدايا الشركة، محرما بيع رعاياه، ومانعًا مرور قوافل العبيد شيخ تيجان سي المشار إليه سابقا.

وشجعت التعليم، واعتنت بمجالس العلم، وابتنت المساجد، وابتعثت طلبة العلم إلى موريتانيا المجاورة… ولم تكتف الإمامة بنشر العقيدة الإسلامية في ((فوتا)) فحسب بل عملت على توسيع دائرة الإسلام إلى ما وراء حدودها السياسية حيث انطلق الدعاة نحو الأقاليم المجاورة لدى شعبي ((ولوف وسيرير)) فأحرزوا نجاحًا أيما نجاح.

وأعطت ((فوتا)) السنغال عددًا من كبار رجالات السياسة والفكر والحرب من الطراز الأول، أمثال : الحاج عمر الفوتي ، والشيخ مابا جاخوبا ، والحاج مالك سي ، والشيخ أحمد بامباو ، والشيخ موسى كامارا ، وغيرهم…

الداعية الحاج عمر بن سعيد المعروف بالحاج عمر

(1212-1281هـ 1795-1864م)

ولد الحاج عمر ببلدة هـلواربمنطقة (( فوتاتورو )) سنة 1212 هـ وتوفي في كهف (( ديغمبري )) 1281هـ.

درس الفوتي في مقتبل عمره مبادئ اللغة العربية بعد حفظه لكتاب الله تعالى، ثم تفقه في المذهب المالكي السائد في غربي أفريقيا وشماليها، حتى نال حظاًّ وافرًا، وفي ريعان شبابه شدّ الرحال صوب (( فوتا جالون )) ( غينيا ) لطلب العلم، وما برح حتى يمم نحو الشرق الإسلامي لأداء فريضة الحج، فأقام في الأراضي المقدسة ثلاث سنوات أو يزيد، التقى خلالها بكبار علماء الحجاز ، ومن ثم عرج على مصر حيث اتصل بشيوخ الجامع الأزهر الشريف، ولا نعرف ما إذا كان الفوتي تتلمذ على علماء الجامع الشهير، غير أن من المحتمل أن يكون قد استفاد مما شهده في أرض الكنانة؛ لأنَّ هـذه البلاد بدأت تحتك بالغرب بعد حملة نابليون ، ولا يستبعد أن نطلع الزائر السنغالي على معلومات تتعلق بتقدم أوروبا المادي الذي جعلها تبيت النيّة وتعمل على إخضاع البلدان الإسلامية لسيطرتها.

وبعد عودة الفوتي إلى بلاده كان يقول بصدد النصارى : ((إذا أتى البيض بالبضائع فعليهم أن يدفعوا رسومًا مرتفعة، وعندئذٍ يستطيعون الاتجار معنا بسلام)) انظر كتاب شيخ تيجان سي : L'A Confererie SENEGALAISES DEMOURIDES

إن احتكاك الفوتي بعدّة شعوب إسلامية في القرن الثالث عشر الهجري، ومعرفته الدقيقة بأحوالها، ودراسته الطويلة للتاريخ الإسلامي أحدث تحوّلًا كبيرًا في تفكيره وتحليله لقضايا الإسلام، فجعله يفكر في ضرورة تغيير الأوضاع، حيث وعى بثاقب فكره أن دور المسلم لا ينبغي أن يقف عند أداء الشعائر الدينية -كما كان شأن كثير من شيوخ عصره- في الوقت الذي تتردى فيه شئون المسلمين، إذ لا يليق بالشيوخ الركون والاستكانة والتمسك، والابتعاد عن مشاكل المسلمين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتفرج على ظلم وتعسف الأمراء الوثنيين الذين يسومون المسلمين أشد الإهانة والقهر.

لقد اندهش الفوتي لدى مقدمه من الشرق الإسلامي من فتور الوازع الديني لدى المسلمين، وتشتت قواهم، وتفشي الجهل فيهم، مما يبعث على الرثاء، واعتقد أن من واجبه أن يهب لنصرة بني دينه ما وجد لذلك سبيلًا ((وهذا الموقف ـ يقول (( ديمون )) [DUMONT] ـ ليس له تعليل سوى نمو السمات الآتية في الفوتي منذ صباه: الإيمان، والرغبة في نشر العقيدة الإسلامية، وحماية الإسلام من سوء الفهم الذي أصابه في أفريقيا بسبب جهل العامة المجردين من كل تعليم، وغير القادرين على الرجوع إلى نصوص الشريعة، إضافة إلى تسرب بقايا الوثنية الخفية)) فرناند دومان : FERNAND DUMONT:L'ANTI SUL TAN OU AL HAD
OmAR TAL DU FOUTA. COmBATTANT DE LAFOI.ولما عاد الفوتي إلى غربي أفريقيا ركّز اهتمامه على نشر الإسلام في المناطق التي لم يعمّها بعد، وعلى تطهيره من الشوائب في الأقطار التي يكوّن فيها المسلمون الأغلبية.

لتحقيق هـذه الأهداف أقام في منطقة في ( غينيا ) متاخمة للسنغال ومالي ، وهناك انضم إليه عدد كبير من الشباب الإسلامي الذين وفدوا إليه للاستزادة من المعرفة، فكوّن منهم جيشًا عرمرمًا. ويمكن إيجاز أهداف الفوتي بالأمور التالية:

1- إبعاد خطر النصارى (الدول الاستعمارية ) عن غربي أفريقيا حيث كان الأوروبيون يتاجرون مع أهل هـذه المنطقة، ويحاولون مدّ نفوذهم السياسي والاقتصادي، وربما فرض النصرانية ـ دينهم ـ عليها.

2- العمل على نشر الإسلام في المناطق غير الإسلامية، وتصحيح ما انحرف من عقيدة المسلمين، وتطهيرها من الشوائب والخزعبلات والممارسات الغريبة والبعيدة عن الإسلام الصحيح.

3- وكان يرى أنَّ إحياء الإسلام لن يتم بالطريقة القادرية التي أصبحت فاترة، والتي تُبالغ في التسامح مع الوثنية وتتقاعس عن الجهاد المقدس.

4- وكان يعتقد -وهو على صواب- أنه لا بد أن تكون هـناك قوة مادية رادعة ومنظمة تقوم بمهمة حماية مكتسبات الإسلام ورعاية شؤون المسلمين.

لقد نجح الفوتي إلى حدٍّ بعيد في تحقيق خططه؛ حيث استطاع خلال فترة وجيزة أن يجمع تحت راية الإسلام رقعة واسعة من منطقة ما حول نهري السنغال والنيجر.

الشيخ مابا جاخو با (1809 ـ 1867م)

قامت حركة ـ أو على الأصح ثورة كان( بيني لابراد ) أول من أطلق كلمة ( ثورة ) على حركة الشيخ مابا جاخو الإسلامية

-الشيخ مابا جاخوبا في منتصف القرن التاسع عشر كردّ فعل لتصاعد تعسف ((تيدو)) ضد مواطنيهم؛ وكان الشيخ مابا قد التقى بالحاج عمر الفوتي سنة 1848م الذي توسم فيه خيرًا، وبشّره قائلًا: ((ستصبح في مستقبل قريب -بإذن الله- من المجاهدين، وستكون وبالًا على كفرة المشرق والمغرب؛ أعلن الجهاد ولتكن ((سين)) آخر هـدف لك؛ لأنَّ ((سيرير سين)) وإن كانوا وثنيين فإنهم شرفاء ونشطون، لذلك فهم يستحقون الاحترام)) شيخ تجاني سي : الطريقة السنغالية للمريدين.

إن هـذا التصريح المنسوب إلى الحاج عمر الفوتي يفنّد افتراءات أولئك الذين يزعمون أن حركة الشيخ مابا وأمثالها قامت أساسًا على استفزاز وعدوان مبيت ضد أتباع الأرواحية ، بل هـو تأكيد صادق وتعليل موضوعي لأسباب تلك الانتفاضات الإسلامية، فهي لم تقم إلاّ لمقاومة الفساد والظلم لا لقهر النزهاء والعاملين مهما كانت عقيدتهم.

ولدى استقراء الوضع السائد في (( سالوم وكاجور وباديبو )) يظهر جليًّا تدني الأمن العام وتعاسة ((بادولو)) الأمر الذي جعل قيام حركة مابا جاخو حتمية لا مفر منها لرفع الظلم.

ولتحقيق النجاح لمثل تلك الحركة لا بد من توفر حدّ أدني من الوحدة، وقيادة سياسية قوية وحكيمة، وشاء الله تعالى أن اجتمع ذلك كله في شخص الشيخ مابا، فاستطاع أن يقطع شوطًا بعيدًا في توحيد أقاليم (( ريب )) و (( سالوم )) و (( باديبو )) وأوشك أن يضم (( سين )) إلى مملكته لولا أن تصدت له القوى الاستعمارية تحت ستار ((كومبا أندفين جوف فماك)) فوضعت حدًّا للمد الإسلامي سنة 1867م في معركة مشهورة باسم معركة ((صومب)) انظر مقالنا حول معركة ( صومب) في جريدة المسيرة التي تصدرها وزارة الإعلام بجمهورية السنغال.

حيث استشهد الشيخ مابا جاخوبا ؛ لكن حركته لم تخمد بوفاته إذ حمل لواءها أخوه ونجله من بعده.

الإمام فودي كبا دومبويا ( 1818ـ1901م)

لقد تركت حركة الشيخ مابا صدىً كبيرًا في غربي أفريقيا كله، وساهمت في إبراز قيادات، وخاصة في السنغال ، منها: حركة الإمام ((فودي كبا دومبويا)) الذي كان قد استنجد في بداية أمره بالشيخ (( مابا جاخوبا )) حينما اعتدى بعض المعتدين عليه هـو وطلبته بمنطقة كازامانسا ، وأدّى تعاونه مع الشيخ مابا إلى نتائج مثمرة حيث ساعد على حماية الجماعة الإسلامية ورفع معنوياتها.

ركّز ((فودي كبا)) جلّ اهتمامه على جماعة (جولا ) التي كانت إلى ذلك العهد، لم ينتشر في صفوفها الدين الإسلامي، وبفضل جهوده كلّل الله تعالى مساعيه بالنجاح بدخول عدد كبير من أبناء هـذه الجماعة في الإسلام، ونجح في بناء أسس الثقافة الإسلامية في تلك البلاد.

ولعلَّ أروع بطولة سجلها في تاريخ الحركة الإسلامية في السنغال هـو رفضه رفضًا قاطعًا للمساومة حينما التجأ إليه مسلمون فارون من الاحتلال الإنجليزي إثر نزاع نشب بينهم وبين المحتلين الأجانب، وكان هـؤلاء قد طالبو الإمام ((فودي كبا)) بعدم حماية المسلمين وبضرورة تسليمهم إليهم؛ وكانت حمايته لأولئك المسلمين سببًا لنشوب معارك ضارية بينهم وبين ائتلاف مكوّن من الفرنسيين وحلفائهم من الخونة، أثناء تلك الاصطدامات استشهد الإمام ((فودي كبا)) سنة 1901م بعد حياة حافلة بالأعمال البطولية في خدمة العقيدة الإسلاميةانظر بهذا الخصوص مذكرتنا المشار إليها سابقا..

كانت هـناك حركات نشطة في مناطق مختلفة من السنغال تهدف كلها إلى ترسيخ قواعد الإسلام، منها: حركات خطت خطوات هـامة في سبيل تحقيق أهدافها، وحركات تكالبت عليها قوى الشر، من ذلك: ثورة الشيخ (( سيرن أنجاي سال )) الذي نجح في الوصول إلى الحكم في ( كاجور ) سنة 1663م، وحاول وضع البلاد في ظل الشريعة الإسلامية، وتقدم مشروعه إلى حدٍّ بعيد، ولم ينجح أعداء الإسلام في القضاء على نظامه إلاّ بعد أن استغاثوا بأمير ( سالوم ).

وفي القرن الثامن عشر -في المنطقة ذاتها- قام المسلمون بثورة مماثلة، وكان من سوء الحظ أن أحدق بهم الأعادي من كل جانب، ففشلت ثورتهم بعد أن أبلوا البلاء الحسن، وكانت الإجراءات التي اتخذت ضدهم قاسية حيث بيع بعضهم وفر بعضهم الآخر إلى إقليم الرأس الأخضر .

الفصل الثالث: الإستعمار وانتشار 1901 في السّنغال

من مناَّ لم تغزُ سمعه دقات الطبول التي تهوّل الخدمات التي أداها الاستعمار للإسلام، ولردّ الأمور إلى نصابها؟! نستعرض بعجالة السياسة الاستعمارية الفرنسية نحو الإسلام في هـذا البلد، مشيرين إلى أن الاستعمار له مثالبه الأكيدة باعتباره المسئول عن تدني وضع المسلمين من الناحية الثقافية في السنغال ، وكانت له جوانب -لا شك- إيجابية استفاد منها المسلمون أيما استفادة.

على أنَّ العلاقات بين 1901 والاستعمار الفرنسي في السنغال مرّت بمراحل عدَّة تميزت بالاضطراب والغليان، والصعود والهبوط…

عداوة مستحكمة متبادلة

ذلك أن الاستعمار حين وصوله للسنغال لم يصادف أمامه قوة منظمة تعترض سبيله عدا القوة الإسلامية، كان الاستعمار العائق الأساسي لانتشار دين الله تعالى في السنغال، نظرًا لتوفر الظروف الموضوعية كلها لتحقيق ذلك؛ إذ تزامنت فترة ظهور المستعمرين في المنطقة مع صعود الحركات الإسلامية بغربي أفريقيا عامة وبالقطر السنغالي خاصة، وكاد أن يكتب لها النجاح لولا تصدي القوى الاستعمارية لها، وبلغ من عداء النظام الاستعماري للإسلام أنه كان يستعين بطائفة ((تيدو)) لإخضاع المسلمين، وذلك تشفياًّ منهم وإهانة لهم.

ولم يخف المستعمرون يومًا من الأيام عداءهم للإسلام، بل أعلنوا ضده حربًا صليبية لا هـوادة فيها، وقد اعترف الكاتب الفرنسي (( ديشام )) DESCHAmPS بأن القائدين العسكريين: (( أرشينارد )) ARCHINARD و (( ماجين ))MAGIN كانا يقودان حروبًا صليبية ضد (( أحمد عمر تال )) والإمام ساموري (SAmORI ).

ومن مظاهر تلك العداوة أن المستعمر كان يشكك بمدى قوة وعمق العقيدة الإسلامية لدى المسلم الأفريقي، ويزعم أن هـذه الديانة تتعارض مع طبيعة الإنسان في القارة الأفريقية، يقول (( بول مارتي (PAULMARTY)) بهذا الخصوص: ((إنَّ ثوب الإسلام أياَّ كانت بساطته ولياقته لم يفصل للسود، فهؤلاء يفصلونه من جديد لمقاييسهم ويزينونه حسب ذوقهم)) ولا يكتفي المستعمر بادعاء تنافر الإسلام مع طبيعة الأفريقيين، واستحالة اعتناقهم له، بل يذهب بعض المستعمرين إلى أبعد من ذلك حيث زعم(( أبدون أوجين ماج (ABDON EUGENEMAGE ) سنة 1868 م))أن أغلب مساوئ أفريقيا أتت من الإسلام، ولذلك لا ينبغي تشجيعه في أي ظرف من الظروف، سواء في مستعمراتنا الحالية أو تلك التي سنؤسسها مستقبلًا، حتى ولو كان يبدو في مظاهر أكثر جاذبية، كما يظهر ذلك أحيانًا في السنغال، ونمكن أن تكون مبارزته علانية وخيمة، أما تشجيعه فهو أخطر، وفي رأيي أن ذلك -أي التشجيع- جريمة التواطؤ)).

وقد نفذت الإدارة الاستعمارية هـذه السياسة المبنية على كره الإسلام، حيث اعتبرته ألدّ أعدائها، فلم تتأخر في اتخاذ التدابير التعسفية للحيلولة دون نموه الطبيعي وانتشاره المطّرد في السنغال.

فكل ما قام به المستعمر من أعمال تبدو في صالح الديانة الإسلامية إنما قام بها بعد ألف حساب ((إنه من الواجب الملقى على عواتقنا أن نسهر كي لا تكون أبدًا العقيدة التي تدعو إليها الجماعات الإسلامية خطرًا على تحقيق الحضارة الكبيرة التي نتابعها)) والإسلام، كما يدعي(( بريفي (BREVIE) قد فرض على السود(( إذ لم يختاروه عن طواعية منهم وإنما فرض عليهم بالقوة، سواء أكان ذلك بعد فتوحات البربر المسلمين في الصحراء أو كان بيد الملوك الذين كانوا يقهرونهم لاعتناقه.))

على أنه في بعض المراحل، لم يُقدم الاستعمار على مجابهة الإسلام مباشرة وعلانية وإنما وضع خطة تهدف على المدى البعيد إلى محو العقيدة الإسلامية، وقد كشف (( بيير أرنود (PIERRE ARNAUD ) عن نوايا بلاده في المستعمرات بقوله: ((لا نعترف في أفريقيا الغربية إلاَّ بسلوك أخلاقي واحد هـو سلوكنا)).

واتسمت المراحل الأولى من اتصال الإسلام في السنغال بالاستعمار بالعنف الشديد والعداوة، حيث ظل المستعمر يعتقد أن الديانة الإسلامية هـي العدو الذي لا مندوحة من القضاء عليه كي يصفو له الجو في المنطقة، يقول فروليش ، أحد مخططي الاستعمار الفرنسي : ((إنًّ كل أعدائنا كانوا تقريبًا من المسلمين.))

انطلاقًا من هـذه الفكرة، كثَّف المستعمر جهوده كلّها لاستئصال الإسلام، ولما فشل في ذلك عمل لاحتوائه مستخدمًا مختلف الوسائل المتوفرة لديه، ونذكر بعضًا من تلك الوسائل القمعية :

مراقبة المسلمين في حركاتهم وسكناتهم

لهذا الغرض وضعت الإدارة الأجنبية بطاقات استعلامات ل ((شخصيات سياسية ودينية متهمة بالقيام سرًّا بدعوة ضد فرنسا وأوروبا ، وتُظهر قابلية في زمن ما لخلق صعوبات لنا، أو لتحويل قسم من السكان عنّا، وذلك بسبب ثقافتها وعلاقاتها وثروتها، أو بسبب نفوذها الذي اكتسبته بفضل دعوتها الملتهبة))

وكانت الإدارة الاستعمارية قد قسمت الطائفة الإسلامية في السنغال إلى فئات:

  • فئة لا ترى مناصًا من الدخول في عراك معها لتحطيمها وإبعاد شرها.
  • وأخرى لا تثق بها لكنها لا تمثل خطورة كبيرة، ولكن يجب أن تظل مراقبة.
  • وفئة ثالثة لا خوف منها ولا تتوقع منها شرًّا.
  • ورابعة تعتمد عليها فتستغلها لأغراض إدارية وسياسية.
  • وخامسة تعتبرها خطرة جدًّا يتحتم إبعادها عن البلاد لاتقاء شرها.
  • وأخيرًا فئة صالحة -بنظرها- تستحق التشجيع لقبولها التعاون معها، فكافأتها بالأوسمة والألقاب.

مراقبة المؤسسات الدينية الإسلامية

حدَّدت الإدارة الاستعمارية نطاق إنشاء المساجد، فكانت لا تسمح ببناء مسجد إلاَّ لأفراد يحظون بثقتها، وهو القلة بطبيعة الحال؛ وكان الاستعمار يخاف من المسجد خوفه من سائر المؤسسات الإسلامية، فبناء مسجد يعتبر وسيلة لتقدم الإسلام، ولم يخف(( فيدريب )) تبرمه سنة1855م من هـذا التقدم: ((إنَّ الإسلام لدى السود أمر معرقل أمامنا… لكن في النهاية إن وُجِدَ المسجد، فلا رجوع لنا بعدئذٍ)) ، وفي الحقيقة، كما يقول الراهب  : ((إنَّ من بين الشيوخ في ( سانت لويس ) عددًا كبيرًا يربون الأطفال على كره العمل والبيض)).

امتدت يد الاستعمار إلى المحاكم الشرعية للتلاعب بها، وذلك بإنشاء محكمة إسلامية صورية استندت إلى شخص واحد، قال في شأنه (( فيدريب )): ((لا أجد اليوم من المسلمين إلاَّ فردًّا يوحي إليَّ بالثقة الكاملة… أعتقد أنه من الأحسن أن تراجع السلطة العليا المستعمرة أحكام المحكمة الإسلامية)).

أما عن التضييق على المؤسسات التعليمية فحدِّث ولا حرج.

كان هـدف المستعمر ضرب الحصار على السنغال حتى لا تتأثر بما يحدث بأقطار إسلامية خارج نطاق مستعمراته؛ لأنه كان يخشى من بلورة فكرة الجماعة الإسلامية على المستعمرة.

فأقدم على عزلها عن العالم الخارجي، مما دفعه إلى اختلاق ما يسميه بـ(الإسلام الأسود ) ولكن لم يكن متيسرًا تحويل تيار ديني وثقافي دون القيام بعمل مضاد لهذا التيار، لذلك نهضت فرنسا بإنشاء مدارس تنافس مدارس المسلمين ومجالسهم ولكنها كانت -كما قال أحدهم-: ((تستهدف غرضًا آخر غير أهداف مدارس المسلمين المعارضة دائمًا، والسائدة في الزوايا ولدى الشيوخ؛ وهذه هـي وحدها الموجودة حتى الآن في الميدان)) ولم تترك لتلك المدارس المعارضة للمدارس الأهلية أدنى حرية لأنَّ هـدفها كما حدَّده فريقه هـو: ((توجيه النفوذ الذي يمارسه المسلمون المتعلمون على إخوانهم في الدين لصالح السياسة الفرنسية)) وفي الواقع فإن كلمة ((العربية)) في اصطلاح المستعمر عادلت لفظة الإسلام، ولا عجب حينئذٍ أن تدخل اللغة العربية، أي الإسلام، في صراع مرير مع السلطات الاستعمارية من جهة ومع لغة المستعمر من جهة ثانية.

واتخذت الإدارة الفرنسية إجراءات صارمة تهدف إلى تحطيم 1901 ولغة القرآن؛ إذ بدون تلاشيهما لا سبيل إلى تمكن الحضارة النصرانية في المنطقة؛ وكان من جملة الأساليب التي سلكها المسئولون الفرنسيون بهدف تحقيق ذلك: تقليص ظل المعاهد الإسلامية، معاقل الإسلام، فأصدروا قرارات جائرة للحيلولة دون أداء المدارس القرآنية وظيفتها التاريخية، وقد عكست إجراءات الحاكم العسكري ( فيدريب ) هـذا الحيف حين فرض سنة 1857 م على كل من يرغب في فتح مدرسة عربية أن يتقدم لامتحان خاصًّ يهدف لمعرفة مستواه بهذه اللغة، وذلك بدعوى تحسين التعليم الإسلامي واختيار معلمين أكفياء.

غير أن الهدف الحقيقي في الواقع هـو الحيلولة دون انتشار لغة القرآن والقضاء عليها عن طريق فرض شروط مفرطة في التعقيد والصعوبة، وانفضحت المؤامرة، إذ لو كانت الإدارة الفرنسية ترغب حقاًّ في تنظيم التعليم الإسلامي لشجعت المدارس الإسلامية.

ثم تلت ذلك القرار قرارات مجحفة حيث علَّق فتح مدرسة إسلامية بالحصول مسبقا على إذن من السلطات الاستعمارية، ورغم تملص ( فروليش ) صاحب كتاب (مسلمي أفريقيا السوداء ) فإنه لم يجد مندوحة من الاعتراف بأن ((الرخصة التي كان يخضع لها ألئك الذين يترشحون لفتح مدرسة عربية مرفوضة أحيانًا، حينما تظهر سوابق طالب الرخصة ممثلة خطورة للنظام العام)) ولا يعني هـذا الكلام سوى أن الرخصة مرفوضة لكل المسلمين؛ لأنَّ الاستعمار كان يرتاب فيهم جميعا؛ إذ يمثلون في نظره خطورة على نظامه.

وللعلّة نفسها جهد الاستعمار في قطع كل صلة بين المتعلمين السنغاليين وبين مصادر الثقافة الإسلامية، وكان يمنعهم من ممارسة النطق باللغة العربية والتعامل بها بأي شكل من الأشكال، وبلغ من تعنته أن حاول استبدال اللغات المحلية في المجالس والمدارس باللغة العربية، لهذا الغرض توجه أحد كبار إدارة الشؤون الإسلامية إلى مدرسة في (( سيغو )) ( جمهورية مالي اليوم ) فعرض على الشيخ (( ديمبا واغي )) -مؤسس مدرسة عربية هـناك- تغيير لغة التدريس عن طريق إلقاء الدروس باللغات المحلية، وكان ردّ الشيخ بارعًا ومفحمًا، إذ رفض الدخول مع الصليبي في مناقشات عقيمة، بل طلب منه أن يأتي التطبيق منه وذلك بتدريس مادة ما أمام الطلبة، فبهت الذي كفر .

وفي نطاق تضييق الخناق على التعليم العربي الإسلامي، جاء مرسوم يحدد الكتب التي يسمح بإدخالها إلى السنغال ، وهذه الكتب هـي: المصاحف وبعض الأدعية الصوفية.

فتعليمات الحاكم ( فليام بونتي ) سنة 1911 م قالت: ((إن كل نشرة)) تمثل شكلًا معاديًا أو تكون مشجعةً نشاط الشيوخ، يجب تحطيمها؛ إذ لا ينبني دورنا بطبيعة الحال على تشجيع نمو العقيدة الإسلامية، ولا على مساعدة الجامعة الإسلامية بل العكس و ((ولا ينبغي بالخصوص أن يطلع الأفارقة المسلمون على ما يجري في شمالي أفريقيا والشرق الأوسط حتى لا تصل إليهم عدوى الأفكار الهدّامة من النهضة الإسلامية، ونريد كذلك أن نبعد التشجيع على استخدام اللغة العربية)).

وظلَّت المعركة حامية الوطيس بين الاستعمار والمدارس القرآنية، ولم يحل ذلك دون ازدياد طلبتها باطراد بشهادة (( مارتي )) أحد أقطاب الاستعمار الذي قام سنة 1918 م بإحصاء تلامذة المدارس العربية بمدينة سانت لويس -AINT LOUIS السنغالية فوجدهم أضعاف تلاميذ المدارس الفرنسية؛ لكن بعد ثلاث عشرة سنة من هـذا الإحصاء رجحت كفَّة الميزان لصالح اللغة الفرنسية، وتخليدًا لهذا الانتصار على اللغة العربية كتب أحد المفتشين للتعليم الابتدائي سنة 1930 م في تقرير يقول: ((انهزمت المدرسة القرآنية))

وعندما ظهرت المدارس الحرّة في المرحلة الأخيرة من الاستعمار أولت الإدارة الفرنسية الاهتمام للمؤسسات التعليمية النصرانية، وكانت تمدها بكل ما تحتاج إليه، في حين كانت تحرم مدارس المسلمين من كل معونة، وبلغ الأمر إلى حدّ استنكار بعض النصارى هـذا الإجحاف والتنديد به، فقد استنكر (( ألبرتو فود جري )) في كتابه: (أفريقيا الثائرة ) تلك الممارسات بقوله: ((إنَّ العدالة ليس لها حدود… وأقصد بقولي هـذا خاصة المسلمين الذين تمنعهم السلطات من فتح المدارس، وإذا سمحت لهم فإنها لا تدخل مدارسهم في باب المساعدات المالية الحكومية التي تعطى للمدارس النصرانية، وإنها قضية إنصاف علينا مواجهتها بجرأة وشجاعة، وإذا تجاهلنا أن الإسلام دين الأغلبية في أفريقيا السوداء وأكدناه بوسائل ملتوية فإن ذلك لن يكون بأي شكل من الأشكال في مصلحة أفريقيا والسلام)) .

مرحلة المرونة والتظاهر بالتعاون

لم تغير السلطات الاستعمارية موقفها العدائي للإسلام، وإنما حوّرت تكتيكها كما قال (( فروليش )): ((منذ بدخولنا -طبقنا سياسة الرفق،بعد ملاحظة أن أعداءنا كلّهم تقريبًا من المسلمين)) ، ولكن كانت الإدارة الأجنبية مضطرة إلى الليونة لحاجتها إلى خدمات المسلمين في إدارة مستعمراتها؛ لأنَّ الإداريين العسكريين الذين كانوا في شمالي أفريقيا سابقًا يجدون سهولة في التعامل مع المسلمين بينما يلاقون نفورًا طبيعيًّا مع الأرواحيين؛ من أجل ذلك يقول ( فروليش ): ((بحثنا عن زعماء لديهم لمساعدة أعمالنا الإدارية فلم نجد -بسبب الاستحالة- سوى مسلمين؛ فاضطررنا إلى الاعتراف بهم في المجتمعات التقليدية غير الإسلامية)).

وظلت معاملة الاستعمار للمسلمين متأرجحة بين الصعود والهبوط، بين القسوة والليونة، تبعًا لسياسة الحكومات الفرنسية المتباينة وشخصية الحكام العامين الذين يديرون البلاد.

ففي بداية الاستعمار، كما يقول (فروليش )، كانت العلاقة بين الإسلامي والاستعمار في السنغال تتسم بالعنف الشديد والعداوة المستحكمة المتبادلة بين الطرفين، ولم تنجل غيوم الصراع المسلح بينهما إلاَّ في مستهل القرن العشرين، وكان من جملة من حمل المستعمر السلاح ضدهم الحاج عمر الفوتي والشيخ ماباجاخو ، وفودي كبا ، وأحمد الشيخ ، ومحمد الأمين درامي وعشرات غيرهم ممن فازوا بشرف الاستشهاد، إلى جانب أعداد وافرة من المسلمين كان نصيبهم النفي خارج السنغال لسنين طويلة، أو التنكيل بهم.

الجانب الذي استفاد منه الإسلام من حركة الاستعمار

وفي مرحلة متأخرة، فهم المستعمر أنه رغم انتصاره العسكري، ونفيه وتنكيله بزعماء المسلمين، لم يتمكن من احتلال قلوب الشعب السنغالي، وأنه لن ينجح في توطيد سلطانه وسلطاته دون الاستعانة بفئات ذات نفوذ في المجتمع السنغالي، خصوصًا وأن اختفاء القيادة الأرواحية لم يفض إلى بروز زعامة جديدة في محيط الأهلية، لأنَّ هـذه الأخيرة، كما يقول (( بول مارتي )):

((قد أفل نجمها بقوة حقيقة الإسلام وبمزايا ونزاهة الشيوخ)) بل نجم من سيطرة فرنسا على البلاد: التفاف العامة حول الزعامات الدينية الإسلامية، لا سميا وأن الغزو الاستعماري أشبه إلى حدّ بعيد نظام وأسلوب (تيدو ) من حيث إشعال النار في القرى، وتعذيب المقاومين، وإتلاف المحصولات، مما جعل الشعب يضمر البغض للمستعمر؛ ولكي تصل الإدارة الأجنبية إلى مرماها، وتحقق هـدفها، تظاهرت بالمرونة أحيانًا، فتقربت إلى بعض المسلمين للاستعانة بهم في إدارة مناطق وأقاليم غير إسلامية، وكانت في ذلك مضطرة، لأنَّ المسلمين كانوا يقومون بدور الترجمان، فضلًا عن أن ((الزعيم المسلم كان ذا نفوذ، ويلبس على شاكلة القائد الجزائري، فهو فارس ماهر، يحيط به الجنود الحرس والحاشية؛ أما الزعيم الوثنية -إلاَّ ما ندر- فشخصية غامضة)) .

فعبر الموظف، سواء على رأس المقاطعات أو في المصالح الإدارية الأخرى، استطاع الإسلام أن ينفذ إلى مناطق لم يكن قد وصلها من قبل، وساهم تطور وتوفر وسائط المواصلات وسهولة الاتصالات، وإضافة إلى ظهور المراكز الحضارية والتجارية والقرى الفلاحية وحركة (سورغا ) في عملية انتشار الإسلام.

دور المواصلات

تجدر الإشارة إلى أنَّ الوظائف الثانوية كانت متوفرة، وأسندت في الأغلب الأعم إلى موظفين مسلمين، إما لأنهم يعرفون قراءة وكتابة الحروف العربية أو اللغة العربية نفسها، وإما أنهم يتقنون لغة المستعمر، وكان من دأب هـذا الموظف أنه أينما حلَّ وارتحل يتأبط سجادة ويحمل معه (مقراجا).

وأحيانًا يتم تعيينه في مناطق بعيدة في أوساط جماعات غير إسلامية، تعجبها رؤية شخص من بني جلدتها تختلف معه من حيث الهندام والمستوى الاجتماعي: فهو يرتدي ملابس نظيفة جميلة، ويعيش، ويقرأ الكتب، ويكتب على الورق، ويتحاور مع البيض الأجانب… ورقى المسلم الاجتماعي هـذا أحدث نوعًا من عدم الرضا عن النفس لدى الأرواحي، وجعله يتطلع إلى وضع اجتماعي يماثل وضع الموظف المسلم الذي لا يختلف معه في اللون والتركيب ا لجسماني في شيء.

ومن هـنا كان نور الإسلام يغزو نفس الأرواحي، فتصبو إليه، وتنجذب نحوه، ولا تمر فترة من تعرفها على الديانة الإسلامية حتى تستجيب لندائها وتنضوي تحت لوائها.

وكانت سهولة الموصلات ذات أهمية بالغة؛ إذ بفضلها استطاع هـذا الموظف الجندي في خدمة الإسلام أن يتصل بالأرواحي ويبلغه الرسالة الإسلامية في المناطق النائية: ففي جنوبي السنغال ( كازا ما نسا ) دخل العديد من الناس في دين الله بواسطة موظفين لا تزال آثار نشاطهم واضحة المعالم بوجود أشخاص يحملون أسماء عائلية غير أصيلة في المنطقة، ذلك أن المسلمين الجدد حملوا إثر دخولهم الإسلام، الأسماء العائلية للأشخاص الذين أدخلوهم في الديانة الإسلامية.

فمع ظهور السكك الحديدية، والسيارات والدراجات والبواخر… أخذت الدعوة الإسلامية أبعادًا جديدة وأهمية قصوى، وأصبح من الميسور على الداعي التنقل بسرعة ويسر وأمن لمقابلة غير المسلمين في مناطقهم، ونطبق المثل القائل ((مكره أخاك لا بطل)) على الإدارة الاستعمارية التي كانت بأمس الحاجة إلى حركة تجارية نشطة تساهم في ترويج البضائع الواردة من الـ((ميتروبول)) وتسهل توزيعها على مختلف الأقطار المستعمرة، فمدت سكك الحديد، وعبَّدت الطرق وشجّعت تجارة المتنقلين جولا (DIOLA ) الذين كثَّفوا كعادتهم نشاط التبليغ.

لم تكن المرافىء أقل شأنًا من وسائط المواصلات السابقة الذكر، حيث يزدهر النشاط التجاري وتكثر الخدمات المختلفة فيها فينجذب إليها عدد كبير من شباب كان قد غادر محيطه القروي الأرواحي بحثًا عن عمل، سواء خلال فترة فصل الجفاف الممتد من شهر ديسمبر (كانون الأول ) إلى نهاية يونيو (حزيران )، أو خلال سني القحط والمجاعة؛ ففي هـذه المرافىء يجد الشباب الأرواحي نفسه في أحضان عالم جديد عليه، منظم منسّق، يغاير عالمه الأرواحي الضيّق الحدود. ففي بداية اتصاله به يلازم جانب الحذر ويقوقع نفسه في دنياه الخاصة، فلا يشارك الناس -المسلمين- حياتهم الروحية ولا ما هـم فيه، ويشعر حينئذٍ بفراغ روحي وعزلة اجتماعية كاملة لا عهد له بها، فلا يبرح يحاول كسر قيود الأرواحية التي صارت مهلهلة، فيضطر إلى البحث عن جماعة دينية تكون وسيلة لتحطيم الأسوار المحيطة به، وتكون تأشيرة لدخول المجتمع الذي يعيش في وسطه، وفي وضع السنغال لم يجد المهاجر الأرواحي نحو المرافىء جماعة لائقة له أكثر من الجماعة الإسلامية باعتبارها الأقوى عددًا والأقرب إلى نفسه..

تأسيس مدن عصريَّة

اقتضت طبيعة الأسس التي انبنى علنها نظام الاستعمار -بجانب استغلال ثروات المستعمرات، وتسخير أهلها، وإيجاد سوق محلية تستوعب السلع المصنعة الفرنسية لمستهلكين في المستعمرات-: إنشاء مرافق عامة مهيئة لاستقطاب مختلف النشاطات الني ظهرت بعد تطور المرافئ ووسائط النقل المختلفة؛ من هـنا برزت المدن العصرية حول تلك المرافق، وأصبحت خلية حيَّة، ومحور الحركة التجارية والإدارية، وملتقى عناصر وأجناس عديدة؛ على أنَّ العنصر الإسلامي كان قطب الرحى في مدن السنغال، مما جعل تأثيره على الطوائف الأخرى بالغ الأهمية، خصوصًا الشاب الذي غادر محيطه القروي بكل ما يرفل به من عقائد بالية، وطقوس أرواحية، وعادات وتقاليد يمجها الذوق السليم، ليستقر في محيط متحضر مغاير، حيث تقل فرصة ممارسة التقاليد المطبقة في القرية، بينما يرى الناَّس حوله يجتمعون -على الأقل- خمس مرَّات كل أربع وعشرين ساعة للصلاة، ويشاهد تجمهرهم في مناسبات دينية أخرى، مثل: صلاة عيدي الفطر والأضحى؛ والاحتفالات التي تقام بمناسبة ذكرى المولد النبوي… وتجدر الإشارة إلى أن جوّ البهرج والتظاهر يبهر الإنسان السنغالي ويخلب قلبه، فما بالك إذا كان يشعر بالعزلة ويلاحقه الذعر والقلق بفعل ابتعاده عن الأشياء التي يعتقد أنها مانعته من غضب مظاهر الطبيعة!!

لذلك كلّه نجد الشاب الأرواحي المهاجر إلى المراكز الحضرية الحديثة ينجذب نحو الإسلام؛ التماسًا للسلام، وانسلاخًا من عزلته الاجتماعية، ومحاولة لنزع غلالة الحصار الاجتماعي الذي فرضه عليه معتقده الأرواحي … إذن فالانفلات من العزلة ، والبحث عما يصون من عوادي الطبيعة، والانتفاع بمزايا العضوية في دين ذي انضباط واتساع كبير حمل المهاجر الأرواحي على اعتناق الديانة الإسلامية، ليست لأنها مجرد بديل فحسب ولكن لأنها الوسيلة الأفضل للاندماج بيسر في المجتمع الحضري السنغالي والانفتاح على آفاق أوسع…

الرماة السنغاليون

لا يحسن إهمال الجيش الذي كوّنته فرنسا من أبناء مستعمراتها المعروف بـ((الرماة السنغاليين)) في نشر الإسلام بغربي أفريقيا الفرنسي كلّه؛ إذ كان هـذا الجيش يضم عناصر مختلفة من القبائل، لا تجمع بينها أية أواصر من أي نوع كان، باستثناء العناصر المسلمة، فإنها كلما التقت تعارفت وتآلفت ونسجت بينها علاقات منظمة ومنسقة، ترتب حياتها الدينية داخل الثكنات ، الأمر الذي كان يثير إعجاب غيرها من الجماعات غير المنضوية تحت لواء دين سماوي، فاستطاع الجنود المسلمون، بفضل نظامهم المتميز، أن يُدخلوا عددًا كبيرًا من الأرواحيين في الإسلام؛ ومما سهل مهمة الجماعة الإسلامية في الجيش الفرنسي أن الأرواحي كان محل سخرية وتهكم لسذاجة عقيدته، وغياب أدنى ضابط لذلك.

تغيير نظام الإنتاج

على أن تغيير نظام الإنتاج بإدخال أسلوب نشاط اقتصادي، أساسه النقد والسوق، وتبديل المواد المزروعة تقليديًّا بمزروعات تهيّأ أساسًا للتصدير، ساهم في بلورة الدعوة الإسلامية.

فحينما أدخل المستعمر زراعة الفول السوداني وشجّع الهجرة الموسمية إلى المناطق المعروفة بإنتاجه من أقطار كثيرة إلى السنغال ، تمَّ خلال ذلك احتكاك العناصر غير الإسلامية بالمسلمين فأسلم العديد منها.

الكنيسة النصرانية في السنغال

ما دام الحديث يدور حول الاستعمار ، فلا مندوحة من التعرض للكنيسة باعتبارها ربيبة له، إذ مهما حاول رجال الكنيسة اليوم في السنغال نفي ارتباط مؤسستهم الدينية بالاستعمار فإنَّ الوقائع والأحداث التاريخية تؤكد وجود صلة بينهما…

ولعلَّ القاسم المشترك بينهما فيما يخص الإسلام هـو سعيهما الحثيث لتشويهه، بعد أن تأكدت استحالة تحويل المسلم السنغالي عن دينه.

ولم ترض الكنيسة للسنغاليين بدين سوى النصرانية ، الأمر الذي كان القرآن الكريم -قبل أربعة عشر قرنًا- قد نبَّه إليه، وأن النصارى يعملون للقضاء على دين الله عز وجل ، وتحويل المسلمين إلى النصرانية: ﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ﴾ (البقرة: 120)، وهذا روبير أرنود (ROBERT ARNAUD ) يكرر اللهجة ذاتها ((لا نعترف في أفريقيا الغربية إلاَّ بسلوك أخلاقي واحد ألا وهو سلوكنا)) أي: السلوك النصراني. وقد طلبت النصرانية من المسلمين من قبل ان يتحولوا عن دينهم إن أرادوا هـدىً.

﴿ وقالوا كونوا هـودًا أو نصارى تهتدوا ﴾ (البقرة:135)، ويقول محمد أسد ، وكان مستشرقًا نمساويًّا اهتدى إلى الإسلام: ((لا تجد موقف الأوروبي موقف كره في غير مبالاة فحسب، كما هـي الحال من موقفه من الأديان والثقافات غير الإسلامية كلها، بل كره عميق الجذور، يقوم في الأكثر على حدود التعصب الشديد، وهذا الكره ليس عقلياًّ فقط ولكنه يصطبغ بصبغة عاطفية قوية)) .

وخليق أن نلاحظ أن أغلبية المسلمين في السنغال تجهل ما يضمره غيرهم من أتباع التثليث للإسلام من حقد، يستوي في هـذا الحقد النصراني الأوروبي، والنصراني السنغالي، ومما يساند هـذه المقولة ما جاء في تحقيقات أجراها العالم الاجتماعي (( بيير فوجير ولاس -(PIERRE FOGEUROLLA ) حول موقف المسلمات السنغاليات من النصرانية وموقف النصرانيات من الإسلام، فتبين: (( أن ثلاثة أرباع المسلمات صرحن أن النصرانية والإسلام يتجهان إلى إله واحد، وأن النصارى مع الأسف يجهلون الرسول محمدًا ؛وبالمقابل، اتهم ربع النصرانيات وأعضاء أديان أخرى المسلمين بالكذب والنفاق.)) وتعليل الباحث موقف النصرانيات بكونهن ينتمين إلى الأقلية الدينية في البلاد… تعليل لا يقنع أحدًا، لأنَّ موقف النصارى من الإسلام له خلفية غير مجرّد الانتساب إلى الأقلية، إذ لو قلبنا الصورة فأجري التحقيق في بلد لا تشتكي النصرانية فيه قلة عدد لما تغيرت النتيجة.

فتحقيقات (( فوجير ولاس )) هـذه تفيد مزاعم القائلين بنزاهة النصراني وصفاء طويته، لقد صدق الحق سبحانه وتعالى ؛ حيث كشف عن أعداء دينه: ﴿ ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم مِّن بعد إيمانكم كفاّرًا حسدًا من عند أنفسهم مِّن بعد ما تبيَّن لهم الحقّ ﴾ (البقرة:109)

وأما قذف النصرانيات السنغاليات المسلمين بالكذب والنفاق فليس بدعًا في سجل علاقة الإسلام بالنصرانية، فقد تعرِّض النبي الكريم عليه الصلاة و السلام لشتائم في العالم النصراني، وساهم في ذلك النصارى بمختلف مشاربهم، وعبر العصور، من ذلك ما كتبه (( فولتير )) سنة 1745 م في مسرحيته التي سماها (محمد-أو التعصب ) وقذف فيها الرسول بأقذع الشتائم؛ ولأدهى من ذلك كله، أن ((فولتير)) قدم المسرحية هـذه إلى بابا روما مخاطبًا إيَّاه: ((فلتغفر قداستك لعبد خاضع، من أشدّ النَّاس إعجابًا بالفضيلة، إذ تجرّأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية (كذا) ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية (كذا) أستطيع أن أوجّه بنقدي قسوة نبي وأغلاطه (كذا) فلتأذن لي قداستك في أن أضع عند قداستك الكتاب ومؤلفه، وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة، وإنني مع الإجلال العميق أجثو وأقيِّل قدميك القدسيتين- فولتير17 أغسطس [آب] 1745 م))

يستغرب مثقفون معجبون بـ(( فولتير )) أن تصدر عنه مثل هـذه السخافات، معتبرين إياَّه مفكّرًا حرًّا، في حين أن الأمر طبيعي وعادي في علاقة النصرانية بالإسلام؛ لأنَّ ((فولتير)) وأمثاله ليسوا أحرارًا إلا بالقدر الذي تسمح به ثقافتهم النصرانية المفعمة بالحقد على الإسلام… ويلاحظ توفيق الحكيم بمرارة أن (( رو سو )) لم ينصف رسول الله عليه الصلاة و السلام : ((علمت -يقول توفيق الحكيم- في ذلك أن (رو سو) كان يتناول بالنقد أعمال (فولتير)، فاطّلعت على ما قاله في قصة محمد علّني أجد ما يرد الحق إلى نصابه فلم أر هـذا المفكر الحر أيضًا يدافع عماَّ ألصق به كذبًا، وكأنَّ الأمر لا يعنيه، وكأنَّ ما قيل في هـذا النبي لا غبار عليه ولا حرج فيه…))

أما هـجوم النصرانية علنًا على الإسلام أياَّم الاحتلال الاستعماري فقد تجاوز الحدّ، ولعلَّ ذكر بعض تصريحات أسقف مدينة داكار في ذلك العهد يكفي دليلًا على ما نقول، كتب لو فيفر -(LE FEVRE ) سنة 1953 م في صحيفة إكليسيا(ECCLESSIA ) قائلًا: ((إما أن تتبع أفريقيا أهدافها البعيدة بالبساطة والنزاهة والتدين وتعتنق النصرانية، وإما أن تؤكد نفسها خارج الأديان، تحت تعدد الزوجات الحقير، وسيطرة الضعف والتشاؤم فتلقي بنفسها في أحضان الإسلام… إنَّ الدين النصراني هـو وحده الذي يطالب باحترام البسطاء)) غير أنَّ ما كان يحققه الإسلام أصبح مثار امتعاض للأسقف، فنغص عليه حياته إلى حدّ الاختناق والهوس، فزعم في مقالة أخرى كتبها سنة 1959 م أن أفريقيا السوداء ساقطة لا محالة في يد الشيوعية إذا اطّرد زحف الإسلام فيها: ((يصبح تدخل روسيا في أفريقيا حقيقة يومًا بعد يوم، وذلك أمر غير متوقع بالنسبة لأولئك الذين لا يفهمون الإسلام جيدًا، فالدول التي فيها أغلبية مسلمة هـي التي تنفصل بسرعة عن الغرب وتستورد الأساليب الشيوعية التي تشبه إلى حدًّ بعيد الأساليب الإسلامية: التعصب والاشتراكية والعبودية ، كل ذلك من تقاليد الإسلام(كذا)، وبالعكس، تقاوم الدول التي فيها أغلبية نصرانية بفعاليةٍ الشيوعيةَ وتظل كذلك مرتبطة ارتباطًا قويًا بالغرب… ويقدم السنغال حالة نادرة)) .

لا حاجة إلى تفنيد ادّعاءات الأسقف (( لو فيفر )) بذكر الدول التي تحوَّلت إلى الشيوعية؛ ولكننا نريد مدى الحقد الذي تكنّه الطائفة النصرانية للإسلام.

وقد استمرت حملة الكنيسة على الدين الإسلامي بعد أن نال السنغال استقلاله، وزادت حدّتها إثر ظهور بوادر صحوة إسلامية في السنوات الأخيرة، والنصرانية تتخوف من مغبّة نجاح أي ازدهار إسلامي بالسنغال، فهكذا دقّت ناقوس الخطر لدى وجود ظاهرة عزوف الشباب المسلم عن الحضارة الغربية النصرانية ((فقد ظهرت -أي الصحوة الإسلامية - حتى في الملابس؛ باعتبارها شكلًا من أشكال رفض الغرب(…) ويقرب اللباس التقليدي إلى المظهر العربي، أي: إلى المسلم الحقيقي، وهو مفضل على البذلة الأوروبية(...)ويواظب الشباب المسلم على تعهد أما كن العبادة ويقرأ القرآن ويحاول أن يعيش عقيدته))

وتعتبر النصرانية الصحوة الإسلامية جريمة ترتكب ضدّها، ويفقد الناطق بلسانها السيطرة على نفسه حين يتأكّد من وجود تياَّر إسلامي جارف يجتاح السنغال، ويلاحظ بمرارة أنه ((في كل عيد نصراني أو علماني ، يجهدون أنفسهم -أي قادة الحركات الإسلامية- من أجل تعبئة المواطنين لتأكيد عقيدتهم، ففي أعياد مثل 24و31 ديسمبر[كانون الأول]- التي يحتفل فيها النصارى بأعياد الميلاد بالعربدة والسكر - يدعون الشباب المسلم إلى إحياء تلك الليالي في العبادة معهم))

والأدهى في هـذا الأمر أنَّ النصارى لم يكترثوا يومًا من الأيام بأعياد المسلمين، علمًا بأنَّ منطق الأشياء يفرض عليهم ذلك نظرًا لكونهم يمثلون أقليَّة في البلاد، بينما هـم يريدون أن تظل أعيادهم العديدة أعيادًا وطنية يحتفل بها الداني والقاصي، لذلك يتذكرون من انصراف المسلم عن الاحتفاء بعيدي الفصح والخمسين، بل يكابرون أن ينكر المسلمون إثبات الأعياد النصرانية العديدة في التقويم الرسمي. ولا يكفيهم أنَّ الدوائر الحكومية تتعطل في جميع الأعياد النصرانية على كثرتها، في حين لم يصبح رأس السنة الهجرية عطلة رسمية إلاَّ سنة 1983م (!!).

وكما كان الوضع في عهد الاستعمار، فإنَّ الكنيسة لا تزال تحلم بأن تبقى الصلة منقطعة بين السنغال والعالم الإسلامي، وترى أنَّه ليس من حقِّ المسلمين السنغاليين تنمية علاقاتهم بإخوانهم في العقيدة، بل تنعى على بوادر التعاون التي بدأت تظهر في الأفق بين مسلمي هـذا البلد وتني دينهم((فأدَّت -أي الصحوة الإسلامية- إلى توسيع نطاق نفوذ العالم الإسلامي في المجتمع السنغالي، خصوصًا وأنَّ العرب يقومون ببناء المساجد وتقديم المنح)).

وأكبر ما يقض مضاجع الطوائف النصرانية في السنغال من الصحوة الإسلامية كونها ذات مضمون شمولي، وكونها تهدف إلى تصفية الدين الإسلامي مما علق به من بدع وشوائب وترهات، وإلى تنظيم المجتمع على أسس العقيدة الإسلامية السمحاء ((نالت -أي الصحوة الإسلامية- نتائج لدى الأسر، حيث أصبح سلوك الفرد فيها مبنياًّ على تعاليم القرآن، بدرجة يرقب معها الآباء تصرفات أبنائهم، وبدأت الأصوات تتعالى بشكل مستمر تدعو إلى تحريم إعطاء الرخص لاستيراد الخمور وإلى إقفال أبواب المراقص ودور اللهو)) .

على أنَّ المتتبع لأحوال الأقلية النصرانية ومجالات نشاطها يجد أنها لا تتناسب مع حقيقة وضعها (( الديموغرافي ))؛ فهي تراقب قطاعات حيوية هـامة في ميدان التربية والتعليم والنشاط الاجتماعي.

تملك الطائفة النصرانية في السنغال مئات المدارس من ابتدائية وإعدادية وثانوية منتشرة في المدن والقرى، وتستلم من أجل تسييرها مساعدات سخيَّة من الدولة منذ أياَّم الاستعمار، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعلى سبيل المثال: حصلت المدارس النصرانية عم 1984م على ما يزيد قليلًا على (55) مليون فرنك أفريقي من أصل (75) مليون فريك قدّمتها الحكومة لمساعدة المؤسسات التعليمية الحرة، عدا ما تتلقاه من المنظمات النصرانية العالمية، الأمر الذي جعل مدارسها أفضل تجهيزًا وأكثر ازدهارًا من أية مؤسسات تعليمية أخرى في البلاد كلّها.

تأسست تلك المدارس مبدئياًّ لاستقبال أبناء النصارى ليتلقوا فيها مبادئ ديانتهم إلى جانب المواد الأخرى المقررة في المدارس الرسمية، لكنها بحكم ما لها من إمكانية، وما تتصف به -صدقًا أو كذبًا- من فاعلية وكفاءة، تمتلئ بأبناء المسلمين، فالناشئة الإسلامية التي تتعهد المدارس النصرانية، إن لم تعتنق النصرانية على مقاعد تلك المؤسسات التعليمية فإنها تلقن فيها ما من شأنه أن يخلق في نفسها البلبلة وروح الكراهية للإسلام، ويبعدها عن كل ما يمتّ بصلة إلى عقيدة آبائها، و هـذا مكسب هـام للكنيسة لأنّ المهم كما يقول القس ( زويمر ): ((وليس هـو تنصير المسلمين، ولكن الهدف الأساسي يجب أن يتركز على تشكيكهم في دينهم وزعزعة معتقدهم؛ وهذا في حدّ ذاته يكفي))

، ويقول ( فال شاتليه ): ((لا شكّ أن إرساليات التنصير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس متبعيها، ولكي يتم لها ذلك يجب أن تبث أفكارها عن طريق نشر اللغات الأوروبية وتسريب ما تريده من أفكار إلى العالم الإسلامي.))

للدافع نفسه تراقب الكنيسة عن كثب النشاط الكشفي في السنغال ، باعتبار المنظمة الكشفية السنغالية تابعة لها؛ تضع قوانينها، وتشرف على سيرها مباشرة، وتوجهها حسب مشيئتها، نظرًا لكون الحركة الكشفية السنغالية من أهم تنظيمات النصارى الأساسية؛ ولا يخفى على أحد حينئذٍ خطورة استيلاء الكنيسة على جهاز يقوم بتوجيه وتكوين النشء الإسلامي. ويلاحظ أن الهيئات النصرانية تهتم بالشباب المسلم، حتى المجلات الأسبوعية التي اقتطفنا بعض فقراتها لا تعتني باتجاهات المسلمين الذين جاوزوا مرحلة الشباب بل تبكي على الشبيبة الإسلامية التي ـفي زعمهاـ في طريق الإفلات من قبضة الكنيسة وتنظيماتها.

يضاف إلى ما سبق أن الكنيسة النصرانية تملك عددًا من مرافق الخدمات الاجتماعية من مستوصفات ومراكز صحيحة ومؤسسات خيرية تقدم العلاج وتعلم المهن النسوية، وتؤوي المعوزين مقدمة لهم العلاج، وأحيانًا التعليم، الأمر الذي يسهل لها الاحتكاك والاتصال المباشر بأبناء المسلمين، ثم تبنيهم وتنصيرهم من خلال النشرات الدورية التي تعكس وجهة نظر مختلف الطوائف النصرانية الموجودة في السنغال ، تملك الكنيسة الكاثوليكية صحيفة أسبوعية ذائعة في غربي أفريقيا كلها هـي (أفريك نوفيل AFRIQUE NOUVELLE ) وتصدر بمدينة داكار باللغة الفرنسية، وتعكس وجهة نظر الأقلية النصرانية، وتركز هـجومها على الإسلام والمسلمين، وقد استساغت ذلك لأن الجو مناسب يمكنها من أن تبيض وتصفر طالما لا تملك الجماعة الإسلامية حولا ولا طولا للقيام بالرد على اعتداءات الصحف النصرانية. ونشير بهذا الصدد أنه ثارت ثائرة الطائفة النصرانية حينما أعلنت جماعة إسلامية عزمها على إصدار صحيفة يومية، فاعتبرت ذلك مكابرة، فكتبت ((أفريك نوفيل)) تقول: ((إنهم يستعدون لإصدار صحيفة يومية عما قريب)) ثم تساءلت: ((إلى أين يسير صعود التيار الإسلامي؟))، وتذهب العجرفة بالصحيفة النصرانية إلى حد نقد كبار المسؤولين في أجهزة الدولة والحكومة لتركهم المتعاطفين مع التيار الإسلامي داخل الحكومة نفسها: ((وكان رئيس الدولة على اطلاع على أهداف الدعاة المسلمين، ولكنه ماذا يفعل حينما يكون بعض أعضاء حكومته متعاطفين مع أعداء السلطة؟ ))

هـذه السلطة قد تكون سلطة الدولة ولكن ليس ببعيد أن يكون المقصود بها سلطة الكنيسة.

وبما أن الكنيسة، بعد تجارب سنين طوال، اقتنعت أنها لن تنجح في تنصير المسلمين، لأن ذلك هـدف بعيد المنال، فإنها تكتفي ببث البلبلة في نفوسهم، وتنصير تصرفاتهم، فذلك سائغ لانعدام أي جهة تتصدى لمخططاتهم الصليبية؛ فلم يكن لدى الشيوخ -الذين بمقدرتهم التصدي لهاـ وعي كافٍ بخطورة ما تبيته الكنيسة للإسلام وأتباعه، كما أن تنظيمات المستعربين من الضعف بحيث لا ينتظر أحد منها القيام بمثل هذه المهام الشاقة التي تتطلب توفر حدّ أدنى من الاستقرار والاستقلال النفسي والمادي، فالمستعربون الذين بحكم ثقافتهم يعون جيدًا خطورة نوايا النصرانية تجاه المسلمين مجردون من كل سلاح يقاومون به تهجمات الكنيسة التي تتعاون مع جهات مشبوهة للتشكيك بالإسلام، لهذا الهدف وجهت اتهامات باطلة للإسلام تدّعي أنه السبب في التأخر المادي للمسلمين في السنغال ، والمسئول عن وضع المرأة المتردي في نظر الكنيسة.

وتقف بجانب النصرانية في مهاجمة الإسلام طوائف دينية أخرى في السنغال متهمة المسلمين بالتعصب الديني …

اتهامات باطلة تبث البلبلة في نفوس مسلمي السنغال

لقد كان من تقدير الله تعالى أن يكثر أعداء دينه في هـذا البلد، يقومون بمناوأته، وينقبون عن مثالب أتباعه، ويفتعلون العيوب لزعمائه، وينبشون تناقضات الفئات المنتمية إليه، جاعلين ذلك كله منطلقًا للهجوم والقضاء على الإسلام، وبث البلبلة في النفوس.

لم تكن الكنيسة وحدها في هـذا الميدان، بل عملت هـي وهيئات معادية للإسلام للتشكيك فيه، ونجحت إلى حدٍّ ما، فقد بتنا نجد أشخاصًا يحملون أسماء إسلامية، ويتزيون بزي المسلمين، لكنهم يعيشون بعقلية النصارى، ويتصرفون على شاكلة الأوروبيين، مخربين دينهم الإسلامي بأيديهم بتغرير من الهيئات النصرانية والماسونية والبهائية المتسترة وراء نوادٍ مشبوهة ومجهولة الهوية، ولا تتورع عن التلفيق والافتراء لكسب الأتباع من أجل الحصول على موطئ قدم على أرض هـذا البلد المضياف. وتلقى هـذه الحركات التشويشية صدًى كبيرًا لدى بعض كبار الكوادر الذين تستهويهم شعارات الماسونية الزائفة، وتمويهات البهائية، اللتين تزعمان أن مبادئهما لا تتنافى مع الإسلام (!!).

وتجدر الإشارة إلى أن الماسونية تملك بعض المحافل التي تضم عددًا من كبار الشخصيات، ويقال: إن لها أتباعًا حتى بين متزعمي الطرق الصوفية، ومن المستعربين ، فهؤلاء يقومون بدور العملاء، ينظمون المحاضرات للهجوم على الإسلام في مختلف المناسبات.

وفي الساحة ذاتها تتحرك الطائفة البهائية التي -وإن لم تفلح حتى الآن بالتغرير بأحد من المسلمين- فإن وجودها في السنغال يعتبر خطرًا على الناشئة، نظرًا للحرية المعطاة لها حيث تستطيع بكل سهولة الاتصال بالجمهور السنغالي عن طريق الصحافة، وكان من دأبها أن تنشر من حين لآخر في اليومية شبه الرسمية (لو سولي ) [LE SOLEIL ] بلاغات منمقة، وبيانات مزيفة تشرح من خلالها مبادئها، وتعرض عبرها وجهة نظرها حول قضايا اجتماعية مختلفة مع شيء كثير من الحذلقة والمغالطة، الأمر الذي يمكن، في المستقبل، أن يُسقط في حبائلها الشباب المسلم.

غير أن خطر البهائية، في الوقت الراهن لم يستفحل، لأنها لا تتوفر على مؤسسات ذات أهمية، وذلك خلاف وضعها في غامبيا المجاورة التي تكوّن مع السنغال اتحادًا (( كونفيدراليًّا )) حيث بنت مستشفيات ومراكز صحية ومدارس، وتنشر الكتيبات باللغة العربية مما يلزم التفكير في اتخاذ الاحتياطيات للحيلولة دون تسرب عدواها إلى السنغال ، وبالتالي تطهير غامبيا الشقيقة من هـذا الوباء.

يضاف إلى أعداء الإسلام هـؤلاء منظمات تعمل متسترة خلف أقنعة متعددة على الساحة السنغالية، منها: منظمة ((كاريتاس KARITAS)) وهي هـيئة عالمية نصرانية، لها فروع في كل بلد يوجد فيه نصارى، مهما قل عددهم؛ هـدفها المعلن: إسعاف ضحايا الكوارث الطبيعية في بقاء العالم كلها؛ عقدت فروعها في السنغال اجتماعًا بمدينة (( داكار )) في العاشر من مارس 1984م خصصته لدراسة وضع منكوبي الجفاف، وما يمكن أن تقدمه لهم من مساعدات في هـذا السبيل!!

تتبع هـذه المنظمة سياسة مدروسة تقوم على اختيار عيِّنات خاصة من قرى المسلمين -تعيش في ظروف اقتصادية بائسة تجعل أهلها معرضين، أو لديهم قابلية للتنصير- تقدم لهم ما يحتاجونه، وتوزع عليهم بعض علب السردين، ومسحوق الحليب المجفف، وحفنات من الأرز والدقيق…

ومن هـذه المنظمات أيضًا: نوادي (( الروتاري )) التي تقوم بدورها كذلك، وتقدم معونات إلى هـؤلاء الفقراء، وهذه النوادي -كما هـو معروف- ذات علاقة وثيقة بالمحافل الماسونية ، تحقد على الإسلام، وتغري كبار الكوادر بالمناصب التي تزعم أنها تضمنها لهم في الجهازين: السياسي والاقتصادي في البلاد… وتستغلهم بعد ذلك لتحقيق مآربها في توهين عرى الإسلام، وإضعاف المسلمين.

هذه المنظمات وكثير غيرها، تختلف أسماؤها، إلاّ أنَّ أهدافها واحدة، فعلى سبيل المثال: نوادي (( الليونز )) تشبه ((الروتاري)) في أسلوب عملها، من حيث الادعاء بأنها غير دينية، وما ذلك إلاّ لإخفاء هـويتها الحقيقية التي تعمل لخدمة وتحقيق أهداف أعداء الإسلام.

من هـنا كان الجفاف الذي حاق ببلدان إسلامية فرصة اهتبلتها هـذه المنظمات النصرانية والماسونية تحت غطاء ((الأخوة الإنسانية)) و ((التضامن الإنساني)) لتتسلل إلى عقر دار الإسلام، نافثة سمومها، داعية إلى عقائدها الفاسدة الهدامة.

إنّ استقرار الجفاف والجوع في منطقة الساحل، وهي منطقة يكوِّن فيها المسلمون الأغلبية الساحقة، أعطى فرصة لهذه المنظمات التنصيرية وأمثالها للظهور والتحرك؛ حيث تقوم بتقديم المواد الغذائية والملابس والأدوية، في الوقت الذي تكاد الهيئات الإسلامية أن تختفي فيه عن الساحة نفسها!!

ومن الأفكار المنمقة التي تروجها تلك الطوائف المعادية للإسلام الزعم أن كل تأخر وتخلف فكري ومادي عائد إلى الإسلام، وأن كل تفتح ثقافي وتقدم حضاري راجع إلى غيره، وهم يتجاهلون أن من الحيف أن تنسب ( التقدمية ) إلى دين بعينه، وتُنفى عن آخر، في حين أن الأديان السماوية أتت أساسًا لإنقاذ البشرية من الهمجية وبراثن الجهالة، وورطة العماية، ولاقتيادها نحو الخير والهداية ونور الحضارة، ولذلك عندما تُنفى (التقدمية ) عن دين ما فقد جرد من أهم خصائصه، وعلّة وجوده، وجوهر مقوماته.

ومن المقولات المتداولة لدى أعداء الإسلام بالسنغال، قولهم: إن النصرانية بمثابة سهم يشير إلى الأمام؛ بينما يومئ سهم الديانة الإسلامية إلى الوراء لاحتوائه عناصر سالبة في جوهر العقيدة : ويمثلون لذلك: اعتقاد المسلم بـ (المكتوب )، وعجزه عن تغيير ما يحيط به من عوالم، ونفي كل إرادة نابعة منه، والاستسلام الكلي للقدر… مما أقعده عن المجازفة، وثبط عزمه، وشل لديه كل مبادرة، لذلك لم يحاول بذل أي جهد لتغيير وضعه من سيئ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن، فالمؤمن يردد أن الرزق بيد البارئ يعطيه النائم الكسول، ويحرمه العامل النشيط الذكي (!!) فلا داعي -والحالة هـذه- للاكتساب والارتزاق، والكد والنّصَبِ لضمان حياة مادية أو روحية راقية، إذ لا طائل من وراء ما يبذل من جهد لتحويل اتجاه العجلة.

لا شك أن تلك المقولات بعيدة كل البعد عن حقيقة العقيدة الإسلامية السليمة؛ لأن هـذه القدرية العمياء لا تعبر عن وجهة نظر الإسلام الصحيح الذي يدفع المسلم نحو العمل الصالح المفيد، ويجعل ذلك مقياس التفاضل بين الناس؛ ﴿ ورسول الله هـو الذي أمر المسلم، حتى ولو قامت عليه القيامة، وبيده فسيلة أن يزرعها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا ﴾ ، والله عز وجل يقول: ﴿ وابتغِ فيما آتاكَ الله الدّار الآخِرة ولا تنْسَ نصيبك مِن الدُّنْيا وأحسِنْ كما أحْسنَ الله إليك ﴾ (القصص:77)، وهو الذي ربط التغيير في المجتمع بتغيير المسلم لما في نفسه: ﴿ إنَّ الله لا يُغيِّر مَا بِقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم ﴾ (الرعد:11).

إذا كان الرد بالنفي، ترى ماذا في العقيدة الإسلامية يعوق التقدم، ويحول دون استخدام ملكات العقل والجسم، ويمنع المسلمين من محاولة تغيير محيطهم لصالحهم؟!

ويكفي للرد على هـؤلاء أن ندعوهم إلى استقراء ماضي الإسلام، ليس في فترة ازدهاره في دمشق الأمويين، وبغداد العباسيين، وقرطبة المسلمة بالأندلس ، بل عن طريق مقارنة المجتمع الأفريقي المسلم وما يماثله من مجتمعات أرواحية: ((إن السكان المسلمين يمكن أن يصبحوا بسهولة متعصبين ومعادين للبيض، ولكن مما لا شك فيه أن الإسلام لدى السود خميرة للحضارة، ويمكن أن يرقى بأخلاقية السكان الأصليين، ويرفع بشكل ملموس من مستواهم العقلي )).

ثم إن دستور الإسلام: القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وتطبيقات السلف الصالح رضوان الله عليهم تفند مزاعم الاتكاليين الكسالي، وادعاءات مناوئي الديانة الإسلامية، بل كيف يتصور العقل السليم أن يدوِّخ هـذا الدين، لفترة غير وجيزة، مشرق الأرض ومغربها، من مشارف الصين إلى تخوم جبال (( البرانسطن )) ويبني صرح حضارة لم تبل معالمها رغم ما تعاقب عليها من أطوار وأحداث وفتن؟

ويبدو أن بعض الفئات تتذرع بمثل تلك الأفكار الخاطئة لتشكيك المسلمين في دينهم وبث التشويش في نفوسهم، فضلًا عن أن إلصاق ( التأخرية ) إلى الإسلام ما هـو إلا تبسيط لأعوص معضلة تشغل بال العالم كله، إذ -حسب هـذا الادعاء- تنحل عقدة التخلف بعصا سحرية بمجرد ما يتنكر مجتمع إسلامي لعقيدته الإسلامية باعتناق بدائلها من نصرانية ويهودية أو حتى أرواحية …

لا يفتر هـؤلاء المعادون للإسلام عن ذكر ما يزعمون أنه ثغرة في النظام الإسلامي، ألا وهو وضع المرأة: فهي مهضومة الحقوق، غير مساوية للرجل، وهي دون الجنس الآخر في كل شيء… لسنا هـنا بصدد استعراض ما تتمتع به المرأة في ظل النظام الإسلامي، وإنما نشير فقط إلى وضع المرأة في المجتمع الأرواحي حيث لم يكن لها أي حق؛ بل كانت عليها واجبات فقط؛ فهي لا ترث بل كانت موضوعًا للإرث، فعندما يتوفى عنها زوجها لا يكون لديها خيار في الاقتران بمن تشاء، إنما هـي مرغمة على الزواج بأحد أقارب الزوج المتوفى، والعلة في ذلك أن المهر يعتبر ثمنًا لها، أي أنها تصبح به في ملك الزوج ووارثيه.

لا نتعرض لجميع الاتهامات المفتريات ضد الإسلام، ولكننا نؤكد أنها افتراءات تستحق منا أن تؤخذ بمأخذ الجد؛ لأن أعداء الإسلام يتخذونها مطية لتنفير ضعاف القلوب والمغفلين وأنصاف المثقفين من المسلمين من دينهم.

لا يدرك هـؤلاء أن هـذا الدين يدعو إلى تحرير الإنسان من ربقة العبودية ، عبودية الشهوات والمادة والجاه. ولعل أفدح خطأ يقع فيه دعاة القضاء على الإسلام في السنغال هـو تصورهم أن تصفية هـذا الدين يتم بالسهولة نفسها التي يصفي بها انقلاب عسكري آثار حكومة عائمة غير ذات قاعدة شعبية متينة!! فمن المتعذر -إن لم يكن من المستحيل- استئصال العقيدة الإسلامية الراسخة الجذور في النفوس؛ لأن ذلك منوط باجتثاث عروق الشعب السنغالي نفسه؛ وإذا ما قامت ثورة بإبادة مواطنيها، تفقد تلقائيًّا علة قيامها.

ونحن نعتقد أن الإسلام سيكون أول المستفيدين من أية حركة هـادفة تعمل من أجل إخراج هـذا البلد من التخلف، وهو عمل يساعد العاملين في الساحة الإسلامية على إصلاح المفاهيم الخاطئة حول المجتمع الذي يقترحه الإسلام للإنسانية.

إن أي حركة سياسية أو اجتماعية لا تقدر الوضع الخاص للإسلام في السنغال محكوم عليها بالفشل، كما أن أي إصلاح لا يضع ضمن أولوياته العناية بالدين الإسلامي لن يكتب له النجاح، وذلك لسبب بسيط وهو أن 95% من سكان السنغال مسلمون لهم تاريخ طويل في حظيرة هـذا الدين، وأن الطائفة النصرانية -رغم ما لها من نفوذ لا يتناسب مع وزنها العددي- لا تستطيع أن تتطاول لتؤدي دورًا اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا -بالحدة نفسها في الدول الأفريقية التي فيها تضخم سكاني نصراني- في السنغال لتفاهة عدد أتباعها، فليس السنغال من الأقطار التي يحتكر فيها النصارى الثقافة الأوروبية، والمهارة الفنية.

ولعل من الدوافع التي ينبغي أن تقوّي تمسك السنغاليين بعروة الإسلام كونه عامل وحدة وطنية، وباعث شعور بوحدة الانتماء إلى أمة، إذ لم تكن هـناك صلة تربط (الأولوفي ) بـ (الماندنكي ) أشد متانة من صلات الدين الإسلامي، فقد وحد الإسلام العناصر المختلفة واللغة والعادات، ونظمها وقارب سلوكها ونمط حياتها: تحتفل الجماعات في أيام واحدة وساعات واحدة بأعياد الإسلام، مما ساعد على التخفيف من عناصر التمايز وإطفاء الشيء الكثير من أوار نار النعرة العنصرية والنخوة العرقية الجوفاء.

ويبدو أن اعتبار الإسلام عنصرًا جوهريًّا للوحدة الوطنية تخطى حدود السنغال إلى غيره من الأقطار الإسلامية، ((الدين هـو الأساس، وأحيانًا الأساس الوحيد لعنصر الوحدة في كثير من المجتمعات الوطنية لبلدان أفريقية وعربية آسيوية.))

الفصل الرابع: بعـض خصـائص الإسـلام في السـّنغال

لعلّ من الأهمية بمكان أن نشير في مستهل هـذا الفصل إلى أنّه لا وجود لإسلامٍ متعدّد الألوان، على شكل قوس قزح، يعكس تعدد ألوان المنتمين إليه، وأنه مرفوض أصلًا أن يكون إسلام للعرب، وثانٍ للأفارقة، وثالث للهنود، ورابع للملاويين .

فالإسلام المقتبس من مناهله العذبة الصافية، وأصوله الثابتة الراسخة -كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله - واحد لا يختلف مهما نأت ديار معتنقيه، وتباينت ألوان بشرتهم: لا يتميز في شيء المسلم السنغالي الذي يستمد عقيدته من القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة عن المسلم الفليبيني أو السعودي أو الموريتاني المتشبث بالأصول الصحيحة نفسها؛ وذلك رغم اختلاف محيطهم الاجتماعي وصورهم وألوان بشرتهم.

فالخصائص التي سيأتي الحديث عنها هـنا ليست في جوهر الدين الإسلامي، وإنما هـي إضافات قادمة من جهات أجنبية عن الإسلام.

أسبـاب تسـرّب بقايا الأرواحيّة إلى الإسـلام في السنغـال

لسنا بصدد التعريف بالإسلام، فلذلك مظانه، وما القصد سوى التعرض لبعض المعتقدات والممارسات التي التصقت بالدين الإسلامي في السنغال ، وقد جاءت حلّها من المجتمع التقليدي، ويبدو أن كثيرًا ممن ليسوا من أهل الدراية لا يميزون بين العناصر الدخيلة على الإسلام وبين غيرها لشدة التفاعل والتمازج بينها؛ وقد يعود سبب تسرب تلك العناصر الأجنبية إلى الإسلام إلى عوامل عديدة ائتلفت وتشابكت بعضها مع بعض على مرور الزمن:

من ذلك: طبيعة الدعوة الإسلامية والظروف الموضوعية التي رافقتها، وطبيعة أرضية المنطلق وظروفها فرضت على الدعاة التكيف معها، ومعلوم أن هـذا الدين انتشر بالطرق السلمية، حيث لم تكن بحوزة العاملين في هـذا الحقل قوة مادية زاجرة أو رادعة تمكن من فرض احترام حدود الإسلام في مجتمع حديث عهد به، وتحميه من انحراف المنحرفين، وتصبغ الحياة الاجتماعية بالصبغة الإسلامية، وذلك تحت رعاية سلطة إسلامية؛ بينما نعرف تاريخيًّا أن انتشار الإسلام تم في عدد من المناطق عن طريق تجار أفارقة، وبرابرة، وعرب قدموا لبلاد الأرواحيين من أجل عرض بضائعهم للبيع، فليس من شأن هـؤلاء أن يفرضوا على من يدعونهم لدينهم قواعد وتصرفات قد يجدون فيها حرجًا لاختلافها مع ما ألفوه من قبل، خصوصًا وأن التجار المسلمين لا يملكون قوةً سوى إيمانهم.

وأما الصنف الثاني من الدعاة، فليسوا أحسن حالًا من سابقيهم وهذه الفئة تتألف من أشخاص كانوا يفدون على بلاد السنغال للعيش لدى الأمراء الأرواحيين، فهم شيوخ مجردون من كل سلاح عدا إيمانهم، فليس من شأن هـؤلاء كذلك أن يفرضوا على أولئك الذين يسلمون على أيديهم تطبيق الدين الجديد بحذافيره، ودون مراعاة لشعور الأمراء ومعطيات الوضع الاجتماعي العام والسياسي للإمارات.

فغياب أية سلطة زمنية ترعى الإسلام وتدخل على النفوس هـيبته، وتحمي حماه حينما يتعرض للتحريف ساهم إلى حدّ بعيد في ظهور -أو على الأصح في بقاء- ممارسات وعقليات متأثرة بعادات وتقاليد المجتمع الأرواحي إلى درجة أن اندمج بعضها في الإسلام حتى أصبح وكأنه جزء منه؛ ولقد حاول زعماء مسلمون من السنغال تصحيح الوضع عن طريق نشر التعليم الإسلامي الصحيح، وذلك بدءًا بتأسيس دول وممالك إسلامية تنهض بعبء تبصير الرعايا بالإسلام السليم من الشوائب، سواء بين المجتمعات المسلمة التي حادت عن النهج الصحيح بسبب الجهل والانعزال عن العالم الإسلامي، أو بين الجماعات التي لم تعتنق الإسلام. وربما تدخل حرب الحاج عمر الفوتي ضد ((ماسينا)) المسلمة في هـذا الإطار.

قد يندهش دارس الإسلام في السنغال وفي غيره من أقطار غربي أفريقيا لوجود كثير من العناصر الغريبة عنه والتي تسريت إليه من بقايا معتقدات عهد الأرواحية!

ظاهرة التشيّـخ في السنغال

ليست الطائفة التي كانت تزور من حين لآخر قصور أمراء السنغال سوى الجماعة التي ستعرف فيما بعد باسم ((الشيوخ)) حيث تزامنت ظاهرتها وظهور الإسلام نفسه في هـذا القطر، إذ يعود إليها الفضل في انتشار الديانة الإسلامية في غربي أفريقيا كله، كما سبقت الإشارة.

ولدينا شهادة عدد من الأوروبيين الذين زاروا السنغال في القرن الخامس عشر الميلادي، ولاحظوا حضور شيوخ برابرة وعرب في قصور ملوك ( كاجور ) و ( جولوف ) فكان هـؤلاء الشيوخ يصحبون الأمراء ((لأنهم -الشيوخ- يلقنونهم الفقه)) (( دامو )) [سنة 1455م ] ويقول (( كولهو COELHO)): ((كان بحضرة ملك سالوم شيخ، وأن هـذا الملك كان يتجول مع عدد كبير من الشيوخ البيض القادمين من تلمسان))

وبفعل التطور الهائل الذي حدث بالسنغال عبر مساره التاريخي، فإنّ دور الشيخ عرف تطورًا وتنوعًا كبيرًا نجم عنه بروز طوائف في إطار العمل في الحقل الإسلامي لظهور الطرق الصوفية: شيوخ من صانعي الطلاسم، وشيوخ من رجال الأعمال، وجماعة الضغط السياسي…

طوائــف الشـيوخ

بادئ ذي بدء، يجب أن نلاحظ حضور الشيوخ في مختلف المجتمعات الإسلامية، سواء في القارة الأفريقية، أو في آسيا ، أو في المشرق العربي، لا عبرة للاسم الذي يطلق عليهم هـنا أو هـناك: يسمونهم بـ(ألْفا ) تارة و بـ (سريج ) وحينًا بـ(مورو ) وآخر بالمرابط، ومن هـذه الكلمة الأخيرة جاءت اللفظة الفرنسية ((mARABOUT)) بيد أن تباين هـذه الأسماء في هـذا القطر أو ذاك من العالم الإسلامي ليس إلاّ لفظياًّ، لأن الوظيفة الاجتماعية والدينية المنوطة بهم تكاد تكون واحدة في تلك المجتمعات كلّها؛ وإذا كان هـناك اختلاف فلا يتعدى أن يكون ناجمًا عن تباين معطيات الظروف التاريخية والبيئية، ومدى الوعي، ومبلغ المستوى الحضاري لهذا المجتمع الإسلامي أو ذاك؛ فصورة الشيخ التي سيأتي رسمها قد لا تعكس في تفاصيلها كلّها صورة شيخ يعيش تحت سماء أخرى، ولكنها بالتأكيد تصوِّر الملامح العامة لشيوخ الدين في العالم الإسلامي.

يتلخّص دور الشيخ في المجتمع السنغالي في نشر العقيدة الإسلامية والأفكار الصوفية، والقيام بتربية الصغار وتعليم الكبار، وتنسيق أعمال اجتماعية ودينية من إمامة ورئاسة حفلات: عقد قران ، وعقيقة ، وجنازة ، وأحيانًا يتقمص دور الكاهن في المجتمع التقليدي من حيث طمأنة أفراد مجتمعه من هـيجان قوى الطبيعة، وإبطال مفعول السحر الأسود ، بل الشيخ عامل توازن هـام في المجتمع السنغالي؛ يتوسط بين الفرقاء، ويسوّي المنازعات العائلية، ويفضّ الخصومات ، ويصلح ذات البين ؛ على أن نجاحه وفشله منوط بقوة شخصيته، ومدى اتساع صيته، وأصوله الاجتماعية، ووضعه الاقتصادي.

الشــيوخ من الطـراز الأول

تتركب طائفة الشيوخ من فئات عديدة لأنّ هـذه الكلمة تطلق على كل من هـبّ ودبّ، ففيها الصالح كما فيها الكثير الطالح.

ويمتلئ تاريخ السنغال بالشيوخ ذوي القيمة العالية، علمًا وعملًا وورعًا، وتتميز هـذه الجماعة بكونها تجمع بين الزهد ومواظبة الذكر، والتمسك بتعاليم الإسلام قولًا وعملًا، وتمتهن التدريس فضلًا عن أنها -بعد ظهور الطرق الصوفية- أصبحت عميلًا نشطًا لها، وقد يتخلل ذلك كلّه تعاطي علم الخواتم … وهي فئة مثلى من بين طوائف الشيوخ في السنغال لما أدّت من دور تاريخي، وقد سبق أن ذكرنا بعضًا من نشاطاتها.

وفي الحقيقة ما كانت تركن إلى الاستكانة والكسل والتواكل والاعتماد على جاه الأجداد، بل كانت نشطة منتجة ناشدة نعماء الله تعالى بالأسباب المشروعة، وبالوسائل المعروفة العادية الطبيعية، علاوة على كون أغلب أفرادها من العلماء، وكانت لذلك محطّ تقدير لدى العامة، وهاهي لوحة من الشعر الشعبي تعكس رؤى العامة للشيخ المثالي:

أنت سيسي ، درست كل العلوم، تصلّي ليلًا وتسهر كل الليالي، ترص صفوف جموع المصلّين، في كل يوم تصلّي، وكل جمعة تؤم... أنت مبجل، تصوم وتخرج الزكوات عند مسألتك، لا تجيب إلاّ بما يقول المليك

وصوّر الكاتب السنغالي الشيخ (( حامدو ))، وكان أحد شيوخ هـذه الفئة، وهو في كتّابه وبين تلامذته: ((كان الرجل مسناًّ، نحيلًا، شديد الذبول، بالغ الهزال لتقشفه، لا يضحك أبدًا، فاللحظة النادرة التي يمكن أن يرى فيها وهو منشرح هـي تلك التي يغرق فيها في الأذكار، أو حينما يستمع إلى تلاوة كتاب الله، فيرتاح، ويبدو وكأنه يرتفع عن الأرض، وكأنه مرفوع بقوة خفية؛ وكثيرًا ما يكون مندفعًا بغضب جنوني نتيجة كسل أو خطأ أحد التلاميذ، وقد يذهب به الغضب إلى حد العنف والخشونة بشكل غريب، لكن هـذا العنف -في الواقع- من أجل المصلحة التي يريدها للتلميذ المخطئ))

، ومن المؤسف أن تصبح هـذه الفئة اليوم مغمورة بعيدة عن الأضواء.

فئـة أخرى من الشــيوخ

وهي فئة تتعاطى الطلاسم ، أو ما يسمى بعلم الأسرار ، وترجع ممارسة هـذا اللون من العلم إلى عهود قديمة، ويقال: إنّ (( منسا موسى كانكو )) حين اقتنائه للكتب بمصر اشترى عددًا من المؤلفات التي تعالج علم السيمياء ؛ وتنطلق جذور تعاطي السيمياء من المغرب ، البلد الذي يقتبس منه السنغال شؤون إسلامه، حيث ذكرت مصادر أنه في بداية القرن الثاني عشر الميلادي صنع المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية، حرزًا في جلد المزواد وأعطاه لمضيف له جزائري وطلب منه الاحتفاظ به دائمًا لأنه جالب للخير.

على أن هـذا النوع من العلم ظهر قبل ابن تومرت، فقي القرن الرابع الهجري اعتنت جهات إسلامية في الشرق الإسلامي بعلم التنجيم وبأسرار الحكمة .

يتطور هـذا النوع من المعرفة تطورًا خطيرًا في غربي أفريقيا إلى درجة استحالة العثور على متعلم بالعربية دون أن يشتغل به بشكل أو بآخر.

ومن مساوئه -لا أدري ما إذا كانت له محاسن- أن الاهتمام به يفضي إلى تدني دراسة وفهم الإسلام؛ لأنه يصرف المعتنين به عن طلب العلم الذي يطلق عليه اسم علم الظاهر ، وكثيرًا ما يصدف المهتمون بالأسرار عن تلاوة كتاب الله تعالى لانكبابهم على قراءة أدعية وأذكار تشغلهم عن دراسة شؤون دينهم …

فئــة متدنِّيـة

إذا كان تعاطي هـذا النوع من النشاط غير مشروع فإنَّ هـناك فئة متدنِّية تمتهنه وتتعيش عليه، وتركن إلى الاستكانة والكسل وتتظاهر بالتقوى والزهد ، وتقوم بتدبير الحيل للاستيلاء على أموال النّاس بالباطل؛ وينعدم عند هـذه الفئة أدنى استعداد عقلي أو روحي، فحياتها في ذلك المستوى المتدني أبعدتها عن النخوة والطموح، فضلًا عن كون سلعتها تافهة وهي عبارة عن خواتم موضوعة تنسخ نسخًا وتتم كتابتها بعد مواصفات خاصة: ورق أبيض، لوح مصنوع من خشب كذا، قلم كذا من عروق شجر معين… ويشبه بعض وصفاتها وصفات الأرواحيين؛ بل قد تستعين بهم(!؟) والتعاويذ -عند المؤمنين بها- تضمن الحماية، سواء ضد الأشخاص والحيوانات أو ضد الأشياء.

كان إبرا ديغين IBRA DEGUENE بصفته مسلمًا حقًّا، يقتبس من القرآن آيات، ثم ينسخها على صفحات قرطاس، ويخيطه بنفسه، ثم يعطيهالأطفال؛ وأحيانًا، يغطس القرطاس في قصعة ماء، فيشربه، ويغتسل به، وأمام بعض الحالات الخاصة، تغلب غريزة المحافظة على كل اعتبار، فيستعين بالتقاليد الوثنية المنتسبة إلى عالم ((تيدو))

وتتكون أحجبة هـؤلاء من ((القداس)) الذي يوجهونه إلى عفاريت الخلاء والجان، ولهم أساليب خاصة بهم، وهي لا تخطئ: رقية كذا، وذبيحة كذا، … وكان ((إبراIBRA)) لدى عجز الطلاسم ، يلتمس خفية مساعدتهم، وكانت تمائمهم عبارة عن قرن كبش مخيط في ثوب ذي لون قرمزي، مع عقد من حبّات الودع.. يعلق كل ذلك على مدخل منزل العائلة لأمنها، ومن أعمالهم: تعليق جرس صغير على عنق الكبش الضخم الذي يملكه ((إبرا IBRA)) وذلك لحمايته.

وكانت التمائم التي تحملها ثيان ((THIAN)) حول خاصرتها مخيطة في جلد أسد، وهو عمل وثني. وكان الوثنيون يملكون أنواعًا من جلود الحيوان: من جلد النمر إلى جلد الفهد، ومن جلد الضبع إلى جلد الثعلب، ومن جلد الوعل إلى جلد الفيل.

على أنه في بداية اتصال ضعاف القلوب بأصحاب الأحجبة، يطلب منهم استطلاع خفايا المعضلات، وعندما يتم ذلك يدخل الطرفان في مساومة حول الأجر (المقابل المادي )، ولكشف ثنايا المستقبل والغيب، يستعين متعاطو هـذا العمل بالرمل، وهو عبارة عن خطوط مركّبة من النقاط تحلل وتقرأ ثم تفسّر بعدّ النقط.

وجدير بالإشارة أن كتبًا عربية مطبوعة في مصر وتونس والمغرب تستخدم لهذا الغرض، أشهرها: قرعة الأنبياء، وهو كتاب يحتوي على أبواب كثيرة يحمل كل باب منها اسم نبي من أنبياء الله، ويتم استعماله على النحو التالي: تقرأ الفاتحة ثلاث مرّات، ثم تغمض العينان بعد فتح الكتاب، وتحط الوسطى على إحدى الخانات، وتكون هـي السهم، ومن ثمة تقرأ الباب؛ ويوجد في الأبواب أهم ما يشغل بال العامة: إن كنت تسأل عن زواج فشأنه كيت وكيت، وإن كنت تستفسر عن مشروع سفر فأمره كذا وكذا.. وهكذا دواليك…

وفوق هـذه الممارسات تعتبر هـذه الفئة ذات صلات وثيقة بعالم الأرواح والأشباح؛ تتعارك مع الجان والعفاريت وتطارد مصاصي الدماء وتنزع من مخالبهم الفرائس، وتتدخل لإخصاب الأرض وجلب الأرزاق وإكثار النسل والوقاية من الحساد وحماية المجرمين والحيلولة دون دخولهم في غياهب السجون حتى لو اقترفوا أكبر الجرائم، ويدّعي بائعو الطلاسم أن بعضها يحصن حامله من أن يؤثر فيه السلاح.

لاتهمنا هـنا الأداة المستعملة لدى أصحاب السيمياء ، ولا النتائج التي قد يتوصلون إليها، كما أنه لا يعنينا ما قد يبدو عجائب… فتلك قضايا تخرج عن الإطار الذي رسمناه لهذا الكتاب، بل تدخل في الدراسات (( السوسيولوجية والأنثروبولوجية )) وغيرها من العلوم الإنسانية، كما أننا لا نثير مسألة تحريم أو جواز احتراف كتابة الطلاسم، وما يقترن به من ممارسات غريبة، فتلك أمور يمكن معرفة أحكامها من مظانها من كتاب الله تعالى وسنّة رسوله ، وكتب علماء الإسلام ؛ فغايتنـا: إبراز الجوانب السلبية للسيمياء بالسنغال.

تتمثل الجوانب السلبية هـذه في أن جلّ متعاطي السيمياء عاطلون عن العمل الإنتاجي، حيث لا يساهمون إلاّ في تقهقر البلاد اجتماعياًّ واقتصادياًّ وفكرياًّ، وتتفاقم خطورة هـذه الظاهرة يومًا بعد يوم إذا علمنا أن جميع الأوساط الاجتماعية السنغالية تتعاهد علنًا أو في الخفاء بؤر أصحاب الطلاسم، ابتداءً من رجل الشارع العادي إلى كبار الشخصيات، من مثقفين وسياسيين وإداريين… لذلك تعج كبريات المدن السنغالية بالعشرات من مختلف الأعمار من متعاطي علم الأسرار يتقوقعون في البيوت بانتظار الزبائن. وفي الواقع، فإن الأمر يتعلق بتجارة رابحة: تباع الطلاسم بأثمان باهظة تصل أحيانًا إلى مبالغ خيالية.

وقد أدّى الاعتقاد والاستعانة بها في كل صغير وكبير إلى كوارث وفضائح اجتماعية واقتصادية لا تحصى، ولقد ندّد شيوخ سنغاليون بهذه الحرفة، وكتب -بهذا الصدد- الشيخ (( مالك سي )) في كتابه: ((كفاية الراغبين فيما يهدي إلى حضرة رب العالمين وإقماع المحدثين في الشريعة ما ليس له أصل في الدين)) وكفّرهم: ((وكان ذكر اسم الله تبارك وتعالى لغير وجه الله محدودًا من الشرك ، فما تقول في بيع الاسم بالمال ليستعمله المشتري في حظوظ النفس؛ فالبائع يدخل العالم على غرض فاسد والله المتولي الأمور؛ يقول لك: إن ذكرت هـذا الاسم تنال كذا وكذا من الجاه والمال والقبول، قل له: يأيها الأخ ما المانع من وجودك ما ذكرت حتى تبيعه وأنت السابق على ذكره، فإن أردت أن يفتح الله لك الباب وييسر لك كل عسير فلازم التقوى في جميع أمورك، ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَل لَّهُ مَخرجًا ﴾ ﴿ وَيرزقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب ُ ﴾ (الطلاق : 2 -3))).

ويضيف الشيخ ((مالك سي)): ((إنَّ شرك الأغراض عند أهل الشريعة فعل أعمال البر لغير وجه الله، ونيل غرض من الأغراض… ومما يجانس شرك الأغراض تعليق شيء مثل التمائم وغيرها دون إسناد التأثير إلى الله تبارك وتعالى)) ، ويستشهد بأقوال العلماء كالشيخ محيي الدين الذي ذكر أن: ((الولوع والاشتغال بعلوم الأسرار من الحروف والأسماء وغيرها، وهي علوم ((الهبة))، مذموم دينًا ودنيا.

مذموم طلبها، فلا يطلبها إلاّ جاهل)) تدل هـذه الفقرة دلالة واضحة أن تعاطي الطلاسم وما يدخل في هـذا العالم لا ينظر إليه العلماء المحققون في السنغال بعين الرضى بل يعتبرونه شركًا وانحرافًا عن جادة الطريق…

الطـرق الصوفيــة

إذا كانت ظاهرة التشيخ قديمة قدم الإسلام نفسه في السنغال، فإنَّ الطرق الصوفية تعد جديدة نسبياًّ، ويبدو أنها ظهرت في أطراف الصحراء الكبرى أثناء مرور الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني بموريتانيا ، وهو في طريقه إلى نيجيريا ، في القرن الخامس عشر الميلادي، حيث أخذ عنه الطريقة القادرية بعض أعيان قبيلة ((كنت)) ومن ثم بدأت تنتشر في غربي أفريقيا.

والطرق الصوفية عبارة عن مجموعة قواعد للرياضة الروحية، تحتوي على أذكار وأوراد وسلوك خاص، وضعها كبار زعمائها، الذين تألّق نجمهم وذاع صيتهم لأتباعهم المتعلقين بأهدابهم، وممن يستهويهم التصوف دون أن يكون لديهم استعداد كامل للغوص في خضمِّه.

وقد ازدادت أهمية الطرق الصوفية في السنغال من بداية القرن التاسع عشر لتبلغ أوجها مع بداية هـذا القرن، وتضافرت عوامل لصعودها ولشهرة كبار قادتها.

كانت العائلات الإسلامية الكبيرة محل احترام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، حتى في ظل النظام البائد ((تيدو)) وكانت بيوتهم مأوى المستضعفين حين تتصاعد قسوة نظام الأرواحيين. وعلى إثر تلاشي ذلك العهد وجد الناس البديل في زعماء الطرق الصوفية حيث التف حولهم صنفان من المواطنين:

1- أولئك الشامتون بسقوط نظام الطغيان، ويشكل هـؤلاء الأغلبية الساحقة، يقول (( مارتي )): إن حقيقة مزايا الإسلام ونزاهة الشيوخ حجبت السمعة التي كان يتمتع بها زعماء سياسيون في السنغال القديم.

خصوصًا وأن هـؤلاء أصبحوا -بعد انهزامهم وخضوعهم للاستعمار- موضع إهانة واحتقار من الشعب، بينما لم يدخل الشيوخ في مساومات مهينة مع المستعمر، ولذلك ظلوا رمزًا للمقاومة الوطنية يعني أنه كلما ضعفت الأرواحية، ازداد نفوذ الإسلام، وبالتالي قوة الشيوخ.

2- طائفة ((تيدو)) نفسها وجدت في الالتفاف حول الشيوخ متنفسًا لمرارة انهزامها واندحارها أمام الاستعمار وردّ فعل الاحتلال الأجنبي.

يضاف إلى ذلك تفكك المجتمع التقليدي بفعل ظهور التعامل في ميدان التجارة بالقيم -العملة- وسهولة المواصلات وتنقلات الفلاحين الدائبة من قرية إلى قرية بغرض زراعة الفول السوداني؛ إذ غيّر ذلك كلّه طبيعة العلاقات بين الأفراد.

وقد استفاد الشيوخ والطرق والصوفية في مناطق خاصة في السنغال من هـذا الوضع الجديد لكونهم القوة الوحيدة الكفيلة باستقطاب العناصر المختلفة.

كان الواحد - بعد انفلاته من سلطة العائلة ومن نفوذ مقدم القرية، وتحرره من الارتباطات العشائرية واختفاء استبداد ((تيدو)) - مضطراً إلى البحث عن بديل فيجده لدى التنظيمات الطرقية.

ولعلّ أهم عامل ساعد على تألق نجم الطرق الصوفية وزعمائها يكمن في تطور فلاحة الفول السوداني التي أدت إلى شيوع اقتصاد مبني على تبادل وسط وغربي السنغال، وهي المناطق نفسها التي عرفت قبل غيرها تطوراً في الإدارة ونموًّا في العمران، بينما ظلت المناطق الأخرى من البلاد منكمشة على نفسها.

وهذه الحركة التجارية والعمرانية والإدارية رافقت بروز رؤىً جديدة في الحياة، وولدت رغبة جامحة لدى العامة في وجود زعامة دينية تجسم أحلامهم، وتحل محل الزعامات البالية، وزاد من حظ الشيوخ في السيطرة على العامة أنهم لم يطمعوا في منصب كان ((تيدو)) يعتلونه، وبالمقابل كرّسوا - بالأصح بعض منهم - جهودهم على الأعمال الإنتاجية، وعلى وجه التحديد إنتاج الفول السوداني حتى أصبحوا ذوي مراكز اقتصادية لا يستهان بها؛ بجانب زعامتهم الروحية، من أجل ذلك توجّه آلاف الناس إليهم لقوتهم المالية والاجتماعية، فحمل ذلك الإدارة الاستعمارية على خطب ودّهم والاستعانة بهم.

وعندما استشعرت الزعامة الطرقية ثقلها الاقتصادي ونفوذها السياسي لم تتوان من الاستفادة منها لحماية مصالحها وازداد مع الأيام نفوذها وتدخلها في الشؤون العامة - إدارية وسياسية - خصوصًا وأن وساطتهم تلتمسها فئات مختلفة من الشعب.

ويلاحظ أن طلّ كبار زعماء الطرق الصوفية موجودون في المناطق التي بدأ وتطور فيها إنتاج الفول السوداني، مما يؤيد رأينا أن نمو وتطور زراعة هـذه الغلة ساهم إلى حد بعيد في شهرة هـذا الشيخ أو ذاك، فـ ((فوتا)) التي ينتسب إليها عدد من زعماء الطرق لم تعرف شيخًا واحدًا له شهرة الشيوخ الذين ظهروا في مناطق إنتاج الفول السوداني، ونتيجة لذلك فقد لا نحيد عن الصواب إذا ذهبنا إلى القول بأن هـناك علاقة سببية بين نفوذ وشهرة شيخ وبين الموقع الجغرافي والوسط الاجتماعي والأصل القبلي الذي نبع منه.

على أنّ عدوى ظاهرة الزعامة الطرقية وتسمياتها المختلفة تسربت إلى المناطق الأخرى بل المجموعات التي لم تعرف إلاّ حديثًا النزعات الانتمائية إلى طرق أصبحت لها ألقاب طرقية.

الأسـر الطرقيّــة الكبرى

أولًا: القادريّــة

تبدو الطريقة القادرية وكأنها أمّ الطرق في السنغال، وتنسب إلى أبي صالح عبد القادر الجيلاني (1077 -1166 )، انتشرت في أقطار عديدة من العالم الإسلامي حيث أعطت القالب للطرق التي نشأت بعدها ((ليس من المغالاة في شيء - يقول ((ألفونص غوبي)) - القول إنّ الطرق الإسلامية قد استوحت بشكل أو بآخر من التنظيم الذي هـيّأه الجيلاني ومن المبادئ التي وضعها)) جاءت القادرية ، شأن باقي الطرق الصوفية، من شمالي أفريقيا إلى غربيها، ويعتبر الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي أول من نشرها في القرن الخامس عشر الميلادي بموريتانيا ، ومن ثم دخلت السنغال ، لذلك يقع أهم مراكزها في تلك البلاد: الكنتيون ، وأهل (( شيخ سيدي )) في بوتلميت ، وأهل الشيخ محمد الفاضل ، ولكل من هـذه المراكز الثلاثة فروع أو تفرعات بالسنغال؛ منها:

• مركز ( أنجاسان N' DIASSANE ) ويقع على بعد حولي (70 ) كيلومترًا من داكار ، يجتمع فيه أتباع الكنتية حيث يوجد ضريح أحد زعمائهم، (( الشيخ بوكنت )) المتوفى سنة 1914م. ينتمي جل أتباع الكنتية إلى جماعة ((بامبارا)) التي هـي من جمهورية مالي ، وذلك لامتداد نفوذهم في ذلك القطر قبل انتشار التيجانية ، وخصوصًا في (ماسينا وسيغو ) التابعين لهم روحياًّ قبل حركة الحاج عمر الفوتي . ولعلّ كون غالبية أتباع زاوية (أنجاسان ) من أجناس غير سنغالية قلّل كثيرًا من نفوذ القادرية الكنتية في السنغال قياسًا إلى نفوذ الزعامات الطرقية الأخرى.

على أن (أنجاسان ) تستقبل، بمناسبة موسم المولد النبوي الخاص بها آلاف الزائرين يفيدون إليها من مناطق نائية، وخصوصًا من جمهورية مالي.

• منذ عهد قريب برزت مراكز قادرية جديدة بفضل التقليد دون أن تكون لها جذور تاريخية ولا أصول ثابتة: كمركز ( مكا كوليبنتانMAKA COLIBANTANG )

الذي تتزعمه عائلة (جابي جاساماDIABY GASSAmA ) وهي جماعة (جاخنكي DIANKE )

التي هـاجرت في الستينيات من غينيا (كوناكري ) إثر نزاع نشب بينها وبين الرئيس سيكوتوري ؛ وتتميز احتفالاتهم بالصخب، حيث تمتزج التهليلات والأهازيج الدينية بدقات الطبول وإيقاعات (كوري ) وبدع لا تحصى؛ شأنهم شأن باقي الطرق الصوفية.

• وفي جنوبي السنغال مركز دار السلام الذي أسسه أحد أحفاد الشيخ محمد الفاضل هـو الشيخ محفوظ بن طالب خيار المتوفى سنة 1917م. وتوجد أنشط الزوايا القادرية في موريتانيا المجاورة في:

• بلدة بوتلميت ، وليس مؤسسها سوى أحد تلامذة الشيخ سيدي المختار الكنتي ، وهو الشيخ سيدي الكبير (1780 -1869م ) وقد أدّى حفيده الشيخ سيدي بابا المتوفى سنة 1923م دورًا خطيرًا لتوسيع دائرة القادرية في السنغال ، وغامبيا والأقطار الأخرى المجاورة؛ تحصل هـذه الزاوية على أهم أتباعها من جماعة (ماندنكي ).

وبجوار بوتلميت مركز نمجاط حيث قبر الشيخ سعد أبيه بن محمد الفاضل المتوفى سنة 1917م، ويجوب كل سنة مئات الزائرين من أتباع هـذه الزاوية الصحراء تحت أشعة شمس محرقة للاحتفال بعيد الفطر تحت الخيام على جنبات كثبان الرمال المبعثرة هـنا وهناك حول ضريح شيخهم الذي تنسب إليه الكرامات .

وتنبني القادرية ، شأن التيجانية ، على أسس أخلاقية راقية، تدعو إلى التمسك بقواعد الإسلام، وتحث أتباعها على الرأفة والتسامحوالتواضع، فهي من هـذه الزاوية لا غبار عليها، ولعلّ علوّ بعض أتباعها في تقديس زعمائها يدخل الريبة على النفس؛ خصوصًا وأنهم يعطون أحيانًا الأولوية لشؤون الطريقة.

وتتراوح أذكار القادرية بين البساطة والتعقيد، طبقًا لاختلاف رتبة المريد ، ويبدو أنها أذكار خالية من عوامل التشويق: فلا إنشاد ولا تطريب ولا حضرة تضم مجموعة من الناس، وافتعال جذب واختلاق حالة الوجد…

وتعرف الطريقة القادرية اليوم تقهقرًا ملحوظًا وتناقصًا في عدد الأتباع منذ ما وصلت التيجانية إلى غربي أفريقيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومنذ أن تطورت المريدية في القرن العشرين الحالي وامتازت بنوع من الركود والفتور بينما أثارت التيجانية حماسًا دينيًّا منقطع النظير، واتهمت القادرية بالتواطؤ والتساهل مع (تيدو ) ثم ظهرت المريدية لتستقطب البقية الباقية من أتباع القادرية.

ثانيـًا: التيجانيــة

تنسب التيجانية إلى مؤسسها الشيخ أحمد التيجاني الجزائري (1797 - 1815م ) الذي درس بفاس ، ويمم نحو الديار المقدسة لأداء فريضة الحج سنة 1718م، وفي طريق عودته عرج على مصر ، وهناك انسلك في الخلوتية ، وكان قبل ذلك قادرياًّ ثم طيبياًّ ، كما كان محمد الغالي خليفة سيدي أحمد التيجاني في المشرق خلوتياًّ قبل أن يصبح تيجانياًّ، ويقال : إن الحاج عمر الفوتي كان هـو الآخر سابقًا خلوتياًّ.

أسس سيدي أحمد التيجاني طريقته بإيعاز من الشيخ محمد الكوردي ، فلم تمر إلاّ فترة وجيزة على تأسيسها حتى طغت، لا على الخلوتية التي تعد أُماًّ لها فقط، بل على غيرها من الطرق المنتشرةبشمالي وغربي أفريقيا قاطبة، وذلك بفضل حيوية ونشاط دعاتها، والهالة التي تؤطر حضرتها الجماعية.

وصـول التيجانية إلى غربي أفريقيا

انضم الشيخ محمد الحافظ الشنقيطي المتوفى سنة 1830م، إلى التيجانية على يد مؤسسها مباشرة الذي عيّنه ((مقدما)) واستخلفه على موريتانيا وما جاورها، فقام الشنقيطي بنشر الطريقة بين قبائل الشنقيط وبفضله وصل مداها إلى السنغال .

ولم تشع التيجانية كل الإشعاع بغربي أفريقيا إلاّ حينما تقلّد زعامتها الحاج عمر الفوتي (1795 - 1864م ) الذي تلقى الطريقة بالحجاز على يد محمد الغالي ، وبعد وفاة الفوتي اتسعت التيجانية اتساعًا لم يسبع له نظير، ونجحت في استمالة قلوب أتباع القادرية التي اندحرت أمامها.

وتستقطب التيجانية اليوم تقريبًا جميع أفراد جماعة فلاتة في السنغال، كما تحظى بإقبال كبير لدى جماعة (أولوف )، وتبعًا لذلك يسوغ تقدير أتباعها في هـذا القطر بحولي 70% من المسلمين. تتم بعض أذكار وأوراد التيجانية جماعياًّ، حيث يتحلق الأتباع حول ثوب أبيض يزعمون أن رسول الله يجلس عليه بصحبة أحمد التيجاني أناء الذكر (‍‍‍‍!!) وتتردد الأذكار بصوت عالٍ مع إيقاع منسق ومنظم، ولا شك أن لهذه الحضرات جاذبية من الطراز الأول، خصوصًا للعناصر الشابة، باعتبارها وسيلة لإشباع الرغبات الروحية التي لا سبيل لإشباعها لدى العامة إلاّ بتظاهرات مادية مثيرة.

ونجم عن أهمية التيجانية وتعداد أتباعها ظهور زعامات لها وألقاب وتنظيمات جديدة تهدف إلى مراقبة وتأطير الأتباع؛ ومن أهم مراكزها:

• مركز تيواوون -TIVAOUANE :

تقع مدينة (تيواوون - TIVAOUANE ) بغربي السنغال على بعد (70) كيلو مترا من داكار ، وعلى بضعة كيلومترات من مركز القادرية ( أنجاسان ).

أسس زاوية (تيواوون ) الحاج (( مالك سي )) المتوفى سنة 1922م ويمتاز هـذا الشيخ بأنه اهتم كثيرًا بتكوين أتباعه فكرياًّ، لذلك كانت زاويته مركز إشعاع ثقافي عام.

ويقال: إنه كان أول من نظم وثبت الاحتفال بالمولد النبوي ( غامو - GAmO ) وبعد وفاته تعاقب أبناؤه على زعامة الزاوية وتسييرها، وكانت قد نشبت مشاحنة بين أعضاء عائلة ((سي)) منذ الخمسينيات لم تسوّ على ما يبدو إلاّ حديثًا.

زاويـة آل الحاج عمر الفوتي :

تقع هـذه الزاوية بداكار حيث يشرف عليها أحد أحفاد الحاج عمر الفوتي، وتولى رئاستها الحاج سعيد نور تال المتوفى سنة 1979م، ويلاحظ أنه رغم التفاف جماعة (تكلور ) حول هـذه الزاوية لا يبدو لها نفوذ واسع مثل زاوية تيواوون في ميدان السياسة على الأقل.

زاويـة كولخ:

تقع كولخ على بعد مائة وثمانين كيلومترًا من مدينة داكار، فيها زاوية الشيخ إبراهيم نياس المتوفى سنة 1975م، وكان له أتباع في موريتانيا وغانا ونيجيريا ، وقد أقام علاقات ودّ مع عدد من العلماء في العالم الإسلامي.

زوايا أخرى من درجة ثانوية:

إلى جانب الزوايا الأساسية تتبعثر مراكز تيجانية في طول البلاد وعرضها: زاوية ( كينيبا -KENEBA ) الواقعة على بعد (80) كيلومترًا من داكار ، ولها خليفتها العام، وزاوية الحاج محمد سعيد باه في جنوبي السنغال بقرية ( مدينة غوناس - GOUNASS ) ولهذه الزاوية أتباع كثيرون يتبعون نظامًا خاصًا لهم في الإنتاج الاقتصادي.

اللاّيينيّـة

يعتبر بعض الكتاب ( اللايينية ) تفرعًا من تفرعات التيجانية لكون مؤسسها تلميذًا لأحد شيوخ التيجانية؛ ظهرت هـذه الحركة سنة 1880م في قرية يوف - YOFF القريبة من داكار على يد إمام لاي تياو - THIAW وكان أمّيًّا يمتهن صيد السمك؛ وتتمركز (اللايينية ) على جماعة ليبو - LEBOU ولا يبدو لها نشاط ملحوظ خارج هـذه الجماعة.

المريديّــة

أسس المريدية الشيخ أحمد بامبا (1851م - 1927م ) وكان قد تعرض لمضايقات الإدارة الاستعمارية بسبب موقفه السلبي منها، فتفته بعيدًا عن بلاده مرتين ثم ظلّ تحت الإقامة الجبرية إلى أن وافته المنية سنة 1927م.

ويعتقد بعض الباحثين أن المريدية امتداد للقادرية معتمدين على العلاقات الوثيقة التي ربطت بين الشيخ أحمد بامبا والشيخ سيدي بابا ؛ والأقرب للصواب أنه لما صفت نفس ((بامبا)) راودته ريادة طريق خاص به، وفوق ذلك يفهم من بعض أشعاره أن طريقته الجديدة لا تميز بين القادرية والتيجانية المريدية فكلتاهما موصلة إلى الله تعالى ومقربة إليه.

ولقد أدّت المريدية دورًا كبيرًا في تطور إنتاج الفول السوداني حيث كان زعماؤها من كبار منتجيه.

ومدينة طوبي -حوالي (150 ) كيلومترًا من داكار - هـي العاصمة الروحية للمريدية، وتستقبل زهاء مليون نسمة كل سنة بمناسبة الاحتفال بليلة 17 صفر التي تصادف ذكرى نفي الشيخ ((بامبا)) إلى غابون ، وتدوم الاحتفالات ثلاثة أيّام، وتدور حول المسجد الجامع حيث ضريح مؤسس المريدية؛ ومن الجدير بالذكر أن أتباع المريدية يراقبون قسمًا هـامًّا من حركة تجارة التفصيل، كما أنّ طائفة (باي فال BAY FALL ) تمارس أساليب تعتبر شاذة بالقياس إلى نهج شيخهم منها الاستغناء عن الصلاة والظهور بمظاهر غريبة، وعبادتهم لشيوخهم‌!!

وقد استهوت المريدية أخيرًا عددًا من الشباب الذي وجد فيها نوعًا من الوطنية باعتبار زعيمها ابنًا للسنغال، ولتساهلها في ممارسة شعائر الدين.

تنظيم الطـرق الصوفيَّــة

تنظم الزعامات الطرقية أتباعها على شكل هـرمي، يتربع ( الخليفة العام ) على قمّته ويحيط به ( المقدمون ) و ( الشيوخ )

ويقوم هـؤلاء بمهام التنسيق بين الزعامة المركزية والتنظيمات والهيئات التابعة لها، ويشرف المقدم أو الشيخ على الأعضاء في القرى والمدن، والأحياء والجاليات السنغالية في الخارج المنتسبة إلى الطريقة؛ ويتم تقسيمالمدن إلى دوائر تضم الواحدة منها عددًا من الأتباع يتعاونون فيما بينهم ويدرسون حياة الطريقة، وهي الوقت ذاته القناة التي عن طريقها يتم توصيل تعليمات زعيم الجماعة، وتقوم بتنظيم الزيارات إلى قبور مشايخها، أو زواياهم، وتنسق الدوائر نشاطاتها بمناسبة مواسم وأعياد الطريقة التي تنضوي تحتها.

وتتمتع المريدية من بين الطرق بحسن التنظيم مثلما تمتاز بالانضباط: خليفة عام واحد ينصاع جميع أعضاء الطريقة لأوامره ديغال - DIGUEL ودون الخليفة العام زعماء من درجات دنيا: أبناء المؤسس وأحفاده، وكبار أتباعه خارج أسرته.

الدولـة والطـرق الصوفيَّــة

حسب دستور السنغال فإن الدولة علمانية لا تتلون بأي صبغة دينية، لكن ذلك لم يمنع من مشاركتها في حياة الطوائف الدينية الإسلامية والنصرانية، ولا يتصور أن تقف متفرجة أمام قوى روحية واقتصادية واجتماعية متنامية دون أن تحاول احتواءها أو الاستفادة منها، خوفًا من إفلات زمام الأمور من يدها والاتجاه بها إلى ما لا يرضيها ولا تحمد عقباه.

تقوم الدولة بدعم الزعامات الدينية ماديًّا ومعنوياًّ، وترسل وفدًا رسميًّا عنها ليمثلها في الحفلات التي تقيمها الطوائف الطرقية.

وعلى الصعيد المادي تقوم السلطات الرسمية بتقديم مختلف التسهيلات إبان مواسم الطرق: توفير المياه الصالحة للشرب، نصب الخيام، تعبئة العشرات من رجال الشرطة والدرك لحفظ النظام، والرعاية الطبية، وتقديم مبالغ نقدية لدعم المهرجانات الطرقية، منح تصريحات جماعية للعمال والموظفين الراغبين بالمشاركة في تلك المواسم، تغطية إعلامية واسعة: إذاعة وتلفزة وصحف… ومقابل هـذا تجني الدولة فوائد جمّة: إذ تهتبل المواسم الطرقية فرصة لتلتمس من زعمائها استخدام نفوذهم لدى أتباعهم كي يوفوا بما عليهم من ديون، مثلما تتوصل بهم لتطبيق قرارات إدارية يصعب تنفيذها دون تدخلهم؛ ويتكثف التماس رضاء الزعامات الطرقية يومًا بعد يوم لا سيما إبان الحملات الانتخابية -نيابية أو رئاسية- إذ يكفي أحدهم أن يذكر بخير زعيم هـيئة سياسية حتى يتهافت أتباعه للتصويت لذلك الزعيم وتلك الهيئة السياسية… وقد نتج عن هـذا الوضع أن أصبح زعماء كبريات الطرق سياسيين يشاركون بشكل ملحوظ في اتخاذ القرارات الهامة في الدولة.

غياب شخصيات ذات أبعاد إسلامية عالمية

بعد اختفاء الرواد الأوائل من الذين جاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، تشتكي الزعامة الطرقية في السنغال اليوم من أزمة زعيم يتمتع بشخصية تكون على مستوى الأحداث والمستجدات في الساحة الإسلامية: وذلك إما لأن بعضهم انشغل بجمع حطام الدنيا فحاد عن حياة الشظف إلى حياة البذخ والترف، وإما لأنهم لم يعد لديهم ذلك الاندفاع الذي كان عند الرعيل الأول، لتدني مستواهم الثقافي والوازع الديني؛ فأغلب الزعامات الآن أصبحت تجترّ أمجادًا غابرة لكنهم لم يجودوا بإضافات جديدة على الصرح الذي ابتناه الأسلاف.

هناك مجالات رحبة على صعيد الدعوة إلى الإسلام تنتظرهم، وهموحدهم المؤهلون للنجاح فيها لما يتوفرون عليه من مالٍ وجاه، ونفوذ مادي ومعنوي؛ فقد سبق أن أشرنا في مستهل هـذا البحث أن في السنغال جماعة لا تبرح تحتفظ بالمعتقدات التقليدية، وأن الكنيسة النصرانية تبذل المستحيل لاحتوائها، فلو تضافرت جهود الزعامة الطرقية للتصدي للنصرانية وقطع الطريق عليها لأسدت بذلك خدمة جلى لدينها، وهيهات.. فهي منشغلة عن قضايا دينها‍‍!!

ومن المؤسف أن أي وحدة في العمل لا تجمع هـذه الطوائف، فكل جماعة مستقلة بذاتها لا تربطها بالجماعات الأخرى سوى صلات واهية لا تتجاوز حدود المجاملة، مما يستبعد أدنى اتفاق بينها في أي موضوع مهما كانت حاجة الدعوة الإسلامية إليه.

ومما يبعث على الأمل أن عددًا قليلًا من الشيوخ نزلوا من أبراجهم العاجية، وبدؤوا يبنون المدارس الحديثة، ويعتنون بها، وهم في هـذا المجال سيحققون نجاحًا باهرًا. -إن شاء الله-

الفصل الخامس: حركـة الاسـتعراب

ظلَّ الإسلام فيئًا تستظل به اللغة العربية حيثما حلّ وأينما ارتحل في ربوع السنغال ، البلد المسلم غير المستعرب، فقد واكبت حركة الاستعراب تاريخ انتشار الدين الإسلامي، فكلما تمكّن الإسلام ذاعت لغة يعرب، واكتسحت مساحات جديدة، فلم يحُلْ بُعد ديارها الأصلية دون تعاظم شأنها في السنغال البعيد، حيث لم تكن رمال الصحراء عائقة لازدهارها، واطراد التبادل الثقافي بين شطآنها عبر القرون والأجيال، وكانت هـذه الحركة تلقى التأييد والدعم من مسلمي ضفاف المحيط الرملي: ملوك كبار من إمبراطوريات القرون الوسطى تبادلوا السفارات مع جانبي الصحراء، مثلما استقدم ملوك من مملكة مالي فنيين وعلماء للاستفادة من التقنية والفن الإسلاميين.

وتأثر الشعب السنغالي بمختلف عشائره أيّما تأثر باللغة العربية، سواء في حياته الروحية، أو في مظاهر حركاته الاجتماعية ونشاطاته الاقتصادية وأنظمته السياسية؛ وكان للاحتكاك بين السنغاليين والتجار والسياح العرب والبربر دوْرٌ وفضلٌ كبيرٌ؛ ومن أجل ذلك تسرّبت كلمات وعبارات كثيرة من العربية إلى اللغات السنغالية.

وليس ببعيد أن يكون انتشار اللغة العربية في منطقة غربي أفريقيا متزامنًا مع ظهور طلائع أصحاب عبد الله بن ياسن الذين أقاموا في إحدى جزر السنغال في القرن الحادي عشر الميلادي حيث انطلقوا لإخضاع قبائل بربرية بالصحراء الكبرى، والسيطرة على مملكة غانا الواقعة مباشرة على الواجهة الجنوبية من المحيط الرملي، وذلك بقيادة أبي بكر بن عمر ، وابن عمه: يوسف بن تاشفين .

منذ ذلك العهد البعيد ما فتئ التعليم العربي الإسلامي مطّردًا، ولم يتقهقر قيد أنملة يومًا من الأيام حتى أصبحت اللغة العربية لغة الثقافة والإدارة والتجارة والمراسلات، ووسيلة للاتصالات الدولية في السنغال، ودامت هـيمنتها واحتواؤها للحياة العامة إلى أن تمت السيطرة للقوى المعادية للإسلام ابتداءً من النصف الأخير من القرن التاسع عشر.

على أن تطور التعليم الإسلامي العربي لم يسلك طريقًا ذا اتجاه واحد، وإنما كان أخذًا وعطاءً، فكان المسلمون يرسلون أولادهم إلى موريتانيا للدراسة، ولما كثر المتخرجون في مجالس تلك البلاد أسسوا بدورهم المدارس العربية التي أصبحت تستقبل طلبة العلم، ومن مراكز العلم في السنغال مدن: ( فوتا ) وقرية ( بير )، فضلًا عن جامعة ((تمبكتو)) في مالي التي كان (( أحمدو بابا )) أحد علمائها، وممن اضطلعوا بمهام التدريس بجامع الكتبية بمدينة مراكش بالمغرب ، وكان يحضر دروسه جمع غفير من طلبة العلم المغاربة.

ومن العوامل التي ساعدت على انتشار اللغة العربية في السنغال كونها تقوم بعدة وظائف في آنٍ واحد: فهي صالحة لمجالات الحياة المعاصرة من إدارة وتربية وتعليم وسياسة واقتصاد وفنون شأن اللغات الأوروبية الحديثة، فاللغة العربية -علاوة على وظائفها الدنيوية- لغة دين سماوي، يتمسك بها أكثر من مليار مسلم، يقدسونها لنزول القرآن الكريم بها؛ يتعلم كل مسلم على الأقل بعض العبارات العربية، كالتحية، والأدعية، وصيغة الشهادة، والكلمات التي تصاحب شعائر الصلاة وغيرها، ويحفظ بعض الآيات من الذكر الحكيم، هـذا عدا ضرورة معرفة اللغة العربية لأي دارس جادّ للإسلام.

ونجم عن هـذا المركز المرموق للعربية أن الشعوب التي اعتنقت الإسلام لم تكن تنظر إليها كلغة أجنبية، ولا عجب حينئذٍ أن نرى هـذه الشعوب -عبر الأجيال- تساهم في نشرها وتعمل على إغنائها، وتتخذها -خلال فترات من تاريخها- أداة للتعبير عن ثقافتها الوطنية؛ وشغلت العربية هـذه الوظيفة في السنغال قبل أن تتغلب عليها اللغة الفرنسية إثر سقوط البلاد تحت نير الاستعمار ، وظلت إلى ذلك الحين اللغة الوحيدة التي كان يستطيع الإنسان السنغالي بواسطتها أن يتصل مع الخارج.

وكان المستعربون قد احتلوا في مختلف العصور مناصب رؤساء الدواوين في بلاطات ملوك السنغال الأرواحيين منهم أو المسلمين؛ وكان تحرير المراسلات والأوامر والقرارات باللغة العربية أو باللغات الأهلية المكتوبة بالحروف العربية.

لقد استغرق وجود اللغة العربية حقبة طويلة من الزمن، امتدت من المعصور الوسطى إلى العصر الحديث لدرجة أن أصبحت الثقافة الإسلامية العربية جزءًا لا يتجزّأ من التكوين العقلي للإنسان السنغالي وثقافته، وسواء تعلّق الأمر قبل اتصاله بالغرب أو خلال فترة الاستعمار أو بعدها.

وانطلاقًا من هـذه الحقيقة التاريخية رأت الجهات السنغالية المسئولة ضرورة دراسة ثقافة وتاريخ البلاد بالاستعانة بالمخطوطات العربية التي دوّنها العرب والأفريقيون بالعربية أو باللغات المحلية بواسطة الحرف العربي.

لا تزال ملامح اللغة العربية جلّية في عدد من مجالات الحياة العامة: فمنذ عهد قريب، كانت الإرشادات تكتب بمختلف أنواعها بالعربية، الصحيّة والتعليمات العامة في الأماكن العمومية، وكثيرًا ما كان تخطّ تلك التوجيهات بالحرف العربي مع استخدام اللغة المحلية، وبلغ من ذيوع الحرف العربي هـذا إلى حدّ أن جهات تناصب الإسلام العداء كانت تستخدمه لجاذبيته كوسيلة للآتصال بالجماهير، وذلك بهدف التشويش والخداع، لأنّ العامة تعتبر إسلامياًّ كلّ ما يكتب بالحروف العربية؛ واستغلت الجماعة القاديانية هـذا الوضع الممتاز لهذه الحروف ووقعها في نفوس الأفارقة المسلمين، فنشرت كتبها بها، وقد حذت في ذلك حذو البعثات التنصيرية التي ترجمت الأناجيل إلى عدّة لغات أفريقية مع استعمال الحرف العربي، هـذا وليس من المبالغة في شيء القول: إن الحرف العربي لم ينهزم أمام الحرف اللاتيني بل قاومه بادئ الأمر، ثم عايشه، وظل يؤدي وظيفته كاملة ملبياًّ الحاجات الثقافية، والتطلعات الدينية والدنيوية للمسلمين.

ومن ميزة الحرف العربي أنه يتفوق على اللاتيني؛ لكونه لم يفرض بقوة السلاح، شأن هـذا الأخير الذي كانت تحميه الأسلحة الفتّاكة، وتشجعه المغريات المادية، أما الأول فكان في غنّى عن أي حماية لأنه منذ البداية لم يفرض بأي شكل من الأشكال، ولأنه من مركبات الثقافة السنغالية الأصلية؛ وكان حظ اللغة العربية في السنغال وافرًا، حيث وجدت فيها متطوعين جندوا أنفسهم للدفاع عنها، وتوسيع نطاقها، وصيانتها من الابتذال والضياع، فازدهرت آدابها وفنونها، ولم يكتف المستعربون السنغاليون بالتلقي والأخذ، بل شاركوا في العطاء، واقتحموا ميدان التدوين والتصنيف والتأليف نثرًا وشعرًا .

ففي دنيا النثر، طرقوا مختلف مجالاته، خصوصًا في الفقه ، وعلم الكلام ، والنحو ، والصرف ؛ وفي صعيد القريض يشغل الرجز مساحة واسعة، فضلًا عن أن مواضيع إنتاجهم الشعري تتمحور حول قضايا محدودة نسبياًّ، حيث تستوعب المدائح النبوية جلّ القصائد، يضاف إليها المنظومات المدرسية. والإنتاج الشعري هـذا تابع للشعر الموريتاني قلبًا وقالبًا؛ يبتدئ بعض الشعراء السنغاليين في مستهل قصائدهم بالتشبيب والنسيب ؛ وسيلةً للوصول إلى محور القصيدة: ((يشيم البروق فيتهيج لها، ويدغدغه بلول ريح الصبا، وتثيره تغاريد الهزار، ويبكي على طلول دعد، وتزعجه بلابل الليل القادمة منها)) وهذا الكتاب لا يتسع لهذا الأدب الثر.

وهذه ثلاثة أبيات من قصيدة طويلة للشيخ عبد الله إنياس ، وهو من كبار شعراء السنغال الناطقين بالعربية:

ما شاق قلبي صوت الشادن الغردِ ولا ابتسام الثنايا الغُرِّ عن بردِ

ولا تثنى ملاح بالحمى برزت تختال في حللٍ من عيشها الرغدِ

ولا وصالّ لدعدٍ بعد ما مطلت وحبّذا الوصل بعد المطل من دعدٍ


المناعـة الذاتيّـة للّغـة العربيـة

نظرا لهذا المركز الهام للغة العربية، فإنّ جميع أنواع التهم وجهت إليها، وتعرضت لمختلف الضغوط، وكان المستعرب مبعدًا عن الوظيفة العمومية؛ لأنّ هـذه محصورة في أولئك الذين يتقنون لغة المستعمر، وبلغ من مضايقة العربية والاستخفاف بها أن طبع على عقول النّاس الاعتقاد بأنّ التعليم الفرنسي هـو الطريق الوحيد إلى السلطة والثقافة الحديثة، والتفنن في العيش، والتوسع في المعرفة والعلم وأسرار الحياة، والمستوى الاقتصادي الرفيع، ونجم عن هـذه الأفكار الخاطئة أن أصبح النّاس في السنغال منقسمين إلى فئتين: أذكياء وأغبياء؛ أناس ينتمون إلى الصفوة، وآخرين إلى العامة، يتعلم الأذكياء الفرنسية، وينهجون نمط الحياة الأوروبي، ولا يتعلم العربية إلاّ الأغبياء!

ولولا أنّ اللغة العربية تتمتع بمناعة ذاتية ساعدتها على مقاومة التحديات والبقاء صامدة وشامخة أمام العوامل العاتية والمعادية لانقرضت وتلاشت وصارت في خبر كان.

وفي الحقيقة، كان وراء صمودها مظلة الإسلام التي ما برحت تحميها من كل غارة غادرة، ودمار محقق، بل تجاوز دور الدين الإسلامي من مجرد حماية لها إلى مهمة الريادة في هـذا الميدان، إذ كلما عثر على مرتع خصب هـداها إليه، ثم لا يفتأ يكلؤها ويرعاها ويتعهدها حتى تترعرع وتثْبتَ قدماها وتستكمل قواها ومقوماتها، وتصبح مؤهلة للتصدي لهجمات أعدائها.

وبخصوص السنغال ، جاءت اللغة العربية من موريتانيا حيث كان يرسل المسلمون أبناءهم لحفظ القرآن الكريم والتبحر في لغة الضاد.

ومرّت حركة الاستعراب بثلاث مراحل أساسية:

  • مرحـلة ما قبل الاستعمار الفرنسي.
  • مرحـلة فترة الاستعمار
  • مرحـلة ما بعد الاستقلال السياسي.

ويدخل ضمن فترة ما قبل الاستعمار تلك التي تستغرق بداية ظهور الإسلام في المنطقة، حوالي القرن الحادي عشر الميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر، فهذه الفترة شهدت الهيمنة التامة للعربية في الثقافة السنغالية، ومما ساعدها أنها كانت اللغة السائدة في ذلك العهد في دنيا التجارة و الديبلوماسية في مناطق عديدة من العالم.

وفي العهد الاستعماري سجلت العربية نوعًا من التراجع أمام اللغة الفرنسية لما نالته هـذه الأخيرة من تشجيع، ومن جراء استمرار الإدارة الاستعمارية في سياسة التذويب والاحتواء، إلى أن نجحت قبل رحيلها في إبعاد العربية عن التعليم الرسمي، والتقليل من أهمية حركة الاستعراب، وعلى إثر الحرب العالمية الثانية بدأ الاستعمار يرخي من شدة خناقه للحركة ليتداعى نهائيًّا مع بزوغ شمس الاستقلال.

ويحسن بنا لفت النظر هـنا إلى أن الشيخ الحاج مالك سي -نقلًا عن مصدر موثوق به- فكّر يومًا في ابتعاث جماعة من تلامذته لتكميل دراسته الإسلامية العربية لدى الناطقين بالعربية، ولكن المشروع لم ير النور؛ بيد أن الفكرة بحد ذاتها تعدّ حدثاّ تاريخياًّ هـامًا؛ ويؤيد ما نعتقده أن حركة الاستعراب امتداد لحركة الشيوخ وتطور طبيعي لها، وحسب التعابير المتحذلقة المستحدثة: الشيوخ يمينيّون والمستعربون يساريّون داخل هـيئة واحدة، فهم جميعًا من طينة واحدة، وأكثر من ذلك فإنّ معظم المستعربين ينتمون إلى الأسر المشيخية، وإن كان لا ينتسب إلى أسر الزعامات الطرقية الكبيرة مباشرة إلاّ عددّ عليل منهم؛ ومن هـنا يكمن -على ما يبدو- سر بعض التنافر وسوء التفاهم بين الجماعتين كما سنرى.

وفي نهاية الأربعينيات إلى منتصف الستينيات كان ينهض الأفراد بتكاليف السفر بأنفسهم، يتوجهون جماعات ووحدانًا إلى المغرب والمشرق العربيين للدراسة على حسابهم الخاص، وقلما يستفيدون من دعم أي بلد، حتى إن بلدية مدينة داكار قد ذمت بعض المنح لدراسة سنغالي نصراني في البرلمان الفرنسي، وكان ذلك قبل استقلال الجزائر .

ويعد الحاج (( محمود با )) من الطلائع الأولى التي نجحت في اختراق الرداء الحديدي الاستعماري، فحج بيت الله الحرام، ثم انتسب إلى مدرسة الفلاح بمكة المكرمة ، ولدى عودته ابتنى مدارس عربية في عدد من مدن السنغال وموريتانيا ومالي ، وحينما اجتمع لديه عدد كبير من الطلبة أرسل بعضهم إلى القاهرة بهدف مواصلة الدراسة هـناك؛ وما إن علمت الإدارة الاستعمارية بذلك حتى وجّهت أمرًا بإعادة الطلاب فورًا، ولم تكتف بالتهديد بل حرشت أولياء التلاميذ على الحاج محمود، وزعمت ان أفلاذ أكبادهم معرضون للبيع في أسواق النخاسة في الشرق الإسلامي، مما اضطر الحاج محمود إلى إعادة المبتعثين وسحبهم من الأزهر الشريف.

ثم جاءت بعد الحاج محمود أفواج تمكنت من الإفلات من قبضة إدارة الاحتلال التي أظهرت نوعًا من التراخي، وخففت من حدة حنقها على الحركة الاستعرابية، وذلك بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وبقصد تحويل أنظار الراغبين في الاستزادة من العلم في الأقطار العربية المستقلة وقطع الطريق أمام التيارات الإسلامية الفائرة، مثل: الجامعة الإسلامية، أقدمت الإدارة الأجنبية على إنشاء معهد إسلامي ببلدة ( بوتلميت ) بموريتانيا ليحول دون توجه الطلاب إلى الجامعات المتطورة والمتواجدة في الدول العربية المستقلة، لكن كانت النتيجة خلاف ما توقعته، حيث أصبح هـذا المعهد مرحلة يتخرج فيه الطلبة ليواصلوا سيرهم نحو العالم العربي الإسلامي المتحرر في ذلك العهد .

ولما استقل السنغال سنة 1960م لم تكتف حكومته بالسماح للمستعربين بالخروج إلى حيث يدرسون، بل ساهمت في جهود التعليم العربي الإسلامي، وذلك بإدخال مادة اللغة العربية في المدارس الابتدائية -وإن ظلّت مادة هـامشية لكونها اختيارية، وتأتي حصتها بعد الدوام العادي- ثم جاءت أحداث سفارة السنغال بالرباط سنة 1963م فاحتل خمسة وتسعون طالبًا سنغاليًّا السفارة، واشتبكوا مع قوات الأمن المغربية اشتباكًا عنيفًا، وكان الطلبة يطالبون بالمنح الدراسية، ونجحت حركتهم فاضطرت الحكومة السنغالية إلى تقديم منح دراسية لبعضهم.

على أنّ حصول البلاد على استقلالها، وحدوث بعض التطور لصالح اللغة العربية لا يعني أن محنة التعليم العربي الإسلامي قد انتهت، بل ظل المسلمون يشتكون من ضيق نطاق التعليم الإسلامي، وقد بلغ الأمر إلى حدّ التبرم والتنديد العلني: (وبعد أن اتحدت البواعث، واتفقت الآراء، فما بقي علينا إلاّ أن نقوم جميعًا حالًا بالواجب الملقى على عواتقنا، وأوّل هـذا الواجب هـو أن نطلب نحن جميعًا من حكومتنا إنشاء مدارس كافية لتعليم أبناء الأديان علومهم الصحيحة، وعلى أستاذنا الذي هـو رئيسنا … أن يعرف كيف ينظم التعليم لكل طائفة مع اختلاف وجوهها وعدد أتباعها… وفوق هـذا كلّه، من واجبه الأكيد أن يسهر على تربية الشعب السنغالي حسب الديمقراطية … وأعني الديمقراطية الصحيحة الصادقة منها التي تكون واسعة، يتسع صدرها لجميع العقائد والملل ) ويستمر (( انجك )) في تأنيبه بهدوء واتزان إلى أن تثور ثائرته فيخاطب (( سنغور )) رئيس الدولة يومذاك، بلهجة ملؤها اليأس والأسى والحسرة والكآبة: ((لا نطلب أيها الأستاذ الكريم، أكثر من تحقيق ما جاء في الجملة الخيرة في هـذه الفقرة في مقالتك، لأنه لو جرى العمل لا تناله العربية مما دفع الأستاذ ( بير فوجيرولاس FOUGEUROLAS ) إلى القول بأنّ: ((ما يتعلق بالمواد المقررة، فتدرس الإسبانية مع شيء من الإسراف مع تفاهة فائدتها لأفريقيا، وتدرس العربية قليلًا نسبيًّا وحتى الإنجليزية نفسها مع أن لهما نفعًا كبيرًا)) من كتاب ( بيير فوجيرولاس ) المشار إليه سابقا.

ومما يفند مزاعم أعداء التعليم الإسلامي العربي نتائج مسح اجتماعي كانت الحكومة السنغالية قامت به سنة 1960م إذ تبين أن حوالي 25% من سكان الريف يتقنون القراءة والكتابة بالحروف العربية، في حين أن 3% فقط من السكان يحسنون القراءة والكتابة بالحروف اللاتينية. وهذه النسبة المتميزة للعربية يمكن أن تساعد على محاربة الأمية، ولكن الحملة ضد العربية وتعليمها تتخذ أحيانًا أبعادًا مأساوية تستهدف الإسلام نفسه، بدرجة أن بعض مناوئيها اعتبروها لغة استعمارية إمبريالية ؛ وأثير نقاش حاد في جريدة (الشمس ) شبه الرسمية تحت عنوان: ((يجب تجريد الإسلام من العربية)) دعا أصحاب هـذه الفكرة إلى إحياء الشعائر الدينية باللغة الفرنسية أو باللغات المحلية، لأنها لغات مفهومة، حيث تعدّ النصرانية أنموذجًا في هـذا المجال، فكتب أحدهم: ((انظروا بعض الوقت إلى النصرانية التي يعتنقها ألمانيون وفرنسيون وبريطانيون… فكل شعب من هـذه الشعوب يستعمل لغته المحلية لممارسة دينه))، ويمضي الكاتب في تضليله ((… أجد أن العرب قد استعمروا ثقافيًّا بواسطة الإسلام؛ ويتحتم علينا أن نكافح حتى يختفي هـذا الاستعمار))، وأغرب شيء في هـذه الدعوات وأمثالها أنها تدعونا إلى نبذ العربية باعتبارها لغة أجنبية، لكن في الوقت ذاته لا يلتمسون بديلها في اللغات المحلية، وإنما يحثون على الالتفاف حول اللغة الفرنسية؛ يا لها من مغالطة‍‍‍‍‍!!!

يضاف إلى ما سبق كلّه أن تطور التعليم الإسلامي العربي منوط إلى حدّ بعيد بما يمكن أن يقدمه للمثقف بالعربية في بلد غير ناطق بهذه اللغة من فوائد ليست بالضرورة روحية صرفة، إذ من المؤكد أنه إذا استمر الوضع على النمط الذي هـو عليه حاليًّا فسوف يقل في المدى البعيد الاهتمام بهذه اللغة، ولعلّ تجويع حاملي الشهادات من المعاهد العربية سياسة ناجعة في إماتة التعليم الإسلامي في السنغال.

نرجو ألاّ يعتقد القرّاء أننا ندافع عن هـذه اللغة بسبب استلاب ثقافي، شأن الناطقين بالفرنسية، فنحن بحكم ماضينا وحاضرنا، نرى أن من الشطط التنكر للعربية، والواجب يقتضينا أن نقوم بتعرية سذاجة أولئك الذين يحاربون لغة القرآن ليبنوا على أنقاضها الفرنسية؛ ويزعمون أن البلاد ما تخلفت إلاّ لانتشار الإسلام بين أهلها، وأن هـذه الحالة مستمرة ما داموا متمسكين بهذا الدين، وكأنّ التنصر والتنكر للديانة الإسلامية من شأنه أن يحوّل السنغال بحركة سحرية إلى بلد غني متطور‍‍!!

في الواقع هـذا البلد بحاجة، في اللحظة التاريخية هـذه، ليس إلى محاربة الإسلام، وإنما إلى شيء آخر يتجسم فيه جلّ مشاكلنا -أو مشاكل العالم الثالث كله بصفة عامة- وهو تنظيف دماغ الإنسان السنغالي مما ترسب فيه من مظاهر الاستلاب الثقافي، وإعادة الثقة إلى نفسه، تلك مهمة صعبة وشاقة يتملص منها محترفو ( التقدمية ) لأنها تتطلب البداية بهم؛ ولقد أصاب ( غي دي كار GUY DE CAR ) حينما قال على لسان أحد أبطاله: ((إنهم -أعني: المتعلمين الأفريقيين- من الوصوليين الذين كانوا قد استعدوا مسبقًا ليؤدوا في أفريقيا دور الرجال الذين حسبوا أنفسهم متطورين ومهيئين للقيادة لأنهم يعرفون لغة أخرى غير اللغات المحلية)) غي دي كار : دماء أفريقيا.

منظمـات المستعـربين

بمقتضى قانون صدر سنة 1901م، رخّصت الإدارة الفرنسية -في إطار محدود- للمسلمين بتأسيس جمعيات ثقافية إسلامية، وتعتبر الجمعية الثقافية التي تأسست سنة 1930م بمدينة (( سانت لويس )) السنغالية أولى هـذه المنظمات الإسلامية بالسنغال، إلاّ أننا نجهل الشيء الكثير عنها، مما يحمل على الاعتقاد أنها لم تتح لها فرصة لتقوم بدورها، ولا غرو في ذلك، فقد كانت القوانين الصارمة لها بالمرصاد.

ثم ظهرت سنة 1937م جمعية ((لواء تآخي المسلم الصالح)) وهي جمعية إسلامية تهدف -حسب أحد بياناتها- إلى ((العودة بالإسلام إلى سالف عهده، سواء فيما يتعلق بشكله أو بجوهره، وبعبارة أخرى: ممارسته كما كان يمارس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) رونيه لوك : ( الأفارقة المسلمون ) ص: 266.

وفي الحقيقة لم تنجح أية جمعية إسلامية -في ظل الاستعمار- في إنجاز هـدف من أهداف الإسلام في البلاد، ولا عرفت حياة طبيعية إلاّ حينما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حيث اضطر المستعمر إلى التخفيف من غلواء ضغطه واستبداده، بعد أن شعرت الشعوب المستعمرة بالظلم والحيف، وهي صاحبةُ دورٍ خطير في تحرير البلد من المستعمر.

وإلى جانب تعرية الاستعمار وفضحه، كانت الجمعيات الإسلامية ترمي إلى نهضة حقيقية للإسلام، وذلك بنفض غبار الماضي عنه، وبث صحوة شاملة للمجتمع الإسلامي عن طريق نشر تعاليم الدين السليمة والبعيدة عن الخرافات والترهات والأضاليل والأباطيل .

وكان يعتقد عدد من قادة المنظمات الإسلامية ألاّ أمل ولا جدوى في التفكير في تغيير أوضاع المجتمع الإسلامي السنغالي قبل العمل لتصحيح المعتقدات، والعودة إلى الإسلام المصفّى من الشوائب عن طريق دراسة مصادره الموثوق بها، وجاء بهذا الخصوص في ديباجة ميثاق الاتحاد الوطني للجمعيات الثقافية الإسلامية بالسنغال: ((يعتبر -أي: تأسيس الاتحاد- انتصارًا كبيرًا في ميدان الكفاح من أجل تقدم الإسلام في أفريقيا السوداء، وما الاتحاد إلاّ استجابة صادقة لرغبات المسلمين الذين علمتهم الأيام أنّ تكتل مسلمي السنغال واجب أكيد، وضرورة قصوى أمام الأخطار المتمثلة في الخلافات الطائفية، والنزاعات الشخصية، والتنافس بين الزعامات لحب الظهور)).

ومن خلال هـذه الديباجة نستشف ما يعانيه المجتمع الإسلامي في السنغال من جهة، وما ينتظر من المنظمات والهيئات الإسلامية من جهود من جهة ثانية من أجل تحقيق:

  • انبعاث حركة الإسلام بعد عهود طويلة من الخمول والجمود .
  • لمّ شتات المسلمين، ورأب صدوعهم، وتقريب الزعماء بعضهم من بعض، وإماتة النزاعات الطائفية.
  • محاربة المشاحنات والتنافس البغيض على رئاسة الهيئات الإسلامية.
  • معارضة أولئك المصابين بمركّب الظهور…

فهذه هـي الصراعات التي تنخر الزعامات الإسلامية في السنغال التابعة للمستعربين، وتجدر الإشارة إلى أن بعض الجمعيات الإسلامية تضم المستعربين ومن يتعاطف معهم، بينما لا يمثل بعضها الآخر سوى (دوائر ) تابعة للزعامات الصوفية، وبعضها ليس إلاّ تجسيمًا لنشاط فردي بحيث لا يجمع سوى بضعة أنفار غير قادرين على القيام بأي مهام تلك آفة الحركة الإسلامية في السنغال، فهناك جمعيات هـادفة تضم عدد كبيرا من المسلمين، وهناك كذلك العديد من أسماء المنظمات التي هـي عبارة عن أشباه جمعيات أو جمعيات خيالية لا وجود لها عمليا. فضلا عن تشتت نشاطات موجودة منها بفعل الطائفية وأطماع وطموح الزعماء..

الاتحـاد الثقـافي الإسـلامي

يعتبر الاتحاد الثقافي الإسلامي بحق أمّ الجمعيات الإسلامية بالسنغال التي تتوفر فيها الشروط للعمل في الحقل الإسلامي؛ وكان يتمتع برصيد كبير من الحصافة والرصانة، سواء من حيث مستوى تنظيماته وإداراته، أم من حيث مستوى مواقفه السياسية والدينية وتطلعاته في ميدان نشر التعليم الإسلامي العربي.

تم تأسيس الاتحاد الثقافي الإسلامي سنة 1953م على أيدي جماعة تأثروا بالأفكار الإصلاحية السائدة منذ بداية مطلع هـذا القرن، في المغرب وفي المشرق العربيين: فقد درس بعض قادة الاتحاد على شيوخ إصلاحيين في الجزائر بمعهد الشيخ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة ، وطائفة أخرى من مؤسسيه تعرفوا على الحركة الإصلاحية الدينية من الإخوان المسلمين بالقاهرة .

وتميزت بداية نشاط الاتحاد الثقافي الإسلامي بحماس كبير وحركة دائبة، وكان أيام الاستعمار محل متابعة واضطهاد وتنكيل ومطاردة، وكانت الإدارة الأجنبية تتهمه بالعمل من أجل إحياء الجامعة الإسلامية بإيعاز من قوىً معادية لفرنسا ، ودامت المجابهة هـذه زهاء سبع سنوات، وكان حصول السنغال على استقلاله بنهايتها، وفي الوقت ذاته بدأ الاتحاد يفقد نفوذه على إثر قبول رئيسه (( شيخ توري )) وظيفة حكومية، إذ خفف من تهجماته على النظام القائم، وتزامن ذلك مع تكاثف مطالب الجمعية حول توظيف أعضائه في جهاز الإدارة بغية اكتساب حياة مستقرة ومضمونة. وكانت للاتحاد فروع في كلّ من مالي ، وغينيا ، وفولتا العليا ( بوركنافاسو )، وساحل العاج ، وتوغو .

ومما يؤسف له حقًّا أن ذلك التاريخ المليء بالنضال والبطولات أصبح أثرًا بعد عيْن، حيث يجتر الاتحاد تلك الذكريات المجيدة، بينما صار اليوم هـيكلًا عظميًّا أجوف لا روح فيه ولا حراك له، بعد أن ابتعد المثقفون الذين كانوا يحركونه وانصرف عنه مناضلوه الحقيقيون، وجلّ أعضائه اليوم من السيدات اللائي يملأن قاعات احتفالاته دون مساهمة تذكر.

ومن الإنصاف أن نسجل هـنا بكل صدق وأمانة ما نهض به الاتحاد الثقافي الإسلامي من عبء بهدف دفع حركة الإصلاح إلى الأمام، وما دعا إليه لتعرية المتاجرين باسم الإسلام، ونازل كل من سوّلت له نفسه الوقوف أمام التيار الإصلاحي، ورأى أنه ((يصبح التصلب ضرورة عندما يستحيل الحوار)) لكنه لا يقطع أولئك الذين يعرضون عنه بل ((يجب الاتصال بهم بهدف إقناعهم)) وحتى ((المدافعون عن مصالحهم الشخصية والمعادون يلزم التماس صداقتهم)) ((في حين أن المساندين لا ينبغي تخييب ظنهم)) وكانت الزعامة الطرقية هـدفًا لحملات الاتحاد، وذلك عبر محاضراته وإرشاداته التي ينظمها من حين لآخر في الأماكن العمومية والمساجد والمدارس.

ورغم النشاط الدؤوب المشهود للاتحاد فإنه عجز عن ترسيخ أسس مؤسسة اجتماعية أو تعليمية على مدى ثلاثين سنة من العمل في الحقل الإسلامي، ويعود السبب في ذلك إلى ضآلة إمكاناته المادية، إذ ما كان يتوفر على مصدر مالي عدا اشتراكات أعضائه، وسبقت الإشارة إلى أنّ الهيئات الإسلامية محرومة من المساعدات التي كانت تقدم إلى الهيئات الثقافية في ظل الإدارة الاستعمارية.

وقد انعكس أثر هـذا العجز على تمويل مشاريعهن وعلى نزاعه مع الزعامات الطرقية التي تملك الملايين، وتستطيع تعبئة مئات الآلاف من الأتباع عندما يحلو لها ذلك.

لقلة إمكانات الاتحاد فإنه كان يأمل أن تقوم الدولة بإنجاز برامجه ((نحن متأكدون أنه إذا تحررت العقيدة الإسلامية من الشوائب الزائفة التي حاصرتها إلى حدّ الاختناق، تصبح وسيلة نشطة للتقدم، لقد خضع الإسلام للتشويه والتحريف، ويجب انبعاثه، ولا يمكن تحقيق ذلك بشكل مرض ما لم تهتمّ الدولة بهذا العمل))رونيه لوك مورو: ( الأفارقة المسلمون ) ص: 269

الاتحاد الوطني للجمعيات الثقافية الإسلامية في السنغــال

تأسس الاتحاد الوطني للجمعيات الثقافية الإسلامية في السنغال في أكتوبر [تشرين الأول] سنة 1962م بإيعاز وتشجيع من حكومة الرئيس (( سنغور ))؛ ويضم حوالي (32) جمعية إسلامية، إلاّ أن بعض هـذه الجمعيات ليست سوى (دوائر ) تابعة للزعامات الطرقية.

يرأس الاتحاد منذ تشكيله السيد عبد العزيز سي الابن، وينتمي إلى أسرة تيجانية كبيرة، وكان والده خليفة عاماًّ للطائفة التيجانية زهاء خمس وثلاثين سنة، ويحتفظ بالأمانة العامة للاتحاد السيد مصطفى سيسي ، وهو من أتباع الأسرة المذكورة.

تسير جميع الجمعيات العاملة في الساحة الإسلامية في السنغال تحت رعاية وإرشادات الاتحاد الوطني مبدئيًّا، لكن تطبيقيًّا تعمل كل هـيئة على انفراد، ولا تنتظر توجيهات من الاتحاد، ولا تنصاع لأوامر تأتي منه، ففي نظر بعض العاملين في الحقل الإسلامي لم يكن الاتحاد يومًا من الأيام ميدانًا صالحًا للعمل الإسلامي؛ لأنه لا يعكس إلًا وجهة نظر سلطات لا تؤمن بالإسلام إلاّ بمقدار ما يخدم مصالحها الزمنية؛ بل يذهب بعض ناقديه إلى اعتباره عامل عرقلة أمام السير الطبيعي للجمعيات الإسلامية.

الاتحاد التقدمي الإسلامي في السنغال

ظهر الاتحاد التقدمي الإسلامي في السبعينيات على يد السيد مصطفى نيانغ ، وكان رجل ثقة للرئيس السابق ((سنغور))، وبواسطته حصل على توصيات رسمية من حكومة السنغال لجمع التبرعات من بعض الدول العربية؛ ويبدو أن السيد ((نيانغ)) غير متعلم، لكنه استطاع أن يحظى بثقة أصحاب النفوذ في السنغال.

ومن إنجازاته: مدرسة جميلة لروضة الأطفال، وهي فريدة من نوعها بالنسبة لمسلمي السنغال.

جمعيـة المســتعربين التابعين للحزب الاشتراكي السنغالي

تأسست هـذه الجمعية سرًّا بالمغرب عام 1965م، وهي تجمع الطلبة الذين انضموا إلى الحزب الحاكم، وكان الدافع في البداية -كما قيل- لانضمام الطلبة إلى جمعية المستعربين يعود إلى أملهم في ضمان منحة دراسية في حالة تكرار الرسوب عدة مرات.

تقوم الجمعية في إطار نشاط الحزب الاشتراكي الحاكم بتنظيم المحاضرات الدينية، وبلغ من أهميته أن تصدّى سنة 1972م لشيوخ عارضوا مدونة الحالة المدنية واعتبروها منافية لروح الشريعة الإسلامية، خصوصًا في بلد يدين 95% من سكانه بالإسلام؛ فقامت الجمعية بالردّ عليهم والدفاع عن المدوّنة وإظهار مزاياها؛ رغم تبعية الجمعية للحزب الحاكم فإنها لا تتوفر -خلافًا لجلّ المنظمات الإسلامية- على مؤسسات تعليمية ذات أهمية، أو على مساجد تابعة لها.

جمعيَّــة النهضة الإسلامية

تأسست جمعية النهضة الإسلامية في 16 أكتوبر [تشرين الأول ] 1976م، على يد جماعة مستعربة مثقفة، ولا تضم في أحضانها سوى عنصر (تكلور )، لديها مدارس، خاصة في مدينة ( تياس ) القريبة من مدينة داكار .

ومن إنجازاتها: أصدرت مجلة ذات مستوى عالٍ، لكنها اخترمت لعجزها عن تمويلها فلم يصدر منها إلاّ عدد واحد.

جماعـة عبـاد الرحمن

ظهرت جماعة عباد الرحمن نتيجة انفصال حدث داخل الاتحاد الثقافي الإسلامي في السبعينيات، إثر نشوب خلاف بين بعض قادة الاتحاد والنخبة التي أصبحت فيما بعد النواة الأولى لجماعة عباد الرحمن، ويقع مقر الجماعة بمدينة ( تياس ) التي تبعد عن العاصمة داكار حوالي خمسين كيلو مترًا؛ تمتاز هـذه الجماعة عن غيرها من المنظمات الإسلامية في السنغال بعملها علانية بالسياسة، ومعارضتها جهرًا لسياسة الحكومة التي تعتقدها منافية للإسلام، ودعوتها جهرًا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، واعتبار الدين الإسلامي دينًا رسميًّا للبلاد، وذلك احترامًا لأبسط قواعد الديمقراطية -أي: قاعدة الأغلبية- وتعتبر جماعة عباد الرحمن أحسن المنظمات العاملة في الساحة الإسلامية تنظيمًا وانضباطًا وتمسكًا بالإسلام قولًا وفعلًا، ومن أصدقها فيما تدعو إليه…

  • تملك عدّة مدارس إسلامية عربية، وتقوم بتنظيم ملتقيات لشبيبتها خلال العطل الصيفية، وتسهر على تلقينها التربية الإسلامية الحقّة، وتتصدّى للهيئات المعادية للإسلام، وذلك بفضح الوسائل الخبيثة التي تستخدمها الكنيسة والماسونية والجماعات المنحرفة من المسلمين.
  • تنظم من حين لآخر التظاهرات الثقافية على غرار المنظمات غير الإسلامية، بهدف إظهار قوة الإسلام، وقد تسنى لها ذلك لتوفرها على كوادر تتقن اللغتين العربية والفرنسية.
  • تصدر الجماعة، رغم وضعها المادي المزري، صحيفة منتظمة
  • تعكس آراءها حول مختلف القضايا التي تهم المسلمين.
  • لقد تأثرت جماعة عباد الرحمن أيما تأثر بجماعة التبليغ، وقد يكون العامل في ذلك تعهد عدد من قادتها مراكز ومؤسسات هـذه المنظمة في الباكستان وأوروبا .

حركـة الفـلاح للثقافة الإسلامية السلفية بالسنغال

تأسست حركة الفلاح منذ الخمسينيات تحت أسماء مختلفة لظروف اقتضت ذلك، وكان يتزعمها الحاج محمود با ، وكلمة الفلاح مأخوذة من اسم مدرسة كانت بمكة المكرمة انظر بخصوص مدارس الفلاح بغربي أفريقيا : عدد جريدة الشرق الأوسط الصادر بتاريخ 9 سبتمبر [أيلول] 1985م.

سبق أن درس فيها الحاج محمود نفسه.

رغم جهود المؤسسين الأوائل لم تتطور الحركة تطورًا ملموسًا إلاّ بعد انخراط بعض كبار التجار فيها، ولذلك تعتبر سنة 1975م ميلادًا جديدًا لها حيث خرجت من طور الاختفاء إلى العمل العلني، وكانت خلال حقبة من الزمن لا تتورع عن استعمال أساليب الهجوم العنيف على الشيوخ ومؤسساتهم، وكان هـؤلاء يناصبونها العداء، ويغرون بها السلطات، وحدث عدّة مرّات أن حرم أعضاؤها من تنظيم الأحاديث الدينية في المساجد أو حتى الإقامة في بلد ما، ثم طوت الحركة صفحة المجابهة المباشرة مع ممثلي الطرق الصوفية لتنتهج مسلكًا جديدًا يتسم بالتخفيف من حدّة الهجوم، ويجعل من أولوياته تكوين النشء الإسلامي.

ويبدو أن كلمة السلفية أضيفت إلى التسمية الأصلية إثر اتصال بينها وبين جمعية إحياء التراث الإسلامي الكويتية التي تقوم بمدّها بمساعدات جوهرية، مكّنتها من فتح أكثر من عشرة مراكز إسلامية، يتكون كل مركز من مسجد جامع ومدرسة تضم أكثر من ستة فصول، وهذه المراكز منتشرة في مختلف أنحاء جمهورية السنغال . تتشكل حركة الفلاح من أجهزة متعددة، هـي:

  • المجلس الوطني الذي يجتمع مبدئيًّا كل ثلاثة أشهر، ويتكون من اثنين وسبعين عضوًا؛ منتخبين أثناء دوراته بعد ترشيحهم من قبل الفروع الثانوية.
  • المكتب الوطني، وهو الجهاز التنفيذي للمنظمة، ويتكون من واحد وعشرين عضوًا، على رأسه رئيس مسؤول أمام المجلس الوطني.
  • يوجد في كل أقاليم السنغال فروع للحركة، ولكل فرع مكتب إقليمي؛ ويعتبر مجلس الشباب من أهم تنظيمات حركة الفلاح.

وتملك الحركة مسجدًا جامعًا كبيرًا بمدينة داكار حيث مقرها الرسمي، وبجانبه مدرسة رحبة تتسع لأكثر من ألف تلميذ، وعندما تنتهي ستضم السلك الابتدائي والإعدادي والثانوي.

ورغم الإمكانات المتوفرة لدى الحركة -بالقياس إلى غيرها- فإنها لم تظهر فعالية ذات شأن في ميادين التربية والتعليم، كما لا تتمتع بإدارة سليمة من حيث التنظيم والتنسيق، فهي إدارة لا ضوابط لها، الأمر الذي جعل مردود نشاطها زهيدًا بالقياس إلى ما ينتظر منها؛ وقد يكون السبب في هـذا التدني خبرة -لا شك- في دنيا التجارة والنشاطات المالية، لكنهم غير متوفرين على شروط قيادة منظمة إسلامية تنهض أساسًا بنشاطات تعليمية وثقافية وفكرية وعلمية وإرشادية…. وقد ساهم هـؤلاء المسئولون غير المهيئين فكرياًّ في زرع الفوضى في سير المنظمة، والتخبط في عملها، وضآلة نتائج تحركاتها في الساحة الإسلامية في السنغال.

لا شك أن تنحية العناصر المتعلمة والمتنورة من شأنه أن يعرقل مسيرة الحركة؛ ولا يشك أحد من أعضائها أن الجماعة التي تتخذ القرارات تبذل الجهد لتوفير المال اللازم لكنها بعيدة كل البعد عن التفكير العقلاني المنظم، لذلك يبدو أنه مهما كانت أهمية توفير المال باسم الحركة فإن إبعاد العناصر الصالحة المثقفة عن مركز إصدار القرارات يكون على المدى البعيد وبالًا على مستقبل حركة الفلاح.

لم نتعرض في هـذا الفصل إلاّ لعدد قليل من الجمعيات الإسلامية الموجودة في السنغال، وذلك لأنّ باعثنا هـو إعطاء فكرة عامة عن سير هـذه المنظمات دون التأريخ لها.

على أنه لا مندوحة من ذكر نشاطات تعليمية لا تنضوي تحت منظمات المتعربين الآنفة الذكر، لكنها حركات مهمة؛ يقوم بهذه النشاطات بعض المشايخ؛ من ذلك: مدارس الشيخ (( أحمد إمباكي )) بمدينة ( جوربيل )، ومدارس الشيخ (( إبراهيم إنياس )) بمدينة ( كولخ )، كما أنّ الشيخ (( مرتضى إمباكي )) يقوم بمجهود مشكور ببناء المدارس، وتستحق مدرسة (كوكي ) القرآنية التابعة للشيخ (( أحمد الصغير لو )) كل تنويه حيث تخرّج كل سنة عددًا كبيرًا من ((حملة كتاب الله تعالى))، وتعتبر بجدارة المدرسة القرآنية النموذجية الوحيدة في السنغال.

الفصل السادس: المستقبـل المنظور للمنظمات الإسلامية

تلقى الجمعيات الإسلامية لدى بداية تأسيسها ترحيبًا منقطع النظير من طرف مختلف طوائف المسلمين، فينضمون إليها، وتتكثف نشاطاتها، وتنتشر فروعها فتصل إلى الأقاليم حيث تصادف تجاوبًا وحماسًا لدى العناصر الشابة، ولكن سرعان ما تلمح في الأفق عوامل معوقة تعترض سبيل الجمعيات وتشل حركتها، ومن هـذه العوامل : محدودية إمكاناتها المادية، إن لم نقل انعدامها كليًّا، إذ لا تتلقى غالبية هـذه المنظمات دعم مادي من أي جهة كانت، في حين أن الجمعيات القليلة التي تتلقى مساعدة ما تكون تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تكون منتظمة، ولا تلبي حاجاتها، مما يجعل برامجها حبرًا على ورق، ونشاطاتها جامدة، فلو قارنّا إنجازات المنظمات النصرانية بنظيراتها الإسلامية لظهرت هـذه الأخيرة قزمًا باهتًا، إذ تحصل الهيئات التابعة للكنيسة بالسنغال على مساعدات مكثفة وسخية ومنتظمة من الطوائف النصرانية، من أوروبا ، وأمريكا الشمالية ، تستطيع بواسطتها أن تموّل مشاريع اجتماعية ومؤسسات تعليمية تسير كلها كأحسن ما يكون، بينما لم تنجز هـيئة إسلامية واحدة بناء وتسيير بنية تعليمية أو صحية منذ ظهور هـذه المنظمات إلى يومنا هـذا إلاّ في حدود ضيقة.

على أن بعض الجمعيات حظيت بمنح مالية محدودة من الخارج، لكنها مساعدات مؤقتة غير مبنية على أسس ثابتة تجعلها دائمة، بل أحيانًا تعطى لحسابات سياسية محضة مما يجعلها موجهة إلى غير المستحقين؛ لأن هـؤلاء يمثلون جهات رسمية.

ولا بد من الإشارة إلى خطأ بعض الجهات المساعدة التي تعتقد أن مجرد تقديم دعم مادي مرة واحدة كافٍ لتحقيق الغرض؛ إذ لا يعقل أن ينطق شعب بكامله اللغة العربية خلال أربع أو خمس سنوات؛ لأنّ دولة قدمت مساعدة بمبلغ مليون فرنك مثلًا لصالح التعليم الإسلامي العربي؛ ففرنسا التي تنفق منذ قرنين من الزمن الملايين على لغتها، لو استكثرت إنفاقها وأوقفته لما نالت ما نالت اليوم في السنغال .

ولم تتقلص المساعدات المادية التي تعطى إلى الجمعيات الإسلامية فحسب، بل تراجعت جهات عديدة عن مساهمتها في تكوين الأطر لها، وذلك برفض المعاهد والجامعات الإسلامية في الدول العربية الطلبة السنغاليين الوافدين إليها، بينما مستقبل العربية في هـذا القطر متعلق إلى حدّ بعيد بهؤلاء الشباب.

تفتقر الجمعيات الإسلامية إلى كوادر تتحلى بالكفاءة، إذ مهما كانت النوايا حسنة، فإن قدرًا من الكفاءة العلمية يفرض نفسه عنصرًا لا مندوحة من وضعه في الاعتبار لتسيير الحركات الإسلامية حيث ينبغي أن يطغى الجانب الثقافي والعلمي على العاطفة والاعتبارات الذاتية الأخرى.

هذا النقص في الكوادر أفضى أحيانًا إلى إسناد القيادات إلى غير المؤهلين لها ثقافيًّا، وإلى الإخلال بمبادئ العمل الجماعي والإخلال بالأمانة ، والتهوين بالمسئولية، وحدوث فضائح فادحة، على أنّ بعض الجمعيات تنبهت إلى هـذه الثغرة وسعت إلى سدّها ((ينتظر من الذين تقع على كواهلهم مسؤولية إدارة الاتحاد -للجمعيات الثقافية الإسلامية- أن يكونوا قدوة حسنة في الاتحاد، والعمل بقوة ونشاط لنشر ثقافة الإسلام)) جريدة (أفريقيا المسلمة ) عدد [1] ، ولقد برهنت الأحداث أن بعض قادة المنظمات الإسلامية لم يكونوا في مستوى المسئولية، فخانوا الأمانة وباعوا عقيدتهم بأبخس الأثمان؛ فها هـو أحد زعماء الاتحاد الوطني للجمعيات الثقافية يدلي بتصريح بدولة إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1969م لـ(( يوحنا مصري )) الصحفي في جريدة إسرائيلية يقول فيه: ((إنّ من أسباب زيارتي لإسرائيل التأكد من صحة الاتهامات الموجهة ضدها؛ لأنّ الصحف العربية التي تأتينا في السنغال تصوغ أخطر التهم ضدّها)) من بيان ( حقيقة ) وقعه السيد عبد العزيز سي الابن، رئيس الاتحاد الوطني للجمعيات الإسلامية بتاريخ 5 نوفمبر [تشرين الثاني ] 1969م، ردا على تصريحات أحد أعضاء الاتحاد في إسرائيل.، وادّعى أنه زار مدينة القنيطرة السورية ومرتفعات الجولة وقال: ((إن سكان تلك المناطق الذين استطعت أن أتحدث إليهم يتمنون العيش بسلام مع الإسرائيليين)) كان هـذا الشخص قد زار إسرائيل تلبية لدعوة منها وجهت إلى الإمام الراتب لمدينة داكار بحجة تقصي الحقائق بعد أن أقدم يهود على إحراق المسجد الأقصى.

ومما يطمئن بخصوص هـذا التصريح أن الأمانة العامة للاتحاد أصدرت بيانًا تفنّد فيه مزاعم هـذا المسئول وتتبرأ منه.

ونخلص هـنا إلى القول بأنّ مثل هـذه التصرفات ناتجة عن اعتماد الجمعيات أكثر فأكثر على العلاقات الشخصية والقرابة العائلية، وكون الرئيس أو الأمين العام محور الهيئة ومهيمنًا عليها بشكل استبدادي وفردي على حساب العمل الجماعي بحيث تختنق جميع المبادرات النابعة من الأعضاء الآخرين، فإذا مرض الرئيس أو الأمين العام توقف العمل، وإذا غاب تعطّل النشاط، وإذا كان صاحب كفاءة محدودة أو ثقافة قليلة أبعد من هـو أكثر منه خبرة ودراية، ويأخذ أحيانًا أخطر القرارات دون ارتباط بمقتضيات قانون الجمعية.

ومن جراء ذلك تظل مالية الجمعيات، حتى تلك التي تعتبر هـادفة، من أهم ما يثير كثيرًا من الريبة، نظرًا لغياب أو عدم توظيف جهاز مراقبة حقيقية؛ لأنّ كبير مسؤولي المنظمة يقوم وحده بدور الخصم والحكم، ضاربًا بكل الضوابط المنصوص عليها عرض الحائط، وتبعًا لذلك يغوص جل المنظمات في بحر من الفوضى والاضطراب والاهتزاز حتى أصبح بعضها هـيكلًا بلا روح، وأوراقًا بحتة لا حراك فيها؛ تضاف إلى ذلك الصراعات الممقوتة بينها، حتى بين تلك التي تجمعها مواقف متشابهة، وهي صراعات مبعثها اختلاف وجهات النظر في الشكليات، أو تباين مصالح أفراد يقودونها وفق هـواهم، مما أدّى إلى تبدّد وتشتت القوى الإسلامية؛ فحبّذا لو ائتلفت تلك التي تتشابه اتجاهاتها وتلتقي أهدافها -وإن اختلفت وسائلها- فتكوِّن كتلة متماسكة تسير بالمجتمع الإسلامي إلى مرفأ النجاة.

ويلاحظ أن أية جمعية من هـذه الجمعيات لا تتوفر على أبسط خطة مدروسة لما تقدم عليه من عمل، أي: ليس لديها مستقبل منظور لأمورها بل تتركها للصدفة،ولا ريب أنّ لذلك عواقب وخيمة تضرّ بمستقبل الحركة الإسلامية في السنغال.

خاتمة: المستقبــل المنظور للإسلام في السنغال

مستقبل الإسلام في السنغال مرهون بمدى ما يعتور هـذا البلد من تغيرات في حياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وما سينجم عنها من تحولات ومن تحور وتطور في المفاهيم؛ لكن ذلك لا يحول دون التنبؤ بالمستقبل عن طريق استقراء الحاضر، وليس هـذا الحاضر في الواقع إلاّ انعكاسًا للماضي الذي شرحنا بعض قضاياه وحضوره الخفي في عقيدة عدد من مسلمي السنغال.

على هـذا النحو يتوقف فهم وضع الإسلام الراهن في هـذا القطر على تفهم ودراسة المؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية السائدة قبل انتشار العقيدة الإسلامية، وكذا مختلف الظواهر التي رافقت الإسلام وعايشته، كظاهرة التشيّخ ، والاستعمار ربيب النصرانية ، والماسونية ، والبهائية ، والقاديانية ، والاستلاب الثقافي … وما تمخض عن ذلك من علاقات وأنماط جديدة وأيديولوجيات وفدت إلينا من وراء حدودنا في موجات متلاطمة متعارضة متحاربة… فاستقراء أولئك كلّه كفيل بأن ينير طريقنا، ويوضح معالم ما سيؤول إليه مستقبل الإسلام في السنغال.

فعبر الصفحات السابقة حاولنا رسم لوحة تعكس صورة معتقدات وتنظيمات المجتمع التقليدي، ومدى التأثير بينه وبين الدين الإسلامي، وبان جليًّا أن كفة الميزان رجحت لصالح الإسلام؛ لأنّ مؤسسات المجتمع الأرواحي فقدت كل مبادرة مقاومة في دنيا الفكر والروح، فغدت جامدة قارة، وبدت عليها عوامل البلى والفناء، حيث لم تعد مقوماتها جديرة وكفيلة بضمان بقائها واستمرارها، أو مستجيبة لمتطلبات التطور الطبيعي؛ وهي من ناحية أخرى عاجزة عن منازلة الإسلام، بل أصبحت متجاوزة مهترئة بالية مهجورة، باستثناء كبار السن من اتباع الديانات الأرواحية، فإنها لا تستهوي أحدًا؛ بل تستحيى العناصر الشابة من التظاهر بالانتساب إليها، أو إبداء أي حماس نحوها، وإنما تخفي أرواحيتها، خصوصًا في المراكز الحضرية.

ففي الوقت الذي يرى الأرواحي أن قوام حياته التقليدية قد انهار بفضل ضغوط الحضارة الحديثة، فإنّه يحس بانعزال تام عن محور الحياة، حينذاك يجد في كنف الإسلام سعة تقضي على عزلته، وتسهل له الاندماج والانصهار في الحضارة الجديدة دون أن يشعر بانفصال حاد بينه وبين ماضيه.

على أنّ المستعمر رغم أنفه، شجع اندماج الأرواحي في المجتمع الإسلامي؛ لأنّه كان يفضّل أن يتعامل مع لابسي (بوبو ) ((بوبو)) لباس تقليد في السنغال بدلاّ من العراة على حدّ تعبير أحد المستعمرين.

فمنذ أن تكثف الاحتكاك بين مختلف العناصر في المراكز الحضرية في السنغال بفعل نشوء الصناعات أصبح الانتساب إلى المجتمع الأرواحي وما يحفل به من ممارسات يمجها الذوق السليم مكروها مخجلًا لدى الفئات (المتطورة ) التي لا تتردد في نبذ الأرواحية للتطلع إلى غيرها من معتقدات دينية وقيم حضارية أخرى؛ وغدا الانتساب إلى الإسلام أو إلى غيره من الأديان السماوية بمثابة رقي اجتماعي وعامل قبول في مستويات راقية من المجتمع السنغالي.

كان بعض الأرواحيين يرفضون قبل ثلاثة عقود أن تؤدّى الصلاة في منازلهم، وإذا حدث أن صلّى فيها أحد المسلمين أرغموه على جمع تراب موقع جبهته وحمله معه؛ أما الآن فقد تبدّل الوضع كثيرًا حتى أصبح كثير من هـؤلاء الأرواحيين مسلمين يستميتون في الدفاع عن الإسلام، والدعوة إليه.

وعلى الرغم من غياب تنظيم إسلامي متخصص للدعوة، وعلى الرغم من تأخر المسلمين في السنغال ، بل وفي غيره في ميدان إيجاد الوسائل الكفيلة بالتشويق إلى الإسلام، فإنّ مما يتميز به الدين الإسلامي في هـذا البلد أنه يبدأ مشوبًا بالممارسات الغربية؛ حتى إذا مضى زمن بدأ يستعيد صفاءه وجلاءه فتذهب عنه الشوائب ويصقل من الأدران، وذلك بفضل انتشار التعليم العربي الإسلامي.

يبقى استهواء البقية الباقية على الأرواحية مشكلة الإسلام بالسنغال اليوم، وهي أقلية لا شك، لكنها ذات وزن فيما لو نجحت النصرانية في استقطابها واحتوائها، وفي الحقيقة هـناك سباق حادّ بين الإسلام والطوائف النصرانية من كاثوليكية وبروتستانتية ، وبين البهائية والماسونية والشيوعية … لاكتساب هـذه الأقلية إلى جانبها.

وعلى الرغم من تعدد المعوقات للدعوة الإسلامية، وتوفر وسائل الإغراء في يد أعدائها، فإنّ الإسلام يشق طريقه بخطىّ وئيدة لكنها ثابتة، ولم تفلح النصرانية في اللحاق به، حيث لم يكتف باكتساح أراضٍ عذراء، بل نجحٍ في جذب بعض من ارتموا في أحضان الكنيسة، فمن الواضح ((أنّ الإسلام اليوم بتوسع تام في أفريقيا الغربية، حيث الهداية إليه تستمر على حساب الوثنية بل على حساب النصرانية)) دو منتي F. DUMONT.(AL HADJ OUmAR TaL DU FOUTA)

ثم تأتي مشكلة الخرافات والممارسات الدخيلة على الإسلام في السنغال: إنّ احتراف تعاطي الطلاسم شوّه الثقافة الإسلامية، بل أصبح يمثل خطورة كبيرة بالنسبة لمستقبل عقيدة التوحيد، ولا شك أن اندحار هـذه الممارسة قد لا يحدث في القريب العاجل، لكن رسوخ قدمه لا يحول دون التنديد به والتنبؤ بمستقبل حالك له، حيث تلوح دلائل انقراضه على المدى البعيد. إنّ توفر وسائل الاتصال والإعلام الحديثة من سيارة وطائرة وإذاعة وتلفاز… إضافة إلى ما حدث من استئناف في التبادل الثقافي بين السنغال والعالم الخارجي بعد نيله الاستقلال السياسي الذي أنهى انقطاعًا دام حقبة من الزمن، يحمل على الاعتقاد بأنّ عهد الانعزال الثقافي انقضى بالنسبة للمسلمين في السنغال، وأنّ تيار التبادل عاد إلى سالف عهده، الأمر الذي سيساعد على تصحيح عقيدة المسلمين؛ ومن مظاهر ذلك: إسراع نفر من الشباب المسلم إلى المعاهد والجامعات العربية ليتفقهوا في الدين، ويقوِّموا ما اعوج من المفاهيم الدينية، وقد بدأ هـذا النشاط يعطي ثماره بفضل المساعدات المادية والمنح الدراسية التي تقدمها الدول الإسلامية إلى الجمعيات السنغالية، أضف إلى ذلك اللقاءات والندوات والمؤتمرات العالمية التي تعقد هـنا وهناك في عالمنا الإسلامي، وأصبح المسلم السنغالي يحضرها ويأخذ طرفًا منها؛ وقد سمحت له تلك المنتديات بالاطلاع على ما استجد في الساحة الإسلامية، وما أنجزته أمتنا وما تنجزه، وكانت هـذه اللقاءات عاملًا لاستئناف صلات الثقافة التي توقفت إثر احتلال السنغال من طرف قوات الاستعمار.

لقد أصبح باستطاعة المسلم السنغالي اليوم أن يدعو إلى اللقاءات الدولية لدراسة قضايا المسلمين دونما خوف أو وجل، والتعرف على مشاكلهم والمساهمة في بحث حلول لها (قضية فلسطين مثلًا ).

ومن الأكيد أنه سيأتي يوم ليس ببعيد -إن شاء الله- يستحيى فيه متعاطو الخرافات باسم الدين من أن يتظاهروا بانتمائهم إلى عالم الشعوذة والخزعبلات مثلما يخجل الأرواحي من التصريح بانتمائه إلى الأرواحية، ذلك أن الإسلام المفهوم حقًّا، والمأخوذ من مصادره العذبة الصافية هـو وحده الكفيل بالقضاء على هـذه الأعمال الساقطة؛ ويتجه التيار الجديد بفضل الصحوة الحالية إلى حمل المسلمين على معرفة حكم الله تعالى في التصرفات التي يقدمون عليها.

ولا تزال الكنيسة الحاقدة قابعة تتربص بالإسلام الدوائر، وتتحين الفرص للإيقاع به وبالمسلمين، فهي منذ أن وصلت إلى المنطقة بمساعدة الاستعمار ما برحت تحول الدسائس، ويذهب بها الشنآن كل مذهب، فبعد أن يئست من تحويل المسلمين عن دينهم واستمالة قلوبهم نحوها، تتشفى باختلاق كل ما من شأنه أن يخلق البلبلة في نفوسهم وتشكيكهم في عقيدتهم الإسلامية، وكان شعارها: إن رفضوا النصرانية فلنشكل منهم مسلمين طالحين.

ومن الإنصاف أن تعزو نجاح الكنيسة في فتح ثغرة في السنغال إلى توفر ثلاثة عناصر بيدها، لو توفرت للإسلام لحقق العجب العجاب، وهي: المال والسلطة وجهاز إدارة كفء، لقد سهل لها توفر المال بيدها إنجاز مشاريع ضخمة قد تعجز الدولة السنغالية عن إنجازها، فقد بنت الكنيسة في السنغال مؤسسات اجتماعية واقتصادية، وعن طريقها استطاعت أن تتغلغل إلى المجتمع السنغالي.

وثاني العناصر هـو الاستعمار  : كان يساندها ويفتح لها المناطق، ويغدق عليها الأموال، وفي الوقت ذاته تدعمها المنظمات التنصيرية العالمية بالمال، ولم يكن المال والسلطة كل سلاحها بل كان بجانبهما القدرة الفائقة في التنظيم والإدارة بفضل ما تتمتع به من كوادر تتحلى بالكفاءة الإدارية. غير أن كل ذلك لا يبهرنا ولا يذهلنا؛ لأن جميع القرائن تومئ إلى أن الكنيسة استنفدت مختلف الوسائل: كانت بيدها السلطة فانفلتت منها قبل أن تنجز كل مخططاتها التنصيرية؛ وكانت ولا تزال تملك المال الوفير فلم يجدها نفعًا، أما الآن وقد عادت السلطة السياسية إلى الأغلبية المسلمة بعد تنحية الرئيس النصراني، وبدأ الوعي يدب في نفوس المسلمين، ومن نال الوعي نال حسن التدبير، والآمال معقودة في أن يتطور لدى المسلم السنغالي وعي صحيح بانتمائه إلى أمة الإسلام، وبمتطلبات الانتساب إليها، عندئذٍ يحقق الدين الإسلامي في هـذا البلد ما لا يتصوره العقل.

ولقد كان تعاون الكنيسة مع النظام الاستعماري سبة في وجهها، لذلك ينظر إليها كأحد أعمدة الاستعمار، مما جعلها تبعث الخوف في النفوس، فهي على كل حال جزء لا يتجزأ من حضارة الرجل الأبيض التي قال عنها الفيلسوف الإنجليزي (( برتراند راسل )): [إنها لا مستقبل لها بين الشعوب التي رزح أهلها أجيالًا طويلة تحت سلطان الرجل الغربي، وأصبحوا يكرهون تلك التجربة ] سيد قطب ( نحو مجتمع إسلامي )ص: 26.

بينما الصراع بين الإسلام والشيوعية في السنغال أقل حدة واحتدامًا من صراعه ضد الأرواحية والنصرانية والانحرافات الأخرى، ويلقى الإسلام لدى صراعه ضد تلك المعتقدات -ولو كانت فاسدة- مقاومة ضارية لأسباب تاريخية وسياسية واقتصادية… في حين أن الشيوعية لا ترتكز على أساس ثابت ويكفي الاطلاع على نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية لعام1983م حيث لم تحصل مختلف الهيئات الشيوعية على 1% من مجموع الأصوات، للتأكد من مدى ضعف الحركة الشيوعية رغم تعدد أحزابها -أربع هـيئات سياسية ماركسية معترف بها رسمياـ.

في وجودها في هـذا القطر، فهي جسم غريب هـش لا طاقة له بمزاحمة الإسلام، فضلًا عن مقولات المنضوين تحت لوائها التي تمتاز بالضبابية والخواء.

ليست الشيوعية في السنغال في مركز يسمح لها بمنافسة ومنازلة الإسلام لسبب بسيط، وهو أن الماركسية تنطلق من المادية الجدلية ، وتنكر الدين، وتشهر السلاح في وجهه، فيما الإنسان السنغالي متدين بالفطرة مما يجعلهما على طرفي نقيص.

ولكن هـل يعني تفوق الإسلام في السنغال على خصومه انتصارًا على كل صعوباته الداخلية والخارجية؟ بدلًا من الرد على هـذا التساؤل يبدو أنه كي يستمر الإسلام في انتصاره لا بد حتمًا من توفر الشروط التالية:

  • يجب تشخيص أمراض المجتمع الإسلامي السنغالي أولًا عن طريق نقد ذاتي موضوعي بناء، ثم القيام فورًا بمعالجة تلك الأمراض، وانتهاج سبل من شأنها تفادي الوقوع مرة أخرى في مثل الورطة التي هـو فيها اليوم.
  • ويتحتم كذلك نفض العقلية المغلقة عنا، والتي ظلّت مخدعًا للخرافات والأباطيل ، ولا نخال أنّ ثمة شيئًا أكثر ضررًا للحركة الإسلامية في السنغال من تلك العقليات القائمة التي لن تزيد المسلمين إلاّ تخلفًا ماديًّا ومعنويًّا، وقد ساهمت في زهور أشخاص يدّعون الصلاح، يتقوقعون في البيوت باسم التعبد والتبتل ، مشيعين فكرة التواكل ، في حين أنه ليست هـناك مؤامرة ضد الإسلام أخطر من ترك هـؤلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعًا بالابتعاد عن معترك الحياة لزعمهم أن الإسلام عبارة عن حمل سبحات طويلة والتظاهر بالتقوى، والإعراض عن الارتزاق بالطرق المشروعة.
  • يضاف إلى ذلك افتقار الإسلام في السنغال إلى شخصية قوية أو جمعية تستقطب كل الفئات، وتثير الحماس في نفوس أبناء المسلمين، وتكون في مستوى المرحلة الراهنة من متطلبات الدعوة من كفاءة ونزاهة وإخلاص وتجرد وعلم وورع .. شأن كبار الدعاة الذين ظهروا على الساحة السنغالية في القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن الحالي.
  • يفتقر الإسلام في السنغال إلى دعوة إسلامية منظمة ومنسقة مبنية على أسس علمية تتمشى مع ما استجد في دنيا الإعلام ، كما أنه بحاجة إلى دعاة ذوي كفاءة عالية وإخلاص مشهود، بينما نلاحظ بكل مرارة أن غالبية من يتصدون للدعوة ويتصدرون مناصب هـامة فيها لا تتوفر فيهم الشروط المطلوب توفرها في الداعي، بل إن أغلبيتهم يكتفون باجترار ما لا يلفت نظر أحد، ولا يشوق إلى العقيدة الإسلامية.
  • كي تنجح الحركة الإسلامية في هـذا البلد، لا بد من القضاء على جذور التفرقة وآفة الطائفية ، فالمسلمون اليوم طوائف وفرق شتى تتناحر وتتباغض، وأسر تتقاطع، وطرق صوفية تتقاتل فيما بينها، ومنظمات متشرذمة لا تجتمع على كلمة، ولا تتفق على خطة في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى.
  • حبذا لو أسس خيار المسلمين في السنغال هـيئة إسلامية عليا تجمع شملهم وتشرف على شئون المجتمع الإسلامي، وتكون محور تنسيق وانسجام وائتلاف وتفاهم، وتستقطب مختلف الطوائف والفئات على تباين مشاربها واتجاهاتها، وتعمل من أجل توحيد الصفوف، وتكون جبهة أمام كل خطر يحدق بالإسلام والمسلمين سواء جاء من الغرب النصراني أو الشرق الشيوعي، وحصنًا يحول دون بلورة الأفكار الهدامة.

· على أن الإسلام الذي أنقذ السنغال من براثن الأرواحية وأدخله في دائرة الدول المتحضرة، وجعله يصمد أمام سياسة الاحتواء والذوبان الاستعمارية والتنصير ، لا تزال له طراوة وطاقة كفيلة بأن تجعله يقود المسلم السنغالي إلى رحاب السنة السنية، ففي رحابها يجد كل ما يشبع رغباته المادية وما يغذي روحه.

إذا كان الإسلام قد عرف فترة غفوة وركود فإنه صحا وأقيل من عثرته، وشرع يؤدي وظائفه على وجه مرضٍ الآن في السنغال، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.