تقرير عن يوم أسود

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

تقرير عن يوم أسود ..... بقلم / عبد الحليم قنديل


كان المشهد ـ صباح وظهر 4 ايار (مايو) 2009 ـ يلخص الحال الذي انتهت إليه مصر في ظل حكم مبارك المديد البليد .

حركة شباب 6 إبريل

لم تطلع الشمس هذا اليوم، وبدت سماء القاهرة محجوبة بعواصف ترابية سامة، وعلى الأرض بدا أننا بصدد عاصفة من نوع آخر، عشرات من قادة ونشطاء وشباب 'كفاية ' و 'حركة 6 إبريل ' نجحوا في اختراق السياج الأمني، وصعدوا إلى الدور الثاني ببناية مجلس الدولة على شاطئ نيل الجيزة، ثم عشرات من الفلاحين والصيادين بالجلاليب البلدية في اقتحام جماعي زاحف إلى القاعة (12)، وهي ذات القاعة التي اجتمع فيها نظرثلاثة طعون حكومية في ثلاث قضايا كبرى، أشهرها قضية تصدير الغاز لإسرائيل، ثم قضية طرد الحرس الجامعي، وقضية جزيرة القرصاية في قلب النيل، والتي تريد المافيا الحاكمة طرد سكانها، وبيعها لملياردير وأمير عربي معروف.


بدت القاعة مختنقة مزدحمة من منصة القضاة إلى باب الدخول، وبدت هيئة المحكمة متعثرة في أقدامها وأروابها، ثم كان زحام آخر يتكاثف على سلالم مبنى مجلس الدولة، جيش بالآلاف من قوات وعربات الأمن يطوق مبنى المحكمة الكبرى، وصفوف وراء صفوف على عتبات السلالم، وفي رداء مدني، وبروح متأهبة متحفزة، تكاد تظنهم لأول وهلة من المدنيين أو المواطنين، ثم يختلف الظن حين يبدأ الضرب، فالضحايا شبان وشابات في عمر الورد، والفارق واضح بين المعتدين والمعتدى عليهم، المعتدون في حجم الثيران، وهم في مهمة رسمية وأمنية جدا، ضباط أمن دولة من رتبة لواءا، وفرق بلطجة أمنية رسمية تعرف في مصر باسم 'فرق الكاراتيه '، وأوامر من الضباط للثيران بدهس نشطاء 'كفاية' و' شباب 6 إبريل '، وسحلهم على سلالم المحكمة، وتكثيف للإنتشار الأمني في كافة طوابق مبنى مجلس الدولة، ومنع أي كاميرا من الدخول لأي قاعة، وكان عدد كبير من الصحافيين ومراسلي الفضائيات قد حصلوا على تصاريح بالتصوير، وموقعة ومختومة من إدارة مجلس الدولة، لكن أوامر القضاء لا تعني شيئا عند الضباط، فالمهم هو تنفيذ أوامر أمنية عليا، وعند شرفات المبنى ـ في كل الطوابق ـ كان رجال أمن بالزي المدني في الانتظار، فالوقوف عند النوافذ ممنوع والاقتراب ممنوع، والسبب مفهوم، فالهدف منع تصوير ما يجري عند سلالم المدخل الرئيسي، صحيح أنه لاتوجد كاميرات، لكن التليفونات المحمولة قد تؤدي المهمة، وتفضح المفضوح (!)


وفي قاعة المحكمة، كانت الأنفاس محبوسة، الحاجب ينادي، وحرس المحكمة يأمر بالسكوت، وهيئة المحكمة الإدارية العليا تعبر في ثوان من نظر قضية لأخرى، لا تحسم أمرا، وتلجأ إلى التأجيل الروتيني، وجوه قضاتها تتخفى وراء ركام الملفات، وتريد أن تفرغ من هم يركب الرؤوس، وأغلب القضايا من النوع العابر، نزاعات لأفراد مع هيئات إدارية وحكومية، لكن هيئة المحكمة تحمل هم قضايا الرأي العام بالذات، والتي تحولت بسببها المحكمة ـ صباح 4 ايار (مايو) ـ إلى ثكنة عسكرية، فقد كان الموعد المقدور لنظر طعون على ثلاثة أحكام فريدة حقا، صاحب الأحكام قاض من طراز خاص جدا، فالأحكام كلها منسوبة للمستشار الجليل محمد أحمد عطية رئيس محاكم القضاء الإداري، وتنطوي على صدام مباشر مع رغبات النظام وأوامر سيادة الرئيس، فقد أمرت المحكمة بوقف طرد سكان جزيرة القرصاية، وأمرت بطرد الحرس الجامعي، وأمرت بوقف تصدير الغاز لإسرائيل، وامتنع نظام مبارك عن تنفيذ الأحكام كلها، ورغم أن أحكام القضاء الإداري لا يتوقف تنفيذها بالطعن عليها، ، فقد طعن النظام عليها أمام المحكمة الإدارية العليا، وامام دائرة مشكوك في أمرها، وبرئاسة المستشار 'الصغير ' وبعضوية قاض عمل موظفا منتدبا برئاسة الجمهورية، بدا كأن الهدف هو الحصول على حكم قضائي مزور، وباستثمار عناصر الخراب في النظام القضائي، فرئيس الجمهورية هو رئيس المجلس الأعلى للهيئات القضائية، وضغوط الأمن تتداخل مع أحكام القضاء، والسلطة التنفيذية تدير هيئة التفتيش القضائي، وتخريب ضمائر قضاة مجلس الدولة يجري بوسائل إضافية، أظهرها مغريات الانتداب الوظيفي إلى هيئات حكومية، وكلها ظروف تجعل حالة المستشار عطية من ظواهر الاستثناء الفريد بامتياز، ففي وسط الخراب قد تجد زهرة برية، وفي وسط الحطام القضائي كانت أحكام المستشار عطية هي وردة النار، بدت كحدث قضائي سياسي بالغ التفرد، وبدت نصرة هذه الأحكام كمهمة وطنية، بينما بدا السعي لالغائها كمهمة أمنية وبأمر رئاسي، وهو ما يفسر كثافة الحضور الضاغط من نشطاء كفاية وشباب 6' إبريل' وأهالي القرصاية بالجلاليب، وما يفسر ـ أيضا ـ كثافة وشراسة الحشود الأمنية، وكان الحل المؤقت ـ عند هيئة المحكمة إياها ـ هو التأجيل لإشعار آخر، جرى ذلك في قضيتي القرصاية والحرس الجامعي، وعند إعلان نظر قضية تصدير الغاز لإسرائيل، اشتعلت حرارة القاعة إلى الحد الأقصى، طلب محامو الشعب رد هيئة المحكمة لانعدام الثقة فيها، وقد حجبت تقرير المفوضين بمجلس الدولة، والذي انتهى إلى تأييد حكم المستشار عطية بوقف تصدير الغاز لإسرائيل، وبدا المستشار 'الصغير' مرتبكا، وهو يقرر وقف نظر الطعن لحين البت في طلب رد المحكمة، وبعد صياح هستيري لمنع محام كفائي من الكلام، وكان المحامي يملي سكرتير الجلسة احتجاجا على هيئة المحكمة التي تغاضت عن تحويل مجلس الدولة إلى ثكنة عسكرية، ومنع نشطاء ومحامين من الصعود للقاعة.


هدأت القاعة، وفرغت من ضجيجها، انتهت جولة وبدأت معركة، ولكن في مكان أخر، وعند السلالم الخارجية للمبنى، وحيث التقى الجمعان، نشطاء كفاية وشباب '6 إبريل' يحملون صور رموز المقاومة، يحملون صور السيد حسن نصر الله وسعد إدريس حلاوة ومحمود نور الدين، وبعضهم يرتدي 'تي شيرتات' عليها صور الشهيد عبد المنعم رياض رئيس أركان جيش عبد الناصر في حرب الاستنزاف، والنفوس ملتهبة، فقد تواترت أنباء اعتقال عشرات النشطاء على رأسهم القيادي الكفائي محمد الأشقر، وعلى الباب الخارجي لمجلس الدولة كان المشهد الأخير، ضباط أمن الدولة وفرق البلطجة صدرت لهم أوامر السحل الوحشي، وجرت انتهاكات مفزعة لأعراض السيدات والفتيات المحتجات، وتدافعت حوادث الضرب المبرح للصحافيين والصحافيات، وخطف التليفونات المحمولة، واستمر العصف بالأبدان والأرواح لمدة جاوزت النصف ساعة، واستمرت المطاردات في الشوارع المحيطة، ثم انجلى الغبار، وظلت الحقيقة كما هي، طلائع الشعب المصري مع المقاومة وضد تصدير الغاز لإسرائيل، وقوات أمن مبارك تسحل المتظاهرين خدمة لأمن إسرائيل، وفي يوم 4 ايار (مايو) الذي يوافق تاريخ ميلاد الديكتاتور الثمانيني، كان اليوم أسود كما ينبغي، وكانت سماء القاهرة محجوبة بغبار الصحراء، وعلى الأرض يمضي ظل العسكري الأسود.


المصدر : نافذة مصر