حادث 4 فبراير 1942 والحياة السياسية المصرية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حادث 4 فبراير 1942 والحياة السياسية المصرية

دكتور محمد صابر عرب

مدرس التاريخ الحديث والمعاصر جامعة الأزهر

الطبعة الأولي 1985

دار المعارف

تقديم

تقديم للدكتور : محمود منسي

الحمد لله رب العالمين والسلام على رسول الله وبعد..

ففي حياة كل أمة من الأمم أحداث جسام تترك بصماتها على تاريخها بل وتغير مساره , وتظل الأجيال تذكرها جيلا بعد جيل ومن هذه الأحداث التي مرت بتاريخ مصر الحديث حادث 4 فبراير 1942 ورغم أن الحادث لا يعدو أن يكون تدخلا في شئون مصر الداخلية واعتداء على كرامتها , وما أكثر الأحداث المماثلة التي وقعت من جانب بريطانيا سواء في عهد الاحتلال أو في عهد الحماية , أو بعد الاستقلال الناقص الذي حصلت عليه مصر منذ سنة 1922 إلا أن هذا الحادث كان له دوي واسع بين صفوف الشعب المصري أشعل جذوة حماسه , وذلك كان لهذا الحادث نتائج عميقة سواء على الصعيد الداخلي من ناحية علاقة الشعب المصري بمختلف القوي السياسية في البلاد : القصر والأحزاب وزعمائها أو على الصعيد الخارجي من حيث نظرة الشعب نحو بريطانيا ومثليها في مصر وكذا نحو الداعين إلى مهادنتها وتوثيق عري الصداقة والتحالف والتعاون معها .

وقد تناول هذا الحادث بالدراسة كثي من الباحثين مصريين وأجانب ورغم أن هذه الأبحاث كانت لها قيمتها وقت ظهورها إلا أنه كان ينقصها أمران :

الأمر الأول : أن بعض هؤلاء الباحثين كانت لدي كل منهم فكرة مسبقة ووجهة نظر معينة أراد أن يثبتها ويقيم الدليل عليها من خلال كتابته بينما المفروض ألا يكون الباحث وجهة نظره إلا بعد الانتهاء من الدراسة وعرض كل جوانبها .

أما الأمر الثاني : فهو النقص في المصادر التي اعتمدت عليها معظم هذه الحدوث وذلك باستقاء المادة العلمية والتعرف على وجهات النظر من جانب واحد دون استقراء وجهات النظر الأخرى بالرجوع إلى نوعيات أخري من المصادر حتى لقد ذكر أحد الباحثين الأفاضل الذين أسهموا في هذه الدراسات بأنه " من ثم لم تدرس هذه الحادثة دراسة كافية من أحد المؤرخين "

ومن ثم جاء هذا البحث الذي أعده الدكتور محمد صابر عرب ليسد هذا النقص .

والدكتور محمد صابر عرب ليس غريبا على فهو تلميذي منذ مرحلة الليسانس وهو حاليا أحد فرسان التاريخ الحديث بجامعة الأزهر , وقد عرفت فيه الاستقامة في الخلق وفي العمل , ولمست فيه حب مصر الذي تنبض به كل قطرة من دمائه وعرفته صبورا جلدا على البحث حريصا على السعي وراء الحقيقة وحدها ولا شئ سواها مهما كلفه ذلك من جهد ومال ووقت ونصب وهو يتمتع بعقلية منظمة وتفكير عميق ومقدرة على التحليل .

وعندما أشرفت عليه في رسالته للماجستير تأكدت لى هذه الصفات والسجايا وذلك فنه طرح موضوع حادث 4 فبراير لرسالة الدكتوراه رأيت أن صابر عرب هو خير من يستطيع القيام بعبء هذه الدراسة عن هذا الحادث الذي اختلفت فيه الآراء بدرجة جعلت بعض الأطراف توجه تهمة الخيانة إلى أطراف أخري بسبب موقفها خلال هذا الحادث .

ولقد دأب محمد صابر عرب على هذا البحث طوال سنوات أربع خرج علينا بعدها بهذه الدراسة التي بين أيدينا والتي حصل بها على درجة العالمية ( الدكتوراه ) في التاريخ الحديث بمرتبة الشرف الأولي والتي يسعدني ويشرفني أن أكتب لها هذا التقديم وهي في طريقها إلى المطبعة ..

ولست هنا في مجال عرض لهذا الدراسة ومحتوياتها فإنني أترك ذلك للقارئ ليتعرف عليها بقراءتها مباشرة ولكنني أود أن أسجل أن ما دفعني إلى كتابة هذا التقديم ليس الرابطة الشخصية ولكن ما يتميز به البحث من ميزات عديدة .

ومن هذه الميزات إتباع المنهج العلمي من حيث عرض الحقائق التي استقاها من مصادرها الأصلية المتنوعة وعرض وجهات النظر وتحليلها في أمانة ودقة وحيدة دون تحيز ومحاولة الوصول إلى أقصي درجات الصدق وهذه سمة أساسية من السمك التي يجب أني يتحلي بها الباحث الذي يريد أن يتصدي للكتابات التاريخية وخصوصا في الأحداث الشائكة التي اختلفت فيها الآراء كحادث 4 فبراير وما أشبه الباحث هنا بالقاضي على منصة القضاء العادل .

وإلى جانب ذلك فإن نظرة إلى المصادر العديدة والمتنوعة التي استقي منها مادته العلمية لتدلنا على الجهد الكبير الذي بذله والأمانة العلمية التي التزم بها فمن تقارير الأمن العام وأوراق الأحزاب السياسية المحفوظة بدا الوثائق القومية بالقلعة , إلى وثائق وزارة الخارجية البريطانية عن الفترة من 1936 حتى 1945 والتي تضم معلومات في منتهي الأهمية والخطورة جاءت في المراسلات المتبادلة بين دار السفارة البريطانية في القاهرة ووزارة الخارجية البريطانية .

ولأول مرة بين الكتاب والباحثين المصريين يستخدم الباحث الوثائق الأمريكية ووزارة الخارجية الأمريكية وقد جلبها على أفلام وهي تتضمن معلومات ذات قيمة تاريخية لا يستهان بها .

وبالإضافة إلى ذلك اعتمد على مضابط مجلسي النواب والشيوخ خلال الفترة من 19361945 واستخلص منها مادة علمية على جانب كبير من الأهمية والخطورة ولا أعتقد أن أحدا من الكتاب استخدمها واستفاد منها مثلما فعل د. محمد صابر عرب سواء من حيث الكم أو الكيف .

وفي اعتقادي أن هذه المضابط كنز غني بالمادة التاريخية يجب ان يلتفت إليها الباحثون في تاريخ مصر الحديث .

واحب أن أنوه ضمن مصادر المادة العلمية التي استفاد منها بالمقابلات الشخصية التي أجراها مع بعض الزعماء السياسيين الذين ما زالوا على قيد الحياة ويمثلون اتجاهات مختلفة فمن الوفد التقي بالأستاذ محمد فؤاد سراج الدين , ومن الجانب الأخ التقي بالأستاذ فتحي رضوان ومن الضباط الأحرار التقي بالسيدين حسين الشافعي وخالد محيي الدين .

ومما تجدر الإشارة إليه أن الباحث استخدم هذه المصادر الأصلية استخداما حقيقيا ولم يفعل مثلما فعل البعض حين يرصعون أبحاثهم بوثيقة هنا ووثيقة هناك لإيهام القارئ بأنهم استخدموا وثائق تاريخية أملا في رفع القيمة العلمية لأبحاثهم وتدل على ذلك حواشي البحث فلا تخلو صفحة من عدة مصادر أصلية .

وبهذه الإمكانات استطاع الباحث الدكتور محمد صابر عرب أن يتوصل إلى حقائق وأراء قيمة منها ما يتصل بسياسة " تجنب مصر ويلات الحرب " وأن ما حدث في 4 فبراير لم يكن سياسة بريطانية بحتة كانت بعض العناصر من الزعماء المصريين ضالعين فيها بالتحريض وتفكير بريطانيا في إلغاء النظام الملكي في مصر وإقامة نظام جمهوري ورد الفعل لحادث 4 فبراير على الجيش المصري مما أدي إلى مولد حركة الضباط الأحرار , ومحاولة الانتقام من الوفد بتقويضه من الداخل وتحقق ذلك بانشقاق مكرم عبيد وأخيرا وليس آخرا ظهور العديد من الاتجاهات السياسية الجديدة التي كان بعضها يجنح إلى العنف وذلك بعد أن فقدت الجماهير ثقتها في الأحزاب القديمة التي كانت تفضل مهادنة الاحتلال .

باختصار فإن هذا بحث متميز يسعدني أن أقدمه لكل مصري يوجه عام وكل مهتم بالدراسات التاريخية على وجه الخصوص .

وبالله التوفيق

د . محمود حسن صالح منسي

أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الأزهر سابقا

مقدمة

ينفرد حادث 4 فبراير سنة 1942 بمكانة خاصة سواء بالنظر للظروف الموضوعية التي أدت إليه أو للآثار التي ترتبت لا عليه وعلى مختلف المستويات .

ولعل البداية العملية لسلسة المصادمات بين القصر والانجليز ترجع إلى أواخر سنة 1937 حيث تمكن الملك فاروق من إقالة الوفد تلك الإقالة التي وصفتها لدوائر الأمريكية بأنها بداية للعديد من الخلافات بين فاروق والسفير البريطاني في الوقت الذي كان السفير البريطاني قد بذل جهدا شاقا في محاولة الوساطة بين الملك والنحاس وكان فشله في تلك المهمة موضع لوم من حكومته .

وقد عرضت في تلك الأزمة فكرة تنحية الملك فاروق عن العرش إلا أن الخارجية البريطانية لم توافق عليها بحجة أن هذا الإجراء سيحدث أثر كبيرا في صفوف الشعب المصري بسبب الشعبية الكبيرة التي يمتع بها الملك الشاب .

ثم تجددت الخلافات في سبتمبر سنة 1939 حين وجد السفير البريطاني أن هناك عناصر في القصر تميل نحو الألمان بل أن الملك فاروق شخصيا على علاقة ببعض الدوائر الألمانية , وفي محاولة من بريطانيا لتقليص دور القصر فقد صدرت الأوامر البريطانية بإخراج علي ماهر من الحكم ثم عادت الأزمة مرة أخري إلى الظهور في يونيه سنة 1940 بعد أن دخلت ايطاليا الحرب بجانب ألمانيا ويومئذ اقترحت الحكومة البريطانية تغيير الوزارة فإن عارض الملك فعليه أن يتخلي عن عرشه ووجه السفير البريطاني إنذارا إلى الملك فاروق بضرورة خروج علي ماهر من الحكم واستدعاء النحاس والعمل بمشورته , ووافقت الحكومة البريطانية على التهديد بعزل فاروق عن العرش إذا لم يستجب للمطالب البريطانية وانفجرت الأزمة بإذعان القصر لمطالب لندن فاستدعي النحاس للمشاورة في الموقف وخرج علي ماهر من الحكم وحرم عليه العودة إلى رياسة ديوان الملك وقد أعرب السفير البريطاني في نهاية تقييمه للأزمة بقوله .( وقد نخرج من الأزمة الحالية دون حاجة إلى تغيير الملك ولكني اشك كثيرا في أنه سيبقي طويلا ملكا على مصر )

وفي يناير 1942 كان الحكم لوزارة حسين سري الذي خلف حسن صبري في نوفمبر سنة 1940 وكان حسين سري صديقا للإنجليز ملبيا كافة مطالبهم عير أن وزارته قد بدأت تعاني من أزمات تجمعت كلها أو أغلبها في يناير 1942 , ولعل أشدها خطرا أزمة التموين لدرجة أن الناس هاجموا المخابز للحصول على الخبز وكانوا يتخطفون الرغيف من حامله في الشوارع وزاد من ضعف هذه الوزارة المظاهرات التي انطلقت والتي تنادي بسقوط الانجليز في الوقت الذي عجزت فيه الحكومة عن السيطرة على الموقف تماما .

ولعل الدوائر البريطانية كانت وراء حركة الاضطرابات التي عمت العاصمة كوسيلة لما قد تقدم عليه من تدخل .

ومن ناحية أخري فلم تعد الحكومة موضع ثقة فاروق بسبب أزمة حكومة فيشي حيث طلبت بريطانيا من حسين سري قطع العلاقات مع حكومة فيش ( الشرعية) حدث هذا وفاروق في رحلته إلى البحر الأحمر مما كان سبب في إقالة وزير الخارجية ( صليب سامي ) في الوقت الذي اعتبرت فيه بريطانيا أن إقالة وزير الخارجية المصري بسبب تلبية للنصائح البريطانية بعد عملا عدائيا من الملك فاروق موجها ضد المصالح البريطانية .

وهكذا وصلت العلاقات بين بريطانيا والقص إلى حد التصادم العلني في الوقت الذي جاوزت قوات المحور حدود مصر وأوغلت في صحرائها وانسحبت القوات البريطانية فأخلت مرسى مطروح الأحوال في مصر خوفا من زحف القوات الألمانية والإيطالية صوب الإسكندرية .

وهكذا عادت فكرة تغيير الوزارة المصرية وعودة الوفد فإن عارض فاروق فعلية أن يتخلي عن عرش مصر .

وعلى ما يبدو فإن التفكير في عزل فاروق وفرض وزارة مصرية معينة وزعيم مصري معين كان موضع تفكير واهتمام من جانب الحكومة البريطانية من ثم يمكن القول أن حادث 4 فبراير سنة 1942 لم يكن نتيجة قرار أو سياسة اتخذت فجأة وإنما كان الفصل الأخير أو لخاتمة لسياسة مرسومة كان قد بدأ تنفيذها ووفقا لرأي الخارجية البريطانية : " إن النحاس هو وحده الزعيم الشعبي القادر على تحويل الدقة – دفة عواطف الشعب من الاتجاه نحو ألمانيا إلى الاتجاه نحو بريطانيا ..."

وهكذا أوعزت السلطات البريطانية إلى حسين سري " رئيس الحكومة" بتقديم استقالته في الوقت الذي كانت الدوائر البريطانية تعد العدة لعزل فاروق إذ لم يستجب لرغبة بريطانيا في عودة الوفد في الوقت الذي كان السفير البريطاني يرمي إلى رد الاعتبار إلى نفسه في نظر حكومته ( عندما فشل في إبقاء الوفد سنة 1937).

إذ كان وزير الخارجية " ايدن " قد وجه إليه نوعا من اللوم لفشله في الوساطة بين القصر والوفد في أزمة ديسمبر 1937 التي انتهت بإقالة النحاس باشا .

وعلى الرغم من أن الوفد قد تنكر لمسئوليته من تلك الأحداث إلا أن الوثائق البريطانية قد كشف إلى أى حد كان الوفد ضليعا في تلك الأحداث .

وتزداد قيمة حادث 4 فبراير بالنظر للنتائج التي ترتبت عليه حيث تأكد لجموع المصريين أن الوجود البريطاني في مصر إنما هو انتهاك خطير للاستقلال الوطني مهما اتخذ هذا الوجود من أشكال احتلالا أو حماية أو معاهدة أو تحالف.

وسواء أكانت الأوضاع الدولية هي المسئولة عن التدخل البريطاني أو أن الوفد كان ضليعا في تلك الأحداث فإن النتيجة واحدة حيث كان هذا الحادث بداية النهاية للشعبية التي ظل يتمتع بها الوفد على امتداد العقود الثلاثة السابقة حيث كان الوفد يستمد الجانب الأكبر من شعبيته من خلال صراعه مع الاحتلال البريطاني أما أن يصل الوفد إلى الحكم بواسطة الدبابات البريطانية فهو أم لم يألفه المصريون وكان من الصعب عليهم أن يتقبلوه .

ويبدو أن فاروق قد استغل هذا الحادث بذكاء شديد حيث تمكن من توسيع دائرة شعبيته لدرجة أنه تمكن من اقتحام الجيش المصري في هذا الحادث واستطاع أن يحظي بشعبية كبيرة وسط صفوف القوا المسلحة .

وفي محاولة من القصر لتدمير الشعبية التي يحظي بها الوفد فقد وقع في العديد من التجاوزات التي تمخضت عن ظهور تيارات سياسة أخري من الإخوان والشيوعيين والاشتراكيين وغيرهم انتزعوا قدرا كبيرا من الشعبية التي يتمتع بها الوفد ولعل من أخطر التنظيمات التي تكونت بصورة عملية نتيجة لحادث 4 فبراير تنظيم الضباط الأحرار .

ثم ظهور بعض التنظيمات السرية بهدف اغتيال كل من ساهم في أحداث 4 فبراير ويقع التنظيم الحديدي على رأس تلك التنظيمات .

غير أنه من الأهمية أن توضح أن تدخل الانجليز في شئون مصر الداخلية منذ أن احتلوها في سنة 1882 كان ضد إرادة الحركة الوطنية المصرية ولحماية القصر من الحركة الوطنية لكن ما حدث 4 فبراير 1942 كان تدخلا بريطانيا عنيفا تحت وطأة الحرب العالمية الثانية في صالح حزب الأغلبية " الوفد " بهدف قيام حكومة قوية تتمكن من تطوع مصر سياسيا وعسكريا واقتصاديا لخدمة القوات المتحالفة .

ولعل ما يميز حادث 4 فبراير أنه وقع في ظل معاهدة 1936 والتي استردت مصر بمقتضاها قدرا كبيرا من استقلالها وحريتها وكان من المتوقع ان ينتقل الحكم من يد الانجليز إلى يد الشعب ولكن الذي كان متوقعا ثم يحدث حيث تأكد لجموع المصريين أن الاحتلال حقيقية واقعة وأن معاهدة 1936 ما ه إلا صورة براقة لتهدئة النفوس الثائرة .

ومن هنا فقد كان حادث 4 فبراير سنة 1942 أصدق دليل على عدم فاعلية تلك المعاهدة لأن ما حدث بعد اعتداء على أبسط حقوق دولة مستقلة .

ولكل هذه العوامل الموضوعية وقع اختياري على حادث 4 فبراير ليكون موضوعا للدكتوراه التي أشرف بتقديمها إلى قسم التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر وخصوصا وأن العالمية الثانية قد أغفلت هذا الموضوع على الرغم من أهميته سواء على المستوي الوطني أو على المستوي الخارجي .

وإذا كانت هناك بعض الدراسات التي تناولت هذا الموضوع إلا أنها قد تناولته أما من منطلق حزبي أو استنادا إلى وجهة نظر واحدة من غير النظر إلى وجهات النظر المتعددة سواء التي ساهمت في صنع الأحداث أو التي سجلت انطباعاتها وهذا ما حاولت أن أتفاداه في هذه الدراسة التي تناولت هذا الموضوع ولقد حاولت أن أتتبع مراحل الصراع بين بريطانيا والملك فاروق منذ إقالة الوفد ( ديسمبر 1937) هذا من جانب ومن جانب آخر فقد حاولت رصد كل النتائج التي ترتبت على هذا الحادث وعلى الرغم من أهميتها إلا أنها لم تحظ باهتمام ملحوظ من الباحثين والمؤرخين .

أما بالنسبة للمصادر والمراجع التي استقيت منها المادة العلمية للبحث فتأتي في مقدمتها الوثائق البريطانية وهي عبارة عن مراسلات بين السفير البريطاني في القاهرة ( لورد كيلرن ) وحكومته في لندن وهي تسجل لحظة بلحظة تطور الأحداث وتفاقم الخلاف حتى وصل إلى طريق مسدود ( صباح 3 فبراير ).

وتبدو أهمية تلك الوثائق في أنها توضح مسئولية كل القوي التي ساهمت في صنع الأحداث ولعل أخطر ما احتوته تلك الوثائق التفكير من جانب الحكومة البريطانية في إعادة النظر في النظام الملكي في مصر عموما أن يحظي بموافقة الرأي العام .

ثم تأتي الوثائق الأمريكية في مقدمة المصادر التي اعتمدت عليها حيث سجل سفير الأمريكي في القاهرة ( كيرك) انطباعاته ومشاهداته من خلال الصراع الدائر بين القصر والانجليز ومحاولة الملك فاروق الزج بالسياسة الأمريكية في الشئون المصرية.

ومن خلال التقارير التي بعث بها السفير الأمريكي إلى حكومته يبدو أن الدوائر الأمريكية كانت على علم بتطور الأحداث أولا بأول إلا أنها كانت حريصة على عدم التدخل في الشئون المصرية نظرا لأن مصر تقع في دائرة النفوذ البريطاني في وقت تحتاج فيه قضية التحالف ( البريطاني الأمريكي ) إلى مزيد من الترابط والتفاهم .

ويبدو من الوثائق الأمريكية والبريطانية إلى أى حد كان التنافس بين القوتين المتحالفتين نظرا لأن السياسة الأمريكية قد بدأت تبدي اهتمام خاصا لمنطقة الشرق الأوسط في محاولة لتثبيت أقدامها كبديل عن الاستعمار البريطاني وهو ما كان بسبب إزعاجا شديدا لدي الدوائر البريطانية لدرجة أن أعضاء السفارة الأمريكية في القاهرة كانوا جميعا تحت مراقبة المخابرات البريطانية .

أما عن وجهة النظر المصرية فقد تتبعتها من خلال العديد من المصادر الهامة وفي مقدمتها مضابط مجلس النواب والشيوخ واللذين يعدان تسجيلا حيا للحياة السياسية بكل أبعادها .

وأستطيع أن أقول أنني قد استفدت فائدة كبيرة من هذين المصدرين الهامين ففي الوقت الذي امتنعت فيه كل الصحف المصرية عن الإشارة إلى حادث 4 فبراير, عملا بقانون الأحكام العرفية فقد شهدت قاعات مجلسي النواب والشيوخ العديد من الآراء المتباينة والتي وصل بعضها إلى حد الإعلان صراحة بأن النحاس كان على علم بكل ما بيته الانجليز تجاه العرش .

وعلى الرغم من أهمية هذين المصدرين إلا أن العديد من الدراسات التي تناولت تاريخ مصر المعاصر لم تعتمد كمصدرين من أهم المصادر المصرية .

وحتى تتكشف الحقائق بكل أبعادها فقد أجريت العديد من اللقاءات الشخصية مع بعض الزعماء السياسيين وأصحاب الرأي والفكر سواء ممن شاركوا في صنع الأحداث أو ممن عاصرها ولعل أهم هذه اللقاءات وأعظمها فائدة لقائي مع الأستاذ فؤاد سراج سكرتير عام حزب الوفد ( السابق ) .

وتأتي أهمية هذا اللقاء لأنه يمثل وجهة نظر الوفد الرسمية .

ثم لقائي مع الأستاذ فتحي رضوان والذي شغل منصب نائب رئيس حزب مصر الفتاة ثم رئيسا للحزب الوطني الجديد عقب انشقاقه على مصر الفتاة بسبب موقف أحمد حسين ( رئيس مصر الفتاة ) من أحداث 4 فبراير 1942 م وعلى الرغم من أن فتحي رضوان يمثل وجهة النظر المغايرة للوفد إلا أنه قد روي الأحداث بموضوعية شديدة وبدقة متناهية .

وحتى تستكمل كل أطراف القضية فقد أجريت حوارا موضوعيا مع حسين الشافعي على اعتبار أنه يمثل وجهة نظر الضباط والانطباع الذي تركته أحداث 4 فبراير على تنظيم الضباط الأحرار .

وعلى الرغم من أن كامل زهيري ( الصحفي ) لم يشهد أحداث 4 فبراير إلا أنني قد حرصت على إجراء حوار معه نظرا لاهتماماته الخاصة بتاريخ مصر المعاصر وقد اقتصر الحوار على تفسير بعض المواقف التي اتسمت بقدر كبير من الغموض وكان لتفسيراته الموضوعية أهمية كبيرة في تحليل بعض المواقف ودراستها .

وتبدو أهمية المذكرات الشخصية التي سجل أصحابها أحداث السياسة المصرية من منطلق مواقفهم كمسئولين في الإدارة المصرية وفي مقدمتها مذكرات الدكتور محمد حسين هيكل وحسن يوسف " وكيل الديوان الملكي " وإبراهيم عبد الهادي " رئيس الوزراء السابق " وجميع هذه المذكران منشورة أما في كتب مطبوعة أو في الصحف المصرية .

وعلى الرغم من أنني لم أستند إلى آرائهم كحقيقة مطلقة إلا إنني استطعت تفسير كل هذه الآراء ومطابقتها بغيرها من المصادر الأخرى ثم الخروج بوجهة نظر اعتقد أنها أقرب إلى الحقيقة التاريخية .

ثم تجئ العديد من الدوريات والتي تناولت الحياة السياسية المصري يوما بيوم وقد اطلعت على أكثر من عشرين دورية بين يومية وأسبوعية.

ولعل ما يلاحظ أن الدوريات قد أغفلت الحديث عن 4 فبراير صراحة خروجا من دائر الوقوع تحت طائلة القانون ( الأحكام العرفية ) إلا أن العديد من الصحف قد تناولته ضمنا وبقي المنع قائما منذ اعتلاء الوفد أريكة الحكم في 4 فبراير 1942م.

وبإقالة الوفد تبارت الصحف في كشف الغموض الذي واكب حصار قصر عابدين وقد نجحت العديد من الصحف في كشف أطراف القضية إلا أن بعضا من الصحف قد غالت في عداواتها للوفد بقدر أخرجها عن نطاق الموضوعية .

وكان لابد من الرجوع إلى كل الدراسات التي تناولت تاريخ مصر منذ معاهدة 1936 م وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية سواء ما تعرض منها لحادث 5 فبراير أو لم يتعرض له .

ولقد كانت طريقة تناولي للموضوع من خلال هذا الكم الهائل من المعلومات مبعث تفكير عميق إذ كان السؤال المحير هو : كيف يمن تقديم كل هذه المعلومات من خلال دراسة تاريخية شاملة تخضع لمنهج البحث التاريخي وتعتمد على كل المعلومات المتاحة بحيث لا نقطع سياق الدراسة أو نقحم معلومات لا حاجة إليها؟

والتزاما بمنهج البحث التاريخي فقد حرصت على تحليل وجهات النظر مهما تباينت , ولما كان في بعض الحالات لا توجد إلا رواية واحدة عن حادث معين فقد كنت أتناولها بحذر شديد ونظرا لخطورة النتائج التي قد تترتب على مثل هذه الحالة فقد اعتمدت على منهج علماء الحديث النبوي الشريف الذين توافروا على غربلة الروايات وتحليلها , سواء ما يتعلق منها بالأحاديث النبوية أو بالأخبار التاريخية . وقد اتضح لى أنهم فطنوا إلى خطورة الاعتماد على رواية الآحاد فجعل العلماء الحديث النبوي درجات واشترطوا فيه أن يبلغ عدد المحدثين مبلغا في العادة تواطؤهم على الكذب .

وفي الحالات التي كانت تتعارض فيها المصادر فقد كنت أحاول التوفيق بين الخبرين المتعارضين دون النظر إلى إجماع الآراء على حادث معين أو انفراد رأي واحد بوجهة نظر مغايرة لأنه من الجائز أن يكون الرأي الواحد هو الصحيح الكثرة العددية لا تحدد حتما صحة ما تورده والعبرة قائمة في نوع هذه الكثرة أو في نوع الواحد من حيث صفات الرواة وظروفهم ولا عبرة بالعدد أحيانا في بعض المسائل التاريخية .

وليس مجرد اتفاق عدة روايات على حادث معين يجعله حادثا صحيحا ففي حياتنا اليومية يميل الناس إلى نقل الأخبار والمبالغة فيها وأن أكثر من شخص قد يرجع إلى أصل واحد لاستقاء معلوماته وأن عدة صحف قد تنتشر خبرا واحدا أرسله مراسل واحد وهو ما قد يحدث في كثير من الأصول التاريخية .

وعلى الرغم من أنني قد التزمت بالمنهج الموضوعي إلا أنني لم أسقط الاعتبار الزمني لأهميته في العلاقة بين الأحداث التاريخية من جانب ولأنه يعطي للبحث مدلولا موضوعيا على اعتبار أن الفترة الزمنية وعلاقتها بموضوعية الأحداث تضفي على البحث قدرا من الانسجام والتوافق .

ونظرا لتعدد القضايا وتداخلها عن فترة زمنية محددة فقد حاولت أن أتناول كل موضوع بشكل مستقل بحيث يمثل متكاملة على اعتبار أن كل موضوع يكمل الموضوع السابق له أو اللاحق عليه حتى ينسجم البناء وتكتمل الصورة دون ملل أو ضيق .

وإذا كانت الفترة الزمنية التي أتناولها تبدأ من 1942 م وتنتهي 1945 إلا أن محاولة استكمال الموضوع اضطرتاني إلى أن أتناول العلاقات المصرية البريطانية منذ 1936م على اعتبار أن معاهدة 1936 تمثل الجو العام الذي تفجرت عنه قضايا الصراع المختلفة والتي دارت في عدة محاور :

أولها : قضية الصراع بين القصر والانجليز .

وثانيها : قضية الصراع بين القصر والوفد .

وثالثها : قضية الصراع بين الوفد والانجليز.

ولعل هذه المحاور الثلاثة قد انطلقت من الجو العام الذي أحدثته معاهدة 1936 ولذا فقد كان من الضروري أن أتناول العلاقات المصرية البريطانية عقب معاهدة 1936 م وأجعل من هذه الدراسة تمهيدا لبحثي .

أما الفصل الأول : والذي يقع تحت عنوان جذور حادث 4 فبراير سنة 1942 فإنه جزءا أساسيا من أحداث 4 فبراير لأنه يتناول الظروف الموضوعية التي دفعت بريطانيا إلى تجاوز معاهدة 1936 والوثوب إلى شكل مغاير تماما يعرف في الدبلوماسية المعاصرة " بالتسلط السياسي "

أما الفصل الثاني : فإنه يتناول الوقائع التي حدث في 4 فبراير أولا بأول وعلى الرغم من أنها قد تبدو ظاهريا أحداث عادية إلا أنها تعد انتهاكا لبسط حقوق الدولة المستقلة ومن جانب آخر فإن شكل الأحداث وتطورها يساهم إلى حد كبير في وضوح الرؤيا مما يسهل مهمة الوصول إلى نتائج محددة .

أما الفصل الثالث : فكان عنوانه سياسة حكومة 4 فبراير وقد تناولت في هذا الفصل السياسة التي اتبعتها حكومة الوفد ليس على المساوي السياسي فقط وإنما على المستوي الاقتصادي والاجتماعي أيضا سواء منها ما يتعلق بالعلاقات المصرية البريطانية أو بعلاقات مصر مع بقية دول الحلفاء ومنها أيضا ما يتعلق بموقف حكومة الوفد من قضية الديمقراطية والتي فسرت تفسيرات اجتهادية ولعل من أخطر القضايا التي تناولها هذا الفصل ما يتعلق بديكتاتورة الأغلبية في محاولة مستميتة لتبديد الآثار الناجمة عن 4 فبراير .

أما الفصل الرابع وعنوانه : القوي السياسية وموقفها من 4 فبراير وفي هذا الفصل حاولت أن أضع كل قوة من القوي أمام مسئوليتها سواء فيما يتعلق بالأحداث التي ساهمت في صنع 4 فبراير أو فيما يتعلق بردود الفعل التي واكبت الأحداث وقد تناولت من جانب أخر ما سمي بقضية النفاق السياسي " حيث تبارت القوي السياسية في التقرب من القصر في محاولة لاستثمار الأحداث تصعيدها انطلاقا من الصراع التقليدي بين الوفد وبقية الأحزاب الأخرى .

ثم أوضحت العلاقة بين حادث 4 فبراير وظهر العديد من التيارات السياسية الأخرى ولعل أهمها خطورة تلك التي اتخذت العنف وسيلة لتحقيق أهدافها ثم أوضحت العلاقة بين أحزاب الأقلية وبريطانيا والسياسة ذات الوجهين والتي دفعت بريطانيا إلى الاستخفاف بالقوي السياسية المصرية .

أما الفصل الخامس : فكان عنوانه : الجيش المصري وحادث 4 فبراير وقد بينت فيه ردود الفعل التي أحدثها 4 فبراير داخل الجيش المصري وإلى أى مدي حظي فاروق بشعبية وسط الضباط والجنود ثم تتبعت سياسة القصر في محاولة للزج بالجيش في السياسة لتحقيق أهداف سياسة خالصة .

ونظرا لأهمية تنظيم الضباط الأحرار فقد حاولت أن أوضح العلاقة بين ما حدث في 4 فبراير وردود الفعل التي دفعت الضباط إلى تنظيم أنفسهم بصورة جدية وتطوير حركتهم وانتشارها داخل فروع القوات المسلحة المصرية وفي هذا الفصل أيضا أوضحت موقف الجيش من الوفد ومحاولة النحاس التنكيل بعدد من الضباط بسبب موليهم المحورية .

أما الفصل السادس : وعنوانه : سياسة القصر عقب 4 فبراير 1942 وقد تناولت فيه السياسة الهادئة التي التزم بها القصر في محاولة للنيل من الوفد ولعلي أخطر تلك المحاولات ما يتعلق بخروج مكرم عبيد من الوفد ولما كان مكرم عبيد يمثل الذراع اليمني للنحاس فقد حرص القصر على بتر هذا الذراع , وقد تتبعت دور القصر في تصعيد حدة الخلاف بين القطبين الوفدين ثم إلى أى مدي نجح فاروق في محاولاته .

ولعل من أخطر القضايا التي تناولتها في هذا الفصل ما يسمي " بالتنظيم الحديديى" والذي ابتكره القصر بهدف اغتيال كل من ساهم في صنع 4 فبراير وفي مقدمتهم النحاس وأمين عثمان وقد نجح التنظيم في اغتيال أمين عثمان .

وحاولت كشف قدر من الغموض الذي كان يخيم على هذا التنظيم .

أما الفصل السابع : وعنوانه : الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ظل حكومة 4 فبراير وقد أوضحت فيه أن ما حدث في 4 فبراير لم يكن هدفا بريطانيا وإنما كان وسيلة لتطويع مصر سياسيا واقتصاديا لخدمة القوي المتحالفة .

ومن البديهي أن الأوضاع الاجتماعية نتاج طبيعي لكل من العوامل الاقتصادية والسياسية ولذا فقد أوضحت الظروف الاجتماعية التي عاشها الشعب المصري في ظل حكومة 4 فبراير .

أما الفصل الثامن : فقد تناولت من خلاله العلاقات المصرية البريطانية على ضوء المتغيرات الجديدة وهذا الفصل ترجمة عملية للعلاقات المصرية البريطانية عقب أحداث 4 فبراير حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وفي هذا الفصل أفردت دراسة خاصة عن جامعة الدول العربية وكيف أن فكرة الجامعة قد خرجت من مجلس العموم البريطاني وإلى أى مدي كانت تهدف بريطانيا من وراء هذه السياسة .

ولا يسعني إلا أن أتقدم بخالص الشكر إلى أستاذ الدكتور محمود منسي والذي أشرف على هذا العمل العلمي طوال ثلاث سنوات فعلمني كيف يكون البحث وكيف تكون كتابة التاريخ لهذا فإني مدين له بكل ما تعلمت بل يزيد .

كما أتقدم بخالص الشكر إلى الأستاذ الدكتور مصطفى رمضان والذي أشرف على هذا البحث طوال فترة كتابته التي استغرقت عاما كاملا كما أتقدم إلى شيخ المؤرخين الأستاذ الدكتور عبد الحميد البطريق بخالص التقدير لمشاركته في مناقشة هذا البحث .

وأخيرا فإنني أتحمل وحدي تبعة أى قصور في النتائج التي توصلت إليها فعلي وحدي تقع مسئوليتها ويشهد الله أنني قد حاولت واجتهدت قدرا إمكاناتي ومن اجتهد فأخطأ له أجر ومن أصاب فله أجران .

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

محمد صابر عرب

25 / 7 / 1983م.

تمهيد

العلاقات المصرية البريطانية عقب معاهدة 1936م

تقييم معاهدة 1936م

منذ ن احتلت بريطانيا مصر سنة 1882 وهي تردد أن الاحتلال مؤقت ومع ذلك فقد استمر الوجود البريطاني في مصر بكل ثقله .

وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى في أواخر سنة 1918 ما لبثت الدول الكبرى المنتصرة والمنهزمة على السواء أن اعترفت بالحماية البريطانية على مصر ولذا فقد كان لبريطانيا مركز متميز في مصر .

وحرصت الحكومة البريطانية على أن تظل تلك العلاقة متميزة على الرغم من قبولها مبدأ التفاوض شريطة ألا يتعارض هذا التفاوض مع المكاسب البريطانية .

ولعل الرغبة في الوصول إلى التفاهم من جانب مصر كانت رغبة صادقة , ومع ذلك فقد تعذر الاتفاق سواء في مفاوضات ملنر – سعد زغلول سنة 1920 أو في مفاوضات كرزن – عدلي سنة 1921 إذ كانت مصر تفاوض وهي طامحة إلى التوصل لإلغاء الحماية فعلا وإلى الاعتراف بها دولة مستقلة ذات سيادة بينما كانت انجلترا مع قبولها فكرة إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر فإنها كانت – تضع مصالحها في مرتبة الحقوق التي لا تتقبل نزاعا فتضيق من استقلال مصر بمقدار ما تتطلبه من ضمانات لصيانة تلك الحقوق .

وبطبيعة الحال لم يكن فشل المفاوضات ليؤدي إلى عودة السكينة والاطمئنان إلى ضفاف النيل فعادت الاضطرابات واتخذت شكلا جعل حكم البلاد من الأمور المتعذرة فرأت بريطانيا لتذليل هذه المصاعب ربط مصر بمعاهدة في نطاق السياسة التي حددها تصريح 28 فبراير سنة 1922 ومنذ هذا التاريخ اعتنقت بريطانيا مبدأ التفاوض مع مصر ليس بهدف تحقيق الأماني الوطنية المصرية وإنما لإعطاء الوجود البريطاني صفة الشرعية الدولية ثم أعقب ذلك سلسلة من المحادثات بين حكومة سعد زغلول وماكدونالد سنة 1924 ولكن ما لبثت أن انقطعت تلك المحادثات لاتساع هوة لخلاف بين الطرفين المتفاوضين ثم كانت محاولات 1927 , 1930 وفشلت جميعها وبقي الوضع معلقا إلى أن تأزم الموقف الدولي أشر اعتداء ايطاليا على الحبشة سنة 1935 حينئذ شعرت انجلترا بضعف مركزها في مصر في الوقت الذي كانت تعتب فيه على ايطاليا الالتجاء إلى القوة كوسيلة لفض منازعاتها مع الشعوب الأخرى وفي نفس الوقت كانت الدعاية الايطالية تدفع المصريين إلى الثورة ضد انجلترا وتطالبهم بالتقرب من ايطاليا بل وأخذت ايطاليا تطالب بمركز لها في غدارة شرك قناة السويس

وبدأ ينمو لدي بعض القوي الوطنية المصرية اتجاه يقوم على مبدأ التقارب إزاء ايطاليا وكانت في مقدمة تلك القوي جماعة مصر الفتاة وقد وجد ذلك صداه في ظهور العديد من المنشورات الخاصة بالمسائل العربية والإسلامية وتنشطت الجمعيات الألمانية وأصبحت البلدان العربية مسرحا للدعاية الألمانية استطاع الألمان أن يحققوا بعض الانجازات التي قاموا بها وصمما على استغلالها في الوقت المناسب كإنشاء جمعيات وخلايا تميل إلى الفاشية بصورة واضحة وإجراء اتصالات مع الزعماء العرب والساسة وأعضاء الصفوة الحاكمة ودعوة بعض الساسة العرب إلى مهرجانات الحزب النازي التي أقيمت في نورمبرج إلى غير ذلك وكان هذا بالطبع مصدرا لقل الحكومة البريطانية .

ومن هنا كانت حاجة بريطانيا إلى عقد معاهدة مع مصر تكون قائمة على الصداقة والتعاون فصداقة مصر كما كتب محرر الشئون الخارجية لجريدة التايمز حينئذ " أعظم نفعا للقيادة البريطانية من أورط عديد في حالة حدوث حرب في البحر المتوسط "

ولعل بريطانيا أرادت أن يكون استقلال مصر رمزا دبلوماسيا أو صيغة تحدد نيات الحكومة البريطانية نحو مصر في ظرف معين أو شكلا الأشكال لا يتخذ له هيكلا ولا يصبح حقيقة واثقة إلا متى أبرم اتفاق عن الأمور المتعلقة بين الدولتين .

ومن المعتقد أن حاجة مصر إلى التفاوض كانت لا تقل عن حاجة بريطانيا فلقد بدأت بريطانيا تجري العديد من المناورات العسكرية على ساحل الإسكندرية وعلى الحدود المصرية الليبية من غير رأي السلطات المصرية مما كان يسبب قدرا من العلق لدي الدوائر المصرية .

وعلى ضوء كل هذه التطورات تكونت في مصر الجبهة المتحدة لتضم جميع الأحزاب ما عدا الحزب الوطني على أساس أن جولة جديدة من المفاوضات مع الحكومة البريطانية ستبدأ وفي 12 ديسمبر سنة 1935 قدم زعماء الجبهة مذكرة إلى المندوب السامي يلتمسون فيها فتح باب المفاوضات لعقد معاهدة جديدة وفقا للشروط التي تم الاتفاق عليها سنة 1930 . وأجابت الحكومة البريطانية بمذكرة وتبليغ شفوي فصرحت في المذكرة أنها في الوقت التي تريد فيه أن تصل إلى إبرام معاهدة برمتها فليس في وسعها قبول التقيد بنصوص مشروع معاهدة سنة 1930 , أو أى مفاوضة أخري لم تنته إلى اتفاق وإبانت في تبليغها الشفوي أنها تقترح تمهيدا للمفاوضات أن تتباحث الحكومتان – وبمساعدة مستشاريهما العسكريين بصفة سرية وبروح التحالف المنشود – في تطبيق الأحكام العسكرية الواردة في مشروع معاهدة سنة 1930 على الحالة التي تغيرت عما كانت عليه من قبل .

ووفق تطورات الصراع الدولي ( حينذاك ) فلقد كانت معاهدة سنة 1936 جزءا من استراتيجية بريطانية غايتها تأمين المواصلات البريطانية في الشرق الأوسط في حالة نشوب حرب بين بريطانيا وبين ألمانيا وايطاليا حيث كان توقيت 1936 مرتبطا بتوقيع المعاهدة البريطانية العراقية سنة 1930 ثم المعاهدة البريطانية الأردنية سنة 1928 م التي عدلت وفق المصالح البريطانية سنة 1934 م.

وهكذا أقامت بريطانيا علاقاتها قبيل الحرب العالمية الثانية مع البلدان الثلاثة ( مصر , العراق و شرق الأردن ) بالشكل الذي يحقق أغراض السياسة البريطانية ويعتبر عنصر الاختلاف بين المعاهدات الثلاث شكليا أكثر منه عمليا .

وعلى الرغم من المبالغات التي أحيطت بتلك المعاهدات إلا إننا نعتقد أن النفوذ البريطاني قبل توقيع تلك المعاهدات كان نفوذا مباشرا ثم أصبح نفوذا غير مباشر مستندا إلى قوي وطنية تحقق أغراضه وفق معاهدة تتبادين وجهات النظر في تفسير بنودها .

ومن المغالطات الغربية أن تتفق هيئة المفاوضات المصرية على أن معاهدة 1936 قد حققت الاستقلال التام بما لا يتعارض مع حقوق بريطانيا في مصر .

ويبدو التناقض الواضح في هذا التصريح اعتقادا بأن الاستقلال التام لا يتعارض مع ما أسموه بالحقوق البريطانية في مصر وإذا كانت المادة الأولي من المعاهدة تنص صراحة على انتهاء احتلال مصر عسكريا بواسطة القوات البريطانية فإن ذلك يتعارض صراحة مع نص المادة الثامنة والتي ترخص لبريطانيا بأن تضع في الأراضي لمصرية بجوار القتال قوات بريطانية بهدف الدفاع عن القنال ويحدد ملحق المادة الثامنة عدد القوات البريطانية بعشرة آلاف جندي وقت السلم وأن تتعهد الحكومة المصرية بأن تبني عليها نفقتها – ع مساهمة مالية بسيطة من الحكومة البريطانية – ثكنات للقوات البريطانية في منطقة القنال , وأن تمد طرقا تصلح للأغراض العسكرية معظمها بين تلك المنطقة وبين كل من الدلتا والإسكندرية والحدود الغربية وعلق الجانب البريطاني نقل القوات إلى منطقة القنال على استكمال تلك المشروعات على أن تنسحب تلك القوات من مصر حين يصبح الجيش المصري قادرا وحده على الدفاع عن القناة ولا يكون لوجود تلك القوات صفة الاحتلال بأنة حال من الأحوال ومن المتفق عليه أيضا أنه إذا اختلف الطرفان المتعاقدان عند نهاية مدة العشرين سنة المحدودة على مسالة ما إذا كان وجود القوات البريطانية لم يعد ضروريا فإن هذا الخلاف يجوز عرضه على مجلس عصبة الأمم للفصل فيه .

ووفقا للمادة السابقة فإن المدة التي تصل بالجيش المصري إلى درجة الدفاع وحده عن القناة تعتبر مبهمة لأن الجيش لكي يصل وحده إلى الدفاع عن القناة وحرية الملاحة فيها يجب أن يكون جيشا لا يقل عددا وعدة عن جيش فرنسا أو ايطاليا وهما الدولتان الواقعتان على البحر المتوسط وان عملية ( القدرة ) تعتبر حالة نسبية تختلف من دولة إلى أخري يضاف إلى ذلك أيضا اتهام بريطانيا بعرقلة نمو القدرة العسكرية لمص كمبرر لتأجيل الجلاء على هذا فقد نصت المذكرة الثالثة التي قدمها مصطفى النحاس إلى المستر ايدن " يخول البعثة العسكرية البريطانية حق اختيار العناصر القادرة على الارتفاع بمستوي الجيش المصري عن طريق الإشراف والتدريب دون التقيد بمدة زمنية محددة ".

أعطت المعاهدة حقوقا للقوات العسكرية البريطانية من حيث الانتقال برا أو بحرا أو جوا وكذلك للمخابرات المطلقة من كل قيد سواء بالراديو أو غيره كالتلغراف أو التليفون أو آية وسيلة من وسائل الاتصال المعاصرة .

وفي الوقت الذي حصلت فيه بريطانيا على كل الحقوق التي تتمتع بها الدول الاستعمارية في مستعمراتها حرمت هذا الحق على الدول الأخرى ففيما يتعلق باستعمال الشفرة بين ممثلي الدول في مصر وبين حكوماتهم أصدرت الحكومة المصرية قانونا يحرم استعمال الشفرة إلا للدول الحليفة ( بريطانيا ) فقط مما كان موضع سؤال في البرلمان المصري تقدم به النائب الدكتور حنفي أبو العلا وعجزت الحكومة عن إيجاد رد مقنع لهذا السؤال .

وتشير الوثائق البريطانية إلى أن مشكلة التفاوض حول الأمور العسكرية قد أخذت وقتا طويلا وخصوصا فيما يتعلق بالدفاع عن مصر حيث اتجهت نية الحكومة البريطانية إلى الإبقاء على الوضع العسكري كما هو أى أن تقتصر مهمة الجيش المصري على الحفاظ على الأمن العام وان تتفرغ القوات البريطانية للدفاع عن الأراضي المصرية .

وقد تمسك المفاوض المصري بان يكون الدفاع عن مصر من مهام الجيش الوطني بحجة أن المعاهدة ستفقد الغرض منها وكان النحاس باشا أكثر وضوحا حينما أصر على أن تقوم مصر بمهمة الدفاع عن نفسها وتنمية جيشها حتى يصبح قادرا على القيام بتعهداته الدولية – ولن يتردد الشعب المصري في إجابة داعي الوطن للدفاع عن سلامته بما عرف عنه من صدق العزم وقوة الإيمان .

وقد عبر البعض عن هذه الفكرة بشكل أكثر وضوحا حيث قال " أن على المصريين أن يستعدوا على اعتبار أنهم أصحاب النصيب الأولي في الدفاع عن بلادهم داخل أراضيهم وعلى الحليفة بقية المجهود "

وعلى الرغم من التنازلات العديدة التي قدمتها جبهة التفاوض المصرية فيما يتعلق بمركز القوات البريطانية في منطقة القناة وضواحيها إلا أن هذه القضية بالذات كانت موضع استجواب في مجلس العموم البريطاني وقد أشار وزير خارجية بريطانيا إلى بعض الأسباب التي من أجلها وافقت الحكومة البريطانية على الانسحاب من مدن مصر الكبرى كالقاهرة والإسكندرية وارجع ذلك إلى عاملين :-

أو لا : أن القوات الحربية البريطانية قوات ميكانيكية يسهل عليها التحرك السريع في أى وقت وإلى أى مكان وبأقصى سرعة ممكنة .

ثانيا : أن الطيران البريطاني قد أعطي حق التحليق في أى مكان يراه لازما لأعراض التدريب كما أوضح إيدن في نهاية بيانه ( أمام مجلس العموم) أن الأماكن التي حددت لتدريب القوات الجوية في منطقة السويس هي مناطق صحية ومريحة وتتناسب مع الانتشار السريع للطيران وتمكنه من الوصول إلى أهدافه بالسرعة المطلوبة"

ومن البديهي أن هدف بريطانيا من عقدها المعاهدة هو إعطاء وجودها في مصر صفة الشرعية التي كانت تفتقر إليها منذ احتلالها لمصر سنة 1882 وفي برقية من السيد مايلز لامبسون ( سفير بريطانيا في مصر ) إلى ايدن وزير الخارجية ما يؤكد هذا المعني فهو يشير في برقيته إلى ما يقال من أن النفوذ البريطاني في مصر سيتقلص ويؤكد لامبسون أن هذا الكلام يطابق الحقيقة فإن النفوذ البريطاني ينبغي أن يزداد وأن كان من نوع مختلف حيث لم يعد هناك الآن عنصر الإملاء , وإنما النصيحة الودية التي ترمي إلى المساعدة وأن نحصل على ما نريد بكل لباقة ولكن دورنا كحماة لمصر لن يتغير بل أنه في الحقيقة قد ازداد قوة وأصبح شرعيا بالمعاهدة نبعد أن زال عنصر الأمل الذي كان كامنا سوف تكون في وضع الشقيق الأكبر مع الشقيق الأصغر أو وضع الشريكين في بيت تجاري ولو أنه بحكم طبيعة الأشياء فإن نفوذنا يجب أن يكون هو الأكبر وخصوصا في الشئون الدولية .

ولقد اقتضي تنفيذ المعاهدة المصرية البريطانية فيما يختص بالطرق العسكرية حشد مهندسي الطرق والكباري للإشراف على أعمال الطرق العسكرية وسحب الكثيرين منهم من التفاتيش التي تقوم بمشروعات الطرق في مجالس المديريات فكانت النتيجة أن وقف الجزء الأكبر من هذه المشروعات وقد رفعت مصلحة الطرق الكباري مذكرة إلى وزارة المواصلات لفتت فيها نظرها إلى تردي الحالة في هذا القطاع الحيوي الهام .

أما فيما يتعلق بالسودان فلقد أصبح السودان بموجب معاهدة 1936 مستمرة الجزية تحرسه جنود مصرية تحت امرأة حاكمه العام البريطاني ففي المادة الحادية عشرة اتفق الطرفان المتعاقدان على أن إدارة السودان تستمر مستمدة من اتفاقيتي ( 19 يناير , 10 يوليه 1899) ويواصل الحاكم العام بالنيابة عن كلا الطرفين المتعاقدين مباشرة السلطات المخولة له بمقتضي هاتين الاتفاقيتين .

فهذا النص هو إقرار مباشر اتفاقية 1899 التي انتزعت السودان من مصر وتقضي المادة السابقة بأن السلطة العسكرية والمدنية في السودان تفوض إلى الحاكم العلم الذي يكون تعيينه بناء على طلب الحكومة البريطانية ولا يفصل عن منصبه غلا برضائها .

وبناء على ذلك تبقي سلطة تعيين الموظفين في السودان وترقيتهم مخولة للحاكم العام الذي يختار المرشحين الصالحين من بين البريطانيين والمصريين عند التعيين في الوظائف الجديدة التي لا يتوفر لها سوادنين أكفاء .

ولما كانت هذه المادة قد ووجهت بموجة من الغضب سواء من جانب المصريين أو السودانيين فإن السير ستيوارت سايمز حاكم عالم السودان قد غبر عن وجهة النظر البريطانية بأن يقدم للمصريين وعدا بان تكون لهم الأفضلية في شغل الوظائف التي لا يتمكن من شغلها سودانيون أو بريطانيون ولكن – كما قال بالحرف الواحد : " أن مثل هذا الوعد سوف يكون أقرب إلى وهم كبير "

وتعد المادة الحادية عشرة من أخطر بنود المعاهدة حيث جعلت السلطتان العسكرية والمدنية معا في يد الحاكم العام فهو الذي يحكم السودان ويعين موظفيه ويقوده عسكريا وهو الذي يأمر أن تنفذ في السودان القوانين التي تصدرها الحكومة المصرية اى أنها لا تنفذ إلا بقرار منه ولذا فإنه غير مسئول مسئولية كاملة أمام الحكومة المصرية لأنها لا تعينه أو تقبله بمطلق سلطتها , فالقول بان المعاهدة قد ضمنت الحكم الثنائي في السودان هو قول لا يحمل قدرا من الحقيقة لأنها تركت الأمر كله في يد الحاكم العام يتصرف فيه كما يشاء ولا يعقب لحكمه .

فإذا قيل بعد ذلك أن المعاهدة تنص على أن الحاكم العام يعين الموظفين من المصريين والانجليز فهو قول غير مفهوم لأن الحاكم العام غير ملزم أصلا وكذلك نسبة من يعينون من المصريين إلى زملائهم من الانجليز غير محددة ولا مقررة .

ولعل النحاس باشا أو أقطاب الوفد عموما وعلى رأسهم مكرم عبيد قد فهموا المواد التي جاءت في المعاهدة عن السودان بشكلها الظاهر كما يبدو في الخطبة التي ألقاها زعيم الوفد في مجلس النواب " للنظر في معاهدة التحالف والصداقة بين مصر وبريطانيا العظمي " فبعد استعراض المواد الخاصة بالسودان في المعاهدة أعلن النحاس باشا: لقد أصبح للمصريين نصيب فعلي في إدارة السودان سواء في ذلك الإدارة المدنية أو المالية أو الحربية .

ويلاحظ أن قضية السودان قد أثارات احتجاج عدد كبير من أعضاء مجلس النواب حيث أجمع عدد كبير منهم بأن موضوع السودان سيظل الثغرة التي تؤرق مضاجع المصريين فلقد حصلت بريطانيا على كل شئ من خلال شخصية الحاكم العام الانجليزي ولم تحصل مصر على شئ يتناسب والتضحيات التي قدمها حفاظا على السودان .

ويسجل أحد تقارير قياس الرأي العام في السودان أنه " نتيجة لما تقرر بمقتضي المعاهدة من عدم وجود بديل سوي القبول بالحكومة الثنائية فإن المتعلمين السودانيين قد ضايقتهم الطريقة التي تقرر بهذه مصير بلادهم دون أى تفكير بالأخذ برأيهم وقد رأي هؤلاء أن وضعهم قد أصبح مهينا بسبب ذلك , ومن ثم فقد قرروا أن عليهم أن يظهروا شخصيتهم المستقلة سواء عن انجلترا أو عن مصر والتي بدأت في الظهور منذ سنوات تحت شعار " السودان للسودانيين " وأن عليهم أن يعبروا عن وجهة نظر جماعية تضعها الدولتان الحاكمتان موضع الاعتبار .

وعلى ضوء ما تقدم يمكننا أن تقول : أن قضية السودان في مفاوضات 1936 تؤكد عدم صلابة المفاوض المصري في تلك القضية الهامة والأساسية وتعد اتفاقية 1899 والتي كانت هي الأساس في مفاوضات 1936 فصلا للسودان عن مصر وجعله مستعمرة انجليزية فإقرار المعاهدة لهذه الاتفاقية هو القرار لهذا الوضع .

وقد بنت انجلترا مزاعمها في اتفاقية 1899 على ما اغتصبته لنفسها من حق الفتح وعلى أنها اشترطت مع مصر في استعادته , على أن الحقيقة الثابتة أن انجلترا هي التي منعت مصر من تثبيت سلطاتها في السودان بعد ثورة المهدي وعملت بذلك على استفحال تلك الثورة ثم أكرمت مصر سنة 1884 على إخلائه مما تسبب في استقالة شريف باشا احتجاجا على هذا التدخل ولذا فإن اتفاقية 1899 ليس لها أى سند من الحق أو القانون .

وعلى الجانب الأخر كانت هناك بعض الإيجابيات لعل من أهمها ما جاء في مطلع المادة الحادية عشرة من معاهدة 1936 من نص قائل : مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقيات جديدة في المستقبل لتعديل اتفاقيتي 19 يناير 10 يوليو 1899 .

إذ يعترف هذا النص صراحة بأن الوضع القائم في السودان بعد تنفيذ المعاهدة إنما هو وضع مؤقت ثم أنه لا يحدد أمدا معينا للنظر فيه كما حدث لبقية مواد المعاهدة التي تحددت مدة عشرين عاما لإعادة النظر فيها ومعني ذلك أن مصر تستطيع في أى وقت طرح قضية الوحدة المصرية السودانية على بساط البحث . وقد نصت المادة الثالثة عشرة على أن نظام الامتيازات الأجنبية لم يعد يلائم روح العصر ولا حالة مصر الحاضرة وأن حكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة بصفتها دولة من ذوات الامتيازات وبصفتها حليفة لمصر لا تعارض بتاتا في إلغاء كل قي د يقيد التشريع المصري على الأجانب وستتعاون فعليا مع الحكومة المصرية في تحقيق هذه التدابير .

ويمكننا القول أن مصر قد كسبت من وراء معاهدة 1936 بعض المكاسب وفي مقدمتها إلغاء الامتيازات الأجنبي ودخول مصر عصبة الأمم على أن إلغاء هذه الامتيازات وأن كان قد عاد على قطاع كبير من الشعب المصري بالفائدة إلا أنه لم يعد على بريطانيا بأى نوع من الضرر فلقد سقطت الامتيازات التي تتمتع بها الدول الأوربية الأخرى أما بريطانيا فقد تمتعت بمقتضي المعاهدة بحرية كاملة في علاقاتها بمصر سواء أكانت علاقات عسكرية أو اقتصادية أو سياسية واستطاع كبار رجال الأعمال وبعض كبار الملاك من المصريين أن يوظفوا أموالهم في مجالات الصناعة التي انتعشت بعض الانتعاش . ولقد ساد شعور بالقلق لدي الجاليات الأجنبية المقيمة في مصر بما فيها الجالية البريطانية التي لم تستطع أن تخفي قلقها من إلغاء الامتيازات وقد عقد أعضاؤها بالإسكندرية اجتماعهم السنوي حيث وقف رئيسهم السير هنري باركر ليعبر عن القلق الذي يحس به كثيرون من أفراد الجالية الذين يعيشون فيمصر ويقول : أن مجلس الجالية قد اتخذ التدابير ليضع أمام وزارة الخارجية البريطانية النقط التي رأي أنه ينبغي لفت نظرها إليها .

وقد علقت الصحف المصرية على هذا الاجتماع غاضبة بقولها " لماذا لا يتفضل هؤلاء الساخطون على إلغاء الامتيازات بالهجرة إلى بلد غير مصر يكون مستعدا للقائهم بأكرم من المظاهر التي تنوي معبر أو تتلقاهم بها وهي محررة من الامتيازات .

وأعتقد أن الوفد المصري قد حرص على النص صراحة على إلغاء الامتيازات على الرغم من أن عددا من الدول حاولت الضغط على بريطانيا لبقاء الوضع كما هو عليه أو النص على وجود فترة انتقالية تتفق الدول صاحبة الامتيازات على مراحلها فيما بعد.

ولقد انعكس موقف الأجانب في مصر على بعض الوفود الأجنبية في مؤتمر الامتيازات خاصة الوفد الفرنسي الذي كان اشد الوفود صلابة في المؤتمر نظرا لضخامة المصالح الاقتصادية والثقافية الفرنسية في مصر وحرص الجانب الفرنسي على أن يظل عدد الموظفين الفرنسيين في مصر كما هو وأن نلتقي فرنسا حرصا على العلاقات التاريخية التي تربطها بمصر ولقد أثار هذا الموقف نقد الصحف المصرية فعلق بعضها قائلة : يجب أن ننتظر من الفرنسيين وغيرهم من الأجانب سياسة جديدة غير سياسة استغلال موارد الثروة في مصر دون أن ينال المصريون أكثر من الفئات ويجب أن ننتظر من الفرنسيين وغيرهم معاملة غير التي عرفناها إلى اليوم وهي معاملة السادة للعبيد والخواجات للأولاد البلد فالمعاملة الأوربية يجب أن تتغير والاستقلال الممقوت يجب أن ينتهي والشركات الأجنبية يجب أن تفتح أبوابها لأبناء مصر والمعاهدة يجب أن تبدي احترامها لتقاليد مصر ولغة مصر أما أن تظل روح الماضي التي تجلت في مؤتمر الامتيازات هي الروح السائدة في المستقبل فذلك ما لا يدع بين المصريين والأجانب سبيلا إلى التعاون المنشود ولا هو مما يفيد الأجانب كثيرا ولا قليلا .

ومن الطريف أن موقف فرنسا من الامتيازات الأجنبية كان محل نقد شديد من الصحف الانجليزية .

ولما كانت المصالح الفرنسية في مصر تمثل ثقلا حقيقيا فقد عقدت لجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب الفرنسي اجتماعا لسماع أقواله المسيو بونيه وزير خارجية فرنسا في في صدد مشروع إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر ( وهي الاتفاقات التي وقعت في مونترو 8 مايو 1937 ) وقد بسط وزير الخارجية الإيضاحات المطلوبة وأكد أن الحكومة الفرنسية لن تدخر وسيلة في سبيل الحصول من الحكومة المصرية على الضمانات التي تصون مصالح فرنسا المادية والأدبية .ولعل هذا التحالف العسكري بين مصر وبريطانيا واعتراف مصر بالحكم الثنائي في السودان هو الثمن الذي دفعته مصر في مقابل السيادة التي أضفاها عليها تمتعها بعضوية عصبة الأمم ,وإلغاء الامتيازات الأجنبية ..

ولذا فإننا نعتقد أن معاهدة 1936 كانت وليدة اصطناع القوة بحكم أن انجلترا بسبب وجود قواتها العسكرية في الشرق الأوسط كانت تستطيع مواصلة الاحتلال لمصر والسودان سواء رضي المصريون بذلك أم كرهوا كما كانت تستطيع الدفاع عن مصر سواء اشتركت مصر في هذا الدفاع أم لم تشترك ولذا تنازل المفاوضون المصريون عن نصف مطالب مصر في سبيل الحصول علي النصف الآخر .

وهكذا أدت معاهدة 1936 إلى تحديد شكل الوجود البريطاني في مصر للمرة الأولي كما تم تعميق هذا الوضع طبقا للتحالف المعقود بين الدولتين ولهذا السبب ذاته تسجل المعاهدة نهاية الاحتلال البريطاني بالمعني القانوني إلا أنها أيضا تقر واقع الاحتلال من حيث الجانب العملي.

وخلاصة القول : أن المعاهدة لم تغير كثيرا من طبيعة القهر السياسي الذي مارسته انجلترا على مصر فقد استمرت السيادة الحقيقة للإنجليز الذين لم تنقطع مؤامراتهم ضد مصر والعبث بالحياة الدستورية المصرية وأصبح الوطنيون الساعون إلى التخلص من النفوذ البريطاني يظهرون بمظهر من ينقض على مصالح بريطانيا الحيوية وبذلك أعطت بريطانيا لنفسها الحق في التدخل بالقوة المسلحة محافظة على هذه المصالح وبالتالي أصبحت القوي الوطنية التي تطالب بالاستقلال التام معادية للمصالح البريطانية وبالتالي فهي ( من وجهة النظر البريطانية ) تعمل لخدمة المخططات النازية والفاشية , وطبقا للمعاهدة فقد تعهد الملك تعهدا ضمنيا باعتبار مصالح انجلترا الحيوية مصالح حيوية بالنسبة لمصر أيضا وبذلك كادت المعاهدة أن تشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور ولذا بأننا نعتقد أن معاهدة 1936 مسئولة عن تدهور الأوضاع السياسية في مصر بالشكل الذي حتم نمو الاتجاهات الثورية التي كانت تستهدف ضرب النفوذ البريطاني وإلغاء المعاهدة التي لم تحقق كل الطموحات الوطنية التي ضحي الشعب المصري كثيرا من أجلها .

ومن الواضح أن الاحتلال وأن تغير في شكله إلا أنه لم يتغير في جوهره بناء على هذه المعاهدة والتي عدتها الوزارة المصرية في ذلك الوقت نصرا يستحق التبجيل واتخذت من يوم توقيع المعاهدة عيدا من الأعياد القومية هو في الواقع لا يخرج عن كونه عارا لحق بمصر من جراء انسياق حكامها وراء أوامر ورغبات سلطات الاحتلال .

ووفق معاهدة 1936 فإن العلاقات المصرية البريطانية قد دخلت مرحلة جديدة تحكمها معاهدة واضحة الشروط وخصوصا بعد دخول مصر في عصبة الأمم حيث امتلكت مقومات الدولة من الناحية القانونية إلا أن قيام الحرب العالمية الثانية سنة 1939 قد شجع بريطانيا على أن تضرب عرض الحائط بنصوص المعاهدة .

يذهب البعض إلى أن توقيع معاهدة 1936 وما ترتب عليها من ردود فعل متباينة قد أفقد الوفد قدرا كبيرا من قوته وشعبيته وبصدد ردود الفعل الناجمة عن توقيع المعاهدة فقد تباينت وجهات نظر القوي السياسية في مصر وبدا ذلك داخل الأحزاب وفي الاجتماعات التي عقدتها للنظر في المعاهدة .

وعن موقف الحزب الوطني فعلي الرغم من أنه رفض مبدأ المفاوضة إلا بعد الجلاء إلا أن قاعات مجلس النواب المصري قد شهدت العديد من الانتقادات الموضوعية والتي أبداها أعضاء الحزب الوطني بالذات على الرغم من ديكتاتورية الأغلبية ومحاولاتها التقليل من حجم تلك الانتقادات .

أما موقف الأحرار الدستوريين فقد اتسم بالتخبط فقد شن أعضاؤه حملة شديدة على المعاهدة في أول جلسة عقدها الحزب حتي شعر محمد محمود – وهو الذي كان يمثل الحزب في جبهة المعارضة – بأن الحملة ليست موجهة إلى موضوع المعاهدة بقدر ما هي موجهة إلى شخصية بالذات .

وقد اقترح الدكتور هيكل تشكيل لجنة لدراسة المعاهدة وتقديم تقرير عنها إلى مجلس إدارة الحزب .

وبعد ولادة عسرة تمخضت من قرار له مقدمة طويلة تحدد أوجه القصور في المعاهدة وخصوصا المسائل العسكرية ومشكلة السودان إلا أنه خشية الانقسامات داخل الحزب ومراعاة لموقف محمد محمود ( رئيس الحزب وعضو لجنة المفاوضة ) فقد قرر الحزب قبول المعاهدة في القوت الحالي مع العمل على تعديلها بأسرع ما يستطاع تعديلا يزيل منها ما يمس استقلال مصر وتبادل الثقة بين الطيفين خير عربون لهذا التعديل .

ولعلي محمد محمود كان في موقف لا يحسد عليه حينما عاد ليؤكد أن معاهدة 1936 لا تحقق مطالب مصر المشروعة على وجه كامل وبصورة نهائية وأنها خطوة نحو تحقيق هذه المطالب ولم ير محمد محمود في مزاياها شيئا يتحدث عنه سوي مسألة الامتيازات .

أما عن موقف حزب الإتحاد والذي نشا في أحضان القصر وتحت رعايته وكان لسان حاله المعبر عن مصالحه فإن نسبة الأعضاء المعارضين للمعاهدة لم يتجاوز الثلث فقد وافق على المعاهدة تسعة بينما رفضها ثلاثة ووقف واحد على الحياد وهو توفيق رفعت باشا لذا فقد وقف إسماعيل صدقي باشا ( رئيس حزب الإتحاد ) في مجلس النواب ليعلن موافقته بصفته الشخصية مؤكدا على أن المعاهدة هي خطوة في سبيل الاستقلال وليست الاستقلال التام .

أما الإخوان المسلمون ومعاهد 1936 فعلي الرغم من الرؤيا السياسية للإخوان لم تكن قد اتضحت بعد إلا أن الرسائل التي بعث بها الشيخ البنا إلى رئيس الوزراء ( علي ماهر ) في أكتوبر 1939 يفهم منها أن معاهدة 1936 قد وقعت تحت ضغط ظروف وأحوال خاصة لا علي أنها غاية ما ترجوه مصر ولكن أنها خطوة في سبيل تحقيق الأهداف المصرية ويضيف حسن البنا في رسالته قائلا : الإخوان فالإخوان المسلمون وهم الذين يرون في المعاهدة المصرية الانجليزية إجحافا كبيرا بحقوق مصر واستقلالها الكامل يريدون من حكومة مصر أن لا تتجاوز هذه الحدود المرسومة على ما فيها من إجحاف بأية حال .

وعلى ما يبدو فإن مجلس النواب والشيوخ في جلسته المنعقدة في 14 نوفمبر 1936 قد وافقا على معاهدة 1936 بما فيها من تجاوزات وأثقال بحجة الظروف الدولية القائمة وما كان يحيق مصر من خطر ايطاليا الفاشية ومن عدم استقرار الحالة السياسية والدستورية والاقتصادية في البد وأيا كانت هذه الظروف فهي لا تبرر التنازلات التي قدمها وفد مص والتي تتعارض بشكل واضح مع حقوق مصر الوطنية وهي تنازلات كان لها أكبر الأثر على حركة النضال المصري ضد الاستعمار بل كان راجيا على الجانب المصري أن يستمر في مقاومته ولا يقبل معاهدة تهديدا الاستقلال وتقر الاحتلال .

موقف بريطانيا من الصراع بين الوفد والقصر

في 29 يوليو 1937 بلغ فاروق الثامنة عشرة بالحساب الهلالي وأقسم اليمين الدستورية وكان من الطبيعي أن تستقيل الوزارة القائمة فهي وكيل عن الملك في ولاية السلطة التنفيذية ولذا فقد تقدم مصطفى النحاس باستقالة الوزارة إلى الملك فاروق .

ولما كان النحاس صاحب الأغلبية البرلمانية في مجلس النواب فقد عهد إليه الملك أن ألف الوزارة الجديدة وبدت الأمور وكأنها تسير في اتجاهها الصحيح وخصوصا أن العلاقات المصرية البريطانية باتت تحكمها معاهدة واضحة المعالم في الوقت الذي كان فيه الملك فاروق يحظي بشعبية عريضة وسط قطاعات الشعب المصري وزاد من شعبية الملك الخطة الناجحة التي استخدمها بعض رجال القصر في أوائل عهده ( أمثال علي ماهر وأحمد حسنين ) في أبرز صوره الملك الصالح الذي ناضل من أجل إيجاد دور لمصر الإسلامية في الوقت الذي كان فيه النحاس باشا يفقد حذره من جانب القصر تحت وهم أن علاقة التحالف الجديدة بين الوفد وبريطانيا سوف تتيح له فترة التقاط أنفاس دستورية طويلة يوجه جهوده فيها إلى إعادة بناء الدولة وتعزيز الاستقلال الذي انتزعه من الانجليز ليصبح حقيقة واقعة في المجالين الداخلي والخارجي .

وقد بلغت بمصطفى النحاس الطمأنينة أن أغفل الصدع الذي كان قد أخذ يصيب الجهاز التنظيمي للوفد ويصل إلى القيادة ذاتها بفعل الصراع على النفوذ بين مكرم عبيد من جهة وبين محمود فهمي النقراشي والدكتور .

أحمد ماهر من جهة أخري وكان النحاس باشا يصطفي إليه مكرم عبيد تحت فلسفة الوحدة الوطنية المقدسة ووسط هذه التيارات المتعددة فوجئ النحاس بحادث له مغزاه في النظام النيابي فقد رفض الملك أن يكون يوسف الجندي وزيرا وكان الجندي نائب زعيم المعارضة في ملس الشيوخ ثم كان الوكيل البرلماني لوزارة الداخلية في الوزارة السابقة وقد رفض الملك تعيينه بحجة أن نزاهته إبان وكالته البرلمانية لوزارة الداخلية لم تكن فوق الشبهات .

ولذا فقد تصاعد الموقف وتأزمت العلاقات بين الوزارة القصر وبدأ الحادث وكأنه الأول من نوعه وتناوله الناس بالحديث بين مؤيد للقصر ومعارض للوفد وبالرغم من أن الوزارة قد تنازلت عن ترشيحها حرصا منها على عدم التصادم مع الملك وهو في بداية عهده إلا أن الخلافات بين الوفد والقصر بدأت تأخذ شكلا جوهريا فعندما خلا مقعدان في مجلس الشيوخ رشحت الوزارة لهما محمود فهمي النقراشي وحسن نافع فوافق القصر على ترشيح الأول ولم يوافق على ترشيح الثاني من غير إبداء للأسباب ولما استبدلت الوزارة فخري بك عبد النور بحسن نافع ظل القصر على رفضه مقترحا عبد العزيز فهمي باشا .

ثم تعمقت الخلافات بسبب رغبة القصر في أن ينقسم الجيش يمين الولاء للملك ورأت الوزارة أن يتضمن هذا القسم يمين الولاء للدستور .

واعتقدت احدي صحف القصر أن هذا المبدأ يعني تحويل الجيش حق التدخل إذ ما انتهكت أى قوة سياسية الدستور ولما كان معلوما أن الملك هو أول هذه القوي فإن ذلك يعني أن يتدخل الجيش ضد الملك وبالطبع رفض القصر مثل هذا الاقتراح حفاظا منه على مبدأ الحيلولة بين الجيش والسياسة.

وقد تزايدت شكرك القصر بعد ما لوحظ أن وزير الحربية الوفدي – حمدي سيف النص – قد دخل في التشريفات الملكية على رأس الضباط يقدمهم إلي الملك وهو تقليد لم يتبع من قبل .

ولما كان السفير البريطاني حريصا على الاستفادة من التناقضات بين القصر والوفد بهدف أضعاف الفريقين لمصلحة السياسة البريطانية في إطار يتفق مع الوضع السياسي الدولي الذي صار لمصر بعد المعاهدة ولذا فقد كان الصراع على السلطة بين الوفد والعرش هو المدخل المناسب والمتاح للسياسة البريطانية وكان السفير على ثقة من أن هذا الانقسام بين القصر والوفد سيدخله إلى حلبة الصراع بدون أى جهد وهذا ما حدث حيث تعددت الشكاوي من رجال القصر إلى السفير اتهموا فيها الوفد بأنه يحاول إقامة ديكتاتورية على حساب الحقوق الشرعية للقصر .

ولعل شكوي القصر من الوفد كانت من بابا حبس نبض بريطانيا في محاولة كسب ودها أو على الأقل لضمان حيدتها وهي سياسة ما كره هي القصر .

ووفق سياسة الوفد في محاولة منه للسيطرة على القصر فقد تضمن خطاب النحاس باشا إلى مجلس الوصايا بمناسبة تأليف وزارته : أنه بهدف توثيق العلاقة وتدعيم الثقة بين القصر والأمة واقتداء بالأمم ذات التقاليد البرلمانية فإنه ينوي إقامة وزارة للقصر .

البريطاني في محاولة لاستثمار هذا الصراع وتنميته لمصلحة السياسة البريطانية ولعل النحاس باشا ورجالات القصر لم يقدروا حجم الخطر من جراء هذا الصراع .

وشهدت تلك الحقبة أشكالا متعددة للصراع بين القصر والود لعل أهمها ما قام به القصر من محاولات الاستيلاء على الوفد من الداخل كوسيلة لخروج الدكتور أحمد ماهر والنقراشي من الوفد على اعتبار أنهما من أكثر زعماء الوفد شعبية ويشير السفير البريطاني إلى مسئولية القصر في تنمية الصراع داخل الوفد وخصوصا فيما يتعلق بالنقراشي أحمد ماهر والأخطر من هذا أنه واكب خروج النقراشي وأحمد ماهر من الوفد دخول عناصر أخري ممن وصفوا بالإقطاعيين وهي عناصر تملك بطبيعتها مقومات إثارة النفور الشعبي أكثر مما تملك جذب الإعجاب الجماهيري.

يضاف إلى كل ذلك أن خروج هذه العناصر من الوفد قد أثار العديد من التساؤلات حول سمعة هذا الحزب الكبير في الحكم أكثر مما أثار من شكوك حول تواطؤ القصر والعناصر المنشقة ولعل السبب في هذا ما كان من تحول واضح سواء في سياسة الحزب الخارجية وخصوصا عقب توقيع معاهدة 1936 والتي أثارت العديد من التساؤلات حول تاريخ الحزب وجماهيريته المطلقة بسبب تشدده الواضح في المطالب الوطنية أو فيما يتعلق ببناء الحزب من جديد وفق المتغيرات التي أحدثها انشقاق ماهر النقراشي هذا لأبناء الذي اتسم بالعديد من السلبيات التي دفعت الحزب إلى الوقوع في سلسلة لا تنتهي من الأخطاء لعل أهمها ما وقع في 4 فبراير وما ترتب على ذلك من خروج مكرم عبيد من الوفد وما أعقب ذلك من تجاوزات لعل بدايتها كانت عقب معاهدة 1936م.

ولم تكن عين السفير البريطاني غافلة عن كل ما يجري من خلافات بين القصر والوفد ففي احدي تقاريره يلقي بقدر كبير من المسئولية على النحاس الذي " لا يبذل أى جهد لإرضاء الملك وكسب وده معتقدا بأن هذا السلوك سيكسبه قدرا كبيرا من شعبيته متناسبا أن فاروقا يحظي بشعبية كبيرة لدي المصريين ولذا فإنني أعتقد ان النحاس يرتكب أكبر خطأ ثم أخذت يتنبأ بدقة غريبة بما يمكن أن يحدث :" أنه من المتوقع وفقا لتلك السياسة الخاطئة أن تقال حكومة الوفد في الخريف القادم " وقد أرجع السفير البريطاني عداء أحمد ماهر والنقراشي لمصطفى النحاس لأسباب كثيرة منها : عنصر المنافسة وما زعمه من كراهية المسلمين لأية صورة من صور السيطرة القبطية ثم واصل السفير تحليله للموقف قارئ : أن خصوم النحاس ومكرم عبيد يلزمهم بشكل أساسي نقطة تجمع لم تعد تتوفر إلا في القصر علي ماهر هو صاحب كل تلك المؤامرات ولا يوجد من بين العناصر المعادية للنحاس من يملك مقومات شعبية لدي الجماهير إلا الملك فاروق شخصيا ويختتم السفير تقريره بقوله : ونأمل ألا يقع الملك في خطأ اتخاذ إجراءات متسرعة ضد الوفد قبل تشويه سمعته بدرجة كافية حتى لا يصور الوفد نفسه في صورة شهيد الحرية والديمقراطية .

وفي الوقت الذي كانت فيه العلاقة بين الوفد والقصر تأخذ أبعادا مختلفة كانت بين السفير البريطاني الملك فاروق تزداد سوءا بدرجة عبر عنها الدكتور هيكل بقوله : لقد أتاح هذا الود المفقود بين السفارة الانجليزية والقصر فرصة ذهبية لطائفة من بطانة الملك كي يفسدوا الجو بينه وبين رئيس الوزراء.

لقد تطورت الأحداث السياسية الداخلية بصورة سريعة لدرجة أن أخذ القصر يتهيأ لأول انقلاب دستوري في عهد الملك فاروق وانتهت تقديرات السفير البريطاني للموقف إلى أنه بفضل حكومة وفدية مشاكسة على حكومة قصر موالية للفاشية .

وأدي هذا بطبيعة الحال إلى وجود تقارب بين الوفد والانجليز وهذا مما أكد الدافع وراء عقد معاهدة 1936 وحملت رسالة ملامبسون إلى حكومته في 28 يوليو 1937 أخبار العلاقات الجديدة بين السفارة والحكومة الوفدية مصورا إياها بقوله : أن الموقف يبعث على الرضا وبشر بالأمل ويسرني أن أعبر عن تقديري لموقف النحاس باشا تجاهنا بالرغم من مبالغته في تطبيق نصوص الدستور بصدد الحفل الديني عند تولي الملك العرش وأعتقد أن موقف النحاس من هذه الناحية لا يتسم بسلامة التقدير وغير خاف ان النحاس يريد أن يحد من امتيازات الملك ما أمكنه ذلك .

ويلاحظ أن العلاقات بين الوفد والانجليز قد ارتبطت إلى حد كبير بعلاقة الوفد بالقصر فكلما ساءت العلاقات بين الوفد والقصر يسارع الوفد إلى توطيد علاقته بالانجليز حماية من ديكتاتورية القصر والتي تجاوزت روح القانون والدستور ومن المؤكد أن عدم حسم الكثير من القضايا الدستورية قد شجع القصر على المعني في سياسته العدائية ضد الوفد .

ولعل ما توقعه السفير البريطاني قد حدث بالفعل حيث ذهب إليه النحاس باشا شاكيا معددا إلهي كثيرا من الإهانات التي لحقت بشخص رئيس الحكومة ويضيف السفير قائلا : أن دولاب العمل في الحكومة كاد أن يتوقف بسبب العديد من تدخلات الملك التي لا تستند إلى أى وضع قانوني ويعلق السفير قائلا : يكفي النحاس ما لاقاه من غلام عديم التجربة ناقص التعليم متغطرس.

ويبدو أن الدوائر البريطانية قد تعاملت مع الطرفين من منطلق سياسة النفس الطويل بهدف إجهاش كل من القوتين المتصارعتين وانطلاقا من هذا المفهوم فلم يحاول السفير إظهار نفسه بصورة المتضامن مع الوفد على حساب العرش أو المتضامن مع العرش على حساب الوفد وهكذا كانت سياسته في تعامله مع القصر ولعل الغرض من تلك السياسة أن بتكالب النحاس على بريطانيا وأن يلقي بكل ثقله تجاهها وكانت الحكومة البريطانية تقدر قيمة تلك السياسة اعتقادا منها بأن الوفد هو القوة السياسية الوحيد التي يمكن التعامل وقت الشدائد باعتباره حزبا يحظي بشعبية مطلقة لدي المصريين.

وهكذا أتيحت الفرصة لكي يتدخل السفير البريطاني في محاولة منه لإقناع طرقي الأزمة بتقديم تنازلات كل من جانبه وأبدت الحكومة الوفدية استعدادا طيبا سواء بحل جماعات القمصان الزرقاء أو بقبول الإبقاء على قسم الجيش دون أن يدخل عليه تعديل بأن يتضمن القسم ولاء للدستور وإن كانت قد تمسكت بحقها في تعيين أعضاء مجلس الشيوخ وأيضا بحقها في اقتراح القوانين دون موافقة مسبقة من الملك في تعيين أو فصل الموظفين على مختلف درجاتهم .

وفي الوقت الذي كانت تبدل فيه الوسطات كان الوفد يستخدم أسلوب المظاهرات الشعبية كنوع من التأثير على القصر من ناحية والتأكيد على أن الوفد يعني الشعب المصري كله من ناحية ثانية وتلك ورقة استعملها الوفد في جميع مراحل صراعه مع العرش وأخذت الجماهير الوفدية تطوف شوارع القاهرة تهتف " النحاس أو الثورة "

إلا أن الوفد قد أخطا في حساباته هذه المرة لعدة اعتبارات موضوعية من بينها :-

أولا: أن هذه المظاهرات قد اتسمت بعامل " الصنعة " التي افتعلتها فرق القمصان الزرقاء التي اصطنعها الوفد لنفسه وبدا الوضع أمام الرأي العام المصري وكأنه اعتداء على حقوق الملك الدستورية .

ثانيا : لقد أخطأ الوفد في حساباته أيضا حيث أن هذه المظاهرات كانت من الأساليب التي يلجأ إليها الوفد أمام الملك فؤاد , أما هذه المرة فإن الملك فاروق كان يحظي بشعبية كبيرة.

ثالثا : لقد أدرك لنحاس باشا أن وزارته على هبة الإقالة فالصور أن هذا الأسلوب سيحول بين القصر وبين الإقدام على تلك الخطوة إلا أن هذا التقدير كان خاطئا فلقد كانت تلك المظاهرات من أهم العوامل التي عطلت بالإقالة .

وفي الوقت نفسه سارت جموع غفيرة من الشعب المصري في شكل مظاهرة تهتف بحياة الملك واتجهت إلى قصر عابدين حيث خرج الملك لتحيتها أكثر من مرة مما يؤكد رغبته في انتهاج هذا المسلك.

ووفق حديث لامبسون ( السفير البريطاني ) مع علي ماهر عن تصاعد الموقف بين الملك والنحاس يقول لامبسون : إن هذه التصرفات من الملك تؤكد تماما اعتقادي بأن الملك عنيد ومتهور وأحمق  : وقلت له ( أى أحمد ماهر ) أننا قد بلغنا ما في وسعنا لاحتواء الأزمة وإذا تدخلنا أكثر من ذلك فسوف نتهم بأننا نتدخل في شئون مصر الداخلية ولقد وصلت إلى نتيجة وهي أن ندع الفريقان يخوضان معركتهما إلى النهاية وأتمني أن يتفهم الملك طبيعة تلك المظاهرات التي تهلل له فإن هذا التهليل يمكن أن يكون مضللا ولقد أكدت للملك مرارا أننا نؤيده بشرطين أن يكون سلوكه دستوريا وأن يكون حكيما ولا أعتقد ان أيا من هذين الشرطين قد تحقق .

ولقد تطورت الأمور تطورا خطيرا وبقدر ما تفاقمت مظاهر الخلاف بين الوفد والقصر بقدر ما تدخل السفير البريطاني وهذا مما يريدنا قناعة بعدم إخلاص السفير في محاولته احتواء تلك المشاكل وفي 30 أكتوبر 1937 تدهور الموقف بشكل خطير بسبب مصادره الحكومة لجريدة البلاغ – لسان حال القصر – لنشرها نص حديث دار الملك فاروق والنحاس طلب فيه الأول حل جماعات القمصان الزرقاء .

وانطلاقا من مفهوم أن الوفد يعني كل الشعب المصري فقد بدأ النحاس باشا يفكر جديا في خلع فاروق وتنصيب الأمير عبد المنعم ملكا على مصر .

ووفقا للمصالح البريطانية وتقديرا لأهمية أن تبقي الثغرات قائمة في السياسة المصرية لتتمكن بريطانيا من التدخل فلم توافق الحكومة البريطانية على خلع الملك فاروق واقترحت على النحاس أن يتذرع بمزيد من الصبر لأن الفرصة ما تزال قائمة لإصلاح الخلل القائم .

إلا أن محاولات السفير البريطاني لإصلاح الخلل القائم بين النحاس والملك لم تحقق قدرا ملحوظا من التقدم وخصوصا بعد محاولة اغتيال النحاس باشا ( 28 نوفمبر 1937) على يد عضو من جمعية " مصر الفتاة " يدعي عز الدين عبد القادر واعتقادا من النحاس باشا بأن الملك فاروق هو المسئول الأول عن هذا الحادث فلقد نقل أمين عثمان رسالة شفوية من النحاس إلى السفير البريطاني يطلب منه التدخل المباشر لإنقاذ المعاهد مما قد يحدث من تصرفات الملك المستبد ويتساءل لامبسون في رسالته إلى حكومته؟ هل نحن على استعداد لدفع الثمن المحتمل لمساندة النحاس ضد الملك فاروق ؟ وهل نحن على استعداد لأن نمضي بالأمور إلى نهايتها ؟ إن ذلك قد يعلن خلع الملك نهائيا مع الأخذ في الاعتبار أن الأمير محمد على الذى يليه في ولاية العرش صاحب خبرة كبيرة وسيكون أسلس قيادي وأكثر تقبلا للإقناع والنصح , ومن الواضح أن وجهات النظر كانت مختلفة بين الوفد والانجليز على من يخلف فاروق والملاحظ على ضوء العلاقات المصرية البريطانية أن الحكومة المصرية قد تجاوزت في علاقتها ببريطانيا حدود معاهدة 1936 فلم يكن من بين بنود تلك المعاهدة ما ينص صراحة أو ضمنا على أن تتدخل بريطانيا في شئون مصر لدرجة التفكير في خلع الملك فاروق وعلى الرغم من أننا لا نعفي القصر من المسئولية التي دفعت بالعلاقات بين الحكومة والقصر إلى هذا الحد من التردي إلا أننا لا نعفي الحكومة الوفدية من مسئوليتها في إعطاء الحكومة البريطانية فرصة التدخل في الشئون الداخلية لمصر وهو ما يتعارض مع معاهدة 1936 التي تنص على عدم التدخل بأي صور ة من الصور .

ولما كانت تلك المسائل الخطيرة تحسم في لندن فقد جاء رد الحكومة البريطانية بعدم الموافقة على خلع الملك فاروق وخصوصا في هذا الوقت بالذات كما طالبت السفير البريطاني بالضغط على النحاس ليقبل إعادة تشكيل وزارته بما يرضي كل الأطراف وطالبته أيضا بمقابلة الملك وحثه بأشد لغة على التعاون مع الحكومة الحالية مع العمل في الوقت نفسه على كسب ثقة الملك.

ومن الواضح أن موقف الحكومة البريطانية من هذا الصراع الدائر كانت تحكمه عدة اعتبارات :

أولا : أن العلاقات المصرية البريطانية كانت تمر بفترة اختبار لمعاهدة 1936 وإقحام بريطانيا في مثل هذه المسائل الخطيرة سيفسر على أنه ارتداد بالعلاقات إلى ما قبل المعاهدة .

ثانيا : لقد كان الملك يحظي بقدر من الشعبية لدي الرأي العام المصري والإقدام على عزل الملك قد يترتب عليه عواقب خطيرة ليست في مصلحة بريطانيا .

ثالثا : لقد قدر وزير خارجية بريطانيا أهمية الصراع بين الوفد والقصر حتى تتاح الفرصة لمزيد من النفوذ البريطاني .

ونستطيع بعد كل هذا أن نؤكد على قضية هامة وهي رغبة بريطانيا في مساندة الوفد تلك المساندة التي تفسرها العديد من الأسباب الموضوعية وفي مقدمتها :-

1- أن حكومة الوفد تستند إلى قاعدة شعبية عريضة تمكنها من تطبيق معاهدة 1936 تطبيقا يعتمد على روح المعاهدة قبل التقيد بنصوصها .

2- أن حزب الوفد بشعبيته الكبيرة هو الحزب القادر على الوقوف موقف الند ضد شعبية الملك الشاب .

3- يمكن لبريطانيا عن طريق حكومة الوفد أن تصدر ما تشاء من قرارات تتفق مع المصالح البريطانية .

وفي الوقت الذي كانت العلاقات بين الملك والنحاس تمضي إلى طريق مسدود كانت هناك بعض القوي الملتفة حول القصر بهدف أن تؤجج نيران الفرقة بين العرش والوفد ويعتبر المقال التالي والذي نشره احدي الصحف الموالية للقصر نموذجا فريدا لأسلوب الوقيعة والمزايدة لا لخدمة الأغراض الوطنية وإنما لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية , فكتبت جريدة البلاغ تقول :" حينما سافر النحاس إلى لندن لأجل المفاوضات ودعته مصلحة خفر السواحل بإطلاق المدافع وحينما عاد استقلبته بنفس الطريقة وبديهي أن إطلاق المدافع من مميزات جلالة الملك وحده بذلك جرت القواعد وجرت العادة في مصر .. فإطلاقها للنحاس في توديعه وأستقبله اعتصاب لمظهر من مظاهر تلك المميزات كان من الضروري أن يترك أثره في ذلك القلب البرئ الذي يجلس على العرش .. ثم الحفلة الدينية التي كان مزمع قيامها عند تولية الملك سلطانه ولكن النحاس ثار وزعم أن فيها اعتداء على الدستور كل هذا والملك وهو طاهر القلب و الذهن من الأشخاص لا يضمر إلا حب خالص لبلاده ثم أخذت الصحيفة تعدد على النحاس مواقفه المنافية لحقوق العرش .

ففي احدي الحفلات التي أقامها النحاس في قصر الزعفران جلس النحاس بجانب الملك في الحديقة وكان الجو معتدلا ومع ذلك شوهد النحاس بخلع الطربوش ويبقي برأسه عاريا لمدة عشرين دقيقة ولم يخلع الملك طربوشه فأى معني يفهم من هذا غير أن النحاس يتململ في حضرة صاحب الجلالة واستقبل الملك مستقبليه في محطة الإسكندرية مصافحا لهم فشوهد النحاس يصافحهم هو الآخر من ورائه ولما ذهب جلالته إلى البرلمان في حفلة التولية شوهد مكرم عبيد واقفا بجانبه ويداه معقودتان خلف ظهره وهذا وذاك يتنافيان مع التقاليد .

وهكذا تمكنت بطانة السوء من تعميق الخلاف بين الملك ورئيس الحكومة ومما يؤسف له أن الصحف المصرية قد لعبت دورا خطيرا في تفاقم الخلافات وأن بعض كبار الكتاب قد انحدر إلى هذا الدرك تحت فلسفة " حقوق الملك هي حقوق الأمة "

وفي الوقت الذي انقسم فيه الشعب المصري بين مؤيد للملك ومناصر للوفد كانت الحكومة البريطانية تضع القواعد الأساسية التي تحكم التدخل في شئون مصر الداخلية وحددت أربعة أهداف تستدعي التدخل البريطاني :

أولا : إغفال تنفيذ نص المعاهدة أو روحها .

ثانيا : السعي من جانب الحكومة المصرية لتأمين نفسها بالتفاوض مع دولة أخري لعقد معاهدة أو نحوها .

ثالثا : امتناع الحكومة المصرية عن اتخاذ الإجراءات الضرورية لتحسين وسائل الدفاع عن مصر .

رابعا : تدهور الوضع المالي علي نحو يترتب عليه أن تصبح مص عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها الدولية .

على هذا النحو أرست الخارجية البريطانية القواعد التي يتم بموجبها التدخل في شئون مصر الداخلية ومن المؤكد بريطانيا لا يعنيها من مصر إلا القدر الذي يحقق مصالحها سواء العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية أما حقوق العرش أو حقوق الأمة أو الديمقراطية فهي قضايا تتشدق بها بريطانيا بهدف تحقيق أغراضها .

ومما يلفت النظر أن علي ماهر رئيس الديوان الملكي – قد لعب دورا مميزا في الصراع الدائر بين القصر والوفد اتسم بالدهاء والمكر ومن الطريف ما نلاحظه في خديعته للسير لامبسون ففي الوقت الذي أحس فيه السفير برغبة الملك في إقالة الحكومة نجح علي ماهر إلى درجة كبيرة في إقناع السفير بأن الملك لا يمكن أن يفكر في مثل هذه الأمور مما اضطر لامبسون أن يرسل إلى حكومته يطمئنها على بقاء حكومة الوفد .

واضطرت الحكومة الانجليزية إلى استعمال أسلوب التهديد وأبلغت املك صراحة انه سيفقد ثقة الحكومة البريطانية إذا ما استمر في سياسته وأنه يعرض عرشه للخطر .

ومن خلال هذا الصراع الدائر أعلن الدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس النواب بيانا أدان فيه الوزارة الوفدية متهما إياها بإفساد المن والتعليم وخنق الحريات وأنها تعد من أسوأ الحكومات التي حكمت مصر

وعندما حانت اللحظة الحاسمة وعلم السفير البريطاني أن إقالة الوزارة قد تحققت تراجعت الحكومة البريطانية عن اتخاذ محدد ولعل اختيار محمد محمود باشا ليتولي رئاسة الحكومة بما عرف عنه من صادقته الوطيدة مع الانجليز كان من بين العوامل التي شجعت بريطانيا على عدم التدخل .

وبعد خطاب الملك بإقالة الوزارة أغرب خطاب إقالة لأية حكومة يؤيد طريقة الوزارة في الحكم وأنه يأخذ عليها مجافاتها روح الدستور وبعدها عن احترام الحريات العامة وحمايتها وتعذر إيجاد سبيل لاستصلاح الأمور على يد الوزارة التي ترأسونها لم يكن بد من إقالتها تمهيدا لإقامة حكم صالح يقوم على تعرف رأي الأمة الخ "

وتأصيلا للحقيقة التاريخية فإننا نعتقد أن علي ماهر قد لعب دورا خطيرا في تدعيم سلطة الملك على حساب الحقوق الدستورية واستطاع علي ماهر أن يلفت نظر املك الشاب إلى ضرورة إقالة الوزارة الوفدية بلا أى تقدير لمبدأ الشرعية الدستورية .

ويبدو أن هذا المسلك من علي ماهر كان بسبب موقف الوفد من تعيينه رئيسا للديوان الملكي ففي الوقت الذي استبشرت فيه صحف القصر لهذا التعيين واعتبرته مطابقا لمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب على اعتبار علي ماهر هو أفضل من يصلح لهذا المنصب في نفس الوقت تتحفظ صحف الوفد على هذا التعيين بل أن إحداها ذكرت أن هذا التعيين قد تم بناء على الصلاحيات التي حصل عليها القصر بمقتضي مرسوم 8 فبراير 1925 الذي أصدرته وزارة زيور باشا وأن الوزارة القائمة تنوي عرض هذا المرسوم على البرلمان بهدف تعديله أو إلغائه .

بل إن علي ماهر شخصيا هو الذي قام بكتابة كتاب الإقالة وعندما أثيرت هذه المسألة في مجلس الشيوخ سنة 1940 قال علي ماهر : إذا تساءل البعض لماذا أقيلت حكومة 1937 فالجواب أن سبب الإقالة خلاف على حقوق العرش وكان من واجبي ( أى علي ماهر ) وقتئذ أن أتقدم لإيجاد حلول بخصوص هذا الموضوع .

وهكذا تمت إقالة حكومة الوفد بطريقة مهينة على يد الملك فاروق وبتوجيه من رئيس ديوانه علي ماهر الذي ضرب عرض الحائط برغبة السفير البريطاني في بقاء حكومة الوفد في الحكم ولذا فقد اعتقد السفير أن علي ماهر هو السبب الحقيقي وراء كل المتاعب التي تلاقيها بريطانيا في مصر .

ولقد تمخضت أزمة إقالة الوزارة عن مزيد من سوء العلاقة بين علي ماهر والجانب البريطاني كما دفع السفير إلى أن يكتب لحكومته قائلا : أن علي ماهر رجل مخادع لا يمكن الوثوق فيه أو الاعتماد عليه .

وبصدد مناقشتنا لإقالة الوزارة الدستورية سنة 1937 يدفعنا هذا إلى السؤال عمن تقع على عاتقه مسئولية هذه الإقالة ؟..

ولعل التفسير الذي يتفق ومنطق الأحداث يدفعنا إلى إدانة العديد من الأطراف ولعل علي ماهر في مقدمة تلك القائمة لأنه المسئول الأول عن هذه الإقالة ولأنه سعي إلى توسيع سلطات الملك على حساب الأمة حتى يبدو بمظهر الرجل الأمين على حقوق العرش لا شك أن هذه السياسة قد أفرزت نتائج خطيرة تمثلت في فتح عيون الملك على سياسة التحدي للمبادئ الدستورية وإقالة الوزارات وتعطيل البرلمان تلك السياسة التي اكتوي بنارها حزب الأغلبية وأحزاب الأقلية على حد سواء ولعل علي ماهر نفسه قد شرب من نفس الكأس حينما أقاله الملك بطريقة مهينة سنة 1952 ( مارس).

وتعد حكومة الوفد مسئولة بتصرفاتها حيث مهدت الطريق لإقالتها وذلك بسبب اعتقاد النحاس أن الملك ( شاب صغير ) يمكن احتواؤه بشكل أو بآخر وكانت معظم تصرفات النحاس تصدر انطلاقا من هذا المفهوم وأسقطت حكومة الوفد من حساباتها وجود علي ماهر في معسكر القص تلك الشخصية التي شهد لها كل من عاصرها بالمكر والدهاء وبدلا من أن تنهج حكومة الأغلبية نهجا دستوريا ابتدعت فكرة القمصان الزرقاء التي ضج منها الجميع بسبب سلوكها الإرهابي عن طريق الاعتداءات المتكررة على خصوم الوفد.

ويعتبر الملك فاروق نفسه أحد المسئولين عن هذه الإقالة فما كان عليه أن يبدأ حياته بهذا المسلك الديكتاتوري وكان عليه أن يلجأ إلى الأمة ليأخذ رأيها إذا ما أعتقد أن الحكومة لام تعد تحظي برضاء الشعب .

وإذا ما علمنا أن الملك فاروق لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة عاما بالتاريخ الميلادي فإن هذا يضاعف من مسئولية علي ماهر .

أما السفير البريطاني ومن ورائه تعليمات وزير الخارجية فلقد لعب دورا هاما وأساسيا في إفساد العلاقات بين القصر والحكومة وما كان لبريطانيا أن تقبل بأي حال من الأحوال أن يتحدد المصريون جميعا في جبهة واحدة لأن هذا معناه أن تتنبه الأمة للخطر الذي بها من جراء الهيمنة البريطانية وهناك سؤال يستحق أن يجاب عليه : كيف قبل البريطانيون أن يهزموا في أول معركة يخوضونها ضد الملك فاروق ؟...

أولا : لقد حدد وزير الخارجية البريطاني المسائل التي يمكن للسفير أن يتدخل تدخلا مباشرا من أجلها ولم يكن من بينها إقالة الحكومة الوفدية ..

ثانيا : لعل الحكومة البريطانية قد اعتقدت أن إقالة الوفد لا تستحق التضحية بمعاهدة 1936 ومن لمؤكد أن الحكومة البريطانية مصالحها في خطر .

ثالثا: أكد السفير البريطاني في حديثه مع النحاس عقب الإقالة حينما لامه الأخير على عدم تدخله ليحول بين رغبات الملك الطائشة وبين إقالة الحكومة الدستورية – أكد السفير أنه لم يكن في وسعه أن يفعل أكثر من ذلك وليس من مصلحة النحاس باشا نفسه أن تتدخل بريطانيا لكي تستبقيه بالقوة .

إلا أن الوفد لم يكن ليقتنع بالحجج والمبررات التي ساقها السفير البريطاني وأخذت صحف الوفد تلوح بأن التحالف الانجليزي المصري قد أخفق وأن على مصر أن تبحث لها عن حليف جديد وأشارت الصحيفة إلى أن بريطانيا ما زالت تتعامل مع مصر بروح الاستعمار القديم والواجب على الحليفة إذا كانت حريصة على عوامل الود والصداقة أن تترفع عن استغلال محنتنا وإهدار استقلالنا.

وتساءلت صحيفة وفدية أخري : هل بلغ سوء الظن بين المصريين والانجليز إلى الحد الذي لا سبيل معه إلى إقرار الوضع بين الحليفتين على أساس من التعاون الصادق السليم ؟ وأشارت الصحيفة إلى مسئولية بريطانيا عن إقالة الحكومة الدستورية .

ولقد انتهز الوفد كل الفرص لإحراج الانجليز والقصر معا وهذا الموقف من الوفد يدفعنا إلى الاعتقاد بأن موقفه من الانجليز وهو خارج الحكم يغاير موقفه وهو في الحكم فلقد أخذ زعماء الوفد يصرحون في كل مكان بأنهم ضد رغبة وتأيد جماهير الشعب المصري وترتيبا على ذلك وجد الوفد نفسه مدفوعا لمهاجمة السياسية الانجليزية وخصوصا ما يتعلق منها بتأييد المعاهدة بل والأكثر من هذا أعلن ممثلو الوفد في مجلس النواب بأن السفارة البريطانية ورئيس البعثة العسكرية البريطانية يحكمان مصر كما كان يحكمها المعتمد البريطاني والمفتش العام قبل المعاهدة .

ومن خلال الخلافات والمشاحنات بين القوي السياسية في مصر والذي كان حقل خصب لنمو النفوذ الانجليزي المدعوم بمعاهدة 1936 أعيدت صياغة العلاقات بين القوي المؤثر في السياسة المصرية على النحو التالي:

أولا : لقد اعتقد النحاس أن الملك وحده غير قادر على اتخاذ تلك الخطوة الخطيرة وهي إقالة الحكومة الدستورية معتقدا أن الانجليز كانوا وراء تلك المؤامرة ومن هنا أعلن الوفد صراحة عن عدائه للإنجليز والتلويح بنقض معاهدة 1936 .

ثانيا : زيادة حدة الصراع بين حزب الأحرار الدستوريين والقصر إلا أن هذا الصراع لم يتعد إطار التحالف ضد الوفد وهذا التصارع كان منشئوه أن القصر يريد أن يملك ويحكم وحده , وأن حزب الأحرار الدستوريين كان يريد أن يشارك الملك في الحكم , ويلاحظ أن مصدر الخلاف قد دار حول أمور سبق أن تصارعت من أجلها كل الأحزاب ضد ديكتاتورية القصر وهي حق رئيس الحكومة في اختيار أعضاء وزارته وهو ما رفضه القصر تماما .

ثالثا : أما عن العلاقات بين الانجليز والقصر وخصوصا بعد أن أهمل فاروق نصائح لامبسون بالإبقاء على حكومة الوفد فقد تزايد العداء بين الطرفين لنفس السبب السابق بالإضافة التي تزايد النفوذ الايطالي داخل القصر عن طريق البنداري باشا وكيل الديوان الملكي ومن هنا فقد دخلت العلاقات المصرية البريطانية في مرحلة جديدة اتسمت بالتصادم الواضح بين الملك والانجليز .

الوجود البريطاني في السياسة المصرية ( ديسمبر 1937يونيه 1940)

لقد اعتبرت الحكومة البريطانية أن تصمم الملك فاروق على إقالة حكومة النحاس وتكليف محمد محمود باشا بتأليف الوزارة الجديدة يعد انقلابا ضد الديمقراطية وعودة إلى سلوك فؤاد الاستبدادي .

وقد ألف محمد محمود وزارته في 30 ديسمبر 1937 حيث جمع فيها بعض المستقلين والمنشقين على الوفد وبمجرد الانتهاء من إجراءات تشكيل الحكومة جرت زيارتان متبادلتان بين السفير البريطاني ومحمد محمود باشا تم فيهما وضع أسس التعاون بين مصر وبريطانيا وقد حملت رسائل لامبسون إلى حكومته في لندن – رغبة رئيس الوزراء المصري في إقامة علاقات متينة تحكمها المصالح المشتركة والتعاون الصادق بين الطرفين وقد اتفق على وضع أولويات العمل المشترك فيها يتعلق بقضية الدفاع عن مصر , وما يتطلبه ذلك من نفقات وأضاف لامبسون في برقيته :ط أن محمد محمود باشا قد ابدي رغبة أكيدة في منع المظاهرات التي تحدث في الشوارع كل يوم والتي تسبب ارتباكا في كافة المصالح والمؤسسات الحكومية ويضيف لامبسون أن رئيس الوزراء المصري قد تفهم جيدا طبيعة العلاقات المصرية الايطالية وأنه مقدر تماما للإخطار القائمة وأستطيع أن أكرر أن رئيس الوزراء الجديد صديق قديم وحتما سيكون تعاوننا صادقا ومريحا .

ولعل الملك فاروق قد وضع اختياره على محمد محمود باشا بسبب علاقته الوطيدة مع الانجليز ويبدو أن الملك فاروق كان على ثقة من أن بريطانيا لن تعترض حتى لا تقع في حرج نظرا للعلاقات الوطيدة التي تربط رئيس الوزراء الجديد بالسفارة البريطانية وقد بدأت الوزارة الجديدة في تنفيذ خطة القصر باستصدار المرسوم الملكي بحل البرلمان لوفدي ( 3 يناير 1938) وقد هاج النواب الوفديون وأصروا على الاعتصام داخل البرلمان احتجاجا على تلك السياسة إلا أن الشرطة قد تمكنت من إخراجهم بالقوة .

وخلال الشهر الأول من عمر الوزارة أجريت أكبر حركة تنقلات داخل الجهاز الإداري للدولة وتمت عمليات فصل واسعة النطاق للعناصر الوفدية حتى لقد شهد السفير البريطاني باه بات واضحا أن الانتخابات " ستزيف " بواسطة الحكومة وبموافقة القصر الملكي .

ومضت الوزارة في إدخال العديد من التعديلات في الدوائر الانتخابية تم معظمها تلبية لرغبات مرشحي تلك الدوائر ووجدت الفرصة مواتية في التعداد الجديد للسكان حيث زادت عدد الدوائر الانتخابية لمجلس النواب 23 دائرة جديدة فصار عدد الدوائر 264 بدلا من 232 وتدخلت الحكومة في هذه الانتخابات تدخلا إداريا لصالح كثير من مرشحيها وأنصارها فلم تكن في جملتها انتخابات حرة أو سليمة وهذا يعد مخالفة صريحة للدستور وتزييفا لإرادة الأمة وتواطؤ مشبوها مع القص .

وكان الخارجون على الوفد يتزعمهم الدكتور أحمد ماهر والنقراشي قد كونوا " الهيئة السعدية" ولم يعتبروا أنفسهم خارجين على الوفد بل اعتقدوا أن عامة الوفدية بقيادة النحاس باشا هي التي خرجت عليهم – وعلى المبادئ الأصلية للوفد ووجد هؤلاء أنفسهم في معسكر القصر الذي يعتبر الخصم الأول للوفد وتقدموا إلى الانتخابات مع حزب الأحرار الدستوريين على أمل الفوز بمقاعد تتناسب وما أثير من أن الوفد الحقيقي هو ما يتزعمه الدكتور أحمد ماهر .

وحصلت الهيئة السعدية على ثمانية مقاعد في مجلس النواب وفضل الدكتور ماهر أن يبقي بهيئته بعيدا عن الحكم يرقب ما تأتي به الوزارة الجديدة إلا أن هذا الموقف كان موضع ريبة من الوزارة الجديدة فما زالت المساعي تبذل لتعاون الحزبين في الحكم حتي أثمرت هذه المساعي وأشترك السعديون في الوزارة في يونيه 1938 بعد أن تمكنت الحكومة بالتعاون مع القصر من إقصاء الوفد عن الحكم عن طريق تزييف الانتخابات إلى حد أن زعيمي الوفد مصطفى النحاس ومكرم عبيد – قد سقطا في دائرتيهما وعلى ضوء ما ترتب على ذلك من صراع أخذ يدب بين القصر يمثله علي ماهر ( رئيس الديوان ) وبين محمد محمود ( رئيس الوزراء ) على اعتبار أن كلا منهما يريد أن يستأثر لنفسه بقدر كبير من السلطة .

وتشير العديد من المصادر إلى أن علي ماهر باشا لم يترك الوزارة تمضي في طريقها بل عمل على وضع العديد من العقبات كوسيلة للخلاص منها حتى يقفز هو إلى موقع رئيس الحكومة .

وبقدر ما بذل علي ماهر من جهد للعمل على إضعاف الحكومة والنيل منها كان محمد محمود باشا يتردد على دار السفير البريطاني مابيا وبسخاء كل ما يري أنه ينم عن رغبة انجليزية ووفقا لمراعاة مصالح الحليفة فلقد اتخذت الحكومة المصرية قرارا بمنع الرعايا الأجانب من حمل السلاح والذي كان مقصودا به بالدرجة الأولي الإيطاليين المقيمين في مصر ومن المؤكد أن السلطات البريطانية كانت ترقب وبحذر شديد التطورات السياسية في مصر حيث كانت الأوضاع الدولية تنذر بقدوم حرب ضد ألمانيا ففي 12 مارس 1938 أقدمت ألمانيا على ضم النمسا ثم تحولت إلى إقليم السوديت الذي تفاقمت فيه الحركة النازية وقد نصحت انجلترا وفرنسا وتشيكو سلوفيا بعد لقاء ميونيخ الأول بين تشمبرلن وهتلر بالخلص من الأقاليم التي يقطنها الألمان بنسبة تزيد عن 50 في المائة وتطورت الأمور تطورا خطيرا بعد لقاء ميونيخ الثاني 29 سبتمبر 1938 وبقدر تفاقم الحالة الدولية فقد تضاعف قلق بريطانيا وزاد من رغبتها في فرض سيطرتها على مصر بحجة أن ما يحدث يرتبط بأمن بريطانيا ذاتها ومن هنا نظرت بريطانيا إلى موقف القصر بشئ من الريبة والشك ومما ضاعف من هذا الاعتقاد العلاقة الوطيدة بين القصر والجالية الايطالية التي كانت تعد أكبر جالية بعد الجالية اليونانية وكانوا منتشرين في مدن القطر ولهم منشئات مالية وثقافية ضخمة منها البنك التجاري الإيطالي والبنك الإيطالي المصري والمعهد الإيطالي وغير ذلك من المشروعات التجارية الكثيرة ولذا فقد كان الإيطاليون يشكلون عنصرا خطيرا على الانجليز في مصر ولذا فقد كان أهم ما يقلق الانجليز هو امتداد النفوذ الايطالي الفاشي إلى القصر الملكي حيث أثار الانجليز صلة بعض موظفي السراي بالطليان وأن الوزير الايطالي في مصر يحسن استقبالهم عند زيارتهم له واعتقدت الحكومة البريطانية أن من حقها وضع حد لهذا الميول وضرورة إقصاء موظفي السراي الذين لا ترضي عن وجودهم .

ووفقا لتطور الحالة الدولية بما ينذر بقيام حرب مع ألمانيا وانطلاقا من المفهوم البريطاني السائد والذي يعني أن أمن بريطانيا فوق كل اعتبار فلقد بدأت الحكومة البريطانية تعيد فهم معاهدة 1936 بما يتفق ومصالحها بالدرجة الأولي .

ولعل من بين المسائل التي كانت تثير السفير البريطاني أن يري الكونت ما تزوليني ( السفير الإيطالي ) في مدن مصر الكبرى وهو يستعرض بقميصه الأسود الشباب الفاشي ويردد شعارات الدعاية للإمبراطورية الرومانية .

ولقد خشي الانجليز مغبة توثق الصلة بين البنداري باشا ( وكيل الديوان الملكي ) وبين فيروتشي كبير المهندسين بالسراي والذي كان يعد من وجهة النظر البريطانية كادرا هاما من كوادر قلم المخابرات الايطالية بل لقد أذاع الانجليز أن فيروتشي يطلع على أوراق الدولة ووثائقها من خلال مكتب البنداري بالقصر الملكي .

وأخذت السياسة البريطانية تتحين الوقت المناسب لكي تدخل بكل ثقلها لا لوضع أسس ومبادئ تحدد العلاقة بين القصر والحكومة وإنما لوضع أسس جديدة تحدد من خلالها قواعد التدخل البريطاني , وساء في أعمال الحكومة أو في أعمال القصر واستثمر السفير البريطاني ( لامبسون ) الخلافات المستمرة سواء بين القصر والحكومة أو بين المعارضة التي أصبح يمثلها حزب الوفد وبين القصر وحكومة محمد محمود باشا من جانب آخر وقد بدأ هذا واضحا خلال ما يسمي بأزمة ( حرس الموتسيكلات ) حيث اعتاد السفير البريطاني أن يحيط به موكبه منذ كان مندوبا ساميا ( قبل توقيع المعاهدة) وكانت حكومة الوفد قد تركت هذا الأمر بصفة استثنائية بعد توقيع المعاهدة إلا أن الملك فاروق طلب إلغاء هذا التقليد وألح فيطلبه مما اضطر محمد محمود إلى مفاتحة السفير وطلب منه رفع هذا الحرس .

وعلى ما يبدو فإن السفير البريطاني لم يشأ أن يجعل من موضوع لحرس أساسا للخلافات مع القصر وإنما أراد أن يتحين الوقت المناسب حتى يرد الصاع صاعين للملك ووجد لامبسون أن الفرصة مناسبة حين طلب من محمد محمود أن يبعد كبير مهندسي القصر ( فيروتشي ) الايطالي إلا أن الملك طلب مهلة قصيرة وبعدها سيتخلص منه نهائيا .

ولعلها كانت مناورة من القصر حتى لا يصطدم اصطداما مباشرا مع السفير في الوقت الذي كان الوفد يشن أكبر حملاته ضد الانجليز والقصر معا مؤكد على أن معاهدة 1936 قد سقطت في الاختبار الأول .

وكما أوضحنا فقد كان الصراع بين القصر والحكومة من الأسباب الهامة التي أتاحت الفرصة لتدخل السفير البريطاني حتى لو كانت هذه الخلافات من أخص القضايا الداخلية وتصور برقية لامبسون التالية كيف يمثل الخلل القائم بين القصر والحكومة فرصة مناسبة لمزيد من التدخل البريطاني :" أن العلاقة بين القصر والحكومة تتأزم يوما بعد يوم مما دفعني إلى إجراء محادثات مع كل من علي ماهر رئيس الديوان وحسين سري وزير الحربية وعبد الفتاح يحي وزير الخارجية ولقد خرجت من محادثاتي بأن علي ماهر وراء كل هذه المؤامرات في محاولة للقضاء على هذه الحكومة .

وفي الوقت الذي كانت فيه الجالية الايطالية تحظي باهتمام خاص لدي فاروق كان علي ماهر يبذل جهدا كبيرا لدي بريطانيا أثناء تواجده في لندن لحضور مؤتمر المائدة المستديرة في محاولة ليبعد عن نفسه تهمة التعاطف مع ايطاليا تمهيدا لتوليه رئاسة الحكومة .

وعلى الرغم من التعاطف الواضح بين القصر والجالية الايطالية في مصر إلا أن هذا التعاطف لم يرق إلى درجة التعاون المطلق في هذه الفترة بالذات ( 19381939) وإنما كان فاروق يتعامل مع الطليان من منطلق كراهيته للسفير البريطاني والذي كان يتعامل مع فاروق باعتباره شابا متهورا وليس باعتباره ملكا على مصر .

ولقد استطاع علي ماهر بدهائه وذكائه أن يقنع الخارجية البريطانية بأهمية التغيير في مصر بحجة أن الشعب المصري قد مل هذا الطراز من الحكام وأن الملك قد اعتزم أن يسقط الوزارة القائمة وأن يعهد إليه بتأليف الوزارة الجديدة .

وعلى ما يبدو فإن اختيار فاروق لعلي ماهر لكي يمثل مصر في مؤتمر المائدة المستديرة كان قائما على أساس أجراء حوار مع الخارجية البريطانية تمهيدا لإقالة الحكومة ومما يضاعف من هذا الاعتقاد أن علي ماهر لم يكن وزيرا للخارجية ولا رئيسا للديوان الملكي ومن هنا فإن تمثيله لمصر في هذا المؤتمر يعد مخالفة صريحة للدستور والقانون حيث كان من الأولي أن يمثل مصر رئيس الوزراء أو وزير الخارجية أو أى عضو في الحكومة على اعتبار أن أي اتفاق قد يحدث في المؤتمر ستترتب عليه التزامت سياسية هي من صميم عمل الحكومة .

ولقد روي محمد محمود أنه لما اجتمع علي ماهر باللورد هاليفاكس أرسلت الخارجية البريطانية محضر الحديث إلى لامبسون في القاهرة ومن بين الحديث تلميح من علي ماهر بأنه سيترأس الحكومة وأضاف محمد محمود باشا : أن السير لامبسون قد أطلعه على هذا المحضر .

ولعل السفير البريطاني كان يهدف من راء اطلاع محمد محمود على محضر الاجتماع السابق إلى عدم مسئولية بريطانيا عن إقالته التي تمت بإيعاز من القصر وعن طريق علي ماهر .

وفي حديث لعلي ماهر أشار إلى أن إقالة وزارة محمد محمود تمت بمعاونته ولقد بذل جهدا كبيرا لإقناع كبار الساسة بالاشتراك فيها وتمكنت الوزارة عن طريق كبار السياسيين والذين بلغ عددهم ستة عشر وزيرا من توجيه الإدارة نحو إجراء انتخابات برلمانية أسفرت عن حرمان الوفد من أية أغلبية .

ومن ثم سعي علي ماهر لكي يثبت لمحمد أن وزارته ليست سوي شكلا دستوريا زائفا لحكم القصر الحقيقي على الرغم من أن الحكومة كانت تعاني من العديد من المشاكل سواء بسبب عدم الوئام بين أعضاء الحكومة أو بسبب الحملات المكثفة والتي كان يشنها الوفد متهما الحكومة بأنها لا تمثل إلا نفسها إلا أن عدم رضاء علي ماهر هو صاحب المشورة والرأي النافذ في أمر الوزارة .

وحملت العديد من الصحف الموالية للقصر حملة عنيفة على الوزارة وشجع علي ماهر جماعة مصر الفتاة على الهجوم العنيف على الوزارة ووصفها بأنها حكومة تتصف بالخمول وعدم النشاط .

وأدرك محمد محمود حجم المؤامرة التي يدبرها علي ماهر بهدف إسقاط وزارته ولعله أراد أن يفوت الفرصة على القصر عن طريق أشراك السعديين في الوزارة حتى يدعم وزارته بعناصر لها ثقلها السياسي والوطني وتمكن علي ماهر من إقناع قطبي السعديين – أحمد ماهر والنقراشي – بالاشتراك في الوزارة وتم تشكيل الوزارة الجديدة في 24 يونيه 1938م .

ولقد رحب علي ماهر بهذا التعديل الوزاري الجديد على أساس أنه جزء جديد من مخططه وهو عدم تولي الحكم إلا بعد الفراغ من كل المرشحين لتولي الحكم وإعلان إفلاسهم وعجزهم عن ملأ الفراغ السياسي الذي تركه الوفد وأخذ علي ماهر يلاحق الوزارة الجديدة ويظهر عيوبها وفلها في تحقيق النمو الاقتصادي والسياسي معلنا بأن البلاد في حاجة إلى وثبة قوية وسريعة وأن هذه الوزارة عاجزة عن تحقيق ذلك وقد وجد من جماعة مصر الفتاة ما شجعه على المضي في خطته وتبنت صحيفة مصر الفتاة الدعوة إلى مقاطعة الحكومة والعمل على إسقاطها .

وأخذت الإشاعات تنتشر مع مرض رئيس الوزراء مرة بالقول بأنه في طريقه إلى الاستقالة ومرة أخري بأنه في طريقه إلا الإجازة بل أن بعض الإشاعات حددت علي ماهر باعتباره الخليفة المنتظر .

وقد ظل الصراع بين محمد محمود وبين علي ماهر بين مد وجزر في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء يصارع المرض حتى اضطر إلى تقديم استقالته ( 12 / 8/ 1939)

وقد اختلفت الآراء حول استقالة محمد محمود فالبعض يؤكد أن الاستقالة تمت برغبة ملكية حملها سعيد ذو الفقار إلى رئيس الوزراء والبعض الآخر يؤكد أن الاستقالة تمت برغبة محمد محمود الذي عزم على تقديمها بعد أن علم علي ماهر يتصل ببعض الزعماء ويطلب منهم الاشتراك معه في تشكيل الحكومة الجديدة .

أما محمد محمود نفسه فيؤكد في حديثه للسير لامبسون أن حالته الصحية كانت السبب في استقالته حيث لم يتمكن من الجلوس في آخر جلسة لمجلس الوزراء أكثر من بع ساعة وذلك مما يضاعف من حرجه أمام أعضاء الحكومة .

وبغض النظر عن أن الملك هو الذي طلب من رئيس الحكومة أن يقدم استقالته أو أن رئيس الحكومة نفسه هو الذي بادر بتقديم استقالته فمن المؤكد أن الاستقالة قد وجدت قبولا لدي الملك فاروق .

والسؤال الذي يستحق أن يجاب عليه : هل كانت بريطانيا تعلم بأن في نية إسناد رئاسة الحكومة إلى علي ماهر ؟

إن كل الدلائل تشير إلى هذا سواء منذ زيارة علي ماهر إلى لندن حضور مؤتمر المائدة المستديرة أو مراسلات السفير البريطاني إلى حكومته حيث يفهم من احدي برقيات السفير معرفة لندن بكل التفاصيل ووفق بعض البرقيات التي بعث بها السفير البريطاني إلى حكومته ما يؤكد هذا المعني حيث يقول :" لقد أسندت رئاسة الحكومة إلى علي ماهر كما كان يتوقع الجميع ولكن المهمة لم تكن سهلة فقد توقفت الإدارة الحكومية مدة أسبوع بينما تجاهل رئيس الوزراء الجديد حزب الوفد تجاهلا تاما وسمح للسعديين والأحرار الدستوريين بالتصارع على مراكز الوزارة وهم يدركون تماما أنهم إذا لم يقبلوا شرطه فقد يستغني عن تأييدهم .

وهذا ما ضاعف من اعتقادنا من أن إسناد الوزارة إلى علي ماهر كان متوقعا وأن الدوائر البريطانية كانت على بينة من أمر هذا التغيير .

ويلاحظ أن علي ماهر قد شكل وزارته من أصدقائه المقربين ومن الشخصيات المستقلة ولم يراع في اختيارهم أن لهم أنصارا في البرلمان أو أحزابا تناصرهم وجعل كل غايته أن تتشكل الحكومة من الذين يتفقون معه في الرأي والاتجاه وممن يؤمنون بعبقريته وكتابته وهذا ما يؤكد عدم إيمان علي ماهر بالحياة النيابية السليمة حيث كان يعتقد أن القصر هو المصدر الفعلي لكل السلطات وأن أى حاكم مصري يفتقد تدعيم القصر له فقد حكم على حكومته بالمضي في طريق وعر لا نهاية له .

وعلى الرغم من أن المجئ بعلي ماهر رئيسا للحكومة كان رهنا بموافقة السلطات البريطانية إلا أنه منذ اللحظة الأولي التي باشر فيها سلطاته كرئيس للحكومة عمل على ممارسة سلطاته بعيدا عن النفوذ البريطاني ولعل عدم أخذ رأي السلطات البريطانية في اختيار أعضاء الحكومة ما يؤيد هذا الاعتقاد مما سبب ضيقا شديدا لدي الدوائر البريطانية وعلى حد تعبير الوثائق الأمريكية :" على الرغم من محاولات رئيس الوزراء الاستقلال عن بريطانيا العظمي فلن يمضي وقت طويل حتى تعمق العلاقات وتجاب رغبات بريطانيا في أكثر المسائل أهمية وفي سبتمبر سنة 1939 أعلنت الحرب العالمية الثانية وأخذ الخوف يتملك المصريين سنة 1939 أعلنت الحرب العالمية الثانية وأخذ الخوف يتملك المصريين لما يدركونه من عجز الجيش عن الدفاع عن البلاد وكذا عدم كفاية القوات البريطانية في مصر للقيام بهذه المهمة لذلك نلاحظ أن إلحاح المسئولين المصريين أخذ يزداد طلبا لزيادة القوات البريطانية في مصر – أى على العكس تماما مما قد يتبادر إلى الذهن- ولعل هذا التغيير في نظر المسئولين المصريين إلى القوات البريطانية في مصر يعد أبرز ما حمله التهديد الغاشي بقيام الحرب العالمية الثانية وبدت العيون البريطانية في مصر ساهرة ترقب تطور الأحداث وتسجل كل نبضة من نبضات الشارع المصري في حذر واهتمام شديدين .

وأدركت السياسة البريطانية أهمية حاجة مصر إلى الدفاع عن نفسها ولذا فقد بادرت الحكومة البريطانية بالإعلان عن إمداد مصر بالقوات البرية والبحرية والجوية اللازمة لضمان سلامة البلاد وتشير الوثائق الأمريكية أيضا إلى أن رئيس الوزراء المصري قد اضطر أمام تلك التطورات الخطيرة إلى أن يقطع على نفسه عهدا بأن مصر سوف تقوم بكل دقة بالوفاء بالتزاماتها تجاه الحليفة .

وهكذا بدت معاهدة 1936 محك اختبار عملي أمام السلطات البريطانية وأدركت السلطات المصرية حجم المسئولية الكبيرة التي فرضتها معاهدة 1936 واجتمع البرلمان المصري في جلسة سرية – 12 يونيه 1939م – حيث أفضي رئيس لحكومة ببيان عن سياسة حكومته وخلاصته تجنيب مصر ويلات الحرب مع التزامها بما ورد في نصوص معاهدة 1936 وكان دخول ايطاليا الحرب بجانب ألمانيا من أهم العوامل التي أقنعت السلطات البريطانية بأن وزارة علي ماهر ليست هي الوزارة المطلوبة وقد يكون هذا راجعا إلى العلاقات الوطيدة التي تربط القصر بالجالية الايطالية وبالتالي فإن ولاء علي ماهر للقصر ليس موضع شك ولذا نسبت السلطات البريطانية إلى القصر وإلى علي ماهر ما يؤكد بأن لهما ميولا محورية نحو ايطاليا .

وفي محاولة من علي ماهر لتبديد مخاطر تلك الاتهامات فقد بعث بعدة رسائل إلى حسن نشأت السفير المصري في لندن لإبلاغها إلى الحكومة البريطانية يبرز فيها موقفه مؤكدا على أن السفير البريطاني في القاهرة لا يراعي المصالح المصرية وأنه يتخذ منه موقفا شخصيا يتعارض تمام مع العلاقات الوطيدة التي تربط مصر بالحليفة .

إلا أن محاولة علي ماهر واتصاله بالحكومة البريطانية لم تثمر الثمرة المرجوة ولم تلبث الحكومة المصرية قد خالفت المادة الخامسة من معاهدة 1936 وأن بقاء فاروق ملكا على مصر مرهون بتنفيذ كل المطالب البريطانية التي تتفق مع روح المعاهدة .

وأدرك الملك فاروق ومن ورائه الحكومة المصرية ثقل التبعة التي ألقتها معاهدة 1936على كاهل الشعب المصري ومن هنا فقد دخلت العلاقات المصرية البريطانية دورا جديدا وخطيرا يتنافي تماما مع بنود المعاهدة وهذا مما يضاعف من اعتقادنا بأن معاهدة 1936 لم تكن إلا لعبة سياسية قصد من ورائها ما هو أبعد خطرا من نصوص المعاهدة ذاتها .

الفصل الأول : جذور حادث 4 فبراير 1942

سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب

لقد شبت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر سنة 1939 على أثر اجتياح الجيش الألماني حدود بولندا في أول سبتمبر من تلك السنة وفي 3 سبتمبر أعلنت انجلترا وفرنسا الحرب على ألمانيا بعد أن رفضت سحب قواتها من الأراضي البولندية وفي مساء أول سبتمبر الذي شهد الهجوم النازي على بولندا قابل السفير البريطاني ( سير لامبسون ) رئيس الوزراء المصري ( علي ماهر باشا ) وطلب إليه اتخاذ الخطوات لتطبيق المادة السابعة من معاهدة 1936 .

وفي الحال قطعت مصر علاقتها الدبلوماسية مع ألمانيا واتخذت كل الإجراءات التي نصت عليها معاهدة التحالف حيث أعلنت حالة الطوارئ وفرضت الرقابة على جميع دور النشر وأيضا فرضت مجموعة من القيود العسكرية والاقتصادية وتم تعيين علي ماهر حاكما عسكريا وقسمت البلاد إلى أربع مناطق عسكرية ووضعت جميع المواني والمطارات تحت تصرف بريطانيا وتم القبض على الرعايا الألمان كما تم الاستيلاء على أملاكهم .

ومن أجل أحكام السيطرة على كل المرافق المصري فقد أغلقت قناة السويس في وجه السفن المعادية ولم يلبث المرور أن أصبح قاصرا فيها على سفن الحلفاء مما ترتب عليه أن السفن المحايدة لم يسمح لها أحيانا بالمرور .

وعلى الرغم من كل تلك الإجراءات فإن السفير البريطاني طالب مصر بضرورة إعلان الحرب ضد ألمانيا على اعتبار أن فكرة الموقف الوسط بين الحرب والحياد ليست إلا فكرة وهمية وأن موقف الحياد يخلق صعوبات في مواجهة أعمال التخريب والجاسوسية ثم أشار إلى أهمية مصر ودورها الرائد في العالم العربي ولابد من إعلانها الحرب حتى تكون قدوة لغيرها من الدول العربية وخصوصا العراق .

ووجدت الحكومة المصرية نفسها في موقف شديد الخطورة وهل تعلن قيام حالة الحرب بين مصر وألمانيا وفقا لرغبة بريطانيا أن تتمسك بالحيادة ؟ لقد أثار هذا الموقف العديد من المخاوف التي قدرتها الحكومة المصرية على اعتبار أن ألمانيا لا تقهر وأن تنفيذ رغبة بريطانيا بإعلان الحرب خطير النتائج وخصوصا إذا ما اشتركت ايطاليا في الحرب بجانب ألمانيا لهذا الاعتبار ولعدة اعتبارات أخري ظل علي ماهر متمسكا بموقفه محاولا قدر طاقته أن يقنع السفير البريطاني بأن مصر ليست ضد مبدأ دخول الحرب وإنما توقيت إعلان الحرب هو مصدر الخلاف في مجلس الوزراء مسايرة للرأي العام إلى أن يعود الرعايا المصريون الذين كانوا في ألمانيا وقت قيام الحرب وإلى أن يتم التجاء السفن التجارية المصرية التي كانت في عرض البحر إلى مراسي آمنة وكذلك أشار رئيس الوزراء إلى ضرورة نقل لواء من قوات فلسطين إلى مصر كما طالب بتزويد الجيش المصري بالمدافع الحديثة وتسليح الجيش المرابط بالبنادق.

وعلى الرغم مما أبداه علي ماهر من استعداد لإجابة كل طلبات بريطانيا ما عدا فكرة دخول الحرب والتي طلب مزيدا من التريث في شأنها إلا أن الحكومة البريطانية تكونت لديها قناعة بأن علي ماهر ذو ميول محورية وأنه متآمر مراوغ لا يمكن الوثوق به ولعل السفير البريطاني قد بني اعتقاده هذا على ضوء العلاقة الوطيدة التي تربط علي ماهر بالسفير الايطالي في القاهرة مما دفع لامبسون إلى الاعتقاد بوجود تفاهم أو اتفاق سري بين مصر وايطاليا .

ووفقا لبنود معاهدة 1936 فلم يكن هناك ما يلزم مصر بدخول الحرب إلى جانب بريطانيا التي اعتبرت أن إعلان الحرب من جانب مصر يتطابق تماما وروح المعاهدة وعلى الرغم من تمسك الحكومة المصرية بمبدأ عدم إعلان الحرب – إلا أن موارد مصر وموانيها مطاراتها وكل مرافق الحياة فيها قد وضعت تحت تصرف انجلترا دون أن تكون رسميا في حالة حرب ضد ألمانيا وهكذا ظل وضع مصر الدولي شاذا إذ أن الفرق العملي الوحيد بين وضع مصر وحالة الحرب هو أن القوات المسلحة المصرية لم تكن ملزمة بالاشتراك في الحرب ولم تعط لها الأوامر بضرب الأهداف الألمانية .

ووجد علي ماهر نفسه في حالة مواجهة مباشرة مع السفير البريطاني الذي أخذ يلاحق علي ماهر في كل مكان وحاول الأخير – قتلا للوقت أن يطرح أفكارا جديدة إلا أن السفير كان يتعجل القرار ويضغط على رئيس الوزراء المصري بضرورة استصدار قرار الحرب وأمام هذا الضغط المتواصل لمتزايد وافق مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بالإسكندرية مساء 7 سبتمبر 1939 على إعلان حالة الحرب ضد ألمانيا وإنما علق على موافقته على خطاب يبعث به السفير البريطاني إلى ماهر باشا يقول فيه : أن إجراءات إعلان الأحكام العرفية في مصر وقطع العلاقات مع ألمانيا لم تعد كافية لمواجهة التدابير اللازمة للمحافظة على أمن البلاد وسلامة القوات البريطانية وأن المطلوب هو إعلان قيام حالة الحرب .

وأدرك السفير البريطاني أبعاد الدبلوماسية التي يمارسها علي ماهر فهو يريد أن يقول : " أن مصر قد غلبت على أمرها لإعلان الحرب وعلى الرغم من ذلك فقد وافقت الحكومة البريطانية على توجيه الخطاب المشار إليه . إلا أن علي ماهر قدر حجم المخاطر التي ستحلق بمصر من جراء هذا الاتجاه ولشد ما كانت المفاجأة حيث تلقي علي ماهر برقية من سفير مصر في لندن ( 7 سبتمبر ) بأنه قابل مستر بتلر ( وكيل وزارة الخارجية البريطانية ) وأوضح له المزايا التي سوف تترتب على موقف مصر الحيادي غذ أن ذلك من شأنه أن يسهل ورود السلاح والعتاد من أمريكا إلى الحلفاء عن طريق مصر , وقد عبر حسن نشأت عن ذلك بقوله : أن مستر بتلر أبدي ارتياحه لتلك الفكرة ووصفها بأنها خطة ذكية وماهرة ووعد بعرضها على لورد " هاليفاكس" وزير الخارجية .

وقد شعر السفير البريطاني بالمرارة لفشله أمام حكومته في تنفيذ ما سبق أن وعد به علي ماهر كتابة ومشافهة " دخول الحرب "

ومن الواضح أن برقية حسن نشأت ( سفير مصر في لندن ) إلى علي ماهر قد أخرجته من الموقف الذي كاد أن ينزلق إليه حيث أخذ يتذرع بأن مصلحة بريطانيا في عدم إعلان مصر الحرب وأن أعضاء مجلس الوزراء المصري قد غيروا موقفهم على ضوء رسالة حسن نشأت وأن الملك فاروق قد اقتنع بفكرة التريث حتى تتبين الحقيقة .

ولعل برقية حسن نشأت قد أعطت الفرصة للملك فاروق وعلي ماهر لكي يعيدا مناقشة الأمر بشئ من الهدوء والتروي ولا شك أن الملك فاروق كان يميل إلى عدم دخول مصر الحرب ولذا فقد طلب من عبد الحميد بدوي باشا – رئيس لجنة قضايا الحكومة – إعداد مذكرة قانونية عن موقف مصر من الصراع الدائر وفقا لمعاهدة 1936 وجاءت مذكرة – رئيس لجنة قضايا الحكومة – لتتفق تماما مع الرأي القائل بأن المعاهدة لا تلزم مصر بدخول الحرب .

والسؤال الذي يمكن أن يطرح نفسه في هذا لمجال : هل كان علي ماهر هو صاحب فكرة أبعاد مصر عن ميدان الحرب وهي السياسة التي عرفت " بتجنيب مصر ويلات الحرب " ؟

ومن الملاحظ أن غالبية الذين سجلوا هذه الأحداث قد تغافلوا عن دور الملك فاروق في هذا الصدد مع العلم بان علي ماهر لم يكن يستطيع أن يصمد أمام ملاحقة السفير البريطاني له لولا أن الملك فاروق كان يناصر هذه الفكرة ويدعمها من خلال تأكيداته المتسمرة لرئيس وزرائه علي ماهر ويؤكد أحد المؤرخين أن الملك فاروق قد أخبر " فيش " المفوض العام للولايات المتحدة الأمريكية في القاهرة بأن علي ماهر كان قد وعد انجلترا في مناسبات ثلاثة بإعلان الحرب على ألمانيا ولكنه " فاروق " منعه من القيام بذلك .

وتشير بعض المصادر قريبة الصلة من القصر الملكي إلى أن الملك فاروق كان صاحب فكرة تجنيب مصر ويلات الحرب إلا أن دور الملك لم يكن واضحا نظرا لأن الاتصالات كانت تتم بين رئيس الوزراء المصري والسفير البريطاني في القاهرة ومما يؤكد وجهة النظر السابقة أنه في اليوم التالي لإعلان الحرب دعا علي ماهر مجلس الوزراء للاجتماع وقال لزملائه الوزراء أنه دعاهم لاتفاق حول صيغة قرار إعلان الحرب ضد ألمانيا ؟... إلا أن عبد الرحمن عزام " وزير الأوقاف " اعترض على هذا القرار وأخذ يفند الرأي القائل بان معاهدة 1936 تلزم مصر إعلان الحرب وبعد مناقشة طويلة طلب عبد الرحمن عزام من علي ماهر أن يترك له هذه المسألة ليسويها مع السفير البريطاني ووافق علي ماهر وذهب عبد الرحمن عزام وقابل مايلز لامبسون وناقشه طويلا في نصوص المعاهدة واستطاع أن يقنعه بأن مصلحة بريطانيا نفسها عدم إعلان مصر الحرب على ألمانيا وهكذا سويت المسألة .

وعلى الرغم من التناقض الذي بدا واضحا في موقف علي ماهر بخصوص تلك القضية الهامة إلا أنني أعتقد أن علي ماهر لم يكن ينوي الزج بمصر في الحرب ولم يكن صادقا في وعوده التي قطعها للسفير لبريطاني ولعل مرد ذلك إلى أن علي ماهر كان صاحب فكرة التعاون مع ألمانيا وكان الملك فاروق وراء هذا الاتجاه .

وكان علي ماهر يحرص على عدم إظهار مشاعره الحقيقية وهي كراهية الانجليز مفضلا الألمان الذين يحققون انتصارات أسطورية على بريطانيا العدو الأول لمصر.

وأمام الانتصارات الكبيرة التي حققتها القوات الألمانية في بداية الحرب فإن الحكومة البريطانية طلبت من سفيرها في القاهرة أن يوقف الضغط على الحكومة المصرية حتى لا تحدث أثرا عكسيا ..

لقد أعتقد الدوائر السياسية البريطانية بأن المشكلة الحقيقية لم تعد وفاء مصر بالتزاماتها قبل بريطانيا بقدر ما تمكن في الثقة التي تبددت منذ اللحظة الأولي لقيام الحرب الكبرى وأن ولاء علي ماهر لبريطانيا لم يعد مثل رصيدا ايجابيا في العلاقات المصرية البريطانية وعلى ضوء ل هذه الاعتبارات كان على الحكومة البريطانية أن تعيد حساباتها من جديد وفقا لمصالحها في المرتبة الأولي .

وأعتقد أننا لسنا بصدد إصدار حكم على مشاعر علي ماهر الشخصية وإنما يكفينا أن نشرح الأسباب الكامنة وراء السياسة التي اعتقد علي ماهر أن عليه أن يتبناها لصالح مصر :

أولا : لم يكن لدي رئيس الوزراء المصري أى سبب يغريه بالانضمام إلى صف الحلفاء حيث تهاوت فرنسا واضطرت إلى عقد اتفاقية هدنة بعد اجتياح اكثر من نصف أراضيها وبعد انهيار الجيوش الفرنسية التي كانت تحتفظ بمكانة قوية منذ الحرب العالمية الأولى وظهرت ألمانيا بمظهر الدولة التي يستحيل أن تقهر .

ثانيا : لقد استطاعت الدبلوماسية الايطالية أن تقنع علي ماهر بأن يظل بعيدا عن الصراع ولم يكن الكونت ما تسوليني سفير ايطاليا في القاهرة يكف عن التصريح حتى يوليو سنة 1940 بأن بلاده لا تضمر أية نوايا عدوانية تجاه مصر وتمكنت الدبلوماسية الايطالية أن تكسب غلى جانبها ليس علي ماهر فقط وإنما الملك فاروق أيضا في الوقت الذي أعلنت فيه ايطاليا رسميا أنها تنوي أن تجر إلى صراع البلدان المجاورة مثل اليونان وتركيا ومصر .

ثالثا : لم يكن علي ماهر يستند إلى قاعدة حزبية أو جماهيرية وإنما كان دعامته الأولي هو الملك فاروق في الوقت الذي رمي فيه الملك بكل ثقله في جانب المحور اعتقدا بأن الاعتماد على الحلفاء هو من باب الرهان على جواد خاسر .

رابعا : لقد كانت الغالبية العظمي من الشعب المصري تميل إلى سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب لقد أدركت الحكومة البريطانية صدق هذه الحقيقة ولم تشأ أن تصدم مشاعر المصريين بفرض الحرب على شعب لا يميل إليها .

ولقد أدركت الحكومة البريطانية وفقا لمصادرها في القاهرة أن الملك فاروق وراء كل هذه المشاعر المعادية البريطانية ولعل الملك فاروق في محاولة منه لتقليل من هيبة بريطانيا كان لا يتذرع عن إظهار كراهيته لبريطانيا واعتزازه بألمانيا وقوتها حتى في أحاديثه مع سيفر الولايات المتحدة في القاهرة فقد عبر عن أمله في هزيمة بريطانيا واتهم الدول التي تقف إلى جانبها بأنها تفتقد الحنكة السياسية لأن الحرب أوشكت على النهاية .

وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية قد اقتنعت بأهمية عدم إعلان مصر دخول الحرب إلا أن لامبسون في محاولة منه لكشف جذور الاتجاه الموالي للمحور عاد يقترح من جديد إقالة علي ماهر إذا لم يعلن الحرب ضد ألمانيا .

ومن الواضح أن مطلب السفير هذه المرة يعد نوعا من المناورة حتى يتأكد من ميول علي ماهر يضاف إلى ذلك الخوف من إحراز ألمانيا بعض الانتصارات في المستقبل مما قد يؤدي إلى تردد مصر في الموافقة على أية إجراءات قد تقدم عليها بريطانيا أى أن بريطانيا إصرارها كانت تريد أن تقطع الطريق على ذلك وتضمن استمرار مصر إلى جانبها وارتباطها نهائيا بمعسكر الخلفاء وعلى حد تعبير لامبسون أما أن نطفو معا أو نغرق معا .

وعلى ضوء العديد من البرقيات التي بعث بها لامبسون إلى حكومته والتي أكدت جميعها أن الملك فاروق شخص لا يؤمن جانبه ومن هنا فقد بدأت السياسة البريطانية تعيد حساباتها من جديد وخصوصا فيما يتعلق بموقف علي ماهر والذي يسانده القصر وحملت رسائل لامبسون إلى هاليفاكس " وزير الخارجية" قدرا كبيرا من القلق بسبب تصرفات أعوان القصر – على حد تعبير السفير – ويضيف السفير قائلا : يجب علينا أن نضع في اعتبارنا أننا لا نستطيع أن نتخلص من علي ماهر دون أن نشهر عصانا في وجه الملك فاروق لأن ما انتابه من جنون العظمة بالإضافة إلى نفوذ علي ماهر قد جعله شخصا مكابر يصعب التعامل معه وحين نعتزم اتخاذ إجراء سيكون من الضروري أن نستعمل قدرا كبيرا من العنف وإذا قاومنا بعناد فعليه أن يذهب هو أيضا ولكن يجب علينا في هذه الحالة أن نضع في اعتبارنا اتجاه الرأي العام المصري وموقف الجيش هذا الموقف لا نقدم عليه في الظروف الحاضرة إلا إذا كنا على استعداد لتنفيذه بالقوة وهو أمر يصعب تنفيذه في الوقت الحالي والخلاصة في رأيي هو أن نرخي لعلي ماهر الحبل حتى يقضي على نفسه وستأتي اللحظة المناسبة لنا حين يزداد الشعور المعادي له إلى الحد الذي يجعل تدخلنا يبدو الشعب أمرا مطلوبا .

وفي أول يونيه 1940 تمت مقابلة بين الملك والسفير البريطاني وقد أومأ السفير إلى الدعاية الايطالية المتزايدة حول حياد مصر فوعده الملك بأنه سيتعهد المسألة بمزيد من الاهتمام بل أنه أبلغ السفير أنه ( الملك) أمر بوضع أحد أعمام الملكة فريدة تحت الحراسة نظرا لتشيعه للإيطاليين ولميوله المحورية .

وعقب إعلان ايطاليا الحرب ( 10 يونيه 1940) قابل السفير علي ماهر وأبلغه تطورات الموقف العسكري والغارات الجوية على ليبيا ومصر وراح يذكره بوعوده السابقة عندما قال : أنه إذا حدث هجوم على مصر من أى نوع فإن لانجلترا أن تعتمد على أننا سنعلن الحرب ضد الحور وهنا أجاب علي ماهر : أنه تلقي في الآونة الأخيرة أسئلة كثيرة ممن يرون أن مصر وهي لا تملك على حدودها أكثر من خمسة آلاف جندي كسف لها أن تلقي بنفسها إلى التهلكة بإعلان الحرب ؟... الأمر الذي أغضب السفير واعتبره تجاهلا للقوات البريطانية في مصر وتقديرا خاطئا لعدد الجيش المصري الذي تعلق عليه حكومة لندن أهمية كبري أملا في معاونته لها .

وأخذت العلاقات المصرية البريطانية تدخل إلى مرحلة حاسمة حيث أخذ علي ماهر برفض توجيها الانجليز وخصوصا في بعض المسائل التي تتعلق بأمن بريطانيا من ذلك رفضه أن يكون الحاكم العسكري لمناطق الحدود انجلترا كما قرر سحب القوات المصرية بضعة كيلوا مترات من الحدود الغربية تفاديا من وقوع اصطدام مباشر مع جنود المحور .

لكل ما سبق ومع تتطور أحداث الحرب في غير صالح الحلفاء اعتقد الانجليز أن علي ماهر ليس هو الشخص القادر على الاحتفاظ بمصر قاعدة صلبة تدعم من جبهة الحلفاء وكان إعلان ايطاليا الحرب بجانب ألمانيا هو الصخرة التي تحطم عليها كل أمل في تعاون الانجليز مع جبهة القصر على الرغم من استجابة علي ماهر لطبلات السفير حيث أمر باعتقال الايطاليين وشرع في ترحيل وزير ايطاليا المفوض وأعضاء المفوضية والقنصليات الايطالية إلا أن ما أقدم عليه علي ماهر بشان الرعايا الايطاليين لم يخل من الضجر والضيق وكأنه تنفيذ لأمر أرغم عليه وعلى حد تعبير أحد المعاصرين : أن ما أقدمت عليه حكومة علي ماهر بشأن الرعايا الايطاليين قد بدأ وكأنه إجراء بريطاني تنفذه حكومة لا تملك الخيار.

وأمام المناورات التي استخدمها علي ماهر ببراعة شديدة لم تملك حكومة لندن إلا أن تقترح وجوب اتخاذ إجراء سريع ضد علي ماهر وتري أنه من الأهمية البحث عن وزارة جديدة تكون أكثر تمثيلا للقوي السياسية المختلفة ويكون على رأسها سياسي يقف إلى جانب بريطانيا بولاء ويجب أن يكون الجيش البريطاني يقظا لمواجهة معارضة الملك فاروق وذلك بتخيره بين الموافقة أو التنازل عن العرش وقد اقترح لامبسون الأمير محمد على ليخلف فاروق فهو موال لبريطانيا ويحظي بقدر لا بأس به من الشعبية ويمكن الاعتماد عليه بدرجة أكثر من غيره .

وعندما تأكد لامبسون أن علي ماهر لن يقبل موضوع دخول مصر الحرب في الوقت الذي كانت ظروف الحرب تشكل ضغطا كبيرا على بريطانيا خصوصا بعد سقوط فرنسا ودخول الحرب بجانب ألمانيا بدأ لامبسون يتذرع بالعديد من المواقف التي تمكنه من تحقيق كل رغباته وفي مقدمتها الإطاحة بعلي ماهر وقد أعلن علي ماهر في شهادته أثناء نظر قضية مقتل أمين عثمان أن السفير البريطاني قد طلب منه أن يعتقل الوزير الايطالي في المفوضية وأن يقوم بتفتيشها كما طالبه أن يفتش أمتعة الدبلوماسيين الايطاليين وجيوبهم وقت السفر وألا يسمح لطلياني بالسفر إلا للسفير وموظفي المفوضية ويضيف علي ماهر : لقد كان ردي : إذا اعتقلتم أنتم انجلترا الكونت جراندي سفير ايطاليا أعمل المثل أنا في مصر , وأما التفتيش فاتني أرفضه . ... وقلت : وإذا أردتم فتشوا ومن ناحيتي فلن أحتج وقلت لهم أيضا: أن هذا التفتيش في الواقع لن يكون لأن الكونت جراندي موضع التكريم في بلادكم فلن أعاملهم أنا إلا بقواعد العرف الدولي والذين يسافرون معه لن احجزهم إلا إذا تبينت موقف المصريين في روما وما يتخذ بشأنهم .

وأعتقد أن هذا الموقف من على ما هو ينم عن دهاء سياسيا فهو يريد أن تقدم بريطانيا لاتخاذ ما تراه بشأن الايطاليين المقيمين في مصر حتى يبدو أمام الطليان وكأنه مغلوب على أمره ومن جانب آخر فهو يضمن سلامة الرعايا المصريين المقيمين في ايطاليا .

وأمام الضغط المتزايد على علي ماهر فقد أشار عليه الملك فاروق بنقل القضية – دخول مصر الحرب – إلى البرلان ليتخذ بشأنها ما يشاء – ويعد قرار البرلمان صدمة أخري للسفير حيث أقر البرلمان وجهة نظر الحكومة بأن المعاهدة لا تلزم مصر بدخول الحرب وأنها ستكتفي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع ايطاليا ولن تعلن عليها الحرب إلا إذا اعتدت عليها بإحدى الطرق الآتية :

أولا : إذا ابتدأت القوات الايطالية بغزو الأراضي المصرية.

ثانيا : إذا ضربت ايطاليا المدن المصرية بالقنابل.

ثالثا : إذا شنت غارات جوية على مواقع الجيش المصري . وفي يوم 13 يونيه 1490 بدأ السفير البريطاني يتبع سياسة جديدة تتفق مع توجيهات الخارحية البريطانية وتحقق نفس الغرض وهو ضرورة الحصول على تعاون علي ماهر وعدم التنازل عن أى شئ أكثر من نصوص المعاهدة مما جعل لامبسون يقول عنه أن علي ماهر يتبع سياسة ذات وجهين بين بريطانيا وايطاليا وأنه يعمل على تسهيل الأمور للإيطاليين وأنه يتلاعب بطريقة مقلقة فيما يختص بالجيش المصري .

وأمام تدهور الحلفاء وخصوصا بعد سقوط باريس وتولية بيتان السلطة وطلبه الهدنة أصبح تسليم بريطانيا في نظر الكثيرين مسألة وقت ولعل هذا كان من أهم العوامل التي جعلت السلطات البريطانية في مصر تعتقد بأن علي ماهر شخص لا يمكن الاعتماد عليه بل أن السلطات البريطانية بدأت تفقد أعصابها تماما وتطلب ن الخارجية البريطانية صراحة إقالة علي ماهر بل أن السلطات البريطانية اعتقدت بأن علي ماهر على علاقة بالمحور وأن هناك اتصالات لاسلكية سرية كانت ترسل إلى وكلاء المحور وسلطاته البريطانية كل الحرص على كتمانه – كما أن هذه المحطات السرية كانت تتلقي من وكلاء المحور وسلطانه الحربية التعليمات عما يجب عمله .

وبدأت السلطات البريطانية تتلقي العديد من التقارير في الفترة من يونيه 1940 وحتى أواخر عام 1941 من أقلام مخابراته في القاهرة وتركيا ولبنان وقد جاء فيها :

1- أن سمير ذو الفقار التشريفاتي السابق – واحد أصدقاء علي ماهر – قد سافر أكثر من مرة إلى تركيا بحجة التجارة في الجلود والتبغ وأنه اجتمع بسفير ألمانيا في أنقرة عدة مرات وأنه قابل أيضا بعض وكلاء الألمان في لبنان وأنه لما عاد واجتمع بعلي ماهر وبعض كبار السياسة المواليين للقصر .

2- أن شوقي الهان , وزير تركيا المفوض في مصر قد سافر أكثر من مرة إلى تركيا بحجة مراجعة حكومته في بعض الشئون بينهما هو في الحقيقة قد سافر موفدا " من سلطات مصرية عليا " للاتصال بالسلطات الألمانية في تركيا وإبلاغها أخبارا خاصة لكي تبلغها هي بدورها غلى السلطات العليا في برلين .. كانت تركيا يومئذ أى في عام 1941 على الحياد ولكنه كان حيادا مشوبا بالميل لألمانيا وتأييد المحور .

3- أن الآنسة " دولوس" الملحقة السياسية بمفوضية أسبانيا في القاهرة كانت واسطة اتصال بين فريق الكبراء المصريين الموالين للمحور وبين سفارة ألمانيا في مدريد .

وكان على بريطانيا أن تقطع الشك باليقين أن تبلغ سفيرها في القاهرة لكي يتصل بالملك فاروق ويبلغه الرسالة التالية ؟ علي ماهر يجب أن يخرج من الحكم فورا كما أننا لا نوافق على عودته إلى منصة في القصر لأن التجارب أظهرت أن جوده في ذلك المنصب يجعل فاروق أن يحمي رئيس وزرائه واستسلم للإنذار البريطاني لكن بعد العديد من المحاولات التي بذلها القصر في محاولة منه للإبقاء على علي ماهر .

واستمرارا في سياسة كسب الوقت فإن الملك فاروق قد بعث في الثامن عشر من يونيه 1940 برسالة إلى ملك انجلترا يشكو فيها أسلوب التعسف والتشدد الذي يمارسه السفير البريطاني وفي نفس الوقت أوفد الملك أحمد حسنين ليقابل السفير ويخبره بأمر تلك الرسالة ويوضح له بأن التعديل الوزاري يتوقف على إجابة ملك انجلترا على تلك الرسالة ولعل مقابلة حسنين باشا للسفير كانت معني الوساطة كي يسمح لعلي ماهر بالعودة إلى منصبه السابق كرئيس للديوان الملكي مراعاة لكرامة الملك فاروق بعد أن بات من المستحيل الاحتفاظ به رئيسا للوزارة ولكن السفير رفض ذلك رفضا باتا وأكد في الوقت نفسه أن ليس في نية حكومة لندن التصميم على مطالبة أى حكومة مصرية بإعلان الحرب ولم تكن رسالة الملك فاروق إلى ملك انجلترا لتحدث أثرا في موقف الحكومة البريطانية فهي المسئولة عن القرار الذي اتخذته وهي السلطة التنفيذية أمام البرلمان وكل مشتغل بالقوانين الدستورية يعلم أن الملك في انجلترا يملك ولا يحكم ولم يأت يوم 22 يونيه حتى كان السفير البريطاني قد تقلي موافقة حكومته على تنازل الملك فاروق عن العرش إذا تمسك برئيس وزرائه على أن لا يترك طليقا وإنما يوضع تحت الرقابة الانجليزية حتى لا يلجأ إلى ايطاليا أو ألمانيا ليطالب بعرشه ولعل بريطانيا تبريرا منها لما سوف تقدم عليه من إجراءات عنيفة فقد اتخذت المادة الخامسة من المعاهدة كذريعة على اعتبار أن تلك المادة تقضي بتعهد مصر أن لا تتخذ في علاقاته مع الدول الأجنبية موقفا يتعارض مع المعاهدة .

وأخذ الملك فاروق يفكر في من عسي سكون الرجل الذي يعهد إليه بتأليف الوزارة وكان طبيعيا أن يكون هذا الرجل موضع ثقة السفير البريطاني ومن الأفضل أن تكون وزارة وفدية أو تحظي بتأييد الوفد على الأقل حيث تكون قادرة على التعاون مع بريطانيا إلى حد أن تقبل أن " تطفو معنا أو تغرق معنا " كما قال لامبسون .

واستقر الرأي أخير على حسن صبري باشا لكي يؤلف الوزارة الجديدة ( 28 يونيه 1940) وشهدت قاعات مجلس النواب والشيوخ العديد من الأسئلة عن الظروف والملابسات التي أحاطت بإقالة الوزارة وحمل الأعضاء على بريطانيا لتدخلها في مسائل تعد من صميم السياسة المصرية وأصدر المجلس بيانا يستنكر فيه ما حدث من اعتداء على رئيس الوزراء .

والسؤال الذي يظل قائما : هل كانت هناك علاقة بين المحور وعلي ماهر دفعت بريطانيا إلى هذا الموقف ؟

من المقطوع به أن الخلاف بين انجلترا وعلي ماهر كان السبب في استقالته وهو خلاف قائم على التشكك وفقدان الثقة من الجانب البريطاني في علي ماهر اعتقاد بأنه على علاقة بالمحور وهذا واضح من خلال وثائق وزارة الخارجية البريطانية ووفقا لما ذكره الدكتور هيكل فإن بريطانيا وجهت إلى الملك فاروق تبليغا بأن حكومته لا تقف منها موقف الصديق وأنها في ريب من نواياها .

ولقد أكدت السلطات البريطانية أنها اكتشفت من بين الوثائق الألمانية التي عثر عليها أن علي ماهر كان يتلقي مساعدات من المحور عن طريق بنك درسدنر , وعلى الرغم مما تشير إليه الوثائق البريطانية من أن علي ماهر يعمل لحساب الألمان إلا أن مثل هذه الاتهامات لا يمكن أن نقبلها على أنها حقيقة مجردة وخصوصا إذا ما تضاربت المصادر البريطانية في هذا الصدد فإن اللورد ويلسون القائد العسكري لمنطقة البحر المتوسط يقول تعقيبا على هذا : أنه لما يدعو إلى الدهشة أن المعلومات التي وصلت إلى المحور من مصر كانت ضئيلة القيمة ولا أعرف حالة واحدة تضمنت معلومات عن تحركاتنا أو عملياتنا العسكرية تسربت إلى العدو في الوقت المناسب الذي يتيح له استخدام تلك المعلومات لمواجهتنا وهذا يعد دليلا لا على وجود علاقة من نوع ما بين وزارة علي ماهر والمحور بالضرورة لكنه ينهض دليلا على مبالغة الحلفاء وقت الحرب ومؤشرا على أن علي ماهر لم يعد موضع ثقة الحلفاء وقد تعمق هذا الانطباع لدي السفير البريطاني نتيجة تعامله مع علي ماهر ولم تعد قضية وفاء مصر بالتزاماتها تجاه المعاهدة هي الأساس وإنما أصبحت الثقة في ولاء علي ماهر للحليفة ومدي استجابته للمطالب البريطانية بعيدا عن نصوص المعاهدة ولما كنت تلك الثقة قد أصبحت معدومة ولذا فإنني أعتقد أن علي ماهر لم يكن جاسوسا ألمانيا بقدر ما كان سياسيا مصريا حاول أن يستغل لعبة الأمم وصراعاتها في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلال وكما أوضحنا من قبل فلم يكن هناك أى سبب يشجع علي ماهر لكي يلقي بكل ثقله تجاه بريطانيا التي كانت على وشك التسليم .

وتشير الكثير من المصادر الهامة عن وجود اتصالات بين فاروق والمحور حيث كشفت الوثائق الألمانية عن جوانب متعددة من تلك الاتصالات حيث يشير المؤرخ " لوكازهيرزوير " إلى تلك الاتصالات من خلال الوثائق الألمانية والتي اعتمد عليها حيث أن القائم بالأعمال المصري في بون – عسل بك – والبرنس محمد إبراهيم, والقنصل المصري العلم في استنبول (حافظ عمرو ) والسفير المصري في طهران – يوسف ذو الفقار – صهر الملك فاروق وآخرين اتصلوا بالبيئات الدبلوماسية الألمانية سواء بطريق مباشر أو غير مباشر وكانت أهم تلك الاتصالات المحادثات التي أجراها ذو الفقار باشا الذي اتصل في طهران باسم الملك فاروق شخصيا وبتعليمات خاصة منه وعبر عن عطف فاروق على هتلر واحترامه له ولألمانيا وعن أطيب تمنياته بالانتصار على بريطانيا وان الملك فاروق وشعبه يودان مشاهدة قوات التحرير الألمانية في مصر في أسرع وقت ممكن وأن المصريين واثقون من أن الألمان قد أتوا كمحررين لا كطغاة جدد .

ولا شك أن تلك الميول المحورية من جانب الملك فاروق لم تكن إيمانا منه بنزعات فاشية أو نازية وإنما كانت بسبب تطور الموقف العسكري في أوربا وانهيار فرنسا مما شجع في مصر الميول التي كانت تتعاطف مع المحور شعبية كانت أم رسمية لا على اعتبار أن المحور صادق النية فيما يتعلق باحترام السيادة المصرية واستقلال دول منطقة الشرق الأوسط ولكن على اعتبار أنه لن يكون احتلال أسوأ من الاحتلال البريطاني أو الفرنسي والذي عانت منه شعوب المنطقة سنوات طويلة هذا من ناحية ومن ناحية أخري كان هذا الميل يحمل في طياته دوافع التشفي نحو حليف أكرهت مصر على محالفته ضد رغبة شعبها كما أنه كان يتضمن في الوقت نفسه معني الإعجاب بالعسكرية الألمانية التي لا تقهر من جانب بعض قطاعات الرأي العام المصري وقادته بل وحتى الملك فاروق ذاته ولعل الملك فاروق كان يهدف من وراء اتصالاته بالمحور أن يستغل هذا التناقض الدولي القائم إلا أنه لم يستطع أن يحقق أية فائدة سواء لعرشه أو لبلاده بل على العكس فقد عرش عرشه للخطر في 4 فبراير 1942 وكادت الأمور أن تتطور إلى ما هو أسوا من الاحتلال وهو أن تحكم بريطانيا مصر حكما مباشرا وبقدر ما حرص الملك فاروق على التقرب من هتلر بقدر ما حرصت المخابرات الألمانية على تبديد أية مخاوف قد تساور الملك فاروق ووفقا لهذه السياسة التي نسجت خيوطها المخابرات الألمانية فقد تلقي الملك فاروق مذكرة عن طريق السفير المصري في طهران ( 30 أبريل 1941 ) يؤكد فيها هتلر بأن الحرب ليست موجهة ضد مصر أو اى بلد عربي وإنما ضد انجلتا وحدها وجاء في المذكرة أن دولتي المحور تريدان طرد بريطانيا من أوربا والشرق الأدنى إلى غير رجعة وإقامة نظام جديد يقوم على مبدأ المصالح المشروعة لكل الشعوب وأكدت المذكرة أيضا على أن ألمانيا ليست لها أطماع إقليمية في البلدان العربية على حين أن هتلر وموسليني يرغبان في أن يتحقق استقلال مصر وكل الأقطار العربية .

وفي 29 يونيو 1941 أى بعد فشل الهجوم الانجليزي الذي شنه الجنرال " ويفل ط على الحدود المصرية الليبية أرسل فاروق برقية إلى السفير المصري في طهران ليبلغ السفير الألماني أن لدي فاروق معلومات تؤكد بأن الانجليز سيحتلون مناطق البترول الإيرانية لكي يحموها من الهجوم الألماني المحتل من ناحية روسيا .

إلا أن فاروق قد تملكه القلق والانزعاج بسبب ما وصل إلى علمه من اتصالات كانت تجربها المخابرات الألمانية مع خديوي مصر السابق عباس حلمي والذي كان صديقا قديما لألمانيا وكانت له ادعاءات في عرض مصر منذ خلعه الانجليز في أوائل الحرب العالمية الأولى وعلى الرغم من أنه قد تنازل عن عرش مصر وأصدر بيانا بهذا الخصوص ( 12 مايو 1931 ) إلا أنه قد أوضح فيما بعد أنه يطالب بالعرش لابنه ).

ويبدو أن اتصالات عباس حلمي بالألمان قد أثارت قلقل في الدوائر الملكية المصرية مما جعل الملك فاروق يكتب إلى هتلر – عن طريق السفارة البلغارية في القاهرة – يحثه على قطع العلاقات الألمانية مع عباس حلمي وبالفعل فقد توقفت تلك الاتصالات كما قررت الحكومة الايطالية أيضا قطع اتصالاتها بخديوي مصر السابق عباس حلمي إرضاء للملك فاروق .

وأعتقد أن الملك فاروق لم يكن وحده الذي يميل إلى ألمانيا وإنما كانت الأغلبية العظمي من المصريين يميلون إلى نفس الاتجاه ولعل ذلك يرجع إلى عدة اعتبارات فقد كان أول من اكتشف فيروس البلهارسيا عالم ألماني وكان هذا المرض من الأمراض المنتشرة في مصر وكان أول من اكتشف معابد أبي سنبل عالم أثار ألماني ثم كانت هناك تلك الثقة التي تتمتع بها الآلات الألمانية بشكل واضح وكان العرب عموما معجبين بألمانيا بسبب انضباطها وقوتها والطريقة التي بنت بها كيان وحدتها من مجموعة من الدويلات ذات لغة مشتركة وتراث مشترك ولكنها كانت عديمة القوة إلى أن التحمت أواصرها وانصهرت في بوتقة الوحدة الجرمانية وعندما كان العرب ( وما يزالون ) يتدارسون تحقيق وحدتهم كان بعضها يتطلع إلى ألمانيا على اعتبار أنها قدوة يمكن الاحتذاء بها .

وعلى ضوء المعني السابق فقد اتهمت السلطات المصرية بأنها صنيعة للمحور في شخص ملكها – على الرغم من أن تلك التهمة لا تحمل قدرات من الحقيقة فالواقع أن مصر وألمانيا وجدتا نفسيهما تحاربان عدوا واحدا الأمر الذي خلق نوعا من الترابط بينهما ليس القصد منه خدمة ألمانيا وإنما قصد من هذا الترابط حصول مصر على استقلالها ولعل فاروق في محاولة الاتصال بالألمان كان يهدف إلى أن يحصل على وعد من هتلر بأن يمنح الألمان مصر الاستقلال إذا انتصر المحور في الحرب .

وعلى الرغم من أن المحور قد علن في العديد من المناسبات أنه لا يضمر أى نوايا عدوانية نحو مصر أو غيرها من الأقطار العربية وبينما الاتصالات قائمة بين الملك فاروق وهتلر لنفس لفرض فإن الوثائق الألمانية والتي اعتمد عليها أحد المؤرخين المعاصرين تشير إلى ما يسمي بتقسيم التركة – عقب انتصار المحور – حيث أرادت ايطاليا أن تحصل من هتلر على وعد بأن تكون مصر من نصيبها في نطاق السيطرة الايطالية على ساحل شمال أفريقيا وعلى الرغم من أن هتلر قد قطع على نفسه وعدا بذلك إلا أنها كانت خطة تكتيكية بهدف البقاء على جبهة التضامن متماسكة .

ويبدو أن المخابرات البريطانية كانت متيقظة تماما لكل ما يحدث في مصر وتجمعت تقارير المخابرات البريطانية وتقارير السفير البريطانية في مصر وتقارير عملاء بريطانيا سواء في مصر أو في البلدان التي تمت فيها الاتصالات بين المحور وفاروق وأجمعت كلها على أن فاروقا يلعب لعبة خطيرة ولابد من توجيه لطمة لشخص الملك الشاب المتهور حتى يعود إلى حظيرة السياسة البريطانية.

وقبل أن ننتهي من دراسة بعض المواقف التي هيأت لحادث 4 فبراير يجدر بنا أن نسجل ملاحظة هامة : لقد كان في مقدور السلطات البريطانية أن تقدر نشاط القصر لا على أنه خيانة لقضية بريطانيا وحلفائها نما على أنه إخلاص لقضية مصر واستقلالها وأن هؤلاء المصريين ذوي النشاط المحوري لا يحبون المحور لذاته ولا يكرهون الانجليز لذاتهم أيضا , ولكنهم كانوا يعملون لتحقيق ما يعتقدون بإخلاص أنه في مصلحة مصر ولقد كانت الدول المحايدة أو معظمها تؤمن إيمانا راسخا بأن النصر للمحور وأن الهزيمة ستلحق ببريطانيا .

ولم تكن هناك إذن خيانة لقضية الديمقراطية وإنما كان هناك إخلاص لقضية مصر وحرص على تحقيق أمانيها في السيادة والاستقلال ولعل البريطاني الوحيد الذي فهم هذا المعني وقدره هو الجنرال ويلسون حيث عبر عن النشاط المصري والذي يطلق عليه " محوري" بأنه نشاط بين ولاءين بين ولاء الساسة المصريين لقضية بلادهم والعمل على استقلالها وبين ولائهم لقضية الحلفاء والديمقراطية .

بريطانيا تستنفذ أغراضها من وزارتي حسن صبري وحسين سري

أولا : وزارة حسن صبري ( يونيهنوفمبر 1940)

لم يجد الملك فاروق بدأ من الخضوع للتهديدات البريطانية الموافقة على إقالة حكومة علي ماهر ورغبة من فاروق في تدارك الموقف حفاظ على عرشه استدعي عددا من الساسة القدامى وزعماء الأحزاب إلى قصر عابدين للتشاور في الأمر , وقد رأي المجتمعون وفي مقدمتهم أحمد ماهر أنه من الخير أن تستقيل الوزارة بعد أن انعدمت الثقة بينها وبين الحكومة البريطانية ومعني بعد أن انعدمت الثقة بينها وبين الحكومة البريطانية ومعني ذلك هو الإذعان للتبليغ البريطاني وفي مساء ( 22 يونيه 1940) وكان علي ماهر قد قدم استقالته ذهب أحمد حسنين ( أمير القصر ) إلى دار السفارة البريطانية ليبلغ السفير موافقة الملك على اعتزال علي ماهر رياسة الوزارة ولن يعود إلى منصبه في القصر وفي محاولة من علي ماهر لاستثمار الموقف لصالحه ذهب إلى مجلس الشيوخ وألقي بيانا أوضح فيه أسباب استقالته مؤكدا على أن السلطات البريطانية تقدمت إليه بالعديد من المطالب وأنه استجاب إلى الكثير منها في نطاق معاهدة التحالف الأمر الذي استوجب شكر السلطات البريطانية عليها وأن بعضا من هذه المطالب قد رفضه لمنافاته لاستقلال مصر .

ويلاحظ أن علي ماهر قد لجأ إلى مجلس الشيوخ وليس إلى مجلس النواب الذي يملك وحده إعلان الثقة بالوزارة وذلك خشية المعارضة التي قد يثيرها رئيس مجلس النواب – أحمد ماهر – بسبب ما أبداه من موافقته على استقالة الحكومة .

أما المطالب البريطانية بشأن الوزارة الجديدة فقد اتسمت بالتضارب إلى حد كبير حيث كان من رأي الخارجية البريطانية أن تكون وزارة قومية أكثر تمثيلا للقوي السياسية المختلفة بشرط أن يؤيدها الوفد وتقوم بتنفيذ المعاهدة نصا وروحا وهكذا عاد الوفد إلى الظهور كقوة مؤثرة على مسرح السياسة المصرية أم لامبسون فكان يريدها وزارة وفدية خالصة أو يؤيدها الوفد على الأقل ولا أهمية لكونها قومية أو حزبية بشرط أن " تطفو معنا أو تغرق معنا " على حد تعبيره واعتقد أن اختبار حسن صبري لرئاسة الحكومة ( 28 يونيه) لم يكن استجابة كاملة لرغبات بريطانيا إلا أن الحكومة البريطانية قد اعتبرته حلا وسطا وأكد وزير الخارجية البريطانية هذا المعني في تصريح له في مجلس اللوردات إذ قال : " إن علاقة بريطانيا بالوزارة المصرية الحاضرة تدعو إلى أشد الاغتباط وأنه كان يود أن يشترك الوفد في الحكم .

ولعل واقفه بريطانيا على اختيار حسن صبري رئيسا للحكومة قد حكمته عدة اعتبارات من بينهما : صداقة حسن صبري لبريطانيا ورفض النحاس باشا الاشتراك في وزارة قومية وعدم التأكد من ولاء القوات الفرنسية بعد سقوط فرنسا ورغبة الخارجية البريطانية في حسم الأمور مع الملك فاروق بقدر من اللباقة دون حدوث انفجار .

وعلى الرغم مما عرف عن حسن صبري من ميول انجليزية إلا أن زيارته لدار السفارة البريطانية في اليوم الثاني لتوليه منصب رئيس الحكومة كانت تحمل معني كبيرا بأنه يحرص على إرضاء السلطات البريطانية بقدر يمكنه من ممارسة سلطانه كرئيس للوزراء ولذا فقد كانت هذه الزيارة موضع استنكار شديد من بعض أعضاء مجلس الشيوخ المصري .

ولم يكن من الممكن أن تتبني الوزارة الجديدة سياسة مضادة لسياسة الوزارة السابقة ولذا فقد ألقي حسن صبري بيانا في مجلس النواب والشيوخ أشار فيه إلى: أن مصر الحريصة على استقلالها وسلامتها تحرص كذلك على الوفاء بتعهداتها لحليفتها بتطبيق المعاهدة نصا وروحا وفق ما اقره مجلسكم الموقر بجلسة 12 يونيه 1940 وكان معني ذلك هو تمسك وزارة حسن صبري بمبدأ تجنيب مصر ويلات الحرب وعلى الرغم من ذلك فقد قوبل رئيس الوزراء بمعارضة قوية من بعض أعضاء مجلس النواب والشيوخ بسبب الملابسات والظروف التي أحاطت بتشكيل الوزارة على اعتبار أن الوزارة السابقة قد حظيت بثقة البرلمان بمجلسيه ( النواب والشيوخ) قبل أيام معدودات وإقالتها بهذه الطبقة بعد مخالفة صريحة للدستور والذي يقضي بأن الوزارة تستقيل إذا افتقدت ثقة البرلمان وتبقي في مناصبها إذا فازت بهذه الثقة ... وتساءل أحد أعضاء مجلس الشيوخ : فمن أى ناحية إذن جاءت هذه الاستقالة ؟ وأجاب الشيخ عبد الرحمن الرافعي : أن أمر الإقالة جاء من ناحية التدخل السافر في شئون البلاد ولذا فإن الملابسات التي أحاطت بتشكيل الوزارة الحالية واستقالة الوزارة السابقة يدعونا إلى الامتناع عن تأييد تلك الوزارة .

ويلاحظ وفقا للعديد من المصادر الهامة أن بريطانيا بدأت تعمل على إرضاء الوفد وضح هذا من خلال الوزارة الجديدة وحث الملك فاروق على أخذ رأي الوفد على اعتبار أن أية حكومة لا تحظي برضاء الوفد فلن تنال قدرا كبيرا من الأهلية التي تمكنها من الاستمرار ولذا فإننا نعتقد أن موقف الوفد وامتناعه عن تأييد هذه الحكومة على اعتبار أنها لا تحوز ثقة البلاد يعد صدمة لبريطانيا ومؤشرا واضحا إلى تلك السياسة التي أوصلت العلاقات المصرية البريطانية إلى طريق مسدود وقد بدأ هذا واضحا من خلال مقابلة لامبسون لفاروق ( 28 يونيه 1940) ولذلك فقد سعي حسن صبري جادا للحصول على تأييد الوفد تقوية لمركزه .

وعلى ما يبدو فان لامبسون كان يهدف من وراء ذلك إلى أن يظل مبدأ التعاون مع الوفد قائما وبقدر تأزم الموقف الدولي فإن بريطانيا ستعمل على عودة الوفد في الوقت الذي تري فيه أن الإقدام على تلك الخطوة مسألة تحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة ولذا فقد لفت لامبسون نظر فاروق إلى أن فشل وزارة حسن صبري ستترتب عليه نتائج خطيرة قد لا يتوقعها وهو يريد بذلك تحذير فاروق من سياسته التي اتبعت أيام وزارة علي ماهر تلك السياسة التي يري لامبسون أنها أدت إلى أزمة أفلت فاروق من نتائجها الخطيرة الصعبة .

وبصدد اختيار حسن صبري باشا رئيسا للوزراء وعدم الأخذ بنصيحة لامبسون بإسناد رئاسة الحكومة إلى الوفد أو وزارة يؤيدها الوفد يتحدث أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي والمستشار الأول للملك فاروق – يتحدث عن السبب في اختيار حسن صبري فيقول : " لقد كان رأيي دائما أن الوفد هو القوة الشعبية الوحيدة في هذا البلد وأنه بهذه الصفة أحق بالحكم من جميع الأحزاب الأخرى وأنا أعتقد أن الوفد قوة يمكن استغلالها في استخلاص حقوق البلاد من الانجليز ولقد عملت ولا زلت أعمل على إزالة الخلاف بين الملك فاروق والنحاس وهذه الخطوة لابد منها قبل عودة المياه إلى مجاريها – أى قبل عودة الوفد إلى تولي الحكم – ومن هنا كان رفضي العمل بنصيحة لامبسون – لأن العمل بهذه النصيحة كان معناه أن الوفد وهو القوة الشعبية الوحيدة " إنما يعود إلى الحكم بإرادة الانجليز وهو أمر ليس في مصلحة البلاد ولا في مصلحة الملك ولا في مصلحة الوفد نفسه ".

ويضيف أحمد حسنين قائلا : " ورأيت أن أقوم بمناورة تمويه وتضليل ذرا للرماد في العيون , فطلبت من الملك أن يوفد عبد الوهاب طلعت لمقابلة النحاس باشا في كفر عشما لكي ألفت أنظار السفارة وعيونها إلى حيث يقيم النحاس وأصرفها عما يجري في القاهرة .. وهكذا بينما كان عبد الوهاب طلعت في كفر عشما كنت أنا قد اتصلت بحسن صبري وأعضاء وزارته وأعددت المراسيم بتشكيل الوزارة وهكذا فوجئ السفير البريطاني بالأمر الواقع صحيح أن حسن صديق لبريطانيا ولقد اخترناه لهذا السبب كسرا لحدة التحدي فقد كان إغفال نصيحة السفير تحديا منا لا شك فيه "

ووفقا لهذا الرأي فإن القصر الملكي كان يحاول أن يظهر وكأنه حريص على عودة الأغلبية الشعبية في البلاد وهذا يعطي دلالة خفية على أن إسناد الحكم إلى وزارات الأقلية يعد مخالفة دستورية بحرص القصر على تجاوزها بعودة الوفد إلى الحكم تحقيقا لمبدأ الشرعية الدستورية إلا أن هذه العودة مشروطة بإيجاد نوع من التفاهم مع الوفد أى – عودة المياه إلى مجريها – على حد تعبير أحمد حسنين باشا , وهذه العودة التي يعنيها القصر تتمثل في نوع من التضامن بين القصر والوفد وهذا ما لا تسمح به بريطانيا إطلاقا لأنه يعني – من وجهة النظر البريطانية – أن ينضم الوفد إلى سياسة القصر مما يسبب كثيرا من المشاكل وإعاقة للعديد من المخططات البريطانية .

وفي الوقت الذي تولت فيه وزارة حسن صبري الحكم كان الهجوم العنيف الذي سنه الايطاليون في خريف سنة 1940 في اتجاه الإسكندرية وسرعان ما جعل مهمة الوزارة الجديدة بالغة الدقة حيث وصلت القوات الايطالية إلى السلوم في 14 سبتمبر وعقب ذلك بيومين احتلت سيدي براني ومن جديد نوقشت قضية هامة شغلت الجانب الأساسي في العلاقات المصري البريطانية ابتداء من نشوب الحرب – وهي قضية إعلان الحرب من جانب مصر على المحور – وتوترت العلاقات مع السعديين والذين كانوا يشكلون أهم المجموعات الحزبية التي تتألف منها الوزارة وبدأ الدكتور أحمد ماهر في شن حملة سياسية تستهدف أن يكون لمصر دورا هاما في الحرب بأن تعلن الحرب على المحور في القوت الذي رأي فيه حسن صبري وغالبية أعضاء وزارته أن مصر يجب ألا تعلن الحرب لمجرد اجتياز الايطاليين الحدود عند السلوم لأن القوات المصرية لم تكن ترابط هناك وبين السلوم ومرسى مطروح مسافة ثلاثمائة كيلو متر لم يحسب من قبل حساب الدفاع عنها ولا مسوغ لأن تعلن مصر الحرب دفاعا عن هذه المنطقة وهي لا تملك هذا الدفاع ولا تريد أن تجعل من إعلان الحرب مجرد مظاهرة كلامية لا حربا بالفعل وكان من رأي حسن صبري عدم إعلان الحرب من جانب مصر ولو بلغ الايطاليون القاهرة .

وكان توتر الأعصاب في القاهرة شديدا وفي دور السينما قوبلت المعلومات التي عملت السلطات البريطانية بعناية على إذاعتها بمظاهرات صاخبة كالموج وكثرت الأخبار المغلوطة وانتشرت الشائعات بأن الحرس الملكي قد دعم بعناصر انجليزية جعلت الملك فاروق واقعا تحت الرقابة المشددة من السلطات البريطانية .

وأمام الهزائم المتلاحقة لقوات الحلفاء وتحت تأثير الرأي العام المصري والذي يميل إلى عدم التورط في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل – على حد تعبير الشيخ المراغي – تمسكت حكومة حسن صبري بموقفها من الحرب على الرغم من انسحاب السعديين من الوزارة إيمانا منهم بأن فشل مصر في الدفاع عن نفسها إنما يعني الاعتراف بالحماية البريطانية عليها وأجمعت العديد من تقارير السفارة البريطانية على أن مشاعر المصريين لا تميل إلى إعلان الحرب ومن المستحيل إجبار مصر على اتخاذ قرار الحرب على ضوء اتجاهات الرأي المصري في ذلك الوقت .

وأمام الإجماع الشعبي على مبدأ عدم دخول الحرب فلقد تجاوزت العديد من الصحف المصرية حدود الرقابة المفروضة عليها ونشرت العديد من المقالات دفاعا عن حق مصر في تمسكها بالموقف الذي تقف ومصالحها على اعتبار أن ايطاليا في حالة حرب مع انجلترا وليس مع مصر وأن الهجوم الايطالي يستهدف القوات البريطانية ولم يقصد به العدوان على المدن والقوات المصرية فهي طرف حرب يخوضها طرف محارب ضد طرف محارب آخر فوق أرض طرف ثالث بعيدا عن دائرة الصراع الدائر بين المتحاربين .

وسري اعتقاد – بالحق أو بالباطل – بان انسحاب القوات البريطانية من السلوم وسيدي براني مرجعه أسباب سياسية وليست عسكرية وأن بريطانيا لم تكن لتقرر أن تجلو عن هاتين المدينتين إلا لكي تجر مصر وراءها في الحرب وذلك بأن تهيئ لدخول مصر الحرب سببا معقولا.

وكان على بريطانيا وفقا لما أجمع عليه الشعب المصري من تجيب ويلات الحرب أن تواجه الموقف بدون الاعتماد على الجيش المصري لكنها ستحاول أن تعطي تفسيرا يزداد صرامة لمواد المعاهدة " 1936"كما أنها لن تردد – عندما يلوح لها أن مصالحها الفعلية في خطر – في أن تتدخل بحزم في الشئون الداخلية لمصر ولو اضطرها الأمر إلى استخدام القوة العسكرية وهذا ما حدث في 4 فبراير 1942 م.

وفي الأسبوع الثاني من ديسمبر 1940 تمكنت القوات البريطانية من إحراز بعض الانتصارات في موقف سيدي براني وأوقفت زحف القوات الايطالية على مصر ولذا فقد استرد الإنجليز بعضا من أنفاسهم المضطربة مما مكن السفير البريطاني من استشارة القادة العسكريين في المنطقة حول دخول مصر الحرب وقد اجمعوا على أن الوقت غير مناسب للأسباب الآتية :-

أولا : أن وقوف مصر على الحياد ساعد على تخفيف تعرض قناة السويس والمواني المصرية للقصف من جانب ايطاليا ... ومن تلك القواعد المصرية يتدفق السلاح والعتاد إلى قوات الحلفاء .

ثانيا : أن احتمال هجوم ايطاليا من الجو على الأراضي المصرية ما يزال قائما ولدي الايطاليين في ليبيا ثلاثة أسراب مقاتلة يتكون كل سرب من 18 طائرة بالإضافة إلى سرب قاذف ناقل وأن هناك حوالي 110,000 آلاف مقاتل بالإضافة إلى وحدات البوليس الحربي .

ثالثا : أن اطمئنان القائد العام ( الجنرال ويفل – إلى هدوء الجبهة الخلفية كان عونا له في نجاح معركته الأخيرة .

رابعا : لقد بدأت الحكومة المصرية تشير إلى بعض مطامعها الإقليمية في ليبيا كمقابل لإعلانها الحرب بالإضافة إلى رغبتها في أن تمثل في مؤتمر السلام المزمع عقده عقب الحرب .

للأسباب السابقة : رأت الخارجية البريطانية صرف النظر عن هذا الموضوع بصفة مؤقتة لحين انجلاء الموقف الدولي .

إلا أن لامبسون وجد نفسه يدور في دائرة مفرغة وأن ما يكسبه من ناحية يخسره في ناحية أخري بسبب سياسة القصر , لذلك كتب غلى هاليفاكس شاكيا ما يصادفه من متاعب ومن وضع لا يبعث على الاطمئنان ولكي يمهد الطريق لما قد يطلب اتخاذه من إجراءات شديدة في المستقبل فقال أنه :ط لا يثق مطلقا في تصرفات الملك فاروق وأن هناك همسات تدور بأن الجيش المصري قد صدرت إليه الأوامر بمقاومتنا إذا أجبرناه على مقاتلة الايطاليين لذلك فقد اقتربت اللحظة التي علينا فيها أن تكون حازمين مع الحكومة المصرية ومن ورائها السراي حتى ولو وصل الأمر إلى اللجوء باستعمال القوة المسلحة .

وقد أدرك لامبسون ضعف حسن صبري في مواجهة السراي لحاجته إلى الاعتماد عليها وهكذا بدأت كل الدلائل تشير إلى أهمية عودة الوفد كضرورة تحتمها المصالح العليا لبريطانيا ولو استخدمت في ذلك من الوسائل ما يتناقض بصورة واضحة مع المعاهدة المصرية البريطانية .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن السياسة البريطانية قد لجأت إلى وسيلة أخري كبديل عن قيام القوات المصرية بإعلان الحرب ضد المحور حيث اقترح البريطانيون على الحكومة المصرية أن تبيعهم بعض الأسلحة المصرية خصوصا المعدات الميكانيكية والمدفعية ويشير نفس المصدر إلى أن هذا الاقتراح من الجانب البريطاني كانت تحكمه عدم الثقة في القوات المسلحة المصرية من جانب البريطانيين بالإضافة إلى افتقار القوات البريطانية إلى العديد من الأسلحة وخصوصا بعد الهزائم التي منيت بها في الصحراء الغربية .

وعلى الرغم من أن أحد أعضاء مجلس النواب قد تقدم بسؤال إلى رئيس الوزراء حول مدي صدق هذه الدعاية إلا أن الحكومة المصرية قد أعلنت في بيان رسمي عدم صدق هذا الادعاء مما يؤكد على أن بيان الحكومة كان مخالفا للحقيقة ولعل الحكومة البريطانية قد طلبت هذا المطلب من رئيس الوزراء المصري وعلى ما يبدو فإنه قد رفض هذا المطلب بسبب ما قد يتركه من أثر لدي الرأي العام وخصوصا وأن حسن صبري لا يستند إلى قواعد جماهيرية أو حزبية وهكذا تجمعت العديد من الأسباب التي تؤكد أهمية عودة الوفد باعتباره الحزب الوحيد الذي يستند إلى جماهيرية تمكن السياسة البريطانية من تجاوز معاهدة 1936 بحجة أن ضرورات الحرب تقضي بمناصرة الحليفة من منطلق الدفاع عن الديمقراطيات في العالم .

وانطلاقا من مفهوم أن الملك فاروق ذو ميول محورية وأنه يكره الإنجليز فقد بدأت السياسة البريطانية تعيد علاقاتها بالقصر وفقا لهذا الاعتقاد في الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية تترنح من الضربات المتكررة التي تتلقاها من قوات المحور ومن المؤكد أن من أولي مهام السفير البريطاني أن يصون ظهر الجيش من أية مفاجأة قد يحدثها الملك ولابد من تهديده والزجر به .

ووفقا لما اعتقده السفير من أن علي ماهر يناصر فاروق في عدائه للإنجليز وأنهما يعملان على خلق مناخ مشبع بروح اليأس والهزيمة مما يقلل من هيبة الجيش البريطاني فقد طلب لامبسون إلى حسن صبري بوصفه السلطة القائمة على تنفيذ الأحكام العرفية أن يعتقل علي ماهر بحجة أن له نشاطا ضارا بالمجهود الحربي ويعتقد بعض المعاصرين أن السفير لم يقدم دليلا مقنعا ينهض حجة لم طلب مما جعل رئيس الوزراء المصري يلوح باستقالته إذا تشبث السفير بطلبه .

ولعل لامبسون قد خشي من الضغط على حسن صبري في هذا الموضوع بسبب ما قد يقدم عليه من أمر استقالته وعلى ما أعتقد فقد كان لامبسون حريصا على أن تبقي وزارة حسن صبري أطول وقت ممكن حتى يقتنع الرأي العام بعدم جدوي أية وزارة لا تستند إلى قاعدة شعبية وهذا يقف دليل على حجته في عودة الوفد ومن جانب آخر فلعله خشي أن يظن أنه إنما أراد أن ينتقم من علي ماهر بسبب التصريح الذي أدلي به عشية استقالته والذي حمل فيه حملة شديدة على لامبسون متهما إياه بالدكتاتورية والاستبداد وأنه يريد أن يكون الحاكم الفعلي لمصر وهذا الموقف من حسن صبري يعتبر موقفا وطنيا يتطابق إلى حد كبير مع مشاعر الرأي العام والشعبية التي حصل علها علي ماهر بسبب الظروف والملابسات التي أحاطت باستقالته .

وقد استمر الجانب البريطاني قلقا لضعف رئيس الوزراء وخوفه من الإقدام على تنفيذ المطالب البريطانية ووقوعه إلى حد كبير تحت سيطرة القصر لكن الذي كان يخفف من ذلك القلق هو ثقة الحكومة البريطانية في ولاء حسن صبري وقد تكرر تعبير الخارجية البريطانية وثقتها في نوايات رئيس الوزراء بل أن حسن صبري قد أعلن صراحة بأنه يفضل أن يستقيل إذا ما تأكد أنه لم يعد يحظي بثقة أصدقائه الانجليز مؤكدا أن وزارته موالية لهم دون تحفظ .

وإذا كان السفير البريطاني عملا بفكرة " تقليم أظافر القصر " قد تراجع عن فكرة اعتقال علي ماهر إلا أنه عاد مطالبا رئيس الوزراء بإبعاد أشخاص بذواتهم من القصر الملكي وفي مقدمتهم عبد الوهاب طلعت وكيل الديوان الملكي بحجة أنه متشبع بسياسة علي ماهر وكذلك بعض الايطاليين الذين يعملون في وظائف مختلفة بالقصر ورأي الملك فاروق في هذا المطلب من المساس بذاته ما لا يسمح بالنظر فيه وتدخل حسن صبري بهدف التغلب على صدام يوشك أن يقع بين الملك والسفير وبعد أيام قلائل صدر الأمر الملكي بتعيين أحمد حسنين رئيسا للديوان وإعفاء عبد الوهاب طلعت من خدمته داخل القصر وهكذا رضخ فاروق هذه المرة وقبل مبدأ التدخل البريطاني في أمر هو من أخص الأمور التي تدخل في نطاق السياسة الداخلية مما كان سببا في العديد من التدخلات الأخرى .

وبينما حسن صبري يلقي كلمته في البرلمان بمناسبة افتتاح دورة جديدة إذا به يقع على الأرض وقد فارق الحياة ( 14 نوفمبر 1940)

ثانيا : وزارة حسين سري ( نوفمبر 1940فبراير 1942 )

يعتبر تعيين حسين سري خلفا لحسن صبري دبلوماسية ماكرة ابتكرها أحمد حسنين ( رئيس الديوان الملكي ) على اعتبار أن حسين سري رجل مقبول عند بريطانيا وسوف لا يعترضون على تعيينه ولن يتمسكوا بوجوب قيام وزارة وفدية أى أن اختبار حسين سري كان تفاديا لحتمية الاصطدام بالانجليز .

وعلى الرغم من أن حسين سري كان شخصية محببة لدي الانجليز إلا أن الملك فاروق رأي فيه بعض المميزات التي تقدمه على غيره فهو أولا يكن ولاء لشخص الملك وللأسرة الملكية عموما أى أن ولاءه للبريطانيين يأتي بعد ولائه للملك وهو ثانيا قريب للأسرة المالكة( خال الملكة فريدة) وهو من هذه الناحية أحرص الناس على حقوق الملك , أما الاعتبار الثالث : فإن الوفد صاحب الأغلبية الحقيقية مقصي عن الحكم وتعيين رجل مستقل غير حزبي مثل حسين سري في رئاسة الوزارة قد يخفف ولو قليلا من حدة خصومه الوفد للقصر.

ولقد رأي أحمد حسنين أن مهمة وزارة حسين سري تعد مؤقتة تمهيدا لعودة الوفد إلى الحكم بعد أن يقدم الوفد إلى الملك الترضية الكافية والضمانات اللازمة على عدم تكرار ما فعله الوفد سنة 1937 .

ومن المؤكد أن وفاة حسن صبري كانت مفاجأة للإنجليز حالت دون دراسة الموقف دراسة جيدة تمهيدا لإقناع الملك فاروق بعودة الوفد والملاحظ أن القوتين المتصارعتين – القصر والانجليز – كانتا ترغبان في عودة الوفد لكن الاختلاف بينهما كان قائما حول الكيفية التي يعود بها بمعني أن القصر كان يشترط أن يقدم الوفد الترضية المناسبة للشخص الملك وأن يتعهد النحاس باشا بعدم تكرار محاولة التعدي على الحقوق الملكية وكان النحاس يعلم جيدا حاجة فاروق إلى تضامنه مع الوفد في وقت بدأت ملامح الصراع تتصاعد إلى الأفق بين القصر والانجليز.

أما الانجليز فقد كانت حاجاتهم إلى الوفد تشتد حينما تتأزم الأوضاع العسكرية على الجبهة المصرية اعتقادا منهم أن الملك فاروق سيطعنهم من الخلف وأن وجود الوفد هو الضمان الوحيد لكسر شوكة القصر وعلي الرغم من أن الانجليز لم يكن لديهم شروط يفرضونها على النحاس مقابل عودته إلى رئاسة الحكومة إلا أنهم كانوا حريصين جيدا على أن ظهروا أنفسهم في صورة أصحاب الفضل الأول في تلك العودة وهذا ما كان يعيه القصر جيدا ويحرص تماما على عدم تحقيقه .

وعموما فلقد كان اختيار حسين سري في وقت أحرز فيه البريطانيون بعضا من انتصاراتهم العسكرية على الجبهة الغربية سببا كافيا لتأجيل عودة الوفد وقد أبدي لامبسون ارتياحه لاختيار حسين سري ووصفه بأنه صديق للبريطانيين ورجل على قدر كبير من الناشط والتصميم شئ آخر دعا لامبسون لإبداء ارتياحه لاختيار حسين سري باشا وهو ما كان يجهر به دائما من أقوال تتسم بالكراهية لعلي ماهر العدو اللدود آنذاك للبريطانيين .

وتعتبر الوزارة الجديدة امتدادا للوزارة السابقة من حيث التشكيل ومن حيث السياسة نحو الحرب فالوزارة الجديدة قد شكلت إلى حد كبير من أعضاء الوزارة السابقة ثم أن رئيسها كان أحد ثلاثة رشحتهم السفارة البريطانية للرئاسة أثناء الأزمة مع القصر حول التخلص من علي ماهر .

أما موقف البريطانيين من دخول الحرب فقد قنعوا بالمعونة الجادة التي تقدمها لهم الوزارة المصرية مما دعا لامبسون إلى وضع قضية " إعلان الحرب " جانبا معلنا بأن المستقبل يعتمد إلى حد كبير على طبيعة سير القتال وان أى نجاح عسكري كبير قد يؤدي إلى تغيير جذري في الموقف السياسي المصري أى أن السفير البريطاني قد اقتنع تماما بأن السبب في تردد الحكومة المصرية في إعلان الحرب راجع إلى تردي الحالة العسكرية للقوات البريطانية وليس مرده إلى أن معاهدة 1936 لا تقر مبدأ دخول الحرب .

ويلاحظ أن ردود الفعل البريطانية بخصوص دخول مصر الحرب قد اتسمت بالتردد وعدم وضوح الرؤيا ولذا فقد تباينت وجهات النظر البريطانية حول تلك القضية الهامة وكان من الأولي ن تقتنع السلطات البريطانية برغبة مصر في عدم إعلان الحرب والاكتفاء بما تقدمه مصر من معونات اقتصادية وسياسية وعسكرية إلا أن هذا التردد قد تفسره المواقف العسكرية المتباينة في الصحراء الغربية فبينما تتقدم قوات المحور تطفو قضية دخول مصر الحرب على السطح وتحتل المكانة أول في المطالب البريطانية أما في حالة تقدم القوات البريطانية محققة بعضا من الانتصارات فإن القضية تتراجع لتأخذ المرتبة الثابتة في المطالب البريطانية وهكذا .

وما لبثت وزارة حسين سري أن واجهت أزمة تموينية حادة نجمت عن الصعوبات التي أحاقت بمصر بسبب الحصار الذي فرضته ظروف الحرب مما أدي إلى اضطراب في الحياة الاقتصادية المصرية ورغم ما عرضته بريطانيا من استعدادها لشراء محول القطن المصري ورغم ما بذلته الحكومة من مجهودات للمحافظة على بقاء المعدل الطبيعي للمواد التموينية إلا أن أوجه النقص التي كان لابد منها سواء في المواد التموينية أو غيرها من ضرورات الحياة قد جعل وزارة حسين سري هدفا لنقد الأحزاب ومحاولة إظهار الحكومة في صورة من العجز وعدم القدرة على استيعاب المرحلة الراهنة .

وعلى الرغم من أن القوات البريطانية قد أحرزت بعض الانتصارات في الفترة من ديسمبر 1940 وحتى فبراير 1941 إلا أن القوات الألمانية بقيادة الجنرال روميل قد استطاعت أن تحرز نصرا كبيرا حتى اجتازت حدود مصر واحتلت السلوم ثم وصلت إلى مرسى مطروح في الوقت الذي امتدت الحرب لتشمل اليونان ويوغسلافيا وبدأ وكأن انهيار الحلفاء مسألة وقت فقط وفي نفس الوقت كانت ثورة العراق بقيادة رشيد علي الكيلاني وفي سوريا قد حدثت انتفاضات متكررة مما حدا بقوات فرنسا الحرة أن تطلب المساعدة والإمدادات من بريطانيا في الوقت الذي اضطرت فيه بريطانيا إلى احتلال إيران خوفا من أن يمتد الاحتلال الألماني لمنابع البترول الإيرانية .

وهكذا بدأ واضحا أن بريطانيا تواجه صعوبات بالغة الخطورة ومما لا شك فيه أن كل هذه الأحداث تركت انعكاساتها على الساحة المصرية وخصوصا بعد القبض على عزيز المصري في محاولة منه لمغادرة مصر على متن طائرة حربية , وفي الإسكندرية كانت الغارات الجوية تبث الرعب في نفوس المواطنين مما حدا بأعضاء مجلس النواب المصري إلى مطالبة الحكومة بممارسة مسئوليتها بوضع حد لوقف الاعتداءات على مدينة الإسكندرية التي يذهب ضحيتها مئات المصريين كل يوم وبلغ توتر الأعصاب في العاصمة مداه ولنقسم الوزراء فيما بينهم مما اضطر الملك إلى دعوة زعماء الأحزاب للالتقاء بهم حيث جرت المباحثات حول الموقف الدولي والاعتداءات المتكررة على مدينة الإسكندرية وعرض الملك في هذا الاجتماع فكرة تشكيل حكومة قومية برئاسة النحاس باشا الذي اشترط حل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة .

إلا أن هذه المحادثات قد فشلت بسبب مناورات القصر والتي قصد من ورائها نوعا من التمويه على بريطانيا واثبت حسن نية القصر وعدم مسئوليته عن الاضطرابات الكثيرة التي انتشرت في العاصمة وبفشل هذه المحادثات سعي رئيس الوزراء ( حسين سري ) لى التقارب مع السعديين بالغرم من تعثر هذه المساعي في البداية إلا أنه انتهي أخيرا بتشكيل وزارة جديدة عرفت " بالوزارة السرية الثانية " وغضب الوفد الذي رأي أن ضم السعديين الأعداء الألداء هو خيانة كبري قام بها القصر في لوقت الذي بدأ فيه البرلمان المصري بمجلسيه ( النواب والشيوخ) في إخراج الحكومة عن طريق العديد من الأسئلة والاستجوابات والتي أظهرت مدي التردي الذي وصلت إليه الأوضاع المصرية وفي محاولة من الحكومة البريطانية لإعادة الاستقرار والطمأنينة إلي نفوس المصريين فقد أوفد وزير خارجية بريطانيا وفدا إلى مصر برئاسة " أوليفر لتلتلون" مندوب وزارة الحرب بهدف إبلاغ الحكومة المصرية إلى أن بريطانيا مصممة على النصر مهما كانت الوسائل بالإضافة إلى تخفيف عبء المسئوليات التي يضطلع بها رؤساء الأسلحة البريطانية تزويدهم بالإرشادات السياسية العامة وأخيرا التنسيق بين بريطانيا العظمي وأقطار الشرق الأوسط .

ولعل اختيار القاهرة بالذات لكي تكون مقرا للوزير البريطاني باعتبارها مركزا وسطا لدول الشرق الأوسط وعلى اعتبار أن مصر تشهد على جبهتها الغربية أهم معركة يتوقف عليها حسم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط .

وأخذ الوفد في شن حملة عنيفة على الوزارة الجديدة وعلى الانجليز أيضا بدأها النحاس بخبطة عنيفة 14 أغسطس 1941 – اتهم فيها الانجليز بخرق المعاهدة وتحطيم استقلال البلاد.

في نفس الوقت فإن النكسات المتكررة التي واجهها البريطانيين آنذاك بالإضافة إلى اشتداد الغارات الجوية على المدن المصرية قد أعطي وقودا للحملة ضد الانجليز وتحمل تقارير السفير البريطاني مع نهاية 1941 صورة كئيبة للأحداث الجارية حيث يقول لامبسون في أحد تقاريره :

" أن هيبتنا قد تدهورت إلى حد كبير والوفد يضاعف من حملاته ضد الحكومة المصرية وفاروق يغذي كل هذه الاتجاهات والأحزاب تجد في حملاتها على الحكومة هدفا وطنيا يكسبها قدرا من الشعبية وعودة الوفد قضية هامة تتعلق بمستقلنا في مصر "

وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن ما يحدث في مصر من سوء الأحوال وتفاقهم في المشاعر المعادية لبريطانيا مرجعه إلى الملك فاروق والسفير البريطاني حيث تحول العداء بينهما إلى قضية ثأر فكل منهما يريد أن يقتص من الآخر بطريقته الخاصة .

ومع نهاية 1941 ازدادت المتاعب البريطانية بسبب الارتفاع الملموس في أسعار الحاجيات الضرورية وما صاحبه من اعتقاد بين الرأي العام المصري بأن مرده إلى عمليات النهب التي تمارسها السلطة البريطانية في مصر لحساب جيوشها والقوات المتحالفة معها وصاحب كل ذلك فشل الحكومة في أن توقف موجة الكراهية ضد بريطانيا وظهرت طبقة من المرابين والمضاربين الذين قاموا بتخزين المؤن أملا في ارتفاع أسعارها وانتشرت السوق السوداء في كل مكان ويلاحظ أن كل الصحف المصرية كانت تشير من طرف خفي إلى مسئولية بريطانيا عن حدوث تلك الأزمات نظرا لاعتماد جيوشها على المواد التموينية المخصصة للشعب المصري ولقد أعلن إسماعيل صدقي باشا ( رئيس الوزراء السابق) أن وجود قوات الحلفاء هو أحد الأسباب الرئيسية في عجز المواد الغذائية على اعتبار أن الجنود البريطانيين يستهلكون في أجازاتهم بالإضافة إلى يستهلكونه في ثكناتهم ما يقرب من 50,000 أردب شهريا من القمح يصل إلى 60,000 ألف أردب في العام الواحد .

ولقد أحدث هذا القول دويا واسعا في كل الأوساط الشعبية والرسمية وانتشرت الأقاويل حول النهب البريطاني لمصر وعن المجاعة والفوضى وسوء الإدارة وتضاعف موقف الحكومة حرجا حينما تقدم وزير المالية باستقالته لأسباب غامضة ( 2 يناير 1942 ) في الوقت الذي كانت الأحوال العسكرية في الجبهة الغربية تمر بأدق وأخطر مراحلها ومن هنا فقد كان على بريطانيا ( مدفوعة إلى الحفاظ على مصالحها) أن تتدخل تدخلا حاسما لتعيد الأوضاع إلى الاستقرار مهما كان شكل هذا التدخل وكانت عودة الوفد تمثل حيويا بالنسبة لبريطانيا .

تعطش الوفد إلى الحكم

في أوائل سنة 1941 تجمعت عدة عوامل دفعت بالوفد إلى اتخاذ سياسة نشطة فيما يختص بالعلاقات المصرية البريطانية لاستغلال الموقف لصالحها فقد عرضت على الحكومة المصرية شاء جانب من المحصول بشعر أقل من السعر المعروض في الأسواق بما يقدر بخمسين في المائة (100) يضاف إلى ذلك تردي الحالة الاقتصادية والمالية وثقل الأعباء التي فرضتها ظروف الحرب وزيادة الضرائب وارتفاع الأسعار مما أثقل كاهل المصريين وخزانة الدولة حينئذ نشط الوفد لتصدر الصف الوطني مطالبا بريطانيا بتحديد موقفها من بعض القضايا التي تشغل الرأي العام وتقدم مصطفى النحاس بمذكرة باسم الوفد إلى السفير البريطاني ( أوائل أبريل سنة 1940) متضمنة عددا من المطالب الآتية :-

1- جلاء القوات البريطانية عن مصر بعد انتهاء الحرب.

2- اشتراك مصر اشتراكا فعليا في مفاوضات الصلح .

3- الدخول في مفاوضات مع مصر بعد انتهاء مفاوضات الصلح يعترف فيها بحقوق مصر كاملة في السودان.

4- التنازل عن الأحكام العرفية التي أعلنت بناء على طلب بريطانيا .

5- حل مشكلة القطن المصري وذلك بتمكين مصر من تصديره إلى البلاد المحايدة أو أن تشتريه بريطانيا بالأسعار والشروط المناسبة .

والملاحظ على مذكرة الوفد أنها مست مشاعر المصريين جميعا لأنها قد تناولت قضايا غالبية الشعب المصري وبلورت مطالب كل المصريين وأبرزتها ولذا فقد تصدر الوفد حركة النضال الوطني بعد أن اعتقدت الجموع الغفيرة من المصريين أن الوفد قد ألقي بأسلحته منذ توقيعه على معاهدة 1936 كان لذلك كله أكبر الأثر على القوي السياسية المختلفة في مصر فالحزب الوطني ومصر الفتاة قد أيدا موقف الوفد على اعتبار أن تلك المطالب تمثل الحقوق المشروعة لكافة المصريين على اختلاف اتجاهاتهم الحزبية .

أما القصر وعلي ماهر والسعديون فقد شككوا في تلك المطالب وأعلنوا اعتراضهم على أساس أنه ما كان يجوز للوفد أن يتقدم بمطالب إلى دولة أجنبيه مدعيا أنه وحده يمثل الشعب إلا أنهم أعلنوا اتفاقهم من حيث المبدأ على هذه المطالب لأنها تتفق ورغبات الشعب المصري .

أما الدستوريون فقد أعلنوا موافقتهم بلا تحفظ على الرغم من اعتراض زعيمهم محمد محمود باشا مبديا عدم موافقته متهما الوفد بالانتهازية واستغلال الفرص واقترح بعض زعماء الحزب إصدار بيان يطابق مطالب الوفد على اعتبار قومية المطالب التي أعلنها الوفد .

ويبدو أن تلك المطالب قد سببت قدرا كبيرا من الإحراج للحكومة المصرية سواء أمام الرأي العام أو أمام بريطانيا ولذا فقد تقدم أحد أعضاء مجلس النواب باستجواب إلى رئيس الحكومة حول موقف الحكومة من مذكرة الوفد وأعتقد أن هذا الاستجواب كان بإيعاز من الحكومة بهدف أن تستصدر قرارا من مجلس النواب بطرح الثقة بها من جديد على أمل أن تقوي من موقفها سواء أمام الانجليز أو أمام الرأي العام المصري.

ولما كان نفس الاستجواب معروضا على مجلس الشيوخ للنظر فيه فقد تحدث النائب – عبد الحميد عبد الحق – متهما رئيس الحكومة بأن هدفه من مناقشة الاستجواب في مجلس النواب هو الحصول على أغلبية تؤيد الحكومة حتى تتمكن من مواجهة مجلس الشيوخ والانجليز معا ..

واعترض احد أعضاء الحزب الوطني على مناقشة الموضوع باعتباره أمرا غير دستوري وتقدم العديد من الناب بعدة اقتراحات وأخيرا وافقت الأغلبية على الاقتراحات التالية :

أولا : يعلن المجلس استنكاره لكل عمل فيه محاولة لإقحام دولة أجنبية في شئون البلاد الداخلية ولو كانت تلك الدولة صديقة أو حليفة .

ثانيا : استنكاره أيضا لمعالجة المسائل المصرية وبخاصة علاقتها بحليفتنا بغير الطريق الدستوري .

ثالثا : استنكاره أيضا لكل إجراء يقلل من الثقة القوية القائمة بيننا وبين حليفتنا في وقت فيه التعاون والتآزر واجبان لمصلحة البلدين والمجلس يؤيد الحكومة ويعلن ثقته بها .

وقد علق النائب محمد بهي الدين بركات على قرار المجلس السابق بقوله : افهم أن يستنكر المجلس عملا من أعمال الحكومة أما استنكاره عمل هيئة أو شخص خارج هذا المجلس فلا علاقة له بالأعمال البرلمانية وهكذا تحول الاستجواب من سياسة الحكومة تجاه تصريح الوفد إلى طلب منح الثقة للحكومة وهو ما كان يقصده علي ماهر .

وعلى الرغم من موقف مجلس النواب من مذكرة الوفد إلا أن الوفديين قد هزوا الرأي لعام هزة عنيفة وأيقظوه من سباته ولذا فقد كسبوا جميع الأراضي التي كانوا قد فقدوها عقب توقيع معاهدة 1936 ولما قيل لهم أنكم بهذه القرارات قد كسبتم الرأي العام في مصر ولكنكم قد تخسرون صداقة الانجليز قالوا وبلسان زعيم وفدي كبير : فقد كسبنا شيئا لم يكن كله موجودا وخسرنا شيئا لم يكن كله مضمونا .

تشير احدي التقارير الهامة إلى أن طلبة المدارس والجامعات كانوا أكثر قوي الشعب اهتماما بمذكرة الوفد حيث عقدت العديد من التجمعات الطلابية ودا النقاش حول الأسلوب الأمثل لمعارضة الوفد في موقفه وهتف الطلبة بسقوط الانجليز وسقوط المعاهدة .

على أية حال فإن موقف الوفد بتقديمه تلك المذكرة لم يكن خالصا لوجه الله الوطن وإنما قصد من هذا الموقف إحراج بريطانيا واستغلال الأوضاع العسكرية المتردية على الجبهة الغربية وكذلك سوء الأوضاع الداخلية في مصر لكي يثبت لبريطانيا أن الوفد هو القوة الوحيدة القادرة دوما على خدمة الخليفة وخصوصا وقت الشدائد والمهام الصعبة بدليل أن حكومة الوفد بعد أن ترأست البلاد في 4 فبراير 1942 لم تحاول أن تعيد تلك المطالب وإنما هادنت الاحتلال بصورة لم تشهدها مصر منذ توقيع المعاهدة .

ومع أن هذه المذكرة كما يقول أحد المؤرخين تعب بكل تأكيد عن نوع من اليقظة السياسية من جانب الوفد ألا أنها تعتبر سابقة خطيرة حيث أنها جعلت من – حق أى هيئة سياسية – أن تلجأ إلى السفير الذي يمثل الدولة المحتلة على اعتبار أنه صاحب الرأي النافذ والقول الصائب في كل ما يتعلق بقضايانا القومية والوطنية ومما يضاعف من اعتقادنا بأن الوفد قد لجأ إلى المناورة بهدف الوصول إلى السلطة أن تلك المذكرة لم تتعرض لمسألة إعلان الحرب على اعتبار أنه لو قالها في مذكرته فقد يغضب جمهرة الشعب وأن هو عارض اشتراك مصر في الحرب أغضب الانجليز فاختار طريق السلامة ولم يشر في تلك المذكرة إلى تلك المسألة الشائكة بكلمة واحدة وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن بقاء الوفد بعيدا عن الحكم سيضاعف من مشاكل بريطانيا ومن الأفضل وفقا لرأي السفير الأمريكي أن يعود الوفد إلى الحكم وإذا لم تعجل بريطانيا بتلك العودة فإن الأمور ستزداد تعقيدا أما عن موقف الحكومة البريطانية من مذكرة الوفد.

فلقد حمل الرد البريطاني على تلك المذكرة نوعا من الذكاء والبراعة في تحليل المواقف والإحداث حيث عكس الرد فهما أكيدا بأن المذكرة كانت مناورة من جانب الوفد بهدف إحراج بريطانيا في الظروف الدقيقة ومن جانب آخر فلقد حمل الرد البريطاني نوعا من إحراج النحاس بين القوي السياسية والشعبية باعتبار أن هذه المذكرة – تؤدي إلى تدخل بريطانيا في السياسة الداخلية المصرية .

ولعل بريطانيا قد قصدت إلى أن تفوت على النحاس فرصة الاستفادة من الموقف وكانت مقابلة لامبسون رئيس الوزراء المصري وتسليمه رد الحكومة البريطانية على مذكرة الوفد مما يؤكد أن بريطانيا قد قصدت إحراج الوفد أمام الرأي العام المصري وأمام الحكومة المصرية أيضا واعتراف واضح على أن الوفد لا يمثل الهيئة الرسمية التي تتعامل معها بريطانيا ويمكن القول على وجه العموم أن الرد البريطاني كان سلبيا وأنه في جملته يستند إلى أن مذكرة الوفد كانت تفتقر إلى العناصر النظامي والسند القانوني وإيمانا من بريطانيا بأهمية العلاقات المستقبلية مع الوفد فقد نوهت المذكرة البريطانية بأن الحكومة البريطانية يسرها أن يدرك زعماء مصر حقائق الموقف الدولي الحاضر وخطورة النتائج التي سوف تسفر عنها هذه الحروب القائمة وان الحكومة البريطانية تنتظر من أصدقائها قدرا كبيرا من التعاون والإخلاص في هذه المرحلة الحاسمة .

ووفقا لما جاء في الرد البريطاني فقد عقدت الهيئة الوفدية اجتماعا انتهي بإرسال مذكرة أخري لبريطانيا حرص الوفد على نفس المطالب التي ذكرها في مذكرته الأولي مبديا أسفه الشديد على تأويل القرارات بما لا يتفق مع م وضعت من أجله بل يناقضه وطالبت الهيئة الوفدية بتبليغ هذا الاحتجاج إلى وزير خارجية بريطانيا ؟

ويبدو أن النحاس قد وجد نفسه وقد تورط في تصعيد الموقف بما لا يتفق والهدف الذي كان يقصده لذا فقد زعمت بعض الدوائر السياسية – وهي ليست وفدية – أنه لما اجتمع السفير البريطاني مع النحاس ليتسلم الأخير رد الحكومة البريطانية قال السفير للنحاس باشا أنه يسمح لنفسه كصديق شخصي أن ينصح صديقه بالعدول عن هذا الموقف في الظروف الحاضرة وتزعم نفس الدوائر أيضا أن النحاس تمني لو استطاع العدول إلا أن الهيئة الوفدية قد قطعت شوطا يصعب التراجع عنه .

وبصرف النظر عن الدوافع التي كانت وراء هذه المطالب إلا أن الوفد قد أكد قدرته على الشغب وأحداث قدر كبير من القلق والاضطراب في العلاقات المصرية البريطانية ولا شك فقد انعكس هذا على الشارع المصري الذي تحرص بريطانيا على بقائه هادئا ضمانا لحماية ظهر القوات المحاربة وتحمل تقارير لامبسون عن هذه الفترة : أن الأحزاب السياسية تتباري في إظهار وطنيتها حتى تكسب أرضا جديدة على حساب الوفد في الوقت الذي يتمتع فيه الوفد بشعبية كاسحة ليس في مصر وحدها وإنما في العالم العربي كله ومن هنا فقد حرصت الحكومة البريطانية على إرضاء الوفد باعتباره الحزب الذي يحظي بشعبية كاسحة وأن أبعاده من الحكم لحساب الأحزاب التي تفتقر إلى قاعدة شعبية يتعارض مع مبدأ بريطانيا والتي تعلن دوما أنها تحارب من أجل الديمقراطيات في العالم كله بالإضافة إلى أن عودة الوفد تعني استقرار الشارع المصري وهو ما تحرص عليه الحكومة البريطانية ولذا فقد أعلن لامبسون صراحة : " بأن الوفد سيظل يمثل عامل شعب واضطراب ومن الأفضل عودته إلى الحكم .

ووفقا للمصالح البريطانية فقد درس السفير البريطاني الموقف المصري جيدا ووقف على اتجاهات الأحزاب ودسائس القصر واستطلع الرأي العام من كل جوانبه وتأكد من أن عودة الوفد تعني استقرار الأوضاع المصرية وان التطرف الوطني الذي مارسه الوفد وهو خارج الحكم يختلف تماما عن موقفه وهو في الحكم وفي نفس الوقت فإن الوفد لم يتردد في إعلان ارتباطه بقضية الديمقراطية مؤكدا على أن مصر تمد يدها للشعب الحليف ( بريطانيا ) وأن الشرف يقتضي مؤكدا من كل مصري أن يساعد الدولة الحليفة ويشد أزرها وأن تتجنب بوجه عام كل ما يمكن ان يؤخذ على أنه " طعنة في الظهر "

وما لبث الوفد أن تناسي مذكرة أبريل سنة 1940 وظل يعلن أن الوقوف بجانب الحليفة هو قضية مبدأ اقتنع بها الوفد وسيظل يدافع عنها على اعتبار أن معاهدة 1936 تحتم هذا الموقف الأخلاقي وهكذا خففت هذه السياسة من شكوك السفارة البريطانية كما جعلتها تأخذ في الاعتبار رغبات الشعب المصري والذي يميل إلى عودة الوفد وهكذا تمكن الوفد من أن يلعب بمهارة وأن يستغل الموقف البريطاني المتأزم أفضل استغلال ولذا فقد تداركت بريطانيا الموقف على اعتبار أن الحكومة التي لا تملك المساندة البرلمانية لن تستطيع أن تحكم بروح المعاهدة مع الوضع في الاعتبار بأن أى جهد يبذل في هذا الطريق لابد وأن يصطدم بمعارضة القصر ولن تستطيع أى حكومة بدون المساندة العصبية أن تحارب القصر ومعني هذا أن بريطانيا تريد حكومة تحد من نفوذ القصر سواء النفوذ الرسمي أو الشعبي في الوقت الذي كانت فيه وزارة حسين سري تتعرض لأكبر هجوم شنه الوفد على اعتبار أن الوزارة قد فشلت تماما في حل أى مشكلة بل تفاقمت المشاكل والحكومة عاجزة عن اتخاذ أى موقف .

وللحقيقة التاريخية نقول :" أن موقف الوفد من بريطانيا منذ قيام الحرب العالمية الثانية كان موقفا غير ثابت على الإطلاق ففي بعض الأحيان يعمد الوفد إلى أن يلقي بكل ثقله وراء الحليفة لتنتصر الديمقراطية وفي أحيان أخري يكون حرص الوفد على تحقيق الديمقراطية في العالم بانتصار بريطانيا وفرنسا كما أن موقف الوفد من الوزارات القومية التي تشترك فيها كل الأحزاب يكون متأرجحا مرة يقبل الوفد تشكيل تلك الوزارة ومرات أخري يرفضها مرة يمد يده لأحزاب الأقلية ومرات أخير يقبضها .

وهناك من يقول أن الوفد كان يقبل بفكرة الوزارة القومية عندما يشعر بضعف موقفه وعندما يكتشف أن الظروف تجري في غير صالحه أو عندما يتعب من البقاء في المعارضة وكان يرفض فكرة الوزارة القومية عندما يري ضعف بريطانيا في أوربا أو على الحدود الغربية .

إلا أن الوفد كان حريصا على أن يذكر بريطانيا بين حين وآخر بأن قضية الديمقراطية في مصر هي جزء من قضية الديمقراطية التي تدافع عنها بريطانيا وتحارب من أجلها في العالم كله مما سبب لبريطانيا كثيرا من المشاكل التي تمثلت في العديد من الاضطرابات والمظاهرات والعديد من مظاهر الاستياء العام .

ومزيدا من استغلال الموقف فقد تقدم الوفد – 2 يناير 1941 – بمذكرة إلى لملك فاروق استعرض فيها أثر الحرب على أحوال مصر الداخلية الخارجية وطالب بإجراء انتخابات لوضع الأمور في نصابها الصحيح من حيث الرجوع إلى الأمة باعتبارها مصدر السلطات انقاذا للبلاد من المصير المجهول .

وأعلنت الهيئة الوفدية عدة قرارات كان الهدف منها هو القضاء على الباقية من هيبة الوزارة وتمثلت هذه القرارات فيما يأتي :

أولا : أن الوفد لا يرتبط بأية نتائج أو مفاوضات تتخذها الوزارة الحاضرة ويكون فيها مساس بمصير البلاد واستقلالها أو حقوقها وأمنها .

ثانيا : ينسحب حضرات الشيوخ والنواب الوفديين من جلسات المجلسين ( النواب والشيوخ ) ولجانبهما إلى يوم 7 مايو 1941 – يوم انتهاء المدة الدستورية لعضوية الشيوخ المقترع على خروجهم – على أن يقدم استجواب أثر عودتهم يطالبون فيه بموقف لحكومة من المخالفات الدستورية التي قامت بها وعلى ضوء ما يسفر عنه هذا الاستجواب يحدد مركز الشيوخ والنواب في المجلسين ومن السهل أن يفسر هذا الموقف من الوفد على اعتبار أن الوفدين يعتبرون أنفسهم موكلين بالنيابة عن الشعب المصري وأن أى التزام من أى حكومة أخري يعتبر من وجهة نظرهم مخالفة صريحة للدستور من هنا نري أن الوفد لم يكن موضوعيا حيث حصل الحكومة أكثر من طاقاتها مستغلا بعض الأحداث التي هي بلا شك خارج مقدرة الحكومة فمثلا يحمل الوفد حملة عنيفة على الحكومة بسبب الغارات الجوية التي تقع على مدينة الإسكندرية ويحمل الحكومة المسئولية كاملة على الرغم من أن الوفد حينما عاد إلى الحكم في فبراير سنة 1942 لم يستطع أن يفعل شيئا أمام هذه المسألة بالذات بالرغم من أن القصف قد تضاعف وأصبح عدد الضحايا يعدون بالمئات في اليوم الواحد وهكذا عمل الوفد على الاستفادة من الظروف القائمة بانتهاز الفرص المناسبة التي أوجدتها الحرب ليجعل منها مناورة سياسية تقربه يوما بعد يوم من الحكم .

وفي الوقت الذي أدركت فيه بريطانيا أهمية عودة الوفد كان القصر وأعوانه يقومون بسياستهم المعهودة وهي محاولة النيل من سمعة الحلفاء عن طريق الإشاعات التي كانت تتردد ومنها أن الحرب ما هي إلا مشكلة وقت فقط وأن النصر في جانب المحو لا محالة .

وعلى ما يبدو فقد كان هناك ما يدعو إلى كثرة الإشاعات وتضخميها وخصوصا فيما يتعلق بمعنويات الجيش البريطاني في مصر حيث يذكر أحد المعاصرين قائلا :" لقد كانت قيادة الجيش البريطاني في يد الجنرال ( رئتش) والذي كان يدير المعركة بالتليفون تارة من القاهرة وتارة من الإسكندرية وإلى جواره صديقته المصرية الحسناء) يضيف صاحب هذه الرواية " لقد اشتري أحد الفلاحين في مركز منيا القمح مدفعا رشاشا من الجنود البريطانيين وأن مصطفى أمين كان يسير في الشارع بينما أحد الجنود الهنود يدفع أمامه فردتي " كاوتش" للسيارة وقد عرضهما عليه بدولارين اثنين وأن حسين أو أبو الفتح ذكر أن بعض الضباط البريطانيين أبدي استعداده لأن يورد له أى عدد يشاء من سيارات الجيش البريطاني بسعر مائتي جنيه للسيارة الواحدة .

وعلى الرغم من المبالغة في رواية الرواه إلا أن هذا يعطي مؤشرات أكيدة على أن معنويات الجيش البريطاني كانت هابطة لدرجة كبيرة وخصوصا بعد الانتصارات الكاسحة التي كان يحرزها الألمان على جبهات القتال مما حمل وزير الحربية البريطانية إلى الحضور إلى مصر وقابل معظم الزعماء المصريين واحدا بعد الآخر وخرج من مقابلاته إلى أن الملك فاروق هو سبب كل المشاكل في مصر وبشهادة كل من قابلهم من الزعماء .

ولقد اقتنعت الحكومة البريطانية بنتيجة واحدة وهي – طرد الملك فاروقويضيف السفير البريطاني قائلا : ما دام هذا الغلام جالسا على العرش فإننا لن نلقي تعاونا حقيقيا وسيبقي لدينا الإحساس بأنه متى ساءت الأحوال فإننا سنطعن من الخلف .

وأمام هذا الكم الهائل من المشاكل أبدي حسين سري رئيس الوزراء ) عزمه على الاستقالة حيث أعلن صراحة بأن الموقف يقتض قيام وزارة قومية تضم كل الأحزاب ويرأسها النحاس باشا وأبدي الأحرار الدستوريون موافقتهم تفاديا لأي خطر يمس سيادة البلاد أبدي النحاس باشا موافقته حينما فوتح في الأم بل أنه قبله مسرورا ويضيف إبراهيم عبد الهادي – عضو مجلس الوزراء – أن السفير البريطاني قد فاتح حسين سري بضرورة عودة الوفد وهذا ما يؤكده الدكتور هيكل في مذكراته أيضا .

واضطراب الجو السياسي عرف الناس حقيقة ما يجري وراء الستار وما أسهل إثارة الاضطرابات والمظاهرات في القاهرة والتي تنادي بسقوط الوزارة وشجعت أنباء الحرب وتقدم الألمان في أرض مصر على خلق جو ملائم لعناصر الاضطراب حيث قامت المظاهرات ترفع شعارات عدائية ضد انجلترا وذهب بعضها إلى السفارة البريطانية يسبون الانجليز بألفاظ مهينة – تقدم يا روميل – إلى الأمام يا روميل – ولم يكتفوا بترديدها بالعربية بل كانوا يقولونها بالانجليزية أيضا .

ومن المرجح أن السفير البريطاني لم يكن خالص النية في معالجة تلك الأزمة ويبدو أنه بإصراره على عودة الوفد إلى الحكم كان يرمي إلى رد الاعتبار إلى نفسه في نظر حكومته إذ كان وزير الخارجية مستر " ايدن" قد وجه إليه نوعا من اللوم لفشله في الوساطة بين الوفد والقصر سنة 1937 وهي الأزمة التي انتهت بإقالة النحاس باشا في ديسمبر من نفس العام .

والعجيب أن تقف وزارة حسين سري موقفا سلبيا من المظاهرات التي اندلعت لتشمل القاهرة كلها والحرب قائمة والأحكام العرفية معلنة ولم تحرك ساكنا وكان بإمكانها تفريق هذه المظاهرات وهذا ما لم يحدث مما يجعلنا نشك في أن حسين سري كان ضليعا في مؤامرة اتفق عليها مع الانجليز حتى يبرروا ما هم مقدمون عليه في مساء 4 فبراير وتشير مراسلات السفير البريطاني إلى حكومته أثناء تفاقم تلك المظاهرات إلى رغبة السفير في استغلال الموقف والتدخل في الوقت المناسب بهدف عزل الملك وفرض حكومة الوفد .

ويضيف أحد المعاصرين في محاولة لإلقاء اللوم على الوفد باعتباره كان ضليعا في تلك المظاهرات فيقول : " أن الجماهير التي كانت تهتف إلى الأمام يا روميل انقلبت لتحيي الوزارة الجديدة وتظهر من الابتهاج بولايتها الحكم ما أثار عجب الأجانب وإعجاب السفير لبريطاني والجالية البريطانية بأسرها فقد دلت مظاهرات الابتهاج هذه على أن للوفد من القدرة على توجيه المظاهرات ما مكنه من أن يقلب المأساة عيدا وأن يحول التيار المتدفق المعادي لانجلترا فيجعله بين عشية وضحاها تيارا متدفقا يظاهر انجلترا ويناصرها .

والسؤال الذي يفرض نفسه عند معالجتنا لتلك القضية الهامة لماذا وقع اختيار بريطانيا على الوفد بالذات ؟..

تؤكد كل المصادر الهامة بما فيها زعماء الوفد أنفسهم أن الملك فاروق قد حاول في أواخر حكومة سري الاتصال بالوفد بهدف تأليف وزارة ائتلافية أو قومية يرأسها النحاس وبالفعل فقد أبدي الوفد موافقته على الفكرة ورحب بها فإذ كان القصر يحرص على مبدأ التضامن مع الوفد معني هذا أن كل القوي السياسية في مصر أصبحت موالية للملك فاروق لأن كل أحزاب الأقلية كانت تدور في فلك القصر – من هنا فقد حرصت بريطانيا على فصم كل رابطة بين الوفد والقصر فلا يستطيع الوفد أن يصل إلى الحكم مهما كانت شعبيته إلا بواسطة الانجليز وتضيف الوثائق البريطانية – أن لامبسون قد بذل قدرا كبيرا من الجهد في محاولة لعدم تمكن الوفد من العودة إلى الحكم عن طريق القصر حتى لا يتحول الوفد إلى أداة تدور في فلك القصر مما يضاعف من حجم المشاكل التي تواجهها بريطانيا .

أما بريطانيا فقد كانت تحرص جيدا على عودة الوفد وبطريقتها الخاصة الأمر الذي يعني ارتباط الوفد بها وليس بالقصر ويبدو أن هذه القضية كانت تحكمها عدة اعتبارات استراتيجية هامة من أهمها:-

أولا : الشعبية الكاسحة التي يتمتع بها الوفد بخلاف غيره من الأحزاب الأخرى وهذا يؤهل الوفد للقيام بأدق الأمور وأخطرها اعتقادا بأن أى معارضة لن تكون لها أهمية طالما بقي الوفد في الحكم .

ثانيا : أن التدخل البريطاني بهدف فرض حكومة وفدية سيقطع خط الرجعة بين القصر والوفد وهو ما تحرص عليه بريطانيا وفقا لمخططها الاستراتيجي.

ثالثا : أن اختيار الوفد صاحب الأغلبية الكاسحة لتمثيل الدور الذي أعدته بريطانيا لتنقذه في 4 فبراير لم يكن بهدف المصلحة العامة للوفد بقدر ما كانت تهدف إليه بريطانيا من أن هذا الموقف سيكون بداية النهاية الشعبية الكبيرة التي يحظي بها الوفد وهذا ما تحقق بالفعل .

رابعا : لقد كان هذا الاختيار – ومن وجهة النظر البريطانية تدعيما لفكرة الديمقراطية حيث أن عودة الوفد أمر تقره الديمقراطيات التي تحارب بريطانيا من أجلها كما أن هذا التصرف سيحظي بتأييد حلفاء بريطانيا الذين يحاربون دفاعا عن الديمقراطية .

وهكذا تجمعت العديد من الأسباب لتخلق ما يسمي بحادث 4 فبراير سنة 1942م.

قطع العلاقات المصرية مع حكومة فيشي

لم تعد حكومة حسين سري موضع ثقة الملك فاروق بسبب أزمة حكومة فيشي فقد طلبت بريطانيا من حسين سري قطع علاقات مصر بحكومة فيشي التي قامت أثر انهيار الجمهورية الفرنسية الثالثة وتقسيم فرنسا إلى شطرين شطر احتله الألمان وفيه باريس وشطر يخضع لحكومة بيتان وعاصمة فيشي وكان طبيعيا أن تكون حكومة فيشي موالية للمحور وعلى أثر ذلك انقسم الفرنسيون إلى فريقين جماعة ديجول الذي فر إلى لندن ليقود حركة " فرنسا الحرة , وجماعة فرنسية أخري مؤيدة لحكومة فيشي وتتبعها سلطات فرنسية في بعض مناطق الشرق العربي سوريا ولبنان – وفي 6 يناير 1942 أقدمت وزارة حسين سري على قطع العلاقات مع حكومة فيشي بناء على طلب تقدم به السفير البريطاني ولقد ترتب على تعيين الجنرال " كاترو" " مندوبا عاما للجنرال " ديجول" في أواخر نوفمبر سنة 1940 قيام تمثيليين متناقضين لفرنسا في مصر أحدهما يرأسه جان بوتسي يمثل حكومة فيشي المتعاونة مع ألمانيا وكان على صلة وثيقة بدوائر القصر والآخر يرأسها " كاتور " ويمثل ديجول وتسانده الحكومة البريطانية ومن ثم كان من الطبيعي أن تضغط بريطانيا على حكومة حسين سري لقطع العلاقات لمصرية مع حكومة فيشي .

وبناء على رغبة الحكومة البريطانية فقد اجتمع مجلس الوزراء المصري في 5 يناير سنة 1942 لمناقشة قطع العلاقات مع فيشي واعترض مصطفى عبد الرازق من الدراسة على اعتبار أن أهمية الموضوع تقتضي مزيدا من التأني أما الدكتور هيكل وزير المعارف فقد طلب التريث حرصا على مستقبل الطلاب المصريين الذين يدرسون في فرنسا إلا أن رئيس الوزراء أصر على طرح الموضوع للتصويت ويصف الدكتور هيكل الموقف بقوله " لقد تولتني الدهشة حين رأيت جميع الوزراء يوافقون على قطع لعلاقات مع فيشي وقد امتنعت وامتنع مصطفى عبد الرازق عن التصويت .

ومن الواضح أن رئيس الوزراء قد أقدم على هذه الخطوة باتفاق مع السفير البريطاني وباتفاق سابق أيضا مع غالبية أعضاء مجلس الوزراء ولذا فقد أحدث هذا القرار دويا هائلا واندلعت الأزمة لأن القرار السابق قد اتخذ في غيبة الملك فاروق الذي كان يقوم برحلة على ساحل البحر الأحمر وما أن عاد حتي سعي علي ماهر ورجاله إلى تصوير الموقف له على اعتبار أن الوزارة قد تجاوزت اختصاصها وتعدت على حقوق الملك التي اقرها الدستور والقانون باعتبار أن السفير هو نائب الملك الأمر الذي دعا الملك فاروق إلى استدعاء رئيس الوزراء ووزير الخارجية ( صليب سامي ) وعنفهما تعنيفا شديدا وفي اليوم الثاني صدرت الأوامر لوزير الخارجية بأن يلزم داره .

ويلاحظ أن ما أقدمت عليه الحكومة يعد تجاوزا خطيرا في العلاقات مع القصر وخصوصا وأن التقاليد المتبعة كانت تقضي بأن يرسل إلى القصر صورة من الموضوعات التي ستعرض على مجلس الوزراء قبل انعقاده بوقت كاف إلا أن هذا الموضوع الخطير قد اسقط من " الرول " الذي أرسل إلى القصر وهذا يؤكد تواطؤ حسين سري مع الانجليز في هذا الأمر في وقت كانت فيه الحكومة تترنح من الأزمات الاقتصادية الخطيرة التي وصلت إلى حد أن الناس كانوا يختطفون الخبز في الشوارع وعجزت الحكومة عن وضع حلول سريعة لكثير من المشاكل التي بدت وكأنها معقدة ثم ما كان من الهجمات التي يشنها الوفديون وأحزاب الأقلية ضد لوزارة فلم يكن من المعقول والموقف هكذا أن تقدم الحكومة على اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة إلا إذا كان هناك اتفاق مبيت بين سري باشا والسفير البريطاني على اعتبار أن هذا الموضوع سيكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وأنه سيعجل بالمواجهة المباشرة بين السفير والملك فاروق وتصفية كافة الحسابات القديمة .

ويعلق أحد أعضاء مجلس الوزراء بقوله : لم أتوقع أن يكون لهذا القرار من الآثار العميقة والبعيدة بعض ما حدث ولم يخف على أحد أن انجلترا هي التي أصرت عليه .

وعقب عودة الملك من رحلته في الصحراء والبحر الأحمر – بعد ثلاثة أيام – إذ نشرت الصحف أن صليب سامي وزير الخارجية اعتكف في منزله لوعكة صحية .

ولا غرابة أن يكون الموضوع الرئيسي في الصحف المصرية في تلك الأيام هو قطع العلاقات مع فرنسا نظرا للعلاقات الثقافية الوطيدة التي كانت تربط مصر بفرنسا ولقد أحدث هذا الموقف دويا داخل البرلمان المصري حيث تقدم عدد كبير من أعضاء مجلس النواب باستجوابات إلى الحكومة تحمل نوعا من الاستنكار الشديد وعجزت الحكومة المصرية عن إيجاد رد مقنع لتساؤلات الأعضاء مما دعا وزير الخارجية إلى تأجيل مناقشة الموضوع بعد أسبوعين أو ثلاثة مما دفع بعض الأعضاء إلى القول :" أنا لا أفهم معني لتأجيل الإجابة فهل عندما أوقفت العلاقات فعلا وصدر قرار الحكومة بذلك لم تكن قد تجمعت لدي الجهات المسئولة أسباب الوقف "

ونظرا لأن قرار الحكومة قد قوبل بموجة من الاستنكار داخل مجلس النواب فقد اقترح وزير الخارجية – صليب سامي – أن يناقش الموضوع أمام لجنة الشئون الخارجية باعتبارها جهة الاختصاص في الأمر وقد قوبل هذا الرأي بعاصفة من الرفض على اعتبار أن هذا يعد تقليدا جديدا في الحياة البرلمانية المصرية. ووفقا لمحاضر مجلسي النواب والشيوخ فإن تأجيل أحد الاستجوابات قد يكون بسبب حاجة الحكومة إلى بعض بيانات يطلبها المجلس أو غيرها من المعلومات التي يصعب على الحكومة الإجابة عنها في الحال أما الموقف هذه المرة والحكومة تعلم كل الظروف والملابسات التي دعت إلى قطع لعلاقات مع فيشي ولذا يمكننا القول : أن موقف صليب سامي وزير - الخارجية – كان نوعا من المراوغة والاستفادة بعامل الوقت حتى يتأكد من مصير الوزارة التي بدا مؤكدا أنها على وشك الاستقالة .

وعلى الرغم مما لجأت إليه الحكومة من إصدار بيان في 8 يناير سنة 1941 ذكرت فيه : أن الحكومة البريطانية تلقت أنباء خطيرة دفعتها إلى المطالبة باتخاذ قرار سريع من الحكومة المصرية حول هذا الموضوع إلا أن وقع هذا القرار على المصريين كان سيئا نظرا للعلاقات التاريخية التي تربط مصر بفرنسا ولأن غالبية الساسة المصريين كان سيئا نظرا للعلاقات التاريخية التي تربط مصر بفرنسا ولأن غالبية الساسة المصريين كانوا متشبعين بالثقافة الفرنسية ولذا فإننا نرجع عدم موافقة الدكتور هيكل لهذا السبب وكذلك كان لبوتسي الوزير المفوض من قبل حكومة فيتشي – والذي كان يمثل الجمهورية الفرنسية الثالثة قبل سقوطها – صلات واسعة جدا بالساسة المصريين وصلات اجتماعية بالارستقراطية المصرية كما كان مقربا إلى حد بعيد من فاروق .

وعرف البريطانيون ما حدث مع وزير الخارجية – صليب سامي – واعتبروه عملا غير ودي وأبلغوا رأيهم إلى سري باشا الذي شعر بجسامة التبعة الملقاة على عاتقه وتذكر ما حدث من قبل لشاه إيران رضا بهلوي وخشي أن تفاجأ مصر بمثل هذه المفاجأة التعسفية وهو رئيس وزرائها ولقد أفضي سري باشا بكل هذه المخاوف إلى الملك وأشار عليه بقبول الأمر الواقع إلا أن الملك قد تمسك بموقفه من ضرورة إقالة صليب سامي وبينما كان حسين سري ير ي أن إقالة وزير الخارجية بسبب قرار مسئول عنه هو أيضا لابد وأن يصاحبه استقالة الوزارة والسفارة البريطانية تري أن إجراء قد اتخذ بناء على طلبها لا يجز تحديه من جانب القصر على اعتبار أن استقالة الوزارة لهذا السبب سيدفع الانجليز مباشرة إلى المواجهة الفعلية مع الملك فاروق باعتبارهم طرفا من أطراف الأزمة .

وفي محاولة من بريطانيا لاستثمار الموقف بهدف حسم الصراع الدائر بين القصر والانجليز فقد بالغ الانجليز في طلباتهم من حيث طرد جميع الايطاليين الذين يعملون في القصر وكل أذناب علي ماهر.

وأمام استعمال العصا الغليظة فقد تراجع الملك فاروق وطلب من أحمد حسنين ( رئيس الديوان ) التوسط لدي البريطانيين حتى يتنازلوا عن مطالبهم بشأن استعداد من طلبوا استبعاده من القصر مقابل أن يبقي وزير الخارجية في منصبه وبينما الأزمة في طريقها إلى الانتهاء إذا بقوات روميل قد نجحت في إحراز انتصار كبير في الصحراء الغربية وتقدمت صوب مصر وبدأ أن القوات الألمانية لن يعوقها عائق أمام هدفها الكبير وهو سحق القوات البريطانية واحتلال مصر ومن هنا فقد اضطربت الحياة في مصر وانطلقت المظاهرات تنادي نداءات عدائية ضد الانجليز من القاهرة امتدت لتشمل باقي المدن الكبرى كالإسكندرية وطنطا وغيرهم وفي الوقت نفسه انفتح باب الأمل أمام الانجليز حيث أعلن هتلر قراره الذي أحدث دويا عالميا وهو إعلان الحرب على روسيا .

وقد ابتهج الحلفاء حيث أن فتح جبهة جديدة تحارب فيها ألمانيا من شأنه أن يخفف الضغط على قوات انجلترا وفرنسا في مصر ولذا فإنني اعتقد أن القرار الألماني بغزو الاتحاد السوفيتي يعد المقدمات المباشرة لحادث 4 فبراير 1942 فلقد كان قطاع كبير من المصريين ومن ورائهم القصر يعتقدون أن هزيمة السوفيت ستؤدي إلى اضطراب موقف بريطانيا كله في الشرق الأوسط وسينتهي بانسحابها تماما من المنطقة .

إلا أن الانتصارات الكاسحة التي أحرزها السوفيت قد أثارت قلقا كبيرا خشية انتصار التحالف السوفيتي الانجليزي لذلك لم يكن غريبا أن يعلن إسماعيل صدقي باشا أن ايطاليا تهاجم مصر لا بقصد غزوها ولكن لأن بريطانيا تحتلها وهكذا اندفعت مصر لكي تكون جزءا من الصراع الدائر بين القوي الكبرى في الوقت الذي كان الألمان ينتصرون في الجبهة السوفيتية كما تضاعفت قوة الألمان في ليبيا وكذلك دخول اليابان الحرب في ديسمبر 1941 بهجومهم المفاجئ على بيرل هاربر كل هذه الانتصارات من جانب المحور دفعت بريطانيا لكي تجعل من مصر " القاعدة الرئيسية " في الموقف وهذا لن يتحقق ما بقي القصر يلعب بمشاعر الحلفاء وعلى الرغم من أن جذور الصراع بين القصر والانجليز يمتد لسنوات طويلة إلا أن تردي الأوضاع العسكرية لقوات الحلفاء وعلى كل الجبهات قد دفع بريطانيا إلى الموقف الذي يمثل مصالحها الفعلية على اعتبار أن عودة الوفد وخلع فاروق كفيلان باستقرار الأوضاع المصرية وأيقن سري باشا أن لا مفر من أن يستقيل بعد أن فقد ثقة البرلمان وثقة فاروق أيضا كما أن الانجليز أنفسهم على الرغم من صداقتهم لسري باشا إلا أنهم قد أيقنوا جيدا أن حكومة سري قد أصبحت عاجزة تماما عن مواجهة الموقف .

والحقيقة أن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الملك فاروق كان يهدف إلى بقاء الموقف برمته كما هو نظرا للظروف العسكرية غير المرجحة لكنه الحلفاء في الصحراء الغربية حتى إذا ما تمكن روميل من أن يخترق وادي النيل فإن فاروقا يمكنه الاحتفاظ بعلي ماهر لكي يتولي رئاسة الحكومة ويكون قادرا على التافهم مع المحور بعكس أى شخص آخر نظرا لما عرف عن علي ماهر من خلافات مستمرة مع الانجليز لم تكن خافية على الألمان أو الايطاليين .

وهكذا تفاقمت الأزمة وتعددت أسبابها في الوقت الذي يقوم فيه لامبسون بتسجيل كل الأحداث أولا بأول ويبعث بها إلى حكومته ونظرا لتصاعد الموقف بشكل ينذر بالمخاطر فقد طلب من حكومته أن تعطيه تفويضا كاملا لحسم الموقف مع الملك فاروق وأدرك أحمد حسنين رئيس الديوان الملكي ) خطورة الموقف وفي محاولة منه لتهدئة المشاعر الملتهبة تقديرا لما يحيق بالعرش من أخطار فقد حاول إقناع لامبسون بترك وزير الخارجية " صليب سامي " يخرج من الوزارة من أجل الصالح العام ويحاول إقناع السفير بأن مصر كلها وراء الملك الذي يحظي بشعبية كبيرة إلا أن السفير يرفض التضحية بوزير الخارجية بسبب إجراء قام به تنفيذا لقرار من مجلس الوزراء المصري وبناء على طلب من بريطانيا ولهذا أعلن السفير : أننا سنقف وراء صليب سامي حتى ولو تخلي عنه رئيس الوزراء .

وهكذا تجمعت العديد من الأسباب التي دفعت حسين سري إلى تقديم استقالته . ووفقا للوثائق البريطانية فإن لامبسون قد أدرك أهمية استقالة سري باشا ويعلق لامبسون على هذا لموقف قائلا : " لقد طلبت من سري باشا أن يرشح بعض الأسماء التي تصلح لمنصب رئيس الحكومة إلا أنه اقترح أسماء مثل : بركات باشا أحمد ماهر باشا أو الدكتور هيكل باشا إلا أنني أعرف أن هذه الأسماء غير مناسبة لسبب أو لأخر ولذا فإن عودة الوفد أصبحت ضرورة تحتمها مصالحنا العليا .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى مسئولية حسين سري عن تازم الموقف بين فاروق والسفير البريطاني ففي الوقت الذي كانت تبذل فيه العديد من المحاولات لحل مشكلة " فيشي" كان رئيس الوزراء المصري يقوم بمحاولات مكثفة لدفع بريطانيا إلى تأديب الملك فاروق وتضيف نفس المصادر " لقد حاولنا إقناع السفارة البريطانية بخطورة المضي في هذا الطريق الذي يتناقض تماما مع مشاعر المصريين ولكنه يبدو أننا لم نحقق أى هدف ووفقا لهذه الحقيقة فإن الوثائق البريطانية تؤكد أن حسين سري كان على علم بتطور الأحداث ولم يخف كراهيته الشديدة لفاروق وكان من رأيه دائما – تأديب الولد – الذي يلعب بالنار على حد تعبيره .

ولما كان لامبسون قد بعث إلى حكومته يطلب تفويضا في حسم الموقف فقد وافقت الحكومة البريطانية على تطور الأحداث أولا بأول وتمضي رسائل لامبسون إلى حكومته حول أهمية عودة الوفد وفي احدي البرقيات يقول السفير : " قابلت حسنين باشا وقال : إن هناك محاولات تجري لتشكيل وزارة قومية ولما كان هناك خطر واضح من أن نواجه بوزارة يرأسها مرشح ل]]علي ماهر[[ فلقد عقدت اجتماعا لمناقشة الموقف برمته وحضره وزير الدولة لشئون الشرق الأوسط والقائد العام للجيوش البريطانية في المنطقة وتردد بوضوح في هذا الاجتماع أن الأزمة الحالية قد أيدت بواسطة العناصر المعادية لبريطانيا لاستغلال مصاعبنا الحالية في الشرق الأقصى وفي ليبيا وأننا إذا أخفقنا في إظهار الشدة فقد تحدث مخاطر أخري وأوضح القائد العام للشرق الأوسط أنه يفضل تجنب حدوث مواقف قد تؤدي إلى اضطرابات عامة وقد يتحرك الجيش المصري لحماية الملك وقد قمت من جانبي بالرد على هذه لمخاوف بحكم معرفتي بالأحوال العامة .. وتم الاتفاق على أن أقابل الملك فاروق في الواحدة بعد ظهر اليوم ( 2 فبراير 1942) وأبلغه بالأتي :

1- يجب أن تقوم وزارة تحرص على الولاء للمعاهدة وتقدر على تنفيذها نصا وروحا .

2- أن تكون وزارة قوية وقادرة على الحكم وتحظي بتأييد شعبي كافي .

3- أن هذا يعني الإرسال في طلب النحاس باشا بصفته زعيما لحزب الأغلبية والتشاور معه بقصد تشكيل الوزارة .

4- يجب أن يتم ذلك في موعدا أقصاه ظهر غد.

5- أن الملك سيكون مسئولا بصفته الشخصية عن أى اضطرابات قد تحدث خلال ذلك .

وفي خلال الواحدة من بعد ظهر 2 فبراير 1942 توجه لامبسون إلى الملك فاروق وشرح له أنه بصفته ممثلا للحلفاء في مصر فمن الضروري ألا يعين خلفا لسري باشا لا تكون له المؤهلات المشروطة للوفاء بالتزامات المعاهدة ووافق الملك على عودة النحاس باشا ليتولي وزارة قومية باعتباره زعيما للأغلبية وبخصوص الاضطرابات داخل العاصمة فقد أظهر الملك موافقته على عدم أحدا ث أى نوع من التظاهر وأكد السفير أن غدا - 3 فبراير – هو آخر موعد لدعوة النحاس باشا .

ولعل وجهة نظر الملك فاروق والتي أبداها دون تحفظ هو استدعاء النحاس لتشكيل وزارة قومية حيث كان الملك يعتقد أن النحاس لن يرفض هذا العرض على أساس التحسن الذي كان قد بدأ في العلاقات بينهما .

وأعتقد بعض رجالات القصر ( أحمد حسنين ) بضرورة التمهيد لتأليف هذه الوزارة القومية انتقالية على أساس أن الوفد سيكتسح كل الأحزاب الأخرى في الانتخابات مما قد يترتب عليه عدم قيام معارضة قوية بمثابة " فرملة " متي تشكلت الوزارة في آخر الأمر .

وبينما كانت الاتصالات قائمة بين القصر والسفير البريطاني بخصوص عودة الوفد كانت نفس الاتصالات قائمة بين السفارة البريطانية والنحاس باشا بواسطة أمين عثمان لنفس الهدف مع فاروق بسيط وهو أن الانجليز عرضوا على النحاس تشكيل وزارة وفدية خالصة وأصبح الوفد أمام خيارين أما أن يقبل حكومة قومية وفقا لرغبة القصير أو يقبل حكومة وفدية لحما ودما وفقا لرغبة الانجليز واختار النحاس وجهة النظر البريطانية التي كلفت مصر ثمنا غاليا من استقلالها وكرامتها وكلفت الوفد نفسه ثمنا باهظا من شعبيته وتاريخه الوطني الطويل .

وبني الوفد رفضه لفكرة الوزارة القومية أو الائتلافية على عدة اعتبارات :

أولها : أن الشعب المصري قد فقد ثقته في حكومات الأقلية وإذا قبل الوفد الارتباط بهذه الحكومات فسوف يفقد ثقة الشغب.

ثانيهما : ما كان يعرفه الوفد جيدا من الدسائس التي سيحدثها القصر ومدي ما يمكن أن يقدم عليه من إقالة الحكومة بحجة تصدع الائتلاف .

ولذا فقد فرضت وجهة النظر البريطانية نفسها على الأحداث وأعطت بريطانيا لنفسها الحق في تنفيذها بقوة السلاح وتحولت القضية إلى تصفية حسابات قديمة بين القصر والسفارة حيث اعتبرت بريطانيا أن إقامة حكومة قومية يعد انتصارا لصالح القصر وهذا ما ترفضه بريطانيا تماما .

ويلاحظ أن الملك فاروق كان تحريضا على تجاوز هذه الأزمة وعدم الاصطدام مع الانجليز أكثر من ذلك إلا أن السفير قد اعتبرها فرصته التي يستطيع من خلالها أن يحجم من دور القصر حتى لا يعاود أعماله العدوانية ضد بريطانيا مرة أخري حتى لو كان الثمن هو عزل الملك نهائيا وفي الوقت نفسه فإن عودة الوفد بهذا الشكل يحمل بعض الاعتبارات التي حرصت بريطانيا على إقراراها ومن بينها :

أولا : ضمان عدم قيام أى نوع من التعاون بين القصر والوفد مما يضاعف من حجم التدخل البريطاني .

ثانيا : إطلاق يد الوفد في كبح جماح القصر إذا ما ثبت أنه غير متعاون مع الحليفة .

ثالثا: لقد حرصت بريطانيا على أن يتعهد النحاس باشا بأن يقف مع الحليفة وأن يرجئ كل مطالبة إلى ما بعد الحرب .

وهكذا تفاقمت عوامل الصراع بين القصر والانجليز في الوقت الذي تمكنت فيه الدسائس البريطانية من استقطاب حزب الوفد سواء بقصد أو بغير قصد وقبل أن ننتهي من هذا الفصل يمكننا أن نسجل عدة نتائج يمكن استخلاصها من الدراسة السابقة وتعتبر جميعها تمهيدا لحادث 4 فبراير 1942:-

أولا : انعدام الثقة بين بريطانيا والملك فاروق وهذا ما أشارت الوثائق البريطانية في أكثر من وضع .

ثانيا : تأسيسا على الحقيقة الأولي فقد رغبت بريطانيا من خلال أحداث الحرب في التخلص من فاروق على اعتبار أن مصر لن تتحول إلى قاعدة أساسية لخدمة الحلفاء ما دام الملك على عرشه .

ثالثا : لقد أدركت بريطانيا ضعف حكومات أحزاب الأقلية التي تعاقبت على الحكم منذ إقالة الوفد سنة 1973 على الرغم من تعاونها الكامل إلا أنها افتقدت دائما إلى قاعدة شعبية وظل مركزها دائما ضعيفا على اعتبار أن حكومة لا تملك التأييد الشعبي لن تستطيع أن تحكم بروح المعاهدة المصرية الانجليزية اعتمادا على الحقيقة القائلة بأن أى جهد يبذل في هذا السبيل لابد وأن يصدم بمعارضة القصر ولن تتمكن أى حكومة بدون التأييد الشعبي أن تحارب القصر .

رابعا : إن أحدي عناصر الصراع بين الانجليز والقصر كان قائما على أساس أيهما يستطيع أن يتضامن مع الوفد وبدت القضية وكنها تسابق مع الزمن وكلما تفاقم الوضع العسكري لبريطانيا كلما ضاعفت من جهودها لعودة الوفد وعلى ضوء الدراسة السابقة فإن قضية عودة الوفد كانت تمثل المطلب الأول في العلاقات المصرية البريطانية منذ نشوب الحرب العالمية الثانية .

وهكذا تجمعت العديد من الأسباب لتخلق في النهاية مأساة 4 فبراير 1942 والتي تركت أثارا كبيرة على تاريخ مصر السياسي والاقتصادي ليس فقط إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وإنما إلى قيام ثورة 23 يوليو 1952م.

الفصل الثاني : وقائع 4 فبراير

شكل التدخل البريطاني

فكرت بريطانيا في عزل الملك فاروق أكثر من مرة كان أولها سنة 1937 (ديسمبر) حين أقدم على إقالة حكومة الوفد دون أخذ رأي السفير البريطاني وكان الأخير قد بذل جهدا في محاولة الإقناع فاروق بعدم على مثل ذلك التصرفات التي تناقض مبدأ الديمقراطية على اعتبار أن حزب الوفد هو القوة السياسية التي تحظي بالأغلبية البرلمانية وكان فشل السفير في تلك المهمة موضع لوم من حكومته وقد ترددت في تلك الأزمة فكرة تنحية الملك فاروق عن عرش مصر ولكن انطوني أيدن وزير خارجية بريطانيا لم يوافق على تلك الفكرة بحجة أن الظروف الدولية لا تشجع على الإقدام على مثل هذا النوع من التدخل .

ثم تجددت نفس الفكرة في سبتمبر 1939 حين تأكد السفير ( طبقا لما يقوله) أن هناك عناصر في القصر تميل نحو الألمان وأن الملك فاروق يشجع هذا الاتجاه وأن مصلحة الحرب تقتضي بإخراج علي ماهر من الحكم فإذا عارض فاروق وجب أن يعتزل العرش ثم عادت الأزمة مرة أخري إلى الظهور في يونيه 1940 حين دخلت ايطاليا الحرب ويومئذ اقترح السفير على حكومته تغيير الوزارة فإن عارض الملك فعليه أن يتخلي عن العرش ووجه السفير إنذارا إلى الملك بضرورة استدعاء النحاس والعمل بمشورته ووافقت حكومة لندن على تنازل فاروق عن العرش بقاء على اقتراحات لامبسون أن فاروق قد أحس بخطورة الموقف بناء على نصائح كبار مستشاريه واستدعي النحاس باشا لكن ليس من أجل عودة الوفد وإنما لكي يشاوره في الموقف عموما وأخذ الترضية المناسبة على حكومة حسن صبري وقد أشار السفير البريطاني في نهاية تقييمه للأزمة بقوله " قد تخرج من الأزمة الحالية دون حاجة إلى تغيير الملك ولكني أشك كثيرا في أنه سيبقي طويلا .

وهكذا فإن التفكير في عزل فاروق وفرض وزارة مصرية معينة وزعيم مصري معين ليتولي الحكم كان موضع تفكير واهتمام دائمين من جانب لحكومة البريطانية ومن ثم يمكن القول أن حادث 4 فبراير 1942 لم يكن نتيجة قرار سياسة اتخذت فجأة وتحت ضغط الأحداث الخطيرة وإنما كان الفصل الأخير أو الخاتمة لساسة مر سومة كان قد بدأ تنفيذها وهكذا تحققت مشورة لامبسون والتي تقدم بها إلى حكومته في يونيه سنة 1940 وهي أن تتولي الحكم وزارة يؤيدها الوفد وكان الاعتقاد السائد – كما يقول بعض المعاصرين – أن الدوائر البريطانية تري أن النحاس باشا هو وحده الزعيم الشعبي القادر على تحويل الدفة – دفة عواطف الشعب – من الاتجاه إلى ألمانيا إلى الاتجاه نحو بريطانيا وحلفائها وتعد استقالة حسين سري – 2 فبراير 1942 – والتي قدمها بناء على طلب بريطانيا من بداية لمرحلة خطيرة وفاضلة في تاريخ مصر السياسي حيث اتصل السفير البريطاني ( لامبسون ) برئيس الديوان الملكي ( أحمد باشا حسنين) وابلغه أن الحكومة البريطانية تحرص على أن تعرف اسم من سيعهد إليه بتأليف الوزارة الجديدة قبل إعلانها وعلى الرغم من أن رئيس الديوان أجاب بأن الشخص الذي يؤلف الوزارة سيكون صديقا لبريطانيا إلا أن السفير قد أكد على أن الحكومة البريطانية حريصة على أن تعرف سلفا من سيعهد إليه بتأليف الوزارة قبل أن يكلف بهذا التأليف رسميا .

ومن الواضح أن لامبسون قد حرص هذه المرة على أن يمسك بزمام المبادرة حتى لا يفاجأ حكومة لا تتفق ومصالح بريطانيا كما حدث من قبل سواء في تعيين علي ماهر ( 18 أغسطس 1939 ) أو حسن صبري ( 27 يونيه سنة 1940 ) أو حسين سري ( 15 نوفمبر 1940 ) حيث فوجئ السفير في كل تلك الحالات دون أن يكون له الرأي الأول في هذا الاختيار ولما كان موقف بريطانيا العسكري قد وصل إلى درجة كبيرة من السؤل أمام الانتصارات الساحقة التي تحرزها القوات الألمانية ولما كانت مشاعر المصريين قد بدأت تميل نحو الجانب المنتصر في الحرب فإن لامبسون قد أدرك خطورة المواقف هذه المرة ومن هنا فقد حرص جيدا على أن يكون في حالة من التيقظ الدائم حتى لا يفاجأ بغير ما يتوقع وانطلاقا من هذا المفهوم فقد تقدم إلى الملك في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم2 فبراير بمجموعة من الطلبات حددها في ثلاث نقاط :

أولا : أن الشخص الذي سيعهد إليه بتأليف الوزارة يجب أن تتوافر فيه المؤهلات المطلوبة للوفاء بالتزامات بريطانيا العظمي فترة الحرب .

ثانيا : أن هذا يعني دعوة النحاس باشا بوصفه زعيما لحزب الأغلبية في البلاد والتشاور معه بقصد تشكيل الوزارة على أن يتم ذلك في موعد أقصاه ظهر غد ( 3 فبراير )

ثالثا: أن الملك فاروق شخصيا سيكون مسئولا عن أى اضطرابات قد تحدث خلال تلك المدة وعلى الرغم مما بذله أحمد حسنين ( رئيس الديوان ) من محاولات لإقناع لامبسون بأن عودة الوفد بمثل هذه السرعة يؤدي إلى عدم قيام معارضة قوية من الأحزاب الأخرى وفي نفس الوقت فقد وعد حسنين باشا باستبعاد العناصر المرتبطة بعلي ماهر من الحكومة المؤقتة ( المقترحة ) وخروجا من هذا الموقف وافق السفير بشرط استدعاء النحاس وضرورة موافقته باعتباره ممثلا لأغلبية في البلاد .

وتحرك لامسون مخاطبا حكومته في نفس اليوم ( 2 فبراير ) ليصف لها الخطة لتي بحثها واقرها كل من وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط ( وليفر ليلتون) وقائد القوات البريطانية في مصر للتعامل مع فاروق إذ ما رفض طلبات انجلترا على اعتبار أن هذا الموقف تفسره المادة الخامسة من معاهدة 1936

ووفقا لما أقره مجلس الحرب البريطاني فقد وضعت خطة عسكرية تضمنت محاصرة قصر عابدين بالدبابات ومقاومة الحرس الملكي فيما لو اضطر لاستخدام القوة وعلى ضوء هذا الإجراء يتقدم السفير مطالبا فاروق باعتزال العرش وإذا رفض يكفي بإبلاغه بأنه قد خلع عن عرش مصر ثم دعوة الأمير محمد على لكي يتولي مهام الملك فاروق وإذا ما رفض الأمير محمد على فإن بريطانيا ستحكم مصر عسكريا بمقتضي الأحكام العرفية حتى تستقر الأمور بقبول احد الأمراء ولاية العرش أو بإعداد نظام آخر .

وعلى ما يبدو فإن مجلس الحرب البريطاني قد واجه مشكلة حيث لا يوجد نص في الدستور بخصوص خلع الملك وعلى حد تعبير لامبسون " مهما حاولنا أن نظهر كحماة الدستور بينما نخرقه بالقوة فإن ذلك يقود إلى المتاعب وعلينا أن نضع ملكا جديدا على العرش ونصر على أن يعلن أن ما جرى كان دستوريا " وفي نفس الوقت فقد وافق مجلس الحرب على عدم عزل فاروق إذا ما وافق على دعوة النحاس فورا.

وتشير الوثائق البريطانية إلى أن قضية عزل فاروق قد شغلت حيزا كبيرا من اجتماعات وزارة الحرب البريطانية في الوقت الذي كان الموقف يقتضي قدرا كبيرا من السرعة والحسم معا لذا فقد وافق مجلس الوزراء البريطاني على تفويض المستر ايدن وزير الخارجية لمعالجة الموقف على ضوء ما يراه السفير البريطاني في القاهرة .

ويري بعض المعاصرين أن النحاس باشا قد فوتح في فكرة تأليف الوزارة القومية والتي تضم كل الأحزاب وقبل الفكرة بل ورحب بها إلا أن الانجليز قد أرسلوا رسولا إلى النحاس باشا وكان يمضي أياما في الأقصر يطلبون إليه أن يتولي الوزارة ويتركون له الحرية المطلقة في تأليفها . أما قد خوطب النحاس من قبل القصر في تأليف وزارة قومية فقد أصبح الخيار له بين قبول هذا العرض المصري وبين هذه الحرية التي تركها له الانجليز .

إنصافا للحقيقة التاريخية فإننا نعتقد أن الوفد قد قبل من قبل وفي مناسبات مختلفة قيام وزارة قوية بشرط أن يحل مجلس النواب وتجري انتخابات جديدة ووفقا لرأي النحاس فليس من الممكن أن يتعاون الوفد مع مجلس غالبيته من أحزاب الأقلية ولقد طرحت احدي صحف الوفد هذه الفكرة بقولها : ( أن الوفديين على أتم استعدادات لعقد اتفاق مع الأحزاب الأخرى لإجراء انتخابات هادئة أما إذا كان إجراء الانتخابات متعذر فهم في هذه الحالة يقبلون أن تحكم الوزارة القومية بدون برلمان إلى أن يحين الوقت المناسب لإجراء الانتخابات وأضافت نفس الصحيفة على لسان النحاس باشا : أننا نرحب بالوحدة على أن يكون أساسها أن لا تتحكم الأغلبية في الأقلية وإلا تتحكم الأقلية في الأغلبية وأن تحقيق الوحدة يتم بطرقتين أحدهما تأليف وزارة محايدة والأخرى تأليف وزارة قومية وأنه يجب في الحالتين حل مجلس النواب .

وفي إطار المساعي التي بذلت لإيجاد نوع من المصالحة بين القص والوفد فقد أعلن النحاس صراحة بأنه موافق على قبول وزارة محايدة تقوم بإجراء انتخابات نزيهة .

وهكذا فقد وافق النحاس على قيام حكومة يترأسها بنفسه سواء كانت حكومة قومية أو إدارية وفي كلتا الحالتين فإن إجراء الانتخابات يعد أمرا استراتيجيا يتفق تماما مع سياسة الوفد على اعتبار أنه الحزب الذي يخطي بالأغلبية التي تمكنه من الوصول إلى الحكم وفي هذه الحالة فإنه ليس لأحد الفضل في عودة الوفد مما يمكنه لبلا شك من الحفاظ على استقلاله سواء من جانب القصر أومن جانب الانجليز .

وانطلاقا من هذا المفهوم فقد استدعي الملك رؤساء الأحزاب والشخصيات العامة بما فيهم النحاس باشا والذي كان في رحلة إلى الصعيد وتم استدعاؤه على عجل وفي محاولة من الملك فاروق لحسم الموقف فقد عرض على النحاس أن يترأس حكومة قومية إلا أنه رفض رفضا قاطعا متذرعا بعدم وجود أى نوع من التفاهم مع أحزاب الأقلية .

وهكذا تعقد الموقف فقد كان الملك فاروق حريصا على أن لا يترك للوفد من الحرية إلا بالقدر الذي يمكن الملك من توجيه السياسة العامة للدولة وهذا لن يتحقق إلا باشتراك أحزاب الأقلية الموالية للقصر والحريصة على إرضائه حتى ولو كان الثمن هو توسيع سلطاته على حساب الوزارة .

ولما كان اجتماع فاروق بالزعماء السياسيين قد انتهي إلى لا شئ فقد طلب السفير البريطاني مقابلة عاجلة مع رئيس الديوان الملكي ( أحمد حسنين ) وأخبره بأن يرفع إلى الملك النصيحة بأن يكلف النحاس باشا بتأليف وزارة وفدية لأن بريطانيا ترغب في ذلك .

وعلى ما يبدو فإن السفير البريطاني قد تمسك بفكرة الوزارة الوفدية بعد أن استطلع وجهة نظر كل من حسين سري ( رئيس الوزارة الأسبق ) والنحاس باشا على اعتبار أن تشكيل حكومة انتقالية يعد مضيعة للوقت وفرصة لتآمر القصر وأن الموقف السياسي والاقتصادي غاية في السوء وأن أعضاء الائتلاف سيكونون من رجال الملك وأن النحاس لن يستطيع أن يكون مخلصا لقضية الديمقراطية التي تحارب بريطانيا من أجلها إلا إذا أطلقت يده تماما في التعامل مع القصر وهذا لن يتحقق إلا بقيام حكومة وفدية خالصة .

وعلى الرغم من أن لامبسون كان يعمل وفقا لتقويض كامل من الحكومة البريطانية إلا أنه قد بعث إلى حكومته مسترشدا برأيها في تلك القضية وحملت برقيات وزير الخارجية كل الرضا عن سياسة لامبسون على اعتبار أن قيام حكومة وفدية خالصة يعد أفض الوسائل لتحجيم دور القصر والذي يلعب لعبة خطيرة .

ويبدو من تسلسل الأحداث أن موقف بريطانيا ومساندتها للوفد قد دعم موقف النحاس باشا مما جعله يتمسك بفكرة الوزارة الوفدية ضاربا عرض الحائط برغبة الملك فاروق من قيام الحكومة الائتلافية والتي سبق للنحاس باشا الموافقة عليها مرارا , وهذا الموقف يعد تراجعا في سياسة الوفد مما يدفعنا إلى لقاء مزيد من التساؤل ؟ كيف يمن لبريطانيا أن تفرض رئيس حكومة وهي لا تعرف مسبقا وجهة نظره . إلا أن هذا السؤال يمكن الإجابة عليه سواء من خلال الدراسات السابقة أو اللاحقة .

وعندما حمل أحمد حسنين ( رئيس الديوان ) رسالة لامبسون إلى فاروق بضرورة دعوة النحاس ليشكل وزارة وفدية خالصة اعترض الملك ورأي أن الموقف يعد تدخلا في أخص خصائصه الدستورية وعلى ذلك لم يجب السفير إلى رغبته .

ولعل فاروق ومن ورائه أحمد حسنين لم يدركا خطورة الموقف على اعتبارا أن هذا التصادم في العلاقات لم يكن الأول من نوعه وإنما سبقته العديد من مظاهر الخلافات والتي توصل الطرفان إلى حلها عن طريق الالتقاء في منتصف الطريق تعددت الاجتماعات والمشاورات والسفير ينتظر ما تسفر عنه من نتائج مما اضطره أخيرا إلى الاتصال بأحمد حسنين لمعرفة ما أسفرت عنه هذه المقالات ولما أجاب بأن المشاورات لا تزال جارية مع رؤساء الأحزاب بهدف تأليف وزارة قومية وأنه واثق من وطنيته الزعماء والتي سوف تتغلب على كل شئ أدرك السفير خطورة ما قد تسفر عنه هذه الاجتماعات والمشاورات والتي قد تنتهي إلى نتائج مخالفة للمخطط الذي رسمته الدوائر البريطانية وهكذا تباينت وجهات النظر بين القوي الثلاثة المتصارعة – القصر والوفد والانجليز – فلقد كانت وجهة نظر القصر الموافقة على استدعاء النحاس لرئاسة الوزارة الجديدة بشرط أن تكون وزارة قومية وكان القصر واثقا من موافقة النحاس بناء على استطلاع وجهة نظرة في مناسبات عديدة .

أما عن وجهة نظر الوفد والتي تكشفت في الآونة الأخيرة سواء في لقاء النحاس مع الملك فاروق أو في اتصالات النحاس مع السفير البريطاني والتي تمت من خلال أمين عثمان هو رفض فكرة الوزارة القومية والتمسك بوزارة وفدية خالصة وذلك لسببين :

أولهما : أن المصريين قد فقدوا ثقتهم في حكومات الأقلية وإذا ما قبل الوفد الارتباط بهذه الأحزاب فسوف يفقد شعبيته العريضة ولن يتمكن من تحقيق أية مكاسب بسبب الاتجاهات المتضاربة .

ثانيهما : المكائد الحزبية إلي ستحدث نظر لقيام حكومة تفتقد إلى الألفة والوئام وهو شرط لقيام أية حكومة .

وحتى لا يبدو الوفد وكأنه في صورة المتشدد ضد الآخرين فقد تقدم النحاس باقتراحين :

أولهما : بتخصص بعض المقاعد لأحزاب الأقلية في مجلس النواب المزمع إجراء انتخابات لتكوينه .

ثانيهما : بتشكيل مجلس استشاري يختا أعضاؤه من سار الأحزاب كرمز للاتفاق بين الأحزاب ويكون رأيه استشاريا في جميع المسائل العامة .

أما وجهة النظر البريطانية – وهي التي فرضت نفسها بقوة السلاح فكانت تعني بناء على تعليمات أيدن عدم قبول أى مرشح لا يستند إلى قاعدة شعبية لأن هذا يعني انتصارا أكيدا لوجهة نظر الملك فاروق .

والموقف يقتضي بالضرورة عودة حزب الوفد باعتباره الحزب القادر في الظروف الراهنة على كبح جماح الملك وإرغامه على تحقيق وجهة النظر البريطانية حتى ولو وصل الأمر إلى حد خلع فاروق عن العرش بل وإلي أكثر من ذلك وهو إعادة النظر في النظام الملكي نفسه .

ومن المرجع أن السفير لم يكن خالص النية في معالجة تلك الأزمة ويبدو أنه بإصراره على عودة الوفد إلى الحكم كان يرمي إلى رد الاعتبار إلى نفسه في نظر حكومته إذ كان وزير الخارجية قد وجه إليه نوعا من اللوم لفشله في الوساطة بين القصر والوفد في أزمة ديسمبر 1937 والتي انتهت بإقالة النحاس باشا وفي الوقت نفسه فإن فاروق كان يسيطر عليه حماس الشباب وحويته واستهوته فكرة أن يظل( يشاغب) ممسكا بطرف الحبل بينما لامبسون ممسكا بطرفه الأخر .

وهكذا بدأت الأحداث تتطور بشكل خطير للغاية بينما تشير الوثائق البريطانية إلى الدور الهام الذي لعبه أمين عثمان والذي ورد اسمه في معظم مراسلات السفارة البريطانية والذي وصفه السفير بأنه المفاوض المصري لصالح الانجليز ويذكر لامبسون ( لورد كليرن) أن أمين عثمان قد حمل إليه رغبة النحاس باشا في التعاون مع السفارة بغض النظر عن أن معاهدة 1936 تعني التعاون التام بين الجانبين ويضف لامبسون في برقيته إذا كان قد تعاون مع السفارة في زمن السلم مرة فإنه مستعد أن يتعاون معها في زمن الحر ب عشر مرات وكل ما يطالبه هو أن تطلق يده في التعامل مع القصر وهكذا استوثق لامبسون من الأرض التي يقف عليها بعد أن وعد أمين عثمان بأن كل أطراف القضية أصبحت في متناول السفير وما عليه إلا أن يبدأ الخطوة الأولي .

وفي صباح 4 فبراير 1943 طلب السفير مقابلة رئيس الديوان وسلنه إنذار نصه ( إذ لم أعلم قبل السادسة من مساء اليوم ( 4 فبراير ) أن النحاس باشا قد دعي لتأليف الوزارة فإن الملك فاروق يجب أن يحتمل تبعه ما يحدث .

وعلى الرغم من أن الملك فاروق قد أجتمع بزعماء الأحزاب وقادة الرأي وتناقش معهم في الموقف في محاولة للخروج من تلك الأزمة إلا أن كل المحاولات قد انتهت بالفشل نظرا لإصرار النحاس على تشكيل حكومة وفدية خالصة بينما تمسك الملك بوجهة نظرة التي تعني قيام حكومة قومية .

وظهر الملك بمظهر المتحدي للمطالب البريطانية وفي اعتقادي أن هدف الملك من ذلك هو الحصول على مساندة الرأي لعام المصري والظهور بمظهر المحايد بين الانجليز والألمان حتى يظل الباب مفتوحا إذا ما تبدلت الأحوال وانتصر الألمان في بحربهم ضد بريطانيا .

وعلي الرغم من أن بريطانيا كانت قد أعدت كل الترتيبات اللازمة لمحاصرة قصر عابدين وإجبار فاروق على التنازل عن العرش إذا ما رفض عودة الوفد إلا أن الشخص الذي يخلف فاروق كان موضع خلاف لدي الدوائر البريطانية فبينما يشير أحد المؤرخين المعاصرين إلى أن بريطانيا قد وقع اختيارها على الأمير محمد على باشا لكي يخاف فاروق على عرش مصر إلا أن الوثائق البريطانية كانت متضاربة في هذا الرأي فبينما تشير احدي الوثائق إلى أن محمد على باشا هو الشخص الوحيد المناسب لهذا المنصب تشير بعض الوثائق الأخرى إلى التقليل من شأنه على اعتبار أنه طاعن في السن وغير مرغوب من الشعب المصري بالإضافة إلى أنه ليس لديه أبناء مما يسبب مشكلة بعد وفاته التي قد تحدث قريبا ولكل هذه الأسباب بدأت الدوائر البريطانية تعيد النظر في الشخص الذي يخلف فاروق .

ثم يعاود وزير الخارجية البريطاني الكتابة إلى لامبسون مقترحا قيام مجلس وصاية يرأسه الأمير محمد على ويؤكد في نفس البرقية على ضرورة الاتصال بالنحاس باشا وأخذ رأيه في هذا الموضوع الحيوي على اعتبار أنه زعيم الأغلبية ويضيف وزير الخارجية قائلا : ومن الأفضل أن نسمح بفترة للرأي العام المصري يعلن خلالها موقفه عما إذا كان من الضروري استبقاء الملكية على الإطلاق أو التفكير في النظام الجمهوري كبديل يفضله الشعب المصري .

ويذكر محمد التابعي رواية أخري مضمونها أن فؤاد حمزة الوزير المفوض للمملكة العربية السعودية قال : أنه لما كان في زيورخ سويسرا – في عام 1942 قابله اللورد الذي كان يدير قلم المخابرات البريطانية في سويسرا وقال له أن الحكومة البريطانية هالها ما يجري في مصر وفكرت في عزل فاروق والصعوبة كانت في اختيار الذي يخلفه وفكرت الحكومة البريطانية في عباس حلمي ( الخديوي السابق ) واتصلوا به في سويسرا ثم سافر إلى استانبول لكي يكون قريبا من مجري الحوادث ولكن المخابرات الألمانية أحست أن هناك شيئا مريبا وأحس الخديوي أن الألمان يشكون فيه وأن عيونهم ترقبه فخشي على نفسه وأسرع بالعودة إلى سويسرا وعندما سأل التابعي فؤاد حمزة لماذا لم يرشح الانجليز محمد على : أجاب : أن الانجليز يعرفون أنه مكروه من الشعب المصري وطاعن في السن أما عباس حلمي فقد كان محبوبا من الشعب المصري ومن هنا رأوا أن يعيدوه إلى عرضه ترضية للشعب المصري .

وعلى الرغم من أهمية هذا الرأي إلا أننا لا نميل إلى الأخذ به لسبب بسيط وهو أن المخابرات البريطانية كانت تعلم جيدا أن عباس حلمي يتعامل مع المخابرات الألمانية وأنهم يرشحونه ملكا على مصر ولم تكن هذه الحقيقية خافية عن السياسة للبريطانية فليس من المعقول أن يقع اختيارهم عليه إلا أذا كان من باب كشف نواياه لدي المخابرات الألمانية ما يضاعف من صعوبة موقفه .

ووفقا للتفسير التاريخي فإننا نعتقد أن بريطانيا لم تكن عازمة على توليه محمد على باشا خلفا لفاروق حيث تجمعت العديد من تقارير المخابرات البريطانية وبعد استطلاع رأي العديد من الشخصيات السياسية سواء مصرية أو انجليزية واتفقت كل الآراء على أن محمد على بتربيته التركية وتعاليه على الشعب المصري وبعده عن الشارع السياسي لا يصلح بأي حال لكي يكون ملكا على مصر ولذا فإننا نعتقد أن الأكثر احتمالا أن بريطانيا كانت تفكر في إعلان الجمهورية وتنصيب النحاس باشا رئيسا لأول جمهورية مصرية وهذا يتفق مع رأي فتحي رضوان والذي عاصر كل هذه الأحداث .

وعلى الرغم من خطورة الأحداث وتطورها بشكل سريع إلا أن فاروق قد تمسك بوجهة نظره وأسرع إزاء هذا الإنذار بدعوة الزعماء السياسيين بكل شئ فلا شئ يعنيني غير مصلحة مصر وكرامتها ويبدو أن فاروق لم يكن صادقا فيما يقول وإنما أراد أن يعد بهؤلاء الزعماء السياسيين مظاهرة للضغط على بريطانيا على اعتبار أن الشعب المصري كله ممثلا في هذا الاجتماع وبالرغم من كل هذا فلم يكن فاروق واثقا من أن بريطانيا ستمضي في تهديدها إلى آخر الطريق ومن هذه الناحية فإن أحمد حسنين باشا – رئيس الديوان – يتحمل التبعة الكبرى حيث كان يعلم أن بريطانيا كانت جادة في عزمها مصممة على المضي فيما اعتزمته وهذا ما يؤكده علي ماهر باشا .

ويذكر الدكتور هيكل في مذاكرته عن اجتماع الملك بالزعماء بعد ظهر 4 فبراير فيقول عندما فرغنا من مداولتنا طلب النحاس باشا الكلمة وقال ( أنه ساعة أن حضر هذا الاجتماع لم يكن يعرف شيئا مما حدث وجاء ذكره في الرسالة الملكية فهو لم يكن يعلم أن الانجليز طلبوا إليه تأليف الوزارة ولم يكن يعلم بهذا الإنذار الأخير ولم يسمع به إلا وهو في طريقه إلى القصر . أما وذلك موقفه فإنه لا يرفض تأليف الوزارة إذا عهد إليه الملك بتأليفها .

ويعلق الدكتور هيكل على كلمات رئيس لوفد بقوله : لقد سمع الحاضرون عبارات رئيس الوفد وعلى ثغر بعضهم ابتسامة ذات مغزي معناها ( يكاد المريب يقول خذوني ) فلو أن النحاس لم يكن يعرف شيئا من هذا الذي قال أنه لا يعلمه لكانت النتيجة المرتبة عليه أنه وقد عرف ما كشفت عند الرسالة الملكية فإنه يرفض أن يؤلف الوزارة ولو دعاه الملك لتأليفها حتي لا يكون الملك قد أكره على ذلك من جانب بريطانيا أما أن يقول أنه لم يكن يعرف هذه الوقائع وأنه مستعد بعد أن عرفها أن يؤلف الوزارة إذا عهد إليه الملك فمعني ذلك في أيسر صورة أنه لا ينكر على الانجليز حقهم في هذا التدخل ولا ينكر توجيهيهم الإنذار وأنه غير مستعد لأية تضحية في سبيل رد هذا الإنذار هذا أن صح أنه لم يكن يعرف .

وتدخل الحاضرون فمنهم من نصح النحاس باشا برفض الوزارة ومنهم من طلب إليه أن يشكلها وزارة قومية وبعضهم طلب إليه أن يشكلها إدارية لإجراء الانتخابات وعرض آخرون وزارة محايدة إلا أن النحاس قد رفض كل هذه الحلول وأصر على أن تكون وزارة وفدية لحما ودما .

ويلاحظ وفقا لهذ الاجتماع أن الزعماء السياسيين قد وقعوا جميعا في مغالطة شديدة حيث أنهم تصوروا أن تشكيل وزارة قومية أو محايدة سوف يخرجهم من دائرة الإنذار البريطاني ومن الطبيعي أن رئاسة النحاس باشا للوزارة سواء كانت وفدية أو قومية بعد تطبيقا عمليا للإنذار مهما كان شكل ولو الوزارة إلا أنها العصبية الحزبية والرغبة في الحكم فالكل يجتهد كي يكون له نصيب من الوزارة المقترحة .

وبعد أن تأكد المجتمعون أن النحاس لن يقبلها إلا وفدية خالصة بدأ التفكير في رفض الإنذار وعدم العمل به من حيث المبدأ واقترح إسماعيل صدقي الرد على الإنذار بمماثل هذا نصه : أن في توجيه التبليغ البريطاني اعتداء على استقبل البلاد ومساسا بمعاهدة الصداقة ولا يسع الملك أن يقبل ما يمس استقلال البلاد ويخل بأحكام المعاهدة ووافق الحاضرون جميعا بما فيهم النحاس باشا على التوقيع على هذا الرد وحمله أحمد حسنين إلى السفير البريطاني .

ويبدو أن النحاس باشا قد وقع على هذا الاحتجاج حتى لا يقع في مزيد من الحرج وهذا ما ذكره النحاس باشا نفسه في حديثه مع رئيس محكمة النقض ( زكي علي باشا )

وأعتقد أن فاروق لم يكن ينوي الخضوع للإنذار البريطاني في بداية الأمر ولعله يقصد من وراء ذلك ارتداء ثوب البطولة كما أنه كان واثقا من إمكانية الوصول إلى حل وقف ويذكر الدكتور هيكل أن الملك قال له أثناء المقابلة التي تمت مع رؤساء الأحزاب في 3 فبراير – كل على حده – لا تبالغ في مخاوفك يا دكتور هيكل فستمر هذه الأزمة كما مرت غيرها من قبل وسنجد رئيس الوزارة الجديدة على نحو ما وجدنا حسن صبري وحسين سري ولعل فاروق كان يفكر في محمد محمود خليل رئيس مجلس الشيوخ ليشكل الوزارة ومما يؤكد هذه الرواية ما ذكره صليب سامي في مذكراته حيث يقول : أنه في نفس اليوم الذي حدثت فيه أحداث 4 فبراير وأثناء مقابلة الملك للسفير البريطاني والقادة العسكريون في ذلك اليوم كان محمد محمود خليل بالسري لابسا بدلته ( الرد نجوت) في انتظار الملك لتسليمه الأمر بتشكيل الوزارة .

وعموما فلقد كان فاروق يرفض أن يؤلف النحاس وزارة وفدية خالصة لا من أجل أن يقال أنه خضع للإنذار وإنما لأنه كان لا يريد أن يجعل مقاليد الأمور في يد خصومه الوفديين والاحتفاظ بقدر كبير من السلطة في يده عن طريق حزب الأقلية وهذا لن يتحقق في حالة وجود حكومة وفدية .

وعلى ما يبدو فإن فاروقا أراد أن يحدث نوعا من المناورة البارعة وذلك يرفض الإنذار البريطاني حتي يتطاير الخبر إلى أصدقائه الألمان حيث أ البيانات التي كانت تصله من جبهات الحرب كانت تبالغ في انتصارات المحور مؤكد على أن المعركة قد حسمت ولم يبق إلا عامل الوقت فقط .

وعلى ضوء المقابلات التي جرت بين الملك والنحاس وغيره من الزعماء السياسيين وبين لامبسون وأمين عثمان كان الخلاف ينحصر في نوعية الوزارة الجديدة وكيفية تشكيلها واعتقد أن كل هذه الخلافات والمصادمات لم ترق إلى حجم الأزمة التي انتهت إليها بل إن الأمر في حقيقته كان صراعا علي السلطة بين قوتين متعارضتين الأولي تتمثل في حزب الأغلبية يسانده الانجليز والثانية تقوم على أحزاب الأقلية يساندها القصر فكان لابد من انتصار احدي القوتين على الأخرى .

الدبابات البريطانية حول قصر عابدين

وفي الوقت الذي كانت تبذل فيه السفارة البريطانية قدرا كبيرا من الجهد لعودة النحاس باشا فإن لامبسون كان يعد العدة لإجبار فاروق على التنازل من العرش إذا ما رفض المطالب البريطانية .

وتم الاتفاق في مجلس الحرب على انه إذا لم يصل رد فاروق حتى الساعة السادسة ( من مساء 4 فبراير ) فسوف يتوجه لامبسون إلى قصر عابدين وبصحبته قائد القوات البريطانية في مصر " الجنرال ستون " وستتخذ كافة الإجراءات العسكرية وتم الاتفاق أيضا على وضع الخطة النهائية لمحاصرة القصر وإجبار الملك على التنازل واصطحابه إلى خارج القصر واقترح أميرال البحرية اعتقال فاروق في احدي سفن الأسطول البريطاني حتي يتقرر مصيره من قبل وزارة المستعمرات البريطانية .

ولعل امتناع فاروق عن التنازل عن العرش كان من بين المسائل التي شغلت حيزا كبيرا من تفكير الدوائر البريطانية على اعتبار أن معاهدة 1936 لا تتضمن مثل هذا النوع من التدخل ولا يوجد نص في الدستور المصري يمكن أن تتذرع به بريطانيا لعزل الملك ولقد أشار السفير إلى كل هذه المخاوف بقوله : وإذا ما أصر فاروق على عدم التنازل فإن خلع من جانبنا يعد عملا غير مشبوه وإن أية محاولة ونحن نبدو كحماة الدستور وفي الوقت نفسه نخرقه بالقوة فإن هذا سيضاعف من متاعبنا أمام الرأي العام المصري .

وعلى ما يبدو فقد انقسم مجلس الحرب البريطاني إزاء تلك القضية الشائكة إلا أن تطور الأحداث والخوف من حدوث أية مفاجأة غير متوقعة وخصوصا من الرأي العام المصري قد جعل فريق المترددين وعلى رأسهم " الجنرال ستو " ينضمون إلى فكرة لامبسون والتي تحبذ إجبار فاروق على التنازل بالقوة .

وبدأ التفكير في المكان الذي سينقل إليه الملك واختلفت وجهات النظر أيضا فبينما رأي البعض إرساله إلى كينيا أو سيشل فقد رأي البعض الآخر أن ينزل به إلى احدي سفن الأطول البريطاني حتي يتقرر مصيره من قبل وزارة المستعمر .

ووضعت الصيغة النهائية لوثيقة التنازل عن العرش : " نحن فاروق ملك مصر إذ نضع في اعتبارنا مصالح بلادنا نتخلي من ثم بالتسوية لأنفسنا وبالنسبة لورثتنا عن عرش مملكة مصر وجميع الحقوق الملكية والمميزات والسلطات على جميع أنحاء المملكة المذكورة وإعفاء رعايانا المذكورين من ولائهم لشخصنا "

ولما كانت السلطات البريطانية تعلم جيدا أن اجتماع الملك بالزعماء المصريين لن يحقق أى نوع من الاتفاق بالرغم من الإنذار الصريح بدعوة مصطفى النحاس لتشكيل الحكومة لجأ الانجليز إلى تنفيذ الخطة المرسومة والتي تقتضي بمحاصرة قصر عابدين وجميع الطرق المؤدية إليه وعدم دخول أو خروج أحد.

وفي جميع الأزمات التي مرت بمصر كانت الحكومة البريطانية تأخذ في الاعتبار موقف الجيش المصري إلى جانب الرأي العام فعندما طلبت بريطانيا من مصر إعلان الحرب على دولتي المحور قالت أنها تقدر الأهمية البالغة للقوات المسلحة المصرية وعندما أنذرت فاروق بتغيير وزارة علي ماهر أصرت على أن تجئ الوزارة الجديدة حائزة لولاء الجيش وعند الاستعداد لمحاصرة عابدين ( 4 فبراير ) احتفظت السلطات العسكرية بأسرار العملية إلى ساعة الصفر واتخذت جميع الاحتياطات لكيلا يقع تصادم بين الجيش المصري والقوات البريطانية ووفق رواية المسئول عن أمن القوات البريطانية فيمصر " الماجور سانسوم " حيث قال : لقد كانت الحكومة البريطانية قد أصدرت أوامرها إلى " سيرما يلز لامبسون " بأن يوجه إنذار إلى الملك وكنت مرتبطا بهذه العملية عن طريقتين :

الأول : كان استشاريا فوفق معلوماتي عن الوضع داخل الجيش المصري ما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لتحول بين الجيش المصري والتدخل المسلح في العملية المزمع القيام بها ؟ وبصدد هذا الإجراء فقد اقترحت أن توصد كل الطرق والشوارع لمؤدية إلى قاب القاهرة أن الضباط الصغار لا يحبون الملك ولكنهم يكرهوننا أكثر وسيكون رد الفعل عندهم عنيفا لمثل هذه والإهانة وبالفعل أغلقت جميع الطرق الموصلة بين ألماظة والقاهرة وقبل ساعة الصفر مباشرة قامت فصيلة من قواتنا بالهجوم على ثكنات الحرس الملكي في ميدان عابدين وقبضت على كل الموجودين وكذلك ثم القبض على الحراس الذين كانوا يقفون عند باب القصر وحل محله جنود بريطانيون ثم دخل لامبسون بسيارته إلى داخل القصر وكانت تصحبه مجموعة من العربات المصفحة والدبابات ويمضي سانسوم في روايته قائلا ولم تكن القاهرة .

تعلم شيئا عن الحادث وكان عدد من المارة يحملقون في الجنود البريطانيين الذين احتلوا مكان الحرس الملكي وكان المارة ينظرون إلى العربات المصفحة التي دخلت إلى فناء القصر دون استغراب أول الأمر غير أن البعض بدأ يدرك أن ثمة شيئا غير طبيعي يحدث وأخذ الناس يتجمعون حتى اضطر الجنود البريطانيون إلى إقامة كردون من أنفسهم لإبعاد الناس عن القصر في الوقت الذي كان السفير يقدم إنذاره لفاروق .

أما المهمة الثانية : هي التأكيد من أن السفير لن يصيبه ضرر وكانت أعتقد أن الخطر الرئيسي قد يصدر من ضابط ثائر من ضباط الحرس الملكي الذي قد يدفعه غضبه إلى إطلاق رصاصة على السفر ولذلك قبضنا على جميع الضباط المصريين داخل القصر إبان عقد المؤتمر بين السفير وفاروق .

ووفق رواية السفير والتي ضمنها أحد تقاريره إلى حكومته قائلا : لقد وصلت إلى قصر عابدين في التاسعة تماما وفي الطريق مررنا بطوابير المصفحات وناقلات الجنود والدبابات والتي كانت تبدو كأشباح في الشوارع المظلمة وهي تأخذ مواقعها حول القصر وكنت أستطيع وأنا بالطابق العلوي داخل القصر أن أسمع أصوات الدبابات والمدرعات مما تحدث جوا مثيرا وشك أن أصبح في رجال الديوان أنني غير مستعد للأنظار أكثر من ذلك . لذلك تأخذ استدعائي إلى غرفة الملك لمدة خمس دقائق وكفت على عندما دعيت لمثول أمام الملك وحاول كبير الأمناء ن يمنع الجنرال ستون " قائد القوات البريطانية " من الدخول إلى القاعة التي تم فيها لقائي مع الملك ولكني نحيته جانبا ودخلت والجنرال ستون معا إلى الملك .

القص وجردتهم من سلاحهم مما اضطر بعض أفراد الحرس إلى المقاومة ولكن البريطانيين تكاثروا عليهم بعد أن صدرت التعليمات الملكية بعدم المقاومة حتى لا تحدث مذبحة أمام قصر عابدين وكان قد أصيب بعض أفراد الحرس بكسور في العظام وبجروح مختلفة وفي نفس الوقت كانت الطائرات البريطانية تقف على أهبة الاستعداد للتحليق فوق ثكنات الجيش المصري ومعسكراته وقذفها بالقنابل إذا ما بدت من الجيش أية مقاومة وحاصر الجنود الانجليز أقسام البوليس في القاهرة وقطعوا جميع الأسلاك التليفونية بين قصر عابدين وخارجة كما حاصروا محطة الإذاعة المصرية لكي يحولوا دون وصول الخبر إلى الشعب المصري. ويلاحظ أن الروايات الثلاث السابقة تتفق مع بعضها في الإطار العام إلا أنها تختلف عن بعضها في كثير من التفصيلات فبينما يذكر الماجور سانسوم ( مسئول الأمن في القاهرة ) أن القوات البريطانية قامت بقطع الطرق المؤدية إلى القاهرة بواسطة العديد من الفصائل العسكرية وكذلك القبض على جنود وضباط الحرس الملكي فهو لم يذكر الإجراءات التي قامت بها القوات البريطانية فيما يتعلق بالطيران وكذلك محاصرة أقسام البوليس وقطع الاتصالات التليفونية عن قصر عابدين وكذلك محاصرة مبني الإذاعة المصرية .

إلا أننا نعتقد أن الرواية الأخيرة والتي ذكرها بعض المعاصرين تعد أقرب الروايات التي الحقيقة لعدة أسباب :

أولا : تطابق رواية محمد التابعي مع رواية حسين الشافعي والأول قريبا من دوائر القصر بحكم عمله الصحفي والثاني كان أحد الضباط الشبان والذي كانت تربطه صداقات وطيدة بعدد من ضباط الحرس الملكي والروايتان في مجملهما تتفقان مع روايات كثير من الساسة المصريين .

ثانيا : لقد استقي التابعي معلوماته عن أحمد حسنين والذي شاهد كل هذه الأحداث بحكم عمله كرئيس للديوان الملكي .

ثالثا : ووفقا للمصادر البريطانية فغن قادة كل الأسلحة قد اشتركوا في كل المؤتمرات التي عقدها السفير وهو بصدد وضع الخطة النهائية للتدخل ومن الطبيعي أن يتولي قادة الأسلحة كل في موقعه ترتيبات الأمن اللازمة سواء في مجال الطيران أو الشرطة أو القوات البرية أو غير ذلك .

إلا أن هناك بعض الروايات التي لم نجد لها سندا في أى رواية أخري حيث يذكر صاحب هذه الرواية أن السفير وهو في طريقه إلى مكتب الملك وبصحبته الجنرال ستون قد فتح غرفة الملك ضاربا إياها بقدميه .

وعلى كل فإن لامبسون قد دخل على فاروق وبصحبته الجنرال ستون بينما الضباط الانجليز يحرسون الباب وفي أيديهم المسدسات ووفقا لبرقيات لامبسون إلى حكومته فقد كان فاروق ينتفض من الخوف بينما أحمد حسنين كان يبتسم بقدر لا بأس به من الشجاعة .

ويضيف لامبسون في احدي برقياته والتي تتسم بقدر كبير من التشفي ( كان من الواضح أن الملك قد أخذ على غرة واقترح بقاء حسنين باشا أثناء المقابلة فوافقت على ذلك ودخلت في الموضوع مباشرة حيث قلت : لقد كنت أتوقع ردا بنعم قبل الساعة السادسة مساء على رسالتي التي بعثت بها هذا الصباح وبدلا من ذلك فقد بعثت إلى حسنين باشا في السادسة والربع برسالة لا أستطيع إلا أن اعتبرها رفضا . ويجب أن أعرف الآن ودون أية موارية ما إذا كان معني هذه لرسالة هو لا . وحاول الملك أن يجادل ولكني قطعت عليه الطريق بقولي : " أني أعتبر الجواب بالنفي وقرأت عليه البيان الذي أعددناه في السفارة وفي النهاية قدمت إليه خطاب التنازل عن العرش وطلبت إليه التوقيع فورا ويمضي لامبسون قائلا : لقد تردد الملك قليلا وقد كنت أظنه سيوقع الخطاب " وثيقة التنازل" إلا أن حسين باشا قد تدخل محدثا إياه بالعربية وبعد فترة من الاضطراب الشديد الذي بدا على الملك سألني بشكل يدعوا للرثاء عما إذا كنت على استعداد لإعطائه فرصة أخري مبديا موافقته الشديدة على دعوة النحاس باشا لتشكيل الحكومة فورا .

ثم ترددت ( عمدت إلى التردد ) وأخيرا وافقت على إعطائه تلك الفرصة تحدوني الرغبة في تجنيب أى تعقيدات محتملة في البلاد .

وهناك العديد من التفصيلات التي لا تنفق والغرض الحقيقي من هذه الدراسة ومنها على سبيل المثال أن السفير قد وضع وثيقة التنازل أمام فاروقا وقت قراءة البيان ومن المحتمل أن يكون الملك قد قرأها ومن المحتمل أيضا أنه لم يرها .

وببساطة شديدة فإننا نعتقد أن فاروقا قد قرأ وثيقة التنازل لسبب بسيط وهو أنه قد هم بالتوقيع عليها لولا تدخل أحمد حسنين والذي حددته بالعربية " وفقا للوثائق البريطانية " طالبا منه عدم التوقيع .

وهناك رواية أخري تقول : أن السفير قد قدم إلى الملك وثيقة التنازل عن العرش وطلب إليه توقيعها وبعد أن قرأ الملك نظر إلى قائد القوات البريطانية ( المصاحب للسفير ) وقال له " كنت أود لو أنك ما زالت في خدمة جيشي " ثم قال للسفير : أنني مستعد لتوقيع هذه الوثيقة إلا أنك توافقني على أنها وثيقة تاريخية خطيرة ولا يجوز أن تكتب على ورق عادي ومن اللائق أن أكلف من يقوم بكتابتها على ورق يليق بشخصي وعجب السفير لهذا الهدوء والذي يبدو على الملك ثم أضاف الملك فاروق : هل لى أن أسالك عن السبب الذي دعا إلى كتابة هذه الورقة ؟ ... أنا من ناحيتي موافق عل أن يشكل النحاس باشا وزارته كما يراها .

ويبدو أن الرواية السابقة لا تتفق بأى حال مع الحالة النفسية التي سيطرت على فاروق والتي وصفها السفير في برقياته من أن الملك كان يرتعد من الخوف ومن غير المعقول أن يبدو فاروق على هذه الصورة في وقت يعلم أن عرشه ومستقبله معرضان للضياع والأمل في إقناع السفير بالعدول عن هذا المسلك يبدو ضعيفا وتلك الرواية تتسم بعدم الموضوعية مما يجعلنا نعتقد أنها تحتمل تخريجات اجتهادية لا ترق إلى مرتبة التفسيرات التاريخية الجادة , وعلى هذا فرواية السفير والتي ذكر فيها أن فاروقا قد استمع إليه وبلا أى إضافات هي أقرب الروايات إلى المنطق الصحيح وأقرب في تصورنا إلى العقل .

وهكذا استسلم فاروق بعد أن انكشف الوجه الحقيقي لمعاهدة 1936 ولم يكن من باب الشجاعة أن يمضي فاروق في عناده إلى آخر الطريق حيث تأكد تماما أن مصيره ومصير أسرة محمد على بأكملها مرهونة بموافقة بريطانيا ولذا فإنني أعتقد إن الآثار النفسية التي تركها هذا الحادث على حياة الملك الشاب كانت خطيرة ويمكن القول بأنها كانت مدمرة .

وبمجرد أن انصرف لامبسون بعد أن اصدر أوامره إلى الدبابات والمصفحات بالانصراف من حول القصر صدرت الأوامر لملكية بدعوة الزعماء الذين حضروا الاجتماع الأول ( في نفس اليوم) وترأس لملك هذا الاجتماع ويصف الدكتور هيكل ما حدث في هذا اللقاء بقوله : لقد وجه الملك كلامه إلى النحاس باشا قائلا : أني أكلفك يا نحاس باشا بتأليف الوزارة وأطلب إليك أن يكون حكمك قوميا لا حزبيا كما أطلب إليك حين انصرافك من هنا أن تمر بالسفارة البريطانية فتبلغ السفير بأنني عهدت إليك بتأليف الوزارة وقال النحاس لدي سماعه هذه العبارة . أنني أتلقي الأمر من جلالتكم ولا أري ضرورة لإبلاغ السفير فكر الملك : لكني أري ضرورة في أن تمر بالسفارة وتبلغ ما طلبت إليك أن تبلغه إياه .

ولعل إصرار فاروق على ذهاب النحاس إلى قصر الدوبارة يعد نوعا من الدبلوماسية الماكرة بهدف إخراجه والتنويه على أن عودته كانت بناء على ضغط السفارة البريطانية ولقد أفصح الدكتور حمد ماهر عن هذا المعني بقوله : أنك يا نحاس باشا تؤلف الوزارة على أسنة الحراب البريطانية بعد أن رأيت الدبابات بعيني راسك وأجاب النحاس : أنا لم أر دبابات و حرابا فقال إسماعيل صدقي باشا . نعم يا باشا أنك جئت متأخرا بعد انصرفت الدبابات حتى لا تراها أمام نحن جميعا فقد رأيناها ساعة جئنا إلى القصر .

وهو ما كرره أحمد ماهر بعد ذلك في الرسالة الشهيرة التي أرسلها للسفير احتجاجا على الإنذار البريطاني وقد قال فيها مخاطبا لامبسون " أنكم لا تستطيعون أن تقنعونا بحال أن النحاس باشا لم يكن على علم بالنيات الخفية لتي اعتزمتموها وغلا فهل كان من المعقول أن تحتموا تشكيل وزارة وفدية بذلك الإلحاح البالغ وتجازفوا في هذا السبيل بتقديم إنذار تؤيدونه بالقوة المسلحة للو لم تكونوا على يقين سابق وتأكيد صريح باتفاق النحاس باشا معكم اتفاقا تاما على تلك الخطة المبيتة .

ونشرت احدي الصحف ما يسمي بمحضر اجتماع 4 فبراير وذكرت هذه الرواية وبعد أن انتظم الاجتماع في الساعة التاسعة مساء حضر جلالة وقال . أرجو أن تنسوا ما دار بينكم من الحديث وما قررتموه بعد ظهر اليوم وأني أكلف النحاس باشا بأن تشكيل الوزارة وأطلب إليه عند انصرافه من هنا أن يمر على دار السفير حيث أن هذه هي رغبة السفير الخ أما باقي المحضر فلا يختلف عما ذكرناه من قبل .

ولقد اعتبر النحاس باشا أن ما نشرته الصحيفة يعد مخالفا لمحضر الجلسة ( مساء 4 فبراير ) وذكر في روايته والتي بعث بها إلى نفس الصحيفة ما يأتي ؟ ذكرت الصحيفة أن جلالة الملك طلب إلى أن أمر بعد انصرافي من القصر على دار السفير وابلغه أني كلفت بتشكيل الوزارة لأنه طلب ذلك إلى جلالته , وهذا لا يطابق الواقع إذ لم يقل جلالة الملك ان السفير ولكن جلالته أمرني بذلك فقد كان من المتعين معالجة الموقف مع الانجليز .

وبصدد دراسة الروايات السابقة فإننا نشير إلى عدة اعتبارات؟

أولا: أن ما نشر تحت عنوان " محضر اجتماع 4 فبراير " لم يكن محضرا بالمعني الوثائقي وإنما هو عبارة عن تصوير للأحداث التي وقعت مساء 4 فبراير من وجهة نظر محمود حسن باشا كبير المستشارين الملكيين والذي حضر الاجتماعيين وعلي الرغم من أنه لم يوقع على هذا الحضر إلا أن المناقشات التي تلت ذلك في الصحف وردود الفعل الكبيرة التي أحدثها نشر هذا الموضوع كشفت عن اسمه وعرفه الجميع .

ثانيا: يختلف محضر اجتماع 4 فبراير عما ذكره الدكتور هيكل في روايته التي أشار فيها إلى أن النحاس باشا قد اعترض على ذهابه إلى السفارة باعتبار أن الأمر بتشكيل الوزارة صادر من الملك وليس من السفير إلا أن الملك كرر طلبه بضرورة ذهاب النحاس إلى السفارة وهذه الرواية تمثل إضافة لم ترد في رواية محمود حسن باشا حيث يذكر أن الملك قد طلب من النحاس أن يمر على السفارة ولم يذكر أن النحاس قد اعترض على هذا المطلب.

ثالثا : أن رواية الدكتور هيكل تتفق مع رواية النحاس باشا في عدم ذكرها قول لملك للنحاس باشا " اطلب منك أن تمر على السفارة البريطانية حيث طلب السفير إلى ذلك , ومن مقارنة رواية النحاس بما ذكره الدكتور هيكل ومطابقتها بما ذكره محمود حسن باشا تظهر أن رواية هيكل أقرب إلى رواية النحاس ولما كان هيكل يعد خصما سياسيا للوفد فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه عمد إلى الدفاع عن مصطفى النحاس .

رابعا : لم يذكر الدكتور هيكل ولا محمود حسن باشا أن النحاس كرر رفض قبول الوزارة وأن فاروقا قد بذل قدرا كبيرا من المحاولات لإقناع النحاس في الوقت الذي كان يعتقد أن عدم تشكيل الوزارة يعد نوعا من الالتزام بما اتفق عليه في الاجتماع الأول حيث وقع الجميع علي الاحتجاج المقدم للسفير البريطاني أمام إصرار الملك فقد اضطر النحاس أخيرا للموافقة .

والتزاما بالموضوعية التاريخية فإننا نعتقد أن النحاس قد تردد كثيرا في قبول الوزارة وخصوصا بعد ما علم من حصار قصر عابدين ولذا فقد تضمن خطاب قبول الوزارة ( لقد تفضلتم جلالتكم وعهدتم إلى تأليف الوزارة وأعربتم بلسانكم الكريم المرة بعد المرة والكرة بعد الكرة الخ )

ولما كان خطاب النحاس باشا بقبول تأليف الوزارة يعد وثيقة هامة نشرت في كثير من الصحف الوفدية وغير الوفدية وليس من لمعقول أن تتضمن إضافات لم تحدث وإلا كان القصر أول من بار بتكذيبها فإننا نعتقد أن النحاس قد حاول مرارا أن يرفض قبول الحكم في مثل هذه الظروف الدقيقة والخطيرة ووفقا لما ذكره أحد زعماء الوفد من أن رفض النحاس للوزارة كان يعني بالضرورة خلع الملك فاروق من منصبه ولذا فقد ضحينا ببعض من سمعتنا في سبيل إنقاذ الملك.

ويبدو ان الملك فاروق قد أراد أن يستنجد بالسفارة الأمريكية لحمايته من التعنت البريطاني ولذا فقد استدعي مستر كيرك ( سفير الأمريكي ) لمقابلته في منتصف الساعة السابعة من مساء 4 فبراير ليخبره بالإنذار البريطاني إلا أن السفير الأمريكي قو طيب خاطره بسبب الحالة النفسية التي كانت تسيطر على الملك وقد حاول فاروق أن يطلب من السفير الأمريكي الضغط على لامبسون لكي يحول دون عودة الوفد إلا أن إجابات ( كيرك ) قد اتسمت بالتعقل الشديد مطالبا فاروق بتنحية الخلافات الداخلية جانبا لأن ما يشغل أمريكا وانجلترا في الوقت الحاضر هو هزيمة هتلر وأنه يأمل أن يكون الملك عاملا في هذا الاتجاه .

وتؤكد الوثائق الأمريكية أن موضوع عزل الملك فاروق قد ترك أثر سيئا لدي وزارة الخارجية الأمريكية على اعتبار أن تلك الخطوة ستجعل من فاروق شهيدا في نظر الشعب المصري وقد يترتب عليها حدوث اضطرابات في المنطقة مما يضاعف من نشاط المحور ولذا فقد أعدت إدارة الشرق الأدنى بوزارة الخارجية الأمريكية تقديرا لتقديمه إلى الحكومة البريطانية تطلب منها أن يظل الملك فاروق محتفظا بعرضه . ووفق المصدر " أننا نأمل أن لا تؤدي هذه الأحداث الأخيرة إلى انصراف جزء من القوات البريطانية عن قضيتها الأساسية في المنطقة.

إلا أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لم تر أن مصالحها تتطلب مثل هذا التدخل المقترح لأن مصر تقع في دائرة النفوذ البريطاني كما أننا لا نسمح لحكومة بريطانيا أن تتدخل في الشئون الداخلية لاحدي دول أمريكا اللاتينية فإننا لن نتدخل في تلك القضية على اعتبار أنها مشكلة بريطانية مصرية بحتة وأن تدخلنا سيحملنا قدرا كبيرا من المسئولية إذا ما تضاعف الأحوال سوءا في مصر .

وهكذا امتنعت الولايات المتحدة الأمريكية من أن تقحم نفسها في تلك القضية على اعتبار أن مصر تقع في دائرة النفوذ الأمريكي ولا أعتقد أن بريطانيا ما كانت لتسمح لحليفتها بالتدخل فعلي الرغم ن التحالف بينهما إلا أن نوعا من التوجس قد بدأ يراود وزارة الخارجية البريطانية بسبب لتفوق العسكري الأمريكي من جانب المطامع الأمريكية التي قد تبدو مؤكدة إذا ما انتهت الحرب.

وعلى العموم فقد هدأت الأمور بعد أن صدرت الأوامر الملكية بدعوة مصطفى النحاس ليشكل حكومة وفدية خالصة وعلى الرغم من الهزيمة الساحقة التي لحقت بالملك فاروق إلا أن رسالته التي بعث بها الي مصطفى النحاس بتأليف وزارة 4 فبراير تعد تراجعا أكيدا أمام التسلط البريطاني وقد يبدو هذا المعني من نص تلك الوثيقة والتي ورد ذكرها كالآتي :

( عزيزي مصطفى النحاس يسرني وقد عرفت فيكم أصالة الرأي وسداد التدبير وقوة الإخلاص أن أسند إليكم رياسة مجلس وزارتنا أن مصر وطننا العزيز لأحوج ما تكون في هذه الآونة الدقيقة إلى تضافر الجهود وضم الصفوف وجمع القوي وبذل التضحية وإنكار الذات في سبيل حفظ كيانها وإعلاء شأنها ورفاهية شعبها وذلك ما أرجو أن يكون بتوفيق الله وعظيم تأييده ... ) الخ .

والملاحظ على خطاب الملك إلى مصطفى النحاس أنه يشير وبأسلوب رقيق إلى أصالة رأي النحاس وسداد تدبيره وإخلاصه سواء للعرش أو للشعب وعلى ما نعتقد فإن هذه الوثيقة تحمل قدرا كبيرا من النفاق السياسي والذي حكمته الظروف الموضوعية والملابسات التي أحاطت بتشكيل الوزارة وعلى الرغم من المعاناة النفسية التي أحدثها هذا الموقف في نفسية الملك إلا أنه قد أراد للأزمة أن تمر بعد أن أقسم بالإيمان المغلظة أن ينتقم لشرفه ولكرامته .

وبالنظر إلى "وثيقة " إقالة الوفد سنة 1937 والتي تؤكد وجهة نظرنا السابقة حيث أشارت إلى لأعداء التقليدي بين القوتين المتصارعتين - القصر والوفد – " نظرا لما اجتمع لدينا من الأدلة على أن شعبنا لم يعد يؤيد طريقة الوزارة في الحكم وأنه يأخذ عليها مجافاتها لروح الدستور وبعدها عن احترام الحريات العام وحمايتها وتعذر إيجاد سبيل لاستصلاح الأمور على يد الوزارة التي ترأسونها لم يكن بد من إقالتها تمهيدا لإقامة حكم صالح يقوم على تعرف رأي الأمة الخ .

ويبدو من الخطابين السابقين إلى أى حد وصل التناقض في سياسة القصر ومن المؤكد أن الخطاب الأولي والخاص بعودة حكومة 4 فبراير كن يعكس قدرا كبيرا من الحالة النفسية التي انتابت الملك أثر حصار الدبابات وبعد أن تأكد الملك أن بقاءه ملكا على مصر كان رهنا بعودة حكومة بالإضافة إلى أن فاروقا كان في حاجة إلى استرداد أنفاسه حيث كان يلهث من أثر الصدمة التي بلا شك لم يكن يتوقعها وكان من الضروري أن يهادن الوفد ولو لفترة حتى يسترد بعض الواقع التي فقدها أثر هذا الحادث من هنا كان خطاب فاروق إلى النحاس لا يحمل أى إشارة ولو من بعيد إلى أن الوفد قد أفتقد الطريقة الشرعية في عودته . أما الخطاب الثاني والخاص بإقالة الوفد سنة 1937 فقد تضمن أحكاما مطلقة تعبر لبلا شك عن المشاعر الحقيقية التي تتسم بها العلاقة بين القصر والوفد وأن النحاس باشا صاحب مبدأ الانتقاص من الحقوق الملكية لصالح الحكومة وقد رسخ في ذهن فاروق أن الوفد بقيادة النحاس يخطط إلى عزل فاروق وأن خطة الوفد قائمة على استراتيجية ثابتة غايتها التخلص من النظام الملكي عموما وكان فاروقا دائم الاستماع إلى مستشاريه من أمثال علي ماهر وأحمد حسنين واللذين تمكنا من إقناعه بوجهة النظر السابقة .

ولما كانت عودة الوفد 4 فبراير قد قوبلت بردود فعل متفاوتة ليست في مجلمها لصالح الوفد فإن طريقة العودة هذه المرة تعد سابقة خطيرة لا تتناسب وتاريخ الوفد .

ووفق تطور الأحداث بشكل افقد الكثيرين من الزعماء المقدرة على التفكير الصحيح واتخاذ القرار المناسب إلا أن النحاس يحكم علاقته الوطيدة بجماهير حزبه فقد أراد أن يحدث مناورة سياسية تصحح المعلومات لدي الرأي العام والذي بدأ يعرف حقيقة حصار القصر منذ اليوم الثاني على الرغم من أن الصحف لم تتناول هذا الموضوع حيث كانت الأحكام العرفية والرقابة الشديدة على الصحف .

إلا أن كلمات الدكتور أحمد ماهر لقد قبل النحاس الحكم على أسنة الحراب البريطانية كانت قد انتشرت وتطايرت وسط جموع الشعب المصري ومن المؤكد أن هذا الشعور قد أزعج النحاس باشا قبل أى إنسان آخر على اعتبار أن الوفد يستند إلى جماهيرية شبه مطلقة وأن سريان هذا الثر قد يحدث ردود فعل خطيرة لدي الرأي العم ومن هنا فقد توصل النحاس باشا إلى فكرة ارتضاها الطرفان – الوفد والسفارة – وفي اللقاء الأول بين النحاس ولامبسون – مساء 4 فبراير تم الاتفاق على تبادل خطابين رسميين بين الوفد والسفارة يبدي النحاس اعتراضه على التدخل في شئون مصر الداخلية وتبدي بريطانيا رغبتها في عدم التدخل في الشئون المصرية والالتزام بمعاهدة 1936 ولأهمية هاتين الرسالتين فإننا نذكرهما لأهميتهما في العلاقات بين الوفد والانجليز ولأنهما دليل واضح على التناقض في العلاقات المصرية البريطانية .

رسالة النحاس إلى السفير البريطاني:

" يا صاحب السعادة لقد كلفت بمهمة تأليف الوزارة , وقبلت هذا التكليف الذي صدر من جلالة الملك بما له من الحقوق الدستورية وليكن مفهوما ان الأساس الذي قبلت عليه هذه المهمة هو أنه لا معاهدة 1936 ولا مركز مصر كدولة مستقلة ذات سيادة يسمحان للحليفة بالتدخل في شئون مصر الداخلية وبخاصة في تأليف لوزارة أو تغييرها وأتمنى يا صاحب السعادة أن تتفضلوا بتأييد ما تضمن خطابي هذا من معاني وبذلك تتوطد صلات الود والاحترام المتبادلين " .

وكتب السفير البريطاني ردا على خطاب النحاس باشا بقوله :

" يا صاحب المقام الرفيع : لي الشرف أن أؤيد وجهة النظر التي عبر عنها خطاب رفعتكم أن أؤكد لرفعتكم أن سياسة الحكومة البريطانية قائمة على تحقيق التعاون بإخلاص مع حكومة مصر مستقلة وحليفة في تنفيذ المعاهدة البريطانية المصرية من غير أن نتدخل في شئون مصر الداخلية ولا في تأليف الحكومات أو تغيرها... " الخ . واعتقد أن هاتين الرسالتين تفتقدين في مجملهما إلى الصدق وهما من قبيل الدعابة فقط تهدئة المشاعر الثائرة . ويبدو أن الشعب المصري قد أدرك بفطرته حقيقة تلك المناورة وإذا كان الوفد قد اتفق عليهما مع السفير البريطاني لتبديد الأثر الذي أحاط بمجئ حكومة 4 فبراير إلا أنني أعتقد أنها قد أحدثت أثرا عكسيا ولعلها كانت فرصة استغلتها القوي السياسية الأخرى حيث عملت على التشكيك في صدق هاتين الرسالتين على اعتبار أنها مناورة سياسية " مكشوفة " تهدف إلى إرضاء الرأي العم الثائر ضد الوفد والوجود البريطاني معا .

ووفقا لما أحاط هاتين الرسالتين من ملابسات فإننا نسجل بعض الاعتبارات ؟

أولا : أن هاتين الرسالتين قد تم الاتفاق عليهما بين النحاس باشا ولورد كليرن ( لامبسون ) في اللقاء الذي تم بينهما مساء 4 فبراير وأن كان أحد أقطاب الوفد لا ينكر هذا الاتفاق إلا أنه يعده من منطلق تمسك الوفد بحقوق مصر الوطنية وأهمية التأكيد على أن الوفد لا يتولي الحكم إلا برغبة الملك وحده وأن هذه نقطة لا تؤخذ على الوفد بل تسجل له .

ثانيا : لقد نجحت بريطانيا وحققت رغبتها في عودة الوفد على اعتبار أنه الحزب الشعبي الكبير والقادر على استتاب الأمن وإعادة الهدوء إلى البلاد حتى تتفرغ الحليفة إلى قضيتها الأولي وهي الحرب فلا مانع لديها من أن تتبادل مع النحاس هاتين الرسالتين تقديرا منها للأثر الذي أحاط بعودة الوفد وحرصا منها على أن يظل الحزب قويا مؤثرا في المجتمع المصري .

ثالثا : لقد حرصت بريطانيا على أن تبدو أمام الرأي العام المصري وكأنها الدولة الحريصة على قضية الديمقراطية وفي نفس الوقت فإن عودة الوفد باعتباره الحزب المتمتع بالشعبية لكبري يعد انتصارا أكيدا للديمقراطية التي يرضاها الشعب المصري الحليف.

ولكن لماذا فوت الوفد على نفسه فرصة التخلص من الملكية الملك ولا سيما وقد كانت الظروف مواتية في ظل أحداث 4 فبراير ؟

من المؤكد أن هذه الفكرة قد راودت زعماء الوفد وخصوصا وأن رسائل الخارجية البريطانية إلى سفيرها في القاهرة قد أشارت إلى هذا المعني ويمكن الإجابة على هذا السؤال من خلال عدة نقاط  :

أولا : على الرغم من الخلافات التي لم تتوقف بين فاروق والوفد منذ اعتلاء فاروق عرش مصر سنة 1937 إلا أن الوفد لم يكن من سياسته إلغاء الملكية أو التفكير في عزل فاروق ومن المؤكد أن الوفد لم يكن حريصا على الملكية كمبدأ وإنما اعتقادا بأن فاروق يحظي بشعبية من الصعب تجنيب آثرها لدي الرأي العام المصري وقد يتهم الوفد بأنه ضليع مع الانجليز في الاتفاق على خلع فاروق ولقد بني الوفد سياسته دوما على مبدأ أن العبرة ليست في لنظام الملكي أو الجمهوري وإنما الأساس هو الشكل الدستوري الذي من الممكن لو طبق تطبيقا فعليا لجنب البلاد كل الأخطار التي مرت بها .

ثانيا : على ضوء الوثائق البريطانية فإن بريطانيا قد فكرت بالفعل في إقامة نظام جمهوري وحاولت استطلاع وجهة النظر المصرية إلا أن هذه الفكرة لم تجد استجابة سواء لدي الوفد أو الرأي العام المصري وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن بريطانيا لم يكن يعنيها بأن يكون النظام ملكيا أو جمهوريا وإنما كان حرصها بالقدر الذي يمكنها من تحقيق رغباتها ويبدو أن بريطانيا قد بدأت تراودها هذه الفكرة إلغاء الملكية – ابتداء من يناير 1942 بعد أن تأكد لها عدم إخلاص فاروق لقضية الحلفاء إلا أن هذه الفكرة ما لبثت أن تلاشت سواء بسبب رفض الوفد أو لأن تجربتها سنة 1914 حين أقدمت على عزل الخديوي السابق عباس حلمي كانت ماثلة أمام أعينهما حيث عبر الشعب المصر عن غضبه في العديد من المناسبات ولعل محاولة اغتيال السلطان حسين كامل ( والذي نصب سلطانا على مصر بعد خلع الخديوي عباس حلمي ) كانت ماثلة أمام أعين الانجليز ومن هنا فقد ترددت بريطانيا كثيرا في محاولة عزل فاروق ولو استطعت أن تقدم على تلك الفكرة لكانت قد أحدثتها إلا أن السياسة البريطانية كانت حريصة وخصوصا في تلك المرحلة الراهنة على التوفيق بين رغباتها ورغبات الشعب المصري بالرغم من تجاوزات 4 فبراير إلا أنها كانت الضرورة التي تحتم " من وجهة نظرها " الإقدام على مثل هذه التجاوزات .

ثالثا : ووفقا للظروف الموضوعية التي أحاطت بالموقف فقد كان من الممكن أن يؤيد الوفد عزل فاروق لو أن هناك بديل مناسب بدلا من الأمير محمد على والذي يفتقد إلى قدر من الشعبية بل بالعكس فقد عرف عنه أنه دائم التشكيك في الشعب المصري وغالبا ما كان يفتخر بمعرفة التركي الذي يميزه عن بقية المصريين بالإضافة إلى كبر سنه كل هذه العوامل قد دفعت الوفد إلى التمسك بفاروق لكن بشرط أن يبقي رمزا للسلطات وليس مصدرا لها .

وخلاصة القول يمكن أن نسجل بعض الدوافع التي دفعت بريطانيا إلى ارتكاب حادث 4 فبراير فيما يأتي :

1- رغبة بريطانيا في قيام حكومة مصرية موالية تكون أكثر إخلاصا لمعاهدة 1936 وتتمتع بثقتي بريطانيا والشعب المصري معا خاصة بعد أن تدهور موقف الحلفاء في ميادين أوروبا والشرق الأقصى والشرق الأوسط .

2- لقد كانت بريطانيا في ذلك الوقت تفكر في إعداد خطتها لما بعد الحرب ولما كان أساس هذه الخطة يدور حول أحكام سيطرتها على الشرق الأوسط الذي صار مركز الثقل في السياسة العالمية ولما كانت مصر من أهم بلدان الشرق الأوسط وتضم أكبر قاعدة عسكرية بريطانية فقد كان من الضروري قيام حكومة موالية لبريطانية حتي يمكن التعاون على نجاح هذه الخطة .

3- لما كانت مصر هي أكبر الدول لعربية عددا وعدة وأكثرها تقدما رأت بريطانيا أن قيام حكومة برئاسة النحاس باشا قد يساعد في قيام شكل من أشكال الوحدة العربية لكي ترتبط في النهاية مع بريطانيا بصورة أو بآخري .

مسئولية الوفد عن حادث 4 فبراير

قبل الحديث عن مسئولية الوفد عن حادث 4 فبراير ينبغي أن نذكر بعض الملاحظات كمدخل لهذا الموضوع :

أولا : أن قيام الحكم في الفترة من 1938 وحتى 1942 لم يقم على أساس من الشرعية الدستورية بل كان أبعاد الوفد عن الحكم 1937 يعد تحديا واضحا من القصر نحو مشاعر الجماهير ولعل انتخابات 1938 تعد أكثر تحديا لمشاعر الجماهير حيث زيفت أرادة الأمة في تلك الانتخابات .

ثانيا: لقد قدرت بريطانيا أهمية عودة الوفد منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939 ومنذ هذا التاريخ وحتى 4 فبراير 1942 مرت العاقلات بين بريطانيا والوفد بعدة مراحل اتسمت في معظمها بالتصادم ويبدو هذا من خلال الدراسة السابقة إلا أن ما أقدمت عليه الحكومة البريطانية في 4 فبراير يعد بداية جديدة وصفت بأنه أقصي ما وصل إليه التفاهم بين الوفد والانجليز .

ثالثا : لقد كان اندلاع الحرب على الجبهة المصرية ودخول ايطاليا طرفا في هذا الصراع بجانب ألمانيا من العوامل التي أدت إلى فزع الجماهير المصرية بسبب الانتصارات الكاسحة التي كان يحرزها المحور وخصوصا بعد القصف المتكرر على مدينة الإسكندرية والذي راح ضحيته مئات من المصريين وعجزت حكومة حسين سري عن السيطرة على زمام الموقف في الوقت الذي اندلعت فيه المظاهرات في معظم أنحاء المدن المصرية تنادي بسقوط الانجليز وبلغ موقف الحكومة حدا من التدهور بسبب أزمة الخبز حيث أضيف إلى قائمة الهتافات التي يرددها الناس في الشوارع " تريد الخبز قبل الكساء "

وعجزت الحكومة المصرية عن حل لعديد من المشاكل اليومية والتي كان يعاني منها المواطن المصري وبسبب كل ذلك فقد أدركت السياسية البريطانية أن عودة الوفد تعني استقرار الشارع المصري ووضع حد لمؤامرات القصر على اعتبار أن عودة الوفد تعني تهدئة المشاعر الثائرة .

وتأسيسا على هذه الحقائق يمكن القول أن مصطفى النحاس ليس مسئولا عن تصور بريطانيا ورغبتها في المجئ به فقد بني الانجليز تصورهم هذا على اعتبار أن عداء الوفد الفاشية والنازية يعتبر من أهم الأسس التي تقوم عليها سياسة الوفد واندفع الانجليز يمدون أيديهم للوفد انطلاقا من الضيق الشديد بسبب النشاط الممالئ للمحور والذي كان القصر بعد بؤرته الأولي وهو ما كان يعرقل نشاط الحلفاء العسكري أو يعرضه للخطر وعلى الرغم من قيام الوفد بالعديد من المؤامرات السياسية والتي سببت قدرا كبيرا من الإحراج لدي الدوائر البريطانية سواء في مذكرة أبريل 1940 أو في خطبه النحاس باشا في مدينة الإسكندرية في صيف1941 – إلا أن بريطانيا كانت تدرك جيدا أن كل هذه المواقف تعد من باب المناورات السياسية بهدف تمكين الوفد من العودة باعتباره الحزب الحائز على ثقة الجماهير لهذا الاعتبار رأت بريطانيا الارتباط بالوفد وهي الذي يعني من وجهة نظرهم الارتباط بالشعب المصري كله.

ومجمل القول أن ما حدث في 4 فبراير كان مظهرا للصراع بين القصر والوفد في إطار الصراع العالمي بين الحلفاء والمحور وبالتالي فغن قبول الوفد للحكم في هذه الظروف بعد إسهاما من الوفد في خدمة الحلفاء .

أما القضية القائلة بحدوث اتصال بين النحاس والانجليز وأن النحاس باشا قد تأمر بليل مع الانجليز على ما حدث في 4 فبراير وعبر هذا التصور لقوله خيانة النحاس باشا يقدم خصوم الوفد العديد من الدلائل ولعل الدكتور أحمد ماهر كان أكثر لزعماء السياسيين إدانة للنحاس حيث وجه احتجاجه الشديد على الإنذار البريطاني مخاطبا لامبسون :" أنكم لا تستطيعون بحال أن تقنعونا بأن النحاس لم يكن على علم بالنيات الخفية وليس من المعقول أن يشكل وزارة وفدية بذلك الإلحاح البالغ وبهذا التمسك العنيف من غير أن يكون له يد في الأمر .

ويبدو أن هذا الاعتقاد كان موجودا لدي معظم زعماء المعارضة وكذلك القصر حيث أن الملك فاروق عندما رأي إصرار النحاس على رفض كل اقتراح لا يضمن انفراد الوفد بالحكم قال لحسنين باشا " بالانجليزية " من المؤكد أن النحاس باشا واثق من الأرض التي يقف عليها وقد عبر الدكتور هيكل عن نفسي هذا المعني حيث يشير في مذكراته ( لقد كان أمين عثمان في استقبال النحاس باشا في محطة السكة الحديد عند عودته من الأقصر في 3 فبراير ثم يتساءل الدكتور هيكل عما إذا كان أمين عثمان قد أبلغ النحاس رسالة السفير والتي دفعته إلى التشدد في موقفه وأبدي هيكل شكه من أن يكون النحاس على علم بخطة السفارة في القصر .

حتى أن مكرم عبيد والذي كان ما يزال وقت وقوع الحادث يمثل الرجل الأول في الوفد بعدد النحاس باشا ثم انشق عليه بعد الحادث بقليل فقد شنت صحيفة الكتلة حملة ضارية مؤكدة أن النحاس كان على علم بمخططات السفارة واعتمدت في روايتها على شهادة – زكي ميخائيل بشارة – والذي كان وفديا ثم انشق مع مكرم عبيد ذكر فيها أنه رأي النحاس في الأقصر في يناير 1942 وهو يلتقي ببعض كبار الانجليز وعلق مكرم عبيد على هذا الرأي من أن النحاس كان بأسوان في نفس الوقت الذي كان يزور فيه الجنرال ستون – قائد القوات البريطانية في مصرأسوان وأن عدة لقاءات تمت بينهما .

أما موقف الحزب الوطني فقد عبر عنه عبد الرحمن الرافعي بقوله أن مسئولية النحاس باشا تبدأ من يوم أن علم برغبة الانجليز في إسناد رئاسة الوزارة إليه وقد كان ولا ريب عالما بهذه الرغبة قبل يوم 4 فبراير راضيا عنها بل مغتبطا بها متلهفا على تنفيذها وتدل الظروف والملابسات على أن أمر هذا الانقلاب قد بليل وكان السفير بين الانجليز والوفد هو أمين عثمان الذي كان موضع ثقتهما معا .

ويشير فتحي رضوان إلى العديد من الدلائل التي يفهم منها أن النحاس باشا كان ضليعا في المؤامرة مع الانجليز ويقول علي ماهر من خلال شهادته في قضية مقتل أمين عثمان : أن العملية كلها دبرت من داخل القطر المصري وأن السفير البريطاني لم يأت بها وحده بل لابد أن اشترك معه في تدبيرها بعض المصريين والنحاس باشا لا يمكن أن يشترك في هذا المسألة بأكملها وجزئياتها وأن الذي دبر ذلك من الجانب المصري هو أمين عثمان .

أما موقف بقية الأطراف المعادية للوفد فقد كان اتهامها للنحاس قائما على الاستنتاج إذ ليس من المعقول أن يتقدم السفير البريطاني إلى القصر يطلب منه استدعاء النحاس وتكليفه بتشكيل إلا إذا كان هذا متفقا عليه مسبقا بين السفير ومصطفى النحاس كان هذا هو منطق عباس العقاد وإسماعيل صدقي .

أما إبراهيم عبد الهادي باشا فقد خرج على هذا الإجماع مؤكدا أن النحاس برئ من كل تلك الاتهامات ووفق اعتقاده فغن النحاس باشا كان صادقا ومخلصا وليس من المعقول أن يقدم على هذا العمال الشنيع .

وعلى ضوء العديد من شهادات خصوم الوفد يلزم أن نتعرف على وجهه لنظر الوفدية ثم نتبع ذلك بما نعتقد انه الحقيقة على ضوء الوثائق البريطانية .

ويؤكد النحاس باشا في أكثر من بيان وأكثر من مناسبة عدم معرفته بما كان يرتبه الانجليز حيث يقول : يشهد الله أني لم أس إلى الحكم ولم تكن مظاهرة لتستهوي نفسي ولكني تقبلته في ساعة عصيبة تلبية لصوت الضمير وطاعة لأمر الملك وإجابة لداعي الوطن فلقد كانت المهمة ثقيلة ودقيقة ولكن الحمل يخف ما دام هذا لوجه الله والوطن . وفي محاولة من النحاس باشا لإلقاء التبعة على أحزاب الأقلية قال : إن المسئولية تقع على خصوم الوفد لأنهم زيفوا إرادة الأمة سنة 1938 وظلوا يتعاقبون على الحكم ضد إرادة الشعب حتى أوائل فبراير 1942 حيث تفاقمت الأحوال واضطربت الأمور ولم تكن لى أية صلة بما كان بل كنت في أسوان خالي الذهن تماما عمنا يحدث ولما تطورت الأحداث كنت أول الموقعين على رفض التبليغ البريطاني ولما طلب مني الملك تشكيل حكومة أبديت عدم رغبتي بعد أن اتفق رأينا على الاحتجاج ولكن جلالته لم يقبل اعتذاري .

أما عن شهادة النحاس باشا في قضية مقتل أمين عثمان فقد جاء فيها إننا كنا في الأقصر حين دعيت لمقابلة الملك وكان برنامج زيارتي للصعيد سيستمر لمدة شهرين أو ثلاثة إلا أن دعوة الملك أدت إلى ارتباك في نظام الرحلة وعدت إلى القاهرة واكتشفت أنني تركت مفاتيح منزلي وكانت المشكلة هي الحصول بدلة المناسبات " الردنجوت " التي سأتشرف بمقابلة الملك بها وقام الحسيني زغلول بجمع الملابس من كل مكان إلى أن أعد لى بدلة " الردنجوت "

ولما كانت قضية أمين عثمان قد تحولت سياسة تفجرت في إطارها مأساة 4 فبراير فقد حاول النحاس باشا أن يتخذ من هذه المحاكمة ما يقوم دليلا على براءته من تلك التهمة ولعل ما ذكره سواء من تركه مفاتيح منزله أو ما كان معدا من برنامج للرحلة سيستمر شهرين أو ثلاثة ما يؤكد سواء لهيئة المحكمة أو للرأي العام المصري خلو ذهن النحاس باشا من أى شكل من أشكال التأمر مع الانجليز على اعتبار أنه ليس من المعقول أن يترك الوفد مدينة القاهرة في رحلة إلى الصعيد قد تستمر شهرين أو ثلاثة في الوقت الذي تحاك فيه مؤامرة بهدف عودة النحاس رئيسا للحكومة .

ويبدو أن التناقض الذي وقعت فيه أحزاب الأقلية قد أتاح للوفد مزيدا من فرص الدفاع عن نفسه حيث يضيف النحاس لقد اتفقنا على كتابة احتجاج ثم عاد الزعماء ليقترحوا من جديد تشكيل حكومة من بين كل الأحزاب يعلق النحاس باشا على هذا الموقف قائلا : لقد اعترضت على هذا الموقف لأن هذا يعد قبولا لرأي الانجليز وتنفيذا لأمرهم فقالوا : ما دام معنا كلنا لا يعتبر تنفيذا لأمرهم .

وهكذا تمكن النحاس باشا من أن يحمل المعارضة قدرا كبيرا من المسئولية على اعتبار أنهم لا يمانعون في التدخل البريطاني شريطة أن يكون هذا لصالحهم أما إذا استقل النحاس بتشكيل حكومة وفدية فإن هذا من وجهه نظرة يعد تنفيذا للإنذار ويستشهد النحاس باشا برفضه تشكيل الحكومة عندما طلب إليه الملك ذلك ويواصل النحاس دفاعه ؟... لقد طلب مني الملك تشكيل الوزارة فقلت : ما هي الظروف التي دعت لتغيير الموقف ؟ قال ( فاروق ) أمرك قلت : ( النحاس ) لقد تعهدنا أنه إذا ما دعي أحدنا إلى تأليف الوزارة لا يقبل ولو كان ذلك من جلالة الملك قال : ( فاروق ) : أنا صاحب الشأن وأمرك وقال أحمد ماهر : أن قبل يكون على أسنة الرماح الانجليزية قلت : ( النحاس) : اخرس أنتم جئتم على أسنة الر ماح الانجليزية ووصلتم بالبلد إلى هذه الحالة .

ويضيف فؤاد سراج الدين : ( سكرتير حزب الوفد ) قائلا : لم تكن فكرة الوزارة الائتلافية واردة في سياسة الوفد فلقد جربها النحاس باشا سنة 1928 وكانت سببا من أسباب تصدع الوزارة ثم إقالتها بحجة تصدع الائتلاف ولقد كان النحاس صريحا مع الزعماء في اجتماعه معهم صباح 4 فبراير حيث ألقي كل المسئولية على حكومات الأقلية فهي التي وصلت البلاد إلى هذه الحالة من الفوضي وبناء على ذلك فلم يكن النحاس على استعداد لكي يشترك مع شخصيات أسهمت في وقوع هذه الحالة لأن وجودهم سيعرقل المهمة ويضيف فؤاد سراج الدين قائلا : ومن الغريب أنهم كانوا متقبلين للإنذار البريطاني بشرط أن يشتركوا في الوزارة وإلا يعتبر قبول الحكم خيانة وعلى أسنة الرماح البريطانية وبالرغم من كل هذا فإن النحاس باشا قال لهم : إذا قررتم الرفض فسوف أكون أول الموقعين وبالفعل كان أول الموقعين .

ويؤكد فؤاد سراج الدين أن الوثائق البريطانية التي نشرن أخيرا لا تتضمن أى اتفاق مسبق بين السفير والنحاس مباشرة أو بواسطة أمين عثمان .

ووفقا لرأي فؤاد سراج الدين فلو أن النحاس باشا صمم على رفض الوزارة وهو بالفعل كان مصمما على ذلك وخصوصا بعد حصار الدبابات وقال للملك فاروق أنا كنت موافق لكن بعد حصار القصر وحكاية الدبابات أنا أرفض تماما فتوسل إليه الملك وكرر عليه الرجاء وعمد النحاس أن يذكر ذلك في كتاب تشكيل الوزارة حتى يسجل على الملك هذا الرجاء .

ويجيب فؤاد سراج الدين بأنه لو رفض النحاس وصمم على الرفض لكانت النتيجة الحتمية هي عزل الملك ولقد أكد السفير ذلك في مذاكرته حيث يقول : لقد شعرت بيأس وخيبة أمل حيث ضاعت منى فرصة إخراج فاروق عن العرش ولو أن فاروقا كان قد عزل إلا نكون متهمين وقتها بأن هناك مؤامرة بين النحاس والإنجليز ليرفض الأول الحكم حتى يعزل فاروق وكان على النحاس أن يقبل الوزارة وينقذ العرش .

ويؤكد فؤاد سراج الدين أن رحلة الوفد إلى الصعيد برئاسة النحاس باشا والتي كان مقررا لها شهرين أو ثلاثة بدأت من منتصف يناير 1942 ما كان لها أن تقوم في هذا الوقت بالذات لو أن هناك اتفاقا مع الانجليز أن عودة النحاس بهذه السرعة وتركه زوجته ومفاتيح منزله كل تلك الدلائل تؤكد على صدق ما نقول وإذا ما نحينا كل الأدلة المادية جانبا فإن الدليل العقلي دائما هو أقوي الأدلة حيث أن إلصاق هذه التهمة للوفد من غير النظر للقرائن والملابسات التي اقترنت بالأحداث يعتبر خروجا على بديهيات يقرها العقل ويقبلها المنطق السليم .

وأعتقد أن الوثائق البريطانية لم تحسم تلك القضية الهامة والخطيرة من هنا فقد اختلفت وجهات النظر بين الباحثين والمؤرخين كل يدلي بدلوه على قدر اجتهاده فمنهم من يعتقد أن النحاس باشا حين استدعي من الصعيد لم يكن يعرف شيئا عن نية الانجليز وهنا يأتي دور أمين عثمان عميل الانجليز المعروف والذي أطلق عليه لورد ويلسون " المفاوض المصري لحساب السفارة البريطانية وقت الأزمات السياسية " ومن المعروف أن أمين عثمان قد التقي بالنحاس باشا أكثر من مرة عقب عودته من الصعيد وأنه هو الذي أبلغه تصميم الانجليز على تكليفه بالوزارة ولعل أمين عثمان هو الذي شجع النحاس باشا على تمسكه بفكرة الوزارة الوفدية .

ويعتقد أحد المؤرخين اليساريين أن العبرة ليست في مشاركة النحاس في الإعداد لحادث 4فبراير أو عدم مشاركته لأن الهدف كان واضحا وهو ضرب مخططات المحور والعناصر الموالية له في مصر وذلك في فترة تتطلب شجاعة خاصة من أى زعيم سياسيا في حين يبدو أن عدم علم النحاس بمخططات الانجليز يعد أكتر إدانة له حيث يبدو أنهم واثقون من التزامه في تنفيذ مطالبهم في أى وقت يطلب منه هذا والبعض الآخر من المؤرخين المعاصرين قد ترك الخوض في هذا الموضوع بالرغم من تناوله هذه الفترة بالدراسة وبصدد تحديد مسئولية الوفد عن إحداث 4 فبراير 1942 يلزم أن نناقش أولا تلك المقولة التي تتهم الوفد بأنه كان كان على اتصال بالانجليز أثناء النحاس رحلة النحاس باشا إلى الصعيد والتي بدأت منذ يناير 1942.

ووفقا للمصادر البريطانية فإن السفير البريطاني لم يكن على علم باتجاهات النحاس باشا هل يفضل وزارة وفدية أو من الممكن قبوله لفكرة الوزارة القومية وأن الذي اقترح دعوة النحاس لرئاسة الوزارة وإرغام الملك على قبوله هو حسين سري نفسه والذي قال للسفير " أرغموا الملك على أن يرسل في طلب الوفد وهو ما توصل إليه السفير بالفعل "

وعلى ما يبدو فإن الانجليز كانوا يريدون وزارة وفدية منذ نشوب الحرب ولعل هذا كان معروفا للوفد ولأحزاب المعارضة وللقصر أيضا ولم يكن هذا حبا في الوفد ولا رضاء عن النحاس ولكن لاعتقادهم أن حكومات الأقليات السياسية مكروهة من الشعب وهذا لا يكفل هدوء الجبهة الداخلية في مصر مما يهدد الخطوط الخلفية لجبهات القتال ومن الجانب آخر فقد اعتقدت السياسة البريطانية أن الموقف يقتضي المجئ بالرجل .

الذي وقع معاهدة 1936 ليلتزم بتنفيذها والأهم من هذا لمجابهة الميول المحورية لدي فاروق وبعض وزرائه وكثير من الشخصيات السياسية لقد كانت استقالة حسين سري ( 2 فبراير 1942 ) مدخلا عمليا لوضع حد للصراع القائم بين القصر والانجليز ولذا فقد كان لامبسون في غاية اليقظة حتى لا يفاجأ بأن فاروقا قد أصدر أمرا بتعين أحد أتباعه رئيسا للوزارة وبما أن النحاس باشا كان في الصعيد ولم يحضر إلا صباح 3 فبراير ووفق رواية السفير :" أنني أشك كثيرا في حكمه اتصالي مباشرة بالنحاس قبل مقابلته للملك ولست أعتقد أنه سيكون راغبا في لقائي في الوقت الحاضر لأن ذلك قد يحرجه بل قد يمنعه من الذهاب للقاء الملك إذا ما علم أننا ندفعه مقدما للاتفاق معنا .

ومن الواضح أن السفير لم يكن قد توصل بعد إلى أى اتفاق مع النحاس ولعل هذا واضحا من حرص السفير على عدم اتصاله بالنحاس مخافة أن يتراجع حتى لا يتهم بالاتفاق مع الانجليز .

ولقد طلب أمين عثمان أن يقابلني هذا الصباح وكنت قد نجحت عن عهد لقاءه خلال الأشهر الثلاثة الماضية لا منع أى أساس للشائعات أما الآن فقد تغير الموقف تماما وقد أصبح الآن من جديد ذا قيمة بوصفه موضع ثقة النحاس كما وافقني على أنه من الخطأ مقابلة النحاس بأن عليه أن يرفض الاقتراح القائل بتشكيل وزارة انتقالية لكن عليه أن يعرض بكل ما في وسعه لتشكيل وزارة ائتلافية وهذا من شأنه أن يدعم موقفه بالنسبة للشعب المصري وبالنسبة إلينا .

ومن الواضح وفقا للوثائق البريطانية أن مصطفي لنحاس لم يكن بينه وبين الانجليز أى اتصال قبل 3 فبراير ولديه علم بالمؤامرة أو أن الانجليز قد اتصلوا به أثناء رحلته إلى الصعيد ولا يبقي سوي أن يكون هذا التواطئ قد حدث في وقت ما بين صباح 3 فبراير وبين الساعة التاسعة والنصف من مساء يوم 4 فبراير 1942 وهي الساعة التي كانت ختام هذا اليوم العاصف .

وأعتقد أن أول اتصالات جرت بين السفير البريطاني ومصطفى النحاس كانت صباح 3 فبراير وكان أمين عثمان هو الواسطة بينهما حيث اتفق الطرفان على رفض الوزارة الائتلافية واتفقت وجهة نظر حسين سري مع وجهة نظر النحاس في أن الحكومة الائتلافية نوع من تضييع الوقت وفرصة لتآمر القصر وعاد أمين عثمان بأول رسالة حملها إلى مصطفى النحاس ومعه القرائن الآتية :

1- النحاس باشا سيرفض عند مقابلته للملك فض قاطعا تشكيل وزارة ائتلافية على اعتبار أن الوضع في البلاد سيئ جدا وأن قيام حكومة ائتلافية ستكون عرضة مؤامرات القصر .

2- أن النحاس باشا سيكون مخلصا لقضية الحلفاء بكل جوارحه فقد عمل ذلك دائما من قبل وسيفعل هذا سواء وجدت المعاهدة أم لم توجد .

3- يرغب النحاس باشا في مزيد من الوعود بأن بريطاني ستظل على مساندتها له ولن تحيد عن ذلك .

وعلى ما أعتقد فإن المساندة التي كان يطمع فيها النحاس لا يمكن أن تكون إلا مساندة معنوية تتمثل في الضغط على الملك فاروق وفي محاولة من النحاس لتقريب الهوة بين القوتين المصارعين – الانجليز والقصر – فقد أعلن أنه على استعداد لتخصيص بعض المقاعد لسائر الأحزاب الأخرى ولا مانع من قيام مجلس استشاري يختار أعضاؤه من سائر الأحزاب كرمز للائتلاف .

وعقب اللقاء الذي تم بين فاروق والنحاس صباح 3 فبراير استوثق كل من الطرفين – الوفد والانجليز من موقف الآخر رفض النحاس فكرة الوزارة القومية وأصر على رفضه وبناء على ذلك قام السفير باستدعاء أحمد حسنين رئيس الديوان وأخبره بأنه علم برفض النحاس وطلب إليه أن يرفع إلى الملك نصيحة السفير بدعوة النحاس باشا لتأليف الوزارة الوفدية إلا أن أحمد حسنين قد لجأ إلى أسلوب المناورة السياسية الوفدية لكسب مزيد من الوقت حتى يتمكن فاروق من إقناع مصطفى النحاس بالعدول عن موقفه .

ومن هنا فقد بدأت الخطوة العملية في المخطط البريطاني حيث تقدم لامبسون بالإنذار البريطاني والذي يتضمن :

إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة من مساء اليوم ( 4 فبراير) أن لنحاس باشا قد دعي لتأليف الوزارة فإن جلالة الملك فاروق يجب أن يتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج .

ومن المؤكد أن النحاس باشا قد أدرك مدي الحرج الذي وقع فيه وفي محاولة من لامبسون لتبديد هذا الإحساس من جانب النحاس فقد حمل أمين عثمان بعض الاقتراحات إلى النحاس باشا لكي يتمكن من الرد على الملك فاروق أثناء اجتماعه به في نفس اليوم ومما يضاعف من مسئولية النحاس " من وجهة نظرنا " أن المبررات التي ساقها النحاس للرد على فاروق هي نفس المبررات التي حملها أمين عثمان والتي اقترحها لامبسون وبخصوص هذه الاقتراحات بعث لامبسون إلى حكومته قائلا : لقد اقترحت على النحاس باشا من خلال أمين عثمان أن يرد على الملك أثناء اجتماعه به اليوم بأنه لا علم له لوجود تدخل بريطاني وأن الشخص الوحيد الذي يمكن أن يعين رئيس الوزارة هو الملك وأن الموقف في البلاد قد بلغ مرحلة خطيرة لأنها لا تحكم بواسطة حزب ديمقراطي حقيقي وأنه – النحاس - باعتباره ممثلا للأغلبية فلا مانع لديه من قبول رئاسة الحكومة وإنقاذ لموقف إذا عهد إليه جلالة الملك بذلك .

ولعل هذا التطابق الغريب قد يبدد المقولة التي أوردها أحد زعماء الوفد والتي تعني أن أمين عثمان لم يكن يعمل لحساب الوفد أو بتكليف منه وإنما كان يعمل لحساب نفسه فقط .

وعلى ضوء كل ما تقدم يمكننا أن نسجل بعضا من الاعتبارات ؟

أولا: أن عدم مقابلة لامبسون للنحاس باشا لا يقيم دليلا على عدم وجود اتصالات بينهما لأن رسولهما في ذلك كان أمين عثمان والذي لعب دورا خطيرا طوال اليومين اللذين سبقا الحادث ( 3,4 فبراير 1942).

ثانيا : وفي محاولة من أحد زعماء الوفد لتبديد تلك الاتهامات فقد ساق في احدي مبرراته من أن الوثائق البريطانية قد نصحت صراحة على عدم قيام أى نوع من الاتصالات الشخصية بين النحاس ولامبسون إلا أننا نعتقد أن ما ذكره الزعيم الوفدي جاء على ما ذهب ولا تقربوا الصلاة من أن يكمل بقية الآية حيث أن نص برقية السفير إلى حكومته قد وردت على النحو لتالي : عندي تحذير واحد وهو أنه لم يحدث في أى وقت خلال هذه القضية سواء في تشكيل الوزارة الجديدة أو في فكرة عزل الملك أن أجريت اتصالا شخصيا مع النحاس والنتيجة أنه لم يعد متاحا فقط للنحاس أن يذكر علنا – وهو بالقطع سينكر – أن لنا يدا في مساعدته بشئ أو أنه ملتزم بشئ ما تجاهنا وليس معنا في الحقيقة ما نلوح به في وجهة ولو بصفة سرية أنني لا أعتبر الرسائل التي تبودلت عن طريق أمين عثمان بمثابة بديل مرض على الإطلاق لأن مثل هذه الرسائل ربما لا تكون قد سلمت أو على الأقل قد سلمت في شكل مخالف تماما لما أرسلت به تلك هي نص الوثيقة التي يسوقها أحد زعماء الوفد ليقيم بها دليلا على عدم وجود أى نوع من الاتصالات بين الانجليز والنحاس باشا وعلى الرغم من أنها تنفي وجود أى اتصال شخصي بين النحاس ولامبسون إلا أنها تؤكد أن الاتصالات قد تمت عن طريق أمين عثمان والذي كانت تعتبره الدوائر البريطانية المفاوض المصري لصالح الانجليز .

ثالثا : ومن خلال هذه الدراسة يمكننا القول أن النحاس باشا لم يكن مسئولا مسئولية مطلقة حيث أن الظروف الموضعية والملابسات التي أحاطت بالقضية قد دفعت الوفد تلقائيا إلى التضامن مع الانجليز , وإذا كان هذا التضامن يمثل نقطة التقاء أعتقد أنها جديرة لكي يتضامن الوفد من أجلها وهي تحقيق الشرعية الدستورية وأن عودة الوفد تعني التجسيد الحي لتلك الشرعية باعتبار أن حزب الوفد هو الحزب الذي يحظي بالأغلبية البرلمانية وبالنظر إلى ظروف العصر وفهم العلاقات المصرية البريطانية من منطلق معاهدة 1936 وما تلا ذلك من قيام الحرب العالمية الثانية والمواقف الصعبة التي كانت تواجهها بريطانيا ووجهة النظر الوفدية التي تعني أن لتعاون مع الحليفة في شدتها تعتبر نوعا من الوفاء وتقديرا للمسئولية إذا نظرنا إلى كل هذه الاعتبارات وقيمناها تقييما موضوعيا يبدو أنه من الطبيعي جسدا أن يتضامن الوفد مع الانجليز طالما أن هذا التضامن يعد في إطار من الشرعية الدستورية وإذا ما وضعنا في الاعتبار أيضا أنن كل أحزاب الأقلية ما كانت تنكر هذا التضامن لو أنه جاء لمصلحتها .

القضية الهامة والتي اعتبرها لب الموضوع هي حصار قصر عابدين بالدبابات لأنها السبب المباشر في كل ما ترتب على هذا الحادث فوفقتا لكل المصادر التي تناولت هذا الموضوع وفي مقدمتها الوثائق البريطانية فلم أجد ما يشير ولو من بعيد إلى أن النحاس كان على علم بما يعده مجلس الحرب البريطاني ومن خلال لمراسلات التي حملها أمين عثمان كواسطة التقاء بين الطرفين المتصارعين – الانجليز والقصر – لم أجد ما يفهم من أن النحاس باشا كان ضليعا في تلك المؤامرة ولعله كان يتصور أن الموقف سيقف عند حد الضغط المعنوي على الملك فاروق وعند هذا الحد يكون التضامن مع الانجليز أمرا يبدو إلى حد كبير قضية عادية ولذا فإنني أعتقد أن المسئول الأول هو السفير البريطاني ثم تتعدد المسئوليات بعد ذلك كل على قدر دوره . وعلى الرغم من انتهازية الوفد ورغبة الكثير من أعضائه في الوصول إلى الحكم إلا أن هناك عدة عوامل موضوعية دفعت الوفد إلى مسلكه الذي سلكه في 4 فبراير :

1- العداء التاريخي بين الوفد والقصر ثم تحمس القصر المتزايد للمحور – كان يحدث أثرا مضادا داخل دوائر الوفد ويضاعف من حدة الصراع القائم بينهما.

2- لم يكن أمام النحاس إلا أن يلقي بكل ثقله تجاه الحليفة بسبب علاقة القصر بالمحور في الوقت الذي يعتقد فيه الوفد أن قضية الحرب التي يدافع من أجلها الحلفاء هي قضية الديمقراطية في العالم كله والتي هي أساس التضامن بين الوفد والاحتلال .

3- لقد اعتمدت كل أحزاب الأقلية على القصر اعتنقت فكرة " الحقوق الدستورية للقصر " والتي كانت تعني من وجهة نظرهم أن القصر يملك ويحكم وأصبح الوفد هو الهيئة السياسية الوحيدة التي تفتقد معاضدة القصر .

وهو عامل لا يمكن التقليل من شأنه حيث أن قضية الديمقراطية كانت تفسر تفسيرات خاطئة تؤدي في النهاية إلى الإطاحة بحزب الأغلبية ومن هنا فقد قدر الوفد المقولة القائلة – حرام علينا حلال على غيرنا ومن هنا أيضا كان اعتماد الوفد على الانجليز هذا الاعتماد الذي أدي إلى نتائج خطيرة ليس على سياسية الوفد وشعبية فقط وإنما على تاريخ مصر السياسي عموما .

الفصل الثالث : سياسة حكومة 4 فبراير

إعادة الانتخابات البرلمانية

لقد كان السؤال الوحيد الذي وجهه تشرشل لأنتوني أين في اجتماع حكومة الحزب عند نظر موضوع تكليف النحاس بتولي الوزارة : هل سيؤدي ذلك إلى انتخابات جديدة ؟ وكانت لندن لا تري ضرورة من إجراء الانتخابات الجديدة في ظل الجو السياسي المضطرب وف يجو عسكري يميل ميزانه لصالح الألمان .

إلا أن النحاس باشا على ما يبدو قد استطاع أن يقنع الدوائر البريطانية بأهمية إعادة الانتخابات البرلمانية على اعتبار أن الوفد لم يعط ثقته للبرلمان القائم منذ انتخابات سنة 1938 والتي قاطعها الوفد والنتيجة المنطقية أن حكومة الوفد لا يمكنها أن تمارس سياستها في ظل برلمان يميل في سياسته إلى أحزاب الأقلية وقد تحدث عملية سحب الثقة من الحكومة وهذا أمر يضاعف من حرج الوفد ويقلل من هيبته ويفقده الشرعية في البقاء وعلى ضوء كل ذلك فقد وافقت وزارة الخارجية البريطانية وعبرت عن وجهة نظرها بأن هذا الإجراء يدعو للأسف ولكن لابد لنا من احتماله والانتخابات التي يجريها الوفد أقل تزويرا من الانتخابات التي يجربها خصومه .

وهناك دلائل تشير إلى أن الحكومة البريطانية كانت تود أن يترك الوفد عددا من المقاعد البرلمانية لأحزاب المعارضة وهي بذلك ترمي إلى غرضين :

أولهما : حتى لا تترك الساحة خالية أمام الوفد وبذلك تكون بريطانيا قد ألقت بكل أوراقها في جبهة واحدة وهو أمر لا تضمن عواقبه .

ثانيا : لقد أرادت بريطانيا أن يظل الباب مفتوحا أمام أحزاب المعارضة حتى لا تتعرض المصالح البريطانية لهجمات المعارضة والقصر معا ولقد عبر ايدن عن هذا المعني بقوله : أننا لا نستطيع أن نقترح تزوير الانتخابات ولكننا نطالب بتخصيص عدد من المقاعد في مجلس النواب للمعارضة أى لا يرشح الوفد أحد من أعضائه في تلك الدوائر وهذا يعد أفضل طريقة حيث لا يستطيع الوفد إثارة نشاط سياسي في البلاد إذا اقتصر البرلمان على الوفديين وهذا ضاعف من قوة خصوم الوفد في البلاد.

ومن المؤكد أن حرص بريطانيا على قيام معارضة من نوع ما لم يكن خدمة لقضية الديمقراطية في مصر ما كانت تحرص عليه من استقرار الأوضاع وهو ما كانت ترمي إليه من وراء أحداث 4 فبراير 1942.

وعلى ضوء هذا المعني بدأت عدة اتصالات مع حزب الأحرار الدستوريين وكان مكرم عبيد هو واسطة الاتصال إلا أن النحاس قد اشترط قبل الاتفاق على عدد المقاعد التي سوف تترك خالية للأحرار الدستوريين أن يعلنوا أن مصطفى النحاس قد أدي خدمة جليلة للعرش وللبلاد بقبوله الوزارة في 4 فبراير وهذا ما رفضه الأحرار الدستوريين رفضا قاطعا .

ولما كانت هذه الاتصالات تتم من غير علم الهيئة العمة للحزب ولم يكن هناك تفويض لإجراء مثل تلك الاتصالات فقد اجتمعت هيئة الحزب واتفق الأعضاء على الدخول في مفاوضات مع الوفد بشرط أن تترك للمعارضة ثلث مقاعد النواب بلا أى مناقشة من الوفد.

إلا أن النحاس باشا لقد رفض هذا الاقتراح حرصا على بقاء الأغلبية المطلقة للوفد وحتى لا تثأر أحداث 4 فبراير في البرلمان وعاد الأحرار الدستوريون ليقترحوا رفع الأحكام العرفية أثناء الانتخابات ليقول المرشحون ما شاءوا وضربوا مثلا بما حدث في 4 فبراير مما جعل النحاس يصر على رفضه إلا أن الدكتور هيكل قد أراد أن يسجل على الوفد هذا الموقف فأرسل إلى رئيس الوزراء كتابا يطلب إليه فيه التصريح بحرية الخطابة والنشر والاجتماع خلال فترة الانتخابات إلا أن كل هذه لمحاولات قد باءت بالفشل حيث رفض النحاس رفضا قتطعا متهما أحزاب الأقلية بمحاولة إيقاظ الفتنة وتجديد الأزمة والتحريض على الإخلال بالنظام وتعكير الأمن العام ويضيف النحاس قائلا : تطلبون وقف الأحكام العرفية والرقابة الصحفية لتهيئ لكم الحكومة بأيديها جوا تفرخ فيه الدسيسة وتشب الفتنة ويمهد السبيل للكارثة التي لها تعلمون فهل تحسبون أنكم توقعون في الحرج ولزموننا الحجة بذلك العبث المفضوح ؟ أننا لو حققنا لكم غرضكم بإجابتكم ما تطلبون ؟ إننا إذن شركاؤهم وزملاؤكم في العبث .

وهكذا لم تحقق تلك الاتصالات أى نوع من التفاهم مما اضطر الدستوريون إلى الإعلان عن مقاطعة الانتخابات ولعل هذا الموقف من الدستوريين كان يحمل قدرا من التناقش فلم يكن موقفهم نابعا من مبدأ أو فلسفة فهم مستعدون لدخول الانتخابات بشرط الاتفاق على الدوائر الانتخابية أو رفع الأحكام العربية متناسين تماما انتخابات 1938 وأن الوفد قد طلب منهم التفاهم ضمانا لحيدة الانتخابات إلا أنهم قد رفضوا أن يكون للوفد أى وجود في البرلمان ولذا فقد أجمع أصدقاء المعارضة بأنها كانت انتخابات مزيفة صادرت رأي الشعب وجردته من هويته سواء فيما يتعلق بتعديل الدوائر الانتخابية لصالح أحزاب الأقلية أو في نقل رجال الإدارة بما يتفق وأحزاب الأقلية .

أما عن موقف حزب السعديين فلم يختلف كثيرا عن موقف الدستوريين حيث بادر الدكتور أحمد ماهر رئيس لحزب بإرسال خطاب إلى النحاس يطلب إليه فيه رفع الأحكام العرفية بما يتفق وحرية الانتخابات على اعتبار أن هذا مطلبا طبيعيا اتفقت عليه كل الأمم وحمل رد النحاس باشا على خطاب الدكتور أحمد ماهر الرفض القاطع على اعتبار أن الحرية التي تعنيها المعارضة هي العبث الضار بأمن الوطن وسلامة الدولة .

وأصدر الأحرار الدستوريون والسعديون قرارا بمقاطعة الانتخابات ولعل غرضهم من وراء ذلك هو المزيد من إحراج الوفد وتبريرا لموقفهم الذي ارتضوه من أحداث 4 فبراير .

والجدير بالذكر أن موضوع الانتخابات ومنذ صبيحة يوم 15 فبراير كان الشغل الشاغل للأحزاب المصرية التي تعودت أن تعطي لموضوع الانتخابات الأولوية على غيره من الموضوعات الهامة والخطيرة حتى فيما يتعلق بالقضايا المصيرية كقضية الاستقلال والتحرير وقد كان الاستعمار ورجاله قد تعودوا على أن يشغلوا الأحزاب المصرية بفكرة الانتخابات لينشغلوا بها عما عداها من الأمور بالغة الخطورة حدث هذا في عام 1923 عندما رأت بريطانيا تصفية ثورة 1919 وحدث هذا عندما التأمت الأحزاب بعد " تصدع " في نوفمبر 1925 وحدث هذا أيضا لامتصاص ثورة الشعب المصري سنة 1936 ثم هذا ما حدث بالضبط عقب 4 فبراير 1942 .

وبالرغم من أن بريطانيا كانت حريصة هذه المرة على أرجاء عملية الانتخابات نظرا لتدهور الأوضاع العسكرية على الجبهة المصرية إلا أنها قدرت في النهاية أهمية الانتخابات كوسيلة لانصراف الشعب عن التدخل المهين الذي أهان كرامة مصر وهز من كبريائها استقلالها بهدف أن تنشغل الأحزاب المصرية بمعارك جانبية .

وأعتقد أن انتخابات 1942 قد شهدت أكبر مهزلة في تاريخ الانتخابات البرلمانية حيث تسابق الناس في إظهار وفديتهم حتى أولئك الذين أوقفوا جهودهم للنيل من الوفد وتجريح زعمائه سرعان ما تحولوا بقدرة عجيبة وغريبة إلى مناصرة الوفد ومحاولة التقرب إلى زعمائه بكل الوسائل الممكنة بما فيها إراقة مياه وجوههم وسرعان ما امتلأ النادي السعدي بمرضي السياسة وهواة الانتخابات وخلت أندية الأحزاب الأخرى إلا من أعضاء مجالس إدارتها بل أن الكثيرين من أعضاء مجالس الإدارات لم يكونا – في كل حزب – وحدة واحدة بل كانوا منقسمين على أنفسهم بعضهم يدعو إلى التقرب من الوفد للحصول على نسبة محترمة من المقاعد وبعضهم يرفض هذه " الصدقة " من الوفد ويصر على الانتخابات حرصا على كرامة الحزب وعلى الرغم من اتفاق الدستوريين والسعديين على مقاطعة الانتخابات إلا أن مواقف كلا من الحزبين لم تكن أبدا متفقة حيث أن بعض قادة الأحرار الدستوريين قد حاولوا الاتفاق مع الوفد من وراء ظهر حلفائهم السعديين كرد على اتفاق أحمد ماهر من وراء ظهر الدستوريين ولكن قادة آخرين من الأحرار الدستوريين أصروا على الاتفاق مع السعديين فيما يتعلق بموقفهم من الانتخابات ذلك لأن اختلاف الحزبين المعارضين يضعفهما معا واتفاقهما يكتب لهما القوة وبالرغم من قرار المقاطعة الذي اتخذه الحزبان المعارضان إلا أن عدد المرشحين من الحزبين قد زاد على المائة كان منهم من حارب الوفد يوم أن كانت محاربة الوفد جواز المرور إلى السلطان .

وكان من بين الذين خرجوا على قرار حزبهم بمقاطعة الانتخابات من السعديين – على أيوب ومن الدستوريين عبد المجيد إبراهيم باشا ورشوان محفوظ باشا وعبد الجليل أبو سمرة باشا وسيدر خشبة باشا وقد علق الدكتور أحمد ماهر بأن حزبه لن يتخذ أى إجراء ضد من يرشح نفسه رغم أن قرار مقاطعة الانتخابات كان بإجماع أعضاء الهيئة السعدية .

أما الدكتور هيكل زعيم الدستوريين فقد صرح بأن قرار حزبه بمقاطعة الانتخابات لم يكن بالإجماع بل كان بالأغلبية وكل من رشح نفسه من الأحرار الدستوريين له مكانته في الحزب وله رأيه أيضا .

ولقد اختلف موقف بعض القوي الأخرى ذات التأثير الفعال في المجتمع المصري ومنها جماعة الإخوان المسلمين والتي أكدت من خلال مبادئها على مبدأ الشورى في الإسلام في الإسلام ولكنها اعترضت على الشكليات الفارغة والتقليدية والتي جربتها الأحزاب السياسية في مصر خلال عشرين عاما ولم يترتب عليها إلا الفرقة والخوف وتساءل الشيخ حسن البنا هل البلاد التي ليس فيها أحزاب ليست بلادا دستورية نيابية .

وعلى الرغم من موقف حسن البنا من فكرة الأحزاب وعدم إيمانه بمبدأ الحزبية إلا أنه قد نزل عل رغبة الجماعة وقرر ترشيح نفسه في الانتخابات لكن ليس من خلال حزب وإنما من خلال الدعوة إلى إصلاح المجتمع بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية ومن المؤكد أن هذا الموقف الاستراتيجي لجديد قد أزعج النحاس باشا مما اضطره إلى استدعاء حسن البنا حيث طلب منه العدول عن فكرة الانتخابات بشروط وعد الوفد بتنفيذها ومن بين هذه الشروط اهتمام حكومة الوفد بمشروع فرض الزكاة ومشروع تحسين الصحة وإلغاء الدعارة .

ويبدو أن قرار الشيخ حسن البنا بالعدول عن فكرة الانتخابات كان صدمة لأعضاء جماعة الإخوان ومن المؤكد أن حسن البنا قد عدل عن فكرة ترشيح نفسه بعد أن اتخذ معه النحاس سياسة الترهيب قبل الترغيب حيث يشي أحد تقارير الأمن العام إلى أن النحاس قد هدد باتخاذ إجراءات قاسية ضد الإخوان ولما استوضح الشيخ البنا عن تلك الإجراءات قال النحاس : إنها حل جماعة الإخوان نفي زعمائها خارج القطر وتلك هي رغبة هؤلاء الناس – يقصد الانجليز – فوافق البنا على التنازل لا خوفا من النفي ولكن حرصا على قيام جماعة واستمرارها وذهب الشيخ البنا وقدم التنازل بعد أن أخذ وعدا بعدم التعرض لأعضاء الجماعة ولنشاطاتهم وعدم مراقبتها أو التضييق عليها ووعده النحاس بذلك.

وأعتقد أن النحاس قد قرر خطورة أن يرشح الشيخ البنا نفسه من خلال الدعوة لمبادئ الشريعة الإسلامية حيث سيضاعف من إحراج حكومة الوفد بالإضافة إلى ما عرف عن الشيخ البنا من صراحة في القول ستؤدي بلا شك إلى زعزعة ثقة الجماهير في حكومة الوفد لهذا كان موقف النحاس ومساومته للشيخ حسن البنا وقد لخص البنا أسباب تنازله فيما يأتي :

1- الحرص على قيام الجماعة في مختلف البلاد

2- كسب ثقة النحاس باشا بوصفه رئيس الحكومة وزعيم الأغلبية

3- عدم الاطمئنان نتيجة الانتخابات خوفا من التلاعب واستغلال خصومهم ذلك لتشويه سمعتهم .

وعلى الرغم من أن السعديين والدستوريين بالإضافة إلى الإخوان المسلمين قد قرروا جميعا مقاطعة الانتخابات إلا أن حكومة الوفد خشيت أن يكون من بين المستقلين ن ينافس مرشحيها وقد يفوز عليهم لذلك لجأت إلى تعديل لدوائر الانتخابية تعديلا يلائم أهواء أنصارها .

ويعترف الدكتور هيكل بأن تعديل الدوائر الانتخابية من الوسائل التي لجأت إليها الوزارة المختلفة متذرعة بحجة أو بآخري وغايتها الحقيقية " إغلاق " الدوائر على مرشح بذاته .

ويؤكد أحد زعماء الوفد أن ما قامت به الحكومة لا يعني تعديل الدوائر الانتخابية وإنما يعني إعادة الدوائر إلى ما كانت عليه قبل انتخابات 1938 حيث لجأت حكومة محمد محمود إلى تمزيق الدوائر الانتخابية أو إضافة بعضها إلى بعض بما لا يتفق والحدود الجغرافية والتوزيعات السكانية للأقاليم وكان هدف حكومة محمد محمود هو توزيع الدوائر على الأصدقاء والمحاسيب.

وإنصافا للحق فإن وزارة محمد محمود والتي أجرت انتخابات سنة 1938 قد زيفت إرادة الأمة عن طريق العديد من الإجراءات ويعترف الدكتور هيكل بأن ما أقدمت عليه الحكومة سنة 1938 كان مما لا يسيغ لعقل إقراره لبعد البلد الذي يراد إضافته لدائرة أخري أو لأن السلخ أو الضم يجعل شكل الدائرة غير مقبول جغرافيا وهذا يدل على أن أحزابنا وهيئاتنا السياسية لا تفرق بين الاعتبارات القومية والمصالح الحزبية .

ولم تقتصر حكومة محمد محمود 1938 على تعديل الدائر فقط بل لجأت إلى إجراء الانتخابات على مرحلتين الوجه القبلي في يوم والوجه البحري بعد ثمان وأربعين ساعة ويعترف الدكتور هيكل أيضا بأن المحافظة على الأمن والنظام كانت الحجة والرسمية لتسويغ إجراء الانتخابات في يومين بدلا من إجرائها في يوم واحد ولعل محمد محمود كان أكثر اطمئنان إلى الوجه اقلبي فإذا جرت فيه الانتخابات وظهرت نتيجتها وكانت الأغلبية الكبري فيها لأنصار الحكومة أثر لذلك في مجري الانتخابات في الوجه البحري تأثيرا كبيرا .

وإذا كان تعديل بعض الدوائر الانتخابية له ما يبرره من وجه النظر الوفدية إلا أن ما أقدمت عليه حكومة الوفد من فصل بعض العمد والمشايخ الذين يؤازرون خصومها وتعيين العمد والمشايخ الذين يناصرنها هذا الإجراء لا يتفق ومبدأ الديمقراطية التي يزعم الوفد أنه ما جاء إلى الحكم إلا من أجلها , وتشير مضابط مجلس النواب إلى أنه قد تم فصل سبعة عشر عمدة من مركز اسنا وحده ويبدو أن هذا الإجراء قد أثار ردود فعل متباينة مما اضطر أحد أعضاء مجلس النواب إلى أن يتقدم باستجواب أجابت عليه الحكومة مستندة إلى المادة الخامسة من الأمر العالي الصادر في 16 مارس 1885 والتي أجازت رفد العمد والمشايخ بقرار من وزير الداخلية وأنها لم تعلق هذا الحق على إجراءات أو بواعث بل تركت ذلك لمجرد تقدير الوزارة التي ليست مكلفة بأن تدن الباعث على الرفت في قرارها وكان هذا الرأي في صراحته قاطعا بأن رفت لعمد من أخص خصائص السلطة التنفيذية التي ليست مسئولة أمام البرلمان إلا فيم يتعلق بالأمن العام أو مخالفة للأوضاع التي تقرها القوانين وثم خطوة أخري كان لها أكبر الأثر في الحركة الانتخابية وكانت موضوع عناية الوزارة وهي رؤساء اللجان التي تتولي الإشراف على عملية لا انتخابات والتي اختارتهم من الموظفين أنصارها حيث أن رؤساء للجان هم الذين يقضي إليهم الناخبون الذين لا يعرفون القراءة والكتابة وهؤلاء يكادون يبلغون السبعين في المائة من مجموع الناخبين , ونشرت جريدة التيمز مقالا علقت فيه على انتصار الوفد في الانتخابات فقالت أن مما ساعد الوفدين أن الحزبين الرئيسيين اللذين يعارضان الوفد وهما الحزب السعدي والأحرار الدستوريين قررا عدم الاشتراك في الانتخابات ولو فرض وقرر الحزبان دخول معركة الانتخابات فإنهما كانا لا يستطيعان الفوز بعدد من المقاعد يزيد كثيرا على ما نالته المعارضة الآن . وقد حرم الحزبان من أى تأييد واسع النطاق من جانب الشعب المصري بسبب اتحادهما في سلسلة من الوزارات كانت لا تمثل أكثر من أقلية يسيرة بل لسبب أهم من ذلك وهو فشل السلطات المصرية في العهود السابقة في حل مشاكل أهم من ذلك وهو فشل لسلطات المصرية في العهود السابقة في حل مشاكل أجور العمال ومسألة التموين ويبدو أن الصعوبات التي تواجه حكومة النحاس باشا اقتصادية أكثر منها سياسة وقد يضطر الوفديون إلى اتخاذ قرارات حماسية لتقريب الهوة الكبيرة بين الطبقات الاجتماعية في مصر .

وكذلك أجريت انتخابات أعضاء مجلس الشيوخ في الدوائر التي خرج أعضاؤها بالقرعة في مارس 1941 بمناسبة التجديد النصفي للمجلس فأسفرت أيضا عن أغلبية وفدية كبري .

واستصدرت الوزارة ومرسوما في 22 فبراير 1942 بإبطال مرسوم 24 مارس 1941 الصادر في عهد وزارة حسين سري فيما قضي به من تعين أعضاء المجلس الشيوخ خلفا للأعضاء المعينين الذين خرجوا بالقرعة وكانت حجة الحكومة في إسقاط عضوية الشيوخ أن تعيينهم كان يجب ألا يحدث إلا بعد إجراء الانتخابات في الدوائر التي خرج أعضاؤها بالقرعة في التجديد النصفي .

وعينت الوزارة بدلا من الذين أبطلت تعيينهم شيوخا آخرين معظمهم من الوفديين أو من الذين عرفوا بصداقة الوفد , وافتتح البرلمان بمجلسيه ( النواب والشيوخ) يوم الاثنين 30 مارس 1942 وألقي النحاس خطبة العرش والتي خلت تماما من الظروف والملابسات التي أحاطت بتشكيل وزارة 4 فبراير وهكذا أسدل ستار كثيف على مسرح السياسة المصرية حول أحداث 4 فبراير فلم يسمح لأحد بمناقشته أو التعرض إليه فالصحافة نظرا لقيام الأحكام العرفية لم تذكر شيئا على الإطلاق سوي الأمر الملكي بدعوة مصطفى النحاس لتأليف الوزارة ولما قدم أحد أعضاء مجلس الشيوخ استجوابا عن الظروف والملابسات التي أدت إلى تأليف الوزارة ثارت ضده ضجة من الشيوخ الوفديين في المجلس فقير الاستجواب في الحال حيث دفعت الحكومة بعدم جواز مناقشة قال مقدم الاستجواب : أنا لا أريد أن أتعرض لهذا الحق لأنه حق مسلم به ولكن أريد أن أتعرض لصحة الاحتيار وهل كان هذا الاختيار حرا صحيحا – أم أن هناك ضغوطا قد وقعت هذا هو موضوع الاستجواب .

وقد أثار ذلك ضجة من مقاعد الوفديين قال على اثر رئيس المجلس " أن قولك هذا يعتبر ماسا بالعرش ومخالفا لنص الدستور ولا أسمح بالاستمرار فيه "

ويبدو أن الحكومة قد أغلقت كل المنافذ لتي من الممكن أن يثأر من خلالها حادث 4 فبراير فعلي الرغم من أن موضوع الاستجواب قد أثير داخل مجلس الشيوخ وهي الهيئة النيابية الوحيدة الكفيلة بحماية نوابها من ديكتاتورية الأغلبية إلا أن هذا الحق قد سلب أيضا من الأعضاء وحرصا من الحكومة على عدم تداول هذا الموضوع لدي المعارضة فقد صدر أمر عسكري في 24 أكتوبر 1942 بتشديد العقوبة المنصوص عليها في المرسوم بقانون رقم 22 لسنة 1929 والتي جعلت عقوبة الحبس إجبارية لمن يحرض الطلبة على القيام بالمظاهرات أو تأليف لجان أو جماعات أو الاشتراك بأية طريقة في تحرير أو توقيع أو طبع أو نشر أو توزيع محاضرات سياسية أو اجتماعية موجهة إلى السلطات بشأن مسائل أو أمور ذات صبغة سياسية أو الامتناع عن تلقي الدروس أو مغادرة معاهد التعليم أو الانقطاع عنها .

وعلى الرغم من قرار مقاطعة الانتخابات والذي تم بالتضامن بين حزبي الدستوريين والسعديين إلا أن الدكتور هيكل زعيم الدستوريين قد خرج على هذا الاتفاق وقبل التعيين في مجلس الشيوخ على اعتبار أن الحزبية ليست أشخاصا وإنما هي فكرة وعقيدة وما دام رجال الحزب متمسكين بالفكرة التي أنشي من أجلها فإن خروج فرد أو أفراد على قرار من القرارات لا يعتبر خروجا من الحزب أو خروجا على فكرته فليس من الضروري أن يكون جميع رجال الحزب أو خروجا على فكرته فليس من الضروري أن يكون جميع رجال الحزب الواحد متفقين على واحد في كل مسألة من مسائل بل أن حرية الرأي هي أول مظهر من مظاهر قيام الأحزاب وأهم ميزة من ميزات الحياة الديمقراطية ويواصل لدكتور هيكل الدفاع عن مواقفه قائلا: " أن نظريتنا في قبول تعين الوزارة القائمة لنا عضوا في مجلس الشيوخ هي أن وزارة سري أصدرت في 27 مارس 1941 مرسوما بتعيين 29 عضوا في مجلس الشيوخ على أن تبدأ مدة عضويتهم في 8 مايو من تلك السنة وقد أقر مجلس الشيوخ عضوية كل من هؤلاء المعينين بعد عرضهم واحدا واحدا على لجنة الطعون فأصبح حق فصل هؤلاء من حق المجلس بمقتضي المادة 95 من الدستور وليس من حق الوزارة فإذا كانت الوزارة اعتبرت المرسوم الذي أصدرته وزارة حسين سري باطلا فإن هذا الاعتبار ليس من حقها ولذلك فإن تعيني تكرار للتعيين الذي حدث في عهد الوزارة السابقة ثم يضيف الدكتور هيكل سببا آخر فيقول : أن لى آراء سياسية أحرص على إبدائها والرقابة الصحفية تمنعني من ذلك فأي مكان آخر يمكنني أن ابدي فيه رأيي غير مجلس الشيوخ .

ومن الصعب أن نتقبل وجهة نظر الدكتور هيكل استنادا على أن هذا التعيين لا يعتبر خروجا على فكرة الحزبية أو لأن قرار التعيين أمر ملكي واجب الطاعة .

أما القول بأن هذا التعيين لا يعتبر خروجا على فكرة الحزبية على اعتبار أن حرية الرأي هي أول مظهر من مظاهر قيام الأحزاب فلا أتصور أن تكون حرية الرأي إلا من خلال الهيئة السياسية والتي يعبر عنها بالحزب أى أن من حق الأعضاء أن يختلفوا على موضوع ما إلا أنه من الضروري أن يكونوا متفقين على اتخاذ سياسة وليس من الضروري أن يتفق جميع الأعضاء على فكرة واحدة إنما المهم أن تخضع الأقلية لرأي الأغلبية وهو ما يعبر عنه بموقف الحزب أما أن يخرج الدكتور هيكل على الإجماع بحجة أن القرار لم يكن جماعيا فهو قول مردود من عدة وجوه :

أولا : على اعتبار أن الدكتور هيكل من بين الزعماء البارزين في الحزب فكان من الضروري أن يكون قدوة لحزبه .

ثانيا : أن قرار مقاطعة الانتخابات لم ينص فيه على هذا الاستثناء والذي يعني التزام الحزب بوجهة نظر الأقلية وهو ما يعتبر موقف متناقضا في سياسة الحزب .

ثالثا : أن وجهة نظر الدكتور هيكل تعتبر خروجا طبيعيا على تضامن السعديين والدستوريين وهو ما يضعف من جبهة المعارضة ولعل القرار الذي اتخذه الحزبان كان يعني مقاطعة كل شكل من أشكال الانتخابات سواء منها ما يتعلق بمجلس الشيوخ أو النواب .

أما القول بأن التعيين أمر ملكي واجب الطاعة : فيرد عليه بأن القواعد المرعية تحتم على الجهة التي تعين أن تأخذ في البداية رأي من يصدر المرسوم بتعيينه قبل إصدار المرسوم وإذا كان الملك هو الذي يصدر المرسوم فإن الحكومة هي التي تعد قائمة الأسماء ومن غير المعقول أن ترفع القائمة إلى الملك من غير أن تأخذ الحكومة رأي من وقع عليهم الاختيار وأعتقد أن هذا الموقف يؤكد من جديد تهافت زعماء أحزاب الأقلية على الفوز بمقاعد البرلمان مهما كانت الوسيلة .

ونود ونحن بصدد الحديث عن قضية الانتخابات أن ننوه إلى ما أشبع من أن حكومة الوفد زيفت الانتخابات لصالح الوفديين ونظرا لأهمية هذا الادعاء على اعتبار أنه يعد سابقة خطيرة في تاريخ الوفد فقد أعطيت اهتماما خاصا بهذه القضية وعلى ضوء العديد من المصادر وثيقة الصلة بهذا الموضوع يمكنني أن أقرر عدة اعتبارات ترقي إلى درجة الحقائق :

أولا : إذا كان الوفد قد لجأ إلى تعديل الدوائر الانتخابية فإن هذا الإجراء في مجمله كان عودة إلى التقسيمات الإدارية التي كانت قائمة قبل سنة 1938.

ثانيا : لم يثبت بالدليل المادي أن الحكومة الوفد زيفت الانتخابات بمعناها المعاصر وإنما كل الطعون التي قدمت سواء للبرلمان أو للقصر لم تستند إلى دليل واضح وإنما اعتمدت على أدلة ظنية لا ترقي إلى قوة الدليل وقد عرضت جميع الطعون على لجان مخصصة لفحص الطعون وثبت عدم صحتها جميعها .

ثالثا : لقد لجأ الوفد إلى العديد من التجاوزات وخصوصا ما يتعلق منها بالعمد والمشايخ ومديري الأقاليم لكن الوفد كانت له حجته التي يدافع عنها ووفق المصادر الأصلية فإن حكومة الوفد كانت أقل الحكومات التي لجأت إلى هذا الأسلوب كوسيلة لضمان نجاح أنصارها .

الاعتقالات السياسية

لقد عرف عن الوفد معارضته الشديدة لفكرة إعلان الأحكام العرفية وحطمت مذكرة الوفدأبريل 1940 حملة شديدة على هذا الإجراء وطالبت بريطانيا بإلغائها بل أن أهم ما طالب به النحاس باشا في خطابه الشهير والذي ألقاه في رأس البر هو أن إعلان الأحكام العرفية قد فرض في غير ضرورة وهاجم وزارة علي ماهر بسبب اتخاذها الأحكام العرفية وسيلة لاضطهاد خصومها .

ولم يكد النحاس يتولي الحكم في 4 فبراير حتى استند إلى الأحكام العرفية واتخذ منها وسيلة لاضطهاد خصومه وخصوصا فيما يتعلق بالاعتقالات السياسية والنفي الإداري حتى بات الأحزاب وقادة الرأي في البلاد في غير مأمن على حياتهم من استخدام هذا السلاح الخطير ولم يقتصر الأمر على تكميم الأفواه من خلال الصحافة فقط بل بات البوليس السياسي يتعقب كل صاحب رأي أو فكرة في الاجتماعات الخاصة وفي الأحزاب السياسية .

واتخذت حكومة الوفد من قضية – الحفاظ على المصالح العليا للبلاد – ذريعة لاعتقال خصومها السياسيين وشهدت قاعات مجلس النواب والشيوخ العديد من اجتماعات وتقدم عدد كبير من نواب المجلسين – النواب والشيوخ – بالعديد من الاستجوابات حول المبررات التي تسوقها الحكومة لاعتقال الخصوم السياسيين إلا أن الأغلبية الوفدية قد قبرت هذا الاستجواب في محاولة منها للقضاء على صوت المعارضة داخل المجلسين ولما كان جواب الحكومة لم يقنع المعارضة فقد تكررت تلك الاستجوابات في محاولة يائسة لإحراج الحكومة إلا أن رد الحكومة كان مزيدا من الاستهانة بالمعارضة في محاولة لتبرير أمر الاعتقال بحجة دواعي الأمن التي تتعلق بالمصلحة العليا للبلاد وامتد أمر الاعتقال ليشمل طلاب الجامعة وإيداعهم في السجون من غير تحقيق معهم مما حمل النائب عبد السلام الشاذلي إلى اتهام الحكومة بأنها تزج الشباب في السجون بناء على تقارير يعدها البوليس السياسي من غير أن يتحري الحقيقة .

والحق أن وزارة علي ماهر التي أعلنت الأحكام العرفية لم تأخذه من سلاح الاعتقال ذريعة لمعاقبة خصومها حتي أنه حينما استسلمت ألمانيا وأشرفت الحرب على نهايتها أعلن النحاس باشا أن الأحكام العرفية باقية حتى تنتهي الحرب مع اليابان .

وفي خلال الشهور الثلاثة الأول من عمر وزارة الوفد فقد وصل عدد المعتقلين لدواعي المن 2136 أما المعتقلون السياسيون فقد بلغ عددهم 72 معتقلا .

وامتد الاعتقال ليشمل عددا كبيرا من الشخصيات العامة مثل علي ماهر أحمد حسين عزيز المصري النبيل عباس حليم ظاهر باشا وصالح حرب وهؤلاء جميعا تم اعتقالهم لاعتبارات سياسية وكان اعتقال علي ماهر أول مطلب من السفير البريطاني إلى النحاس يوم 7 فبراير حيث أشار لامبسون إلى ضرورة إبعاد علي ماهر إلى السودان أو أى جهة نائية أخري وبالفعل فقد قام النحاس بمقابلة علي ماهر وبعد أن شرح له الموقف ترك له الخيار بين أن يعتكف في غدارة بالقصر الأخضر ( بضواحي الإسكندرية ) أو يعين سفيرا في احدي دول أمريكا الجنوبية أو أن يرسل إلى الخرطوم وقال النحاس أن الوزارة مستعدة للإشراف على أملاك علي ماهر وشئونه المالية أثناء غيابه عن مصر ولما رفض علي ماهر كل هذه العروض استقله النحاس وصدر بذلك بيان رسمي من رياسة مجلس الوزراء في 18 أبريل 1942

ووفق المصادر البريطانية فقد تم اعتقال عدد كبير بناء على نصائح بريطانية ويشير رئيس قلم البوليس السياسي إلى أن قضية الاعتقالات كانت تحتل المرتبة الأولي في العلاقات المصرية البريطانية فقد تعددت قوائم الاعتقال حتى اختلطت الأسماء وأصبحت مهمة البوليس السياسي غاية في الصعوبة وتحولت مصر إلى مستودع اعتقال حيث جئ بإعداد هائلة من المعتقلين من الدول المجاورة أودعوا جميعا في السجون المصرية وتتابعت طلبات الانجليز حتى وصل الأمر إلى اعتقال بعض أقارب الملك فاروق بتهمة أن لهم ميولا محورية .

ويبدو أن معظم الذين اعتقلوا لدواعي الأمن تم اعتقالهم لأسباب سياسية حتى لا تقع الحكومة في مزيد من الحرج ولم يقتصر أمر الاعتقال على الرجال فقط بل تعداه إلى اعتقال بعض السيدات وفي مقدمتهن السيدة / نبوية موسي حيث لقيت في عهد حكومة النحاس أشد أنواع العسف والطغيان فأغلقت مدارسها ومنع عنها الإعانة السنوية ولأول مرة في تاريخ مصر تعتقل سيدة حيث قبض عليها وأودعت في السجن لا لشئ إلا لأنها كتبت مذكرة تدافع فيها عن المدارس الإسلامية وبالرغم من قرار النيابة الإفراج عنها إلا أن النحاس قد استخدم سلطته كحاكم عسكري وأدر أمرا عسكريا بإحالتها إلى المحكمة العسكرية حيث بقيت في السجن لمدة عشر شهور تحت التحقيق وأفرج عنها حيث لم يثبت إدانتها .

ويبدو أن الملك فاروق لم يكن يملك أن يحول دون اعتقال أقاربه فقد كانت أحداث 4 فبراير ما تزال عالقة بذهنه وتأكد أن بقاءه ملكا على عرش مصر مرهون بالرغبة البريطانية ولعل ما حدث في 4 فبراير كان حدا فاصلا بين شخصية فاروق المتقدة بالحيوية والنشاط والاهتمام بالقضايا السياسية وبين شخصية أخري قد تملكته بعد 4 فبراير – كان من أبرز سماتها اليأس واللامبالاة والانصراف نحو العبث واللهو وفقد أن الثقة في الشعب المصري حيث كان يتصور أن الشعب المصري سيثور لكي يثأر لما أصاب ملكه من جرح للكرامة وإهدار للحقوق الشرعية والدستورية إلا أن الشئ الذي لم يستطع فاروق أن ينساه أو أن يتناساه هو موقف النحاس باشا حيث أعتقد فاروق أن النحاس كان ضليعا في أحداث 4 فبراير وهذه القضية لأهميتها سوف نتعرض لها في فصل آخر .

وأمتد أمر الاعتقال ليشمل عددا ممن موظفي القصر كان على رأسهم عبد الوهاب طلعت وكيل الديوان الملكي والذي كانت تربطه علاقات وطيدة بالنحاس الذي تمكن ن إقناع السفير بالعدول عن أمر الاعتقال وأن يكتفي بإحالته على المعاش .

ونظرا لأن قضية الاعتقالات السياسية كانت على رأس القضايا التي شغلت الرأي العام المصري – حينذاك – ولأن شخصية علي ماهر والطريقة التي تم اعتقاله بها قد شغلت جانبا كبيرا من الرأي العام بالإضافة إلى منافاتها للدستور والقانون فإننا سوف نتناولها بقدر من التفصيل لتقف حجة أكيدة على ما يزعمه البعض من أن اعتقال علي ماهر هو إجراء قانوني اتخذته حكومة الوفد لحماية أرواح الملايين من الشعب المصري .

أن قضية اعتقال علي ماهر لم تكن مطلبا بريطانيا جديدا وإنما سبقته العديد من المحاولات حيث طلبت السفارة البريطانية إلى حسن صبري ثم حسين سري أن يعتقلا علي ماهر وأن الرجلين ل يستجيبا لهذا الطلب على خلاف في الطريقة التي اتبعها كل منهما .

ولعل السفارة البريطانية كانت واثقة من أن طلبها لن يرد هذه المرة نظرا للكراهية الشديدة التي يكنها النحاس باشا لعلي ماهر ولأن بريطانيا كانت واثقة من أن النحاس متفهم لإبعاد هذه القضية مقدر خطورتها ولن يتردد في اعتقال علي ماهر .

وحتى لا ينفرد النحاس باتخاذ مثل هذا القرار الخطير فقد حاول استئذان الملك قبل الإقدام على أمر الاعتقال إلا أن فاروق كان غاضبا أشد الغضب واتهم النحاس صراحة بأنه ينفذ تعليمات بريطانيا من غير تقدير لصالح مصر وأشار من طرف خفي إلى أن بريطانيا لن تظل بجانبه وإنما ستتخلي عنه في الوقت الذي تري أن مصالحها تحتم عليها البحث عن حليف جديد.

ويلاحظ أن فاروقا قد أصاب لب الحقيقة ولعل النحاس كان يقصد من وراء استئذانه الملك أن يتخذ من ذلك حجة لمواجهة الخصوم السياسيين على اعتبار أن اعتقال علي ماهر قد تم بناء على أوامر الملك إلا أن فاروقا كان يقظا لهذا المعني وعلى الرغم من رفضه إلا أن النحاس قد أقدم على اعتقال علي ماهر في قريته بالقصر الأخضر – قرب الإسكندرية – لم يطق علي ماهر أن يذعن لهذا الأمر وأعد عدته للخلاص من هذا الاعتقال ولما كان عضوا في مجلس الشيوخ فقد اعتقد أن الحصانة البرلمانية تحميه وأنه لو استطاع أن يصل إلى المجلس وأن يرفع إليه أمره فسوف تقف الحصانة لبرلمانية حائلا بينه وبين الاعتقال ولهذا تمكن من أن يفلت من حراسة وجاء إلى القاهرة ونزل في منزل لمصطفى الشوربجي عضو مجلس الشيوخ وعلم النحاس بما حدث إلا أنه آثر الحيطة حتى لا يعتدي على حصانة منزل الشوربجي وبينما علي ماهر قد وصل إلى فناء مجلس الشيوخ فقد استوقفه رجال البوليس في محاولة لمنعه من دخول المجلس إلا أن علي ماهر قد اندفع مسرعا ودخل حرم مجلس الشيوخ .

وأغلب الظن أن مهابة علي ماهر وماضيه الطويل حال بين رجال البوليس والتشبث بالقبض عليه بالإضافة إلى أن حرمة المجلس من الداخل كانت مسئولية بوليس البرلمان .

وما يلفت النظر أن رئيس مجلس الشيوخ – محمد محمود خليل قد عرف ما حدث إلا أنه تجاهل الأمر بحجة أن ما يراد الحديث عنه لم يرد في جدول الأعمال وعلى الرغم من أن علي ماهر قد وقف مرارا في محاولة مستميتة لكي يلفت نظر المجلس إلا أن رئيس المجلس قد منعه بعنف محذرا إياه بالطرد إذا ما حاول مرة ثانية .

وهذا الموقف من رئيس المجلس يضاعف من قناعتنا بأنه كان ضليعا في هذه المؤامرة حيث لم يتخذ من الإجراءات ما يحول دون القبض على عضو متمتع بالحصانة البرلمانية وعندما انتهت أعمال المجلس لم يبرح علي ماهر موقعة بل ظل محتميا بحرمة المجلس وأسرع أحد الأعضاء – عب القوي أحمد – إلى محمد محمود في إقالته وقص عليه ما أصاب علي ماهر وطلب إليه بوصفه رئيس المجلس أن يحمي الرجل إلا أن محمد محمود خليل قد تذرع بأنه لا يملك شيئا خارج حدود المجلس .

وأطفئت الأنوار في قاعات المجلس مما اضطر علي ماهر أن يغادر المجلس فلما غادره قبض عليه البوليس ليذهب به إلى معتقل جديد لا يستطيع مغادرته كما ستطاع مغادرة القصر الأخضر .

ويبدو أن رئيس المجلس إنما أعطي الحصانة البرلمانية فسحة من الوقت لأن مدة رياسته للمجلس كانت تنتهي بعد أسابيع من هذا الحادث وحرصا منه على أن تجدد الحكومة مدة رياسته هو الذي دفعه إلى أن يتصرف هذا التصرف الذي يتعارض وأبسط القواعد الدستورية ومع الأسف الشديد فقد سيطرت المصالح الشخصية على المبادئ العامة والتقاليد البرلمانية ولذا فإننا نحمل محمد محمود خليل قدرا كبيرا من المسئولية بسبب هذا الموقف الذي وقفة مع أحد أعضاء المجلس والذي يفتقد إلى أى تقاليد برلمانية ونظر لاعتقال علي ماهر بهذه الصورة المنافية لكرامة المجلس وأعضائه فقد تلقت رئاسة مجلسي النواب والشيوخ العديد من الاستجوابات وتحدث عدد كبير من النواب مؤكدين على أن الحرية في مصر أصبحت لا وجود لها وأن الدستور أصبح لا قيمة له بعد ان أهدرت حصانة عضو من أعضاء البرلمان البارزين فضلا عن كونه رئيس وزراء سابق ورئيس ديوان وصاحب مقام رفيع .

ويلاحظ أن إجابة النحاس باشا كانت أكثر تحديا للمجلسين النواب والشيوخ – مؤكدا على أمر الاعتقال بصرف النظر عن مركز المعتقل وأنه لن يتردد بوصفه الحاكم العسكري والقائم على تنفيذ الأحكام العرفية من اعتقال أى شخص يري أن له نشاطا ضارا بالأمن والنظام مهما كان مركزه والمدهش في الأمر أن رئيس الوزراء قد أعطي لنفسه حقوقا لم تقرها إجراءات الطوارئ القائمة لأن حق الاعتداء على الحريات محدود فيما يختص بالحرية الشخصية حيث أن قانون الأحكام العرفية قد أطلق يد الحاكم العسكري في عدة مسائل :

أولا : سحب الرخص بإحراز السلاح وحمله والأمر بتسليم الأسلحة على اختلاف أنواعها .

ثانيا : الترخيص بتفتيش الأشخاص أو المنازل في أية ساعة من ساعات النهار أو الليل .

ثالثا : الأمر بمراقبة الصحف والنشرات الدورية قبل نشرها وإيقاف نشرها من غير إخطار سابق هذا فيما يتعلق بالأشخاص العاديين أما أعضاء البرلمان فيجب أن تصان كل حقوقهم لأن الحصانة هي للبرلمان وهذه لحصانة لها مثيل في القضاء فاستقلال القضاء يفيد القاضي ولكن لمصلحة العدل ولمصلحة نزاهة القضاء .

وشهدت قاعات مجلس النواب والشيوخ أهم مرافعة قانونية قامت بها المعارضة مؤكدين على أهمية الحصانة البرلمانية وأنها ألزم كثيرا أثناء قيام الأحكام العرفية وهذا ما أقره علماء الفقه الدستوري وتساءل أحد الأعضاء : إذا كانت الصحافة مكممة لا تستطيع أن تقول شيئا لأنها تحت الرقابة والاجتماعات ممنوعة والأندية مغلقة كل ذلك حاصل أثناء قيام الأحكام العرفية فمن إذن يستطيع أن يعمل في هذا الجو ؟ فإذا سلب البرلمان أيضا الحصانة ضاع استقلاله إذا كان النائب وسيف الأحكام العرفية فوق رأسه فأي شئ يمكن للناس أن يتنفسوا الأحكام العرفية فوق رأسه فأي شئ في البلد يمكن للناس أن يتنفسوا منه وإذا كان الرأي العام لا يستطيع أن يتكلم أو يتنفس وكذلك الهيئات النيابية فكيف تستطيع أن نرشد الوزارة .

ولأن الموقف كان يتعلق بمستقبل الحياة البرلمانية فقد أصرت المعارضة على أن تعرف موقف لحكومة من التقاليد البرلمانية المتبعة وفي محاولة لتبديد نشاط المعارضة فقد عاد مصطفى النحاس ليلخص أسباب اعتقال علي ماهر بما يأتي :

أولا : أن الأسباب التي كانت تقضي اتخاذ إجراءات مع علي ماهر باشا التي أدت في آخر الأمر إلى اعتقاله تتعلق بأمور خطيرة وأن هذه الأمور ذات مساس بأمن الدولة وسلامتها ومن الصعب الإفصاح عنها .

ثانيا : لقد تحدثت مع علي ماهر واتفق معي على أن يترك كل نشاط ويلزم منزله تجنبا للإضرار بمصالح البلاد إلا أنه أخل بتعهده .

ثالثا : وأمم الإخلال بالوعد وإصراره على أن يذهب لأبعد الحدود فلم أر بدا من اعتقاله وأضاف النحاس أن ما تركه من أسباب الاعتقال هو ما تسمح به المصلحة العامة وعلى الرغم مما بذله النحاس باشا ليبدد الآثار الناجمة من اعتقال علي ماهر إلا أن المعارضة قد ضاعت من نشاطها في محاولة للفت الرأي العام إلى أن قضية اعتقال علي ماهر قد تمت وفقا لرغبة بريطانيا وهذا مما دفع المعارضة إلى أن تسلك طرقا أخري لتعميق هذا المفهوم حيث اجتمع زعماء المعارضة وكتبوا خطابا إلى مصطفى النحاس يطلبون فيه التحقيق مع علي ماهر وإذا ما أسفر لتحقيق عن إدانته فيكون هذا مبررا لاعتقاله وإذا ما ثبتت براءته تطمئن البلاد إلى أنها غير مهددة في أمنها وسلامتا . ولعل الهدف من وراء تلك المذكرة كان مزيدا من إحراج حكومة الوفد أمام الرأي العام ومن المؤكد أن النحاس كان يقظا لكل تلك المحاولات حيث أحاب على خطاب المعارضة بالرفض مبديا أسفه لأن التحقيق مع علي ماهر يمس سلامة الدولة وأمنها .

وهكذا اتخذ النحاس من سلامة الدولة وأمنها ذريعة لصرف المعارضة عن غرضها الحقيقي والذي يعني الأسباب الحقيقية في أمر الاعتقال وهذا مما دفع أحد الأعضاء إلى أن يعلن صراحة من أن جهة أجنبية هي التي أوحت باعتقال على علي ماهر .

ووفق مضابط مجلس لنواب والشيوخ فإن قضية اعتقال علي ماهر قد أحدثت دويا هائلا داخل البرلمان فقط وإنما امتد ليشمل الطلاب والعمال ويلاحظ أن المعارضة قد نجحت في استغلال هذا الحادث أكبر نجاح وتمكنت من أن تنقل القضية من داخل مجلس النواب إلى الرأي العام باعتباره قضية قوميه تتعلق بمستقبل الديمقراطية في مصر .

وتحدث صيحة في مجلس النواب عندما يقول النائب عبد العزيز الصوفاتي أن النحاس باشا بينه وبين ضميره لا يقر مطلقا ما نسب إلى علي ماهر وأن ديكتاتورية النحاس ستنقلب إلى ديكتاتورية برلمانية وهذا شر الديكتوريات في العالم ويحذر الصوفاني قائلا : اعلموا أن الذي تستونه اليوم قد يتخذه غيركم سلاحا ضدكم في الغد ويقول لنائب فكري أباظة لقد أعلن علي ماهر الأحكام العرفية ولكنها مع الأسف الشديد انقلبت عليه ونحن نخشي يا رفعة النحاس باشا أن تكونوا أنتم الفريسة وأن يكون تشريعكم هذا هو السيف لأن هذه الدولة منيت مع الأسف بالزلازل والبراكين لا في أرضها بل في دستورها وأن غدا لناظره قريب. وهكذا كان حادث 4 فبراير 1942 وعودة الوفد إلى الحكم على أسنة الحراب البريطانية – كما يذكر الدكتور أحمد ماهر – سببا في لعديد من التجاوزات حيث مضت حكومة الوفد تتحدي المشاعر الوطنية مؤكدة من خلال سلوكها أن بقاءها في الحكم مرهون برغبة بريطانيا وبالرغم من الرقابة الشديدة على الصحف والاجتماعات إلا أن صوت المعارضة داخل مجلس النواب والشيوخ كان يصل إلى مسمع رجل الشارع حيث تناقل الناس العديد من القضايا التي تثار داخل المجلسين ولم تستطيع الحكومة أن تكمم أفواه الناس بالرغم من أن سيف الاعتقال كان مسلطا على رقاب المواطنين حيث ملئت السجون بالمعتقلين والذين كانوا يؤخذون إليها زرافات ووحدانا ولا تسمح الرقابة على الصحف بذكر أسمائهم ولعل قضية اعتقال علي ماهر كانت البداية ثم تبعها اعتقال محمد طاهر باشا عضو مجلس الشيوخ وفي هذه المرة لم يعترض أحد ولم يستجوب أحد لأن القضية لم تعد تمثل أى مفهوم للديمقراطية وإنما الذي يحكم هو الذي يعتقل بصرف النظر عن أى اعتبار آخر .

وبالرغم من أن حكومة الوفد لم تأخذ بانتقادات المعارضة فيما يتعلق بأمر اعتقال المدنيين سواء من الشخصيات العمة أو من المواطنين العاديين إلا أن النحاس باشا في محاولة لكسب ضباط لجيش المصري عقب لعديد من حالات الاستنكار التي أعقبت 4 فبراير من هنا كان قرار الحكومة بالإفراج عن عزيز المصري وزميلاه – عبد المنعم عبد الرؤوف و حسين ذو الفقار – وأصدر مجلس الوزراء بيانا أعلن فيه أن مصطفى النحاس ( صاحب المقام الرفيع) رئيس الوزراء والحاكم لعسكري العام قابل عزيز باشا المصري والضابطان حسين ذو الفقار وعبد المنعم عبد الرؤوف وأعلنهم بأنهم منذ الأن أحرارا في الذهاب إلى منازله على أن يكونوا تحت الرقابة المؤقتة لحين الانتهاء من اتخاذ ما يلزم من الإجراءات التي عهد إلى وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الحرب في إتمامها وبالرغم من أنني لم أتمكن من تحديد الجهة التي طلبت الإفراج عن عزيز باشا المصري وزميلاه , هل هي قوي أجنبية أم أن النحاس قد بادر من نفسه لاتخاذ هذه الخطوة تهدئة للنفوس الثائرة سواء داخل الجيش أو خارجه ألا أني أعتقد أن حكومة الوفد قد أقدمت على هذه الخطوة بسبب العديد من حالات الاضطرابات التي وقعت عقب 4 فبراير 1942 لدرجة أن بعض القادة العسكريين قد تقدم باستقالته من الجيش احتجاجا على الانتهاكات الصارخة التي حدثت وجاء في صيغة الاستقالة ما يؤكد أن الملك كان يتمتع بشعبية كبيرة لدي ضباط الجيش وحيث أني أستطع أن أحمي مليكي وقت الخطر فإني لأخجل من ارتداء بذلتي العسكرية والسر بها بين المواطنين ولذا أقدم استقالتي .

ويبدو أن النحاس باشا قد وجد في الإفراج عن عزيز المصري ورقة رابحة ليكسب بها أرضا جديدة من تحت أقدام المعارضة وليس من المعقول أن يقدم النحاس من تلقاء نفسه على اتخاذ هذه الخطوة من غير أخذ رأي الانجليز لأن قضية عزيز المصري وزميلاه كانت موضع اهتمام خاص من السلطات البريطانية حيث كان قرار إحالة عزيز المصري إلى التقاعد - في عهد حكومة علي ماهر – بإيعاز من بريطانيا ولنفس السبب الذي قدرته حكومة النحاس للإفراج عن عزيز المصري فقد كانت موافقة بريطانيا أيضا .

وعموما فقد كان قرار الإفراج عن عزيز المصري وزميلاه له وقع طيب لدي جماهير الشعب المصري عموم والجيش على وجه الخصوص حيث كانت حركة الضباط الأحرار والتي كانت ما تزال في مهدها تعتبر عزيز المصري الأب الروحي للحركة الوطنية المعاصرة وكان موضع تقدير واعتزاز من الضباط الشبان .

وإيمانا من حكومة الوفد بعدم شرعية الحكومات التي تعاقبت على البلاد ابتداء من ديسمبر 1937 وحتى 4 فبراير 1942 فقد أصدرت الحكومة قانونا بالعفو عن الجرائم التي وقعت في نفس المدة ولعل الغرض هو كسب مؤيدين ومناصرين للوفد .

سياسة الوفد تجاه بريطانيا عقب 4 فبراير

لقد حرص النحاس منذ اليوم الأول لتوليه الحكم على أن يوضح للسفارة البريطانية وللرأي العام المصري أنه " لا المعاهدة المصرية البريطانية ولا مركز مصر كدولة مستقلة يسمحان بالتدخل في شئون مصر وبخاصة في تأليف الوزارات أو تغييرها ورحب اللورد " كليرن" عن طيب خاطر بهذه المناورة التي كانت تهدف إلى تناسي عمل القوة الذي حدث بالأمس في قصر عابدين كما أوضح السفير البريطاني في نفس اليوم وفي تصريح نشر في الصحف أن السياسة البريطانية تهدف إلى ضمان تعاون كامل مع حكومة مصر باعتبارها بلدا مستقلا وحليفا وذلك بتنفيذ بنود المعاهدة البريطانية لمصري دون التدخل في الشئون الداخلية لمصر أو في تشكيل الوزارات أو تعديها .

أما على الحدود الليبية فقد كانت المعارك تدور بشراسة وبدأ روميل يواصل تقدمه إلى الأمام حتى وصل إلى طبرق ( 21 يونيه 1942 ) وبسقوط طبرق تم أسر 25 ألف أسير في ايدي القوات الألمانية ثم تقدمت القوات الألمانية واجتازت الحدود المصرية وأصبح من المؤكد أن الحرب ستحسم لصالح المحور .

وعلى الرغم من كل ذلك فلم يتردد الوفد في إعلان ارتباطه ببريطانيا بحجة أن الارتباط بها يعني الارتباط بالديمقراطية في العالم كله وأن مصر ستظل تمد يدها للشعب الحليف وستقدم كل إمكاناتها صالح بريطانيا .

وعلى ما يبدو فإن موقف الحكومة المصرية قد ازداد صعوبة وخصوصا بعد أن أعلنتا كلا من ألمانيا وايطاليا التزاماتهما باحترام وضمان استقلال وسيادة مصر بل أنهما قد أكدتا أن قواتهما لن تدخل مصر " كبلد معاد وإنما ستدخلها بهدف طرد الانجليز من الأراضي المصرية وتحرير الشرق الأوسط من السيطرة البريطانية وتلقت مصر تأكيدا بأنها بعد أن تتحرر من قيودها ستتبوأ مكانها بين الدول المستقلة ذات السيادة "

وأمام الدعاية المحورية الماكرة والتي وجدت صدأها لدي قطاع كبير من المثقفين المصريين نظرا لأن عودة الوفد إلى الحكم في 4 فبراير كنت جرحا غائرا في قلوب المصريين فقد كان من الصعب على الحكومة المصرية أن تجد مبررا معقولا لكل ما يمكن أن تقدم عليه لخدمة الحلفاء وكان من الصعب على الوفد أن يخلق حوارا ديمقراطيا مع أحزاب الأقلية ليحدد من خلاله موقع مصر من هذا الصراع القائم وحتى لو أراد الوفد ذلك فقد كان من الصعب إقناع بريطانيا بهذا النوع من الحوار على اعتبار أنه قد يفسر بأن الوفد يتراجع عن مناصرة الحليفة بسبب تردي موقفها العسكري هذه واحدة أما الثانية فإن سياسة بريطانيا في 4 فبراير قد ألبست الوفد ثوبا يصعب الخلاص منه من هنا كان قرار الوفد القاطع بانتهاج سياسة التعاون المطلق وتأجيل أى نوع من المطالب القومية ريثما تنتهي الحرب .

وعلى ما أعتقد فقد كان هناك عامل آخر دفع الوفد إلى عدم التردد في سياسته تلك وهو أن الوفد قد قطع شوطا في علاقته ببريطانيا تلك لعلاقة التي كانت موضع اهتمام خاص من المحور عبر عنها " كليرن " في مذكراته بقوله :" أما أن نغرق معا وأما أن نطفو معا "

ويبدو أن تلك السياسة التي اختطها الوفد لنفسه لم تكن على قدر كبير من الصواب فقد كان من الممكن ووفقا للأوضاع المتردية لبريطانية على كل الجبهات العسكرية ان تحصل مصر على تأكيدات وثائقية تقرر حقها في الاستقلال الكامل بكل أبعاده إلا أن العلاقة بين الوفد والانجليز عقب 4 فبراير ظلت قائمة على احترام رغبات بريطانيا وسوق العديد من المبررات للدفاع عن سياستها وقد يقال أن هذا الموقف كان تأمينا لقضية الديمقراطية ضد الفاشية والنازية وبالرغم من سوق كل المبررات إلا أننا نستطيع أن نقول : أن سياسة الوفد طيلة وجوده في الحكم لم تكن تتفق والمصالح الوطنية المصرية حيث كانت الأوضاع الاقتصادية في مصر تمضي من سيئ إلى أسوأ ففي القاهرة هجم الناس على نوافذ البنوك وجرت حركة سحب جماعية للأرصدة ووصلت في يوم واحد إلى ما قيمته مائة مليون جنيه ودب الفزع في قلوب الأجانب مما دفع الكثيرون منهم إلى الهروب إلى فلسطين .

وذكر أحد شهود العيان أن أعمدة الدخان كانت تشاهد وهي تعلو في سماء القاهرة حيث أخذت السفارة البريطانية تحرق وثائقها وملأت قوافل السيارات الطرق الصحراوية حيث بدأت أكبر هجرة جماعية وبدأ الناس من كل الجنسيات وهم يلوزون بفلسطين وسوريا ولبنان وجنوب أفريقيا.

وعلى الرغم من كل ذلك فقد قام الوفد بدور هام ورئيسي في تأمين الانجليز وتقديم كافة الضمانات المطلوبة لتأمينهم وإظهار شعور الولاء والامتنان لهم في المناسبات المختلة فالنحاس يهنئ السفير البريطاني بمناسبة الإنعام عليه بلقب لورد ويستعرض معه قوات جيش الاحتلال في ميدان الإسماعيلية .

وفي الوقت الذي كانت فيه السفارة البريطانية تحزم أمتعتها وتحرق وثائقها استعدادا للرحيل كانت تصريحات النحاس باشا ودعوته إلى طمأنة الرأي العام مؤكدا بأن الأحوال العسكرية مرضية للغاية ويؤكد أحد زعماء الوفد أنه بينما كان النحاس يلقي بمثل هذه التصريحات كانت الحكومة جميعها ترقب قدوم الألمان بين وقت وآخر إلا أن النحاس كان حريصا على أن تتملكه الشجاعة لأن انهياره يعني انهيار مصر كلها .

وعلى الرغم من تدهور الأوضاع العسكرية لقوات الحلفاء إلا أن الأنباء قد تواترت عن سعي انجلترا بالسودان نحو الحكم الذاتي وتأييدا لهذا الاتجاه فقد ألقي الحاكم العام في الخرطوم بمناسبة افتتاح المجلس الاستشاري للمديريات الشمالية حث فيه السودانيين على الاستعداد لحكم أنفسهم .

وعلى الرغم من هذا التصريح الخطير والذي يهدف على ما يبدو إلى توسيع دائرة الخلاف بين مصر والسودان إلا أن حكومة الوفد لم تعلق على تراخي لحكومة في حماية مصالح مصر في القطر الشقيق كما استدعي السفير البريطاني وأبلغه ما يشعر به من القلق نحو ما يجري في السودان .

ولعل هذا الموقف من الملك فاروق قد دفع النحاس إلى إنشاء لجنة برئاسة وزير التجارة والصناعة لتعزيز العلاقات الاقتصادية الاجتماعية والثقافية بين مصر والسودان وعندما حانت فرصة الاحتفال بذكري توقيع معاهدة الصداقة بين مصر وانجلترا في 26 أغسطس خطب النحاس فقال : أنه على اتصال مستمر بالحاكم العام في السودان والذي يمثل الحكومتين المصرية والبريطانية وأنه طلب إليه احترام مصالح مصر وحقوقها في السودان وعلى أثر هذا الخطاب هرع السفير البريطاني إلى النحاس باشا وحذره من مسألة موضوع السودان في الوقت الحاضر إذ أن ذلك قد يضر بالمصالح المصرية ولا يبقي لها إلا ما نصت عليه اتفاقية مياه النيل المعقودة في سنة 1929 .

ومن المؤكد أن تلك النصيحة كانت قاسية هدد فيها السفير بفصم العلاقة بين مصر والسودان ويبدو أن ما شجع السفير على توجيه هذا التحذير هو شعوره بأن له يدا على الوزارة القائمة منذ 4 فبراير وهكذا وجد النحاس نفسه في موقف غاية في الصعوبة وخصوصا وأن العلاقات المصرية البريطانية بدأت تواجه مشكلتين :

أولهما : محاولة إقناع بريطانيا بالعدول عن إغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط حيث استعدت القوات البريطانية إلى الرحيل عن القاهرة والإسكندرية والتمركز على الجبهة الشرقية لقناة السويس ووفقا لرأي القائد العام للقوات البريطانية فإن هذا الموقف يقتضي عرقلة القوات الألمانية لمدة يوم واحد على الأقل ولن يتحقق هذا إلا بإغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط.

ويعلق أحد المعاصرين والذي كان عضوا في لجنة المحادثات الخاصة بتلك القضية قائلا : لقد هاج النحاس وغضب غضبا شديدا لسماعة هذا القول من السفير البريطاني وأخذ يعدد للسفير حجم الأضرار الخطيرة التي ستلحق بالتربة الزراعية بسبب انغمارها بالمياه المالحة وقد تمسك السفير برايه على اعتبار أن ضرورات الحرب تقتضي ما هو أبعد من ذلك وهنا تدخل عثمان محرم " وزير الأشغال ط مقترحا إغراق الدلتا بمياه النيل بدلا من مياه البحر المتوسط وذلك عن طريق بعض العمليات الهندسية البسيطة . ويضيف صاحب هذه الرواية قائلا : وبعد أن خرجنا من مبني السفارة البريطانية قلت للنحاس : هل تعتقد أنهم سيستأذنونك ساعة اضطرارهم إلى إغراق الدلتا أنهم لن يستشيروا أحدا إذا ما اضطروا إلى الإقدام على خطتهم .

وهذه الرواية تتفق والعديد من الروايات التي ذكرها كثير من المعاصرين أنها تختلف عنها في بعض الجوانب ووفق هذه الرواية فإن عثمان محرم قد قدم البديل عن إغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط وهذه الرواية لم تذكرها الروايات الأخرى وأعتقد أن رواية فؤاد سراج الدين هي أقرب إلى الحقيقة حيث كان طرفا في تلك المحادثات إلا أن هذا الاقتراح الذي قدمه عثمان محرم ليس ذا أهمية على حد قول فؤاد سراج الدين وخصوصا إذا ما تأزمت الأوضاع أمام بريطانيا .

وعلى الرغم من أن عملية إغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط تبدو غير ممكنة جغرافيا إلا أن بعضا من المعاصرين قد أبدي إمكانية تنفيذ تلك الخطة بواسطة إطلاق الماء المالح في ترعة المحمودية .

ثانيا : ويبدو أن المحادثات بين الوفد والانجليز قد تناولت ما هو أبعد من إغراق الدلتا وهو تدمير جميع المدنية والعسكرية بما فيها طرق المواصلات والكباري والمطارات وإشعال النيران في آبار البترول حتى لا يستخدمها المحور .

وهكذا بدأت السلطات البريطانية تفكر في تدمير وسائل الحياة في مصر حتى تقطع على المحور كل استفادة ممكنة وهذه القضية على الرغم من خطورتها إلا أن الوفد لم ينكرها ومن المؤكد أن المعارضة كانت متيقظة لكل تلك المحادثات ولعلها حاولت أن تثير هذه القضية أمام مجلس النواب على اعتبار أن الخطر قد تخطي دائرة الحزبية وأصبحت مسألة حياة أو موت إلا أن النحاس قد رفض أن تنتقل إلى البرلمان بحجة أن المحادثات ما تزال جارية مع الجانب البريطاني.

ولما كانت المحادثات مع الجانب البريطاني لم تحقق أى قدر من التفاهم فقد حاولت المعارضة أن تجمع صفوفها وأن تتخذ موقفا قوميا يتناسب وخطورة المرحلة الراهنة فاجتمع الدكتور أحمد ماهر, إسماعيل صدقي ,الدكتور هيكل ,وحسين سري وتناقشوا في خطورة الوضع وانتهي رأيهم على إبلاغ الانجليز.

" أن تدمير ما قرروه سيضرهم ضررا كبيرا لأن جلاءهم عن مصر لن يكون إلا لفترة يعودون بعدها لنهم سيكسبون الحرب في النهاية ما في ذلك شك ومن الخير أن يعودوا إليها وهي سليمة بدلا من أن يجدوها وقد انتشرت بها المجاعة والخراب وما يتبعها من انتشار الأوبئة القاتلة , وذهب الدكتور هيكل لينقل وجهة النظر هذه إلى النحاس باشا الذي أكد أنه مدرك لكل ما تفكر فيه بريطانيا وأنه بعث بتعليماته إلى محافظ الإسكندرية ليستقبل القوات الألمانية استقبالا كريما باسم الحكومة المصرية .

وعلى ضوء الحالة العسكرية المتردية لقوات الحلفاء وخصوصا على الجبهة المصرية وأمام التضحيات الباهظة التي قدمتها مصر لتأمين ظهر القوات المحاربة ووفق ما أجمع عليه بعض المعاصرين للأحداث من أن بريطانيا بدأت تعد خطتها لتدمير كل مرافق الحياة المصرية وعلى ضوء كل هذا فإننا نعتقد أن السفارة البريطانية قد قطعت على نفسها بعضا من الوعود مثل اقتسام غنائم الحرب مع مصر أو إعادة النظر في معاهدة 1936 بما يحقق لمصر قدرا كبيرا من الاستقلال يتفق والتضحيات التي قدمتها مصر للدولة الحليفة.

وعلى ما أعتقد فإن تلك الوعود لم تكن إلا من باب أحلام اليقظة ولعل الهدف من وراء ذلك هو طمأنة الحكومة المصرية بأن تضحياتها لن تذهب هباء . ومما يضاعف من اعتقادنا بأن مثل هذه الوعود ( أن وجدت ) كانت من اختراع السفير البريطانية أن محادثات تشرشل مع النحاس والتي جرت بينهما في أغسطس 1942 قد خلت تماما من أى إشارة إلى تلك الوعود وإنما تناولت المباحثات قضايا أخري من بينها ما طلبه تشرشل من انتقال الحكومة المصرية إلى السودان ولم يقطع النحاس على نفسه وعدا بتنفيذ هذا المطلب بل أجاب بأن هذه مسألة متروكة للظروف ولرأى جلالة الملك والأمة ثم تباحثا في مسألة البترول وتدمير خطوط المواصلات وإغراق الدلتا وأبدي النحاس عدم موافقته على كل تلك المطالب ثم تباحثا في مسألة نقل النقد الذهبي خارج مصر ولم يتفقا على أية نتائج بخصوص هذا الموضوع أيضا ثم تباحثا في مسائل حربية وسياسية تتعلق برعايا أمريكا وجيوشها .

والملاحظ أن النحاس قد اقتصر في تلك المحادثات على مطلبين تقدم بهما إلى تشرشل :

المطلب الأول: تسهيل استيراد بعض المواد الغذائية.

المطلب الثاني : شراء القطن المصري ومقابل هذا فقد قطع النحاس على نفسه وعدا بأن مص لن تقطع علاقاتها بانجلترا إذا ما اضطرت إلى الخروج من مصر ولعل هذا المطلب يبدو غريبا بعض الشئ لأن بريطانيا إذا ما خرجت من مصر ودخلتها القوات الألمانية لن يكون أمام الحكومة المصرية فرصة للاختبار أو المفاضلة وقد بعث النحاس برسالة سرية إلى الملك فاروق ينبئه فيها بنتائج تلك المحادثات .

ومما يسجل الحكومة الوفد أنها كانت جادة في محادثاتها مع تشرشل ولم تقدم أى نوع من الوعود التي تتعارض مع المصالح المصرية سواء فيها يتعلق بإغراق الدلتا أو تدمير المنشآت المصرية مع قناعتنا بأن هذا الموقف يبدو عديم الأثر خصوصا إذا ما دخلت القوات الألمانية مصر وهذا لم يحدث .

ولعل تلك المحادثات تشير إلى أكثر من دلالة أهمها أن النحاس بدأ يأخذ موقفا متشددا في سياسته مع بريطانيا وأعتقد أن تفسير هذا الموقف يرتبط بتدهور الحلفاء عسكريا وخصوصا في معارك شمال أفريقيا بعد سقوط مرسى مطروح وتقديم القوات الألمانية صوب الإسكندرية ولعل هذا يفسر محاولة الاتصال بالألمان عن طريق محافظ الإسكندرية وتوضيح وجهة النظر المصرية على اعتبار أن مصر لا شأن لها بهذه الحرب .

وأمام تحرج موقف الانجليز على الجبهة المصرية إلا أن الوفد لم يحاول الماسومة على ضوء هذا الموقف فقد كان من الممكن الضغط على الانجليز واستخلاص وعد منهم بالجلاء التام عقب انتهاء الحرب .

حتى عندما أشرقت الحرب على نهايتها لم يحاول الوفد ذلك أيضا ولم يكن هناك أثر ما لبعض التصريحات التي ألقاها النحاس باشا : " أن حوادث الحرب قد غيرت الموقف كله حتى أصبح تعديل معاهدة 1936 ضرورة لابد منها ونتيجة لا مناص عنها .

وبدلا من أن يأخذ الوفد مواقف عملية لصالح القضية انصرف في مواجهة خصومة وتبديد طاقاته في مسائل فرعية لا تخدم القضية الأساسية ولو أخذ الوفد موقفا فمن المؤكد أن يجد كل الشعب المصري من خلفه يشد أذرة ويناصره ولعلها تكون مناسبة لعودة الوفد إلى مكانته الطبيعية باعتباره حزب الكفاح الوطني وخصوما بعد أن فقد رصيدا هائلا من شعبيته عقب أحداث 4 فبراير إلا أنه لم يبدأ بعامل المباغتة وإنما ترك الفرصة للمعارضة لكي تضع الحكومة هدفا لهجمات شديدة بهدف أن تعيد إلى الأذهان باستمرار ظروف مجئ الوفد إلى الحكم .

ولم يستثن بريطانيا من هذه الهجمات فقد وجهت إليها الاتهامات من فوق منصة البرلمان باعتبارها مسئولة عن الغلاء المستمر في تكاليف المعيشة وسيطرتها على الاقتصاد المصري في طريق مركز تموين الشق الأوسط.

وعلى الرغم من أن مشاعر الشعب المصري كانت تتسم بالكراهية الشديدة للاحتلال وسياسته إلا أننا نعتقد أن سياسة الوفد لم تكن متطابقة ولعل هذا الموقف قد ضاعف من حدة العداء بين القصر والوفد إذا لم ينس الملك فاروق قط ذلك الضغط الذي تعرض له في 4 فبراير 1942 كما كان يضيق برئيس الوزراء بسبب جولاته في الأقاليم ويحظي بمظاهرات ترحيب موحي بها تهتف له " عاش النحاس زعيم الأمة"

ثم تحولت تلك المعارك الصامتة إلى صراع عنيف لأن ثلاثة من الضباط حاولوا تنظيم مظاهرة ولاء للملك احتجاجا على حادث 4 فبراير واقترح النحاس الاستغناء عن خدماتهم بينما رأي القصر تقديمهم لمحاكمة عسكرية بحيث تتاح لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم فيما نسب إليهم .

ولم تتوقف سياسة الوفد عند حد القصر وإنما امتدت لتشمل كل من يناصر القصر في موقفه ضد الوفد حيث اعتقلت الحكومة كلا من الشيخ عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر والشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ سليمان نوار من شيوخ المعاهد بدعوي أنهم يحرضون طلبة الأزهر على الإضراب والسير في مظاهرة إلى عابدين لهيئة الملك بعيد ميلاده.

وأمام العديد من العقبات التي وضعتها الحكومة في طريق الأزهر وأ÷مها ما قام من خلاف على رئاسة الاحتفال بالعيد الألفي والذي كان مقرا إقامته وهل توجه الدعوة باسم رئيس الحكومة أو باسم شيخ الأزهر ( الشيخ المراغي فقد قدم الشيخ المراغي استقالته من شيخه الأزهر .

وقد رفض الملك استقالة شيخ الأزهر وأصر مصطفى النحاس – ضد رغبة الملك – على تعيين خليفة لشيخ الأزهر بحجة أن تعيين شيخ الأزهر حق من اختصاص الحكومة .

ويبدو أن هذا الموقف قد واكبه ما أقدمت عليه الحكومة من إقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي مما أثار رجال الأزهر وطلابه وانطلقت المظاهرات من الأزهر منددة بالوفد وسياسته .

وتشير الوثائق البريطانية إلى مسئولية بريطانيا عن عودة العلاقات المصرية مع الاتحاد السوفيتي على اعتبار أنه ضمن جبهة الحلفاء وكان السفير البريطاني في القاهرة هو واسطة الاتصال مع الحكومة المصرية , وهكذا تحولت مصر إلى دولة مشاركة في الحرب بالرغم من أنها لم تعلن الحرب عمليا إلا أنها قد قدمت للحلفاء من خلال خدماتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية ما يجعلنا نعتقد بأن مصر قد أسهمت بدور لا يقل خطورة عن الدور الذي قامت به الدول المحاربة .

بل لقد طلبت الحكومة الأمريكية إلى الحكومة المصرية الإقرار لقواتها الحربية في الأراضي المصرية بنفس المميزات الممنوحة للقوات البريطانية بمقتضي اتفاقية 1936 واستندت الحكومة الأمريكية في تبرير وجهة نظرها إلى أن هذه الامتيازات التي تطالب بها قد منحت لقواتها في انجلترا واستراليا والهند واعترف بها أخيرا في البرازيل .

وفي محاولة لإيجاد مبررات لأعمال الحكومة فقد أبدت احدي صحف الوفد دهشتها بسبب موقف المعارضة من هذا الموضوع لأن العرف الدولي قد أكد هذه الحقوق للقوات الأمريكية في مصر حيث أن هذه لامتيازات سبق وأن منحتها الحكومة المصرية منذ بداية الحرب إلى القوات المتحالفة ( اليونانية واليوغسلافية ) والتشكيو سلوفلاكية – التي سمح لها بدخول الأراضي المصرية والإقامة فيها وقد تم الاتفاق مع القوات المذكورة بعد تبادل وجهات النظر مع السفارة البريطانية والأمر فيما يتعلق بالقوات الأمريكية مخالف لأنها مع السفارة البريطانية والأمر فيما يتعلق بالقوات الأمريكية مخالف لأنها لا تعتبر جزءا من القوات البريطانية ويعتبر هذا الاتفاق تأييدا لقاعدة من قواعد القانون الدولي فلا ينطوي على أى مساس بحقوق السيادة فضلا عن أنه لا يحمل الخال مصرية التزاما من أى نوع ولذا فهو ليس في حكم المعاهدات التي تقتضي المادة 46 من الدستور بعرضها على البرلمان ووجوب إقراره لها .

ويبدو أن ما أقدمت عليه الصحيفة من تبرير لسياسة الحكومة يعد محاولة لاقناع الرأي العام بأن مثل هذا النوع من الاتفاقيات مما لا يقضي بعرضه على البرلمان ومن المؤكد أن الحكومة قد لجأت إلى تلك السياسة حتى لا تتعرض لمزيد من الإحراج داخل مجلس النواب .

ثم صدر بلاغ رسمي عن وزارة الخارجية المصرية بإقرار هذا الاتفاق وجاء في بنود الرسائل المتبادلة :" أن الحكومة المصرية قد أعطت هذه الامتيازات للقوات الأمريكية رغبة في توكيد علاقات الود والصداقة بين البلدين وجريا على سياسة مصر منذ نشوب الحرب من تسير مهمة القوات المتحالفة الموجودة في الأراضي المصرية وهذه الاتفاقات لا تمس حقوق السيادة المصرية بأى حال .. وقد اتفق على أن تنتهي هذه المعاهدة من تلقاء نفسها بانتهاء الحرب ".

وهكذا فلم يقتصر الأمر على إن تقدم مصر أرضها واقتصادها وكل إمكاناتها بلا ثمن وبلا أى مقابل لبريطانيا لم يقتصر الأمر على هذا فقط بل تعداه إلى الدول الكبرى الأخرى مثل أمريكا .

وفي هذه المرة أيضا لا ثمن , إلا أن تكون الوعود والأمنيات الطيبة ثمنا عظيما من وجهة نظر الحكومة المصرية ودفعت مصر ثمنا باهظا من كرامتها وحريتها نتيجة لهذا التسرع الغريب على اعتبار أن هذا الاتفاق من النوع الذي لا يحق للحكومة أن تأخذ رأي البرلمان فيه .

ونظرا لأن المادة الثانية من هذا الاتفاق قد نصت على أن أفراد قوات الولايات المتحدة الأمريكية الموجودون في مصر لا يخضعون لقضاء المحاكم الانجليز والأمريكان على الأهالي المصريين وتنوعت حالات الاعتداء ما بين القتل وهتك العرض إلى اقتحام المنازل والسرقة وشهدت قاعات مجلس النواب اعتراضات مدوية بسبب سلبية الحكومة إذاء هذه التصرفات الغاشمة والتي أوجدتها سياسة الحكومة الخاطئة وعلى الرغم من أن الحكومة قد استنت هذا الاتفاق من غير الرجوع إلى البرلمان إلا أن المعارضة قد أعدت دراسة قانونية اعتبرت بمقتضاها أن هذا الاتفاق باطل من أساسه وأرجعت ذلك إلى عدة أسباب :

أولا : ورد في المذكرة الإيضاحية للاتفاق أنه جاء لقاعدة من قواعد القانون الدولي فلا يخضع الاتفاق للمادة 46 من الدستور ولا يعرض على البرلمان وهذا خطأ على اعتبار أن الحكومة لم تبين من أى وجه من الوجوه جاء هذا الاتفاق مطابقا لقواعد القانون الدولي .

ثانيا : الاتفاق في مجموعة وفي الأمر العسكري الملحق به ماس بالسيادة المصرية وهو ما يقضي القانون بعرضه على البرلمان لإقراره.

ثالثا : سبقت هذا الاتفاق حادثة قتل فيها أحد الجنود الأمريكان مصريا فماذا كانت وجهة نظر الحكومة قبل الاتفاق ؟ ولماذا تغيرت وجهة النظر ؟

رابعا: أن هذا الاتفاق يشجع على الحوادث المؤلمة وقد كثرت , وكان المجني عليهم مصريين في مختلف بلاد القطر فهل عرفت الحكومة نتائج المحاكمات وهل تعقبتها ؟

واستطاعت المعارضة أن تحرج الحكومة في هذا الموضوع لدرجة أن أحد أعضاء مجلس النواب قد وصف الحالة في مصر بأنها مخالفة لكل قانون أو دستور.

وعلى الرغم من الرقابة الشديدة على الصحف والاجتماعات وعدم التعرض من قريب أو بعيد لشئون مصر السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية إلا ان وقع الحياة المريرة على الغالبية العظمي من المصريين بالإضافة إلى المعارضة الشجاعة التي أبداها المعارضون داخل مجلس النواب والشيوخ وما كان يتناقله الناس كصدي لتلك المعارضات كل هذا قد أعطي المعارضة أرضا جديدة لصالح القصر وأحزاب الأقلية وظل النحاس مستندا إلى دعم بريطانيا له مستخفا بخصومة حيث كان يقابل الاستجوابات المقدمة إليه في مجلسي النواب والشيوخ بمزيد من الاستخفاف تمرسه بمناورات الحياة السياسية ولقيام الأحكام العرفية ولثقته أيضا في قدرته على الحصول على أصوات أغلبية المجلسين .

وعلى الرغم من كل ذلك فقد كان يحاول بكل ما أوتي من فصاحة في القول أن يلقي بكل المسئولية على معارضيه على اعتبار أنهم أعداء البلاد وأعداء الدستور وعن طريق رحلاته العديد التي كان يجوب بها القري والمدن المصرية في محاولة لاحتواء الرصيد المتنامي لصالح خصومة إلا أنه لم ينجح في حصر نطاق المعارضة بل تحولت إلى رصيد هائل بانفصال مكرم عبيد والذي أقصي عن الوزارة في 26 مايو 1942 حيث كان يشغل وزير المالية .

ولقد قدرت الحكومة البريطانية مدي التعاون الذي ظل قائما بين الوفد والجيوش المتحالفة وكيف أن هذا كان دعامة أساسية في العلاقات المصرية البريطانية ولم يكن هذا التعاون قاصرا على النواحي العسكرية فقط بل شمل النواحي الاقتصادية والسياسية والأمنية أيضا .

ونظرا لأن مشاكل التموين كانت من أهم ما واجه حكومة النحاس وجريا على مبدأ التعاون المطلق مع الحليفة فقد شكلت لجنة مشتركة " انجليزية مصرية " بناء على اقتراح السفير .

وفي محاولة من هذه اللجنة لوضع حد للمشاكل الاقتصادية المتفاهمة فقد تقرر أن تقوم الحكومة بشراء القمح بشراء القمح المصري بسعر ثلاثة جنيهات للأردب وبيعه للجمهور بنصف تلك القيمة ثم إلغاء القيود التي كانت مفروضة علي نقل الحبوب ثم شكلت لجنة انجليزية مصرية اقتصرت مهمتها على جمع القمح إجباريا من الفلاحين وإعادة توزيعه بطريقة البطاقات التموينية إلا أن كل الجهود الانجليزية المصرية لم تثمر عن أى قدر من التقدم بل تفاقمت المشكلة الاقتصادية يوما بعد يوم حتى وصل الأمر أن الناس كانوا يتخطفون الخبز في الشوارع وظهرت الطوابير على الخبز لأول مرة في تاريخ مصر المعاصر .

ويبدو أن سياسة النحاس كان لها وقع طيب لدي الدوائر البريطانية حيث أخذت الصحف البريطانية تشيد بموقف الحكومة المصرية وكتبت " التايمز" تقول : أن الكثير من الناس لا يدركون مبلغ ما تدين به الجيوش البريطانية في مصر للحكومة المصرية فلقد وضعت مواني البلاد وطرقها والكثير من مرافقها تحت تصرف الجيوش المتحالفة وقال المستر تشرشل حين مر بالقاهرة : أن مصر ولو أنها ما تزال بلدا محايدا فليس من الحق مطلقا أن يقال أنها لم تقم بدور مهم ومشرف له نتيجة لا في دفاعها عن نفسها فحسب بل في الصراع العالمي الذي أخذ الآن يتقدم تقدما عظيما نحو نهايته .

ولعل هذه المواقف من النحاس باشا قد أدت إلى عطف الانجليز عليه وتأييدهم له في صراعه مع القصر حيث تدخل السفير البريطاني وفي أكثر من مناسبة ليكبح جماع القصر لصالح الوفد ووصل الأمر إلى حد تهديد الملك فاروق بإعادة الكرة مرة ثانية – مشيرا إلى أحداث 4 فبرايروعلى حد تعبير السفير: " أن الوفد قادر على إثارة المتاعب في حالة إجباره على الانتقال إلى صفوف المعارضة .

وهكذا بدا من المؤكد أن بريطانيا لا يعنيها من بقاء الوفد إلا بالقدر الذي يحقق مصالحها ولا يعنيها أن الوفد قد دفع الثمن غاليا من شعبيته ومن رصيده الهائل .

وفي 12 أبريل سنة 1944 استدعي الملك فاروق السفير البريطاني وأبلغه بنيته بخصوص إجراء تغيير في الحكومة بحجة تفش الفساد وسوء الإدارة وأن عناصر الأمة أصبحت لا تنظر باحترام كاف للعرش واستطرد الملك فاروق مؤكدا عزمه على أن تكون الوزارة الجديدة قائمة على عناصر حزبية ومعروفة بعلاقتها الطيبة نحو بريطانيا .

وبعث السفير إلى حكومته برغبة فاروق في إقالة النحاس باشا وجاء رد الحكومة البريطانية وفحواة : أن رغبة الملك في إقالة حكومة يتمتع رئيسها بأغلبية كبيرة في البرلمان يعتبر محفوفا بالمخاطر ولكن إذا أراد الملك حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة فإن لندن لن تتدخل بشرط أن يتلي رئاسة الوزارة أحد رجال القصر أو زعيم لا يحصل على أغلبية البرلمانية .

وهكذا تداعت المقولة البريطانية التي ترددت كثيرا والتي تعني أن بريطانيا تناضل من أجل تدعيم فكرة الديمقراطية في العالم وهي نفس المقولة التي تذرعت بها بريطانيا أثناء أحداث 4 فبراير 1942 وفي الوقت الذي ألقي فيه الوفد بكل ثقله تجاه بريطانيا لمعاضدتها في الحرب بدأت الحكومة البريطانية تفكر في إعطاء الضوء الأخضر للملك فاروق لكي يقيل الحكومة الوفدية بعد أن استنفدت كل أغراضها ويبدو أن السياسة البريطانية بدأت تفكر في صياغة علاقاتها مع مصر من جديد على ضوء المتغيرات الجديدة .

ولعل في انتصار الحلفاء وزوال خطر الحرب ما شجع السياسة البريطانية على بدأ صفحة جديدة من العلاقات مع القصر أى أن بريطانيا بدأت تفكر من جديد في التخلص من الوفد بعد أن استنفذته جماهيريا وبعد أن حققت غرضها منه تماما ونجحت في تشويه صورته إلى حد كبير أمام الرأي العام المصري حيث انفصلت عنه قطاعات كبيرة من الجماهير وخصوصا الطبقة المثقفة والتي تجاذبتها تيارات سياسية أخري بعضها قديم والبعض الأخر نشأ عقب أحداث 4 فبراير .

وما أن أقبل الوفد في أكتوبر 1944 حتى أخذ موقع المعارضة وبدا يكيل الاتهامات ضد الانجليز والقصر معا على اعتبار أن هذه الخطوة لا يمكن أن يقدم عليها القصر إلا بمساعدة الانجليز.

والمدهش في الأمر أن الوفد اعترض على الدخول في انتخابات جديد عندما بدأت حكومة أحمد ماهر تفكر في الأمر وتعلل الوفد بأن الأحكام العرفية تحول دون حرية الانتخابات وأخذ يشن حملات هجومية ضد حكومة أحمد ماهر وهكذا قدر للوفد أن يذوق نفس الكأس الذي أذاق منه خصومة وبنفس المرارة وبنفس التجربة .

استبداد الأغلبية

لقد كانت عودة الوفد في 4 فبراير 1942 سببا كافيا لكي تنصرف عنه قطاعات كبيرة من المصريين ولعل هذا مما ضاعف من هواجس النحاس باشا وخصوصا وأن فاروق قد حظي بشعبية حقيقية واسعة النطاق ليس مصدرها حادث 4 فبراير وحده بل بسبب زياراته المنتظمة لمساجد القاهرة والتي كان يزور أحدها في كل جمعة حيث كان يختلط بجماهير المصلين الفقراء مستكملا بذلك مظاهر تدينه وورعه.

وكان الوفد يرقب والهواجس تنتابه وبالرغم من محاولات الوفد نقل الصراع إلى مجال الدستور – كما كان يحدث زمن الملك فؤاد – إلا أن أحدا من المصلين لم تنطل عليه تلك الخدعة ومن هنا تضاعف الصراع بين الوفد والقصر بسبب وجود ملك ينافس الوفد نفوذه مع فاروق هام هو أن غالبية المصريين كانوا يتعاطفون مع فاروق في هذه المرة .

وأعتقد أن السياسة البريطانية قد أصابت مغنما بسبب سياستها في 4 فبراير حيث نجحت إلى حد كبير في زعزعة ثقة المصريين تجاه الوفد تلك المؤسسة السياسية الوطنية التي أقلقت الاحتلال أكثر من عشرين عاما ولعل الوفد في محاولة منه لإعادة ثقة الجماهير به مرة ثانية قد ضل الطريق حيث انصرفت جهوده إلى خدمة أنصاره وتعقب خصومه ولم يكترث برأي الأحزاب الأخرى أو معارضتها .

وأعتقد أن تلك السياسة جاءت بنتائج عكسية ضد مصلحة الوفد ولحساب القوي السياسية الأخرى لأن العناصر الواعية من أعضاء الوفد قد انتابها الفزع بسبب تلك السياسة التي جعلت من الوفد سندا للإنجليز وتابعا لهم بعد أن كان حربا عليهم ومقاوما لهم .

وعلى الرغم من الإجراءات العديدة والتي استخدمها النحاس بوصفه الحاكم العسكري العام والتي تعد في معظمها تنفيذ لقانون الطوارئ إلا أن كل ذلك لم يمنع حالة الغليان التي كانت تعم معظم فئات الشعب المصري .

وهكذا اتخذت حكومة الوفد من الأحكام العرفية والتي عارضها النحاس وطالب بإلغائها سنة 1940 سلاحا استغله أسوأ استغلال .

ونظرا لأن النحاس كان يريد أن يستعيض عن أفراد الطبقة الوسطي ( البرجوازية) والتي أخذ اغلبها ينصرف عنه بطبقة أخري من الأنصار من ذوي المصالح فقد سمح للمحامين الوفديين بالمرافعة في القضايا العسكرية الناجمة عن الأحكام العرفية دون غيرهم من المحامين وصارت هذه المحاكمات وما اتخذ من وساطات غير مشروعة فتحا كبيرا لهم ومصدرا جديدا لثراء العديد منهم وبدأت المحسوبيات والاستثناءات تغدق على الأنصار والمحاسيب وأصبح الثراء بالطرق الغير المشروعة هدفا لكثير من الوفديين كما أحيل كثير من الموظفين إلى المعاش لا لبلوغهم السن القانوني وإنما لكونهم غير وفديين.

ويبدو أ كل الأحزاب المصرية التي تعاقبت على الحكم منذ العشرينات من هذا القرن قد أسقطت من حساباتها كل المبادئ الديمقراطية التي تتعارض ومصالحها وحدثت تجاوزات في سياسة كل حكومة بما يتفق وظروف كل منها فلقد تولي حزب الأحرار الدستورين الحكم سنة 1928 , 1938 فعطل الدستور وضغط على الحريات وأنشأ في مصر ما يسمي بحكم البيونات وكان مهادنا للسراي معتدلا مع الانجليز وحاول أن يرصف الشعب عن مطالبه الوطنية بالدعوة إلى الإصلاح الداخلي .

وفي سنة 1925 ولي حزب الهيئة السعدية فزيف الانتخابات وضغط وقاوم في الحكم مستندا إلى القصر أى أن هذه التجاوزات التي وقعت فيها حكومة الوفد الوطني كانت من صنع أحزاب الأقلية إلا أن قناعتنا بالوفد باعتباره حزب الكفاح الوطني تدفعنا إلى لقاء قدر كبير من المستولية عليه حيث بدأ التناقض واضحا بين موقفه من الديمقراطية قبل مجيئه إلى الحكم وسياسته تجاهها بعد أن تولي الحكم في 4 فبراير .

وبدلا من أن يتخذ الوفد من الديمقراطية وسيلة وغاية إلا أن ناهضها بالعديد من الإجراءات بدأ من حرية الصحافة وانتهاء بالاعتقالات السياسية .

ولم يقتصر الأمر عند حد ما يكتب في الصحف بل تخطاه إلى تحديد عدد صفحات الجرائد اليومية إلى أربع صفحات فقط دون أن تصاحبها ملاحق أو تشتملا على نشرات ولا يجوز للصحف اليومية أن تصدر أكثر من ست مرات أسبوعيا ولا يجوز لها بأى حال إصدار جريدة أخري ولو باسم الأسبوعية على ورق يزيد حجمه على 30×44 سم وكل من خالف هذه الأحكام تكون عقوبته من 50 إلى 500 جنيه غرامة .

ولم يقتصر الأمر عند حد الصحافة إنما تعداه إلى الإرهاب السياسي عن طريق تفتيش مقار الأحزاب بما فيه نادي سعد زغلول حيث اقتحمته صفية زغلول زوجة مؤسس الوفد الأول سعد زغلول .

وعندما تقدم أحد نواب الشيوخ بسؤال إلى رئيس الوزراء حول الأسباب التي استدعت هذا التفتيش أجاب بأن أحد أعضاء النادي المشار إليه اعتاد أن يوزع على الشبان الذين يترددون على هذا النادي نشرات مثيرة دون ترخيص من إدارة النشر ومن أجل هذا أصدرت المر إلى البوليس بصفتي الحاكم العسكري العام.

وعلى الرغم من مبررات الحكومة ودوافعها إلا أن النحاس كان يجب عليه أن ينأي بنفسه عن هذه الأعمال نظرا لمكانة زوجة سعد زغلول في المجتمع المصري ولأن الاعتداء على مقار الأحزاب وإجراءات تفتيشها يعد ردة أكيدة عن الديمقراطية مهما كان العمل بقانون الأحكام العرفية .

ووفق مضابط مجلسي النواب والشيوخ فإن قضية الحرية الصحفية قد أخذت حيذا كبيرا في مداولات الأعضاء داخل المجلس بل تطرق الحديث عند تناول هذه القضية إلى معاهدة 1936 حيث اعتبر أحد الأعضاء أن الرقابة ليست من صنع الإدارة لمصرية وإنما هي وليدة المعاهدة وذهب النائب إلى المطالبة بإلغاء معاهدة 1936 وما يترتب عليها من إجراءات تتعلق بالحرية الصحفية .

وبالنظر إلى مذكرة الوفد والتي تقدم بها مصطفى النحاس إلى الحكومة البريطانية في أبريل سنة 1940 يبدو التناقض الأوضح فيما يتعلق بحرية الصحافة حيث أشار النحاس في تلك المذكرة بأنه لا معني لأن تمتد الرقابة على الأخبار لعسكرية إلى الرقابة على كل الشئون المصرية حتي أصبح المصريون في عهد الاستقلال وكنهم آلة عمياء لا يسمع لهم صوت في تصريف شئون البلاد ولا يدرون إلى أى مصير مسوقون ولا قدرة لهم على الشكوي مما هم إليه موجهون.

والجدير بالملاحظة أن الأحكام العرفية لم تطبق في انجلترا نفسها وقت قيام الحرب وعلى حد تعبير المستر براكن وزير الاستعلامات الانجليزي " لن توجد في بريطانيا صحافة تؤيد الحكومة على طول الخط فنحن ننظر إلى حرية الصحافة بنفس النظرة التي ننظر بها إلى استقلال القضاء والبرلمان .

وأعتقد أن حرية الصحافة في بريطانيا وقعت قيام الحرب كانت حقيقة أكيدة فلقد نشرت العديد من الصحف البريطانية مقالات افتقدت فيها المستر تشرشل لأنه يحتكر لنفسه معظم السلطات وطالبت بتوزيع المناصب حتى توقف الفوضي المتفشية في الوزارات ونشرت صحيفة الأحرار البريطانية مقالا انتقدت فيه جميع وزراء تشرشل وقالت : أن بقاء المستر كوبر في الوزارة محسوبية صارخة فإن العمل الوحيد الذي قام به أثناء توليه منصب وزير الدولة في الشرق الأوسط هو حضور السهرات وحفلات الكوكتيل , نشرت صحيفة " الديلي ميل" خبرا قالت فيه : أن أعضاء الوفد الروسي رفضوا حضور المآدب والحفلات قائلين : نحن جئنا إلى لندن لنعمل لا لنشرب الشمبانيا ونأكل الكافيار . وعلقت صحيفة المحافظين على هذا الخبر قائلة : كنا نود لو سمعنا هذا التصريح من الوزراء الانجليز كل هذا وأمثاله يكتب في انجلترا زمن الحرب ولا تتعرض له الرقابة حتى قيل للمستر تشرشل : استغل الرقابة في حماية وزارتك لقضية الحرب فأجاب : أن الوزارة التي تحمي نفسها بغير رضاء الشعب لا يمكن أن تعيش في انجلترا .

وبعد هذا الاستعراض يمكننا القول بأن بريطانيا وهي الدولة صاحبة المصلحة الأولي في الحرب لم تطبق أى نوع من القيود على حرية المواطن الانجليزي سواء بالحد من حرية الصحافة أو حرية الأفراد على وجه العموم ووفقا لقول النحاس باشا نفسه في أكثر من مناسبة " أن معاهدة 1936 هي معاهدة الشرف والاستقلال " أى أن مصر وعلى حد قوله قد حصلت على استقلالها عملا بالمعاهدة وحيث أنها لم تكن طرفا مباشرا في الحرب حيث أنها لم تعلن الحرب فعليا ( إلا في عهد حكومة أحمد ماهر 1945 ) وبناء على كل هذه الاعتبارات فلم أجد مبررا واحدا لكل هذه التسهيلات التي قدمتها حكومة 4 فبراير وبلا أى مقابل ولعل أعز ما قدمته مصر هو حرية المواطن المصري الذي بات غريبا في أرضه وعلى وطنه .

وإذا كان أحد زعماء الوفد يؤكد أن مصر قد حصلت من بريطانيا مقابل مل هذه التسهيلات على وعد يمكنها من ممارسة كافة أشكال الاستقلال وحقها في السودان ويضيف صاخب هذا الرأي . أن بريطانيا عندما أوشكت الحرب على نهايتها قد أعطت الضوء الأخضر للملك فاروق حتى يتخلص من الوفد وبالتالي يمكن لبريطانيا أن تتخلص من وعودها السابقة .

إذا كان هذا القول فإنه يحمل كل السذاجة السياسية فليس من المعقول ولا من المقبول شكلا ولا موضوعا أن تقدم مصر كل عزيز لديها طوال فترة الحرب بما في ذلك تعطيل الديمقراطية وتدهور الأوضاع الاقتصادية وقتل آلاف من الأبرياء في الإسكندرية بسبب غارات الألمان , كل هذا مقابل وعد سفهي قطعته بريطانيا على نفسها ونظرا لأهمية هذا الرأي فقد بحثت عن خيط ولو رفيع يرشدني إلى توثيق هذه المعلومة وبكل أسف لم أتمكن من ذلك سواء في المصادر أو الدراسات العديدة التي تناولت العلاقات المصرية البريطانية في القدرة موضع البحث .

ولقد بلغ من تعاون حكومة النحاس مع بريطانيا حدا تحدت فيه الحكومة كل مشاعر المصريين حتي أنه في سنة 1944 والحرب قد أوشكت على نهايتها فقد تقدم أحد أعضاء مجلس النواب باقتراح وجوب إلغاء الأحكام العرفية على اعتبار أن الأسباب التي من أجلها أعلنت قد زالت ولم تعد هناك ضرورة حربية أو متعلقة بشئون التموين لبقائها بل أن جميع الضرورات حتى الأدبية والخلقية منها تقتضي المبادرة إلى إلغائها وإلغاء الآثار المترتبة عليها وفي مقدمتها الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين .

إلا أن ديكتاتورية الأغلبية وتحكمها في قرارات المجلس قد دفعها إلى مصادر كل رأي أو فكرة وطنية ولو حدث وأقدم الوفد على إلغاء الأحكام العرفية – في مثل هذا الوقت لكان من الممكن أن تكون مبادرة طيبة تعيد إلى الوفد بعضا من هيبته داخل صفوف الشعب المصري إلا أن الوفد قد ارتضي لنفسه أن يأخذ موقفا مناهضا لمشاعر المصريين جميعا وبلا أى ثمن إلا الوعود والأمنيات الطيبة والتي دفع الوفد ثمنها باهظا .

وفي العشرينات والثلاثينات من هذا القرن كانت القاعدة العريضة من الجماهير ترتضي الوفد حزبا لها وقيادة تتحرك بإشارته فقد نشأ في حوادث ثورة 1919 فالتفت حوله الجماهير باعتباره ممثلا لمطالبها في الاستقلال والحرية ثم كان حفل زفافه إلى السلطة سنة 1942 حفل الجناز له كحزب ثوري حيث لم يستطع المضي في الكفاح لأنه وضع أمام الاختبار الصعب الكفاح .. أو المساومة فاختار المساومة وكان تاريخ الانجليز معه هو تاريخ ترويضهم إياه حتى تعب وهدأ ثم كان من تخاذله عن إثارة المسائل الوطنية وهو في السلطة ومن حوادث المحسوبية والثراء والفساد واستغلال النفوذ ما نفر منه الكثير من العناصر الوطنية الجادة وبدأت الجماهير تفقد ثقتها فيه بالتدريج وتبحث عن قيادة جديدة.وفي محاولة من الوفد لإعادة شعبيته فقد صدر القانون رقم 85 لسنة 1942 والذي سمح لعمال الصناعة بتأسيس نقاباتهم الأمر الذي أتاح أمام العمل النقابي أن ينشط حتى وصل عدد النقابات في عام 1944 إلى 210 نقابة .

وشرعت حكومة الوفد تنفيذ الإصلاحات الضرورية الهامة بهدف تهدئة الخواطر الثائرة ولعل ن بين هذه الإصلاحات إصدار قانون التأمين الإجباري ضد حوادث العمل وتحديد ساعات العمل وعلاوة غلاء المعيشة وتجديد الحد الأدنى للأجور وكان أبرز هذه القوانين قانون الاعتراف بنقابات العمال , حيث اعترف القانون بحق العمال في تكوين النقابات إلا أنه قيد هذا الحق بعدة قيود لعل أخطرها أنه أخضع النقابات للرقابة البوليسية وجعلها معرضة للتفتيش والحل الإداريين وحظر إقامة اتحاد عاما لنقابات العمال .

ويبدو أن الوفد كان يقدر أهمية بقاء العمال ركيزة أساسية في بناء الحزب وجريا على سياسة الوفد فقد بدأ الاهتمام بمشاكل العمال حيث صدر لأول مرة أول قانون ينظم العلاقة بين العامل صاحب العمل ثم قانون مكافحة الأمية وبدأ الاهتمام في تكوين " رابطة النقابات " وأسند رياستها إلى محمد حسنين عضو الوفد وقامت الرابطة بعقد عدة اجتماعات عامة للعمل لتدارس شئونهم واقترح الرابطة بعقد عدة اجتماعات عامة للعمل لتدارس شئونهم واقترح في أحد هذه الاجتماعات انتخاب فؤاد سراح الدين ( سكرتير عام الوفد ) زعيما للعمال مدي الحياة وأدي تقديم هذا الاقتراح إلى نشوب انقسام بين العمال ولم يصل المجتمعون إلى قرار .

ويبدو أن القاعدة العريضة من العمال كانت تقدر محاولات الوفد بهدف السيطرة على الحركة العمالية ولذا فقد ظلت الحركة العمالية منقسمة على نفسها إلى أن أقيل الوفد سنة 1944 ومع اقتراب الحرب من نهايتها بدأت نذر البطالة تتجمع من جديد لأن وجود القوات المتحالفة في مصر ق أوجد العديد من مجالات العمل حتى وصل عدد العمال المصريين العلمانيين ضمن القوات المتحالفة 300,000 عامل سنة 1943 ومع زيادة الطلب إلى دفع أجور سخية نوعا ما وفجأة يتوقف هذا الدخل مرة واحدة وتتحول هذه الأعداد الهائلة إلى البطالة وهكذا أقبلت الموجة الشيوعية الجديدة لتجد الساحة العمالية مهيأة تماما ومن هنا بدأ المد الشيوعي يعرف طريقه بصور ة مكثفة نحو العمال .

والحقيقة أن الانعكاسات المباشرة لحادث 4 فبراير على الحركة العمالية يمكن استقراؤه من خلال الاستياء العام لدي الجماهير العمالية وخصوصا أمام الارتفاع الملحوظ في حاجيات الحياة وكان من السهل على الجماهير أن تربط بين تردي الحياة عموما وما حدث في 4 فبراير .

ويبدو أن الجماهير التي غفرت للنحاس والوفد " إهانات" كثيرة لم تغفر له مطلقا أحداث 4 فبراير بما فجره من مشاع وطنية جارفة وظهور العديد من الاتجاهات السياسية التي أثرت بشكل واضح على جماهيرية الوفد ونالت من قدرته ومكانته لدي الجماهير العمالية. وأستطيع أن أقول أن الديكتاتورية التي مارستها حكومة الوفد ضد القوي المعارضة بهدف التقليل من شأن المعارضة قد أتت بنتائج عكسية تماما حيث بدأت الجموع الغفيرة من جماهير الوفد تتعاطف مع تلك القوي بل أن بعضا من القوي الوفدية بدأت تبحث لها عن زعامة جديدة وفقا لمفهوم سياسي جديد أوجدته أحداث 4 فبراير ولذا فإنني أعتقد أن ردود الفعل المتباينة داخل الوفد نفسه كانت أكبر تأثيرا على الوفد من القوي السياسية التقليدية والتي عرفت بكراهيتها للوفد وزعامته ولعل انشقاق مكرم عبيد عن الوفد قد عجل بالقضاء على انهيار هذا الهرم الشامخ والذي بقي لأكثر من عشرين عاما رمزا للصمود الوطني ..

الفصل الرابع : القوي السياسية وموقفها من حادث 4 فبراير

الهيئة السعدية

لعل الدراسة السابقة توضح وبصورة كاملة مسئولية الوفد عن الأحداث التي وقعت مساء 4 فبراير 1942م تلك المسئولية التي نعتقد أنها لم تكن مطلقة وإنما شاركت فيها العديد من القوي الأخرى التي ساهمت بشكل أو بأخر في تصعيد حدة الصراع الدائر على الساحة المصرية .

وبما أن حادث 4 فبراير لم يكن وليد يومه بل تضافرت على بلوغه عوامل متعددة كان من أهمها سياسة القصر ومحاولته الاستثار بالسلطة وعدم اكتراثه بقوة الشعب وسلك القصر في سياسته طرقا متعددة كان من بينها أحزاب الأقلية حيث اتخذها تكاة للنيل من الوفد ووجدت الأحزاب ضالتها في القصر فقد كانت هي الأخرى تهدف إلى النيل من الوفد ولو سلكت في سياستها طرقا تتنافي مع الديمقراطية .

ويبدو أن ما حدث في 4 فبراير لم يكن مسئولية جهة محددة أو شخص بذاته لأن الحوادث لا تقع اعتباطا وانحراف الأمور إلى المبلغ الذي لغته مساء 4 فبراير يعد نتاج سلسلة طويلة من الأخطاء والتجاوزات ترجع في معظمها إلى أطماع شخصية ودوافع حزبية , ومن المؤسف أن الذين حملوا على التدخل البريطاني قبلوا وفي ظروف كثيرة ما يشبه هذا التدخل وارتضوه فتحمسهم من أجل السيادة المصرية لم يكن تحمسا خالصا وإنما لأن هذا التدخل لم يكن في صالحهم ومن هنا فإن تبعة 4 فبراير أوسع دائرة مما أراد الكثيرون أن يحصروها في هيئة واحدة فإن الرجال الذين استخدمهم القصر وقربهم واستمع إلى مشورتهم – وكان الملك لا يزال حدثا قليل التجربة – وعشرات النواب والوزراء والشيوخ الذين قبلوا أن يشتركون في برلمان ووزارات لا شأن ولا اعتبار لها عند الشعب لذا فإنني أعتقد أن المسئولية يجب أن تشمل هؤلاء جميعا .

وحزب الهيئة السعدية من بين الأحزاب التي انسلخت عن الوفد ( 1927) ولا يعنينا في هذه الدراسة صور الخلاف بين أحمد ماهر ومصطفى النحاس وإنما الذي يعنينا في المرتبة الأولي إبراز أثر هذا الانشقاق على مجري الأحداث السياسية .

والجدير بالملاحظة أن خروج أحمد ماهر والنقراشي من الوفد ثم ما تبع ذلك من إقالة حكومة الوفد ( ديسمبر 1937) يعد من أهم العوامل التي أثرت في سلوك الوفد وسياسته العامة سواء فيما يتعلق بعلاقاته بالقصر أو فيما يتعلق بعلاقاته بأحزاب الأقلية ولعل زيادة حدة الصراع بين القوي المتنافسة قد دفع الوفد إلى التضامن ولعل زيادة حدة الصراع بين القوي المتنافسة قد دفع الوفد التضامن مع بريطانيا لهدف ضرب القوي الأخرى ( القصر وأحزاب الأقلية ) .

أما عن أثر انشقاق الدكتور أحمد ماهر والنقراشي عن الوفد فعندما شكل محمد محمود حكومته( يناير 1938م) وحل مجلس النواب تمهيدا لإجراء انتخابات جديدة شع كثيرون ممن احتفظوا بولائهم للنحاس اعتقادا منهم بأن هذا الولاء يمكن أن يعيده إلى منصة الحكم إلا أنهم تأكدوا أنه لا سبيل لهم إلى العودة لعضوية مجلس النواب إلا إذا أنكروا هذا الولاء له فانضم كثيرون منهم إلى الدكتور أحمد ماهر وأنضم إليه غيرهم من الذين لم يرشحوا من قبل وكانوا يطمعون في الوصول إلى عضوية مجلس النواب وألف الدكتور ماهر والنقراشي من هؤلاء وأولئك الهيئة السعدية وبهذا التكوين خرجت الهيئة السعدية إلى حيز الوجود لتأخذ موقعها على مسرح الأحداث السياسية ليس من أجل أن تكون تجمعا سياسيا ينال أن هيبة الاحتلال ونفوذه وإنما لكي تكون جبهة معارضة تقف على الطريق المضاد لحزب الأغلبية ( الوفد ) وتنضم آليا إلى أحزاب الأقلية والمتعاونة مع القصر بهدف الانتقام من الوفد والنيل من شعبيته لدي الجماهير ويبدو أن هذه كانت المهمة الأساسية لحزب الهيئة السعدية خلال فترة الحرب.

وتشير الوثائق البريطانية إلى بعض مظاهر الصراع داخل الوفد ( قبل خروج ماهر والنقراشي ) ووفق رواية السفير البريطاني :" أن العناصر المعادية للنحاس لا تحظي بأية شعبية لدي الجماهير ومن ثم فلابد لها من زعامة رمزية تستطيع أن تنافس زعيم الوفد في شعبيته لدي الجماهير والملك الشاب وحده الذي يستطيع أن يمثل هذه الشخصية .

وبهذا التحليل يضع لامبسون أصابعه بمهارة فائقة على حقيقة العلاقة بين الملك فاروق وحزب الهيئة السعدية وهو يشير من طرف خفي إلى القصر كان وراء تفاقم الصراع بين القوتين المتنافستين ( أحمد ماهر والنقراشي من جانب ومكرم عبيد والنحاس من جانب آخر ) حيث يشير لامبسون في نفس البرقية قائلا " أن فاروقا قد استغل التنافس الدائر وعمل على تصعيده بصورة واضحة ولعل خروج ماهر والنقراشي من الوفد يعد من أقوي الدوافع التي شجعت فاروق على إقالة الوفد سنة 1937 م على اعتبار أن شخصية أحمد ماهر والنقراشي كفيلتان بأحداث خلل في هيكل الوفد وهو ما يسمي بسياسة الاستيلاء على الوفد من الداخل .

ويبدو أن من بين الأسباب التي ضاعفت من حدة التنافس بين فاروق والنحاس أن الأخير كان يعتقد أن فاروقا ضليع في تلك المؤامرة .

ولما كان الدكتور أحمد ماهر رجلا ماكرا في السياسة يعلم جيدا حقيقة القوي الأكثر تأثيرا في السياسة المصرية فقد أدرك أن الوقوف بجانب بريطانيا والاعتماد عليها هو الطريق الأمثل للوصول بحزبه إلى الوزارة من هنا كان قراره :" أن الحزب يري إعلان الحرب على ألمانيا نظرا لأن الحرب فرصة طيبة لتقوية الجيش المصري وتقوية لمركز مصر السياسي باعتبارها من أكبر الدول العربية "

والغريب في الأمر أن يري الدكتور أحمد ماهر وهو الشخصية التي لعبت دورا رائدا في الحركة الوطنية المصرية منذ ثورة 1919 م أن إعلان مصر الحرب على ألمانيا هو الحل الأمثل لتقوية مصر عسكريا متناسيا الثمن الباهظ الذي ستدفعه مصر لو سلكت هذا الاتجاه منذ بداية الحرب سواء فيما يتعلق بأرواح أبنائها أو تدمير مرافقها العامة حيث ستكون مصر في هذه الحالة شريك كامل في الحرب وعليها أن تتحمل تبعة ما يحدث .

والحقيقة أن بقاء مصر بعيدا عن التورط في إعلان الحرب كان مسلكا جادا ومتفقا إلى حد كبير مع مصلحة مصر القومية بالرغم من التضحيات الباهظة التي قدمتها مصر ثمنا لارتباطها بمعاهدة 1936م إلا أن هذه التضحيات كانت شيئا لا يذكر أمام أهوال الحرب وأضرارها بالإضافة إلى أن هذا الموقف المصري كان حجة تذرعت بها الحكومات المصرية المتعاقبة خلال الحرب لكي تحول دون قذف المدن والمرافق المصرية حتى أن حكومة الوفد ذاتها قد علمت على استغلال هذه الورقة الرابحة حينما بدأت قوات المحور تتقدم صوب الإسكندرية حيث ذود محافظها بتعليمات يرسلها بدوره إلى روميل مؤكدا أن مصر لا ذنب لها وأن الوجود البريطاني داخل الأراضي المصرية يعد شكلا من أشكال الاحتلال الذي لا ذنب لمصر فيه ومما يضاعف من مسئولية الهيئة السعدية تجاه قضية دخول مصر الحرب أن هذا الموقف جاء مناقضا لمشاعر الغالبية العظمي من المصريين حيث كانت قطاعات كبيرة من الرأي العام تنفر من اشتراك مصر في الحرب على اعتبار أنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل كما عبر عن ذلك الشيخ مصطفي المراغي شيخ الأزهر وهو يخطب في مسجد بيبرس وكان فاروقا حاضرا يؤدي صلاة الجمعة وكانت مشاعر الناس غاضبة أثر وقوع غارة عنيفة على القاهرة راح ضحيتها 39 قتيلا 33 جريحا . ولعل موقف الهيئة السعدية من دخول مصر الحرب كان لعبة سياسية بهدف الوصول بالحزب إل موقع الوزارة إلا أن السياسة البريطانية كانت تدرك أن هذه الدعوة لا تجد قبولا لدي الرأي العام المصري وأن بقاء مصر بعيدا عن هذا الصراع سوف يترتب عليه العديد من المكاسب التي قدرتها بريطانيا ومن هنا فقد صرفت بريطانيا نظرا عن هذه الدعوة على اعتبار أن الحزب السعدي لا يمثل واقعا ملموسا في صفوف الجماهير وأن فكرة دخول مصر الحرب لا تجد من يؤيده.

وجريا على سياسة التفاهم بين الهيئة السعدية وحزب الأحرار الدستوريين فقد فكر البعض في أن يندمج الحزبان في هيئة واحدة يكون محمد محمود باشا رئيسا الدكتور أحمد ماهر نائبا عن الرئيس وراقت هذه الفكرة بعض الجهات فشجعت علها ولم ير الدستوريون بالفكرة باسا ما دام محمد محمود سيكون رئيسا لكن هذه الفكرة لقيت مقاومة من الهيئة السعدية اعتقادا منهم بأنهم ورثة سعد زغلول وتشبث أصحاب هذه الدعوة بها تشبثا لم يكن يسيرا على زملائهم التغلب عليه ولذلك استبعدت فكرة اندماج الحزبين .

ولعل التفاهم الذي طرأ على العلاقة بين الهيئة السعدية والأحرار الدستوريين كان تفاهما صناعيا لم يزل ما بينهما من تنافس دل عليه وقوع العديد من الخلافات ومحاولة كل حزب النيل من الأخر .

ويلاحظ أن محاولة النيل من الدستوريين كان مسلكا تبناه الدكتور أحمد ماهر حتى يظفر بتشكيل الحكومة عن طريق التشكيك في نزاهة وزارة محمد محمود وتعد مزرعة الجبل الصفر أكبر دليل على هذا المسلك أما عن موقف الهيئة السعدية من بعض القضايا القومية .

فقد درج اليسار المصري على وصف هذا الحزب بأنه حزب البرجوازية الصناعية الكبيرة وقد وصفه أحد أقطاب اليسار بأنه الحزب الذي يمثل الرأسماليين الكبار ومن الطبيعي أن تقوم فلسفة الحزب على الدفاع عن مصالح أعضائه حيث ضم الحزب كثيرا من كبار الإقطاعيين مثل الدكتور محمد حلمي الجيار وعائلة الأتربي أحمد حلمي محمود .

وعلى الرغم من أن الحزب كان حريصا على إبراز فكرة الديمقراطية عن طريق توسيع دائرة اختصاص المجالس النيابية والتشريعية إلا أن هذه الأفكار النظرية قد تهاوت منذ اللحظة الأولي لتكوين الحزب ولعل هذا راجع إلى عدة عوامل أساسية :

أولا : لقد كان من بين العوامل الهامة في انسلاخ النقراشي وأحمد ماهر عن الوفد هو عدم موافقتهما على سياسة الوفد الليبرالية في مجال الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي حيث حمل الدكتور أحمد ماهر حملة عنيفة على الوفد وسياسته وخصوصا فيما يتعلق بالعمال وكان مما ذكره: " أن الحكومة أغدقت على العمال بالعديد من النعم حتى أبطرتهم وجرأتهم على الإخلال بالنظام والتحكم في رؤسائهم وأضاف الدكتور ماهر قائلا :

" إذا انسحبت هذه الفوضي حتى تعم عمال المصانع والزراعة فإنها ستحدث بلا شك فوضي اجتماعية لا يعلم مداها إلا الله ".

وكان افتقار الحزب إلى الطابع الاقتصادي والاجتماعي من بين العوامل التي أدت إلى انصراف غالبية الشعب المصري عنه ما عدا فئة قليلة من طلاب الجامعات والتي انبهرت بشخصية الدكتور أحمد ماهر وحجته القومية في العديد من القضايا القومية بالإضافة إلى مقدرته الفائقة على إجادة الحوار والبعد السياسي الكبير الذي كان يتمتع به .

ثانيا : محاولة الزج بمصر في الصراع الدولي القائم عن طريق الحرب ضد ألمانيا وهذه الدعوة لم تجد لها أى صدي لدي الجموع الكاسحة من المصريين بل وقد أتهم أحمد ماهر صراحة بأنه ينافق الانجليز على حساب المصالح القومية بهدف الوصول بحزبه إلى موقع الوزارة .

ثالثا : لقد اشترك الحزب في العديد من الوزارات التي افتقدت إلى أى أساس ديمقراطي أو دستوري بدأ من سنة 1938م وحتى 4 فبراير 1942م وكل هذه الوزارات كانت صنيعة من صنائع القصر والاحتلال وهكذا ارتضي الحزب لنفسه أن يتخذ من القصر والاحتلال تكاة لوجوده واستمراره مقابل العديد من أشكال المساومة التي مست في معظمها مصالح مصر الوطنية وبدلا من أن يكون الدكتور أحمد ماهر وحزبه حربا على الاحتلال وسياسته حتى يكون جديرا بتركه سعد زغلول وحتى تتجمع الجماهير من حوله بالعكس من ذلك فقد بدأ العديد من أعضاء الحزب يبحثون لهم عن موقع جديد بعد أن اكتشفوا أن الجمل الإنشائية والخطب العصماء لا يمكن أن تخلق نظاما دستوريا ولذا فقد انصرف عدد كبير من الأعضاء إلى جماعة الإخوان المسلمين أو إلى حركات اليسار بعد أن فقدوا الثقة في القيادات التقليدية إلى كانت موضع ازدراء وخصوصا وسط قطاعات الشباب المثقف ولم يعرف عن هذا الحزب أنه أخذ موقفا وطنيا تجاه العديد من قضايا مصر القومية والوطنية بل أنه صاحب سياسة اللين ومحاولة التقرب من بريطانيا والارتباط بها باعتبارها الإمبراطورية التي تناصر الديمقراطيات في العالم .

أما عن موقف الحزب من قضية الأحكام العرفية والتي صدرت بمرسوم في أول سبتمبر 1939 م وبمقتضي ذلك وضعت الرقابة على الصحف والمراسلات ووسائل الإعلام فلقد اتفق السعديون على دستورية الأحكام العرفية إلا أنهم طالبوا بدعوة البرلمان للتصديق على هذه الإجراءات عملا بنص الدستور .

واعتبر الحزب أن إعلان الأحكام العرفية من أهم الالتزامات التي يجب أن تنفذها مصر لأنها لو لم تعلنها لتعرضت تعرضا واضحا لحرق المعاهدة – 1936 – على اعتبار أن المعاهدة نصت صراحة على إعلان مصر الأحكام العرفية .

وهكذا دخلت الهيئة السعدية دائرة أحزاب الأقلية التي استخدمها الاحتلال لتحقيق أغراضه وأصبح هذا الحزب ألعوبة في أيدي كبار الماليين الصوريين المرتبطين بالشركات الاحتكارية الأجنبية وما يؤكد العلاقة الوثيقة بين هذا الحرب وبين بريطانيا أن العديد من الأعضاء البارزين لهذا الحزب كانوا أعضاء في العديد من الشركات البريطانية ولعل من مصلحة هؤلاء مهادنة الاحتلال حفاظا على مصالحهم وامتيازاتهم حيث أنه من المسلمات أنه كلما ارتفعت نسبة العناصر التي تمثل قطاعا اجتماعيا معينا في قيادة حزب من الأحزاب كلما كان ذلك مؤشرا على اتجاه سياسة الحزب نحو تحقيق مصالح هذا القطاع .

أما عن موقف الهيئة السعدية من أحداث 4 فبراير فلقد عبر عنه الدكتور أحمد ماهر بكلمته المشهورة : " لقد قبلت العودة إلى الحكم يا نحاس باشا على أسنة الرماح البريطانية " وهذه المقولة بقدر ما هي اتهام واضح للنحاس باشا إلا أن النظرة الموضوعية لعمق الأحداث وتطورها تقتضي منا العودة مرة ثانية إلى الأحداث التي وقعت مساء 4 فبراير وبطرح كل الحلول على المؤتمر الذي عقد بقصر عابدين والذي اشترك فيه زعماء كل الأحزاب ورؤساء الحكومات فقد أجمعت الآراء على قبول الإنذار البريطاني لكن كان الاختلاف فيما بينهم هل يشكل لنحاس الحكومة وفدية خالصة أو حكومة قومية من بين كل الأحزاب أو حكومة إدارية تكون مهمتها إجراء انتخابات نيابية يتولي الحكم على أثرها الحزب صاحب الأغلبية وأجمعت كل الآراء بما فيهم الدكتور أحمد ماهر " زعيم الهيئة السعدية " على الموافقة على أى حل من الحلول المطروحة ما عدا أن يشكل الوفد وزارة وفدية خالصة وفي هذه الحالة فقط يكون الوفد قد قبل المجئ على أسنة الرماح البريطانية – على حد قول أحمد ماهر – أما أن يشكل النحاس حكومة سواء أكانت قومية أو إدارية على الرغم من أنه يعد تنفيذا صريحا للإنذار إلا أنه من وجهة نظرهم " قادة الأحزاب " لا يعتبر تنفيذا للإنذار ويعتبر خروجا عن دائرة التسلط البريطاني .

ويبدو أن حزب الهيئة السعدية قد عمل على استغلال أحداث 4 فبراير 1942 لا لأسباب وطنية ولا لأن كرامة مصر قد أهينت واستقلالها قد أهدر وإنما كانت الدوافع الحزبية والكراهة الشديدة التي يكنها الدكتور أحمد ماهر للنحاس باشا هل العامل الأول في موقف الدكتور أحمد ماهر وحزبه من أحداث 4 فبراير حيث اعتبرت كل الأحزاب ( بما فيهم الهيئة السعدية ) أن الوفد قد حكم على نفسه بالموت البطئ وحقا كانت فرصة مواتية لكل الأحزاب كي تنال من الوفد ومن شعبيته الكاسحة ومن تاريخه العريق في قيادة النضال الوطني والمهم أن الوفد قد اختار لنفسه هذا الطريق والذي يعد خطأ سياسيا كبرا .

وعلى الرغم من أن سياسة الحزب السعدي كانت تعن التعاون مع الحليفة " بريطانيا " إلى أقصي حد حتى وصل الأمر إلى الإصرار على إعلان الحرب من جانب مصر ضد ألمانيا إلا أن الدكتور أحمد ماهر قد وصف ما حدث مساء 4 فبراير في مذكرته التي قدمها إلى السفير البريطاني " بأنه عدوان صارخ على استقلال مصر تعارض صراحة مع نص المعاهدة ( معاهدة 1936 ) ويعرض العلاقات بين الدولتين لخطر بالغ .

ويبدو أن الدكتور أحمد ماهر قد اتخذ هذا الموقف وفقا لعدة عوامل أساسية :

أولا : أن هذا الموقف يعد تطييبا لخاطر الملك فاروق والذي كانت تربطه بالدكتور أحمد ماهر علاقات وطيدة .

ثانيا : مواكبة لمشاعر الرأي العام والذي صدم صدمة عنيفة من جراء ما حدث .

ثالثا : والأهم من كل ذلك أن السعديين كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة سعد زغلول وأن ما حدث يعد فرصة أكيدة لكي يحتل السعديون مكانة لدي الجماهير الساخطة على الوفد والاحتلال معا .

ونظرا لأن رد الفعل كان عنيفا سواء لدي الرأي العام أو لدي الأحزاب زعماء الأحزاب وكان الدكتور ماهر أو لمن عمل السفير على الاتصال به حيث بعث إليه السكرتير الشرقي للسفارة في محاولة لإرضاء الدكتور ماهر وحزبه وتشير الوثائق البريطانية إلى موقف مغاير تاما للموقف الذي أعلنه الدكتور ماهر فبدلا من أن يمضي في موقفه والذي عن أن بريطانيا قد انتهكت معاهدة 1936 وارتكبت خطأ سياسيا لا يغتفر أخذ يتحدث في لقائه مع السكرتير الشرقي للسفارة عن ارتباط مصر ببريطانيا وأهميته وساسة حزبه في إعلان الحرب ضد المحور والتأكيد على أن النحاس باشا هو الذي ارتكب.

كل الخطأ حيث أهان بريطانيا في خطبة العامة ووافق مع الزعماء الآخرين في اجتماعات القصر ( مساء 4 فبراير ) على أن ما تطلبه بريطانيا يعد تدخلا لا مبرر له ومع ذلك قبل الحكومة تؤيده الحراب البريطانية .

وكأن أحمد ماهر كان يلوم بريطانيا لا لأنها أهدرت استقلال مصر ولا لأن ما حدث يعوض العلاقات بين الدولتين للخطر ولكن لأن بريطانيا جاءت بالوفد هكذا يبدو التناقص الواضح بين ما أعلنه أحمد ماهر صراحة وبين ما صرح به للسكرتير الشرقي وأخذت السفارة البريطانية انطباعا بأن موقف الدكتور ماهر يعد مناورة موجهة إلى النحاس أكثر من بريطانيا .

وعلى الرغم مما بذله السفير من محاولات لإقناع الدكتور ماهر بالعدول عن سياسة مهاجمة الوفد إلا أن المعارضة أخذت تضاعف من نشاطها على الرغم من الأحكام العرفية المفروضة على البلاد بهدف النيل من الوفد وأخذت تقارير الأمن العام تلاحق المعارضة في كل مكان وخصوصا الهيئة السعدية حيث بدأت أكبر حركة اعتقالات في المدن والقرى بتهمة توزيع صور من الاحتجاج الذي قدمه أحمد ماهر إلى السفير البريطاني .

وعلى ما يبدو فإن النحاس باشا قد انزعج انزعاجا شديدا بسبب الحملة المكثفة التي يتزعمها السعديون لأن حكومة الوفد كانت حريصة على إخفاء ما حدث 4 فبراير حيث امتنعت جميع الصحف عن الإشارة إلى هذا الحادث ولو من بعيد إلا أن أحد النواب قد فجر الموقف من خلال استجواب تقدم به إلى رئيس الحكومة بخصوص حرية الصحافة ولماذا لم ينتشر أى شئ عن أحداث 4 فبراير .

ولما كان هذا الاستجواب يمثل إحراجا واضحا لحكومة الوفد وأن الإجابة عليه تعد أكثر إحراجا للحكومة فقد اعتذر النحاس عن الإجابة بحجة أن فيها مساسا بسيادة العرش وهو ما يتعارض تماما مع الدستور .

ونظرا لأن هذا الموقف يعد تناقضا واضحا في سياسة الحكومة فقد حرصت المعارضة على طرق العديد من الأبواب التي تشير ولو من بعيد أحداث 4 فبراير وشهدت قاعات مجلس الشيوخ العديد من المواقف التي تمكنت المعارضة بمقتضاها من إحراج الحكومة .

وعلى الرغم من الأحكام العرفية القاسية والرقابة الشديدة على الصحف والمطبوعات عموما إلا أن الهيئة السعدية قد تمكنت من أن تنال من الوفد وأضعفت من شعبيته إلى حد كبير نظرا لأن الحكومة قد أخذت في تحري الرغبات البريطانية بصورة قوبلت باستنكار واستياء شديدين من بعض الوفديين قبل غيرهم وبشهادة أحد الوفديين " لقد كان حكم الوفد أقرب إلى الديكتاتورية منه إلى النظام الديمقراطي السليم .

وأسرفت الحكومة في تفسير " ضرورة الحرب" فاعتقلت أعدادا كبيرة من أعضاء الهيئة السعدية دون أن يكون لهم شأن في الإضرار بمجهود الحلفاء وتساءل أحد أعضاء مجلس الشيوخ : هل من حق الحاكم العسكري أن يعتقل ما يشاء بدون ذكر الأسباب ؟ وأضاف النائب قائلا : قد يكون ذلك مقبولا في بعض الظروف بحجة المحافظة على سلامة الدولة , افهم أن يقول الحاكم العسكري عندما قبض على علي ماهر باشا أنه يمتنع عن ذكر الأسباب لسلامة الدولة هذا مقبول لأن علي ماهر رجل متصل بشئون الدولة ولكن من غير المقبول أن يقبض على موظف في الدرجة الثامنة لتوزيع منشورات أو لاشتراكه في مظاهرة فإذا سئل الحاكم العسكري عن أسباب القبض أو الاعتقال امتنع عن ذكرها .

وفي الوقت الذي أسرفت فيه الحكومة في تفسير " ضرورة الحرب " فإنها قد أسرفت أيضا في مكافأة أنصارها من الوفديين وأساءت إلى الآخرين ممن ليسوا من أنصارها ولم يكن لها أن تحتج بأن الحكومات الأخرى تفعل ذلك حيث أن للوفد اعتبارا من آخر لأنه الحزب الذي يؤمن بالدستور وينادي بالديمقراطية ويستند إلى قواعد جماهيرية كاسحة , من هنا كان لزاما على الحكومة أن تسير في الحكم بالطريقة الديمقراطية وإذا كان الحكم الدستوري أصلا له خصومة وله الأحزاب التي تضييق به فلم يكن من المعقول أن تتغاضي حكومة الوفد عن السلاح الذي تستغله بقية الأحزاب وتشهره في وجه الوفد حيث أنه من المؤكد أن السلطة ستزول يوما ما عن الوفد وستذهب أيضا الأحكام العرفية وتبقي الحقيقة التي سيعجز الوفد عن مواجهتها .

ومضي الحزب السعدي متضامنا مع غيره من أحزاب المعارضة في محاولة مستميتة لإحراج الحكومة حيث اجتمع المعارضون وكتبوا خطابا إلى مصطفى النحاس يطلبون فيه التحقيق مع علي ماهر .

وكان أحمد ماهر صاحب فكرة أن يكون للمعارضة رأي في الأمور الخطيرة التي تتعرض لها مصر مثل محاولة إغراق الدلتا وتدمير آبار البترول وخطوط المواصلات بهدف إعاقة تقدم القوات الألمانية .

ولما كانت سياسة الهيئة السعدية هي كشف وتعرية حكومة الوفد بهدف التقليل من هيبتها لدي الرأي العام المصري فقد قاد الدكتور أحمد ماهر زعماء الأحزاب السياسية في أكبر مظاهرة سياسية توجهت إلى القرى المصري بعد أن ثبت أنه لا جدوي من مواجهة الحكومة في القاهرة ولعل الهدف من وراء تلك المظاهرة السياسية هو اطلاع الرأي العام على ما تفعله الحكومة ضد المصلحة القومية بدءا بالاستثناءات والاعتقالات وإجراءات فصل الموظفين وانتهاء بأحداث 4 فبراير واختارت المعارضة مديرية المنوفية بالذات لكثرة ما فيها من متعلمين يسهل إقناعهم ويعلق أحد زعماء الأحزاب على هذه الزيارة فيقول : " لقد عملت الحكومة على مضايقة الشخصيات التي استقبلتنا وأنزلت بهم متاعب كثيرة ونكلت ببعض العمد والمشايخ واعتقلت بعض الطلاب والفلاحين والمدرسين الإلزامي " وارجع صاحب هذه الرواية السبب في ذلك " إلى أن احترام القانون لم يصبح في أخلاقنا ولم يستقر في ضمائرنا بل على العكس يري الكثيرون من الحاكمين التحايل على القانون للتخلص من أحكامه ويعتبرون ذلك " شطارة " ويغتبطون لها وقد يكون مرجع ذلك إلى الاستعمار أذل حكم مصر أزمانا طويلة حيث فرض على المصريين أحكاما ظالمة بل بلغ منا الاغتباط بالتحايل على القانون أن أصبحنا نتحايل على أحكام الشريعة الإسلامية نفسها ".

ولعل الدكتور هيكل كان يشير إلى فتوي وزير الأوقاف - حسين الجندي- في وزارة النحاس حيث عقد الوزير اجتماعا حضره كثير من الفقهاء انتهي بفتوى كانت موضع سخرية وتعجب من جماهير الشعب وخلاصة الفتوى :"أن الملك فاروق ينحدر من الدوحة الشريفة عن طريق والدته الملكة نازلي حفيدة سليمان باشا الفرنسي " الكولونيل سيف سابقا " وقد يكون الكولونيل سيف بعد أن ألسلم قد صلح إسلامه وأصبح من أكرم الناس عند الله لكن أن يكون من سلالة النبي عليه الصلاة والسلام فهذا هو العجب العجاب .

ويلاحظ أن جهود المعارضة قد تركزت كلها ضد حكومة الوفد في شكل منسق وراحت تبث الدعايات والأقاويل بهدف كسب أرض جديدة على حساب الوفد وكأن القضية المصرية قد أصبحت قضية صراع بين الوفد وأحزاب الأقلية بعيدا عن القضية الأساسية وهي الوجود البريطاني والملفت لنظر أيضا أن الحديث عن 4 فبراير قد انصب على الوفد بعيدا عن الخطر الحقيقي وهو الاحتلال البريطاني ومما سترعي الانتباه أيضا أن الوفد لم يعالج تلك القضية ( 4 فبراير ) بذكاء وحنكة شديدين بل مضي ليسلم لمعارضيه نقطة بعد أخري ولعل أهمها تأثيرا على الوفد هي قضية مكرم عبيد .

وبالرغم من أن السعديين كانوا يعتبرون مكرم عبيد وراء كل المشاكل والانشقاقات التي أصابت الوفد بل وكان من بين أسباب خروج أحمد ماهر والنقراشي من الوفد هو مكرم عبيد نفسه إلا أنه وبمجرد أن انفصل مكرم عن الوفد حتى تلقفوه وصنعوا منه بطلا وطنيا نزيها وعدوه ضحية الانحرافات والسرقات التي ترعاها زوجة النحاس ومن ورائها أقاربها وأصدقائها .

وبمجرد خروج النحاس من الحكم – 8 أكتوبر 1944م – شن الدكتور أحمد ماهر حملة ضده متهما إياه بأنه كان يحكم مصر وفقا لأساليب هتلر وموسليني محتميا وراء برلمان جاء نتيجة انتخابات مزيفة .

وفي 8 نوفمبر 1944م صدر مرسوم بقانون رقم 48 لسنة 1944م يقضي بإلغاء كافة الترقيات والعلاوات والمعاشات الاستثنائية التي تمت في عهد الوزارة السابقة وأعيد الموظفون الذين عزلهم النحاس إلى وظائفهم وأحيل إلى المعاش كل ما عرف عنه أنه كان ضليعا مع الوفد ومن بين هؤلاء الدكتور طه حسين المستشار الفني لوزارة المعارف .

ولعل من أهم العوامل في تقوية الهيئة السعدية هو معاضدة السيدة صفية زغلول " حرم سعد زغلول " لهذا الحزب وكراهيتها الشديد للنحاس , ومما يستوقف النظر أنها رفضت أن تهنئ النحاس عقب توليه وزارة 4 فبراير عندما ذهب ليلتقي تهنئة أم المصريين " كما كان يطلق عليها" وقال النحاس وهو يقبل يدها :" جئنا لنتلقي من أم المصريين تهانينا " فقالت له :" أنا أعزيكم ولا أهنئكم " ليس خليفة سعد زغلول هو الذي يتولي الحكم على أسنة الرماح البريطانية " فقال النحاس " نحن أنقذنا العرش وأنقذنا الاستقلال " فقالت" لن تثبت الأيام إلا أن خليفة سعد تولي الحكم على دبابات الانجليز "

ويبدو أن السيدة صفية زغلول كانت تناصر الدكتور أحمد ماهر على اعتبار أن الهيئة السعدية هي الرصيد الوطني الباقي من تراث سعد زغلول ولذا فقد فتحت أمامهم النادي السعدي وراحت تستقبل أعضاء الهيئة السعدية وتزودهم بنصائحها وحدث في ذكر سعد سنة 1943م أن هاجم الشباب الوفديون الشبان السعديين أثناء زيارتهم لبيت الأمة وراحوا يقولون في مواجهة الدكتور أحمد ماهر :

النحاس : النحاس فما كان من الدكتور ماهر إلا أن قال : انجليزي انجليزي , وردد السعديون هذا الهتاف فأرسلت الحكومة قوات البوليس واقتحموا بيت الأمة وضربوا الشبان السعديين أمام أم المصريين من هنا كان إصرار أم المصريين على إعلان عدائها الصريح للنحاس وحكومته وذلك من خلال المواقف التالية :

أولا : أنها طلبت من الوفد أن يبحث عن مكان آخر غير بيت الأمة للاجتماع .

ثانيا: أنها ذهبت عقب 4 فبراير إلى القصر الملكي واعتذرت باسم سعد زغلول عما فعله خليفة سعد وقالت لحسنين باشا ( رئيس الديوان ) " قل للملك أنه ليس من مبادئ سعد أن يتولي الوفد الحكم على الدبابات وقد اختلف سعد كثيرا مع الملك فؤاد ولكنه لم يلجأ مرة واحدة للأجنبي وكان يقول : الملك هو رايتنا جميعا , وأضافت السيدة صفية زغلول " أنني منذ يوم 4 فبراير لا أنام الليل وأنني أعجب كيف ينام الرجال "

أما الوسائل التي اتبعها النحاس مع السيدة صفية زغلول فقد قاطع بيت الأمة ومنع جميع وزرائه من زيارتها وصدرت الأوامر إلى الرقابة بأن تحذف مقالات الثناء عليها أو حتى مجرد ذكر اسمها ويبدو أن النحاس قد حاول إعادة العلاقات مرة ثانية مع بيت الأمة فقد حاول عثمان محرم أن يبذل الوساطة تمهيدا لعودة العلاقات إلا أن السيدة صفية زغلول أجابت بأنها لا تضع يدها في يد النحاس وأنها تغفر له إساءته لشخصها أما أساءته لمصر ولملك مصر فهي لا تستطيع أن تنساه "

ويبدو ان السيدة صفية زغلول قد تأثرت كثيرا من أحاديث الدكتور أحمد ماهر – ضد النحاس فقد كان الأول كثيرا التردد عليها وكانت تصرح دائما أن الوفد وزعامته قد خرجا على خط سعد زغلول وأن الباقي من رصيده هو أحمد ماهر وهيئته السعدية .

وعلى الرغم من كل هذا فقد كانت صفية زغلول تعتبر النحاس ضحية للعدد من الشخصيات التي زينت له ما صنع في 4 فبراير وكانت تقول " أنني حزينة على النحاس الذي عرفته قبل 1942 ولا أستطيع أن أنسي أنه خدم مصر حتي ذلك الحين خدمات صادقة أما النحاس بعد ذلك " فمنه لله " ولعل هذا يفسر لماذا لم يشترك النحاس في تشييع جنازة صفية زغلول.

وهكذا تجمعت كل أنواع المعارضة لكي تتخذ من النحاس وحكومته هدفا حتى تنمو الأحقاد والضغائن ضد الوفد وحمل النواب السعدون حملة شديدة على الحكومة لدرجة أنهم طالبوا بإلغاء ما جاء في معاهدة 1936 مما يمس استقلال مصر وكان الزعماء السعديون أنفسهم لم يشتركوا في توقيع هذه المعاهدة بحكم أنهم كانوا أعضاء بارزين في الوفد وأصبح من الممكن أن نسمع في مجلس الشيوخ أثناء مناقشات دارت حول وباء الكوليرا مثل هذه الكلمات التي يتمثل في سخريتها المرة ذلك العداء الشديد الذي يكنه الأعضاء السعديون ضد حكومة الوفد " أن مصر تعيش ساعات عصيبة لقد جاءتنا الملاريا قد جاءتنا على متن الطائرة البريطانية كما جاءتنا الحكومة الحالية على ظهر دبابات بريطانيا العظم وعلى الرغم من أن هذه الكلمات لم تنشرها الصحف إلا أنه قد تنقلها الناس وأصبحت حديث رجل الشرع في مصر .

وعموما فلم يترك السعديون فرصة إلا استغلوها بهدف زعزعة ثقة المصريين في الوفد وقيادته وما كانت مذكرة نوفمبر 1943 إلا انطلاقا من هذه السياسة تلك المذكرة التي قدمها المعارضون ومن بينهم الحزب السعدي إلى قادة الدول الكبرى المجتمعون في القاهرة ( تشرشل- روزفلت – ساينج كاء شك ) شهروا فيها بالوفد وسياسته وحددوا مطالب مصر في أربع نقاط أساسية :

1- التسليم باستقلال مصر ورفع القيود التي أوجدتها المعاهدة وجلاء جميع القوات الأجنبية .

2- الاعتراف بحقوق مصر في السودان .

3- استرداد مصر كامل سيادتها على قناة السويس .

4- اشتراك مصر في مؤتمر السلام القادم كدولة مستقلة ذات سيادة .

5- وقد تضمنت المذكرة أيضا الشكوى من سوء استخدام الوزارة للأحكام العرفية والرقابة الصحيفة وهذه المذكرة لا تختلف عن مذكرة مفهما تعد مناورة سياسية بهدف لفت نظر السياسة البريطانية إلى أن المعارضة قد ملت الانتظار .

والمهم أن هذه المناورة البارعة لم تكن من اختراع المعارضة وإنما كانت بدعوة من الملك فاروق وهذا ما يؤكد الدافع الحقيقي من وراء تلك المذكرة أو غيرها من المواقف العديدة والتي كان الهدف في مجملها تشويه صورة الوفد بدرجة تسمح للقصر بإقالته في الوقت المناسب وبلا أى ردود فعل شعبية أو بريطانية .

وأستطيع أن أقول أن سياسة الهيئة السعدية لم تكن قائمة على أى أساس ديمقراطي أو دستوري وأن مبالغتها في فكرة الديمقراطية تتناقض تماما مع سياسة حكومات الأقلية والتي ترأست الحكم بدأ من يناير 1938 وحتى 4 فبراير وقد كانت الهيئة السعدية من بين الأحزاب التي اشتركت في الحكم على الرغم من مخالفة ذلك صراحة لنص الدستور الذي يخول لحزب الأغلبية حق تشكيل الحكومة إلا أن أحزاب الأقلية قد تمكنت من تزييف الانتخابات بالعديد من الوسائل وصادرت في ذلك حق الأمة في اختيار مرشحيها وللأسف فقد تعودت العديد من الحكومات على المضي في هذا الطريق الذي يعد انتهاكا صريحا لأبسط حقوق الإنسان المصري .

الأحرار الدستوريون

وهم أول تجمع خرج على الوفد سنة 1922 وتولوا الوزارة منفردين أحيانا ومؤتلفين مع غرهم أحيانا أخري وكانت أخر وزارة لهم تلك التي تولوها عقب إقالة الوفد 1937 واستمروا فيها حتى أغسطس 1939 ولعل من أهم الأسباب التي دعت إلى تأليف الحزب الدفاع عن الدستور والعمل على سرعة إصداره وتنفيذه والحفاظ على الحياة الدستورية وتأكيدا لأهمية الدستور عند مؤسسي الحزب نعتوا أنفسهم باسمه.

واعتمد الحزب في تكوينه على طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية ذوي الثقافات الأجنبية وعلى ضوء برنامج الحزب يبدو إلى حد كبير أنه جاء متفقا مع التكوين الاجتماعي والفكري للأحرار الدستوريين .

وبالرغم من أنهم يهدفون إلى استقلال البلاد إلا أنهم يحرصون على مكاسبهم الاقتصادية والاجتماعية حيث نصت المادة السادسة ن برنامج الحزب على ضرورة تنظيم العلاقة بين العامل وصاحب العمل على أساس من العدل .

والعدل مبدأ أخلاقي يفهم بأكثر من زاوية حيث يفهمه الرأسماليون بأنه الارتفاع بالمستوي الاجتماع للعامل في إطار النظام القائم ويفهمه الاشتراكيون على اختلاف درجاتهم بأنه تغيير في أساس ملكية وسائل الإنتاج ولذا فقد ظلت مبادئ هذا الحزب مصدر شك وريبة لد قطاعات كبيرة من العمال المصريين لأن الصفة الغالبة على هذا الحزب أنه تجمع يعتمد على العصبيات أكثر من اعتماده على مبادئ سياسية حيث ضم العائلات ذات العصبيات أكثر من اعتماده على مبادئ سياسية حيث ضم العائلات ذات العصبيات الريفية ومن هنا كان أكثر الأحزاب تفككا وتعرضا للخلافات الشخصية حول زعامته .

ويلاحظ أن كل الأحزاب السياسية فيما عدا الحزب الوطني انشطرت عن الوفد أو صدرت عن أشخاص أصلا من أنصار الوفد فالأحرار الدستوريين وحزب الإتحاد والهيئة السعدية والكتلة الوفدية كل هذه القوي تألفت من أشخاص انفصلوا عن الوفد في هذا الوقت أو ذاك .

وعلى الرغم من أن هذا الحزب يعد من أهم الأحزاب مطالبة بالدستور إلا أنه ما أن ترأس محمد محمود الحكومة ( ديسمبر 1937) حتى قامت حكومته بحركة تنقلات داخل الجهاز الإداري للدولة وشملت أيضا عمليات فصل واسعة النطاق للعناصر الوفدية وأحلت الموالين لها محلهم ولعل هذا كان مقدمة لتزيف إرادة الأمة حتى لقد شهد السفير البريطاني بأنه بات واضحا أن الانتخابات سوف " تزيف" بواسطة الحكومة. وبالفعل فقد بدأت الحكومة في القيام بالعديد من الإجراءات التي تؤكد عزمها على تزييف إرادة الأمة ولعل الخطوة الأولي في تلك العملية هي إجراء الانتخابات على مرحلتين ( الوجه القبلي في يوم والوجه البحري بعد ثمان وأربعين ساعة ) وتذرعت الحكومة بحجة الحفاظ على الأمن والنظام وحتى يبدو هذا الإجراء وكأنه لا يتعارض مع الدستور فقد تم إصدار فتوى من قلم قضايا الحكومة بأن هذا الإجراء لا يتناقض مع الدستور .

ولعل هذه هي المرة الأولي في تاريخ الحياة النيابية المصرية التي تجري فيها لانتخابات على مرحلتين بدلا من إجرائها في يوم واحد كما كان متبعا من قبل لا يخفي نائب رئيس الأحرار الدستوريين الهدف الحقيقي من وراء هذا الإجراء حيث يقول : ( لقد كان محمد محمود أكثر اطمئنانا إلى الوجه القبلي فإذا جرت فيه الانتخابات وظهرت نتيجتها وكانت الأغلبية الكبرى لأنصار الحكومة أثر ذلك في مجري الانتخابات في الوجه البحري تأثيرا كبيرا ) .

ولم تكتف الحكومة بهذا الإجراء وإنما أقدمت على تعديل الدوائر الانتخابية عن طريق فصل بعض المناطق أو ضم مناطق أخري بما يتفق ومصالح مرشحي الحكومة .

ومن المؤكد أن ما أقدمت عليه الحكومات من تعدل الدوائر الانتخابية أدي إلى الاستهانة بالقانون واقتناع الأحزاب بإمكان تعديل تلك الدوائر على هواهم ولم تفرق الأحزاب بين المبادئ القومية الثابتة والمنافع الحزبية العاجلة ولعل ما أقدمت عليه حكومة 4 فبراير من إعادة الدوائر إلى ما كانت عليه قبل سنة 1937 يعد مثلا واضحا لمدي الاستهانة بفكرة قبات الحدود الجغرافية بين الأقاليم .

وهكذا سلخ الدستوريين في الحكم أكثر من عام ونصف لم يقوموا إلا بالإجراء التقليدي الذي تتبعه كل وزارة حزبية وهو سن القوانين والتشريعات بهدف التضييق على خصومها السياسيين .

ووفقا لهذا الاتجاه فقد أصدرت الحكومة مرسوما في 8 مارس 1938 م- بمنع قيام الجمعيات أو الجماعات التي لها صورة تشكيلات شبه عسكرية " القمصان الملونة "

ويبدو أن الملك فاروق كان قاسما مشتركا في حركة الصراع الدائر بين القوي السياسية المختلفة بهدف أن يكون للقصر موقف الريادة أو بالمعني المتعارف عليه أن يكون فاروقا هو المصدر الفعلي للسلطات وفي المقابل فلا مانع من أن يتغاضي الملك عن أى تجاوزات تحدثها حكومات الأقلية حتى ولو كان من بين هذه التجاوزات تزيف إرادة الأمة.

ويمضي أحد زعماء الأحرار الدستوريين في تصوير ما حدث عقب فوز الدستوريين في انتخابات 1938 فيقول " لقد كان من المتوقع ألا يقبل الملك استقالة الحكومة و يكلف محمد محمود بإعادة تأليفها لكن ما حدث أن الوزارة قدمت استقالتها فاستبقاها الملك للبت فيها ومضت الأيام ولم يبت في أمر الاستقالة ولا في الوزارة الجديدة بل أن البرلمان افتتح وألقي محمد محمود بتأليف الوزارة قدم كشفا بأسماء أعضائها فاستبقاء الملك وطلب كشفا آخر وهكذا حتي قدم محمد محمود ثمانية كشوف .

ويبدو أن علي ماهر ( رئيس الديوان الملكي ) قد لعب الدور الرئيسي في إفساد العلاقات بين القصر والأحرار الدستوريين ولعل الهدف هو أن يكون كامل البنداري عضوا في الحكومة حتى ينقل للقصر ما يدور داخل جلسات مجلس الوزراء . ولم تستطيع حكومة محمد محمود أن تقف في وجه هيمنة القصر ومحاولاته المتكررة للنيل من استقلال الحكومة حتى وصل الأمر أن علي ماهر قد تخطي عمل الحكومة وقام بتمثيل مصر في مؤتمر المائدة المستديرة في لندن ( مارس1939) على الرغم من أن محمد محمود كان حريصا على الذهاب إلى هذا المؤتمر حتى يحظي ببعض الشعبية وخصوصا وأن هذا المؤتمر ( المائدة المستديرة) سيناقش القضية الفلسطينية التي تحظي باهتمام بالغ من الشعب المصري , وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن علي ماهر كان حريصا على عدم حصول محمد محمود على تلك الشعبية .

ويضيف نائب رئيس الأحرار الدستوريين قائلا :" لقد كان محمد محمود يريد أن يسافر بنفسه إلى هذا المؤتمر راجيا أن يكون له فخر المشاركة في تفريج أزمة العرب من أهل البلاد المقدسة وكان الرجل مغتبطا بما يرجو أن يقوم به من ذلك أيما اغتباط "

وإذا كان هذا الموقف يعد تصعيدا في الصراع بين القصر والحكومة فإنه من ناحية أخري يعتبر مخالفة صريحة لأبسط المبادئ الدستورية فلم يكن من الطبيعي أن يسافر رئيس الديوان في مهمة قد تترتب عليها مسئولية ساسة ه بلا شك من اختصاص الحكومة ولما كان علي ماهر لم يحصل على تكليف رسمي من الحكومة حتى تتحمل مسئولية أعماله فإن هذا الإجراء يعد مخالفة لأبسط القواعد الدستورية والقانونية .

وكان الأجدر بحكومة محمد محمود أن تقدم استقالتها ولعلها بذلك قد تحظي بشعبية أكثر من اشتراكها في مؤتمر المائدة المستديرة وهي بذلك تضع فاروق وحاشيته في موقف غاية في الصعوبة إلا أن الدستوريين قد قبلوا على أنفسهم أن يكونون تابعين للقصر على اعتبار انه مصدر السلطات الحقيقية وهم من هذه الناحية يتحملون القدر الأكبر في المسئولية.

والغريب أن كثيرا من المشاكل التي دار حولها النزاع بين الحزب والقصر كانت بخصوص مسائل سبق أن وقع النزاع حولها من قبل بين حكومة الوفد والقصر ويومها وقف الأحرار للدستورين إلى جانب القصر ضد الوفد .

وكان على الأحرار الدستوريين أن يدفعوا ثمن عدوانهم على الدستور وكان الثمن غاليا حيث نقلت خيوط السلطة التي تبقت في يد حكومتهم إلى يد القصر وما أن حل عام 1939 حتى كانت الحكومة قد وصلت إلى درجة لم تعد ملك من السلطة إلا ما تستمده من القصر وأصبح دستور القصر هو دستور الحكومة .

وظل الصراع قائما بين علي ماهر ممثلا للقصر وبين محمد محمود الذي كان يصارع المرض حتى اضطر إلى تقديم استقالته ولقد اختلفت الروايات حول ظروف الاستقالة فالبعض يعتقد بأن تقديم الاستقالة قد تم بناء على أوامر القصر .

والبعض الأخر يعتقد أن محمد محمود قد ابلغ الملك برغبته في الاستقالة بعد أن علم أن علي ماهر يتصل ببعض الأشخاص ليعرض عليهم الاشتراك معه في الوزارة الجديدة .

أما محمد محمود نفسه فيقول للسفير البريطاني غداة تقديم استقالته أنه ليس من سبب سوي ظروفه الصحية وأعتقد أن القصر هو الذي طلب من محمد محمود أن يقدم استقالته نظرا لأن علي ماهر كان حريصا على إقالة محمد محمود حتى تسند إليه رئاسة الحكومة ولما كانت العلاقة بين فاروق وعلي ماهر تتسم بالود المتبادل فمن الطبيعي أن يطلب فاروق من محمد محمود أن يقدم استقالته ومما يضاعف من هذا الاعتقاد ما تشر إليه الوثائق الأمريكية من أن محمد محمود لم يعد موضع ثقة الملك فاروق بسبب مؤامرات علي ماهر .

وسواء أكان القصر هو الذي أوعز إلى محمد محمود بتقدم الاستقالة أو أن محمد محمود هو الذي أقدم من نفسه على تقديم الاستقالة فالمحصلة واحدة وهو أن الاستقالة قد قبلت لأن الحكومة لم تعد تحظي برضاء الملك .

وهكذا سلكت أحزاب الأقلية طرقا لا تتفق مع الحياة الدستورية معتمدة على القصر الذي لم يتورع عن إقالة أية حكومة حينما يجد أن الغرض من بقائها قد استنفذ وبخروج الدستوريين من الحكم انتقلوا إلى صفوف المعارضة إلا أن معارضتهم كانت دائما في إطار التعاون مع بريطانيا باعتبارها الدولة الحليفة ولقد ذكر السفير البريطاني " أن الدكتور أحمد ماهر يبدي قدرا كبيرا من التعاطف مع الدول الديمقراطية وأنه يري ضرورة خلق روح الثقة بانجلترا وإعطائها حقوقا أكثر مما ورد في معاهدة 1936 وأن الأحرار الدستوريين يشاركون الدكتور أحمد ماهر في وجهة نظره تلك.

وعلى ما يبدو فإن موقف الأحرار الدستوريين لم يكن متفقا في أية قضية من القضايا القومية وإنما كانت السمة البارزة لهذا الحزب هي الانقسام فبينما كان رئيس الحزب موافقا على إعلان الأحكام العرفية كانت الغالبة العظمي تري خلاف هذا الرأي على اعتبار أن مصر لم تعلن الحرب فضلا عن بعدها عن ميادينها ومن ثم فلا موجب لفرض هذا القانون المقيد للحرية إذا كان الغرض من هذا القانون هو ضمان موقف مصر بجانب انجلترا ففي استطاعة الحكومة استصدار التشريعات الكفيلة بتحقيق هذا الغرض ولقد صدرت تشريعات مشابهة تتعلق بالسفن والتموين والصحف وأجهزة الإعلام وبعد مناقشة الموضوع داخل اجتماعات الحزب تمكن محمد محمود من أن يقنع الغالبية بأهمية إعلان الأحكام العرفية بحجة أن الدستوريين لو كانوا شركاء في الحكم لتضامنوا مع الوزارة في هذا الإجراء وليس من الإنصاف أن يكون للإنسان في الموضوع الواحد رأيان متناقشان تبعا لوجوده في الحكم أو كونه في المعارضة .

أما عن موقف السعديين من قضية دخول مصر الحرب ضد ألمانيا فلقد اختلفت وجهات النظر فبينما كان محمد محمود ( رئيس الحزب ) يري أن أفضل وسيلة لتدعيم الصداقة بين مصر وبريطانيا هو أن تعلن مصر الحرب ضد المحور كان نائب رئيس الحزب ( الدكتور هيكل) وغالبية الحزب يؤيدون الاتجاه القائل بضرورة تجنيب مصر ويلات الحرب .

وعندما تقدم الوفد بمذكرته إلى السفير البريطاني – أبريل سنة 1940 – تلك المذكرة التي وصفها السفير البريطاني بأنها تعد تطرفا في المطالب الوطنية بهدف أن يعيد الوفد هيبته وقدرته على خلق المتاعب وتعتبر نقطة تحول خطيرة في العلاقات المصرية البريطانية وعلى الرغم من أن المطالب القومية التي دعت إليها تلك المذكرة كانت موضع رضاء وقبول من كل القوي السياسية إلا أن محمد محمود ( زعيم الدستوريين) قد وصفها بأنها محاولة للحصول على شئ بالتهديد والابتزاز وأنه أبعد ما تكون عن الحنكة السياسية .

أما عن موقف الدستوريين من أحداث فبراير 1942 : فلقد انضم الدستوريين بكل قواهم إلى القوي المناهضة للوفد عقب 4 فبراير 1942 ولا غرابة في ذلك فقد كانوا أول الخارجين على الوفد سنة 1922 وكان العداء بينهما يتفاقم يوما بعد يوم , ولقد رأي الدستوريون في تلك الأزمة تكوين وزارة ائتلافية برئاسة النحاس فهي تضمن اشتراك الوفد وتحول دون انفراده بالحكم كما يريد هيكل وتنسجم مع ما للوفد من أقلية في البرلمان ولقد اعتبر الدكتور هيكل أن تأليف وزارة قومية برئاسة النحاس يعد حلا كريما للموقف ويجعل رفض الإنذار مأمون العاقبة ويحافظ على استقلال مصر وسيادتها وبعض محمد محمود رئس الدستوريين رسالة احتجاج واستنكار للسفير البريطاني حملها " دسوقي أباظة" سكرتير عام الحزب إلى " والتر سمارت" السكرتير الشرق للسفارة " وتضمنت تلك الرسالة العلاقة بين ما حدث في 4 فبراير ومعاهدة 1936 على اعتبار أن ما حدث يعد انتهاكا خطيرا لمعاهدة التحالف والصداقة بين مص وبريطانيا .

ومن المؤكد أن بريطانيا كانت تقدر أهمية العلاقة الوطيدة مع الدستوريين لذلك أوفدت والترس مارت " السكرتير الشرقي للسفارة " إلى منزل الدكتور هيكل – رئيس الحزب بالنيابة- ليحمل إليه تحيات الحكومة البريطانية وتقديرها لسياسة الحزب ومواقفه في مناصرة الديمقراطية ومما يلفت النظر أن الدكتور هيكل لا يثير موضوع 4 فبراير كقضية خلاف مع بريطانيا وإنما يطلب من السكرتير الشرقي " والترس مارت" أن تتوسط بريطانيا لدي الوفد لتخصيص عدد من المقاعد للمعارضة ويحاول الدكتور هيكل أن يربط بين هذا المطلب وحادث 4 فبراير بقوله : " لابد من تخصيص نسبة من الدوائر الانتخابية لأحزاب المعارضة وإلا سنضطر هذه الأحزاب إلى مهاجمة الوفد على اعتبار أنه جاء إلى الحكم على أسنة الحراب البريطانية .

ومزيدا في إرضاء المعارضة فقد كتب السفير البريطاني إلى حكومته بأن توعز إلى صحيفة التيمز وإلى الإذاعة البريطانية " ب. ب . س" ليقدما تعليقا على عودة الوفد إلى الحكم على اعتبار أن بريطانيا تتعاطف أيضا مع السعديين والأحرار الدستوريين لإخلاصهم لمعاهدة 1936 ولمناصرتهم قضية الديمقراطية في العالم .

ويبدو أن السفارة البريطانية في محاولة منها لكسب ود المعارضة قد بذلت محاولات مع الوفد فيما يتعلق بتخصيص عدد من المقاعد البرلمانية للمعارضة إلا أن حكومة الوفد اشترطت أن يعلن الدستوريين والسعديون أن مصطفى النحاس قد أدي خدمة جليلة للعرش وللبلاد بقبوله الوزارة في 4 فبراير فإذا ما وافق الدستوريين والسعديون على هذا التصريح يمكن الدخول في مفاوضات عدد المقاعد التي يمكن أن تترك للمعارضة وأبدي الدستوريون موافقتهم على الشرط السابق إلا أن عدد المقاعد التي تترك للمعارضة كانت موضع خلاف حيث طلب الدستورين 25% من مقاعد مجلس النواب وتمسك الوفديون بنسبة 15 % فقط.

وهكذا ابدي الدستوريون موافقتهم لأن يعلنوا أن مصطفى النحاس بقبوله الوزارة في 4 فبراير قد أد خدمة جليلة للبلاد على شرط أن يتنازل الوفد عن 25% من مقاعد مجلس النواب وإلا فإن عودة الوفد تعتبر علي أسنة الحراب البريطانية "

وعندما فشلت المفاوضات قرر الدستوريين متضامنين مع باقي الأحزاب مقاطعة الانتخابات وهنا فإن الأمر يعد أكثر غرابة لأن امتناعهم عن دخول الانتخابات لم يكن احتراما لمبدأ ولا احتجاجا على حادث وقع ولا إيمانا بعقيدة لأنهم مستعدون كما رأينا الدخول الانتخابات على شرط الاتفاق على الدوائر .

وهكذا عادت نفس المناورات التي حدثت يوم 4 فبراير يوم أن قالوا لمصطفى النحاس : إذا قبلت تشكل وزارة قومية فإن هذا يعد خروجا من دائرة الإنذار البريطاني " وعندما أصر النحاس على رفض الحكومة القومية قالوا له : " أنك جئت على أسنة الحراب البريطانية واليوم يطلبون عددا من المقاعد في مجلس النواب ويشهدون أن النحاس قد أفقد البلاد بقبوله الحكم وإذا رفض قالوا لن ندخل مجلس النواب لأنه امتداد للحكومة التي جاءت على أسنة الحراب البريطانية .

ومن هنا فقد اشترك الدستوريين مع باقي القوي المناهضة للوفد في مقاطعة الانتخابات وأخذوا يعقدون الاجتماعات للتباحث في كيفية واجهة الوفد على اعتبار أن الوفد هو قضيتهم الأولي وجريا على سياسة النيل من الوفد فقد بعث الدكتور هيكل بخطاب إلى الملك فاروق يتذمر فيه من الحكومة وسياستها واعتبارها الحكم مغنما وعاب عليها تأليفها لجنة لبحث تبعات مصر وقضايا ما بعد الحرب .

وظل رئيس الوزراء – مصطفى النحاس – هدفا لهجمات شديدة وجهتها إله المعارضة مشيرة إلى ظروف مجيئه إلى الحكم ولم تتوان كل الأحزاب عن اللجوء إلى أى الطرق مهما كانت بهدف النيل من الوفد وقيادته بما في ذلك اللجوء إلى قادة الحلفاء وتناسي الدستوريون أنهم قد أخذوا على الوفد هذا المسلك في مذكرة سنة 1940 حينما تقدم إلى السفير البريطاني بمطالب مصر حيث اعتبرها محمد محمود مسلكا غاية في الانتهازية وطعنه في ظهر الخليفة .

ومرة ثانية يحاول الأعضاء الدستوريين في مجلس الشيوخ إثارة مذكرة 1940م في محاولة لإحراج الحكومة على أساس أن ما كان يعتبره الوفد مطلبا وطنيا سنة 1940 قد أصبح أمرا منسيا عقب 4 فبراير .

إلا أن النحاس في محاولة منه لتبديد تلك الاتهامات قد أعلن أن المذكور بكل مطلب من المطالب الوطنية المدونة بها وفي مقدمتها الجلاء عن السودان هي فخرنا ولا تزال هي نفس مطالبنا نعمل لها جهد إمكاننا حتى يأذن الله بتحقيقيها أو نفني دونها .

والحقيقة أن ما أعلنه النحاس والخاص بمذكرة أبريل 1940 لم يقترن بأية خطوة عملية وإنما كان من قبيل الاستهلاك السياسي لرد الهجمات المتكررة التي توجهها المعارضة بهدف النيل من الوفد والتقليل من دوره أمام الرأي العام .

وأستطيع أن أقول أن الأحزاب المصرية قد أضاعت قدرا كبيرا من جهدها في قضايا تعد ثانوية بالنسبة للقضية الأولي وهي الاحتلال حيث لم تشغل هذه القضية المكانة اللائقة بها وبالتالي فإن حكومة الوفد قد انشغلت بالدفاع عن نفسها وسوق العديد من المبررات في محاولة لإقناع الرأي العام بسياستها .

وبالقدر الذي كانت تنشط به المعارضة كانت حكومة تندفع للارتباط بالاحتلال ولتبة كل طلباته سواء أكان هذا نكاية في المعارضة أو خوفا من تسلط الاحتلال ولذا فإن الوفد يعد مسئولا مسئولية مباشرة عن العديد من التجاوزات التي وقعت طوال فترة بقائه في الحكم حيث أتاح لخصومه فرصة قوية لمعارضته حتى وصل الأمر إلى التشكيك في وطنيته .

وبدلا من أن تقديم الحكومة على تبديد تلك المزاعم راحت تضاعف من هذا الاعتقاد عن طريق الإجراءات الإدارية التي شملت نقل وفصل العديد من المدرين وكبار الموظفين بحجة أنهم يناصرون أحزاب الأقلية .

والواقع أن الرقابة على الصحف ومنه الاجتماعات العامة والاعتقالات السياسية قد مكن الوزارة من أن تطلق يدها أكثر مما فعلت الوزارات الوفدية في أى عهد مضي أو حتى وزارات الأقلية .

وعملا بقانون النفي الإداري باتت المعارضة تتوجس خوفا من هنا السلاح الذي استعملته الحكومة أسوأ استعمال وحتى دور الأحزاب خضعت لرقابة شديدة من جانب البوليس السياسي مما اضطر الغالبية الكبر من أعضاء الأحزاب إلى الاعتكاف في منازلهم خوفا من الاعتقال .

والحقيقة أن أحدا لا يستطيع أن يعفي سياسيا مصريا من الاشتراك في إتاحة الفرصة للسفير البريطاني لانتهاك حرية مصر وكرامتها واستقلالها على النحو الذي حث في 4 فبراير سنة 1942 وزعماء الأحزاب كانوا يخشون دائما أن يحل البرلمان الذي يضم نوابهم مما جعلهم يخشون الاحتكام من جديد إلى الانتخابات حرصا على مكاسبهم وتأليف حكومة برئاسة النحاس قومية كانت أو إدارية أو وفدية لم يكن ليزيل آثار الإنذار البريطاني والمسئولية عن هذا الحادث قسمة بن القصر والزعماء والأحزاب والسفير البريطاني.

أما من منهم كانت مسئولية أثقل أو أخف فلا يغير من الحقيقة في شئ وكل الأحزاب كانت تقبل مبدأ التدخل البريطانية ولكن كل منهم يؤثر الزاوية التي تتفق مع مصلحته .

والنحاس يزيد أن تكون الحكومة كلها وفدية لمصلحته ومصلحة حزبه وأحزاب الأقلية تريد أن تكون الحكومة ائتلافية حتى يكون لهم نصيب في الحكم والقصر مرغم تحت ضغط الانجليز ولكنه يكره النحاس ويود أن تكون الحكومة مؤلفة من جميع الأحزاب لكي تتاح له فرصة المؤامرة تأييدا لسلطته وانتاقصا من سلطة الوفد.

ولم يعد الوفد ذلك الحزب الذي استطاع في الماضي أن يحوز إجماع مصر في ساعات الثورة العصيبة فانشقاق العديد من أعضائه قد أدي إلى تغير ملامحه الأصلية وما حدث في 4 فبراير كان بمثابة الضربة القاتلة لنفوذه لقد بعد به العهد عن ذلك الوقت الذي كان من الممكن ( كما حدث سنة 1935) أن نري شابا أصيب بجرح قاتل أثناء احدي المظاهرات فيغمس منديله في دمه ليرسله – حبا وتقديرا – إلى مصطفى النحاس قبل أن يلفظ آخر أنفاسه .

لقد فقدت الجماهير المصرية الذي لم يعد يدفعها للموت في سبيل الوفد ولذا فإنني أستطيع أن أقول أن ما حدث في 4 فبراير كان أهم الأحداث – وأعظمها تأثيرا على شعبية الوفد .

الإخوان المسلمون

وفي الوقت الذي كانت دعوة مصر الفتاة تنتشر وتجد الأنصار من بعض الشباب وتحظي بتأييد صريح أو ضمني من بعض رجال السراي والأحزاب كانت تجري في مصر دعوة أخري تشابه دعوة مصر الفتاة من بعض الوجوه وتختلف عنها في وجوه أخري ولكن الدعوتين تتفقان من حيث أنهما خروج على المألوف في قيام الأحزاب فلم تكن الأوضاع الاقتصادية أو السياسية هي محق الارتكاز في قيام الجماعتين وإنما اتخذ كل منهما من الإسلام أساسا شاملا باعتبار أن الدعوة الإسلامية تجمع في إطارها كل جوانب الحياة .

ولعل قيام جماعة الإخوان على هذا الأساس يعد من أهم العوامل في شدة الإقبال عيها والاهتمام بها ولما كانت الدعوة ذات طابع ديني فقط في بدايتها لذلك انضم إليها كثيرون من أنصار مختلف الأحزاب القائمة حينئذ دون أن يجدوا في الانضمام إلها والولاء لها ما يخالف أو يتعارض مع ولائهم لأحزابهم السياسية.

وقبل أن يعلن حسن البنا نزول الإخوان إلى مجال العمل السياسي فإن مؤتمر الطلبة الإخوان بجمعية الشبان المسلمين ( مارس 1938) قد أبرز في قراراته الاهتمام بالجانب السياسي على اعتبار أن اهتمام المسام بشئون بلده من أهم المبادئ التي تقوم عليها الدعوة الإسلامية وانحصار معني الفكرة الاسمية في حدود الواجبات الروحية أمر يتنافي مع طبيعة الإسلام .

وكان نزول حسن البنا إلى ميدان العمل السياسي في مايو سنة 1938 هو الانتقال إلى المرحلة الثانية من مراحل الدعوة وكان المبدأ الأول من مبادئ هذه المرحلة أن الإسلام نظام شامل متكامل بذاته وهو السبيل النهائي للحياة بكافة نواحيها .

وفي العدد الأول من مجلة النذير يقول حسن البنا  :" أنه منذ عشر سنوات بدأت دعوة الإخوان المسلمين خالصة لوجه الله مقتفية أثر الرسول الأعظم صلي الله عليه سلم متخذة القرآن منهاجا ولم يشترك الإخوان في المنازعات الحزبية بل كرست جهدها في ميدان التربية وتغيير العرف العام وتطهير النفوس وإذاعة مبادئ الحق والجهاد وقد نجحت الجماعة في ذلك وأما اليوم فلن يكون ذلك وستخاصمون هؤلاء جميعا في الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم ويتخذوا تعاليم الإسلام منهاجا يسيرون عله ويعلمون به فأمام ولاء وأما عداء ولسنا في ذلك نخالف خطتنا أو ننحرف عن طريقنا أو نغير مسلكنا بالتدخل في السياسة كما يقول الذين لا يعلمون ولكننا ننتقل خطوة ثانية ولا ذنب لنا أن تكون الساسة جزءا من الدين وأن يشمل الإسلام الحاكمين والمحكومين فليس في تعاليمه : أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ولكن في تعاليمه : قيصر وما لقيصر لله الواحد القهار .

وكان نزول حسن البنا إلى ميدان العمل السياسي مثار اهتمام كل القوي السياسية في مصر وخصوصا في هذا الوقت بالذات ففي هذا العام كان الملك قد تم انتصار له على الوفد بينما انسلخ عن الوفد حزب السعديين كما أخذت جماعة مصر الفتاة تهاجم الوفد علنا وتتنكر للدستور والحياة النيابية والمناداة بفاروق خليفة للمسلمين في الوقت الذي بدأت جماعة الإخوان في التقرب من القصر حيث كان الاحتفال بذكري جلوس فاروق على عرش مصر وتجمع الإخوان المسلمين في ميدان عابدين وهم يرددون يمين الولاء التقليدي " نمنحك ولاءنا على كتاب الله وسنة رسوله "

ويبدو أن نزول الشيخ البنا إلى ميدان العمل السياسي في هذا الوقت بالذات كان موضع اهتمام ولوم شديدين حيث اعتقد البعض أن هذه الدعوة على علاقة بالفاشية والنازية بل وقد تجرأ البعض وشكك في صدق هذه الدعوة مدعيا أنها تشبه إلى حد كبير الدعوة الفاشية في ايطاليا والنازية في ألمانيا .

ومن الإنصاف أن تقرر بعض العوامل التي قد تبدد مثل هذه الاتهام وتوضيح هوية الدعوة للإخوان ؟

أولا: أن علاقة حسن البنا بالقصر في فترة بداية الدعوة لا تفسر على أنها ولاء للنظام بقدر ما هي خطة مرحلية لخطة قضية الدعوة في مرحلتها الأولي .

ثانيا : أن اختيار سنة 1938 بالذات بداية للمرحلة الثانية من مراحل الدعوة وهي مرحلة الإعلان عن الهوية السياسية للدعوة فمن البديهيات أن أية دعوة تختار ما يناسبها من وقت للإعلان عن برامجها وأهدافها على اعتبار أن الجماعة قد وصلت إلى حالة تمكنها من الانتقال إلى هذه المرحلة حيث كثرت شعبها وتعددت وسائلها وأصبح لها صحفها الناطقة باسمها ( جريدة النذير ) و" مجلة المنار " وأصبحت الدعوة تنعم أرجاء مصر وخصوصا بين طبقة المثقفين الذين فقدا كل ثقة في الأحزاب التقليدية القائمة.

وإذا كانت الدعوة قد ارتبطت بالقصر أو بحكومات الأقلية فلم يكن هذا ولاء للقصر أو للحكومات أو ثقة فيهم إنما كان خدمة للقضية ذاتها فليس من المنطق أن تسعدي الحركة وهي ما تزال في دورها الأول القصر والحكومات معا وهو ذكاء يحسد عليه الشيح البنا أما محاولة بعض المؤرخين الربط بين أمور لا علاقة بينها وإلقاء التهم بلا تحقيق أو تفسير علمي اعتمادا على نظريات مادية وخدمة لبعض القوي على حساب الأخرى فإن هذا يعد مناقضا للحقائق وبعدا عن الالتزام العلمي والموضوعي .

ثالثا : أن محاولة بعض المؤرخين إيجاد نوع من الصلة بين جماعة الكشافة التابعة للإخوان وبين الفاشية هي محاولة لإيجاد صلة بين أشياء لا علاقة بينها إطلاقا فلقد كان للوفد فرقته الخاصة به " القمصان الزرقاء " وقد كان لمصر الفتاة تنظيماتها أيضا " القمصان الخضراء " وإذا كانت فكرة " النظام والطاعة " من بين أركان الدعوة فأي دعوة مهما كانت لابد لها من إطار عام ينظمها ولابد لها من قيادة مدربة واعية تكون موضع ثقة الجميع والالتزام بما تقره القيادة هو من أهم أركان أى عمل ناجح ولهذا فإن بعض الآراء العاقلة تري أن الدعوة ليست لها أية علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالدعوات في الدول الغربية .

ولعل إيديولوجية الإخوان المسلمين تكاد متقاربة من مدرسة الخار لصاحبها الشيخ رشيد رضا على الرغم من أن الشيخ البنا لم يشر إلى تأثير هذه المدرسة في نفسه وان اعترف بأنه حضر بعض مجالس رشيد رضا وأنه كان كثير المطالعة في مجلة المنار كما أنه اعتزم في احدي المرات إصدار مجلة شهرية تشبها بالمنار .

وعلى ما يبدو فإن هذه الدعوة قد حظيت بترحيب من القصر الذي كان حريصا على إدخال الجماعة ضمن الصراع التقليدي بين الوفد والقصر وكان الملك حريصا على أن يمسك بزمام الأمور في يده وفي المقابل فقد حظي فاروق بتأييد الإخوان ولعل مرجع ذلك ما لمسوه من استعدادا ديني عند الملك الشاب أو أن مرحلة الدعوة كانت تقتضي هذا النهج التزاما بعدم توسيع دائرة الخلاف وفي الوقت الذي كان يشكك في هذه الدعوة وقد يكون هذا التشكيك راجعا إلى ما يعتقده البعض من أن الإخوان قد قبلوا الدخول في دائرة الصراع بين الوفد والقصر أو أن الوفد قد لمس خطر الدعوة بسبب اتخاذها إطارا إسلاميا يدفعها إلى الانتشار السريع على حساب جماهيرية الوفد ومهما كانت دوافع الخلاف فإن جماعة الإخوان قد استطاعت وبذكاء شديد أن تستغل الصراع الدائر بين الوفد والقصر وأن توطد علاقاتها بعلي ماهر الذي احتضن هذه الدعوة نكاية في الوفد ومن الثابت أن فترة تولي علي ماهر الحكم تعتبر بداية انطلاقة جديدة لجماعة الإخوان حيث خاطب حسن البنا علي ماهر صراحة برغبة الإخوان في تولي الشئون الهامة في الجيش المرابط ووزارة الشئون الاجتماعية وهو ما يؤكد العلاقة الوطيدة بينهما .

وبالرغم من هذه العلاقة القوية فقد أعلن الشيخ البنا رأيه صراحة في موقف مصر من الحرب وقد سجل الموقف في رسالة بعث بها إلى علي ماهر يستنكر عزم الحكومة على إعلان الحرب بجانب بريطانيا مؤكدا استقلال مصر وفقا لقانون الدولي وأنه ليس في معاهدة 1936 ما يلزم مصر بدخول هذه الحرب وعلينا الالتزام بمبدأ الحياد ولعل هذا الموقف ما يؤكد بأن دعوة الشيخ البنا كان لها طابعها الخاص بها وأن العلاقة مع علي ماهر لم تكن إلا وسيلة لخدمة القضية الإسلامية .وخلال حكم وزارة علي ماهر ثم وزارة حسن صبري التي خلفتها ( يونيهنوفمبر 1940) طور الإخوان نظامهم وتضاعفت شعبهم وتعددت فرق الكشافة التي تتبعهم وتشكل المجلس الأعلي للكشافة وترأسه حسن البنا نفسه وعين محمود لبيب مفتشا عاما لها .

وأثناء وزارة حسين سري ( نوفمبر 1940 – 4 فبراير 1942 ) صدر قرار من وزير المعارف بنقل الشيخ حسن البنا من القاهرة إلى قنا ويعترف وزير المعارف بأن هذا النقل كان بإيعاز من السفير البريطاني الذي طلب من رئيس الحكومة ( حسين سري ) سرعة العمل على نقل الرجل لأنه يعمل لحساب ايطاليا .

ومن المؤكد أن الحكومة البريطانية كانت تلصق همة العمل لحساب المحور على أى شخص يري السفير من خلال عيونه المنتشرة بأنه لا يكن ولاء لبريطانيا وهذا السلاح الخطير راح ضحيته العديد من المصريين الشرفاء الذين كانوا يعتبرون بريطانيا دولة محتلة لوطنهم بصرف النظر عن الديمقراطية أو الفاشية فلقد كان التطور الموقف العسكري في أوربا وانهيار فرنسا مما شجع في مصر الميول التي كانت تتعاطف مع المحور شعبية كانت أم رسمية لا على اعتبار أن المحور صادق النية فيما يتعلق باحترام سلامة واستقلال مصر ولكن ومن ناحية أخري كان هذا الميل يحمل في طياته دوافع التشفي نحو حليف أكرهت مصر على محالفته ضد رغبة شعبها كما أنه كان يتضمن في الوقت نفسه معني الإعجاب بالعسكرية الألمانية التي لا تقهر من جانب بعض قطاعات الرأي العام المصري وقادته بل وحتي فاروق ذاته .

ويعلق وزير المعارف على نقل الشيخ حسن البنا بقوله : لقد أحدث نقل الشيخ البنا أثرا كبيرا لدي دوائر الحكومة وتعددت الرجاءات من النواب الدستوريين بشأن إعادته إلى القاهرة وأخيرا أبدي حسين سري موافقته على إعادة حسن البنا إلى القاهرة مرة ثانية ولعل حسين سري قد استجاب لرجاء الأحرار الدستوريين خشية أن يزداد ضغط النواب وخصوصا وأن حد أعضاء مجلس النواب قد تقدم بسؤال إلى الحكومة حول المبررات التي اعتمدت عليها في نقل مدرس من القاهرة إلى قنا .

وكان من الممكن أن تقع الحكومة في حرج شديد فليست لديها مبررات معقولة على اعتبار أن حسن البنا من أكفأ المعلمين في حقل التربية والتعليم وأن ما يقوم به من نشاط إسلامي يعد بعيدا عن نطاق عمله كمدرس في وزارة المعارف .

وبعودة حسن البنا مرة ثانية إلى القاهرة فقد انتقلت حركة الإخوان إلى مرحلة جديدة وهامة حيث قد استشعر قوته مما ضاعف من نشاطه وكان لهذا أكبر الأثر على دعوة الإخوان وانتشارها وكانت مصدر إعجاب قطاعات كبيرة من المصريين .

وبعودة الوفد إلى الحكم في 4 فبراير سنة 1942 وكسر شوكة القصر لم تتنكر الجماعة لعلاقتها بالملك فاروق وإنما احتفلت بعيد جلوسه علي العرش ( مايو 1942 ) وشبهته جريدة النذير بالفاروق عمر بن الخطاب ولقبته بأمير المؤمنين ونشرت مجلة الإخوان المسلمين والتي أعيد إصدارها سنة 1942 صورة الملك على غلاف عددها الأول ونشرت في عددها الثاني نبأ عن ذهاب وفد من الجماعة إلى الملك على رأسه المرشد العام ليقدم العدد الأول من المجلة إلى الملك فاروق .

ويبدو أن ردود الفعل لما وقع 4 فبراير لم يكن قويا لدي الإخوان على الرغم من بعض المظاهر التي أبرزت ولاء الجماعة للملك فاروق وقد يكون هذا الموقف بدافع عدم الاصطدام بالوفد وما يترتب على ذلك من حل الجماعة ومصادرة صحفها عملا بقانون الطوارئ وهذه سياسة بلا شك يحسد عليها المرشد العام للإخوان وهذا مما يضاعف من اعتقاد بأن ولاء الجماعة لم يكن خالصا للملك ولا لأي حزب سياسي وإنما كانت الضرورة تقتضي التضامن مع هذه الجماعة أو غيرها ولو لفترة تكون بعدها جماعة الإخوان قادرة على الوقوف كقوة يعتد بها وهذا لن يتحقق إلا إذا هادن الشيخ البنا كل القوي المؤثرة في السياسة عن يوسف رشاد الذي حاول إفهام الملك بأن ولاء البنا إلى العرش ليس موضع شك وكان تعليق الملك على ذلك : - " لقد خدعك حسن البنا " وجريا على سياسة بريطانيا عقب 4 فبراير في العمل على تهدئة الأعصاب الثائرة فقد تقابل كايتون " وكيل المخابرات البريطانية " مع حسن البنا تفاهما في دوافع بريطانيا وراء ما حدث في 4 فبراير وحرصا من حسن البنا على تأكيد أن الإسلام دين ودولة فقد قرر الدخول في – انتخابات سنة 1942 هذا من جانب ومن جانب آخر فقد أراد أن يعطي لجماعته نوعا من الشرعية التي كانت تفتقدها حيث كانت فرصة للحل والمصادرة في أى وقت وتحت أى ظروف.

إلا أنه لم يكد يذاع خبر ترشيح حسن البنا لعضوية النواب عن دائرة الإسماعيلية حتى اتصل به عبد الواحد الوكيل ( صهر مصطفى النحاس ) وطلب منه الرجوع إلى النحاس لكي يكون على بينة من أمر هذا الترشيح .

وبعد بضعة أيام تلقي حسن البنا دعوة لمقابلة مصطفى النحاس حيث طلب إليه أن يتنازل عن الترشيح مقابل بعضا من الوعود من أهمها عدم التعرض لأعضاء الجماعة أو لنشاطاتهم وعدم مراقبتهم أو التضييق عليهم وقد لخص المرشد العام للإخوان أسباب تنازله فيما يأتي :

أولا : كسب ثقة النحاس باعتباره رئيس الحكومة وزعيم الأغلبية .

ثانيا : العمل على قيام الجماعة بأداء دورها وانتشارها في مختلف البلاد .

ثالثا : عدم الاطمئنان إلى نتيجة الانتخابات خوفا من التلاعب وسيستغل الخصوم ذلك لتشويه سمعة الجماعة .

ومن المؤكد أن تراجع حسن البنا عن الانتخابات قد أعطي هدنة للطرفين عبرت عنها صحيفة الإخوان بترحيبها بخطوات الحكومة لاهتمامها الخاص بإلغاء الدعارة .

وفي الوقت الذي اتخذت فيه كل القوي السياسية موقفا عدائيا من الوفد بسبب أحداث 4 فبراير نجد أن وزيرا وفديا يقوم بزيارة المركز العام للإخوان مبديا استعداد الحكومة لتقديم كل الإمكانات خدمة للدعوة الإسلامية ويلاحظ أن الوفد قد قدر أهمية جماعة الإخوان باعتبارها من أهم الدعوات التي كانت قادرة على التأثير في المجتمع المصري ونظرا لهذه الأهمية فقد ترأس فؤاد سراج الدين وفدا ضم عبد الحميد عبد الحق وأحمد حمزة ومحمود سليمان غنام ومعهم مجموعة كبيرة من نواب الوفد وقاموا بزيارة لدار الإخوان مؤكدين على أن هذه الدعوة سوف يكون لها شأن كبير ووعد الجميع بتنفيذ مطالب الإخوان وتقديم قطعة أرض لبناء دار لهم ومدهم بالورق اللازم لإصدار صحفهم وتعددت زيارة زعماء الوفد لشعب الإخوان ولعل الوفد كان يسلم بقوة الإخوان ومقدرتهم الفائقة على التنظيم وإثارة الشغب والاضطراب في وقت كان الوفد حريصا على أن يثبت لبريطانيا أنه الوحيد القادر على استقرار الأوضاع وعودة الطمأنينة والهدوء إلى المجتمع المصري .

ومن المهم أن جماعة الإخوان قد استفادت من هذه العلاقة الطيبة مع الوفد حيث أعيد إصدار صحفها وتركت لهم الحرية في ممارسة أنشطتهم حيث نحوا الأوضاع السياسية جانبا وبدأ الاهتمام بفكرة تطبيق الشريعة الإسلامية بمفهومها الشامل الكامل مما أثار عليها بعض الصحف متهمة إياها بالرجعية والجمود .

ومما لا شك فيه أن ما وقع في 4 فبراير قد أفاد الإخوان بدرجة كبيرة حيث انصرفت إليه جموع غفيرة من الوفديين احتجاجا على سياسة الوفد في 4 فبراير وبعد أن فقدوا الثقة في الزعامات التقليدية التي ارتضت لنفسها أن تهادن الاحتلال وأن تساوم على المبادئ الوطنية مقابل العودة إلى الحكم مهما كان الثمن ووجدت هذه الجموع في دعوة الإخوان ما يتفق وخلاص المجتمع من كل تلك الشرور التي تحيق به .

وبالرغم من أن حكومة الوفد كانت تقدر خطورة هذه الدعوة وأثرها على شعبية الوفد إلا أنه كان اختيار لابد منه أمام كل القوي التي اجتمعت وتناصرت بالرغم من افتراقها في المبدأ لكي تتخذ من الوفد هدفا تشهر في وجهة كل أسلحتها ولا ترضي عن سقوطه بديلا .

للعلاقات الطيبة مع الوفد وأعلنوا أنهم كانوا وما يزالون من أشد خصوم الوفد وهذا الموقف يختلف عن موقفهم من الملك فاروق عقب 4 فبراير حيث أعلنوا ولاءهم للملك في أكثر من مناسبة وهذا الموقف بقدر ما يدل على ذكاء مطلق لحسن البنا إلا أنه يحمل قدرا كبيرا من الانتهازية حيث كان يدرك أن حكومة الوفد زائلة لا ريب في ذلك أما الملك فسيبقي دائما المصدر الفعلي لكل السلطات .

وبينما كل القوي السياسية قد انشغلت بأحداث 4 فبراير حيث أخذت منه مادة خصبة للمزايدة انصرف الإخوان المسلمون إلى رفع شعارات تتعلق بالتشريع الإسلامي وجعل القرآن أساس للتشريع .

وعلى ما يبدو فإن هذه الدعوة قد وجدت قبولا كبيرا لدي قطاعات عريضة من الشباب المثقف وخصوصا طلاب الأزهر وتشير تقارير البوليس السياسي إلى الدور الرائد الذي كان يضطلع به طلاب الأزهر وسط جماعة الإخوان حيث قام عدد من طلاب الأزهر يتقدمهم محمد الغزالي , حفني أبو زيد من كلية أصول الدين وهلال مصيلحي هلال من معهد القاهرة قاموا بتوجيه دعوة لطلبة الأزهر لعقد مؤتمر بمثل طلاب الأزهر عقب صلاة الجمعة 30 يناير 1942 بالجامع الأزهر والدعوة غلى تكوين اتحاد إسلامي يقوم بالعمل على الاتصال بالجهات المسئولة بغرض جعل الشريعة الإسلامية هي أساس الحكم وهدد الطلاب بالإضراب عاما كاملا في سبيل تحقيق هذه الغاية .

ومن المؤكد أن الدعوة لهذا المؤتمر قد وجدت قبولا هائلا لدي طلاب لأزهر حيث حضر المؤتمر حوالي 3000 طالب من مختلف الكليات والمعاهد الأزهرية وافتتح المؤتمر عبد العزيز عبد الستار بكلية أصول الدين حيث ألقي كلمة قوية مطالبا السلطات المعنية بجعل التشريع الإسلامي أساس لنظام الحكم في مصر .

وألقي الطالب إبراهيم البسيوني من كلية اللغة العربية قصيدة طويلة مؤكد نفس المطلب ثم تحدث إبراهيم الجندي من كلية الشريعة والطالب حمودة أمام من أصول الدين ثم هلال مصيلحي وهكذا تعددت الكلمات وكلها تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية وفي نهاية المؤتمر اتفق المؤتمرون على عدة قرارات من بينها :

1- دعوة العلماء إلى تكوين اتحاد ينادي بجعل القرآن أساس للتشريع .

2- المطالبة بتأليف لجنة من كبار العلماء لتتولي صياغة ما ورد في القرآن من أحكام تتفق والعصر الحديث .

يواصل طلبة الأزهر الدعوة للعمل بالشريعة الإسلامية حيث اجتمع عدد هائل من طلبة الكليات الأزهرية توجه لمقابلة رئيس الوزراء لعرض الفكرة إلا أنه لم يعط وعدا مؤكدا على اعتبار أن الوقت لا يسمح .

كما أن هذه الدعوة تتعارض مع ما للأجانب من حقوق أقرها التشريع الوضعي واتفق المؤتمرون على أن تطبع المذكرة باللغة الفرنسية والانجليزية لتوزع على الجاليات الأجنبية ليعرفوا أحقية تلك المطالب التي لا تتعارض مع حقوقهم .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى الصلة بين النشاطات المكثفة داخل الأزهر حادث 4 فبراير على اعتبار أنها محاولة لمضاعفة مشاكل الحكومة ومحاولة إحراجها في قضاياتهم الغالبية العظمي من الشعب المصري.

ونظرا لأهمية الأزهر وخطورته في الصراع الدائر فقد اتجهت أنظار النحاس منذ اليوم الأول لتوليه الوزارة ( عقب 4 فبراير ) إلى الحد من نفوذ القصر داخل الأزهر مستندا في ذلك إلى المبادئ الديمقراطية القائلة بأن الملك يملك ولا يحكم وإلى ما ورد في الدستور من أن رئيس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة بينما القصر من ناحيته يتمسك بسلطته المستمدة من الدستور أيضا فالملك هو الذي يعين الوزراء ويقيلهم وهو الرئيس الأعلى وهو الذي يعين الرؤساء الدينين .

وفيما يتعلق بالأزهر فقد اتجهت الحكومة إلى احتوائه باعتباره مؤسسة من مؤسسا الدولة واتخذت لهذا الغرض من الإجراءات ما يلي :

1- أنشأت في مجلس الوزراء إدارة للشئون الدينية وعينت الشيخ محمد البنا مديرا لها وكان معروفا بميوله الوفدية وبهذا أصبح ضابط اتصال بين النحاس باشا وأصحاب المناصب القيادية في الأزهر .

2- أعدت الوزارة مشروعا لتحسين حال العلماء والمدرسين والخرجين من الأزهر ولكنها علقت تنفيذه على إخراج الشيخ المراغي من مشيخة الأزهر .

3- شجعت الوزارة على إشعال الفرقة بين شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية مما ترتب عليه اضطراب الدراسية في الكليات والمعاهد الدينية ووضعت العراقيل في سبيل الشيخ المراغي إلى أن قدم استقالته ولكن الملك لم يقبلها .

وفي الوقت الذي كانت حركة الإخوان تجد صداها لدي الكثرة من الشباب والطلاب ( عقب 4 فبراير ) كان حسن البنا متفهما حالة الاستياء العامة لدي غالبية الشعب المصري وخيبة الأمل التي أوجدها الوفد بمسلكه في 4 فبراير ليستقطب لجهازه بعض ضباط الجيش من بينهم جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي الأمر الذي قد أوحي لبعضهم بأن الوقت قد حان للتخلص من الاحتلال وضرب الجيش البريطاني المتقهقر غرب الإسكندرية .

ويبدو أن المرشد العام للإخوان قد بدأ في هذه الفترة بالذات في تكوين ما يسمي بالجهاز الخاص أو الجهاز السري بهدف التخلص من الجيش البريطاني العائد من العلمين .

إلا أن هذه الخطوة لم يكتب لها النجاح نظرا لعيون الاحتلال المنتشرة في كل مكان والخوف على الدعوة من جبروت الاحتلال الذي كان يرقب حركات كل القوي السياسية والدينية بدقة متناهية .

وخلاصة القول أن الإخوان المسلمين لم تسهم كغيرها من القوي في تهيئة المناخ الذي أوجد أحدا 4 فبراير وإنما انشغلت بالعديد من القضايا ذات – الطابع الديني بالإضافة إلى تربية العديد من الكوادر التي أسهمت في نجاح تلك الدعوة دون الدخول في أى نوع من الصراع مع أية حكومة من الحكومات التي تعاقبت على مصر طوال الثلاثينات وأوائل الأربعينات ولهذا فهي لا تتحمل أية مسئولية من هذه الناحية .

أما ردود فعل حادث 4 فبراير على الإخوان فقد تجاوبوا بالقدر الذي يمكنهم من تحقيق غايتهم بصرف النظر عن الآثار السياسية التي ترتبت علي هذا الحادث وهي أمور في مجملها تسجل للإخوان ولا تؤخذ عليهم فبينما انصرفت كل القوي للنيل من الوفد واستنفاذ طاقاتهم في صراع حزبي مرير انصرف الإخوان وبدقة متناهية إلى تحقيق رسالتهم مستغلين كل الوسائل الممكنة.

وبحق فقد كان هذا الصراع المرير الذي أحدثه 4 فبراير بين كل القوي السياسية في مصر فرصة استغلها الإخوان واستفادوا منها بقدر يحسدون عليه ووفقا لشهادة أحد المعاصرين " لقد كان الإخوان أقوي قوة تلي الوفد لأنهم كانوا يتمتعون بأمرين خطيرين جدا :

أولهما : التنظيم الشديد والدقة المتناهية .

وثانيهما : الطاعة للقيادة .

مصر الفتاة

تعد جماعة مصر الفتاة من أكثر الحركات السياسية التي أثرت في المجتمع المصري منذ الثلاثينات وحتى الخمسينات من هذا القرن بالرغم من أن البعض قد حاول التقليل من شأنها على اعتبار أنها صدي للقوي الفاشية والنازية .

وهذه الاتهامات بالرغم من خطورتها إلا أنها لا تقيم دليلا ضد مصر الفتاة فهي حركة مصرية أصيلة سبقت فكرتها الحركات الأوربية وهي حركة قد نشأت من خلال الصراع الدائر ضد الاحتلال حيث الفاشية والنازية حركة استعمارية وليس جمال عبد الناصر وأنور السادات إلا أعضاء في حركة مصر الفتاة .

ولعل مما يميز هذه الحركة عن غيرها من الأحزاب السياسية الأخرى أنها بدأت بعيدة عن الوفد في الوقت الذي بدأ معظم السياسيين المصريين حياتهم في حظيرة الوفد حين كان يركب قمة الموجة الثورية ثم انشقوا عليه .

ولقد ظهرت هذه الفكرة في العشرينات من هذا القرن من خلال المجلات المدرسية حيث توثقت أواصر الألفة بين عدد من طلاب المدارس الثانوية فالتفكير في مصر الفتاة كان أقدم من ازدهار النازية والفاشية اللذان ظهرا في الثلاثينيات من هذا القرن بل لقد هاجم أحمد حسين ايطاليا عند هجومها على الحبشة ووصفها بأنها الدولة التي لا يعرفها الشرق الطاغية جبارة في طرابلس تقتل أبناءه وتستحل حرماته وتستعمر أرضه وفي عدد آخر من جريدة " الصرخة" نشرت مقالا هاجمت فيه موسليني بأنه آخر من يتحدث عن مصر فهو الذي اغتصب منا جغبوب والذي يتهيأ في أقرب فرصة لغزو مصر والذي يقتل أبناء المسلمين في طرابلس والذي لا يمثل لنا شيئا ذا قيمة إلا القتل والنهب .

بل إن الحكومة الإيطالية طلبت من وزارة الداخلية المصرية موافقتها على الشكل القانوني الذي يمكن السفارة الايطالية من رفع دعوي قضائية ضد أحمد حسين بسبب كتاباته العدائية ضد ايطاليا والتي اعتبرتها عملا عدائيا ليس له ما يبرره وتحريضا على كراهيتها .

ومن الملاحظ أن العلاقة بين مصر الفتاة والحركتين الفاشية والنازية في كل من ايطاليا وألمانيا لم تكن في يوم ما علاقة مودة أو صداقة حتى يكون التأثير ايجابيا وعلى الرغم من أن العلاقة تبدو واهية إذا ما حاول المؤرخون اليساريون إيجاد رابطة من أى نوع إلا أننا نعتقد أن ظاهرة الربط بين التيارات الإسلامية والنازية والفاشية هي محاولة دأب عليها المؤرخون اليساريون انطلاقا من موقف واضح من كل التيارات الإسلامية وهذا مما يقلل من قيمة مثل هذه الدراسات ويفقدها أهم أركان البحث العلمي وهذه التهمة قد سبق أن ساقها خصوم مصر الفتاة وخصوصا حزب الوفد حيث أعلن النحاس باشا من داخل مجلس النواب : أن أحمد حسين وجماعته يعملون لحساب دولة أجنبية ضد مصلحة البلاد.

ولعل هذا الاتهام قد أثار عددا من أعضاء مجلس النواب حيث طلبوا من الحكومة التحقيق في هذا الموضوع وإثبات هذه التهمة حتى تكون درسا لغيرهم من الشباب وردعا لمن تسول له نفسه أن يقدم على مثل هذه التصرفات التي تتسم بالعمالة .

ويبدو أن النحاس كان يهدف من وراء هذا التصريح الخطير إلى الإساءة لجماعة مصر الفتاة بسبب رفضها لمعاهدة 1936 ولأن هذه الدعوة كانت تلقي ترحيبا عظيما من الشعب المصري وخصوصا طلاب الجامعات والمدارس الثانوية ووفقا لسياسة النحاس فإن هذا يتناقض مع ما للوفد من موقع الصدارة في المجتمع المصري وبالرغم من إصرار أعضاء مجلس النواب على إقامة الدليل على هذا الاتهام الذي أن صدق يكون كفيلا بالقضاء على مستقبل هذه الجماعة إلا أن النحاس عجز على أن يقدم دليل مقنعا للنواب وبالتالي لم تجر تحقيقات قضائية ضد جماعة مصر الفتاة مما كان سببا في تعاطف بعض النواب مع الجماعة وهذا مما يضاعف من اعتقادنا بأن هذا الاتهام لم يكن قائما على أسس موضوعية .

وفي أكتوبر سنة 1937 وأمام المخاطر التي كان يواجهها الوفد سواء في علاقاته مع القصر أو بسبب انشقاق الوفد وخروج أحمد ماهر والنقراشي رفع أحمد حسين قضية ضد النحاس بصفته الشخصية وبصفته وزيرا للداخلية .

مطالبا بمبلغ عشرة آلاف جنيه على سبيل التعويض بسبب الإضرار الأدبية التي لحقت به والتي نتجت عن تصريحات النحاس في مجلس النواب وما لبث النحاس أن تقدم هو أيضا ببلاغ إلى النائب العام يطلب فيه التحقيق مع أحمد حسين بسبب علاقاته مع هيئات أجنبية .

وبعرض الموضوع على القضاء حسم الموقف لصالح مصر الفتاة حيث لم يجد النائب العام ما يقيم دليلا على ما يزعمه النحاس وعلى حد تعبير صحيفة مصر الفتاة " أن النائب العام قد تغاضي عن بلاغ النحاس بعد أن رأي انه لا يستحق مجرد النظر إليه "

وبسقوط وزارة مصطفى النحاس ( ديسمبر 1937) والمجئ بوزارة محمد محمود والتي ضمت من بين وزرائها كامل البنداري صديق أحمد حسين بالإضافة إلى محمد محمود نفسه والذي كانت تربطه بأحمد حسين علاقات وطيدة.

دخلت جماعة مصر الفتاة إلى دور جديد هيأ لها مكانة مميزة وسط القوي السياسية المتصارعة .

ومن المؤكد أن فترة حكومة محمد محمود تمثل ذروة النجاح في تاريخ مصر الفتاة حيث أطلق لها العنان في ممارسة دعوتها سواء من خلال المؤتمرات والندوات العديد التي حرصت الجماعة على إقامتها أو من خلال صحفها ولعل هدف محمد محمود هو الحصول على قدر من الشعبية واستخدم الجماعة كوسيلة بقصد النيل من الوفد ألد أعداء الحكومة القائمة .

ومن قيمة النجاح الذي وصلت إليه جماعة إلى منحدر الضيق والاضطهاد ويرجع أحمد حسين ذلك إلى سببين :-

أولاهما : هو الشباب المتحمس الذي كان يتصرف من منطلق المثالية وغني عن البيان أن وزارة محمد محمود كانت لا تحقق هذه المثالية فهاجمتها الجماعة واشتدت في مهاجمتها واتخذت من شيخوخة محمد محمود واعتلال صحته ذريعة للهجوم.

ثانيهما : لقد كانت محلات بيع الخمور منتشرة فدعوة " أحمد حسين" إلى مهاجمتها وتحطيمها وكان من أشهر هذه الأحداث انقضاض إسماعيل عامر على مهاجمة " الكاب دور" في الإسكندرية حيث وصلت المأساة إلى ذروتها إذ تعرض لهم أحد الجلوس وكان موظفا كبيرا فاعتدوا عليه بالضرب حتى أصبح بين الموت والحياة واعتبر الانجليز أن عملية تحطيم الحانات من كبري الكبائر فقرروا سحق مصر الفتاة سحقا حيث أعتقل العدد الأكبر من الجماعة ووجهت إلى أحمد حسين تهمة قلب نظام الحكم .

ويبدو أن السلطات البريطانية كانت متيقظة تماما لحركة مصر الفتاة على اعتبار أنها تندد بمعاهدة 1936 وتصفها بمعاهدة " الخزي والعار ط ناهيك عن محاولة الاعتداء على الأجانب ومهاجمة دور اللهو مما ضاعف من كراهية الاحتلال لمثل هذا النوع من النشاط ووفقا لرأي السفير البريطاني " أن مثل هذا النوع من الأنشطة مما يسبب قلقا لدي الأجانب في مصر "

وعلى الرغم من النجاح الذي حققته مصر الفتاة وانتشارها وسط قطاعات كبيرة من الشباب أو انحدارها مرة ثانية بسبب موقفها من حكومة محمد محمود على اعتبار أنها عجزت عن تحقيق أى نوع من الإصلاح الداخلي فإن مصر الفتاة تعد على رأس القوي التي استهانت بالقيم الدستورية وساهمت بشكل أو بآخر في خلق مناخ سياسي يفتقد إلى الديمقراطية فليس من قبيل المصادفة أن يتقدم أحمد حسين ببلاغ إلى النائب العام ( أكتوبر 1937 ) يطلب التحقيق فيما ورد من اتهامات وجهها إليه النحاس باشا ( بالتخابر مع دولة أجنبية) بالرغم من مرور أكثر من عام على هذه التهمة وليس من قبيل المصادفة أيضا أن يتضامن أحمد حسين مع ألد خصومة كي يعملوا جميعا على إسقاط حكومة الوفد بل ويعتبر أحمد حسين أن إقالة الوفد هي البرنامج الوحيد الذي تتبناه الجماعة .

وأعتقد أن ما تقدم عليه الملك فاروق من إقالة الوفد ( ديسمبر 1937) تعد المدخل الفعلي سواء لما أصاب مصر من حالة عدم الاستقرار السياسي في فترة أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينيات أو لما وقع في 4 فبراير من أحداث تركت آثارا خطيرة على تاريخ مصر السياسي طوال فترة الحرب العالمية الثانية .

وتعددت أساليب المخطط الذي آمنت به مصر الفتاة والذي يعني إقالة الوفد حيث رسمت الجماعة خطة بهدف النيل من الحكومة لا في القاهرة وحدها بل في القري والمدن المصرية.

وكان خروج النقراشي وأحمد ماهر من الوفد فرصة ثمينة استغلها أحمد حسين للوقيعة بين صفوف الوفديين حيث استغل هذا الحادث أسوأ استغلال وسواء أكان هذا في إطار سياسة عامة رسمتها أحزاب الأقلية أم أن هذه السياسة كانت مسلكا خاصا بمصر الفتاة فإنها تتحمل قدرا كبيرا من المسئولية على الرغم مما ساهم به الوفد من تصرفات تفتقد في معظمها إلى الحنكة السياسية ووفقا لرأي أحد زعماء الوفد " لقد كان فصل النقراشي وأحمد ماهر وبكل المقاييس خطأ سياسيا كبيرا .

ولم يتورع أحمد حسين في أن يتقدم بالتماس في أغسطس 1937 إلى الملك فاروق بطرد الوزارة بحجة أنها قد خالفت كل القوانين والأعراف .

وبالرغم من أن نزاهة الوفد المالية حتى هذا التاريخ – كانت فوق كل الشبهات إلا أن أحمد حسين تقدم بالتماس إلى الملك فاروق يشكك في ذمة النحاس ونزاهته المالية .

وهكذا ساهمت مصر الفتاة بنصيب لا بأس به من استعداء الملك ضد لحكومة الشرعة التي تمثل وبكل المقاييس الغالبية الفعلية من الشعب المصري وتناسي أصحاب هذه الدعوة بقصد أو بغيره أن اقله حكومة تتمتع بالغالبية العظمي في البرلمان وتلقي تأييدا كاسحا من الجماهير يعد بداية لسلسلة من المخاطر دفعت فاروق إلى الاستهانة بالدستور والقانون ودفعت الوفد أيضا إلى الاقدام على تصرفات لا تتفق بحال مع تاريخه الوطن العريق ودوره الرائد في قيادة الحركة الوطنية المصرية ويلاحظ أن السمة المميزة لتلك الجماعة هي التناقض في الرأي وافتقاد الرؤية السياسية الثاقبة حيث كانت الغالبية العظمي من أعضاء الجماعة من بين طلاب المدارس الثانوية والجامعات وحداثة السن والتحمس كلاهما شرط مطلوب في الإيمان المطلق وتقبل النظريات التي تخاطب العواطف أكثر مما تخاطب العقول . ومن بن القضايا التي ظهر فيها التناقض واضحا اشتراك مصر في الحرب بجانب بريطانيا فعندما تأزم الموقف الدولي وبدأت نذر الحرب أخذ أحمد حسين يدعو جميع الأحزاب وكل القوي السياسية إلى التضامن في مواجه المخاطر التي قد تتعرض لها مصر وعندما تعقدت الأوضاع الدولية وبدأ واضحا أن الحرب واقعة لا محالة أعلن الدكتور مصطفي الوكيل ( نائب رئس مصر الفتاة ) أن التضحيات التي قدمتها الشعوب العربية والإسلامية لكل من انجلترا وفرنسا طوال السنوات الطويلة الماضية قد ذهبت هباءا ولم نحصل في مقابل ذلك إلا على كل ما يسئ إلى وحدة واستقلال هذه الشعوب ولذلك فإن نقف إلى جوار الحلفاء في الحرب ويضيف أحمد حسين قائلا أن الجلاء عن الأراضي المصرية إذا انتهت الحرب هو ثمن وقوف مصر إلى جانب انجلترا .

ثم يتراجع أحمد حسين عن هذا الموقف وبلا أى مبررات معقولة ليعلن أن علاقاتنا الوطيدة بالدولة الحليفة تلزمنا بالوقوف مع الحلفاء وإعلان الحرب ضد النازية ونشرت صحيفة مصر الفتاة سلسلة من المقالات تبرر أهمية دخول مصر الحرب على اعتبار أن بريطانيا ستقدر هذا الموقف من مصر ومن المؤكد أن النصر سكون في جانب الحلفاء ولذا فإن الفرصة متاحة لكي تحصل مصر على استقلالها .

وعندما تندلع الحرب بالفعل تتراجع مصر الفتاة عن موقفها السابق فيعلن أحمد حسين أن موقف جماعته من قضية الحرب يتوقف على أن تعلن بريطانيا استقلال مصر استقلالا عمليا وأن تعترف بحقوقنا في السودان وحل قضية فلسطين حلا مرضيا .

على ضوء كل هذه التصريحات والبيانات المتناقضة فلم يكن لمصر الفتاة موقف محدد وإنما كان التردد أهم سمة لازمت تلك الجماعة على الرغم من أن أحمد حسين قد حاول أن يبرر هذا الموقف بقوله : إن الانتصارات الماسحة التي حققها الألمان اقتضت منا أن نعيد خطتنا حيث تحددت مهمة مصر الفتاة بالثورة المسلحة على الانجليز وطردهم من مصر وقد قوي من فكرة الثورة المسلحة ضد الانجليز تلك الانتصارات الكاسحة التي أحرزها هتلر في بادئ الأمر وكانت خطتنا أن وقت هجوم الألمان على الانجليز هي ساعة الصفر حيث تعلن الثورة المسلحة في كل أرجاء مصر .

ووفقا لخطة الثورة والتي وضعها أحمد حسين وفتحي رضوان فإنها تقوم على احتلال عدد معين من القرى حول كل مركز ثم الزحف من القرى لاحتلال المراكز ومن المراكز إلى عواصم المديريات على أن يكون ذلك مشفوعا بقطع السكك الحديدية والتليفونات والتلغرافات وأعدت الخطة في شكل منشورات لا تفتح ولا يعرف محتواها إلا بعد إعطاء كلمة السر وبدأت عملية جمع الأسلحة واستأجر الحزب عددا من المنازل لكي تكون مكانا للأسلحة والمنشورات إلا أن عيون الاحتلال كانت ترقب كل حركة من حركات الحزب ويبدو أن الانجليز كانوا على علم بحقيقة الثورة التي يخطط لها أحمد حسين وفتحي رضوان إلا أنهم كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة الكفيلة بالقضاء على هذا الحزب واقتلاعه من جذوره ولعل هذا يفسر اضطهاد بريطانيا لمصر الفتاة أكثر من غيرها من القوي الأخرى ولما كانت ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق وموقف مصر الفتاة المؤيد لها حزبه بعد أن جاهروا بدعوتهم في أهمية الثورة ضد الانجليز كما فعل العراق وهكذا صفيت حركة مصر الفتاة وتمكن الاحتلال من تسديد ضربة قوية مكنته من اقتلاع هذا النبت الذي يعد نتاجا لتربة مصرية خالصة بالرغم من ظاهرة التردد والتي تبرره ثورة الشباب وحماسة وفي الوقت الذي وقعت فيه أحداث 4 فبراير الفتاة وعلى رأسهم أحمد حسين وفتحي رضوان ولذا فلم يكن وقع هذا الحادث عليهم إلا بالقدر الذي تسمح به ظروف الاعتقال حيث تصور أحمد حسين أن النحاس قد أنقذ مصر بقبوله تأليف الوزارة ويضيف أحمد حسين عن ذكرياته في تلك الفترة قائلا " لم نعلم بالملابسات التي صاحبت تشكيل وزارة 4 فبراير وبدأ النحاس وكأنه المنقذ فاتفقنا أنا وزملائي أن نرسل له برقية تأييد ولم نكن ندري أننا بذلك تصطدم مع عواطف الكثير من زملائنا والذين تركوا الحزب احتجاجا على هذا الموقف .

ويعلق فتحي رضوان على هذه الرواية قائلا : لقد بعث أحمد حسين ببرقية تأييد إلى النحاس تحكمه عوامل شخصية قد يكون الاعتقال من أهمها وليس صحيحا أنه قد استشار البعض أو أخذ رأينا في ذلك.

وبالرغم من المبررات التي يسوقها أحمد حسين والي دفعته إلى أن يبعث إلى النحاس مهنئا بما حدث على اعتبار أن حالة الاعتقال كانت حائلا دون معرفة ملابسات الموضوع إلا أن نص البرقية يفيد خلاف ما ذكره حائلا دون معرفة ملابسات الموضوع إلا أن نص البرقية يفيد خلاف ما ذكره أحمد حسين " لقد منحتكم الأمة ثقتها بأعظم مما فعلت في أى يوم ولن يكون هناك سوي شرذمة قليلة من الرجال الحسودين الحقودين الذين يشرعون في دسائسهم وهؤلاء لن يكون لهم حظ قليل أو كثير .. لقد أصبحت أثق ثقة مطلقة في أن مصلحة مصر ومستقبلها هو هدفكم في كل ما تعملون أو تقولون .

والجدير بالملاحظة أن برقية أحمد حسين تعد البرقية الأولي في تهنئة النحاس فلم يحدث أن أقدمت أى قوة سياسية أخري على اتخاذ هذا الموقف وإنما كل الاتجاهات السياسية والحزبية قد استنكرت هذا الحادث من منطلق أن الوفد ضليع في تأمره مع الاحتلال .

ومن المؤكد أن أحمد حسين قد مل أمر الاعتقال أن النحاس من الممكن أن يعيد النظر في أمر اعتقاله وأما القول بأنه يكن يعرف كل ملابسات الموضوع فلا يقيم دليلا على موقفه بدليل أنه قد عرف فيما بعد ولم يقدم على ما يناقض موقفه السابق ومن البراهين التي تقوم دليلا على هذا الاعتقاد هو هروب أحمد حسين من السجن ثم اتصاله بفؤاد سراج الدين الذي وعدة بعدم العودة إلى الاعتقال وبالفعل فقد وافق النحاس على الإفراج عن أحمد حسين بصفة خاصة .

ويبدو أن أحمد حسين قد عمل على الخروج من السجن بكل الوسائل إلى درجة أنه بعث برسالة إلى مدير المخابرات بالجيش البريطاني " جنرال كلايتون" يقول فيها : عندما بدأت الحملة الانجليزية على ليبيا شعرت برغبة شديدة في أن أكتب لك لا عرب لك عن تمنياتي الصادقة لنجاح هذه الحملة إلا أنني توقفت خوفا من أن تفسر كتاباتي بأنها نوع من المراهنة أو الرغبة في أن يطلق سراحي إلا أن توقف المعارك على حدود ليبيا دفعني إلى أن أكتب لك لقد كان رأيي الذي بسطته لك منذ مقابلتنا الأولي وظللت متمسكا به أن مصلحة مصر الحاضرة والمستقبلة تقضي بضرورة تعاونه مع انجلترا تعاونا على أوسع نطاق ممكن فإن موقف مصر بعيدا عن هذا النزاع يعتبر موقفا شاذا .

ولعل هذا الموقف من زعيم مصر الفتاة يشير إلى عدة اعتبارات هامة :-

أولا : أن رسالة أحمد حسين إلى النحاس عقب 4 فبراير سنة 1942 هي محاولة لجس نبضه ولعل أحمد حسين قد اتخذ من صداقته . لفؤاد سراج الدين وسيلة من وسائل الضغط على النحاس وهذا ما تحقق فعلا .

ثانيا : أن تاريخ الصراع الطويل بين حزب الوفد وجماعة مصر الفتاة والخلافات التي لم تتوقف بينهما كل هذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن رسالة أحمد حسين إلى النحاس تعد تراجعا أكيدا بسبب حالة الاعتقال .

ثالثا : أن رسالة أحمد حسين إلى " كلايتون" مدير المخابرات البريطانية تعد تناقضا غريبا في سياسة أحمد حسين يؤكد من خلالها إيمانه العميق بقضية الحلفاء وهذا ما يتعارض تماما مع سياسته السابقة وهذا الموقف يعد تراجعا ليس له ما يبرره إلا محاولة النظر في أمر الاعتقال وعلى الرغم من موقف مصر الفتاة من معاهدة 1936 هذا الموقف الذي يتسم بالرفض الشديد إلا أنه لا مانع لدي أحمد حسين من أن يعتبر بريطانيا دولة صديقة وحليفة وهو يشير من طرف خفي إلى رغبته في الإفراج عنه .

ولعل عددا كبيرا من أعضاء مصر لفتاة قد اعتبروا أن موقف أحمد حسين يعد تراجعا عن الخط الوطني الذي اتخذه الحزب لنفسه حيث تعرض الحزب لأول مرة إلى انقسامات خطيرة حيث اعتبر فتحي رضوان ( سكرتير عام الحزب ) أن ما حدث في 4 فبراير يعد صدمة تجمدت بسببها المشاعر فلقد كان الاعتداء على الملك بهذه الصورة اعتداءا على مصر كلها ولم يكن موقف أحمد حسين موقفا مسئولا .

ومن هنا فقد تقدم فتحي رضوان باستقالته من الحزب احتجاجا على موقف أحمد حسين من أحداث 4 فبراير ونجح فتحي رضوان في اجتذاب عدد من الأعضاء الحانقين على سياسة أحمد حسين وكونوا اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني .

وهذه اللجنة لم تقم بأي دور ظاهر خلال سنوات الحرب اللهم إلا بعض النشاطات السرية التي سيرد الحديث عنها في موضع آخر من هذا البحث .

ومن المؤكد أن حادث 4 فبراير 1942 قد ترك أثرا على حزب مصر الفتاة يختلف تماما عن أثر نفس الحادث على بقية الأحزاب فبينما كل الأحزاب قد استمدت من أحداث 4 فبراير قدرا كبيرا لشعبيتها على حساب الوفد إلا أن مصر الفتاة قد انقسمت على نفسها مما حدا بالكثيرين من أعضائها إلى البحث عن قوي أخري بخلاف القوتان المتنازعتان .

ومنذ منتصف سنة 1941 فقد صدرت الأوامر باعتقال زعماء مصر الفتاة والغالبية العظمي من أعضائها وبذلك تجمد نشاطها تماما فلا حزب ولا أعضاء ولا صحيفة ولا نشاط من أى نوع خلال الفترة المتبقية من الحرب ويمكن أن نلخص بعض العوامل التي أدت إلى إجهاض مصر الفتاة  :

أولا : موقفها من ثورة رشيد علي الكيلاني وما ترتب على ذلك من اعتقال معظم أعضائها .

ثانيا : عدم صلابة أحمد حسين ومحاولة اتصاله بألد خصومه وعم الانجليز والوفديين مما ترك انطباعا سيئا لدي غالبية أعضاء الحزب .

ثالثا: موقف أحمد حسين من أحداث 4 فبراير سنة 1942 وما ترتب على ذلك من خروج فتحي رضوان لكي يكون " اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني "

وعلى العموم فإن العلاقة بين حادث 4 فبراير وحزب مصر الفتا لم تكن علاقة وطيدة نظرا لأن الاحتلال قد تمكن من القضاء على الحزب في منتصف 1941 عن طريق العديد من الإجراءات سواء بالنفي أو الاعتقال ولذا فإن الأثر كان محدودا لدرجة كبيرة وعلى الرغم من كل ذلك فإن عددا كبيرا من الشباب قد انتابته حالة عدم الثقة سواء في مصر الفتاة أو في غيرها من الأحزاب الأخرى ولذا فقد انصرفت أعداد هائلة للعمل في تنظيمات سرية اعتقادا منهم بأن الاغتيالات هي الطريق الوحيد لخلاص مصر من أوضاعها المتردية وهذا ما سنتناوله في الدراسة التالية .

قوي أخري لعبت دورا هاما في مجري الأحداث

بصدد الحديث عن القوي التي تأثرت بشكل أو بآخر بأحداث 4 فبراير يتصدر الحزب الوطني مكانة هامة سواء في خلق المناخ الذي تمخضت عنه الأحداث أو في ردود الفعل التي نجمت عن الحادث بالرغم من أن مساهمة الحزب لم تكن تتناسب والمكانة الهامة التي كان يتبوأها في أوائل هذا القرن حيث كان يتصدر حركة النضال الوطني إلا أن مواقف الحزب من القضايا الوطنية وتشدده بالمطالبة بأحقية مصر في الحصول على استقلالها بلا قيد أو شرط وبعده عن أى نوع من أشكال المساومة وتمسكه بمبدأ " لا مفاوضات إلا بعد الجلاء كل تلك العوامل جعلت من الحزب الوطني هدفا للاحتلال ثم كان موقفه من معاهدة 1936 والتي اعتبرها حماية قاسية تجعل الاحتلال شرعيا وتؤيد تصريح 28 فبراير 1922 وتمكن الانجليز من التسلط على أرضنا وسمائنا .

وبات الحزب هدفا للقوي التي ساهمت في مفاوضات 1936 وموضع تهكم من رجالات الأحزاب والذين كانوا يعتبرون معاهدة 1936 معاهدة الشرف والاستقلال في الوقت الذي تنكر لها الحزب الوطني واعتبرها معاهدة الخزي العار والاستسلام .

وهذه السياسة المتشددة لا تتفق بحال مع ما ارتضاه حافظ رمضان ( رئيس الحزب الوطني ) من الاشتراك في حكومة محمد محمود سنة 1938 ثم حكومة حسن صبري سنة 1940 حيث كان الاشتراك في هاتين الحكومتين يعد اعترافا ضمنيا بمعاهدة 1936 لا يتفق والسياسة العام التي ارتضاها الحزب بالإضافة إلى أن الاشتراك في هاتين الحكومتين يعد مساهمة أكيدة لضرب القوي الديمقراطية لأن قبول العمل مع حكومات لا تستند إلى أى قاعدة جماهيرية يعد خدعة أكيد للقصر ورجالاته والذين أفسدوا للحياة السياسية بتصرفاتهم الأنانية وخلافاتهم الشخصية ولعل اشتراك الحزب الوطني بماضيه الطويل وكفاحه المشرف يعد صدمة أكيدة قضت على البقية الباقية من نضال الحزب .

والحقيقة أنه على الرغم من عدم جماهيرية الحزب في تلك القدرة موضع البحث - إلا أن بعضا من أعضائه أمثال فكري أباظة وعبد العزيز الصوفاني قد أثروا الحياة البرلمانية بمناقشاتهم الموضوعية وسلوكهم الحميد ولم تأت مناسبة إلا وكان لأعضاء الحزب الوطني صوت مسموع منددين دائما بالسياسة الانجليزية وضرورة وضع حد للعلاقات المصرية البريطانية على ضوء الاعتداءات المتكررة والتي يرتكبها جيش الاحتلال جهارا نهارا ضد المواطنين المصريين وحمل فكري أباظة حملة شديدة ضد المشروعات الاستعمارية صناعية وحربية والتي وصفها بأنها تهدف إلى خدمة الاحتلال وضد مصالح البلاد .

وفيما يتعلق بموقف الحزب سواء من إعلان الأحكام العرفية أو من قضية دخول مصر الحرب بجانب بريطانيا فقد رفض أى شكل من أشكال المساعدة لبريطانيا على اعتبار أن مصر قد قدمت العديد من التضحيات طوال فترة الوجود البريطاني في مصر ولم تحصل إلا على الجحود والنكران .

وبوقوع حادث 4 فبراير سنة 1942 اجتمع الحزب الوطني برئاسة حافظ رمضان وأعد مذكرة مستفيضة عن مركز مصر السياسي واعتداء انجلترا المسلح على السيادة المصرية وعدم احترام حكومة النحاس لأي قانون أو دستور ولم تغفل المذكرة أن تندد بمعاهدة 1936 باعتبار أنها أساس كل بلاء وأرسلت صور من هذه المذكرة إلى الملك فاروق وإلى النحاس كما بعث بصور منها إلى وزير أمريكا المفوض في القاهرة ووزير السويد والقائم على مصالح روسيا في مصر بل وقد حاول حافظ رمضان - واستطاع الحزب الوطني ممثلا في رئيسه أن يحصل على توقيع الدكتور أحمد ماهر والشوربجي بك وإسماعيل صدقي باشا إلا أن الخطة لم تنجح لأن البعض كحافظ عفيفي والشمس باشا لم يقبلا التوقيع على مثل هذه الوثيقة ولذا فقد أخفقت الفكرة .

وعلى ما يبدو فإن عددا كبيرا من أعضاء الحزب الوطني وخصوصا من بين الشباب قد انخرطوا في العمل السري بعد أن فقدوا كل أمل في الأحزاب التقليدية تلك الأحزاب التي تسبح بحمد الاحتلال وتكيل له المديح والثناء .

من هنا فقد تصدر قطاع كبير من شباب الحزب الوطني العمل السري واتخذوا من الاغتيالات وسيلة لجبار الاحتلال على الرضوخ لمطالبهم ولعل خطتهم كانت تقوم على إبادة مدرسة ثورة 1919 والتي وصفت بأنها مدرسة المفاوضات والتخاذل حيث كانت معاهدة 1936 من وجهة نظرهم اعتراف واضح بإشراك بريطانيا في حكم مصر ثم كان حادث 4 فبراير 1942 وعلى مرأي ومسمع من كل الأحزاب السياسية هو بداية تشكيل جماعة حسين توفيق والتي وضعت في برنامجها اغتيال كل من ساهم في أحداث 4 فبراير وفي مقدمتهم النحاس باشا ثم أمين عثمان .

ويعتقد حسين توفيق أن الوفد قد خان خيانة عظمي في مسألة 4 فبراير وأن زعماء الأحزاب ليس فيهم نفع بل جميعهم قد أضروا البلد ضررا كبيرا .

ووفق ما ذكره حسين توفيق في قضية مقتل أمين عثمان تبدو عدة حقائق هامة :-

أولا : أن جماعة حسين توفيق كانت تسمي جماعة الشباب المجاهد.

ثانيا : أن هذه الجماعة قد تكونت عقب 4 فبراير وكرد فعل السياسة التواطؤ بين الوفد والانجليز .

ثالثا : أن هدف التنظيم هو اغتيال كل من ساهم في صنع أحداث 4 فبراير بدءا بالسياسيين المصريين .

ويبدو أن هناك علاقة وطيدة بين جماعة حسين توفيق والتنظيم الذي أعده القصر والذي يسمي " بالتنظيم الحديدي" والذي كان من أهم أهدافه اغتيال كل صانعي 4 فبراير 1942 حيث ذكر أحمد مرتضى المراغي والذي شغل منصب وزير الداخلية عدة مرات وقبلها كان مديرا للأمن العام وكان على علاقة وطيدة بالقصر  : " أن الملك فاروق قد دفع مبالغ طائلة لإعداد هذا التنظيم بهدف اغتيال النحاس وأمين عثمان وكل من ساهم في 4 فبراير إلا أن الملك قد فقد ثقته في هذا التنظيم بعد فشل محاولة قتل النحاس مرتين مما اضطره إلى التفكير في إعداد تنظيم آخر يكون قادرا على اصطياد الرؤوس الكبيرة .

وعلى ما يبدو فإن مصرع أمين عثمان ( يناير سنة 1946 ) هو العمل الوحيد الذي قام به هذا التنظيم وكانت الخطة تعني مقتل أمين عثمان ثم قتل النحاس أثناء سيرة في جنازة أمين عثمان .

ويؤكد أحد زعماء التنظيم السري والمنتمين إلى الحزب الوطني أن سعد كامل " ابن شقيقة فتحي رضوان هو المدبر والمخطط للمجموعة التي اغتالت أمين عثمان وأن كل الأعضاء كانوا من الشباب المنتمين إلى الحزب الوطني .

ووفق اعتقادي فإن انتماء التنظيم إلى الحزب الوطني لا ينفي علاقاتهم بالقصر على اعتبار أن التنظيم كان يمر بمراحل مختلفة وأن أعضاءه في الغالب لم يكونوا على علم بأن القصر وراء مخططهم حيث كانت الاتصالات تتم عن طريق شخص معين هو قمة التنظيم ولعله الدكتور يوسف رشاد .

ويعتقد احد المعاصرين أن باقي التنظيمات السرية لم تكن إلا من حيث الكيف ولا الكم بالقدر الذي تتطلبه حالة البلاد والتنظيم الوحيد الذي كان فعالا هو تنظيم حسين توفيق والذي اعتمد على شخصية حسين توفيق فقط .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى العلاقة بين القصر والتنظيم الحديدي والذي امتد ليشمل عددا كبيرا من ضباط الجيش المصري والذين يؤيدون الألمان بصورة مطلقة وتشير الوثائق الأمريكية أيضا إلى أن عيون المخابرات البريطانية كانت متيقظة لمثل تلك الأنشطة الضارة بقضية التحالف على اعتبار أن ضباط الجيش المصري يخططون لشئ ما ولعل هذا الشئ هو إعلان ثورة عسكرية داخل الجيش أو اغتيال ضباط الحلفاء في القاهرة وهذا مما ضاعف من قلق السفير البريطاني في القاهرة.

وتعتبر قضية مصرع أمين عثمان هي مفتاح الوصول إلى هذه الجماعة وتعتبر المحاكمة في هذا القضية من المحاكمات التاريخية الهامة في تاريخ مصر السياسي حيث دار معظمها حول الكشف عن جنود حادث 4 فبراير وأن المتهمين جميعا قد ركزوا على هذا الحادث باعتباره دافعا وطنيا " هو نفس الشئ الذي اعتمد عليه الدفاع على اعتبار أن الاعتداء على الملك وهو رمز البلاد يعتبر اعتداء على الوطن كله .

وتشارك النيابة المتهمين في اعتبار حادث 4 فبراير وصمة في جبين الإمبراطورية البريطانية ودليلا على البربرية التي هوي إليها الانجليز في ذلك اليوم لا غير .

وعندما يسحب النائب العام " محمود منصور " الكلام السابق الذي أشار إليه " أنور حبيب " وكيل النائب العام " يثور المتهمون ويعلق حسين توفيق : عار عليك يا حضرة النائب العام أن تسحب هذا الكلام الوطني وكن شجاعا ولا تخشي شيئا وقال : أنور السادات أنا أفضل أن أشنق ألف مرة على أن أري النائب العام يتراجع ويقف هذا الموقف غير المشرف .

واستند المحامون في دفاعهم عن المتهمين إلى ما نشرته الصحف عقب إقالة الوفد سنة 1944 على اعتبار أن ما اقترفه يعد جرما لا يغتفر ثم تناول الدفاع أيضا مسلك أمين عثمان وتحيزه الواضح إلى جانب الانجليز حيث شبه مصر في علاقاتها بانجلترا بالزواج الكاثوليكي ولذا فقد شبه مصر بامرأة وبريطانيا برجل .

ولم تقتصي هيئة الدفاع عن تورط أمين عثمان في حادث 4 فبراير وإنما أمتد الحديث ليشمل موقفه أيضا من مفاوضات 1936حيث يؤكد علي ماهر أن طلبات الانجليز كانت كثيرة ولما أشار على السفير البريطاني بهذه الملاحظة أجاب بأن الذنب ليس ذنبه لأن أمين عثمان أفهمه أن النحاس يساوم كثيرا ويحاول دائما أن ينتقص 50 % من طلبات الانجليز ولذا فقد تقدموا بطلبات مبالغ فيها .

ولقد أشارت تقارير البوليس السياسي إلى صعود نجم أمين عثمان اعتمادا على الانجليز ففي أحد التقارير ما يشير إلى قرب تولي عثمان الوزارة كما يشيع هو ذلك ويقول أن معه من الوزراء الحاليين ما يؤيده في وجوده في رئاسة الوزارة عند اعتزال النحاس الحكم .

ومن غير شك فإن هيئة المحكمة قد أكدت على تلك الدوافع التي دفعت هؤلاء الشباب للإقدام على ما فعلوا اعتقادا منها بأن مصر كلها تشاركهم في دوافعهم الوطنية إلا أنها – هيئة المحكمة – لا تقر مبدأ القتل كوسيلة للوصول إلى أى غرض مهما كان نبيلا ولقد رأت المحكمة أنه لا يرجي من مثل التهم أن يزن ويقدر عوامل الاستفزاز بل دعاها على أنها خيانة للبلاد إلى جانب تاريخ الاحتلال لمصر كلها عوامل راعتها المحكمة في الحكم على هؤلاء الشباب . ومن المؤكد أن هؤلاء الشباب كانت تحركهم دوافع وطنية خالصة وبالرغم من اعتقادنا بأن هذا التنظيم كان يعمل في فلك القصر ولأهداف خاصة من وجهة نظر السراي إلا أننا نعتقد أن هؤلاء الشباب لم يكونوا على بينة من مخططات السراي وإنما كان للدكتور يوسف رشاد طبيب الملك الخاص وزوجته ( نهي ) الدور الرئيسي في استغلال هؤلاء الشباب وتوجيههم بما يتفق وأغراض القصر وفي الوقت نفسه فليس هناك ما يثبت إدانة القصر وهذا ما حرص عليه فاروق جيدا.

والمؤكد أن أحزاب الأقلية قد نجحت في استغلال حادث 4 فبراير والنيل من الوفد مما حدا بالكثيرين من أعضائه إلى الانصراف عنه وكانت الفرصة مهيأة لظهور قوي أحري احتلت حبذا هامشيا على مسرح الأحداث المصرية وتعني قوي اليسار حيث الدعاية السوفيتية قد حققت قدرا كبيرا من النجاح وغاليا وبدون قصد فقد كان الأمريكيون والبريطانيون يقومون بمهمة الدعاية للسوفيت والتأكيد على تطورهم العسكري وتقدمهم الاجتماعي والاقتصادي وعللوا هذا الطفرة في حياة المجتمع الروسي بالثورة الروسية التي تمكنت من استيعاب كل مشاكل المواطن الروسي .

ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن تنتشر وبسرعة الأفكار الإشتراكية والماركسية وخصوصا بين الناقمين على النظام ولعل ظروف الحرب من العوامل التي ساعدت على ازدهار هذا النشاط حيث الظروف الاجتماعية والاقتصادية أخذة في التدهور والقوة الشعبية الوحيدة القادرة على التأثير في المجتمع المصري ( الوفد) بدأت تنهار عقب أحداث 4 فبراير ووفقا لشهادة أحد المعاصرين لقد كانت أحداث 4 فبراير من أهم العوامل التي لفتت الأنظار إلى الأفكار الماركسية والإشتراكية وفوق كل ذلك مراعاة بريطانيا لظروف التحالف مع الاتحاد السوفيتي حيث سمحت بممارسة هذا النوع من النشاط هذا بالإضافة إلى الانتصارات الكاسحة التي حققها السوفيت ضد قوات المحور وإقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي سنة 1942 كل ذلك أدي إلى انتشار الماركسية في مصر الثانية وإنما ترجع جذورها إلى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين حيث تنشا الحزب الشيوعي المصري الذي تمكن من ضم مجموعات من العمال الذين أسهموا في ثورة 1919 إلا أن ظروف الحرب وما ترتب عليها من علاقات شاذة خلفتها معاهدة 1936 قد ساعد على خلق المناخ المناسب الذي ترعرت فيه تلك الأفكار بشكل أقلق كل القوي السياسية الأخرى حيث تشكلت العديد من الخليات حملت كل منها اسما مغايرا لأخر فهناك " اللجنة المركزية للمنظمة الشيوعية المصرية والتي كانت تصدر نشرات إلى الطبقة العاملة .. وأخري تحمل اسم " منظمة المقاومة الشعبية" واقتصرت مهمتها على توزيع الكتب الشيوعية على الطلبة والعمال ثم " الحزب الشيوعي المصري " والذي كان يتولي كتابة التقارير والنشرات وحفظها في مكان سري وهناك منظمة أخري تحمل حركة ديمقراطية تقدمية وطنية وكان يختصر اسمها بكلمة " حدتو" ويرأسها صهيونيات أحداهما مليونير يدعي " موريل " والأخر يدعي " دويك" والأول كان ينفق بسخاء على منظمته وعمل تحت ستار التجارة وكانت المهمة الحقيقية لهذا الجماعة إمداد الصهيونية في فلسطين بما تحتاج إليه من معلومات عن مصر .

وفي سنة 1942 تأسست " الحركة المصرية للتحرر الوطني " ولعل اسمها كافة للدلالة على نوعية النشاط الذي اختاره مؤسسها " هنري كورييل وخلال أحداث 4 فبراير سنة 1942 وبينما كانت القاهرة تموج بالمظاهرات قامت الحركة بطبع المنشورات باللغة العربية تقول فيها : " لا تتصوروا أيها المصريون أن الألمان أفضل من الانجليز ويمضي كورييل في روايته قائلا : وخرجت لأوزع هذه المنشورات أنا وجورج بوانتيه وكان منظرا مضحكا اثنان من الأجانب يوزعان منشورات باللغة العربية وقد وزعنا 400 نسخة من هذه المنشورات . وقد اعتقل هنري كورييل سنة 1942 وأودع في معتقل الزيتون ويقول عن هذه الفترة : وفي المعتقل استفدت فائدة كبري حيث مارست احتكاكا مباشرا وجادا مع كثير من السياسيين هم في الأساس أبناء البراجوزية الصغيرة وباختصار لقد أخذت في المعتقل حمام تمصير وأحسست إحساسا عميقا أن البرجوازية الصغيرة تموج بحركة وطنية عارمة وأنه يتعين الاستفادة منها .

ويعتقد البعض أن هذا التنظيم كان أكثر التنظيمات اليسارية ارتباطا بالواقع المصري حيث تشكل من الطلاب والمدرسين والعمال وغيرهم من ذوي الأصول الصغيرة وكان أسلوب التجنيد يتم من خلال المعارك السياسية والاضطرابات .

وتستهدف الحركة المصرية للتحرر الوطني تكوين حزب شيوعي إصلاح زراعي , وتنظيم الكفاح المشترك مع الشعب السوداني باعتبار أن وحدة وادي النيل قضية مصيرية ووفقا لتقارير البوليس السياسي فد كان هنري كوريول يدير احدي المكتبات بهدف الترويج للكتب الشيوعية .

ومن خلال المكتبة استطاعت الحركة أن تجد صداها لدي الشباب خصوصا المتعطش للثقافة والمعرفة وتمكن هنري كورييل أن يضم عددا كبيرا من المصريين الناقمين على القوي السياسية التقليدية في مقدمتهم الوفد.

وعلى الرغم من أن الحركة المصرية للتحرر الوطني كانت أقوي الحركات التي تشكلت عقب 4 فبراير سنة 1942 إلا أن هناك مجموعة أخري تكونت عقب نفس الحادث وتسمي " منظمة القلعة" حيث قامت على أكتاف ثمانية أشخاص " خمسة من طلاب الذين يدرسون في المدارس الثانوية وطالب أزهري وحرفي " تأثروا بما حدث في 4 فبراير تأثيرا هز وجدان هذه المجموعة هزا عنيفا دفعهم إلى البحث عن اتجاه جديد يخالف الاتجاهات التقليدية .

وبدأت هذه الخلية توسع نشاطها من خلال مجموع الشباب الساخط على الوفد بعد 4 فبراير وحددت برنامجها في المطالبة بالاستقلال الوطني والاستقلال الاقتصادي وعلى ضوء العديد من القراءات في الفكر الاشتراكي فقد تمخض نشاطها عن إقامة تنظيم شيوعي يستند إلى برنامج شفوي ومبادء غير منشورة ولم يكن لهذا التنظيم أجهزة فنية ولا مجلة سرية ورغم ذلك فقد وأصل النمو معتمدا على الأرض الخصبة التي مهددتها أحداث الحرب وإلى جموع الشباب الذي تملكته الحيرة والقلق عقب 4 فبراير.

ثم تمكن التنظيم من أن يضم إليه بعضا من ضباط القوات المسلحة في مقدمتهم " أحمد حمروش " ورويدا رويدا بدأت الحركة تتسع وتجد لها أنصار بين طلاب الجامعات وعدد لا بأس به من العمال .

وعموما فإن عام 1942, 1943 قد شهدا تكون العديد من المنظمات اليسارية في القاهرة والإسكندرية وتاريخ هذه الجماعات ويكتنفه الغموض نظرا لتعقب البوليس لهم مما كان يدفعهم إلى حرق أوراقهم ووثائقهم حتى لا يقعوا تحت طائلة القانون إلا أن أسماء التي تسمت بها هذه الجماعات تشير إلى أن عددها كان أكثر من عشرين جماعة تسمت كل منها باسم خاص وتباينت أسماء الدوريات والنشرات التي كانت تصدرها تبعا لأهداف كلا منها واحتدم الصراع بينها من أجل إقامة حزب شيوعي مصري حقيقي .

وعلى ما يبدو فقد برزت إلى الوجود اتجاهات سياسية احتلت مكانة لا بأس بها وسط العديد من القوي الأخرى وهذه الاتجاهات الجديدة أخذت مواقف متباينة فإذا كان البعض يتحالف مع المحور ضد الانجليز بدعوي الوطنية وإذا كان البعض الآخر يتحالف مع الانجليز ضد المحور بدعوي الديمقراطية فإن الشيوعية المصريين قد رفعوا شعارا مغايرا فهم ضد الفاشية وضد الاحتلال البريطاني لمصر ورفعوا شعارا ضد الفاشية ولكن ليس مع الانجليز , ولم يكن هذا هو التمايز الوحيد ففي مواجهة شعار أجمع عليه كل الساسة وهو وحدة وادي النيل رفع الشيوعيون شعارا " الاستقلال السياسي والاقتصاد والكفاح المشترك مع الشعب السوداني وحقه في تقرير مصيره "

ولعل قوات الاحتلال قد تغاضت عن النشاط الشيوعي في مصر على أمل الاستفادة من تأثيرهم الفكري والسياسي المناهض للفاشية ولأول مرة في تاريخ الانتخابات البرلمانية المصرية ( انتخاب 1944) شهدت البلاد مرشحين يعلنون أنهم يدخلون المعركة الانتخابية ويلصقون على الجدران إعلانات يقولون فيها – انتخبوا المرشح الاشتراكي سيناضل في سبيل الإشتراكية وقد انتشرت هذه الإعلانات في الإسكندرية بصفة خاصة حيث تقدم ثلاثة من العمال إلى الانتخابات تؤيدهم طائفة كبيرة من سكان دوائرهم .

وعلى ضوء هذه الدراسة يمكننا أن نذكر بعض النتائج الهامة :

أولا: لم تكن الحركات الشيوعية في مصر وليدة الحرب العالمية الثانية وإنما ترجع في جذورها إلى العشرينات من هذا القرن إلا أن الحرب العالمية الثانية وما واكبها من تناقضات سياسية واجتماعية واقتصادية تعد أنسب الفترات التي ساعدت على نمو هذا الاتجاه .

ثانيا : أن حادث 4 فبراير سنة 1942 قد ساعد على نمو أكبر الحركات أعمها بسبب الاعتقاد على عنصر الشباب دائما يعد عامل قوة تدفع القوي التي يساندها إلى أخذ مواقف أكثر تطرفا .

ثالثا : أن السياسة البريطانية في مصر تعد المسئول الأول عن تفاقم هذه التنظيمات المصرية الروسية ولما كانت الحركات اليسارية تعلن دائما عن عدائها السافر ضد الفاشية والنازية فلقد كان لهذا وقعا طيبا لدي الدوائر البريطانية .

رابعا : أن ظهور الاتجاهات اليسارية عموما وفي هذه الفترة يعد تعبيرا أكيدا عن وجود خل هائل في كل مناحي الحياة المصرية اقتصادية واجتماعية وسياسية وبشكل مكن هذه الاتجاهات من أن تجد لها واقعا وسط المجتمع المصري .

خامسا : أن مجمل نشاط هذه التنظيمات وما استطاعت أن تقدمه للمجتمع المصري لم يتعد الفكر النظري المنقول عن مؤلفات لينين – وماركس – وستالين – وبعض المنشورات التي لا تخرج أفكارها عن هذه المؤلفات .

سادسا : أن عددا من المنضمين إلى هذه التنظيمات من المصريين المسلمين قد بهرتهم الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ولم يؤمنوا بالفكر المادي حيث دعوا إلى التمسك بتعاليم الإسلام مع اعتناقهم لفكرتي العمل الاجتماعي والاقتصادي إلا أن محاولة التوفيق بين بعض النظريات الماركسية وبين إسلام لم تجد لها واقعا ملموسا بين الغالبية العظمي من المسلمين .

الفصل الخامس : الجيش المصري وحادث 4 فبراير 1942م

الجيش المصري والحرب العالمية الثانية

لقد أصبح الجيش المصري هو حجر الزاوية في قضية الاستقلال وفقا لمعاهدة 1936 والتي نصت صراحة على أن خروج القوات البريطانية من مصر مرهونا ببلوغ الجيش المصري درجة الأهلية اللازمة للدفاع عن قناة السويس ولذا فلقد حرص الوفد على أن تكون هذه القوة الوطنية بعيدا عن سلطة القصر وتحكمه .

ولعل عهد الدفاع الأعلى وهيئة أركان الجيش وبمقتضي هذا القانون فقد أصبح رئيس الوزراء رئيسا لمجلس الدفاع الأعلى ووزيري الحربية والبحرية " نائبان للرئيس " وكل من وزير الأشغال ووزير المالية ووزير المواصلات ووكيل الحربية والبحرية ورئيس هيئة أركان حرب الجيش " أعضاء" ولم تذكر أية إشارة إلى الملك على الرغم من أن المادة 46 من الدستور تقضي بأن الملك هو القائد الأعلى للقوات البرية والبحرية وهو الذي يولي ويعزل الضباط ويعلن الحرب ويعقد الصلح ويبرم المعاهدات ويبلغها إلى البرلمان ولعل هذا الإغفال المتعمد كان له أكثر الأثر على تفاقم الصراع بين القصر والوفد.

ولما كانت معاهدة 1936 قد نصت صراحة على إلغاء كافة القيود الموضوعة على عدد القوات المسلحة المصرية فإن حكومة الوفد حرصا منها على أعداد جيش قوي فقد سعت إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للضباط الجدد وأمكن للوفد ولأول مرة أن يضم إلى الجيش شبابا من أبناء الطبقات الفقيرة وليس من قبيل المصادفة أن يكون في طليعة الأحرار. جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي وغيرهم ممن ينتمون إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة , ولذا فإن هذه السياسة تعد حسنة كبيرة تؤكد صدق الوفد على الارتفاع بتلك القيمة الوطنية الكبيرة حيث سهل نمو التحرك الثوري في صفوف القوات المسلحة وأمكن للجيش ولأول مرة منذ الثورة العرابية بين أن يساهم بقدر كبير في النشاط السياسي لمختلف القوي والاتجاهات والتي تعمل لصالح القضية الوطنية .

وجريا على سياسة أبعاد الجيش عن مؤامرات القصر ودسائسه ولما كان يمين الجيش أولي المسائل التي تحتاج إلى تعديل لأن صيغة اليمين قد وضعت قبل الدستور ولذا فلم تشر إليه حيث تضمن : أقسم بالله أن أكون خادما مخلصا للملك مطيعا لأوامره الكريمة " فرأي الوفد تعديل هذا اليمن بهذه الصيغة : أقسم بالله العظيم وبشرفي العسكري أن أكون مخلصا للوطن ولحضرة صاحب الجلالة وقائد قواتها الأعلى وأن أكون مطيعا الدستور والقوانين الأمة المصرية . الخ.

وعلى ما يبدو فإن الملك فاروق كان على علم بما يهدف إليه الوفد وقد علقت صحيفة " البلاغ " على " يمين الجيش" في محاولة منها للوقيعة بين القصر والوفد فقالت " إن تمام الدستور في اليمين يتضمن إقحام السياسة في واجبات الجيش الذي تقتصر وظيفته فقط على الدفاع والطاعة فيما يصدر إليه من الأوامر وليس من وظائفه إقامة نظام سياسي معين والمحافظة على هذا النظام وحمايته .

ونظرا لأهمية الجيش وحرصا من الملك على أن يبقي تحت أمرته بعيدا عن أى منافسة فقد أعلن فاروق صراحة أنه لن يقبل تعديل اليمين بالشكل الذي رأته الوزارة.

وكان من الصعب على الحكومة أن تتراجع عن موقفها وتمسكت بالمشروع مما دفع فاروق إلى إلغاء الحفل الذي كان معدا لكي يحلف الجيش اليمين في اليوم الثاني لتولي الملك سلطته الدستورية وأن يؤدي وزير الحربية اليمين بالنيابة عن الجيش ولم يعجز فاروق عن توجيه الإهانة إلى الحكومة وذلك بدعوة جميع الضباط العاملين على اختلاف رتبهم إلى حفل شاي بقصر عابدين حيث أعلن بصريح العبارة عدم استغلال الجيش بالسياسة .

وظل هذا الوضع معلقا بين القصر والوفد حتى إقالة حكومة الوفد في نهاية 1937, ولم تستطيع حكومة محمد محمود إلا أن ترضخ لأوامر الملك ن وجودها في الحكم مرتبط بالرضاء الملكي وهكذا بقي يمين الجيش القديم كما هو عليه . وبصدد هذه الأزمة ورغبة من الوفد أن يضمن ولاء الجيش إلى الدستور والذي يعني من وجهة نظرهم – الولاء للوفد – باعتباره حزب الأغلبية فقد حرص النحاس على أن يقوم بالعديد من المحاولات بهدف الاتصال بالجيش لمعرفة هل يقف إلى جانبه في موقفه من السراي .

ولعل من الأمور الجديرة بالملاحظة أن حكومة الوفد حرصا منها على أهمية الجيش فقد عملت على تطويره سواء بزيادة عدده إلى ثلاث فرق قوامها خمسون ألف جندي أو باستخدام كل وسائل الدفاع الحديث أو بإيفاد البعثات العسكري إلى انجلترا بهدف الارتفاع بمستوي الأداء وعلى ما يبدو فإن تلك الآمال الكبيرة قد اصطدمت بالعديد من المؤثرات التي قد أعتقد الوفد أن معاهدة 1936 قد وضعت حد لها وأولي هذه المؤثرات هو القصر الذي لم يعجز عن اتخاذ الوسائل الكفيلة للحد من طموحات الوفد ثم البعثة العسكرية البريطانية التي كانت تمثل عقبة أكيدة في سبيل الارتفاع بمستوي الجيش حيث فرضت شكلا معينا للتسليح وخصوصا بعض الأسلحة التي لم تجد المصانع البريطانية لها أسواقا أخري غير مص أو بوضع نظام معين للتدريب يمثل عقبة أكيدة نحو ارتفاع الجيش سواء من حيث الكيف أو الكم .

ولعل عودة عزيز المصري لكي يشغل منصب مفتش عام الجيش خلفا لسبنكس باشا ( 11 يناير 1938 ) هي محاولة حادة لخروج الجيش المصري من تحت الوصاية البريطانية إلا أن البعثة العسكرية البريطانية كانت تمثل عقبة في سبيل أى محاولة ناجحة ولما كانت الحكومة المصرية قد تعاقدت على شراء سربين من طائرات القتال العسكرية من المصانع البريطانية فإن الحكومة البريطانية قد عادت لتعتذر بحجة أن الحالة الدولية تنذر بالخطر وأن مصانعها لا تستطيع في ذلك الوقت أن تكفي الجيش البريطاني حاجته من الطائرات .

وعندما قرر مجلس الدفاع البدء في وضع الرسومات اللازمة لبناء نواه لأسطول بحري مصري فإن البعثة العسكرية البريطانية قامت بوضع العديد من العقبات في سبيل تحقيق هذه الأمنية الوطنية .

ولعل عزيز المصري قد قدر منذ توليه رئاسة أركان الجيش العقبات التي تضعها البعثة العسكرية البريطانية ولذا فقد طرق الأبواب بما فيها الملك فاروق حيث التمس من جلالته أن يستغل نفوذه كقائد أعلي للجيش في الإسراع نحو إنشاء جيش قوي لأن الحوادث العالمية خطيرة وإذا لم تلعب فيها مصر دورها بجدارة وكفاءة فقدت حقوقها في الاستقلال والعالم لا يقر قيمة الأمم إلا بقيمة جيوشها .

ومن المؤكد أن كل الحكومات المصرية كانت صادقة في عزمها على الارتفاع بمستوي الجيش المصري وعملا بتلك السياسة فلقد أصدر علي ماهر قرارا في 31 أغسطس 1939 بإسناد رئاسة أركان الجيش إلى عزيز المصري ووفقا لرأي بعض المعاصرين فإن هذا القرار كان له أكبر الأثر على معنويات الضباط والجنود كان حافزا كي تتضافر الجهود تحقيق الغاية الوطنية على اعتبار أن عزيز المصري كان يمثل للضباط والجنود رمزا وطنيا كريما إلا أن البعثة العسكرية البريطانية كانت تسكك دائما في نوايا عزيز المصري متهمة إياه بانحيازه نحو ألمانيا نظرا لأنه قد درس الفنون العسكرية في ألمانيا وكان دائم الإعجاب بالعسكرية الألمانية وبمقدرة الألمان الفائقة على إعادة بناء جيشهم فلا عجب أن تمتلئ نفس السفير البريطانية وأعوانه غضبا على عزيز المصري.

وتشير الوثائق البريطانية إلى أن عزيز المصري يمثل عقبة أكيدة في العلاقات البريطانية المصرية وتنصح الحكومة البريطانية بطرده من رئاسة أركان الجيش حتى تتمكن البعثة العسكرية البريطانية من أن تؤدي دورها المنوط بها لأن عزيز المصري دائم النقد لكل ما تقدم البعثة على عمله ولأن إهانة البعثة أمر لا يمكن احتماله , وتشير نفس الوثيقة إلى ما يفهم من أن علي ماهر قد قطع وعدا على نفسه بطرد عزيز المصري إذا سبب نوعا من المصاعب سواء في طريق البعثة العسكرية البريطانية أو مع القوات البريطانية ووفق رأي السفير فإن عزيز المصري يعد أحدي صنائع ألمانيا وهو يمثل أمرا في غاية الخطورة .

والواقع أن هذا الاتهام لا يمثل قدرا من الحقيقة لأن مصر وألمانيا وجدتا نفسيهما تحاربان عدوا واحدا الأمر الذي خلق بالطبع رابطة ما بينهما بل أن بعض الضباط المصريين الذين كانت لهم اتصالات مع ألمانيا لم يكونوا موالين للنازية وإنما كانوا مناهضين للبريطانية وأن بعض الضباط المصريين الذين كانت لهم اتصالات مع ألمانيا لم يكونوا موالين للنازية وإنما كانوا مناهضين للبريطانية وأن بعض الضباط المصريين الذين كانوا يعملون لتحرير بلادهم لم يكونوا جميعا راغبين في العون الألماني فقد كان بعضهم من أمثال جمال عبد الناصر يخشون أنهم بالحماس لهتلر لأن يفعلوا أكثر من أن يستبدلوا المحتل الألماني بالمحتل البريطاني .

وبينما الخلافات قائمة بين البعثة العسكرية البريطانية ورئاسة أركان حرب الجيش المصري كان قائد القوات البريطانية ( جنرال ولسون) حريصا على إقامة علاقات طيبة مع الجيش المصري منه على تجنب أى خلافات مع القوات المصرية فقد اتبع طريقة عقد مؤتمر يومي يحضره بنفسه أو أحد كبار مساعديه مع كبار الضباط المصريين للاتفاق على الإجراءات اللازمة لتحقيق التعاون بين القوتين وبهذه الطريقة تم حل العديد من المشاكل من غير الرجوع إلى البعثة العسكرية أو إلى السفير .

ومن غير شك فإن الجنرال ولسون كان يقدر أهمية التعاون بين الجيش البريطاني والجيش المصري وأهميته على استقرار الأوضاع في الجبهة الداخلية وجريا على هذه السياسة فقد أستن فكرة اشتراك الجيش المصري مع الجيش البريطاني في التدريبات وقيامهما بمناورات مشتركة واشترك الضباط المصريون كأعضاء فخريون في ميس الضباط الانجليز ولعل كل هذه العامل قد قصد بها توثيق صلات التعاون التفاهم بين الجيشين .

ولعل الجنرال ولسون كان يؤمن بمبدأ التعاون مع القوات المصرية اعتقادا منه بأن سياسة اللين والتفاهم من الممكن أن تؤدي إلى تحقيق كل الرغبات البريطانية بلا أى تصادم أو خلافات يؤكد هذا موقفه من حادث 4 فبراير 1942 فقد علم به وهو في سوريا حيث يقول : لقد ذهلت وفزعت لأنني شعرت بأن كافة الجهود التي بذلتها في الأيام الأولي للحرب بهدف إقامة علاقات طيبة مع المصريين وضمان تعاونهم قد تبددت وكان من الممكن أن يكون لهذا الحادث ردود فعل خطيرة داخل الجيش المصري بسبب ما يتمتع به فاروق من شعبية وخصوصا وسط الضباط الشبان الناقمين على الوجود البريطاني في مصر .

ووفقا لهذا المبدأ فقد تمسك ولسون بوجهة نظره السابقة عندما أراد السفير البريطانية أن يعيد ما حدث في 4 فبراير 1942 حينما أراد فاروق أن يقبل وزارة النحاس في أوائل 1942 وكان من رأي وزير الدولة البريطاني المقيم في الشرق الأوسط مستر كايس " النصح بعدم اللجوء إلى القوة خشية تدخل الجيش المصري أو إغضابه وقواته تعاون الحلفاء في منطقة القتال وقال وزير الدولة أن الرأي العام العالمي سوف يفتقد حمايتنا بقوة السلاح لوزارة تحوم حولها الشبهات وأنه يفضل تنحيه الوزارة عن تنحية الملك فاروق .

وعلى الرغم من تلك النصائح إلا أن الحكومة البريطانية قد وافقت على إسداء النصح للملك فاروق على اعتبار أن إخراج النحاس في الوقت الحاضر يعتبر عملا يتعارض مع مصلحة مصر ومصلحة المجهود الحربي فإذا صمم الملك على إقالة الوزارة فإن على السفير البريطانية أن يهدد باستعمال القوة العسكرية .

ورأى القادة العسكريون ضرورة الاستعداد لمواجهة رد الفعل لدي الجيش المصري إذا ما دعا الحال إلى استعمال القوة ضد الملك , فإذا ما اقتصر الأمر على المقاطعة السلبية أو عدم التعاون فإن في استطاعة القوات البريطانية مواجهة الموقف أما إذا تطور الموقف إلى عداء مباشر فإن الأمر يختلف لأنه سوف يتطلب نزع سلاح القوات المصرية المسلحة .

ويبدو أن عزيز المصري رئيس أركان الجيش كان متيقظا لما يدبره الانجليز من محاولات أبعاد الضباط الشبان من الحياة السياسية واعتقادا منه أن الانجليز هم الأعداء الحقيقيون وأن عدة البلاد في التخلص منهم هم الضباط الشبان والجنود فقد اتخذ من السكنات حول القاهرة ومن مراكز الجنود مقرا لعمله وهجر مكتبه المعد له في وزارة الحربية وبدأ يبث روح التضحية والفداء داخل صفوف الضباط الشبان وليس صحيحا أن عزيز المصري قد عمل على إقامة تنظيم داخل الجيش وإنما كانت الكلمة سلاحه اللاذع الذي كان يعتمد عليه حيث انتشرت روح عزيز المصري وكلماته الصريحة في المعسكرات وبين الضباط والجنود وكأنها الكهرباء .

ويتحدث أحد الضباط عن عزيز المصري قائلا .. لقد كان للزيارات التي يقوم بها داخل الوحدات العسكرية أكبر الأثر في نفسي فقد شاهدت بعيني هذه الشخصية الاسطورية التي شاركت في الثورة التركية مع كمال أتاتورك كما كان أحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي وجمعية تحرير الأمة العربية هذا إلى جانب تاريخه الطويل الملئ بالكفاح وولعه بالثقافة والدعوة إليها .

ومن المؤكد أن بريطانيا قد أقلقها تعيين عزيز المصري رئيسا لأركان حرب الجيش بسبب طموحاته ومعلوماته العسكرية ومقدرته الفائقة على تنظيم وإعداد الجيش وهذا ما يتعارض تماما مع استراتيجية بريطانيا في مصر حيث يفقدها احدي حججها الهامة وهي مقدرة مصر على الدفاع عن نفسها وما يترتب على ذلك فقد من جلاء القوات البريطانية عن منطقة قناة السويس وفوق كل ذلك فقد كانت الدوائر البريطانية على علم بالعلاقات الوطيدة التي تربط عزيز المصري بالعديد من الشخصيات الألمانية وما كان يصرح به دائما من إعجابه الشديد بالعسكرية الألمانية ولعل كل هذه العوامل قد جعلت السفير البريطاني يطلب من الملك أبعاد عزيز المصري عن رئاسة أركان الجيش .

وتقوم فلسفة عزيز المصري في بناء الجيش على فكرة المشاركة الشعبية وخصوصا بعد أن تطورت أحوال العالم ولم تعد الجيوش عبارة عن وحدات متفرقة بل ويجب أن تكون الأمة كلها حاملة السلاح ويتعذر على المرء أن يتصور أن الجيش يستطيع أن ينهض في الميدان إلا إذا عبثت قوة الأمة بحيث يؤدي كل عضو في المجتمع دوره على الوجه الأكمل ووفقا للقانون رقم 100 لسنة 1939 فقد أنشئت القوات المرابطة بهدف أعداد مصر المستقلة لحمل رسالتها الجديدة بما يناسب العصر الحاضر وقد يخشي أن تعجز مصر عن القيام بواجب الدفاع عن النفس إذا هي ذهبت مذهب التقليد والنقل دون أن تراعي حالتها المادية وظروفها الاجتماعية والذي انتهي الرأي إليه هو إنشاء قوات مرابطة تكون أولي وظائفها أن تعفي الجيش العامل من كثير من المسئوليات والواجبات المحلية فتزداد بذلك القوة المقاتلة التي يمكن استخدامها في الميدان على أن ذلك ليس من شأنه أن يسقط عن القوات المرابطة ما يجب أن تؤديه من ضريبة الدم فإن عليها واجب النجدة للجيش العامل في الميدان وفوق كل ذلك فقد روعي في تكوينها عاملا في تربية الخلق القوي .

وعلى ما يبدو فإن الدوائر البريطانية قد انزعجت بسبب تلك الطموحات التي يتسم بها عزيز المصري ولعل من أولي مهام البعثة العسكرية البريطانية الحيلولة دون الارتفاع بمستوي الجيش المصري بالرغم من أن وجودها كان بهدف ارتفاع بمستواه ولم تعجز البعثة العسكرية عن وضع العديد من العقبات التي تحول دون انطلاقه عزيز المصري لترقية الجيش ورفع كفاءته ولم تجد السلطات البريطانية ذريعة للنيل من عزيز المصري إلا مسألة الميول الألمانية وهذه حجة الصفات بالعديد من المصريين لا لأن لهم ميولا ألمانية وإنما لأن لهم ميولا عدائيا ضد بريطانيا وبلا شك فإن وقع خروج عزيز المصري من الجيش كان له أكبر الأثر على مشاعر الضباط الصغار الذين كانوا يعلقون آمالا عريضة على شخصية عزيز المصري إلا أنه قد تأكد لديهم أنه لا أمل في أى نوع من الإصلاح طالما بقي الاحتلال متذرعا بحجة او بآخري .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن قرار الحكومة البريطانية بعزل عزيز المصري عن منصب رئيس أركان حرب الجيش قد سبب اضطرابا كبيرا لدي كل الدوائر السياسية والحزبية بل امتد الأثر إلى السودان حيث انتشرت موجة من الاضطراب بين السودانيين الذين ضايقهم عزل عزيز المصري .

ووفقا للوثائق الأمريكية أيضا فإن رئيس الوزراء المصري ( علي ماهر ) قد حاول نقل عزيز المصري لكي يتولي رئاسة الجيش المرابط إلا أن السفير البريطاني قد طلب صراحة أبعاد عزيز المصري عن أى موقع سياسي أو عسكري .

ووفق رواية بعض المؤرخين فإن عزيز المصري لم يكن يعمل لصالح الألمان لكنه كان يعتقد وهذه سذاجة سياسية منه أى الألمان يستطيعون مساعديه في تحرير مصر من الاحتلال البريطاني ويعتقد نفس المؤرخ أن الهدف من محاولة هروب عزيز المصري وصاحباه ( عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين ذو الفقار ) فقد كانت تراوده فكرة إنشاء جيش التحرير على غرار ما فعل ديجول بعد سقوط فرنسا .

ومن الصعب أن نميل إلى هذا الاستنتاج لأن من أولي المهام التي يبدأ بها أى قائد سواء في الأعداد لثورة أو غير ذلك من وسائل الكفاح هو إعداد تنظيم يعهد إليه بالقيام بتلك المهام وليس هناك ما يؤكد أن عزيز المصري كان صاحب تنظيم معين سواء داخل الجيش أو خارجه .

وعلى ما يبدو فإن عزيز المصري – وفق رواية أنور السادات – اتصل بالضباط الأحرار وطلب مساعدتهم لتمكينه من السفر إلى العراق حيث وصلته رسالة من الألمان يطلبون فيها سفرة لمعاونة رشيد علي الكيلاني في ثورته التي قام بها في العراق ضد الاحتلال البريطاني .

ومن المؤكد أن عزيز المصري لم يحاول ان يقوم بأعداد تنظيم سواء داخل الجيش أو خارجه ولعل مرجع ذلك إلى اعتماده على اتصاله المباشر بالضباط وتكرار نصائحه لهم بأعداد أنفسهم ثقافيا وفكريا وما يواكب ذلك من يقظة قومية سوف تؤتي ثمارها حتى ولو على المدي الطويل , وعندما عرض عليه أحد الضباط العمل على رأس لتنظيم أبدي عزيز المصري عدم موافقته قائلا ؟" أول درس أقوله لكم اعتمدوا على أنفسكم ولا تنتظروا أى رائد المبادرة يجب أن تأتي منكم أنتم – نابليون وصل إلى رتبة جنرال وكان زعيما ولعل عزيز المصري كان يعلم جيدا أن عيون الاحتلال ترقب كل خطواته وأن قيامه بإعداد تنظيم من نوع ما سوف يكون مصدر خطر حقيقي على الحركة الوطنية داخل الجيش وإذا اقتصر دوره على النصائح العامة وبث الروح الوطنية لدي الضباط الشبان .

والحقيقة أن موقف الجيش المصري من بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية كان يتسم بنوع من التناقض حيث كان الضباط ذوي الرتب الكبيرة من أعوان الانجليز في جملتهم وكان الانجليز يحسنون الرأي فيهم حيث يشير ولسون ( قائد القوات البريطانية ) بالخدمات الجليلة التي أداها إبراهيم عطا الله ( رئيس أركان حرب الجيش المصري والذي خلف عزيز المصري ) ويري أنه لو لا عطا الله أحدثت أحداث خطيرة وكبيرة داخل الجيش المصري نتيجة حادث 4 فبراير والميجور سانسوم رئيس المخابرات البريطانية يذكر أن حجازي مدير المخابرات العسكرية كان متعاونا مع السلطات البريطانية إلى حد كبير .

أما موقف الضباط الصغار والذين دخلوا الجيش بعد سنة 1936 فقد كانوا بحكم أصولهم الاجتماعية عناصر وطنية شديدة الحماس لقضية وطنهم كارهون للاحتلال ولا يمكن أن غفل تأثير عزيز المصري على هؤلاء الشباب .

وما من شك في أن حادث 4 فبراير في مصر وحركة رشيد علي الكيلاني في العراق يعطيان أكبر الدلالات بالنسبة إلى المستقبل حيث كان يعتقد الانجليز أن مصر والعراق دولتان متحالفتان مع انجلترا ضد دولتي المحور وان القوات البريطانية التي أسقطت ثورة رشيد علي الكيلاني وأرغمت ملك مصر على قبول النحاس رئيسا للوزارة قد ساندت " المخلصين " " ضد الأقليات" " الخائنة" مستهدفة صالح العرب والمصريين الانجليز على قدم المساواة والحقيقة أن العرب بوجه عام والمصرين بوجه خاص قد نظروا إلى هاتين الحادثتين نظرة مخالفة فقد رأوا في الحرب العالمية نضالا بين الاستعماريين يبغي كل منها الاستحواذ على بلادهم واستغلال مواردها وقد وجد في مصر معسكرات يختلف كل منهما عن الآخر حول الوسائل لا الأهداف وكلاهما يبغي تحقيق الاستقلال عن انجلترا على حين أن أحد المعسكرين كان يري أن خير وسيلة لتحقيق هدفه هي التعاون مع انجلترا فغن المعسكر الآخر اختار التعاون مع دولتي المحور وبينما كان جمال عبد الناصر يقوم بحراسة مؤخرة القوات البريطانية في العلمين كان أنور السادات يتخابر لصالح الألمان ضد بريطانيا و لا يمكننا أن نتهم جمال عبد الناصر بأنه يناصر بريطانيا وفي الوقت نفسه فلا يمكن أن نتهم أنور السادات بالعمالة لألمانيا وببساطة شديدة فإن كلا منهما يعتقد أنه يعمل لصالح بلاده .

وعندما تأكد للسلطات البريطانية أن هناك شعورا معاديا ضد الموجود البريطاني يعم الجيش المصري ولما كانت القوات المصرية تقوم بحراسة مؤخرة القوات البريطانية في الصحراء الغربية فقد صدرت الأوامر بانسحاب هذه القوات وتسليم أسلحتها إلى القوات البريطانية ( نوفمبر 1940) إلا أن هذا القرار ووجه بحركة تذمر واستنكار داخل الجيش المصري مما كان سببا في السماح للقوات المصرية بالانسحاب مع الاحتفاظ بأسلحتها .

ولقد راودت الضباط الشبان في ذلك الوقت فكرة القيام بثورة تستولي على طرق المواصلات وقطع كل خطوط الاتصال أمام القوات البريطانية والمطالبة بتسليم علي ماهر زمام الحكم إلا أن تنظيم الضباط لم يكن قد وصل إلى درجة تمكنه من الإقدام على هذه الخطوة حيث كان تجمع الضباط ما يزال في مرحلته الأول وإذا كانت الأهداف الوطنية قد تحددت فإن الزعم الذي يجب أن يجسد تلك الأهداف لم يكن قد ظهر بعد واقتصرت الخطة على جمع الرجال من ذوي الضمائر الحية اعتقادا بأن أى عمل ناجح لابد من أن يبدأ بفكرة ناجحة أيضا .

وتأكدت المخابرات البريطانية أن هناك حركة استياء تعم الضباط لكن لم يكن هناك من الأدلة المادية ما يقوم دليلا على إدانتهم .

ولذا اقتصرت بريطانيا على تنقلات الضباط وتشتيتهم بحيث يصعب إيجاد أى نوع من التفاهم بينهم ولعل هذا الأسلوب لم يقض على الحركة وإنما كان عائقا أدي إلى تأخيرها لسنوات طويلة.

ردود فعل 4 فبراير على الجيش

في جميع الأزمات التي مرت بمصر كانت للحكومة البريطانية تأخذ في الاعتبار موقف الجيش المصري إلى جانب موقف الرأي العام عندما طلبت بريطانيا مصر بإعلان الحرب على دولتي المحور قالت أنها تقدر الأهمية البالغة للقوات المسلحة المصرية وعندما نصحت بتغيير وزارة علي ماهر على أن تجئ الوزارة الجديدة حائزة لولاء الجيش وعند الاستعداد لمحاصرة قصر عابدين يوم 4 فبراير احتفظت السلطات العسكرية بأسرار العملية إلى ساعة الصفر واتخذت جميع الاحتياطات لك لا يقع تصادم بين الجيش المصري والقوات البريطانية .

ولقد كان معظم الضباط يعقدون أمالا كبيرة على حزب الوفد باعتباره الحزب الذي قاد حركة الكفاح الشعبي ضد الاحتلال البريطاني والذي وقف في صلابة وحزم ضد تسلط الملك فؤاد وعبثه بالدستور لكن ذلك الأمل لم يلبث أن خبا عقب أحداث 4 فبراير 1942 حيث أحدثت مظاهرة السفير البريطاني العسكرية ودعايات أحزاب الأقلية أكبر إساءة إلى الوفد وأصبح هذا الحادث نقطة سوداء في تاريخه يطعنه عن طريقها أعداؤه ويلطخون بها صفحة كفاحه ولعل هذا قد أحدث تحولا كبيرا في مشاعر الضباط أدي إلى التفافهم حول الملك الذي نجح وقتئذ في الظهور بصورة البطل المناضل الذي جابه وحده سطوة الاحتلال علاوة على ما أحس به الضباط من شعور بالمهانة حيث اعتبروا عدوان على شرفهم العسكري ولذا كانت النتيجة الحتمية هي ابتعاد الجيش عن الوفد .

ويمكن معرفة انعكاسات 4 فبراير على صفوف الضباط الصغار من خلال مراسلات جمال عبد الناصر في هذه الفترة , وعقب وقوع الحادث كتب إلى أحد أصدقائه قائلا ؟ أني أشعر بخزي وعار شديدين لأن جيشنا سكت على هذا الاعتداء وارتضاء ولكني مسرور على كل حال لأن ضباطنا كانوا يشغلون وقت ذراعهم بالحديث عن المتع والسهرات ولكنهم بدوا يتحدثون عن الانتقام والثأر ولو أن الانجليز قد أحسوا أن بعض المصريين ينون التضحية ويقابلون القوة بالقوة لانسحبوا كأى امرأة من العاهرات .

ومن المؤكد أن الانتقام والثأر الذي كان يعنيهما جمال عبد الناصر لم يكونا من أجل فاروق بل من أجل مصر على اعتبار أن الاعتداء على ملك مصر يعد اعتداء على السيادة المصرية ويلاحظ أن هذا المعني لم يكن خافيا على السفير البريطاني والذي كتب إلى حكومته يوم 10 فبراير قائلا : أبلغني الجنرال ستون قائد القوات البريطانية في القاهرة أن حادث 4 فبراير قد أحدث قدرا كبيرا من الاستياء في الجيش المصري لأن الاعتقاد السائد لدي الضباط أن ثمة إهانة لحقت بمصر عن طريق فرض القوة على الملك .

ويبدو أن السلطات البريطانية كانت تقدر موقف الجيش المصري وهو ينشر ليس فقط في قطع الاتصال بين سكنات الجيش المصري في ألماظة وبين قصر عابدين بل كذلك في تحديد الأسلوب والتوقيت لعملية محاصرة قصر عابدين فمن الواضح إن السلطات البريطانية في القاهرة كانت تري أهمية قصوي في إتمام العملية بسرعة وبشكل مباغت ومن المؤكد أنه روعي عدم الاصطدام بالجيش ولعل هذا ه الذي تطلب أن تكون العملية على كل هذا القدر من السرية إلى جانب السرعة والمباغتة . لكن جانبا هاما من العملية كان الخوف من تحرك الجيش المصري الذي سيلازمه بالضرورة ثورة وطنية شعبية قد يضطر الانجليز إزاءها ليس فقط إلى ضرب حركة الجيش المصري بل إلى اعتبار مصر أرضا محتلة الأمر الذي سيغير تماما من استراتيجية القوات البريطانية في المنطقة ويضاعف من مشاكلها .

وفي الوقت الذي بدأ فيه الضباط يتناقلون فيما بينهم أحداث هذا اليوم وبناء على أوامر الحكم العسكري العام امتنعت كل الصحف عن نشر ما يشير إلى هذا الحادث ولو من بعيد إلا أن صحيفة المانشتر جارديان كتبت تقول : أن الضباط الشبان يعتقدون أن ما حدث كان امتهانا لكرامتهم ولعزتهم الوطنية ونصحت الصحيفة الحكومة البريطانية بأن تعالج الموقف بسعة صدر وبروح جديدة يتفقان مع مقتضيات التحول الجديد في الأفكار المصرية .

ولعل من الملاحظ أن الأمر لم يقتصر على مجرد أحاديث يتناقلها الضباط بل تخطي الغضب مرحلة الإحساس إلى الأقدام على خطوات عملية حيث تقدم الضباط محمد نجيب ( أول رئيس الجمهورية ) باستقالته من الجيش بالرغم من علاقته الوطيدة بحزب الوفد حيث ذكر في استقالته حيث أني لم أستطع أن أحمي مليكي وقت الخطر فإني لا خجل من ارتداء بذلتي العسكرية والسير بها بين المواطنين ولذا أقدم استقالتي.

وتحت ضغط الملك فاروق ونزولا على راي العديد من الضباط اضطر محمد نجيب إلى سحب استقالته .

ووفقا للمصادر قريبة الصلة بالقصر فقد توجه وفد من ضباط القوات المسلحة إلى قصر عابدين عقب وقوع الحادث وقابلوا رئيس الديوان ( حسنين باشا ) وأعربوا له عن استعدادهم للثأر من المسئولين عن محاصرة القصر بالدبابات وقد أثناهم رئيس الديوان عما يفكرون فيه وناشدهم الهدوء وقد قدر الملك هذا الشعور ولذا فقد حرص على أن يمضي يوم 4 فبراير من كل عام مع الضباط في ناديهم .

وتشير الوثائق الأمريكية وفقا لمصادرها الخاصة داخل الجيش إلى أن نتائج 4 فبراير قد أحدثت ردود فعل متباينة فبينما يري الضباط الكبار أن القضية تقتضي قدرا من التعقل في معالجتها إلا أن الضباط الصغار يحسون بمرارة شديدة ويعقدون العديد من الاجتماعات السرية داخل الوحدات وهو أمر يعد غاية في الخطورة .

وبلا شك فقد كان تأثير هذا الحادث على المصريين عموما وعلى الضباط على وجه الخصوص ساحقا ووفق العديد من الروايات فإن هذا الحادث كان له تأثير الكهرباء وسط الضباط حيث قرر أحدهم ( جمال عبد الناصر ) ألا تتجرع مصر كأس الذل مرة أخري بهذه الطريقة , ويرجع البعض بداية حركة الضباط الأحرار كحركة متكاملة إلى اللحظة التي سددت فيها أول دبابة بريطانية مدفعها إلى قصر عابدين فلم يعد للضباط من حديث سوي الحرية وكرامة بلادهم المطعونة وبدأ عبد الناصر يخطط الثورة 23 يوليو .

وتكاد تجمع الآراء على أن ما حدث في 4 فبراير كان هو الدافع الأقوى إلى تحريك الثورة الوطنية داخل الجيش وبدأ قيام التنظيمات السرية بين الضباط والتي كان من بينها تنظيم الضباط الأحرار كما أن هذا الحادث يعد أقوي ضربة وقعت على رأس حزب الأغلبية الشعبية وكان فقدان حزب الوفد لقوته وسلطاته الوطنية وزعامته الشعبية أكبر الثر في اهتزاز النظام السياسي الذي كان يحكم مصر.

وأخذ الضباط يبحثون عن منفذ يمارسون من خلاله نشاطهم الوطني بعد أن فقدوا كل أمل في الأحزاب التقليدية التي اهترأت بسبب خلافاتها المستمرة وصراعها على الحكم ووجد الضباط ضالتهم في الجماعات الجديدة والتي بدأت تأخذ لها موقعا على مسرح السياسة المصرية والتي كانت وقتئذ تحاول اجتذاب الجماهير بمبادئها المتطرفة سواء اليمينية أو اليسارية ولعل أشد الدعوات نجاحا في اجتذاب الضباط هي جماعة الإخوان المسلمين فإنها بتنظيمها الهرمي الذي يقف المرشد العام على قمته وبجناحها العسكري الذي يضم العسكريين وبجهازها السري للقيام بالعمليات الخاصة كل هذا وجد فيه الضباط شيئا غير بعيد عن النظام العسكري الذي اعتادوه علاوة على أن الشيخ البنا كانت لديه مقدرة فائقة على اجتذاب الجماهير وعلى ضم الضباط إلى الجماعة من خلال أحاديثه عن علاقة الدين بالوطن وكان في مقدمة من انضم من الضباط إلى الجماعة ثمانية من أعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار وهم جمال عبد الناصر عبد المنعم عبد الرؤوف عبد الحكيم عامر كمال الدين حسين عبد اللطيف البغدادي حسن إبراهيم خالد محيي الدين صلاح سالم .

ومن المؤكد أن مجموعة الضباط قد اكتسبت خبرة وأصبحت أكثر مقدرة على مزاولة نشاطها بعد لقائها بالشيخ البنا حيث قدمت لجنة الجنود الأحرار بالجيش ولأول مرة تقريرا إلى الملك ( ديسمبر 1942 ) يعبر عن مدي تأثرهم بفساد الحياة الاجتماعية والأخلاقية ومن ثورتهم على انتهاك الجنود البريطانيين لحرمة الفتاة المصرية بما يتناقص تماما مع الشريعة الإسلامية وطالبت اللجنة بعدة مطالب كان من بينها :

أولا: بث الروح الوطنية بين أفراد الجيش المصري ضد المحتل البريطاني .

ثانيا: مقابلة الاعتداء بالاعتداء عملا بالآية الكريمة " ومن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم ".

ثالثا: القبض على أى فتاة مصرية تسير مع أى جندي بريطاني .

رابعا : إلغاء معاهدة 1936 باعتبارها أساس كل الشرور التي لحقت بالوطن .

وعلى الرغم من أن علاقة الضباط بالشيخ حسن البنا قد سبقت أحداث 4 فبراير إلا أن هذا الحادث قد ضاعف من سخط الضباط على البريطانيين وزاد من حماستهم للثورة ودفعهم إلى أن يعرضوا على الشيخ حسن البنا خطة ترمي إلى إبادة الجيش البريطاني العائد من العلمين إلا أن حسن البنا لم يكن يملك القوة الكافية لتنفيذ الخطة وقد يكون هذا من بين الأسباب التي دفعت الضباط إلى الاعتماد على أنفسهم بعيدا عن أى قوة أخر .

ولم يقتصر عمل الضباط على محاولة التنسيق مع الإخوان المسلمين وإنما كانت في مظاهرتهم التي قاموا بها قصر عابدين يوم 11 فبراير 1942 أكبر دليل على رفضهم واستناركهم لما حدث حيث تجمع الضباط والجنود وساروا إلى قصر عابدين وهم يهتفون بحياة الملك والوطن .

واجتمعت الجمعية العمومة للضباط بناديهم في الزمالك ليتشاورا في الأمر وليقرروا ماذا يفعلون إزاء تلك الأهانة التي لحقت بالوطن وأسفرت مناقشتهم عن التوجه لسراي عابدين وتسجل أسمائهم في سجل التشرفات إثباتا لولائهم للملك وتعبيرا عن مساندتهم له . وفي أثناء الاجتماع تقدم عبد اللطيف البغدادي باقتراح عمل خلايا سرية من ضباط الجيش تكون مهمتها قتل كل سياسي ينحرف أو يخون البلاد ويعترف – البغدادي – بأنه كان متأثرا بما قرأه عن مثل تلك التنظيمات السرية التي كانت موجودة داخل الجيش الياباني في ذلك الوقت ولكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض الشديد من الضباط ذوي الرتب الكبيرة ومن المؤكد أن هذا الموقف من البغدادي لم يكن ينم عن إدراك سياسي كامل لأن الإعلان عن قيام تنظيم تقتصر مهمته على الاغتيالات السياسية أمر من السهل القضاء عليه لأن مثل هذه الأعمال تقتضي قدرا كبيرا من السرية ودقة كاملة في التخطيط ولذا فإن رفض الضباط الكبار لهذا الاقتراح يتسم بقدر كبير من التعقل .

ويمكننا القول .. أن حادث 4 فبراير قد أثار حالة من الغليان الشديد داخل الجيش المصري وتشير الوثائق البريطانية إلى : أن عددا كبيرا من الضباط قد أخذوا مسألة 4 فبراير على أنها إهانة خطيرة لحقت بالكرامة المصرية وبدت العديد من التجمعات داخل الجيش بهدف القيام بمظاهرة معادية للسفارة البريطانية إلا أن كبار الضباط قد استطاعوا السيطرة على الموقف وقرر – حمدي سيف النصر – نقل بعض الضباط الصغار من القاهرة إلى بعض الأماكن النائية .

وتشير الوثائق البريطانية أيضا غلى زعماء تلك الاضطرابات وهو للقائمقام عقيد أحمد فؤاد صادق ( قائد الجيش المصري في حرب فلسطين ) والثاني الاميرالاى محمد كامل الرحماني أول مدير للإذاعة بعد الثورة والثالث هو الأميرالاي حمدي طاهر . ويبدو القلق واضحا من خلال ما كتبه العسكريون البريطانيون ووفق ما ذكره لورد ويلسون أن ردود الفعل التي أعقبت حادث 4 فبراير تؤكد أن أوضاعنا العسكرية تتعرض لمخاطر أكيدة ولابد من معالجة الموقف بأسرع ما يمكن .

ولعل هذا الإحساس قد تملك الدوائر الأمريكية في القاهرة حيث يشير السفير في احدي رسائله إلى حكومته قائلا: لقد أسديت نصيحتي في سرية السفير البريطانية بأن هناك معلومات مؤكدة تشير إلى وجود مخطط داخل الجيش بهدف أحداث نشاطات تدميرية ضد الحلفاء وأن هذا الموقف جاء ردا على سياسة بريطانيا التي طالما حذرنا منها في 4 فبراير 1942 .

وهكذا كان حادث 4 فبراير سببا كافيا لنمو المشاعر الثورية داخل الجيش وكان بداية انهيار الشعبية الكاسحة التي يتمتع بها حزب الوفد والذي كان يعد أمل الأمة المصرية في نظر الكثير من الضباط ولذا فإنني أميل إلى الرأي القائل بأن بداية التكوين الفعلي لحركة الضباط الأحرار كان عقب 4 فبراير 1942 حيث بدأ عبد الناصر يضع أول الخطوات الجادة نحو أبراز التنظيم إلى واقع عملي ولم تخدعه الوعود الكاذبة التي كانت تطلقها بريطانيا من حين لآخر من أن مصر ستحصل على استقلالها عقب انتصار الحلفاء .

وتنبه الضباط الذين كانوا قبل عام 1943 يعتمدون على ألمانيا لطرد انجلترا من مصر إلى أن قوة انجلترا ستظل قائمة بعد الحرب بفضل أمريكا وبينما هب السياسة المصريون إلى نجدة الحلفاء وراحوا يطالبون بالاستقلال التام مكافأة لتعاونهم لم يستسلم العسكريون لتلك الوعود وإنما بدأوا يعدون أنفسهم لتولي مقاليد البلاد بعد أن اعترت أمامهم كل الأحزاب السياسية وراحت تتنافس وتتناحر ليس من أجل الوطن وإنما خدمة وتملقا للمحتل .

وبصدد الحديث عن 4 فبراير والجيش يتحدث جمال عبد الناصر فيقول عقب 4 فبراير 1942 كان علينا أن نعمل عملا وطنيا وذهبنا إلى عزيز المصري وكان معي كمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر وطلبنا منه النصيحة ... فقال الثورة ومن هنا كان الأمل الذي صممنا عليه وتعاهدنا على المضي من أجله إلى آخر الطريق .

ولما كان الاستياء موجها إلى الوفد والانجليز معا فقد قام النحاس بأكبر حركة اعتقالات داخل الجيش وصفتها تقارير السفير الأمريكي بأنها محاولة من الوفد لإحداث حالة من " التخويف " داخل القوات المسلحة المصرية .

ويبدو أن بعض الضباط قد خرجوا على التقاليد العسكرية المتبعة لدرجة أن الأميرالاي أحمد فؤاد صادق قد تقدم بعريضة اتهام ضد وزير الدفاع ( حمدي سيف النصر ) متهما إياه بما يأتي :

أولا : لقد حرصت جميع الحكومات على إبعاد الجيش عن السياسة وعدم الزج به في الحزبية ولكن سياسة وزير الدفاع دفعت بصولات الجيش إلى دخول النادي السعدي والتحدث في السياسة بما أعزي ضباط الصف بالتمادي في هذا السبيل .

ثانيا : أن الحكومة قد استطاعت استقطاب بعض الضباط ضعاف النفوس وقربتهم ومنحتهم الامتيازات والعلاوات بالرغم من أنهم أقل كفاءة من زملائهم لا لشئ إلا بهدف الزج بالجيش في السياسة .

ثالثا: لقد جرت التقاليد على عدم نقل كبار الضباط الحائزين على رتبة اللواء إلا بعد موافقة القصر ولكن حمدي سيف النصر نقل محمد زكي الحكيم مدير الحدود وعلي حسنين الشريف مدير القرعة كلا منهما مكان الآخر دون الرجوع إلى القصر.

رابعا : لقد عرض على الوزير كشفا بأسماء طائفة من الضباط طلب الانعام عليهم بنياشين بمناسبة عيد جلوس الملك ( يوليو 1942 ) ولكن الوزير اعترض على بعض الأسماء وانتهي الأمر بحرمان الجيش من عطف الملك .

خامسا : انتدب الوزير نجله " فوادي حمدي " للخدمة في إدارة الجيش على أن يظل في مركزه بسلاح الفرسان الملكي والغرض من ذلك هو الحصول على علاوة انتداب .

ولعل حكومة النحاس في محاولة منها لتهدئة المشاعر الثائرة داخل الجيش قد وقعت في العديد من الأخطاء التي ضاعفت من حركة الاضطراب في صفوف القوات المسلحة ووفق المصادر البريطانية فإن القصر كان وراء حركة التذمر في صفوف الجيش وأن حكومة الوفد لم تستطيع السيطرة الكاملة على الجيش ومن المؤكد أن القصر وراء كل هذه الاضطرابات وأن الضباط أحمد فؤاد صادق لا يستطيع أن يستمر في حملته بدون مساندة القصر .

ومن المؤكد أن النحاس باشا كان أشد ما يخشاه هو حدوث ردود فعل داخل الجيش تؤدي إلى تقلص شعبيته وبدلا من أن يعالج الموقف بأعصاب هادئة ألا أنه قد أقدم على اعتقال الضابط صاحب عريضة الاتهام ( أحمد فؤاد صادق ) والبكباشي " محمد كامل الرحماني " وبالرغم من أن الأول قد ساءت حالته الصحية لدرجة كبيرة وحدث له تسمم في الدم مما دفع الدكتور هيكل إلى أن يثير قضيته في مجلس الشيوخ إلا أن النحاس قد انبري بدافع قائلا : أن حالة الضباط على خير ما يرام وليس هناك ما يستحق الاستجواب وذلك في الوقت الذي قرر فيه الأطباء أن حالة المريض خطيرة ويجب نقله فورا من معتقل المنيا إلى القاهرة للعلاج ولما كان الدكتور هيكل يحتفظ بصورة قرار الأطباء فقد ذهب إلى الحاكم العسكري " النحاس باشا " وقال له : " لولا أنني أخشي تعريض حياة الضابط للخطر بإضافة الوقت لأريت المجلس ما تحت يدي من المستندات الرسمية التي تنفي تصريحك هذا فاستمهله النحاس حتى ينقل المريض إلى المستشفي بالقاهرة ولكنه نقله بمستشفي الأحداث بالجيزة حيث بقي بها تسعة أشهر .

ولما أراد الضابط أن يكتب برقية تهنئة إلى الملك بمناسبة عيد جلوسه رفضت الحكومة وبقي فؤاد صادق في الاعتقال ثلاث عشر شهرا دون أن يصرف له ما يستحقه من المعاش مما اضطره إلى كتابة برقية إلى الحاكم العسكري يقول فيها عندما اعتقل رفعتكم في سيشل كان الانجليز يصرفون لك ماهية شهرية للإنفاق على نفسك وأسرتك فأرجوا أن تعاملني كما كان يعاملك الانجليز أو أن تعاملني كما تعامل أحمد حسين الذي تسكنه هو وعائلته في منزله وتنفق عليه .

وبقي هذان الضابطان مدة اعتقالهما ( 23 شهرا ) لا يصرفان مليما واحدا ومرض محمد كامل الرحماني أيضا وبدلا من أن ينتقل إلى المستشفي أنول في معتقل الزيتون حيث بقي شهرين ثم اضرب عن الطعام والشراب حتى أوشك علي الموت فنقلوه إلى مستشفي صيدناوي ليعال وإذا كان هناك من ينفي عن النحاس مسئوليته في 4 فبراير بحجة أنه لم يكن يعلم بنية الانجليز فإن الإجراءات التعسفية التي لحقت ببعض ضباط القوات المسلحة المصرية من جراء سياسة النحاس تعد خطأ لا يغتفر . وفي الوقت الذي أقدمت عله حكومة 4 فبراير من اعتقال كل من تحوم حوله الشبهات من ضباط الجيش فقد أصدر الحاكم العسكري العام عفوا عن عزيز المصري وصاحباه – عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين ذو الفقار – ولعل القصد من وراء هذا العفو كان ترضية الضباط لما كان يتمتع به عزيز المصري من شعبة واسعة وسط ضباط الجيش ومع أن هذا الإجراء قد استقبلته الجماهير استقبالا طيبا إلا أنه افتقد إلى الشرعية حيث كانت إجراءات المحاكمة ما تزال مستمرة ولذا فقد كان هذا الإجراء موضع تساؤل داخل البرلمان وانبري النحاس مفندا أمر العفو العام بحجة أن المحاكمة التي طالت شهورا قبل أن تبدأ في صميم التهمة والتي كانت مسرحا لكثير من المناورات السياسية التيلبست ثوب القانون , وأن تلك المحاكمة قد شغلت الرأي العام أمدا طويلا وسياسة الوفد هي تهدئة المشاعر من هنا كان قرار العفو العام أما عن الاضطرابات التي وقعت في سلاح الطيران عقب فبراير فيؤكد النحاس باشا عدم وجود أى نوع من العلاقة بينها وبين موضوع عزيز المصري وإنما أرجع هذه الاضطرابات إلى عوامل متصلة بالجاسوسية الألمانية وقت أن اشتد ضغط قوات المحور حتى وصلت إلى العلمين في يوليه 1942 . فلقد اعتقد هؤلاء أن المغيرين على الأبواب فأرادوا أن يثبتوا وجودهم فكان أن وقع حادث الضابط الطيار ( 7 يوليه 1942 ) وحادث زميله " الصول " الطيار ( 8 يوليه 1942 ) أى بعد وصول قوات المحور إلى العلمين بأسبوع واحد ويؤكد النحاس أن لدي المحكمة من المعلومات ما يدل على أن الصول الذي هرب بطائرته كان يعمل لحساب المحور وقد عثر على طائرته بمرسى مطروح .

ووفق مضابط مجلس النواب فقد تقدم النائب عبد السلام الشاذلي بعدة استجوابات :

أولا : موقف الحكومة من الاضطرابات التي وقعت داخل سرح الطيران .

ثانيا : اضطهاد الحكومة لضابطين من أكفأ الضباط – فؤاد صادق – كامل الرحماني – وفصلهما ثم اعتقالهما بلا تحقيق بسبب ما أقدما عليه الضابطان من التقدم بشكوي إلى رئيس الحكومة . والغريب أن النحاس قد دافع عن سياسة الحكومة تجاه الجيش مؤكدا حرص الحكومة على أن يظل الجيش فوق الخصومات السياسية ويشير النحاس من طرف خفي إلى وجود علاقة بين هذين الضابطين وبين القصر ( وأن لم يعلن هذا صراحة) .

وإذا كان هناك من ينفي عن النحاس مسئوليته في 4 فبراير بحجة أنه لم يكن يعلم بنية الانجليز فإن الإجراءات التعسفية التي لحقت ببعض ضباط القوات المسلحة المصرية من جراء سياسة النحاس تعد خطأ لا يغتفر وفي الوقت الذي أقدمت عليه حكومة 4 فبراير من اعتقال كل من تحوم حوله الشبهات من ضباط الجيش فقد أصدر الحاكم العسكري العام عفوا من عزيز المصري وصاحباه – عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين ذو الفقار – ولعل القصد من وراء هذا العفو كان ترضية الضباط لما كان .

ومما يدل على موقف الجيش المصري من أحداث 4 فبراير ما نشر في الأهرام ( 7 فبراير 1942) وهو كما يلي : " لقد تأجلت الحفلة التي كانت ستقام اليوم في نادي ضباط الجيش بالزمالك لتوديع الجنرال ستون إلى موعد سيعين فيما بعد ولم تقم الحفلة ولعل فيما حدث في 4 فبراير كان من أهم العوامل التي دفعت حركة الضباط إلى التنسيق مع المخابرات الألمانية حيث أرسل الألمان أحد جواسيسهم إلى القاهرة ورأت لجنة الضباط الأحرار تكليف أنور السادات وحسين عزت بالاتصال بالجاسوس الألماني .

ولعل الضباط قد راودتهم فكرة القيام بحركة عسكرية بهدف الانقضاض على القوات البريطانية العائدة من العلمين وخصوصا وأن الهزائم المتتالية التي أنت تلحقها قوات المحور بالحلفاء على الجبهة الغربية في هذا الوقت شجعت الضباط على التفكير فيما هو أبعد من ذلك وهو إسقاط حكومة النحاس والمجئ بعلي ماهر رئيسا للحكومة .

ويبدو أن الهزائم المتكررة لقوات الحلفاء قد فتحت باب الأمل أمام الضباط للقيام بحركتهم وخصوصا عندما سقط شطر كبير من الشرق الأقصى في أيدي اليابان وكان الموقف في الصحراء الغربية غاية في التدهور حيث أخذ روميل يتقدم في الأراضي المصرية وأخذت القيادة البريطانية تعد العدة للجلاء عن مصر وقامت بحرق أوراقها ووثائقها العسكرية وطلب السفير البريطاني من الحكومة المصرة الاستعداد لمغادرة البلاد في أى وقت .

ومن المؤكد أن الضباط أرادوا أن يستغلوا تدهور الأوضاع العسكرية لصالح القضية الوطنية إلا أن عبد الناصر كان مترددا خشية أن يستبدل المحتل الألماني بالمحتل البريطاني ووفق التنسيق القائم بين الضباط والإخوان المسلمين فقد ذهب أنور السادات إلى حسن البنا وأفضي إليه أن ساعة الصفر قد حانت وأن الضباط قد تدارسوا الموقف بالتنسيق مع الألمان إلا أن حسن البنا قد تردد في الأمر ثم قرر الانتظار لأن الحرب لم تحسم بعد.

وعلى ما يبدو فإن ساعة الصفر كانت وقت دخول الألمان الإسكندرية وبما أن هذا لم يحدث فقد بدأ الضباط يتدارسون الموقف على ضوء التطورات الجديدة والتي بدأت تشير إلى تغيير الموقف العسكري لصالح الحلفاء وعلى ضوء كل ما ذكرنا يمكننا أن نستخلص بعض النتائج :

أولا : أن حادث 4 فبراير قد أيقظ الشعور الوطني لدي الغالبية العظمي من الشعب المصري .

ثانيا : أن حالة الغضب التي شملت الضباط لم تكن بسبب الإهانة التي لحقت بشخص الملك وإنما لأن الملك هو رمز الأمة وإهانته تعد إهانة لمصر كلها .

ثالثا : أن حادث 4 فبراير يعد البداية العملية لتنظيم الضباط الأحرار .

رابعا : لقد حاول الضباط التعاون مع كل القوي المعادية لبريطانية سواء الداخلية منها أو الخارجية " ألمانيا "

خامسا : لقد كان هذا الحادث نهاية الشعبية التي كان يتمتع بها الوفد داخل الجيش .

حركة الضباط الأحرار

إن التاريخ لحركة الضباط الأحرار من المسائل التي تبدو في غاية الصعوبة نظرا لعدم توفر لوثائق الرسمية التي تمكن الباحث من الوصول إلى الحقيقة من أقصر الطرق ومما يزيد الأمر تعقيدا تضارب العديد من روايات المعاصرين بما فيهم أعضاء حركة الضباط الأحرار إلا أن هذا التضارب والاختلاف في الروايات لن يثنينا عن غايتنا إيمانا منا بأن القضايا كلما افترقت الآراء والمذاهب حولها كلما بدت مهمة الباحث أكثر أهمية وعلى ضوء هذا الاعتبار تبدو أهمية العودة إلى معاهدة 1936 باعتبارها حدا فاصلا في تاريخ الجيش المصري حيث أتيحت الفرصة ولأول مرة أمام الطبقات المتوسطة والفقيرة للالتحاق بالكلية الحربية وشاءت الظروف أن ترسل مجموعة من الضباط بعد تخرجها سنة 1938 إلى معسكر منقباد" في صعيد مصر "

ولعلها كانت فرصة ثمينة لكي يتحدثون ويتناقشون فيما بينهم حول اضطراب الحالة السياسية في منقباد وضعت اللبنة الأولي في تنظيم الضباط حيث تعاهدوا ( جمال عبد الناصر وأنور السادات وزكريا محيي الدين ) على العمل من أجل خلاص مصر من السيطرة البريطانية .

وفي الوقت الذي كانت فيه مصر تعج بالألوف الحاشدة من جنود بريطانيا ومستعمراتها من شتي الملل والألوان الوافدون من مختلف أنحاء الإمبراطورية تعرض الجيش المصري لأبشع الإهانات من الجنود السكارى الذين كانوا يرتكبون الفظائع كل يوم في شوارع القاهرة والإسكندرية كان الضباط الشبان يشاهدون هذه المناظر الأليمة ويرون بأعينهم اعتداءات الجنود البريطانيين على الأهالي وهم يمادون يتمزقون من الغيظ والغضب ولم يكن هذا هو مصدر المهم الوحيد وإنما كانوا يعانون داخل الجيش منم السيطرة البريطانية ممثلة في البعثة العسكرية البريطانية وعلى الرغم من أن قيادة الجيش المصري كانت قد تمصرت عقب معاهد 1936 وتخلص الجيش من السردار الانجليزي إلا أن السياسة البريطانية لم تتخل عن قبضتها الحديدية على الجيش من خلال البعثة العسكرية التي كانت تعمل في الظاهر على تطوير الجيش وتحديثه بينما كان هدفها الحقيقي هو العمل على إضعاف هذا الجيش والحيلولة دون تقدمه فقد كان بقاء الجيش البريطانية في مصر رهنا بعدم مقدرة الجيش المصري على حماية قناة السويس .

ولعل كل هذه المؤثرات قد دفعت الضباط الشبان كي يتجهوا إلى العمل السياسي بهدف تحرير مصر من الاحتلال كان هو الأساس الذي تركزت عليه أفكار الضباط الوطنيين بعد أن تأكد لهم عمليا أن معاهدة 1936 لن تؤد إلى الاستقلال الحقيقي .

وإذا كانت الأسس التي تجمع من حولها الضباط كانت كفيلة بتعميق المفهوم القومي والوطني لديهم انطلاقا لتنظيم أنفسهم إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بأن اللقاءات والمناقشات التي دارت في منقب تعد البداية العملية للحركة وإنما على ما نعتقد كانت " اللبنة" الأولي في وضع الأساس لأنه من البديهات أن كل الأعمال العظيمة تبدأ بفكرة وهكذا كان تواجد بعض الضباط الشبان في منقباد هو بداية الفكرة وانطلاقا من الفكرة التي وضعت تحت سفح جبل الشريف في منقباد كان على الأعضاء أن ينتشروا بأفكارهم ليس فقط داخل القوات المسلحة وإنما محاولة التنسيق مع القوي الدينية والسياسية خارج القوات المسلحة.

وحينما طلب عبد الناصر نقله إلى السودان بالكتيبة الثالثة مشاة كان يريد دراسة أحوال السودان الذي يحكمه حاكم انجليزي يمثل الحكم الثنائي ( الانجليزي المصري ) بالإضافة إلى العمل على نشر أفكار الجماعة واجتذاب بعض الضباط الناقمين على الاحتلال .

وفي السودان قضي جمال عبد الناصر ثلاث سنوات عاد بعدها إلى مصر ليواصل نشاطه وسرعان ما أخذت حركة الضباط تتسع داخل الجيش وتضم إلى صفوفها العناصر المخلصة الساخطة على الأوضاع السياسية الفاسدة وعلى قيادة الجيش المتعاونة مع قوات الاحتلال .

ونحن بصدد الحديث عن بداية حركة الضباط يجدر عدم إغفال ذكر عزيز المصري حيث كان تعيينه في منصب رئيس أركان حرب الجيش حافزا قويا لدي الضباط الشبان كي يضاعفوا من نشاطهم بالرغم من عدم وجود علاقة بينه وبين التنظيم إلا أن أحاديثه مع الضباط والمرارة الشديدة التي كان يكنها للمحتل ونصائحه المتكررة باعتماد الضباط على أنفسهم وضرورة مواكبتهم للعلوم العسكرية المعاصرة كل هذه المعاني كانت حافزا قويا أمام الضباط.

وعلى الرغم من أن الأستاذ فتحي رضوان ( بحكم صلته الوثيقة بعزيز المصري ) ينفير قيام علاقة رسمية بين تنظيم الضباط وعزيز المصري إلا أنه يؤكد أن دوره كان دور الملهم قد كانت أحاديثه مع الضباط عما فعله في تركيا وفي تبنية للحركة العربية ودعوته الدائمة للمزيد من الثقافة والمعرفة كل هذه المعاني دفعت الشباب إلى الإقدام على الأعمال الوطنية حيث قوي فيهم روح المغامرة فقد كان يحظي بحب الضباط وكانوا يعتبرونه رمزا للوطنية وهو من هذه الناحية يعد صاحب البذرة الأولي في الثورة فقد كان دائم الحديث معهم عن المهانة التي يلحقها الاحتلال بالوطن وكان ينزع الخوف من قلوبهم .

وكما تعلق الضباط الشبان بعزيز المصري وهو على رأس الجيش بحماسته ووطنيته كان أبعاده عن الجيش سنة 1940 عن طر يق الانجليز سببا في أن يزداد ارتباط الضباط بشخصه وتعلقهم بأفكار وسرعان ما أخذوا يسعون إليه فرادي وجماعات يستمعون إليه وهو يحدثهم عن أنفسهم باعتبارهم الوسيلة الوحيدة لخلاص مصر .

وعلى ما يبدو فإن هذا التنظيم بقي حتى سنة 1942 مفتقدا إلى الهيكل التنظيمي وكل ما حدث أن جماعة من الضباط تجمعهم الصداقة تارة والزمالة في الدراسة تارة أخري ويربط الجميع شعور واحد هو كراهية الانجليز لذلك فقد اتسمت خططهم بالحماسة بعيدا عن الموضوعية ومن هنا كان رأي جمال عبد الناصر بأن العمل على قيام جهاز قوي لقيادة هذا التنظيم هو بداية الشرارة التي من الممكن أن تنطلق في أى وقت .

ووفقا لمعظم الروايات فإن فكرة التنظيم قد بدأت في منقباد سنة 1937 بما في ذلك رواية أنور السادات والتي ضمنها كتابة – أسرار الثورة المصرية حيث يقول : تبدأ القصة بمجموعة من الملازمين الشبان اجتمعوا للخدمة معا في منقباد – وأخذت تلك المجموعة تلتف حول شاب من بينهم يمثل الشخصية الصعيدية وكان هذا الشاب هو جمال عبد الناصر الذي استحوذ بخصاله واتزانه على إعجاب واحترام زملائه وأضحي بمثابة الرائد لهذه المجموعة حيث رسم لأفرادها رسالتهم الكبرى في مقاومة الانجليز .

ويبدو من حديث السادات أن هناك تنظيما قائما ولعل هذا واضحا من خلال لقاءات أنور السادات بالشيخ حسن البنا والفريق عزيز المصري حيث كان لقاؤه بهما سنة 1940 بصفته مندوبا عن تشكيل الضباط حيث يتحدث عن عزيز المصري قائلا : لقد كان على أن أرجع إلى التشكيل قبل المقابلة وكان على أن أعود إليهم بعد المقابلة , فلابد من الحذر لأن أى شك يحوم حولي قد يذهب بالتشكيل كله .

ووفق رواية أنور السادات أيضا وهو يتحدث عن لقائه بحسن البنا " أنني لا أعمل وحدي بل أن هناك تشكيلا معينا موجودا وأن البلاد لن تتخلص من الاستعمار إلا بانقلاب عسكري يقوم به رجال الجيش .

وهذا مما يضاعف من اعتقادنا بأن التشكيل كان قائما بالفعل وأن الاتصالات التي يقوم بها أنور السادات كانت بتكليف من الضباط الأحرار .

وعلى ما يبدو فإن التنظيم سنة 1942 كن قد وصل إلى درجة متقدمة من التخطيط والتنظيم لأن ردود الفعل التي أحدثها حصار الدبابات في 4 فبراير 1942 تؤكد هذا الاعتقاد سواء فيما قرره الأعضاء من إعلان ثورة عسكرية بهدف إبادة القوات البريطانية لعائدة من العملية أو مما اقترحه بعض الأعضاء من اغتيال كل الذين اشتركوا في مأساة 4 فبراير 1942 أو في محاولة التنسيق مع بعض القوي الأخرى مثل الإخوان المسلمين أو بعض اليساريين .

وعلى ضوء العديد من الروايات التي ذكرناها تبدو عدة أمور أشبه بالحقائق :

أولا : أن فكرة تنظيم الضباط الأحرار ترجع إلى سنة 1938 حيث تجمع الضباط الشبان في معسكر منقباد .

ثانيا : لعل الفترة من سنة 1938 وحتى سنة 1942 تعد فترة إعداد وترتيب ولم ترق بالتنظيم إلى شكله النهائي .

ثالثا : أن أحداث 4 فبراير وما صاحبها من ردود فعل عنيفة داخل الجيش تعد بمثابة المرحلة الثانية من التنظيم ولعلها مرحلة الإعداد وقيام التنظيم ببناء العديد من الخلايا داخل الجيش وخارجه .

وأعتقد أن ما حدث في 4 فبراير كان بداية الخطوات العملية حيث أقسم الضباط على الثأر من الانجليز وليس من المعقول أن يقدموا على عمل خطير كهذا سواء بالثورة ضد الانجليز أو اغتيال كل من شارك في 4 فبراير إلا إذا وضعت الأسس الكفيلة ببناء هذا التنظيم باء جيدا أو بمعني آخر الوصول بالتنظيم إلى مرحلته العملية وبصدد الحديث من الضباط الأحرار لابد من تناول كل الدراسات التي أعدت سواء ممن شاركوا في الأحداث أو من عاصروها على حد سواء إلا أن الأمر يزداد غرابة تبدوا الأمور أكثر تعقيدا حينما يناقض أنور السادات نفسه ففي كتابه " البحث عن الذات سنة 1978 " تجده يضرب عرض الحائط بكل ما ذكره في كتابة" أسرار الثورة المصرية هذا عمك جمال يا ولدي " حيث يتحدث عن تنظيم مغاير تماما للتنظيم الذي تحدث عنه من قبل فيقول لقد أنشأت سنة 1939 أول تنظيم سري من الضباط وكان من بين أعضائه عبد المنعم عبد الرؤوف وعبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وخالد محيي الدين وأحمد مسعودي وحسن عزت والمشير أحمد إسماعيل ونظرا لاعتقال أنور السادات ( أغسطس 1942 ) فقد تسلم جمال عبد الناصر قياده هذا التنظيم في أوائل سنة 1942 عقب عودته من السودان ولم يترك السادات أية فرصة كي يتجه بنا الظن إلى أن التنظيم الذي يعنيه كان تنظيما أخر خلاف الضباط الأحرار ولعل هذه المعلومات الجديدة والتي تضمنها كتاب البحث عن الذات تكشف لنا عن أمرين هامين :

أولهم : أن المؤسس الحقيقي لتنظيم الضباط الأحرار هو أنور السادات وليس جمال عبد الناصر .

ثانيهما : أن بداية التنظيم ترجع إلى سنة 1939 وليس إلى سنة 1938 كما ذكر معظم الضباط الأحرار .

ونظرا لأهمية تلك الرواية وخطورتها فلابد من تحقيقها ودراستها دراسة موضوعية نظرا لما يترتب عليها من نتائج بالغة الخطورة وعلى ضوء ما ذكره الضباط الطيارين والذين ذكر السادات أسماءهم ضمن تنظيمه أنهم جميعا أنكروا انضمامهم في هذه الأونة إلى أى تنظيم خلاف تنظيم الطيران .

فإذا كان السادات يعمل ضابطا في سلاح الإشارة فمن البديهي أن يتجه تفكيره إلى زملاء السلاح الواحد بدلا من الاتجاه إلى الطيران هذه واحدة أما الثانية فلقد ذكر السادات أن من بين الذين قام عليهم التنظيم هو الضابط خالد محيي الدين فإذا تغاضينا عن حقيقة صارخة وهي أنه عندما ذكر السادات اسمه ضمن تنظيم سنة 1939 لم يكن قد تخرج بعد من الكلية الحربية فكيف نتغاضي عما ذكره خالد محيي الدين نفسه من أن أول صلة له بأحداث السياسة كانت في صيف سنة 1942 عندما عين حارسا على الطيار حسن عزت بعد اعتقاله مع السادات في ميس سلاح الفرسان في قضية الجاسوسيين الألمانيين في أغسطس 1942 وأن حسن عزت هو أول من وجه اهتمامه إلى السياسة .

ومن المؤكد أن أنور السادات قد صدق نفسه ومضي في ذكر العديد من المغالطات التاريخية والتي تتناقض ومذكرات أعضاء الضباط الأحرار سواء منها ما نشر في عهد عبد الناصر أو بعد وفاته حيث حرص السادات على أن يؤكد في كتابه " البحث عن الذات أن عودة عبد الناصر من السودان كانت في ديسمبر سنة 1942 وربما لو ذكر السادات التاريخ الحقيقي لعودة عبد الناصر من السودان وهو نوفمبر 1941 لانتابت الناس الدهشة ولتساءلوا ؟ كيف لم تتم أية لقاءات بين عبد الناصر وزميله السادات في القاهرة عقب عودة الأول من السودان طوال المدة التي أمضاها في مصر قبل اعتقال السادات – من نوفمبر 1941 وفي أغسطس 1942 – والسؤال الذي يعرض لماذا لم يدعو السادات زميله وصديقه عبد الناصر قد خدم مع السادات عقب عودة الأول من السودان حيث امضيا معا ما يقرب من تسعة أشهر من نوفمبر 1941 وحتى أغسطس 1942منها ستة أشهر قضاها عبد الناصر بالكتيبة الثالثة مشاة بمنشية البكري بالقاهرة وكان السادات باعترافه يخدم في نفس الفترة كضابط إشارة بمنطقة الجبل الأصفر في القاهرة .

وعلى ما اعتقد فلو أن السادات قد ذكر التاريخ الحقيقي لعودة عبد الناصر من السودان ( نوفمبر 1941 ) لما استقامت القصة ولتساءل الناس اين كان عبد الناصر طوال الفترة إلا أن اعتقال السادات في أغسطس 1942 وعودة عبد الناصر من السودان في ديسمبر 1942 وفقا لرواية السادات يتمشي مع ما نسجه عليه الخيال من قيادة الحركة الوطنية داخل الجيش والمسألة من وجهة نظره تستلزم تغييرا بسيطا في التاريخ ليصبح تاريخ عودة عبد الناصر من السودان ديسمبر 1942 بدلا من نوفمبر 1941 وهكذا استقام الأمر ليصبح التسلسل منطقيا ومقبولا إلا أنه يعد منطقيا من وجهة نظرة فقط لأن الحقائق التاريخية تبقي ناصعة وأما الزبد فيذهب جفاء .

ولعل أنور السادات قد تناسي أنه قد ذكر في احدي كتبه والتي نشرها في عهد عبد الناصر أن عودة الأخير من السودان كانت في نوفمبر سنة 1941 وفي مارس 1942 انضم إلى الكتيبة الثالثة مشاة وفي نوفمبر سنة 1942 اختير مدرسا في الكلية الحربية وهي الفترة التي قام فيها التنظيم بعمليات البناء العملي بعد ما تأكد للضابط أن الأحزاب السياسية قد اهترأت وعجزت عن تمثيل الشعب المصري تمثيلا حقيقيا .

وعلى ضوء العديد من الروايات فإن التنظيم الذي أقيم سنة 1939 داخل سلاح الطيران والذي أشار إليه السادات كان شعبة من ضمن عشرات الشعب التي أنشئت داخل الجيش إلا أن شهرة تنظيم الطيران ترجع إلى بعض الأعمال الانتحارية التي أقدم عليها الطيارين ولعل أهمها ما تفق عليه الأعضاء من جمع المعلومات والصور عن نشاط قوات الحلفاء في مصر وإرسالها إلى القيادة العسكرية الألمانية في مرسى مطروح حيث استقل أحد أفراد اللجنة وهو الضابط أحمد مسعود أبو على طائرة مقاتلة من النوع البريطاني ومعه حقيبة بها كل ما أمكن جمعه من معلومات واتجه بها نحو منطقة مرسى مطروح ( الاثنين 29 يونيو 1942 ) والغالب أن طائرته قد أسقطت بواسطة الدفاع الجوي الألماني لأن نفس النوع من الطائرات كانت تستخدمه القوات البريطانية .

ويضف أحد أعضاء التنظيم قائلا : لقد كلف أحد الطيارين المضربين بالبحث عن الطائرة التي استقلها مسعودي ولكن بدلا من أن يعود هذا الزميل فقد توجه هو الآخر بطائرته نحو مرسى مطروح تاركا تشكيله ويبدو أن هذا التصرف قد كشف للمسئولين في البعثة العسكرية البريطانية الغرض من عملية سعودي وأجروا تحقيقا ولكنهم لم يوصلوا إلى شئ يكشف أمر التنظيم إلا أن عدد من أفراد سلاح الطيران قد أبعدوا عن الجيش أثر هذا الحادث .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى العلاقة بين حركة الاضطراب في الجيش حالة من الغليان الشديد في صفوف الضباط وتؤكد نفس الوثيقة وفقا لمصادر السفارة الأمريكية أن هناك خططا محكمة ومتقنة لنشاطات تدميرية على النحو التالي :

أولا : نشر دعايات مضادة للإنجليز ومؤيدة للألمان للتقليل من حجم التعاون الممكن مع الجيش المصري .

ثانيا : القيام بعمليات تخريب لوسائل الاتصال والمنشئات الحيوية الأخرى في وقت متزامن مع هجوم ألماني ناجح صوب الإسكندرية .

ثالثا : جمع ونقل المعلومات للأعداء .

ووفق مضابط مجلس النواب فإن النحاس باشا قد أشار من طرف خفي إلى أن القصر وراء تلك الاضطرابات التي تحدث سواء في سلاح الطيران أو في غيره من الأسلحة الأخرى هذا ما يؤكد العلاقة بين ما حدث في 4 فبراير وحركة الضباط الأحرار ومن الملاحظ أن موقف الضباط في ذلك الوقت لم يكن يحمل أى نوايا عدوانية تجاه فاروق والذي كان يحظي بشعبية جارفة وسط صفوف الضباط ولم يكن التفكير في خلعه من بين المسائل التي كانت موضع تفكير لدي قوة سياسية أو عسكرية .

وإذا كانت حركة الضباط قد استمدت قوتها من أحداث 4 فبراير وما صاحب ذلك من رضاء فاروق على تلك الحركة إلا أن هذا لا يعني أن الحركة كانت تعمل في إطار مخططات القصر بدليل أنها قد غيرت من إستراتيجيتها عقب الحرب ووضعت في اعتبارها التخلص من فاروق والاحتلال معا ولو كان فاروق على علم بسياستها لأمكنه التخلص منها ووأدها في الوقت المناسب وهذا يدفعنا إلى الإشارة إلى ط التنظيم الحديدي" والذي نشأ في إطار القصر بهدف محدد وواضح وهو اغتيال كل من ساهم في 4 فبراير وهذا التنظيم يختلف تماما عن تنظيم الضباط الأحرار على الغرم من أن بعض الضباط الأحرار كانوا يعملون ضمن هذا التنظيم اعتقادا منهم بأن لهدف واحد وهو التخلص من الانجليز والوفد معا .

ولعل هذا مما دفع السفير الأمريكي إلى أن يبعث إلى حكومته قائلا : أن الملك فاروق يلعب لعبة خطرة ترتكز على ما يسمي ( بالحرس الحديدي ) المكون من بعض ضباط الجيش والحرس الخاص للملك فاروق وأن المخابرات البريطانية على بينة من أمر هذا التنظيم الذي قد يترتب عليه أبعاد فاروق عن مصر نهائيا .

وإذا كان تنظيم الضباط الأحرار لم يكن يحمل أى نوايا عدوانية إلى فاروق حيث اقتصر تفكير الضباط خلال الحرب العالمية الثانية على الانتقام من الاحتلال البريطاني باعتباره حجر الزاوية في حركة الاستقلال الوطني. إلا أن تصرفات الملك فاروق فيما بعد وانغماسه في الملذات وانصرافه تماما عن مصالح الشعب وقضاياه العامة ثم ما أعقب ذلك من حرب فلسطين والتي استهلكت قدرا كبيرا من نشاط الضباط الأحرار حيث تأكد لهم من خلالها أنه لا فريق بين المحتل البريطاني والملك فاروق فكلاهما عدو حقيقي للشعب المصري .

وقبل أن نخلص من تلك الدراسة فإننا ننوه إلى عدة أمور هامة :

أولا : أن التاريخ للضباط الأحرار من بين الموضوعات التي تعرضت لحركة تزييف ومزايدة لأن العديد من الكتابات التي تناولت هذا الموضوع لم يتجرد أصحابها من عامل الرغبة أو الرهبة في محاولة لإظهار بطولات شخصية على حساب الحقائق التاريخية اعتمادا على عدم الإفراج عن الوثائق الرسمية لثورة 23 يوليو ولذا فإننا نعتقد أن الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع لم تذكر بعد.

ثانيا : أن حركة الضباط الأحرار قد بدأت بفكرة راودت بعض الضباط الشبان في منقباد سنة 1938 حيث وضعت اللبنة الأولي في قيام هذا التنظيم وأن ما ذكر من قيام تنظيمات أخري سواء في سلاح الطيران أو في غيره من الأسلحة كانت في إطار هذا التنظيم .

ثالثا : أن المرحلة الثانية من حركة الضباط قد بدأت عقب 4 فبراير 1942 حيث عاد عبد الناصر إلى القاهرة ضمن الكتيبة الثالثة مشاة ولذا فإن هذه الفترة تعد البداية العملية للتنظيم حيث بدأ ينتشر داخل وحدات القوات المسلحة المصرية .

رابعا : أن المرحلة الثالثة ( وهي لا تدخل ضمن دراستنا ) تبدأ من حرب فلسطين حيث تأكد للضباط أن الإصلاح لابد وأن يكون شاملا وجامعا بهدف الإطاحة بكل الذين يعملون ضد مصر بما فيهم الملك فاروق نفسه.

الفصل السادس : سياسة القصر عقب حادث 4 فبراير

مسئولية القصر عن تفاقم الصراع بين مكرم عبيد والنحاس

لم تكن القوي المناوئة للوفد بغافلة عن الظروف الصعبة التي أحاطت بأحداث 4 فبراير ردود الفعل التي واكبت تلك الأحداث ومن هنا تعددت المؤامرات بهدف النيل من الوفد ولعل أخطر وأقسي هذه المؤامرات هي تلك التي توجت بانقسام مكرم عبيد باشا عن الوفد وما تلي ذلك من حملة تشهير واسعة انتهت بتجميع المئات من التهم باستغلال النفوذ والمحسوبية والفساد ضد قيادات الوفد وضد الدوائر المقربة من النحاس وزوجته وكان لابد لهذه الحملة من أن تترك أثرها على جماهيرية زعيم اكتسب أكبر قدر من زعامته الطاغية بسبب بساطته وترفعه عن الكسب الشخصي.

وكان من الصعب على دوائر القصر أن تتلقي هزائم 4 فبراير دون أن تفكر في الانتقام من الوفد ومن زعميه مصطفى النحاس واختار القصر ميدانا جديدا للنيل من الوفد وهو الوقيعة بين القطبين الكبيرين في الوفد وهما مصطفى النحاس ومكرم عبيد .

وبينما كانت البلاد ترقب بكل اهتمام تطورات الحرب على حدودها الغربية وتتوقع ما قد تسفر عنه من حوادث جسام كانت الوزارة تعاني في داخلها بوادر انقسامات خطيرة بدأت تظهر آثارها في النصف الثاني من شهر مايو سنة 1942 فلقد اعتقدت الجماهير أن مكرم عبيد ( سكرتير الوفد ووزير المالية ) هو محرك الوفد ومركز نشاطه وحركته الدائمة والقوة الدافعة في الانتخابات وفي غير الانتخابات من مظاهر الناشط الشعبي بل وزاد الاعتقاد أنه هو الذي يحرك النحاس باشا في نشاطه السياسي إلى اليمين وإلى اليسار بحكم اتصاله بعدد كبير من السياسة الانجليز وبحكم دراسته في أكسفورد وأسفاره الكثيرة إلى انجلترا وعلاقته الوطيدة برجال حزب العمال وعلي رأسهم رامزي ماكدونالد ( رئيس حزب العمال ) وقد كان النحاس يضاعف اعتقاد الجماهير في مكرم عبيد وقوته بما سبغه عليه من أوصاف وما يظهره من ثقته به ثقة لا حد لها وكان مكرم هو همزة الوصل بين النحاس والسفارة البريطانية مساء 4 فبراير وهو الذي أشرف على صيغة الخطابين الذين تبودلا بين النحاس والسفير البريطاني لتأليف الوزارة .

ووفق العديد من الروايات التي أدلي بها عدد كبير من المعاصر فإننا نستطيع أن نجمل أسباب الخلاف بين النحاس ومكرم عبيد فيما يأتي :-

أولا : - تلك الغيرة التي دبت بين مكرم عبيد وبين السيدة زينب الوكيل حرم النحاس ويقول السفير البريطاني " أن زوجة رئيس الوفد قد سعت ما وسعها الجهد إلى استقلال زوجها عن الجل الذي استمر لسنوات طويلة مستشاره الرئيسي والرئيس الحقيقي لحزب الوفد وتعترف زينب الوكيل أنها سعت إلى استقلال زوجها عن الرجل الذي كان سببا في كل الانشقاقات التي أصابت الوفد وانها أقدمت على ذلك حرصا منها على مصلحة الوفد في المرتبة الأولي .

وعلى ما يبدو فإن النحاس باشا كان مجالا للصراع بين السيدة زينب الوكيل وبين مكرم عبيد حيث أن الأولي بدأت تمارس على زوجها نوعا من السيطرة فاصطدمت بذلك مع مكرم عبيد الذي كان يعمل هو الآخر على السيطرة على النحاس أو كان يسيطر بالفعل عليه ولذا فقد اعتقد البعض بأن هذا النزاع يعد صراعا بين قوتين تحاول كل منهما السيطرة على شخصية أخري ومن هنا فقد كان انتصار زينب الوكيل باعتبارها زوجة وعلى قدر كبير من الجمال وأقرب إلى النحاس من مكرم عبيد. وأعتقد أن النحاس وقد تخطي الستين من عمره وأمام زوجة ما تزال في عقدها الثالث وعلى قدر كبير من الجمال والذكاء لذا فقد تنازل عن أشياء كثيرة تتعارض مع مصلحة الوفد وتتفق مع مطامع الزوجة الشابة الذكية والتي اهتمت أولا وقبل كل شئ بأذونات التصدير والاستيراد وجمع الأموال عن طريق ما يسمي " بجمعيات البر " بل وقد وصل الأمر بتلك الزوجة أن يكون لها النفوذ الأكبر في تصريف الأمور إلى الحد الذي يجعلها تقترح أسماء وزراء بل وتعين هؤلاء الوزراء .

ثانيا : لقد بدأت منذ وزارة 4 فبراير سنة 1942 ظهور نجم جديد في ساحة السياسة المصرية لم يكن له نشاط سياسي من قبل إلا أن نجوميته قد تألقت بسرعة استرعت انتباه الجميع ذلك هو محمد فؤاد سراج الدين حيث عين وزيرا للزراعة في تلك الوزارة وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره ثم عين وزيرا للداخلية والشئون الاجتماعية ثم سكرتيرا عاما للوفد عقب خروج مكرم عبيد ولا شك أن ظهور فؤاد سراج الدين والثقة الكبيرة التي كان يحظي بها من مصطفى النحاس وزوجته زينب الوكيل لا شك أن هذا العامل قد أضاف عنصرا جديدا وهاما ضاعف من حدة الصراع بالرغم من تنصل فؤاد سراج الدين من كونه قد شارك بأى جهد لإساءة العلاقات بين الرجلين إلا أن الخوف قد بدأ يتسرب إلى قلب مكرم عبيد من هذا النجم الجديد الذي اخذ يستطع في سماء الوفد .

ثالثا : لقد عمل فاروق وأحمد حسنين رئيس الديوان على توسيع شقة الخلاف بين عناصر الوفد وذلك باستخدام وسيلة رخيصة وهي أغراء مكرم على أنه سيكون زعيم الأمة ورئيس الوزراء المقبل وأنه يستطيع أن يرث النحاس الذي فقد قدرا كبيرا من شعبيته بعد 4 فبراير سنة 1942 وفق رأي النحاس فإن كل الخلافات التي كانت بينه وبين مكرم كان من الممكن احتواؤها لولا أحمد حسنين والذي عمل بمهارة على تنمية تلك الخلافات وتفاقمها لصالح القصر.

ومن المؤكد أن القصر باختياره هذا المجال لكي يكون ميدانا للصراع يعد ذكاء من أحمد حسنين والذي لعب دورا ماكرا في استغلال هذا الحادث بهدف النيل من الوفد لا حبا في مكرم عبيد ولا حرصا على مصلحة البلاد وإنما إرضاء لشهوات القصر وانتقاما من مصطفى النحاس حيث أقسم أحمد حسنين عقب 4 فبراير أن يرد له الصاع صاعين وهكذا واتته الفرصة وتمكن من النيل من الوفد وشعبيته حيث أخذ يعمل على توسيع شقة الخلاف بين رئيس الوزراء ووزير المالية فرتب مقابلة لمكرم عبيد باشا مع الملك خرج بعدها ليقول لمندوب الأهرام أنه لقي من الملك فاروق " إرشادا نافعا واطلاعا واسعا ونظرة دقيقة وعميقة إلى جوهر المسائل المعروضة رغم تباينها وبعد نواحيها " إلى أن قال : " ولم البث طويلا حتى أدركت أن ملكنا الشاب قد ملك زمام الأمور فصل ما أوتي من رجولة وخبرة منوعة قلما أتيحت لملم من الملوك "

وهذا الوصف الذي سجله مكرم عبيد يختلف تمام الاختلاف عن الصورة التي رسمها النحاس ومكرم عن الملك للسفير البريطاني منذ سنة 1937 وعندما تحرج الموقف في فبراير سنة 1942 .

ويقدم محمد التابعي شهادته في هذا الصدد وهو واحد ممن اتصلوا بأحمد حسنين فيقول : " لم يكن أحمد حسنين سبب الخلاف بين رئيس الوفد وسكرتير الوفد ولكنه كان أحد الذين عملوا بمهارة على توسيع شقة الخلاف .

ومع اعتقادنا بأن شخصية زينب الوكيل وظهور نجم سراج الدين كانا من الأسباب التي أدت إلى القطيعة بين مكرم والنحاس إلا أن هذين العاملين كان من الممكن التغلب عليها لولا أن القصر قد لعب الدور الهام .

والأساسي وخصوصا وأن الموضوعات التي طرحها مكرم عبيد والتي أراد أن يتخذها سلاحا للتشهير بالنحاس وأقاربه سواء في مسألة الاستثناءات أو في أذونات التصدير والاستيراد كل هذه العوامل لم تكن جديدة سواء في سياسة أو في سياسة غيره من الأحزاب وأن كل الأحزاب المصرية كانت تلجأ إلى هذه الوسيلة لتدعيم أنصارها هذه السياسة لم يسبق لمكرم عبيد أن اعترض عليها .

وهنا يبدو السبب الثالث والهام وهو دور القصر وخصوصا أحمد حسنين والذي أحس بمرارة 4 فبراير سنة 1942 ولذا فقد رسم سياسته على استخدام مكرم عبيد بمهارة فائقة حتى يقوض حزب الوفد من الداخل من ثم يمكنه الاجهاز على النحاس في الوقت المناسب وأعتقد أن هذا هو العامل الحقيقي وراء القطيعة بين الرجلين ومما يؤكد وجهة نظرنا تلك أن مقابلة مكرم عبيد للملك فاروق كانت في12 مارس 1942 ولم يمض على أحداث 4 فبراير أكثر من شهر .. وحتى يبدو هذا الحكم أكثر موضوعية فلابد من تتبع مراحل الصراع بين النحاس ومكرم والترقب الذي كان باديا على القصر حتى تمكن من الانقضاض في الوقت المناسب وعلى ضوء شهادة أحمد حسنين ( رئيس الديوان ) والذي صرح قائلا رغبة مني في تصفية الجو بين الملك والوزارة سعيت عن الملك حتى وافق على مقابلة مكرم عبيد وأمين عثمان .. ولأننا الداخلية والمالية .. وأن أمين عثمان هو زراعه اليسري ومستشاره في الشئون الخارجية فكان من المرغوب فيه والحالة هذه أن نوثق علاقتنا بهذين الزراعين أو بالرجلين المقربين إلى رئيس الحكومة هكذا طلبت من مكرم عبيد أن يلتمس مقابلة الملك لسبب ما , واقترح مكرم أن أعداد أوراق النقد الجديد تقتضي أن يعرض الرسم الجديد على جلالة الملك قبل البدء في طبعه وتمت المقابلة واستطاع مكرم أن يحظي بعطف الملك .

إذن فإن أحمد حسنين السياسي الداهية يزعم أنه سعي لدي فاروق حتى أقنعه بالموافقة على مقابلة مكرم عبيد رغبة منه في تصفية الجو وتحسين العلاقات بين الوفد وفاروق وهذا ما قاله أو زعمه أحمد حسين .

ولعل غرض حسنين كان أبعد ما يكون عن الصفاء والوئام حيث كان الهدف الأول لرئيس الديوان أن يوقع بين النحاس ومكرم من جانب وبين أمين عثمان والنحاس من جانب آخر أو بعبارة أخري أن ينتزع من رئيس الوفد زراعية الاثنين اللذين يستند إليهما في إدارة شئون البلاد الداخلية والخارجية .

وياله من انتصار يمحو عار هزيمة 4 فبراير يوم أن ينجح حسنين في ضم مكرم وأمين عثمان إلى معسكر القصر ولعل هذا هو الغرض الحقيقي من هذه الخطوة والتي جمع فيها بين فاروق ومكرم عبيد ولو كان أحمد حسنين صادقا في نيته لعمل على أن يكون هذا اللقاء مع النحاس باشا نفسه باعتباره رئيس الحزب ورئيس الحكومة وبالفعل صدق قول مصطفى النحاس حيث أعلن عند سماعه بنبأ هذا اللقاء " أن الغرض من هذا اللقاء هو التفرقة بين مصطفى النحاس ومكرم عبيد"

وكان هذا هو الفصل الأول حيث مضت الحوادث بعد ذلك سريعة متعاقبة فلقد خرج مكرم من مقابلة فاروق مغتبطا مسرورا وأملي تصريحا على الصحف يحمل كثيرا من كلمات الثناء على الملك وعلى حد قوله :" لقد أتيح لى أن أعرف الرجل الملك فكان الرجل في رجولته لا يقل جلالة عن الملك في مملكته ومما يضاعف من اعتقادنا بأن ما حدث كان مؤامرة نصبها أحمد حسنين لمصطفى النحاس ومكرم عبيد فلم تكن العادة قد جرت وقتئذ على أن يخرج الوزير من لقاء الملك ويصف المقابلة في مقال ينشر في الصحف مما أدي إلى التصادم بين مصطفى النحاس ومكرم عبيد إلا أن عقلاء الوفد قد سعوا إلى ترضية النحاس ومحاولة إقناعه بصدق نية مكرم عبيد إلا أن مكرم على ما يبدو كان عازما على المضي إلى آخر الطريق.

وجاءت الأزمة الفاصلة في موضوع الاستثناءات غذ طلب النحاس باشا ترقيات استثنائية لثلاثة من العاملين معه في وزارة الداخلية وأحيل الطلب إلى اللجنة العليا برئاسة مكرم باشا فرفضته بحجة أن تلط الترقيات لا تتفق والقواعد المعمول بها في وزارة المالية زيادة على ما فيها من إجحاف بحقوق الموظفين الذين يراد تخطي دورهم في الترقية علما بأن الكثيرين منهم أقدم من الموظفين المطلوب ترقيتهم ترقية استثنائية علاوة على أنهم أكفاء وممتازون في عملهم فإذا ما انفرد بالاستثناء فئة من الموظفين فيسيو التذمر نفوس الآخرين وينخفض تبعا لذلك مستوي العمل في المصالح والدواوين طالبت اللجنة في مذكرتها أن يوصد باب الاستثناء حتى تنجلي الحالة المالية المترتبة على الحرب والتي زادت من أعباء الميزانية وأن تلتزم الوزارات والمالح حدود القانون .

وفي اجتماع مجلس الوزراء في 21 مايو صمم النحاس باشا على طلبه ووافقته جميع الوزراء ما عدا وزير المالية (مكرم عبيد ) ونشرت احدي الصحف مذكرة اللجنة المالية بمنع الاستثناءات بين الموظفين وبهذا أصبح معروفا أن الخلاف بين النحاس ومكرم قد بلغ مداه .

وبالرغم من أن مذكرة اللجنة المالية قد بنت رفضها على العديد من المبررات الشرعية والقانونية إلا أن هذا المسلك يعد حديدا أو غريبا على مكرم عبيد وهو الذي انبري إلى الدفاع عن الاستثناءات التي أقدمت عليها حكومة الوفد سنة 1937 وكانت له وجهات نظر اعتمدت في أساسها على أن الوفديين قد اضطدوا في ظل وزارات الأقلية .

وكان قرار مجلس الوزراء بعدم الأخذ بوجهة نظر اللجنة المالية ضاربا عرض الحائط بما ورد في المذكرة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير حيث أعلن النحاس عدم إمكانه التعاون مع مكرم عبيد وطلب منه أن يستقيل من الوزارة فرفض مما اضطر النحاس إلى أن يتقدم إلى الملك باستقالة الوزارة كلها وعهد إليه الملك بتأليفها من جديد فألفها دون مكرم عبيد.

السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد ما الذي دعا إلى استقالة الوزارة الم يكن بالإمكان إقالة مكرم دون استقالة الوزارة كلها ؟... والحقيقة أن الذي يمكل إقالة الوزارة أو زير فيها هو الملك فقط ولما كان مكرم عبيد قد رفض تقديم استقالته وأن أية محاولة لاستصدار قرار بإقالة وزير المالية لقد تبوء بالإخفاق سواء العلاقة الجديدة بين مكرم والقصر أو بسبب سوء علاقة القصر بالنحاس فلم يكن أمام النحاس من سبيل سوي تقديم استقالة وزارته وإعادة تشكيلها بدون وزير المالية ولهذا الموقف سابقة في تاريخ الوزارات المصرية ولو أن الوضع في الحالتين جد مختلف .

ففي سبتمبر 1925 طلب رئيس الوزراء بالنيابة ( يحي إبراهيم ) استصدار مرسوم بإقالة عبد العزيز فهمي باشا وزير الحقانية إذ ذاك ووافق الملك فؤاد على الطلب فورا لأن عبد العزيز فهمي كان قد أمتنع عن تنفيذ رغبة الملك في عزل الشيخ على عبد الرازق ( القاضي بالمحاكم الشرعية ) بسبب كتابه " الإسلام وأصول الحكم " أما في حالة مكرم عبيد فإن الملك كان راضيا عنه تمام الرضا بل أن القصر كان يساند مكرم في تحديه للنحاس باشا .

ويبدو سؤال مخر هل كان النحاس على ثقة من أن الملك سيعهد إليه بتأليف الوزارة الجديدة وخصوصا وأن العلاقات بينهما كانت قد وصلت إلى درجة القطيعة وأن النحاس كان على يقين من أن القصر وراء الانسلاخ الأخير في الوفد.

لعل هذا الاحساس قد راود النحاس باشا ولذا فقد حرص على أن يثبت في كتاب الاستقالة أنها بسبب الخلاف بينه وبين وزير ماليته إذ قال : " نظرا لما قام بيني وبين حضرة صاحب المعالي مكرم عبيد باشا من خلاف جوهري طال أمده وتعددت مظاهره وتعذر علاجه بالرغم مما بذلته من المجهود ولما كان هذا الخلاف قد أدي إلى استحالة استمرار التعاون بيننا فإني أتشرف بأن أرفع إلى جلالتكم استقالة الوزارة .

وعلى ما يبدو أيضا فإن النحاس كان واثقا من أن الملك سيعهد إليه بتأليف الوزارة لأن أحداث 4 فبراير كانت ما تزال عالقة في ذهن فاروق حيث لم يمض عليها أربعة أشهر ومن السذاجة المطلقة أن يعيد الملك التجربة مرة ثانية وخصوصا وأن الأسباب التي من أجلها عاد الوفد لم تختلف كثيرا ولعل في هذا الموقف إزلال للملك فاروق مما ضاعف من حدة الصراع بين القوتين .

ومما يضاعف من اعتقادي أن النحاس عندما قرر إفراج النقراشي من الوزارة في صيف سنة 1937 فإنه تريث إلى أن حانت الفرصة في 29 يوليو سنة 1937 بمناسبة تولي الملك سلطته الدستورية حيث تقضي التقاليد الدستورية أن تقدم الوزارة استقالتها ويعهد الملك إلى رئيس الحكومة بتشكيل وزارة جديدة وهكذا تمكن النحاس من إخراج النقراشي وثلاثة وزراء آخرين ( محمد صفوت ومحمود غالب وعلي فهمي ) بلا أى مصادمات مع القصر أما هذه المرة فالموقف مختلف إلى حد كبير والصراع قد تفاقم بين القطبين الوفديين .

وبخروج مكرم من الوزارة قررت الهيئة الوفدية فصله من منصبه ( سكرتير عام الوفد) بعد أن ظل يتمتع بهذا المنصب خمس عشرة سنة متوالية وكذلك قرر الوفد حرمانه من عضوية الحزب بعد أن كان من أهم أعضاء الحزب ولم يبق لمكرم من المناصب سوي عضوية البرلمان والذي اتخذه أساسا لحملة ضارية ضد النحاس حيث كثرت الاستجوابات التي قدمها مكرم حتى وصلت إلى ثمانية استجوابات دارت في معظمها على أن النحاس قد فرط في حقوق الأمة وجامل الانجليز إلى حد الإغفاء عن مطالبتهم بتنفيذ مواد المعاهدة وسكوت النحاس عن وضع مصر في موضع البلاد المحمية والسماح لأشخاص معينين بتصدير المواد الأولية وسياسة الوزارة فيما يختص بالحريات العامة .

وتحت عنوان – حارس الهيكل بالأمس يريد أن يهدمه اليوم على ساكنيه كتب محمد التابعي يقول : " لقد قال مكرم يوم أن اختلف مع النحاس أن أسباب الخلاف هي الاستثناءات والسكر والزيت .. الخ ولم يقل شيئا عن الخيانة والتفريط في حقوق البلاد . هل كان التفريط وممالاة الانجليز موجودة يومها أو غير موجودة وإذا كانت موجودة فلماذا سكت الفارس الهمام ولماذا لم ينشرها يومها بين ما نشره على الناس أم تراها لم توجد إلا منذ خروج سعادته فقط من الوزارة وكأنما سعادته يريد أن يقول أن وجوده في الوفد كان الضمان الشافي لوجود الوطنية في صدر النحاس فلما خرج سعادته ضاع الضمان . ومن غير شك فقد كان خروج مكرم عبيد يعد الضربة الثانية التي لحقت بالوفد بعد ما أصابه من الضربة الأولي في 4 فبراير فلقد شن مكرم عبيد حملة ضارية ضد النحاس ضمنها ما سمي " بالكتاب الأسود" وقد امتلأ بالعديد من المطاعن التي تنال من رئيس الحكومة ومن زوجته السيدة زينب الوكيل .

وتشير مذكرات السفير البريطاني إلى مسئولية القصر عن إصدار الكتاب الأسود وأن فاروقا هو الذي أوحي لمكرم عبيد وشجعه على نشر هذا الكتاب حتى يتخلص من عدوه الأول وهو النحاس وبعد لك يتفرغ للتخلص من الثاني وهو السفير البريطاني .

ولا شك أن الوفد قد تأثر كثيرا بسبب خروج مكرم عبيد وتعددت وجوه معاناة مصطفى النحاس بسبب ما حظي به مكرم من تأييد منقطع النظير وخصوصا وسط قطاعات الشباب والمثقفين منهم على وجه الخصوص ولم يكن هذا التأييد على ما نعتقد لشخص مكرم عبيد بقدر ما كان لسوء تصرف الحكومة الوفدية واندفاعها في سياسة حزبية وضغطها على الحريات إلى حد الاعتقال ومصادرة الآراء المعارضة .

ولقد دفع الخوف من تأثير إخراج مكرم عبيد على التأييد القبطي للوفد إلى تعيين قبطي آخر مكانه في وزارة المالية وهو كامل صدقي والذي وصفته الدوائر البريطانية بأنه كان يفتقد إلى الكفاءة وكان بمثابة عقبة في حسن إدارة الأمور بسبب تصرفاته الصغيرة مما دفع النحاس إلى التفكير في فصله إلا أنه امتنع عن ذلك مخافة إثارة ضد الوفد.

وبلا شك فإن سياسة النحاس تجاه خروج مكرم عبيد من الوفد قد اتسمت بعدم الصواب والبعد عن الشرعية حيث لجأ الوفد إلى أساليب ديكتاتورية كان من بينها فصل عشرة من أعضاء مجلس النواب من الموالين لمكرم عبيد بحجة أنهم لم يكونوا قد بلغوا السن القانونية يوم انتخابهم ومن العجيب أن هؤلاء الأعضاء قد اقر المجلس نيابتهم من قبل حينما تقدم عدد من المعارضين للحكومة بطعون ضد هؤلاء النواب بسبب أنهم لم يبلغوا السن القانونية إلا أن المجلس قد اقر نيابتهم مؤكدا على استوفوا كل الشروط القانونية ولم تمض أيام حتى كان الكتاب الأسود قد أثار في البلاد كلها ضجة كبيرة مع أن الرقابة الصحفية قد منعت الإشارة إليه حتى كان الناس من كل الأحزاب يبذلون الجهد للحصول على نسخة منه ولم يقف الأمر على حدود مصر بل بدأت الصحف البريطانية تتحدث عنه مما ضاعف من مشاكل الحكومة بسبب هذه الحملة العنيفة التي وجهت إليها والتي تشعر أن لبعض المقامات يدا فيها .

وفي محاولة لتبديد الأثر الذي أحدثه مكرم وكتابه فلقد وضعت الحكومة خطة بأن أوحت إلى رجال حزبها في كل من البرلمان والشيوخ لكي يتقدموا بأسئلة عن الوقائع التي وردت في الكتاب الأسود وأخذ الوزراء يجيبون على هذه الأسئلة بتفسير بعض الوقائع تفسيرا يتسم بالغموض وعدم الموضعية في بعض الأحيان وباللجوء إلى العموميات في أحيان كثيرة ولما كانت اللائحة في كلا المجلسين " النواب والشيوخ " لا تجيز لغير مقدم السؤال بالتعليق فقد بذلت محاولات من قبل المعارضة للتعليق أو للاستفسار إلا أن كل هذه المحاولات قد باءت بالفشل وكثيرا ما ان التعليق من قبل مقدم السؤال بالشكر أو بتجريح واضح الكتاب الأسود والتشكيك في وطنيته مما دفع مكرم إلى أن يتقدم باستجواب إلى مجلس النواب طالبا من رئيس الحكومة إجابة محددة عن الموضوعات الأتية :-

أولا : استثناء رئيس الوزراء في تصريح علني بمجلس النواب إلى رسالة من وزير الخارجية البريطانية .

ثانيا : إجراءات الوزارة إزاء سياسة تجنيب البلاد ويلات الحرب.

ثالثا : بقاء الموظفين الانجليز في البوليس المصري .

رابعا : السماح لأشخاص معينين بتصدير بعض المواد الأولية .

خامسا : سياسة الوزارة فيما يختص بالحريات العامة .

وبالرغم من أن نقاط الاستجواب كانت محددة وواضحة إلا أن رئيس الحكومة قد انبري يكيل الاتهامات ضد صاحب الكتاب الأسود متهما إياه بالخيانة والخروج على خط الجماعة ونظرا لحالة الغضب التي سيطرت على رئيس الحكومة من خلال إجابات طويلة فقد افتقدت ردوده الموضوعية بتناولها القضايا بشكل يخرجها من دائرة الشك إلى دائرة اليقين وفقا لقول مكرم عبيد .

وفي محاولة من القصر لاستثمار الموقف لصالحه فقد ذهب أحمد حسنين إلى السفير البريطاني وحدثه في شأن الكتاب الأسود معربا عن رأيه بأن البيانات المدعمة بالوثائق تكفي للحكم على تصرفات رئيس الوزراء ولكن السفير ارتأي أما تقديم الاتهامات إلى القضاء وإما مناقشتها بالطرق الدستورية في البرلمان وعلى الرغم من أن أحمد حسنين قد استوثق من موقف الحكومة البريطانية والتي رأت إعطاء فرصة للنحاس للدفاع عن نفسه أمام القضاء أو بإجراء استثناء عام فإن حسنين قد أشار إلى أن التهم الموجهة إلى رئيس الحكومة إذ لم تثبت براءته منها فإن اللوم سوف يوجه بطريقة غير مباشرة إلى السفارة البريطانية لأنها تحتضن وزارة فاسدة .

ويبدو أن القصر قد فضل أن يمارس نوعا من الضغط على الحكومة البريطانية وذلك لمزيد من إحراج الحكومة حيث بدأ نشاط المعارضة باجتماع ويبدو أن القصر قد فضل أن يمارس نوعا آخر من الضغط على الحكومة حيث بدا نشاط المعارضة باجتماع عقدة إسماعيل صدقي في داره دعا إليه كبار السياسيين لتنظيم حركة المعارضة من خلال التنسيق مع كل القوي الحزبية بهدف الضغط على الحكومة البريطانية وبعد ان اتضح أن الانجليز مارسوا ضغطا شديدا على القصر لكي يوافق على مناقشة الكتاب الأسود تحت قبة البرلمان عاد زعماء المعارضة إلى الاجتماع وطلبوا مقابلة السفير البريطاني ولما أعتذر السفير عن عدم مقابلتهم أرسلوا إليه مذكرة قالوا فيها أنهم مع إخلاصهم للمعاهدة فإنهم يحتجون على تدخل انجلترا في شئون مصر الداخلية بعد أن ابتعد خطر الحرب عن أراضيها .

وسعيا وراء إيجاد جو من الود القصر والانجليز أوعز حسنين باشا إلى الملك أن يضع قصر رأس التين تحت تصرف السلطات البريطانية بمناسبة زيادة " دوق جلوستر " لمصر وأن تتبرع الخاصة الملكية بمبالغ للترفيه عن الجنود البريطانيين والأمريكيين لدرجة أن إحدي الصحف اليومية قالت : أن القصر يتنافس مع الحكومة على كسب صداقة الحلفاء .

وعلى الرغم من أن كل خطط القصر لم تؤت ثمارها في إقالة الحكومة وأن السفير مصمم على مساندة الحكومة إلى النهاية إلا أن القصر قد تمكن من أن يوجد في الوفد حالة من عدم التوازن وفقدان الرؤيا الصائبة لذا فقد اتسمت سياسته بالارتجالية وعدم التوازن وفقدان الرؤيا الصائبة لذا فقد اتسمت سياسته بالارتجالية وعدم الموضعية في كثير من القضايا القومية والوطنية مما دفع المعارضة إلى الانقضاض على هذا الهرم الشامخ والذي بدأ يتساقط أمام أول عاصفة رعدية نظمها القصر بمهارة فائقة ولولا معارضة بريطانيا لتمكن فاروق من أن يقتلع الوزارة الوفدية وهي في شهورها الأولي وإذا كان فاروق قد عجز على إقالة الوزارة وهي في تلك الأزمة إلا أنه قد تمن من النيل منها وتشويه صورتها أمام الرأي العام فلقد كانت المحسوبيات وأذونات التصدير حديث رجل الشارع العادي وعلى هذا استطيع أن أقول غذا كان حادث 4 فبراير قد أدي فقدان ثقة الجماهير في الوفد فإن الكتاب الأسود وما ترتب عليه كان بداية انصرف الناس عن الوفد وخصوصا الشباب المثقف والذي بدأ يبحث عن قوي أخري يعبر من خلالها عن ذاته بعد أن فقد ثقته في حزب الوفد وهكذا كان الشباب دائما ضحية لمنحرفي السياسة . ولم يقف أمر الكتاب الأسود عند الاستجواب والرد عليه بل رأي النحاس أن ما أقدم عليه مكرم يعد هرطقة لا يجوز معها أن يبقي عضوا بمجلس النواب لذلك تقدم النائب الوفدي عمر عمر باقتراح جاء فيه : أن مكرم عبيد قد أتي بما صنع أمرا منكرا يتعارض مع كرامة النيابة عن الأمة لذلك يجب فصله من مجلس النواب وإسقاط صفة النيابة عنه وعلى الرغم من المبررات القانونية التي أوردها النائب عبد السلام الشاذلي في محاولة مسميته لتبديد هذا الاقتراح إلا أن رئيس المجلس قد أخد الرأي بالمناداة بالاسم وأسفر عن 208 موافقون 17 غير موافقين .

وإذا كان الوفد قد حاول أن يجد مبررا معقولا حين أقدم على اعتقال علي ماهر داخل مجلس الشيوخ بحجة أنه يعمل لصالح المحور إلا أن ما أقدمت عليه حكومة الوفد من فصل مكرم عبيد ثم اعتقاله قد افتقدت إلى أية مبررات معقولة ولم يعد أمام الرأي العام أى شك في أن الدوافع الحزبية هي الأساس في أى إجراء اتخذ ضد مكرم عبيد وبدلا من أن يكسب الوفد أرضا جديدة من تحت أقدام المعارضة فقد أضحي مكرم عبيد أمام الرأي العام شهيد الديمقراطية ومدافعا عن الحرية ضد الاستبداد والمحسوبية والفساد وكل ما يناهض مبدأي الحق والعدل .

ولم يعجز الحاكم العسكري العام ( مصطفى النحاس ) عن ذكر بعض المبررات التي سوغت له الإقدام على هذا العمل الذي يفتقد إلى أى منطق أو قانون فلقد جاء في المذكرة التي نشرت بمناسبة هذا الاعتقال أن مكرم عبيد دأب على عقد اجتماعات سياسية متكررة في مكتبة وفي منزله تلقي فيها منه ومن بعض أنصاره خطب مثيرة ومخلة بالنظام ومهددة للأمن العام وأنه كان من نتاج الاجتماع الذي عقده بمنزله أخيرا أن ألف نفر ممن حضروا ذلك الاجتماع مظاهرة مرت ببعض الطرقات العامة وهتف المتظاهرون بهتافات تحت على الثورة وجاء في المذكرة أيضا أن مكرم عبيد عمد إلى توزيع نشرات مطبوعة في أنحاء البلاد وقد تم ضبط عدة الأف من هذه النشرات ويبدو من المذكرة أن مبررات الاعتقال قد اعتمدت على أن مكرم عبيد قد لجأ إلى عقد اجتماعات سياسية في مكتبة وفي منزله على الرغم من أنه كان يترأس حزبا قائما فعلا " الكتلة الوفدية " ومن حقه طبقا للقانون والدستور أن يمارس نشاطه الحزبي كغيره من الأحزاب أما عن المظاهرات التي ساقتها المذكرة كمبرر للاعتقال فكان على الحكومة أن تقدم على اعتقال زعماء تلك المظاهرة وبلا شك فلم يكن مكرم عبيد من بينهم أما عن النشرات التي توزع في البلاد فهي النشرات التي تصل إلى أعضاء الكتلة الوفدية في الأقاليم وهي وسيلة شرعية معترف بها حتى في ظل قانون الطوارئ بل هي القناة لربط أعضاء الكتلة في القري والمدن بإدارة الحزب في القاهرة وعلى ما أعتقد فإن ما أقدمت عليه الحكومة الوفدية من اعتقال مكرم عبيد يعد تجاوزا خطيرا دفع الرأي العام إلى أن يتعاطف مع مكرم عبيد .

وباعتراف أحد زعماء الوفد والشخصية الأولي يعد النحاس ( فؤاد سراج الدين ) حيث أعلن صراحة أن فصل مكرم عبيد من الوفد ثم اعتقاله يعد خطا سياسيا كبيرا .

وبالرغم من أن الحكومة قد سلكت في موضوع الكتاب الأسود مسلكا يبدو في ظاهرة الديمقراطية حيث نوقش الموضوع داخل مجلس النواب والشيوخ إلا أن المعارضة البرلمانية داخل المجلسين كانت تود أن تستدرج الحكومة إلى أن تتولي النيابة أمر التحقيق أن يعترض على تحقيق النيابة بحجة أن مكرم نائب يتمتع بالحصانة البرلمانية لأن الأغلبية الوفدية داخل مجلس النواب كفيلة بأن ترفع عنه هذه الحصانة وفي محاولة من المعارضة لإقناع الحكومة بوجهة نظرها فقد اعتمدت في مطلبها على العديد من الحيثيات القانونية على اعتبار أن المادة 66 من الدستور أعطت مجلس النواب حق الاتهام ومجلس الأحكام حق المحاكمة ولكنها تركت حق التحقيق مباحا لإظهار الحقيقة فلقاضي التحقيق أن يحقق وكذلك لوكيل النيابة ولكنه ليس لأحدهما أن يتهم ولما سئل مقدم الاقتراح ( عبد الرحمن الرافعي ) عن مصير التحقيق قال : أن نتيجته تقدم إلى مجلس النواب ليجد نفسه أمام رسمية في محاضر التحقيق.

ويبدو أن هدف المعارضة في إسناد أمر التحقيق إلى جهة قضائية محايدة كان بسبب عدم الثقة فيما تقدمه الحكومة داخل المجلسين ( النواب والشيوخ ) من إجابات تستند إلى بيانات غير دقيقة وليس من حق أعضاء المجلس الاعتراض إلا ضوء ما تقره لائحة البرلمان والتي أعطت حق المناقشة لمقدم الاستجواب فقط بينما إسناد أمر التحقيق إلى جهة قضائية محايدة يوفر على البرلمان العديد من الجهد حيث تقدم نتائج التحقيق مستوفاه لكل الأركان القانونية , ولو كانت الوزارة حريصة على نتائج سليمة في التحقيق لدفعت بالقضية برمتها إلى القضاء الذي يعد طرفا محايدا تماما .

وفي محاولة من النحاس لتبديد هذا المطلب فقد انبري للرد معتمدا على دستورية الاقتراح بحجة أن المادة 107 من الدستور تنص على أن لكل من أعضاء البرلمان ان يسأل الوزراء ويستجوبهم على الوجه المبين في اللائحة وأن المادة 108 نصت على أن لكل مجلس حق إجراء التحقيق ليستنير في مسائل معينة داخلة في حدود اختصاصه وورودها على هذا النحو يحدد الغرض المقصود بالاستنارة في الأسئلة والاستجوابات وأن من حق المجلس تشكيل لجنة تتولي التحقيق وعلى ضوء التقرير الذي تعده تلك اللجنة فإن المجلس الحق في إصدار ما يشاء من قرارات أما من إسناد أمر التحقيق إلى القضاء فإنه يكون تحقيقا أفلاطونيا لأن النتيجة أما أن تكون حفظ القضية أو تقرير أن هناك مسئولية وفي هذه الحالة الأخيرة يكون للمحقق أن يقدم المسألة إلى المحكمة أو غيرها وهذا أمر خارج عن اختصاصه ولا يمكن للبرلمان أن يكون تابعا لأي جهة أخري مهما كان وضعها لأن البرلمان لا يلتزم إلا بما يجريه هو في حدود اختصاصه وبالرغم من مبررات النحاس إلا أن الأمر كان من الممكن علاجه بأن يتولي القضاء التحقيق وما يتوصل إليه من نتائج تكون موضع الزام للجميع أما أن يكون المتهم قاضيا في نفس الوقت فهذا يتعارض مع أبسط المبادئ الدستورية .

ووفق ما ورد من أسئلة واستجوابات داخل المجلسين – النواب والشيوخ – فإن الأغلبية الوفدية لم تتنازل عن وجهة نظرها ورفضت أن يقوم بأمر التحقيق إلا اللجان البرلمانية وهي بلا شك لجان وفدية خالصة وهكذا أصبح القاضي خصما وكانت النتيجة التصفيق الحاد على نزاهة الحكم وأن النحاس وزوجته وكبار مستشاريه فوق مستوي الشبهات .

ولعل ما توصل إليه التحقيق من نتائج كانت موضوع مناقشات بين فاروق والسفير البريطاني حيث تقدم الملك بمذكرة إلى السفير يشكك فيها من إجراءات التحقيق وأن أفضل طريقة هي أن يطرح النحاس القضية على الشعب لمعرفة مدي ثقته في الحكومة الحاضرة وبما أن الحكومة التي سوف تقوم بأمر الاستفتاء ستزيفه لصالحها فمن الأفضل قيام حكومة محايدة يعقبها إجراء انتخابات نزيهة.

وعلى ما يبدو فإن الحكومة البريطانية قد تأثرت بالدعايات التي أحدثها مكرم عبيد وحملت مراسلات وزارة الخارجية البريطانية إلى اللورد كيلرن استطلاع وجهة النظر المصرية على ضوء التطورات الجديدة وتفويض السفير في إعطاء الملك الضوء الأخضر لإقالة الحكومة إذا ما أصبحت لا تتمتع برضاء الشعب المصري إلا أن السفير البريطانية أبدي بعض التحفظات على اعتبار أن إقالة الوفد في مثل تلك الظروف يعد تشجيعا للملك وهو موقف يتعارض مع مصالح بريطانيا في هذا الوقت بالذات .

وعلى ضوء كل ما سبق يمكننا أن نستخلص بعض النتائج الهامة :

أولا : أن ما أصاب الوفد من انقسامات بعد خروج مكرم عبيد يعد نتاجا طبيعيا لسياسة القصر والتي نتجت عن أحداث 4 فبراير .

ثانيا : بالرغم من التقليل في حجم العناصر الوفدية التي ناصرت مكرم عبيد إلا أن الوفد قد تأثر كثيرا من حدوث هذا الانفصال وواجه العديد من المشاكل التي كان من أهمها اهتزاز ثقة الناس في نزاهة النحاس والتي كانت سمة من سمات حكمة طوال العهود السابقة .

ثالثا: أن خروج مكرم عبيد قد أغري أحزاب الأقلية لكي تتجه إلى التنسيق مع بعضها بهدف القضاء نهائيا على الوفد الذي فاد حركة النضال الوطني أكثر من عشرين عاما .

رابعا : لقد كان خروج مكرم عبيد من أهم العوامل التي أغرت حكومة الوفد على المضي في العديد من التجاوزات التي تناهض الديمقراطية والتي كانت سمة من سمات الوفد طوال فترات نضاله الطويل.

سياسة فاروق تجاه الوفد

لقد سعي فاروق ورجله الأول أحمد حسنين ( رئيس لديوان ) على استغلال كل الفرص الممكنة لرد الإهانة التي لحقت بهما حينما ولي النحاس الحكم ضد إرادتهما وبتأييد من السفارة البريطانية في 4 فبراير 1942 .

وإذا كان القصر قد أقدم على إقالة الوفد سنة 1937 ولم يجد ما يحول بينه وبين حكم البلاد نحو أربع سنوات ببرلمان وحكومات لا تستند إلى أى قاعدة جماهيرية فإن القصر عقب 4 فبراير 1943 كان أشد شوقا لكي يكر هذه الإقالة وإذا كانت العلاقات في ديسمبر 1937 قد ساءت بين القصر والوفد فإنهما اليوم أكثر سواء بل وصلت إلى حد القطيعة وتبادل أقسي الاتهامات .

وقبل أن نستعرض سياسة فاروق تجاه الوفد عقب 4 فبراير 1942 يجدر أن نسجل بعض الأسباب الموضوعية لكراهية الملك فاروق للنحاس باشا :

أولا : لقد كان فاروق دائم الاستماع إلى أحاديث مستشاريه وخصوصا علي ماهر وأحمد حسنين عن العلاقات بين النحاس باشا والملك فؤاد تلك العلاقات التي اتسمت بالعديد من المصادمات في محاولة من الوفد لانتزاع أكب قدر ممكن من الحقوق الدستورية التي تعد من صميم اختصاص القصر وهكذا صور له مستشاروه أن الوفد كان دائم الاعتداء على حقوق الملك الدستورية وأن الخلاف بينهما ليس من باب توضيح الحقوق الدستورية لكل من القوتين المتصارعتين وإنما من باب أن الأمة مصدر السلطان وأن الملك يجب أن يبقي بعيدا عن الحكم ويترك الأمر لحكومة الأغلبية عملا بمبدأ أن الملك يملك ولا يحكم .

ثانيا : أن موقف الوفد في 4 فبراير قد أفقد القصر كل صوابه وبات مؤكدا أن الوفد لم يعد يكن أى نوع من الولاء للقصر حيث كان واضحا أن المجئ بالوفد كان ضد رغبة القصر وهذا مما ضاعف من حد الصراع بين الطرفين مما نتج عنه العديد من النوايا العدوانية لكل من الطرفين تجاه الآخر .

ثالثا : لقد كان النحاس يتعامل مع فاروق من منطلق أنه " ولد صغير " يفتقد إلى الخبرة والتجربة وأن الميول الاستبدادية هي من أهم السمات التي حصل عليها " الولد الصغير" من الولد الملك فؤاد وكانت هذه الاتهامات تصل إلى الملك فاروق عن طريق العديد من عناصر السوء .

رابعا : لقد كان فاروق يعتقد أن للنحاس مطامع خفية لا تصل عند حد رئاسة الحكومة وإنما يمني نفسه بأن يكون أول رئيس للجمهورية المصرية وعلى ضوء هذا الاعتقاد كان ينظر إليه كخطر يهدد العرش ويعترف فاروق صراحة بعد أن نجا من حادث القصاصين :" لما كنت أقرب إلى الموت مني الحياة كان أكثر ما يؤلمنى أنني قد أموت والنحاس في رئاسة الوزارة مما يمكنه من الوصول إلى غايته من اقرب الطرق . وبالرغم من أن الوفد ينفي تماما ما أشيع من أمر التفكير في عزل فاروق على اعتبار أن إعلان الجمهورية لم يكن موضع تفكير لدي الدوائر السياسية في الوفد إلا أن أحد المعاصرين يعترف صراحة بهذا الموضوع حيث يقول :" لقد ظهر أن الملك وحاشيته سائرون في سياسة غي وطنية .. ورأى كبار الوفديين عزل الملك عن العرش وتم عرش الأمر على مجلس الوزراء الذي أقر هذا الاتجاه وعهد إلى أحمد نجيب الهلالي بأن يصوغ بأسلوبه الدقيق مبررات خلع الملك فأعد بيانا وسلمه إلى محمود سليمان غنام " وزير التجارة الذي ذهب إلى منزل النحاس حيث كان الوزراء لا يزالون موجودين وتم توقيعهم جميعا على البيان كقرار صادر من مجلس الوزراء ( سنة 1943) .

ويعترف صاحب هذه الرواية أن هذا الإجراء كان رد فعل لسياسة الملك الذي أخذ يعد فرقا خاصة من ضباط الجيش بهدف الاعتداء على النحاس باشا ووزرائه انتقاما لقبولهم وزارة 4 فبراير .

وعلى الرغم من أن صحب هذه الرواية لم يقدم تبريرا لتراجع الوفد عن المضي في تنفيذ مخططاته إلا أنني أعتقد أن الوفد قد أراد أن يقوم بمناورة لإرهاب الملك حتى يثنيه عن تصرفاته التي اتسمت بالعداء الواضح تجاه النحاس ووزرائه حيث نجح فروق في النيل من الوفد سواء بانفصال مكرم عبيد ( الذراع اليمني للنحس ) أو بإقامة التنظيمات شبه العسكرية وأهمها – التنظيم الحديدي- الذي أعده لملك بهدف اغتيال كل من ساهم في أحداث 4 فبراير أو قبل الحكم في ظل 4 فبراير .

وعلي ضوء ما أعتقد فإن مجلس الوزراء الوفدي قد أقدم على هذه الخطوة كرد فعل لمحاولة الاعتداء على النحاس وأمام العديد من المؤثرات العدائية تجاه الوفد إلا أن مزيدا من التفكير والتروي اعتمادا على أن فكرة خلع الملك وإعلان الجمهورية لم تكن من بين الأفكار التي يتقبلها الشعب المصري وقتئذ حيث كان الملك ما يزال يحظي بشعبية كبيرة سواء وسط الجماهير أو داخل الجيش المصري .. لى ضوء كل هذه الاعتبارات فلقد كان على النحاس أن يعيد النظر في هذا القرار الخطير والذي لا يضمن عواقبه , واعتمادا على أن بريطانيا كانت تهدف من عودة الوفد في 4 فبراير إلى الاستقرار الأحوال داخل مصر وأقدام الوفد على هذه الخطوة الثورية يتعارض تماما مع استراتيجية بريطانيا في المنطقة حيث كانت الحرب ما تزال دائرة على الجبهة المصرية وكانت قوات الحلفاء ما تزال تلقي العديد من الضربات العنيفة من قوات المحور فليس من المنطقي والحالة هكذا أن تشجع الحكومة المصرية على سياستها هذه حتى ولو كان في نية بريطانيا التخلص من فاروق فقد كان عليها أن تنتظر الوقت المناسب سواء فيما يتعلق بسير الحرب أو في تهيئة النفوس المصرية لتقبل مثل هذه الأفكار الجديدة .

وتعددت مظاهر الخلاف بين الملك والوزارة في العديد من المناسبات مما أتاح لفاروق العديد من المبررات التي تمكنه من التخلص من الوزارة وإقالتها إلا ان السفير البريطاني " كيلرن" ظل واقفا أمام محاولات الملك بحجة أن ظروف الحرب لا تقتضي الإقدام على مثل هذه الخطوة .

ولا شك أن كل ظرف قد اصطنع لنفسه من الوسائل ما تمكنه من بلوغ أهدافه وبدأ هذا في العديد من الأزمات التي كان من بينها :-

1- لقد حضر الملك الاحتفال بليلة القدر في مسجد الفتح وحضر الحفل مصطفى النحاس وبعد أن انتهي الشيخ عبد الله عفيفي من إلقاء خطبته دعا للملك وللمؤمنين جميعا والتفت الملك إلى النحاس وسأله عن رأيه في الخطبة فأجاب بأن الخطيب لم يدعو في خطبته لحكومة الشعب ولا لزعيم لشعب وهنا تأفت الملك إلى أحمد حسنين ( رئيس الديوان الملكي ) وطلب إليه أن يبحث فمن المراجع الرسمية فإن وجد سابقة دعا فيها خطباء المساجد لرئيس الحكومة فمن حق النحاس أن تجاب رغبته وفي المساء اتصل صبري أبو علم " وزير العدل " بأحمد حسنين وأخبره أن النحاس سيستقيل أن لم تسو مسألة الدعاء له في المساجد ووفق نفس المرجع فإن النحاس خشي إذا أقدم على الاستقالة أن تقبل فورا مما اضطره أخيرا أن يتصل بأحمد حسنين ويبلغه اعتذاره .

2- لقد استقر الرأي على الاحتفال بالعيد الألفي للأزهر ووضع برنامج الاحتفال بمعرفة الملك شخصيا وكان القائم على تنفيذه هو الشيخ المراغي شيخ الأزهر إلا أن مصطفى النحاس كان يود أن يكون الاحتفال تحت إشراف الحكومة على اعتبار أن الاحتفال سيكون شعبيا ودينيال وأحس النحاس أن اسمه لن يكون في الاحتفال وأن رجال الأزهر لن يذيعوا أن جوهر الصقلي كان وفديا ومن هنا فقد عمل النحاس على عرقلة الاحتفال أو منعه إن استطاع وبالفعل لم يعمل الاحتفال .

3- بحلول موسم صيف 1943 بدأت الوزارة في الانتقال إلى الإسكندرية وكانت القاعدة المرعية في جميع العهود أن يقر الملك موعد الانتقال الرسمي إلى المضيف وكان هذا التصرف من جانب الوزارة مظهرا من مظاهر التحدي للقصر وكان رد الفعل أن القصر أقام حفلا للطلبة المتفوقين دعا إليه نحو 450 طالبا من الجامعات والمدارس ثم تبع ذلك حفل آخر للطلبة الغرباء ولم يدع القصر إلى هاتين الحفلتين أحد من الوزراء .

4- لقد أعد النحاس باشا علما مصريا على سارية عالية في أعلا مكان من منزله وكان هذا العلم يرفع بمجرد دخوله إلى منزله ويظل مرتفعا طالما بقي داخل قصره حتى إذا ما خرج نكس العلم ويظل منكسا إلى أن يعود النحاس إلى قصره وكانت عملية رفع وتنكيس العلم تصحبها تحية عسكرية تقوم بها قوة من سلاح حرس الوزارات تحيي الزعيم عند الدخول وعند الخروج وعلم فاروق بموضوع العلم حيث كان من العلوم أن العلم لا يرفع ولا ينكس إلا لرمز الدولة وهو الملك وصدرت التعليمات من القصر برفع العلم فورا وعدم تكرار هذا التقليد الذي يفتقد إلى أى سند قانوني .

وعلى الرغم من أن معظم المصادمات كنت من باب تصيد المواقف حيث كانت في مجملها خلافات شكلية أكثر منها موضوعية إلا أنها كانت مقدمة للعديد من المحاولات من جانب القصر بهدف إقالة الحكومة ففي أعقاب أزمة الكتاب الأسود تقدم أحمد حسنين رئيس الديوان باستقالته من منصبه ( 14 أبريل 19429 بحجة أن استمرار الوفد في الوزارة بعد أن ثبت فساده سوف يؤدي إلى كراهية الشعب للنحاس مما سيجعل مركزه مستحيلا وقد أدرك " كيلرن" ما وراء هذه الحركة المسرحية ومن ثم سعي إلى إبطال مفعولها .

وعلى ضوء تعليمات الخارجية البريطانية إلى سفيرها في القاهرة فقد طلب السفير من الملك مزيدا من ضبط النفس محذرا من الإقدام على أية خطوة متهورة قد تكون لها عواقب ليست في الحسبان وبالطبع فإن " التهور الذي تعنيه لندن هو إقالة الوفد وأما العواقب التي ليست في الحسبان فهي تذكير الملك بما يشبه 4 فبراير أو يزيد.

وعلى كل فإن محاولات أحمد حسنين لم تتوقف فقد جعل همه أن يظهر الملك بمظهر الرجل الوطني وأن يظهر حكومة الوفد بمظهر المتساهل في حقوق الوطن المعتمد على تأييد البريطانيين وفي الوقت نفسه أدار أحمد حسنين حملة دعاية واسعة لصالح فاروق وجعله يغشي المساجد ولما أصيب في حادث القصاصين اتخذها فرصة لاستدرار العطف على الملك الجريح الذي يقاوم الطغيان البريطاني وجعل من يوم عودته إلى القاهرة مظاهرة شعبية كبيرة وكان واضحا أن كل هذه الحركات مما يضايق الحكومة ويحرجها ثم أنها تعد تعبيرا عن التأييد الذي يحظي به الملك لدي غالبية الشعب المصري .

ويبدو أن أحمد حسنين قد تصور أن محاولاته المتكررة بإظهار الملك في صورة " الملك المتدين" و" الملك الصالح" قد تؤدي إلى التفاف الشعب حول فاروق وانصرافهم عن الوفد وهو ما يتعارض مع سياسة الوفد باعتباره حزب الأمة المصرية كلها وحتى لا يتهم القصر بأنه لا يحس بمعاناة الجماهير فقد فتحت أبواب قصر عابدين أمام العمال حيث دعوا إلى مآدب لهم وقيام فاروق شخصيا بترحيبه بهم ولم يكتف الملك بهذا بل تعمد على أن يمضي يوم ذكري حلف اليمين الدستورية ( 29 يوليو 1937 ) بين عمال المحلة الكبرى متفقدا أحوالهم الصحية والاجتماعية حتى إذا دخل السرادق المقام لاستقباله قال : " أني أري حولي أصحاب رؤوس الأموال التي أنشأت هذه المصانع ولكني لا أري حولي أحد من أصحاب السواعد الذين قامت هذه المصانع على سواعدهم " وكثيرا ما ردد في خطبته مؤكدا على حقوق العمال وقد ترأس بنفسه المجلس الأعلى لمحاربة الجهل والفقر والمرض لدرجة أن كيلرن كان ينقد هذه السياسة معتقدا أنها تقلل من هيبة الملك .

وعلى ما أعتقد فإن كل هذه المحاولات التي كان يقوم بها الملك لم تكن خالصة لوجه الله وإنما كانت بهدف كسب أرض جديدة من تحت أقدام الوفد وهو ما نجح فيه فاروق إلى حد كبير حيث أن العمال كانوا يعدون الغالبية لعظمي لحزب الوفد وعلى ما أعتقد أيضا فإن انتقادات السفير لبريطاني " كيلرن" للملك فاروق بحجة أن سياسته تجاه العمال تقلل من هيبته هو استنتاج لا يتسم بقدر من الموضوعية ولعل السفير كان يهدف من وراء هذه النصيحة إلى أن يظل فاروق بعيدا عن أهم قطاع يمثل عامل ضغط هام في مجري الأحداث المصرية .

ولم تتوقفا سياسة القصر بهدف النيل من النحاس وحكومته بل بدا ذلك النشاط المتزايد الذي شهدته الشهور الباقية من عام 1943 من تنظيم العمال والطلاب تحت راية القصر من خلال الاجتماعات المتكررة التي كان يعقدها أحمد حسنين مع زعماء تلك الطوائف لدرجة أنه تمكن من أن يقنعهم بأن النحاس مصمم على سلب الملك سلطاته وعلى وضع نفسه على رأس الدولة بدلا من أن يقنع بدوره في زعامة الحزب السياسي ورئاسة الوزراء .

ويسجل اللورد أن الملك فاروق قد حقق شعبية كبيرة على الوفد وخصوصا وسط الطبقات العاملة وأن عددا كبيرا من طلاب الجامعات أخذ في التحول من الوفد إلى الملك ويستشهدا السفير بتلك المظاهرات المستمرة التي قام بها الطلاب والعمال عندما أصيب الملك في حادث القصاصين ( نوفمبر 1943).

وفي الوقت الذي كان يقوم فيه القصر بالعديد من المناورات لإضعاف الحكومة والتقليل من هيبتها نستطيع أن نقرر أن معظم تلك المناورات قد حققت قدرا كبيرا من النجاح ولم يقتصر الأمر على مناورات القصر بل تعدي ذلك إلى أحزاب الأقلية التي انتشرت في القرى والمدن المصرية لعقد العديد من الاجتماعات المؤتمرات والتي أنصبت في مجملها على النيل من الوفد مما يجعلنا نعتقد أن كل أحزاب المعارضة كانت تعمل من خلال تنسيق أعدة أحمد حسنين باسم القصر الملكي .

ونظرا لأهمية الجيش في حسم أى نوع من الصراع السياسي فقد بدأ الملك يتقرب إلى الضباط حيث حرص على أدائه لصلاة الجمعة في مسجد فاروق بألماظة وتكررت هذه الزيارة في الفترة من 13 فبراير 1942 وحتى 25 فبراير وكل مرة كان الضباط يهتفون " يعيش الملك قائدنا الأعلى " الجيش فداء الملك ".

وعلى ما يبدو فإن أحمد حسنين قد استطاع أن يقنع فاروق بأن الوفد أضحي قوة هزيلة فقدت مكانتها لدي معظم الجماهير المصرية ولم يعد يمثل واقعا ملموسا وسط الجماهير ومزيدا من إحراج الوفد واعترافا من القصر بأن الوفد لم يعد يمثل الأمة المصرية فلقد دعا الملك زعماء المعارضة وطلب منهم التقدم بمطالب مصر إلى القادة الكبار ( نوفمبر 1943) في مؤتمرهم المنعقد في القاهرة ( تشرتشل روزفلت , شاينج كأى شك)

ويعترف أحد زعماء الأحزاب المصرية بأن هذا اللفتة الملكية كان لها مغزاها فالطبيعي أن تقوم الوزارة بهذا المسعي فهؤلاء الكبار ضيوفها وهي أقدر من المعارضة على الاتصال بهم والتحدث إليهم وهي مطالبة بحكم مركزها بأن تتولي هذا الأمر ومن خصائص الملك الدستورية أن يلفت نظر رئيس وزرائه إلى هذا الأمر فاختصاص الملك رجال المعارضة بهذا الأمر الحيوي له مغزاه البين على أن حادث 4 فبراير 1942 بقي عميق الأثر في نفسه .

وعلى ما أعتقد فإن تعليمات الملك إلى زعماء المعارضة لكي تقدموا بما طلب مصر إلى القادة الكبار لم يكن يهدف تقرير أحقية مصر في الاستقلال عقب الحرب بقدر ما كان يهدف إلى إحراج وإظهارها سواء أمام القادة الكبار أو أمام الشعب بمظهر الحكومة العاجزة عن تحقيق أماني الشعب المصري ولعل هذا ما يبدو واضحا من خلال إلحاح الملك بعزل حكومة النحاس باعتبارها عقبة في سبيل تحقيق الأماني الوطنية للشعب المصري .

ويلاحظ أن المذكرة التي تقدم بها زعماء المعارضة ( 21 نوفمبر 1943) كانت على غرار مذكرة مماثلة قدمها الوفد في 21 أبريل سنة 1940 إلى الحكومة البريطانية ولعل هاتين المذكرتين لم تكونا سوي مناورة لا تعبر عن حقيقة أو موقف جاد فقد قدم الوفد مذكرته كيدا للوزارة القائمة حينئذ وقدمت المعارضة مذكرتها كيدا لوزارة الوفد بدليل أن الوفد حينما ولي الحكم لم يقدم على أى إجراء عملي لتنفيذ ما جاء في مذكرته وكذلك كان موقف أحزاب المعارضة فإنها حينما وليت الحكم بعد ذلك بأقل من عام تناست كل ما طالبت به في مذكرتها .

وفي الوقت الذي كان فيه فاروق يبذل كل جهد ممكن سواء في توشيه صورة الوفد والنيل من مكانته أو في محاولاته المتكررة لطرد الحكومة كانت هناك محاولات أخري تأخذ طابعا سريا ونعني بها محاولة أعداد تنظيم سري بهدف اغتيال كل من ساهم في صنع 4 فبراير 1942 وعلى رأسهم النحاس باشا وأمين عثمان .

لقد وصلت العلاقات بين القصر والحكومة إلى أبعد مدا وخصوصا بعد انتشار الملاريا في مديرتي قنا وأسوان مع نهاية عام 1943 وبداية عام 1944 وزيادة المجاعة وكثرة الوفيات في تلك المناطق وفشلت جهود الوزارة في اتخاذ الإجراءات المناسبة مما حدا بالقصر لكي يستخدم هذا الفشل كورقة ضد الوفد وتراءي للملك أن يقم برحلة خاصة إلى الصعيد ومع أنه استقبل النحاس باشا يوم 7 فبراير فإنه لم يخبره بما يفكر فيه من زيارة المديريات المنكوبة . وفي صباح الخميس 10 فبراير سافر الملك ( عشية عيد ميلاده) حيث أحيطت تلك الزيارة بالعديد من مظاهر العطف الملكي على الفلاحين المنكوبين وقد أشار فاروق في أحاديثه إلى أهل النوبة بما يفهم من أن الحكومة قد أهملت إهمالا كبيرا في السيطرة على كل تلك المشاكل .

وكان لتلك الزيارة أثرها في تنبيه الأذهان إلى خطورة الموقف حيث جرت في الأسبوع الأخير من فبراير مناقشات حامية في البرلمان حول نقص المواد الغذائية وانتشار الملاريا وقد ألقي النحاس باللائمة على الوزارات السابقة لأنها أعاقت مشروع تعلية خزان أسوان ثم ألقي المسئولية على كبار الملاك في الوجه القلبي لأنهم يعطون أجور غير مجزية للعمال الزراعيين ولعل النحاس كان يقصد إلقاء التبعة على الملك فاروق شخصيا لأنه من المعروف أن الخاصة الملكية لها تفتيش واسعة في تلك المناطق ولم يكتف النحاس بذلك بل ألقي بيانا نشر في كل الصحف الوفدية وبعض صحف المعارضة مؤكدا على أن أبناء الصعيد في حالة جيدة وأنهم سعداء بإدارة الحكومة .

وإمعانا في تجسيم المنافسة بين الملك والنحاس قام الأخير في 13 مارس بزيارة أسيوط والمنيا واصطحب معه وزراء الأشغال والعدل والمعارف والداخلية والصحة والأوقاف وأعلن عن زيارته إلى قنا وأسوان بعد قليل وتمت الرحلة خلال مارس 1944 حيث افتتح النحاس عددا من المنشآت والساحات الشعبية وأطلق عليها مؤسسة مصطفى النحاس وفي الخطب التي ألقاها الوزراء في تلك المناسبة ركزوا على أن الحكومة تعمل الكثير لأبناء الصعيد بينما القصر لا يعمل شيئا .

وبالرغم من أن زيارة فاروق لتلك المناطق والتصريحات التي أدلي بها تعد إحراجا أكيدا للحكومة إلا أنه لم يكتف بذلك بل استدعي رئيس الوزراء كما أجتمع بوزراء الداخلية والشئون الاجتماعية والأوقاف والتموين والصحة ولفت أنظارهم إلى سوء حالة التغذية والتموين وانعدام الرعاية الصحية في المناطق التي زارها .

ويبدو أن فاروق قد حاول استثمار الموقف بهدف إقالة الوزارة واستدعي السفير البريطاني وأبلغه بنيته بحجة أن الأمة لم تعد تنظر باحترام كاف للعرش وأن البلاد لا تحتمل ملكين ورد السفير مداعبا " أن ملكا واحدا يكفينا وبالرغم من الاتفاق الذي تم بين الرجلين على انتظار رد لندن إلا أن فاروق حاول أن يضع السفير البريطاني أمام الأمر الواقع وأصدر أمرا ملكيا بإقالة الوزارة إلا أن السفير كان متيقظا وتنمكن من الضغط على فاروق وطلب منه انتظار رد تشرتشل الذي جمع وزارة الحرب لبحث المسألة وجاء قرار الحكومة البريطانية والذي تم إبلاغه إلى القصر وفحواة : أن مجلس الحرب يري أن رغبة الملك في إقالة حكومة يتمتع رئيسها بأغلبية كبيرة في البرلمان الذي لا زال أمامه ثلاث سنوات أخري يعد عملا محفوفا بالمخاطر .

وبعثت الحكومة البريطانية برسول يستطلع الموقف السياسي في مصر وقد حضر مستر " سكريفنر " رئيس إدارة الشرق الأوسط بوزارة الخارجية بعدد من زعماء المعارضة وخلص إلى أن الشكوى من الوزارة القائمة تنحصر في مرين :

أولهما : شدة الرقابة على الصحف .

ثانيهما : كثرة الاعتقالات السياسية وكان من رأي السفير البريطاني أن بعض الاعتقالات يتم لإغراض حزبية ولهذا فقد اقترح تأليف لجنة برئاسة أمين عثمان لمراجعة كشوف المعتقلين وتوضيح أسباب اعتقالهم وعلى سبيل التندر قال مستر " سكريفنر " أنه علم من مصدر ثقته أن النحاس أمر باعتقال الطاهي الخصوصي لأنه وضع في الحساء كمية من البصل أكثر من اللازم .

ووفقا لأحد المصادر وثيقة الصلة بالقصر الملكي فإن أحمد حسنين في حديثه مع " سكريفنر" قد أنحي باللائمة على بريطانيا لأنها تتمسك بوزارة قصرت في شئوت التموين وأن أهالي الصعيد قد يقومون بثورة كالتي حدثت في سنة 1919 وأن الوفد إذا دخل انتخابات جديدة فإنه لن يفوز بأكثر من 30 % من الأصوات .

ولعل النحاس باشا قد قرر خطورة المحاولات التي يبذلها القصر بهدف إطاحة بوزارة 4 فبراير لذا فقد ذهب إل ى السفير البريطاني معاتبا إياه قائلا : لقد بذلت قصاري جهدي لكي أبدو مفيدا في تلبية مطالبكم سواء بتأمين قواتكم أو بتوفير المواد الغذائية للقوات المحاربة واعتقلت غير المرغوب فيهم من الشخصيات العامة كل هذا وصل بي إلى موقف اتهمت فيه بأني أفعل ما يريده لانجليز لأبقي في الحكم وأخيرا وبعد كل ذلك أحس أنكم بدأتم تتخلون عني ويشير النحاس من طرف خفي أنه على استعداد لإلغاء الأحكام العرفية وإلغاء الرقابة والاعتقال والعودة إلى المحاكم العادية معتادون على تحمل قدر من اللوم لا يستحقونه على مسئوليات تعد من صميم عمل الحكومة المصرية ويضيف السفير في برقيته قائلا : أن النحاس أصبح يدرك بصورة متزايدة المشاعر المعادية ضده بسبب عيوبه ومطاردته لخصومه السياسيين بحجة تسئ إلى بريطانيا قبل أن تسئ إلى الوفد وعموما فإن الوفد بكل عيوبه لا يزال أفضل ما نعتمد على .

وإذا كان هدف بريطانيا من عودة الوفد في 4 فبراير هو استقرار الأوضاع المصرية بالإضافة إلى توظيف كل الإمكانيات المصرية خدمة لقضية الحلفاء بما يضمن أمن القوات البريطانية المحاربة وتأمين ظهرها فإن هذه البرقية تضاعف من قناعتنا بأن بريطانيا كانت تهدف أيضا بعودة الوفد إلى اهتزاز ثقة الجماهير في هذا البناء الشامخ " الوفد ط حتى إذا ما انقضت الجماهير من حوله فلا مانع من أعطاء الضوء الأخضر للملك لكي يقيله لكن إقالته هذه المرة ستكون أسوأ إقالة حيث شاخ وهرم وفقد المقدرة على لتأثير وأصبح تاريخا فقط لا يحمل نبضا صادقا ولعل فاروق كان مدركا هذا المعني واثقا من محاولاته ولذا فقد سعي جاهدا لمقابلة " كيرك" السفير الأمريكي في القاهرة طالبا منه التوسط لدي الحكومة البريطانية في محاولة لإقناعها بفكرة عزل النحاس وحكومته ووفقا لتعبير " كيرك ": فإن الملك عاقد العزم على إنهاء الخلاف بينه وبين رئيس الوزراء بالقوة حتى ولو كلفه ذلك اعتزال العرش والإقامة في المنفي ويضيف السفير الأمريكي " أن الخلاف بين فاروق والنحاس من الممكن أن تكون له عواقب وخيمة على منطقة الشرق الأوسط كلها إلا أن السفير الأمريكي لم يقطع على نفسه وعد على اعتبار أن هذه المسألة تدور في إطار العلاقات البريطانية المصرية .

ولعل السفير الأمريكي لم يحاول أن يقطع على نفسه وعدا قد يورط الولايات المتحدة الأمريكية في أمر يعد من أخص خصائص الحكومة البريطانية اعتمادا على أن فاروق لا يساوي خلافا بين الولايات المتحدة وحلفائها ولهذا فقد امتنع " كيرك " عن التوسط في حسم هذا الخلاف وعلي ما اعتقد أيضا فإن امتناع السفير الأمريكي عن التدخل قد يكون راجعا إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت تدرك أن الإمبراطورية البريطانية قد شاخت وأن مصيرها إلى زوال . والنظرة الموضوعية تقتضي التعقل بعيدا عن التدخل في صراعات قد تحدث أثارا ضارة للمصالح الأمريكية المنتظرة .

وعلى ما اعتقد فإن قضية التغيير التي كان يعتبرها فاروق قضيته الأولي والأخيرة كانت أشد ما تكون ارتباطا بانتصار الحلفاء في الحرب ومع نهاية 1944 حيث كان الأمريكان والانجليز قد نزلوا فرنسا وبدءوا يجلون الألمان عنها وكان الروس من ناحيتهم قد قاوموا الألمان في – ستالينجراد – مقاومة اضطرتهم إلى التراجع وأتاحت للروس أن يتقدموا إلى بروسيا الشرقية وكانت بوادر نصر الحلفاء تتبدي في الأفق نصرا حاسما بغير شرط ولا قيد وأدرك البريطانيون وفقا لسياستهم التقليدية أنه لم يتبق لهم في مصر حاجة لليد الحديدية التي جعلوا النحاس وسيلتها منذ أن فرضوه على الحكم في 4 فبراير 1942 .

وأدرك أحمد حسنين أن الفرصة مواتية لإقالة مصطفى النحاس وأدرك فاروق أن أحمد حسنين هو الرجل الذي من الممكن أن تقبله بريطانيا بديلا ن الوفد بعد أن استنزفت كل الوسائل المتاحة أمام القصر إلا أن بريطانيا كانت تدرك جيدا أن أحمد حسنين على الرغم من صداقته لبريطانيا إلا أنه ليس بالرجل المنتظر .

والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة : لماذا أعتقد فاروق أن أحمد حسنين هو البديل المناسب عن الوفد على الرغم من أن استمراره في منصب رئيس الديوان يعد صمام أمن لفاروق ؟... وتأسيسا على العديد من القرائن النحاس هذا الرجل الذي استطاع أن يبث الطمأنينة في نفوس الساسة الانجليز منذ ولي الحكم في 4 فبراير ولعل هذا الاعتبار الذي استباحت من أجله بريطانيا كل القوانين والمعاهدات لا يمكن أن تقبل تغييره ولكن من الممكن أن تعيد تفكيرها إذا وجد على رأس الحكومة ما يستطيع أن يؤمن مصالح بريطانيا واختيار أحمد حسنين هذا الرجل الذي أجمع كل الساسة الانجليز على أنه لا يضمر أى نوايا عدوانية تجاه الانجليز بما عرف من صداقته للعديد من الشخصيات البريطانية وبمعني أكثر وضوحا لقد استطاع القصر أن يقدم البديل عن الوفد وعن النحاس أما الاعتقاد بأن الوفد يستند إلى قاعدة شعبية كبيرة تؤمن بالنحاس أما الاعتقاد بأن الوفد يستند إلى قاعدة شعبية كبيرة تؤمن بالنحاس ولا ترضي عنه بديلا أعتقد أن القصر قد قدر الانهيار الذي لحق بالوفد سواء بعد 4 فبراير أو عقب خروج مكرم عبيد ولذا فلم تعد لبريطانيا حجة من أن يستند إلى أغلبية شعبية .

إلا أن بريطانيا على ما يبدو لم تكن على استعداد لإجراء أى نوع من التغيير نظرا لأن الحرب سواء في الجبهة الأفريقية ( شمال أفريقيا ) أو في جبهات أوربا كانت تمر بأدق وأخطر المراحل وعلى حد تعبير السفير البريطاني :" سيظل السوط معلقا على الحائط ليراه الملك بين وقت وآخر "

وبالقدر الذي كانت فيه بريطانيا تحاول حماية الوفد من الإقالة كان النحاس يلقي بكل ثقله في جانب السفير البريطاني إيمانا منه بأن بقاءه في الحكم لا يستند إلى الأغلبية ولا لغيرها من الاعتبارات وإنما يستند إلى ما يقدمه الوفد للإنجليز ولذا فقد القي النحاس بكل ثقله في جانب الحليفة غير مدرك لإبعاد السياسة البريطانية التي ستتخلي عنه حتما في الوقت المناسب .

ووفق العديد من المخططات التي كان يقوم بها القصر فإنه لم يفقد الأمل في الإطاحة بالحكومة بل جعلها مبدأ استراتيجيا في سياسته وحتما سيكون من تحقيق أغراضه وعلى حد تعبير أحمد حسنين صبرا يا مولانا فالشباك قد أعدت "

ولعل فاروق كان مقدرا طبيعة الموقف الدولي وكان يلتمس النهاية التي تمكنه من تحقيق رغبته بعد أن طال صبره ما يقرب من ثلاثة أعوام حتى كان يوم الجمعة 15 سبتمبر 1944 فقد بعث كبير الأمناء إلى النحاس طبقا للعادة المرعية يخبره بأن جلالة الملك سوف يؤدي صلاة الجمعة في مسجد عمرو بن العاص . ولكن الأخطار لم يتضمن دعوة رئيس الوزراء إلى مصاحبة الملك طبقا لما جرت عليه التقاليد ولما سأل النحاس قال له كبير الأمناء أن حسنين باشا رئيس الديوان هو الذي سيصحب الملك في موكبه .

ويبدو أن هذا القرار جاء ردا على تحدي النحاس باشا للملك إذ لم يحضر ولم يعتذر عن عدم قبول الدعوة إلى مأدبة الإفطار التي أقامها الملك يوم 25 أغسطس لسفراء الدول العربية .

وبينما موكب الملك يمر لأداء صلاة الجمعة لاحظ الملك بعض اللافتات وقد كتب عليها " يحيا الملك مع النحاس " وكان اقتران اسم الملك باسم النحاس سببا لإصدار الأوامر من الملك إلى مدير الأمن العام محمود غزالي بك بنزع اللافتات ونفذ الأمر على الفور وفي اليوم التالي نشرت الصحف قرارا من وزير الداخلية بإيقاف مدير الأمن العام عن العمل , وأثار هذا القرار حفيظة الملك الذي صمم بدوره على بقاء مدير الأمن العام في منصبه واتصل حسنين باشا بمستر ( الآن ترنس شون) القائم بأعمال السفارة البريطانية وأبلغه أنه لا يعتزم اتخاذ أى إجراء متسرع ضد الوزارة .

ولكنه حفاظا لكرامة الملك يجب أن يعود محمود غزالي إلى منصبه وبادر مستر شون بإرسال خطاب إلى النحاس قال فيه أن انجلترا ما زالت تبدي اهتماما كبيرا بتأمين مصر باعتبارها قاعدة للعمليات الحربية وأنها ترغب في تجنب أية إجراءات قد تؤثر في سير المجهود الحربي .

وبدا واضحا أنه لابد من تنازل أحد الفريقين حتى تمر تلك الأزمة إلا أن كل منهما قد تطلع إلى دار لسفارة البريطانية باعتبارها المصدر الفعلي لحكم البلاد وغاب عن النحاس أن الموقف هذه المرة تحكمه اعتبارات دولية جديدة فلقد كانت الأوضاع الدولية توشك في نهاية الحرب لصالح الحلفاء في الوقت الذي كان فيه اللورد كيلرن صاحب أحداث 4 فبراير العسكرية غائبا عن مصر في رحلة صيد إلى جنوب أفريقيا وعلى ما أعتقد فإن غيابه لم يكن من قبيل المصادفة وحتى لو كان موجودا فلن يغير من الأمر شئ لأن السياسة البريطانية لا تقوم على اعتبارات شخصية وإنما تعتمد على اعتبارات موضوعية لعل في مقدمتها التخلي عن اليد الحديدية حتى يتطلع الشعب المصري إلى أمل جديد مما يخفف من حدة العداء التقليدي بين المصريين والانجليز ثم أن الرجل موضع الخلاف " محمود غزالي " كان موضع اهتمام الدوائر البريطانية وكان اختياره لهذا المنصب بناء على تعليمات الحكومة البريطانية .

ولما كانت حجة انجلترا في التمسك بوزارة الوفد أنها ما زالت تحتل الأغلبية بين جماهير الشعب وأنها تتعاون بصدق مع الحليفة في سبيل المجهود الحربي أما وقد انحصر خطر الحرب عن مصر نهائيا وتوالت انتصارات الحلفاء بحيث أخذوا يستعدون لعقد مؤتمر السلام فقد تغير الموقف تماما .

وعلى ما أعتقد فإن الوفد لم يدرك أن المجئ بحكومته كان لأهداف بريطانية بحتة حيث حصلت بريطانيا من مصر على كل ما ممكن أن تقدمه الدول المحاربة .

أما القول بأن بريطانيا قد ساهمت في عودة الوفد لأسباب ديمقراطية بحتة فهو قول لا يستند على أى دليل مادي أو عقلي وأعتقد أن بريطانيا كانت عازمة على إقالة الوفد حتى ولو لم تحدث مشكلة غزالي بك وإلا كيف نفسر ذهاب السفير البريطاني إلى جنوب أفريقيا في رحلة صيد والحرب لم تنته بعد وجيوش الحلفاء في القاهرة وباقي العواصم لمصرية تقرب من المائة وخمسون ألفا أو يزيد وما يترب على ذلك من مشاكل تستلزم بالضرورة بقاء الرجل الذي يعلق السوط على لحائط لكي يرهب به كل من تسول له نفسه الخروج على رغبة الحكومة البريطانية .

وعلى ضوء كل الاعتبارات السابقة حمل المستر شئون لقائم بأعمال السفير قرار الحكومة البريطانية إلى القصر وكان نصه : أن حكومة صاحب الجلالة لا تريد أن تتدخل في هذا الخلاف الداخلي ومن المؤكد أن الحكومة البريطانية كانت تعني حرية القصر في إقالة الوزارة اعتقادا من الحكومة البريطانية بأن القصر لن يفوت هذه الفرصة.

ووفق أحد المصادر قريبة الصلة الملكي فإن النحاس بعد أن أدرك حقيقة السياسة البريطانية كان يستعد لمواجهة القصر والانجليز معا وذلك بتقديم استقالته بدعوي ن الانجليز لا يستجيبون للمطالب الوطنية وأنهم يتدخلون في شئون مصر الداخلية .

وواقع الأمر أن النحاس قد أشار في احدي خطبة إلى ضرورة تعديل المعاهدة كما أشار إلى ضرورة صيانة حقوق مصر في السودان إلا أن السفارة البريطانية قد أدركت أهمية الموقف الذي من الممكن أن يحدث لو أقدم النحاس على تقديم استقالته ولذا فقد بادرت بإعطاء الضوء الأخضر حتى يتمكن القصر من تحقيق أمنيته التي يسعي إلى بلوغها منذ ثلاث سنوات .

ولما كانت مناقشات اللجنة التحضيرية لمؤتمر الاتحاد العربي تسير قدما نحو النجاح وتحدد يوم 5 أكتوبر سنة 1944 موعدا لانتهائها وتقرر الاحتفال بتوقيع ميثاق جامعة الدول العربية يوم 7 أكتوبر فكان على النحاس أن يتريث حتى يتم هذا العمل المجيد وبعدها يقدم استقالة مستندا إلى أسباب وطنية ومن جانب القصر كان الموقف يقتضي التريث أيضا لأن إقالة الوزارة وهي بصدد توقيع ميثاق الجامعة العربية قد يفسر بأن فاروق يعترض على قيام الوحدة العربية وهو الحريص على أن تكون له زعامتها ولهذا فقد التزم الطرفان جنب الترقب والانتظار .

وفي صباح الأحد 8 أكتوبر 1944 ذهب حسن يوسف وكيل الديوان حاملا قرار إقالة حكومة 4 فبراير والتي ورد ذكرها على النحو التالي : لما كنت حريصا على أن تحكم بلادي وزارة ديمقراطية تعمل للوطن وتطبق أحكام الدستور نصا وروحا وتسوي بين المصريين جميعا في الحقوق والواجبات وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات الشعب فقد رأينا أن نقليكم من منصبكم .. الخ

وزارة أحمد ماهر وانتقال الوفد إلى جبهة المعارضة

وفي نفس اليوم الذي وجه فيه الملك الإقالة التي النحاس (8 أكتوبر 1944) وجه أمر تأليف الوزارة إلى أحمد ماهر وكان من المتوقع أن يكون أحمد حسنين هو الرئيس الجديد إلا أن الموقف كانت تحكمه عدة عوامل موضوعية تفسرها القرائن الآتية :

أولا : لعل أحمد حسنين قد فضل أن يدع لغيره مواجهة التغيرات الجديدة وخصوصا وأنه كان دائم التصريح عن محاولاته المستمرة بهدف إصلاح الصراع الذي وقع في العلاقات بين القصر والوفد نتيجة لحادث 4 فبراير وحتى في أشد مراحل الصراع بين الملك والنحاس عقب إقالة مكرم عبيد كان أحمد حسنين يلعب دوره وبذكاء شديد محاولا إقناع الوفد بأن رئاسة ديوان القصر تسعي لوجود نوع من التفاهم بين القصر والوفد وعلى حد تعبير أحد المعاصرين :" لقد كان أحمد حسنين داهية سياسية يصعب فهمها وعلى ضوء كل هذه الاعتبارات فإن أحمد حسنين لم يكن من السذاجة لدرجة أنه يوافق على رئاسة الحكومة حتى لا يتهم بأنه كان وراء كل ما حدث من خلافات بين القصر والوفد بالرغم من أننا على درجة كبيرة من القناعة التي تجعلنا نقرر بأن أحمد حسنين يعد العامل الثاني في تصدع العلاقات بين القصر والوفد بعد العمل الأول وهو حادث 4 فبراير .

ثانيا : لقد كانت سياسة القصر قائمة على مبدأ تدمير الوفد والتجاوز عن فكرة الدستور أو القانون وأحمد حسنين بما عرف عنه من ذكاء وحنكة لا يمكن أن يكون كبش الفداء حيث تعود دائما أن يعمل من خلف الستار وكان اختيار أحمد ماهر ليس من قبيل المصادفة بل لما عرف عنه من كراهية شديدة للنحاس تؤهله أن يكون الزراع التي تمكن القصر من اقتلاع عروش الوفد.

ثالثا : أن منصب رئيس الديوان لا يقل أهمية عن منصب رئيس الحكومة علاوة على أن منصب رئيس الديوان يتسم بالثبات والاستقرار بعد مشاحنات الأحزاب بل غالبا ما كانت الأحزاب تلجأ إلى رئيس الديوان لحسم أى نوع من الخلافات التي تقع سواء بين الأحزاب وبعضها أو بين الأحزاب والملك وما كان لأحمد حسنين وهو في موقع الاختيار أن يقبل عن منصب رئيس الديوان بديلا وخصوصا في تلك الفترة التي تسلتزم وفقا لسياسة القصر العديد من الإجراءات التي لا تتفق مع مبدأ الدستور أو القانون .

وعلى الرغم من اعترافنا صراحة بأن الوفد قد تجاوز في تصرفاته إلى درجة لا تتفق وتاريخ هذا البناء الشامخ وإذا كان الدستور قد أعطي الملك حرية إقالة الحكومة باعتباره حقا مقررا في الدستور إلا أن هذا الحق ليس مطلقا بل مقيدا بشرط ألا تنقل السلطة من الشعب إلى الملك بل لابد من العودة إلى الأمة باعتبارها مصدر السلطات واستطلاع رأيها من خلال انتخابات حرة يتبين منها مصدر السلطات واستطلاع رأيها من خلال انتخابات حرة يتبين منها الرأي الصحيح للشعب إلا أن أحزاب الأقلية مجتمعة ما عدا الحزب الوطني كانت تسبح بحمد الملك وتقبله مصدرا لكل السلطات ولم يتورع رئيس الحكومة الجديدة من أن يتهم النحاس صراحة بأنه كان أسوأ الديكتاتوريين وأنه كان يحكم مصر بأساليب هتلر وموسليني .

ووصلت الحملة على الوفد ذروتها حينما تقرر تشكيل لجنة تحقيق يترأسها مكرم عبيد لتقدم تقريرا عن أعمال الفساد والمحسوبية المنسوبتان إلى النحاس ووزرائه وأقاربه ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أصدر الملك مرسوما بقانون هذا نصه :

مادة 1 : تبطل فيما يتعلق بالدرجة والماهية جميع التعيينات الاستثنائية في المدة من 6 فبراير سنة 1942 وحتى 8 أكتوبر سنة 1944 وكذلك جميع التعيينات التي تمت في المدة المذكورة ولا يسري الحكم السابق على التعيينات التي صدر بها مرسوم أو أمر ملكي .

مادة 2 : يبطل بالنسبة لأرباب المعاشات أيضا ويسري المعاش على أساس الماهية التي تستحق طبقا لتلك الأحكام مع إدخال المدة التي تكون قد أضيفت في حسابات المعاشات على ألا تتجاوز عامان .

وعلى ضوء المذكرة التفسيرية للقانون السابق فإن الأمر يبدو أكثر غرابة حيث إبانت المذكرة العلة القانونية في بطلان العلاوات والترقيات والتعيينات على اعتبار أنه لم يقصد في مجموعها تحقيق المصلحة العامة وإنما كان الباعث إليها هو محاباة ذوي القربي وإرضاء الشهوات السياسية على حساب المصلحة العامة .

ولعل من البديهيات أن كل الحكومات التي تعاقبت على حكم مصر في الفترة من 19371945 قد اتخذت من الاستثناءات والمحسوبيات وسيلة لتدعيم مكانتها وسلاحا تشهره في وجه معارضيها سواء لصالح أنصارها أو في النيل من معارضيها حتى باتت فكرة " الاستثناءات " وكأنها ظاهرة طبيعية في الحياة السياسية المصرية وفي الوقت الذي كانت تلجأ فيه الحكومة " أية حكومة " إلى التشهير بفكرة الاستثناءات تكون هي أكثر الحكومات عملا بذلك السياسة وغالبا ما كانت تلجأ الحكومات إلى تبرير هذا السلوك ولم تعدم المبررات التي تسوغها للإقدام على هذا السلوك الذي استقر في المجتمع المصري وأصبح سمة مميزة في تاريخ كل الوزارات المصرية المتعاقبة .

ولعل هذا السلوك قد خلق روح التذمر بين الموظفين فشاع الحقد وعمت الغيرة وفترة همة الموظفين عن العمل وانصرف البعض للبحث عن وساطة تشفع لهم عند القائمين بالحكم بل وعمت روح النفاق والتملق وهاتان الظاهرتان قد استشرفا في دماء المجتمع المصري وكأنهما علامة مميزة لتلك الفترة .

والملاحظ على حكومة أحمد ماهر أنها تألفت من جميع الأحزاب المصرية فيما عدا الوفد ولم تشمل أحدا من المستقلين ولعل الهدف من وراء ذلك أن تكون الحكومة الجديدة بديلا مناسبا عن الوفد ويبدو هذا من اقتراح لملك فاروق يتساوي عدد المرشحين لمجلس النواب من بين الأحزاب الأربعة المشتركة في الحكم والهيئة السعدية الأحرار الدستوريون , الحرب الوطني , الكتلة الوفدية) .

ولعل فاروق كان يهدف من اقتراحه إيجاد نوع من التعامل بين الأحزاب المشتركة في الحكم مما لا يرجح كفة على أخري وبالتالي يتمكن الملك من توجيه السياسة العامة باعتباره صاحب الفضل الأول في المجئ بأحزاب الأقلية في الحكم .

إلا أن الدكتور أحمد ماهر لم يوافق على هذه الفكرة على اعتبار أن مشورة الملك تسوي بين جميع الأحزاب في عدد الأعضاء بالرغم من أن بعض الأحزاب مثل الكتلة الوفدية والحزب الوطني ليس لديهم من المشرحين ما يمكنهم من النجاح في الانتخابات غلا عددا يسيرا وفضلا عن ذلك فإن أحمد ماهر لا يريد أن يجعل مركزه رهنا برضاء هذا الحزب أو غضب ذاك عليه ولابد له من عدة مناسب من الأعضاء يستطيع الاطمئنان إلى تأييده لبقاء الوزارة واستمرارها .

ويعترف أحد زعماء الهيئة السعدية الدكتور أحمد ماهر قد اعترض على فكرة التساوي بين الأحزاب بسبب سياسة القصر التي تريد أن تبسط نفوذها وسيطرتها التامة على الحكومة عن طريق تمزيق الأحزاب وخلق حزازات بل وعداوات صريحة بين بعضهم البعض لتضرب هذا بذاك إلى آخر سياسة " فرق تسد" وأن خطة أحمد ماهر كانت قائمة على فكرة جمع الشمل ودمج الأحزاب كلها في كتلة واحدة تواجه القصر والاستعمار معا .

وعلى ما أعتقد فإن هذه الرواية لا تحمل قدرا كبيرا من الحقيقة للأسباب الآتية :-

1- ان اعتراض الدكتور ماهر وفق رواية الدكتور هيكل لم يكن بسبب القصر وإنما لحاجة الدكتور ماهر إلى قاعدة برلمانية تساند الحكومة في سياستها حتى لا تفشل الحكومة بحجة فشل الائتلاف .

2- إذا كان اعتراض الدكتور ماهر على مبدأ التساوي بين الأحزاب في الانتخابات المقترحة فكيف يمكن إقرار فكرة الدمج التي تعتمد أولا وقبل كل شئ على إنكار لذاتية والموافقة على قبول الهوية العامة التي ترضها جميع الأحزاب ما عدا الوفد " تحت مبادئ الهيئة السعدية وهو مالا نعتقد بصحته إطلاقا .

3- أن المساوئ التي كان يتسم بها القصر لم تكن حديث الأحزاب المعارضة في تلك الفترة وإنما كانت جميعها تسبح بحمد القصر وتود لو انتزعت من الحقوق الدستورية لصالح القصر ثمنا لبقائها في الحكم .

ونظرا لأن كل القوي المناوئة للوفد وعلى رأسها القصر كانت ما تزال تئن من الضربات الشديدة التي تلقتها من الوفد فقد اتفق الجميع على تأليف لجنة تسمي " لجنة الترشيح للانتخابات وتكونت من الأحزاب الأربعة المشتركة في الوزارة وتم الاتفاق على تقسيم الدوائر إلى طائفتين : دوائر مغلقة ودوائر مفتوحة أما الدوائر المغلقة فهي التي تتفق الأحزاب الأربعة على ترشيح شخص بذاته في كل دائرة منها أما الدوائر المفتوحة فهي التي تركب ليرشح فيها كل حزب ما يشاء ... وإنما قصد بهذا التقسيم أن يترك لكل حزب فرصة النجاح بالعدد الذي يختاره ممن يستطيعون النجاح في هذه الدوائر المفتوحة .

وهكذا وزعت الأدوار وقسمت الدوائر وكان الوفد لم يعد له أى تأثير أو وجود في الحياة السياسية المصرية وبينما الدكتور ماهر قد وجه كلمته المشهورة إلى النحاس في اجتماع قصر عابدين مساء 4 فبراير – لقد قبلت المجئ يا نحاس باشا على أسنة الحراب البريطانية – ماذا يمكن أن نفسر مجئ الدكتور ماهر إلى الحكم على أسنة حراب القصر وتواطؤ الأحزاب التي تفتقد إلى الجماهيرية الفعلية لقد بات واضحا وفقا لسياسة القصر أن الهدف الأساسي من المجئ بحكومة أحمد ماهر هو المزيد من التشهير بالوفد والتنكيل بزعمائه والنيل منه بل وضربه الضربة القاضية أن أمكن إلا أن الحوادث قد كذبت ظن الدكتور ماهر فبينما كان الوفد قد خسر أكثر من نصف أنصاره في آخر حكمه إذا بإقالته بهذه الصورة يبدو – أن خطأ أو صوابا – شهيدا وإذا بالناس يتأولون سبب إقالته كل حسب اتجاهه ولكن كل سبب قيل أو انصراف إليه الخاطر لم يكن في صالح الوزارة الجديدة بسبب تواطؤها الواضح مع القصر وبعدها عن مبدأ الديمقراطية .

ثم كانت انتخابات مجلس النواب والتي تشبه إلى حد كبير انتخابات 1938 والتي أجرتها حكومة محمد محمود حيث عدلت الدوائر الانتخابية من جديد وتم نقل أو فضل العديد من مديري الأقاليم وبات واضحا أن الانتخابات ستزيف لذا كان قرار الوفد بمقاطعة الانتخابات .

ويرجع أحد المعاصرين عدم دخول الوفد في انتخابات 1944 إلى شعر الوفديين بأنهم فقدوا ثقة غالبية الشعب بسبب مساوئ حكومة 4 فبراير وطغيانها وتصرفاتها المنافية للعدل والاستقامة والنزاهة من هنا فقد آثروا الامتناع عن دخول الانتخابات سترا لفشلهم المرتقب ولكي ينسي الناس مع الزمن سيئاتهم لعلمهم في بلد كل شئ فيه ينسي بعد حين.

ولعل الوفد قد ارتضي أن يبقي بعيدا عن مسرح السياسة وسواء أكان هذا إيمانا منه بأن إرادة الأمة ستزيف أو لاعتقاده بان الوفديين فقدوا ثقة غالبية الشعب إلا أن هذا الموقف يعد ذكاء سياسيا ماهرا فلقد ضاعف من الاعتقاد القائل بان الوفد يعد شهيد الديمقراطية ولأن السياسة التي سارعت عليها أحزاب الأقلية " المشتركة في الحكم والتجاوزات العديدة التي أحدثتها والاضطهاد الواضحة التي لقيها الوفديون كل هذه الأمور قد أعادت إلى الوفد بعضا من مكانته التي فقدها وسط الجماهير ولعل من الصعب تحقيق هذه المكاسب لو ارتضي الوفد الدخول في عملية الانتخابات في وقت يعلم أن إرادة القصر قد أجمعت على سقوطه فلم يكن من المقبول أن يكذب القصر نفسه حيث قد أجمعت على سقوطه فلم يكن من لمقبول أن يكذب القصر نفسه حيث كان قرار إقالة الوفد لما كانت حريصا على أن تحكم بلادي وزارة ديمقراطية تعمل للوطن وتطبق أحكام الدستور وتسوي بين المصريين جميعا في الحقوق والواجبات وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات الشعب فقد رأينا أن نقليكم من منصبكم .

فليس من المعقول وقد أقر الملك حقيقة مؤكدة من وجهة نظره " وهي أن الوفد لم يعد يحظي بالإجماع الشعبي" لافتقاده إلى الأسباب التي وردت في قرار الإقالة وليس من المعقول أن يكذب القصر نفسه ويحظي الوفد بالأغلبية البرلمانية أى أن كل العوامل قد أجمعت على سقوط الوفد لذا فقد ارتضي الوفد لنفسه موقفا يتفق ومصلحته الفعلية وهو عدم دخول الانتخابات .

وكان مطلوبا أن يشمل التغيير مجلس الشيوخ وفقا لمواد الدستور القاضية بذلك وتمكن الدكتور أحمد ماهر من استصدار مرسوم بإلغاء لتجديد النصفي الذي أقره الوفد سنة 1942 والعودة إلى تعيينات سري باشا سنة 1941 وظل الوفد يرقب التطورات إلا أنه لم يكن ساكنا والأسهم توجه إليه من كل صوب بل انه قد استطاع أن يحرك بعض قواعده وخصوصا الطلاب إلا أن حركة الوفد هذه المرة لم تكن بالاتساع الذي تخشاه الحكومة وتمكن الدكتور ماهر بحكم خبرته القديمة وحنكته السياسية أن يتصدي لتيار مظاهرات الطلاب الوفديين وان يضعف من فاعليتها حيث قام بنفسه بالذهاب إلى جامعة فؤاد الأول وأجري حوارا ديمقراطيا مع زعماء الطلاب تمكن من إقناعهم بالعدول عن تظاهرهم .

وبالرغم من أن النية كانت متجهة ليس فقط إلى محاكمة الوزراء الوفديين وإنما إلى محاكمة النحاس باشا نفسه إلا أن لحكومة البريطاني اعتقادا منها بأن التجاوزات التي أتي بها النحاس في مجملها أتت بناء على نصائح الدولة الحليفة لذا فقد القي السفير بكل ثقله منعا لمحاكمة النحاس .

وعلى ما أعتقد فإن تدخل السفير البريطاني ليحول دون محاكمة النحاس لم يكن بهدف الإخلاص للوفد بقدر ما هو حماية للمصالح البريطانية على اعتبار ان بريطانيا تعد شريكا متضامنا مع النحاس في كل التجاوزات التي أحدثها لذا فقد تدخلت الحكومة البريطانية التي لم تجد صعوبة في إقناع الدكتور ماهر إلا أن المحاكمة قد شملت عددا من أقارب ومحاسيب لنحاس حيث حكمت محكمة القاهرة العسكرية على كل من أحمد الوكيل " شقيق حرم النحاس " بالحبس مع الشغل سنة وتغريمه خمسمائة جنيه وأمرت بوقف تنفيذ الحكم .

ويلاحظ على سياسة حكومة أحمد ماهر أنها أعطت قدرا كبيرا من اهتمامها المطاردة الوفد وتعقب إتباعه سواء بالفصل أو النقل وبقيت الأوضاع السياسية والاقتصادية كما هي سواء فيما يتعلق بالأحكام العرفية لتي ظلت مضروبة على البلاد وبقيت الرقابة الصحفية على الصحف والمطبوعات وذهبت هباء الصحيات المتكررة والتي كان يطلقها أعضاء هذه الوزارة حينما كانوا في المعارضة من وجوب إلغاء الأحكام العرفية وما يتبعها من إجراءات استثنائية إلا أن الحرية قد مورست من جانب واحد وهو الهجوم على الوفد ومحاولة النيل منه .

ولعل من أهم الموضوعات التي واجهتها حكومة الدكتور أحمد ماهر قضية دخول مصر الحرب حيث زلت منذ قيام الحرب العالمية الثانيةسبتمبر 1939 – دولة غير محاربة على الرغم من أنها قد قدمت للحلفاء سواء في شكل مساعدات اقتصادية أو في استغلال موقع مصر كخط مواجهة ضد الألمان في الجبهة الأفريقية ما يمكننا من القول بأن مصر قد قدمت من الإمكانيات مالا يقل عن الاشتراك الفعلي في الحرب .

وحرصت كل الحكومات المتعاقبة على سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب إلا أن رئيس الوزراء الدكتور أحمد ماهر اتجه تفكيره غلى إحياء هذه الفكرة من جديد واخذ يعدد المزايا التي ستحصل عليها مصر من جراء دخولها الحرب وعلى حد قوله : أن ما يصيب الدول من الحياة أو الموت إنما يقدر بمقدار نصيبها من الدفاع عن نفسها والتضحية في سبيل هذا الدفاع .

وتمشيا مع الدعوة التي أطلقها الدكتور أحم ماهر أضافت احدي الصحف التي تعب وجهة نظر بعض الأحزاب داخل الحكومة أن إعلان مصر الحزب لن يقدم شيئا سوي تأكيد الوضع القائم .

وأخذت نفس الصحيفة في تفنيد الإشاعات القائلة بأن مصر ستقدم المال والرجال بسبب ذلك ورأت أن مصر قد خرجت بثلاث فوائد من وراء دخولها الحرب فهي دعمت مركزها الدولي أنها لم تعد مقيدة بالميدان السياسي للعلاقات مع بريطانيا ثم أنها من ناحية ثالثة ستعطي مصر حقا شرعيا يمكنها من الاشتراك في مؤتمر السلام الذي ستدعي إليه كل الدول المحاربة .

وشاركت – السياسة – لسان حال الأحرار الدستوريين في نفس الحملة حيث رأت أن اشتراك مصر في مؤتمر السلام أمل يراود كل القوي الوطنية وعلى الرأي العام أن يتفهم حقيقة تلك الدعوة التي تنفق ومصالح مصر الحقيقية وقامت العديد من الصحف التي تناصر الحكومة بالدعوة إلى نفس الفكرة .

ويعتقد بعض المعاصرين أن الدكتور أحمد ماهر قد تلقي من الحكومة الأمريكية أن دول الحلفاء ( أمريكا انجلترا فرنسا الصين , روسيا ) وكان يعبر عن رؤسائها يؤمئذ بالخمسة الكبار ستعقد مؤتمرا بسان فرنسسكو في أبريل 1945 لإنشاء منظمة دولية جديدة تحل محل عصبة المم وأن الدول التي تشترك في هذه المنظمة يجب أن تعلن الحرب على خصوم الحلفاء قبل أول مارس 1945.

وعلى ما يبدو فإن الدكتور أحمد ماهر قد اتخذ من مؤتمر سان فرنسسكو ذريعة لاقحام مصر في بوتقة الصراع الدولي بالغم من أن الحرب قد أوشكت على الانتهاء وتقرر مصيرها لصالح الحلفاء ولم يكن أمام أحمد ما هو وحكومته إلا الاستجابة لطلب تقدم به السفير البريطاني في منتصف فبراير سنة 1945 بإعلان مصر دولة محاربة إذا رغبت في الاستمتاع بعضوية مؤتمر سان فرنسسكو ولقد أحدثت هذه السياسة ردود فعل متباينة لدى جميع المصريين على اختلاف اتجاهاتهم فبينما السعديون وعلى رأسهم الدكتور أحمد ماهرا كانوا يرون أن تتخذ الحكومة قرار دخول الحرب دون استشارة البرلمان فقد صمم مكرم عبيد وحزب الكتلة على أن يكون اتخاذ القرار من خلال البرلمان أمام الحزب الوطني والذي كان يمثله حافظ رمضان داخل الوزارة فقد اعتنق مبدأ لمعارضة وقدم استقالته احتجاجا على تلك السياسة لولا أن تدخل فاروق شخصيا وأقنعه بسحب استقالة.

أما الدكتور هيكل زعيم الأحرار الدستوريين فقد وافق على فكرة دخول مصر الحرب اعتقادا منه بان هذه الخطوة ستكن مصر من الدخول في الحلبة الدولية وخروجها من الدائرة الثنائية التي تحصر علاقاتها الدولية في حدود ما بينها وبين انجلترا .

أما الوفد فقد رفض هذا الموضوع وأخذ على الحكومة تهورها وعدم اهتمامها بمصالح مصر وطالب الوفد من خلال بيان وزرعه على كل الأحزاب والشخصيات العامة والهيئات السياسية والبرلمانية طالبا من كل مصري غيور على وطنه أن يحارب قضية دخول مصر الحرب بكل ما أوتي من قوة .

ومن المؤكد أن الوفد قد استغل دعوة الحكومة لدخول مصر الحرب واستثمرها لصالحه وعلى ما يبدو فإنه قد حقق قدرا كبيرا من النجاح نظرا لأن غالبية الشعب المصري كانت لا تؤيد هذه الفكرة وأن تعاطف بعض الجماهير مع قضية الحلفاء لم يكن إلا بالقدر الذي تفق والمصالح الحقيقية لتلك الجماهير ونظرا للثار التي لحقت بالمجتمع المصري من جراء التعاون المطلق مع قضية الحلفاء فإن فكرة السير في هذا الطريق أبعد من ذلك كانت لا تجد مع قضية الحلفاء السير في هذا الطريق أبعد من ذلك كانت لا تجد لها صدي لدي الغالبية العظمي من الشعب المصري .

ولقد أخطأ الدكتور ماهر عندما نفي عن الاستعمار البريطاني أغراضه الاقتصادية واخطأ حينما اعتبر دخول مصر الحرب هو العامل الوحيد الذي يؤهلها للحصول على استقلالها بعد الحرب وحين قرر أن عدم إعلان الحرب يعطي انجلترا الحق في أبقاء قواتها في الأراضي المصرية لحماية مصر وحماية مصالح بريطانيا فلقد ذهب الدكتور ماهر في ذلك إلى ما لم يكن في وسع انجلتا أن تعلنه صراحة لأن حق مصر في استقلال والجلاء حق طبيعي لا يتعلق بمصالح بريطانيا ويتضاعف خطأ الدكتور أحمد ماهر إذا أدركنا أن كان يعرف أن الرأي العام المصري لا يؤيد فكرة دخول مصر الحرب وإذا أدركنا أيضا أن قرار دخول مصر الحرب وخصوصا بعد أن حسمت الحرب لصالح الحلفاء كان لا يتفق والكرامة المصرية .. ووفقا لكل هذه الاعتبارات فإنني أعتقد أن سياسة الدكتور ماهر تجاه هذه القضية الشائكة تعد خطأ سياسيا كبيرا دفع أحمد ماهر حياته ثمنا لما أعتقد أنه في صالح مصر.

ومن خلال هذا الجو المشحون بالمحاذير ألقي رئيس الوزراء أحمد ماهر مساء السبت 24 فبراير سنة 1945 وفي جلسة سرية لمجلس النواب قرار دخول مصر الحرب ضد اليابان وألمانيا وأشار رئيس الحكومة إلى أن مصر سوف تحقق بإعلانها الحرب هدفها في أن تجعل صوتها مسموعا دفاعا عن حقوقها ومصالحها الوطنية وأشار إلى أن دولا أخري مثل العراق وإيران قد أعلنتا الحرب دون أن تقدم أى معونة مادية وأن السفير البريطاني قد أبلغه أن حكومته راضية تماما عن الدور الذي لعبته مصر في الحرب وأنها حرة في اعلان الحرب حتى تتمكن من الاشتراك في مؤتمر السلام .

وعلى الرغم من عدم إيماننا بالعنف كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية إلا أن الدكتور ماهر وحكومته يعدان مسئولان عما حدث بسبب الخروج على القواعد الدستورية والاندفاع في تيارات من الحكم لا تتفق ومصالح مصر الحقيقية في وقت كان الشعب المصري يعلق أملا كبيرا على انتهاء الحرب ويعتقد أن من حقه طبقا للمبادئ التي أعلنها " فرنكلين روزفلت " رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وسماها الحريات الأربع أن تتبوأ مصر مكانتها الدولية بعيدا عن فكرة دخول الحرب ولعل لديه من الأسباب والمبررات يمكنه من إقناع الدول الكبري بفكرته إلا أنه قد اختار الطريق الذي دفع ثمنه غاليا .

وفي ساعة متأخرة من الليلة التي قتل فيها أحمد ماهر تم تأليف وزارة محمود فهمي النقراشي ( 24 فبراير سنة 1945 ) وقد ألفها من أعضاء وزارة أحمد ماهر دون تغيير أو تبديل وتولي النقراشي الرئاسة والداخلية والخارجية وفي 26 فبراير سنة 1945 انعقد البرلمان بمجلسيه النواب والشيوخ وأقر المجلسان قيام حالة الحرب ضد ألمانيا واليابان وايطاليا .

ولقد أراد الوفد أن ينتهز فرصة إعلان الحرب ضد المحور وأن يقوم بمناورة سياسية تشبه مناورته التي قام بها في أول أبريل 1941 إذ قدم الوفد مذكرة للسفير البريطاني تتضمن نفس المطالب التي تقدم بها في أبريل سنة 1941 والتي كانت تدور حول المطالبة التام وقيام الوحدة بين مصر والسودان إلا أن الرأي العام قد فقد ثقته في الوفد ومناوراته وأخذت الجماهير تبحث عن زعامة جديدة وأخذ الوعي القومي يتسرب إلى صفوف المثقفين على أسس واضحة وازدات الروح القومية تطرفا واكتسبت شعورا بالعداء للأجانب وأخذ الطلبة والعمال يلتفون حول مبادئ وفلسفات جديدة اعتقادا منهم بأن القوي التقليدية قد اهترأت ولم تعد تعبر عن الروح الوطنية المعاصرة .

وفي 27 من مايو سنة 1945 استسلمت ألمانيا وفي أغسطس من تلك السنة استسلمت اليابان وبذلك انتهت الحرب العالمية الثانية بعد خمس سنوات وثمانية أشهر وستة أيام .

وبالرغم من أن العديد من الصحف حاولت أن تضلل الرأي العام المصري على اعتبار أن حادث الاغتيال ظاهرة عادية لا تستحق كل هذا الاهتمام وأنها تحدث في كل المجتمعات إلا أن هذا الحكم يفتقد إلى الموضوعية وعدم الإدراك الفعلي لطبيعة المرحلة التي كانت تمر بها البلاد فلقد أحدثت الحرب العالمية الثانية حالة من الحضور الذهني داخل المجتمع لمصري حيث اتسعت قاعدة العمال والطلاب والموظفين وأصحاب المهن الحرة وقد واكب هذا جموع المصريين المهتمين بالسياسة والمشتغلين بها ومن خلال التصور الحقيقي لواقع المجتمع المصري في تلك الفترة وعلى ضوء الرؤيا الموضوعية يمكننا القول أن سلوك الأحزاب المصرية وتسابقها الواضح في التملق للمحتل والمزايدات العديدة التي أحدثتها أحزاب المعارضة عقب 4 فبراير سنة 1942 كل هذه المواقف قد أحدثت صدمة أليمة داخل المجتمع المصري وخصوصا لدي الشباب وليس من قبيل المصادفة أن يكون الشباب في طليعة القوي التي تقدم على حوادث الاغتيال السياسي بدأ بقضية بطرس غالي سنة 1810 والتي اضطلع بها إبراهيم الورداني " 21 سنة" ومرورا بقضية أمين عثمان والتي اضطلع بها أيضا حسن توفيق " 20 سنة" وانتهاء بقضية الدكتور أحمد ماهر والتي نفذها محمود العيسوي " 22 سنة ".

لقد كان من المتوقع أن يتقدم الدكتور أحمد ماهر عقب رئاسته للحكومة بالمطالبة بتحديد شكل الوجود البريطانية في مصر والمطالبة بجلاء القوات البريطانية والاعتراف بحق مصر في السودان فلم يكن الموقف يتحمل مزيدا من المهاترات وبدلا من أن تتقدم الحكومة بكل المطالب راح رئيسها يشيد بالعلاقات المصرية لبريطانية حتى صرح لمندوب مجلة وكالة الأنباء الفرنسية أنه لا يمكن السير في اية سياسة مصرية معقولة إلا بالتفاهم مع الأمة البريطانية العظيمة التي تفاخر مصر بأنها حليفة لها ويبرر الدكتور أحمد ماهر المخالفات التي أحدثها الوجود البريطاني على الأرض المصرية قائلا : أن الأخطاء التي ارتكبت هنا وهناك لم يكن في الإمكان اجتنابها ويجب ألا تترك أى أثرا أو مرارة في النفوس .. وتعلق وكالة الأنباء الفرنسية على تصريحات الدكتور ماهر قائلة : لقد أفضي رئيس الوزراء بهذه التصريحات بينما كان المستر ايدن وزير الخارجية البريطانية في القاهرة وهذا مما يكسبها أهمية خاصة .

وكان طبيعيا أن تفقد الأحزاب المصرية أهميته حيث لم تعد تعبر عن واقع المجتمع المصري الجديد الذي صنعته أحداث الحرب مما أدي إلى نمو سريع للتنظيمات السياسية العقائدية – الإخوان – الشيوعيون – مصر الفتاة - ولعل أساليب هذه التنظيمات تختلف كثيرا عن أساليب الأحزاب التقليدية حيث اصطبغت الأساليب لجديدة بصبغة من لعنف كانت وراء الكثير من أسباب الاضطرابات خلال تلك لفترة .

وحرصا من حكومة النقراشي على تهدئة المشاعر الثائرة ونظرا لعدم وجود حجة موضوعية تسوقها للبقاء علي الأحكام العرفية فاضطرت لرفع الرقابة على الصحف وإلغاء الأحكام العرفية في أكتوبر سنة 1945 .

وبرفع الرقابة على الصحف وإلغاء الأحكام العرفية أخذت العديد من الصحف تتربص بالحكومة وتطلق على النقراشي التعليقات اللاذعة كما حدث عندما أسمته – رجل الوقت المناسب – تعليقا على تصريح له بأنه ينتظر الوقت المناسب للتقدم بمطالب مصر الوطنية وعندما أطلقت عليه " أبو خطوة " ردا على قوله بأنه قد اتخذ خطوة في سبيل تحقيق الأماني الوطنية .

وأمام الضغط الشديد الذي واجهته حكومة النقراشي سواء بسبب استقالة حافظ رمضان رئيس الحزب الوطني ووزير العدل من الوزارة في ديسمبر سنة 1945م احتجاجا على اتجاه الوزارة إلى المفاوضات قبل الجلاء بما يناقض مبدأ الحزب العتيد أو بسب مماطلة الحكومة البريطانية في الرد على المذكرة التي قدمتها الحكومة المصرية ( 20 ديسمبر سنة 1945) تطلب فتح باب المفاوضات .

وأمام العديد من الضغوط التي واجهتها الحكومة وعدم استطاعتها التقدم خطوة ترضي الرغبات الوطنية وانتشرت بين الناس عبارة " سياسة الصمت" لم يجد النقراشي قولا يردده إلا أنه ينتظر الوقت المناسب مما ضاعف من إحراج الحكومة وعجل باستقالة مكرم عبيد والكتلة الوفدية 14 فبراير سنة 1946 مما عجل بانهيار الائتلاف الوزاري عموما .

الفصل السابع : الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ظل حكومة 4 فبراير

السياسة الزراعية والتموينية

لقد شاءت الظروف أن تندلع الحرب العلمية الثانية ومصر مكبلة بمعاهدة 1936 تلك المعاهدة التي ألزمت مصر بإعلان الأحكام العرفية وهكذا منحت الفرصة لكي تطلق بريطانيا يدها ليس فقط في الشئون السياسية بل في الشئون الاقتصادية أيضا وإخضاع اقتصاد مصر لخدمة الجيوش المتحالفة وقد تمثل ذلك بصورة واضحة في السياسة الزراعية التي ألزمت بها الحكومات المصرية طوال فترة الحرب .

ولعل الحكومة البريطانية كانت مقدرة أهمية الاقتصاد الزراعي المصري وضرورة توجيهه لسد العجز الواضح في المواد الغذائية بسبب صعوبة النقل البحري .

ولا شك أن حالة الحرب وسيطرة الدول المحاربة على البحار قد جعلت مصر في عزلة اقتصادية عن العالم ولم تستطيع تصريف حاصلاتها وخصوصا القطن إلا إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وأصبح الانجليز يتحكمون في سعر القطن والحاصلات الزراعية الأخرى ففي عام 1940 اشتروا القطن المصري بسعر 20 ريالا للقنطار بينما كان يباع في الأسواق الأجنبية بخمسة وثلاثين ريالا .

وبالرغم من أهمية إخضاع السياسة الزراعية المصرية لخدمة أغراض بريطانيا زمن الحرب إلا أن وجهة النظر البريطانية اعتبرت أن تردي الحالة الزراعية في مصر يعد تأكيدا لدعايات المحور تلك التي تحاول إقناع المصريين بأن سبب شقائهم هم البريطانيون والذين ينتهزون فرصة الحرب ويتحكمون في أسعار القطن طبقا لمصالحهم الخاصة ويضيف السفير البريطاني في تقريره أنه لابد من دحض هذه المقولة العدائية والتي لن تتحقق إلا بشراء القطن المصري بأسعار أكثر ارتفاعا من الأسعار الحالية لأن المسألة ليست اقتصادية بحتة بل هي ضرورة سياسية ومن باب العدل أن نعترف بأن الحرب قد جلبت الشقاء على الشعب المصري ومن الخطر أن نترك المصريين تحت شعور الإحساس بالظلم وخصوصا وأن ما يردده رجل الشارع العادي يتفق بصورة كبيرة مع ما يردده الأعداء وبدلا من أن تسعي بريطانيا لكسب ود المصريين عن طريق حل المشاكل الاقتصادية لناجمة عن الحرب إلا أنها قد عملت على تأليف لجنة تسمي باللجنة البريطانية المصرية احتكرت كل محصول القطن خلال سنوات الحرب ومنعت التنافس على شرائه وباتت أى دولة تريد شراء أى كمية من القطن المصري لا تأتي إلى السوق المصرية بل تشتري ما تريده عن طريق هذه اللجنة وخسرت البلاد من جراء ذلك العديد من ملايين لجنيهات وثقة من بريطانيا في أن مصر لن تتمكن من إيجاد سوق عالمي لتصريف إنتاجها بسبب التكتلات الدولية الناجمة عن الحرب فقد تحكمت في سوق القطن المصري بلا أى منافسة وعجزت الحكومة المصرية عن إيجاد سوق بديل لهذا المحصول الذي يعد عمود الاقتصاد للشعب المصري .

ووفقا لحاجة بريطانيا إلى الحاصلات الزراعية أكثر من حاجتها إلى القطن فقد أخطرت الحكومة المصرية سنة 1941 أنها غير مستعدة لشراء أكثر من نصف المحصول الجيد وبنفس أسعار العام السابق ولما كانت الحكومة المصرية قد قررت رفع سعر القطن بمقدار ريالين للقنطار فإنها قد تحملت وحدها هذا الفرق عن المحصول كله كما كان عليها أن تشتري النصف الباقي من المحصول ولم تجد وسيلة لذلك سوي إصدار قرض قدره ثلاثة عشر مليونا من الجنيهات طرحته على دفعتين ومن الطريف أن الصحف البريطانية قد حاولت تبرير فرص هذا السعر المنخفض بحجة أن رفع أسعار القطن لا يفيد سوي حفنة من الباشوات مما أثار قلق هؤلاء الباشوات حيث انبرت صحيفة الوفد المصري قائلة ( لمصلحة من يريدون بذور الشقاق بين هذه الطبقات وإحداث مشكلة اجتماعية من أعقد المشكلات التي أقلقت بال أمم كثيرة ومصر بقيت ناجية منها إلى الآن بفضل الله ويبدو أن غالبية أعضاء مجلس الشيوخ – وهم من الباشوات – وقد ضايقهم هذا القول لدرجة أن أحدهم قد اتهم الانجليز صراحة بأذنهم لا يتأثرون إلا بمصلحتهم وأن سياسيتهم في شراء القطن لا تقوم فقط على تحقيق مصالحهم وإنما على سياسة " إفقار الشعوب الحكومة "

ويبدو ان حكومة الوفد ( 4 فبراير 1942) رأت أنه من الضروري أحداث تغيير في المساحة المنزرعة قطنا وضرورة التوسع في إنتاج الحبوب والغلال وصدر أمر عسكري في سبتمبر 1942 يقضي بتحديد مساحات القمح والشعير بما لا يقل عن 50% من الأراضي الواقعة في شمال الدلتا , 60 من بقية مناطق القطر وقد قرر مجلس الوزراء منع زراعة القطن في مديرتي القليوبية والمنوفية وبعض مناطق مديريات الشرقية والدقهلية والغربية وبعض المناطق في مديريتي أسيوط وجرجا شرق النيل وزيادة المساحة المنزرعة ذرة بنوعيها ( العويجة والشامية ) وكذلك زيادة المساحة المنزرعة أرزا وحددت الكمية المنزرعة قطنا عن الموسم الزراعي 1942 /1943 بحوالي 700,000 فدان بدلا من 1,750,000 عن الأعوام السابقة .

وكان من المتوقع أن تبادر بريطانيا إلى شراء كميات القطن المصري والذي كان يصدر إلى بلاد الأعداء فتحمي أسعاره من الهبوط وتبرهن على تقديرها للمخالفة وما تؤديه مصر من خدمات – ولكن بريطانيا وبيوت المال فيها أثرت أن تنتهز الفرصة للكسب غير المشروع على حساب مصر وفرض سياسات معينة على البلاد ولم يقتصر النهاب البريطاني على محصول القطن بل تعداه لى المحاصيل الغذائية كالأرز والقمح والذرة حيث فقدت مصر أسواقها في الخارج وتحولت مصر من دولة مصدرة إلى دولة تقاسي عجزا رهيبا في جميع المواد الغذائية .

وفي الوقت الذي صارت فيه نهبا لبريطانيا وحلفائها وبالرغم من الانخفاض في أسعار القطن المصري انخفاضا ملحوظا فقد ارتفعت أسعار باقي المواد الغذائية وأهمها القمح ولذا بادر مجلس النواب بتشكيل لجنة " شئون القطن والمحاصيل الزراعية " وخرجت اللجنة بالعديد من التوصيات التي تعبر عن سوء الأحوال الاقتصادية عموما حيث اعتبرت اللجنة في احدي توصياتها " أن ربح الزراع يقدر بقيمة التبن فقط وعلى حد قول أحد الأعضاء تعليقا على هذه الحقيقة الخطيرة لقد كانت اللجنة مسرفة جدا في تقديرها لأن ارتفاع أسعار السماد وفرض الضريبة الجديدة على الأرض الزراعية يحرم الفلاح حتى من قيمة التبن "

ويمضي التقدير ليعكس وبصورة أكيدة تدهور الحياة الاقتصادية حيث كان ثمن ضريبة الأرز في الأعوام السابقة ثمانية جنيهات فأصبح ثلاثة عشر جنيها كذلك استيلاء الحكومة على البذرة بثمن قدره 85 قرشا وأخذت تبيعها بسعر 110 قروش فارتفع تبعا لذلك ثمن الكسب ثم أن وزارة المواصلات رفعت أجر النقل وتضع اللجنة يدها على خطورة الحالة بقولها أن رفع سعر أى محصول يتبعه حتما رفع سعر أى محصول يتبعه حتما رفع المحاصيل الأخرى وتبعا لذلك فإن موجة الغلاء ستستمر في الارتفاع الأمر الذي يحدث اضطرابا وتقلقلا في أجور العمال والموظفين والمستخدمين وأصحاب الإيراد المحدود ويخل بالميزانية العام ووفقا لتدهور الحياة الاقتصادية في مصر عموما وفي القرية المصرية على وجه الخصوص فلقد تردت حياة الفلاح المصري عموما وعامل اليومية على وجه الخصوص حيث انخفضت أسعار العمال الزراعيين إلى حد يصعب على العامل أن يوفر قوت يومه فما بالنا بضرورات الحياة من ملبس وخلافه .

ومما يلفت النظر في دراسة السياسية الزراعية في تلك الفترة بروز أسلوب جديد من الاستغلال يعد سببا في إلقاء عبء الأزمة على صغار الزراعيين وهو أسلوب المضاربة بالأراضي الزراعية حيث كان استئجار الأراضي الزراعية ثم إعادة تأجيرها أكثر ربحا بالنسبة لكبار ملاك الأراضي في مصر وارتفع عدد لمستأجرين إلى مليوني شخص وشهدت مداولات مجلس النواب والشيوخ العديد من الأسباب التي أدت تفاقم الأوضاع بهذا الشكل .

ويبدو أن حكومة 4 فبراير قد عجزت عن مواجهة تلك الحالة المتردية مما دعاها إلى إشراك الحكومة البريطانية في وضع حلول عملية لتلك الحالة حيث شكلت لجنة انجليزية مصرية بناء على اقتراح السفير البريطاني وكانت مهمة تلك اللجنة شراء القمح بسعر ثلاثة جنيهات للأردب ثم بيعه للجمهور بنصف هذا المبلغ عن طريق البطاقات التي أعدت لهذا الغرض إلا أن كل تلك الحلول لم تحقق الغرض منها نظرا لاعتماد جيوش الحلفاء في أوقات كثيرة على الحاصلات الزراعية المصرية وأيضا يسبب نقص السماد لعدم إمكانية الاستيراد بسبب ظروف الحرب وحدد العجز في كميات الحبوب عموما بمليونين وثلاثمائة أردب من القمح والذرة وعلى الرغم من تخفيض نسبة زراعة القطن في شمال الدلتا إلى 27 % وجنوب الدلتا والوجه القبلي بنسبة 23 % ولو أضيفت ماسحة 88 ألف فدان وهي الأرض التي تزرع بالحياض وممنوع زراعة القطن فيها فإذا أضيفت كل هذه المساحات إلى نسبة 60 % من الأرض الزراعية المعدة لزراعة القمح فإن نسبة الأراضي الزراعية المعدة لزراعة الحبوب تقدر بأكثر من 85% من قيمة الأرض الزراعية عموما .

وبصدد مواجهة النقص الواضح من المواد الغذائية فقد وافق مجلس لنواب على اعتماد مبلغ 12,884,51 جنيها من فائض ميزانية 19411942 لسد الخسارة في عمليات التسليف على القمح وتصديره والتموين لعام 1943 1, 318, 448 لسد الغاز في محصول الذرة .

وعلى ضوء مهام الحاكم العسكري العام فلقد صدر الأمر العسكري الآتي :

مادة 1 : يحظر حتى نهاية أغسطس 1942 إجراء أى بيع للقمح من موسم عام 1942 ويستثني من ذلك عقود البيع الصادرة للحكومة .

مادة 2: تلغي بحكم القانون عقود القمح المبرمة من 7 أبريل إلى صدور هذا الأمر والمنصبة على مقادير من القمح غير واجبة التسليم إلى الحكومة ويجب على المشترين أو غيرهم من الحائزين خلال شهر من تاريخ صدور هذا الأمر أن يسلموا إلى الحكومة مقادير موضوع التعاقد المشار إليها في الفقرة السابقة بثمن قدره 300 قرش للأردب من قيمة القمح الهندي , 285 قرش للأردب من القمح البلدي .

مادة 3 : يحظر نقل القمح خرج حدود المديرية الموجود فيها قبل الحصول على ترخيص بذلك من وزارة التموين .

مادة 4 : كل محالفة الأحكام هذا الأمر يعاقب مرتكبها بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر وبغرامة من 50 إلى 500 جنيه وفي جميع الحالات يضبط ويصادر القمح موضوع المخالفة .

مادة 5: يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ستة وبغرامة من 50 إلى 500 جنيه كل من اشترك كبائع أو وسيط.

مادة 6 : تصرف مكافأة مالية لكل شخص يقوم بضبط أو تسهيل ضبط ومصادرة ومقادير القمح موضوع الجرائم .

ويبدو من الأمر العسكري السابق أن الحاكم العسكري لعام ( رئيس الوزراء ) قد استخدم سلطانه إلى أبعد حد فلم تقتصر مهامه على أمر الاعتقال النفي والمصادرة للصحف بل تعداه ليشمل الأوضاع الاقتصادية التي تتعلق بشكل أو بآخر بقضية الحلفاء وعلى الرغم مما أصاب البلاد بسبب ارتباطها بالحلفاء إلا أن بريطانيا لم تقدم أية معونة أو حتى تدفع ثمن ما تشتريه مما أدي إلى ارتفاع رهيب في قيمة الحاصلات الزراعية وصل في السوق السوداء إلى عشر إضعاف السعر الحقيقي .

ولقد حدد حجم ما تصرفه الجيوش المتحالفة داخل الأراضي المصرية بمبلغ ستة وثلاثين مليونا من الجنيهات كل عام لا تدفع منها مليما واحدا والمسالة تمضي هكذا فانجلترا تريد أن تحول مثلا عشرة أو خمسة ملايين من الجنيهات إلى جنودها في مصر أنها تقول لبنك انجلترا ضع تحت تصرف البنك الأهلي المصري خمسة ملايين من الجنيهات لحساب الجيش البريطاني فيراسل الأهلي المصري خمسة ملانين من الجنيهات لحساب الجيش البريطاني فيرسل البنك إلى فرع الإصدار في القاهرة برقية يطلب فيها إصدار بنكوت مصري بخمسة ملايين جنيه مقابل شراء سندات على الخزانة البريطانية قصيرة الأجل لنفس القيمة بفائدة تقل عن 1 % ومدتها تقل عن ستة أشهر فالبنك الأهلي يشتري في لندن هذه السندات ويصدر بقيمتها في مصر أوراق بنكوت يسلمها إلى الضباط فهم والحالة هذه لا يدفعون مالا أو بضاعة ولكنهم يقدمون كمبيالات وفي مقابل الكمبيالات تعطيهم مصر عمله متداولة فيؤجر البيت الذي كان إيجاره خمسة أو عشرة جنيهات بخمسين أو مائة ويشترون المواد الغذائية بأثمان مرتفعة ثم يأتي المستهلك المصري فلا يجد شيئا بالسعر الذي حددته الحكومة ولذا فقد اقترح حلا لهذه المشاكل ما يأتي :

1- فصل الجنيه المصري في الجنيه الانجليزي.

2- أن تبحث انجلترا عن مصدر لمعيشة جنودها غير مصر

3- ترك الاستيراد حرا .

ووفق اعتقادي فإن حكومة الوفد قد عجزت طوال عام 1942 عن إيجاد حلول في عملية للخروج من أزمة المواد الغذائية ومع مطلع عام 1943 أصدر وزير التموين بيانا بشئون الحاصلات الزراعية قال فيه : " لقد مرت البلاد بظروف قاسية كانت البلاد فيها على شفا مجاعة وكانت القاهرة وباقي المديريات تترقب قوتها يوما بيوم بل كان الكثيرون يبيتون على الطوي في انتظار الرغيف المرتجي في الصباح المبكر .

وبصدد الحد من تفاقم أزمة الخبز فقد أصدرت حكومة الوفد تشريعا يحدد الرغيف القانوني " الذي ثمنه 6 مليمات ووزنه 75 جرام ويحتوي على 15 % دقيق مخلوط من القمح 15 % دقيق أرز ثم مالبث أن تغيرت النسب إلى 50% قمح , 25 من دقيق الذرة , 25 من دقيق الأرز وبذلك اختفي الرغيف الأبيض من الحياة اليومية للمستهلك المصري .

ولما كانت المشاكل الاقتصادية قد امتدت لتشمل كل المواد الغذائية تقريبا فقد أصدر الحاكم العسكري العام أمرا هذا نصه :

مادة 1: لا يجوز بعد ظهر الأحد وحتى صباح الأربعاء أن تذبح الحيوانات المعدة لحومها للأكل ولا يجوز ذبح الحيوانات في الأيام الأخرى من الأسبوع إلا بمقدار كمية من اللحم تساوي المتوسط اليومي لذبائح السلخانة أو المكان الذي يقوم مقامها في الأسبوع المقابل له من سنة 1940ناقصا 10%

مادة 2 : يتولي إثبات الجرائم التي تقع بالمخالفة للقرارات الصادرة بتنفيذ هذا الأمر رجال الضبطية القضائية .

مادة 3 : يعاقب كل من يخالف أحكام القرارات التي تصدر تنفيذا لهذا الأمر بالحبس مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر وبغرامة من خمسة جنيهات إلى خمسين جنيها أو بأحد هاتين العقوبتين ويحكم بإغلاق المحل الذي وقعت فيه الذبيحة لمدة ثمانية أيام وفي حالة العودة يكون الإغلاق من خمسة عشر يوما إلى شهر ويبدو أن ما يتعلق بالإنتاج الزراعي قد مثل مشكلة استعصي على الحكومة حلها بما في ذلك السكر حيث استولت الحكومة على مقادير السكر المخزون لدي الشركة العامة لمصانع السكر وبناء على قرار الحاكم العسكري العام تلتزم لشركة العامة لمصانع السكر بتسليم كل ما تنتجه إلى الحكومة وتظل شروط الاتفاقات المبرمة بين الحكومة والشركة نافذة المفعول حتى الحكومة أن المشكلة قد انتهت بالفعل .

وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية في محاولة منها لتبديد حالة الشعور بالغضب والتي سيطرت على الشعب المصري فقد أصدرت بيانا نشرته معظم الصحف المصرية يحمل حملة شديدة على الدعايات التي يشنها الأعداء من أن وجود القوات المتحالفة هي سبب نقص الغذاء في مصر وشمل البيان ما يفيد من أنه لا علاقة بين الأزمة الغذائية المتردية في مصر والقوات المحاربة مؤكدا على أن الحكومة البريطانية قد قامت بتقديم العديد من المواد الغذائية إلى الحكومة المصرية .

وتبدو المغالطات واضحة في بيان الحكومة البريطانية وإذا تغاضينا عن حقيقة مؤكدة وهي أن مصر كانت تصدر فائضا من احتياجات الغذائية قبل الحرب يقدر بعدة ملايين من الجنيهات بخلاف القطن الذي يمثل صلب الاقتصاد المصري إذا تغاضينا عن كل ذلك وتركنا الأرقام لتنطق بمدلولها حيث بلغن الأرصدة الإسترلينية المستحقة الدفع على الحكومة البريطانية سنة 1945( بعد انتهار الحرب) أربعمائة وخمسين مليونا من الجنيهات وهذه الأرصدة كلها نظير مواد غذائية وقطنية ومرتبات حصلت عليها القوات البريطانية وكانت سببا من أسباب التضخم وهبوط القيمة الشرائية للنقد مما أدي إلى الغلاء الفاحش في الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة حيث بلغ هذا الارتفاع رقما قياسيا كبيرا إذ وصلت في أواخر الحرب إلى 350 في المائة عما كانت عليه قبل الحرب مع أنها لم تزد في انجلترا عن 135 في المائة وفي الولايات المتحدة عن 145 في المائة في حين أن مصر كانت تنتج حاجاتها من المواد الغذائية والبلاد التي تنتج هذه الحاجات كجنوب أفريقيا واستراليا لم تزد تكاليف المعيشة فيها عن 120 في المائة .

وعلى الرغم مما وصلت إليه الحالة الزراعية والتموينية عموما وذلك بسبب تجنيد كل إمكانيات مصر لخدمة الحليفة إلا أن السياسة الحزبية التي اتسم بها حكم الوفد بدأ من سنة 1942 وحتى سنة 1944 قد مكنت العديد من المضاربين وتجار السوق السوداء وسماسرة الحروب من السيطرة على قطاعات كبيرة من الاقتصاد المصري وذلك عن طريق أذونات الاستيراد التي كانت مصدرا ثراء لأقارب وأصهار النحاس باشا ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل امتد إلى البسطاء من الفلاحين حيث الوسطاء بالتحكم في محصول البطاطس وقيامهم بدور الوسيط لتموين الجيوش البريطانية من هذا المحصول الهام مما تسبب في هبوط سعره ولم يقتصر المر على محصول البطاطس بل تعداه إلى القمح حيث كان من اختصاص وزير التموين الموافقة على أية كمية سواء للأفراد أو للهيئات ويبدو أن حكومة الوفد قد جرت في سياستها التموينية على إصلاح ما أفسده حادث 4 فبراير 1942.

ولعل الاستجواب الذي تقدم به النائب أبو المجد محمد الناظر ( عن دائرة قنا ) قد كشف العديد من الجوانب الهامة حول هذا الموضوع حيث يضيف قائلا : " أن مديرية قنا تصرف مائة أردب من لقمح شهريا لأحمد عبود باشا بناحية أرمنت بدعوي تموين المستخدمين وتصرف المديرية أيضا ثلاثمائة أردب قمحا شهريا لمصنع السكر بأرمنت بدعوي تموين العمال .

وعلى ضوء المناقشات الحامية التي دارت في مجلس النواب أمكننا الوصول إلى عدة اعتبارات تؤكد السياسة الحزبية التي سارت عليها الحكومة ومن أهمها :

أولا : أن تفتيش عبود باشا قد قام بزراعة مساحات طائلة من القمح أنتجت 400 أردب وقد لجأ وكيل عبود باشا إلى حيلة : وهي أنه ادعي أن ما أنتجه التفتيش من القمح لا يتعدي الحاجة إلى التقاوي وبذلك فوت على الحكومة الحصول على حصتها التي تقدر 240 أردب ثم حصل التفتيش فيما بعد على حصته من التقاوي من بنك التسليف .

ثانيا : أن الحصة التي تصرف لدائرة عبود باشا ولمصنع السكر تقدر بربع تموين مركز الأقصر البالغ عدد سكانه 175 ألف.

ثالثا : أن العاملين بمصنع السكر ودائرة عبود باشا يحصلون على مستحقاتهم من القمح كغيرهم من المواطنين بواسطة البطاقات التي أعدت لهذا الغرض .

ولعل بعض الأعضاء المعارضون للحكومة داخل مجلس النواب قد طلبوا من وزير التموين وضع ضوابط موضوعية يتم على أساسها توزيع الحاصلات الغذائية إلا أن الغالبية الوفدية قد صادرت هذا الاقتراح بحجة أن مديريات مصر تختلف عن بعضها في أمور جوهرية وما يصلح في الوجه البحري قد لا يصلح في الوجه القبلي ويبدو بطلان حجة الحكومة البحري إلى المواد التموينية وأن الهدف من الاقتراح الذي تقدمت به المعارضة لا يمكن أن يعترض عليه إلا المغرضون والمستفيدون من النظام القائم.

وشهدت القرية المصرية فترات عصيبة بسبب قلة إنتاجية محصول القطن بسبب انخفاض سعره واستيلاء الحكومة على المحاصيل الزراعية مما أدي إلى ارتفاع سعرها فقد كان علي الفلاح الصغير أن يشتري ما يسد رمق أسرته من السوق السوداء والذي وصل سعر اردب القمح فيه على سبيل المثال عشرة جنيهات في حين أن الحكومة كانت تستولي عليه بثلاثة جنيهات فقط وقس على ذلك باقي المواد الغذائية الأخرى ومن الواضح أن الحكومة أحست بحرج شديد أمام تلك الحالة المتردية ولذا فقد تقدمت بمشروع تجميد الأقساط المتأخرة والمستحقة للبنك الزراعي المصري والبنك العقاري المصري وبك الأراضي المصري لغاية آخر ديسمبر 1942 .

ولعل الهدف من هذا القانون على ما يبدو كان بسبب ما تفشي في البلاد من معاملات الربا وعجز الفلاح عن السداد مما ضطره إلى الإقدام على بيع الأراضي الزراعية لصالح المرابين وأغلبهم من عملاء الإقطاعيين والباشوات مما سبب بضياع الملكيات الصغيرة .

وبصدد دراسة الملكيات الزراعية وتطورها تبدو عدة حقائق غاية في الخطورة من أهمها :

أولا : أن كبار الملاك ( أما الذين يملكون 50 فدانا فأكثر ) وعددهم 12018 يملكون 2508286 فدانا أما بقية السكان وعددهم ما يقرب من 15 مليون فلا يملكون شيئا .

ثانيا : أن مقدار الأراضي التي يملكها كبار الملاك كانت في زيادة مستمرة وهذه الزيادة لا يمكن أن تكون إلا على حساب صغار الملاك الذين يفقدون أملاكهم ووفق الإحصاءات الرسمية فلقد كان كبار الملاك يملكون في سنة 1939 – 2481250 فدانا , وفي سنة 1940 – 2496546 فدانا وفي سنة 1941 – 2508286 فدانا وفي نفس الوقت قل عددهم من 12248 في سنة 1939 إلى 12018 في سنة 1941.

ولو استمر الحال على تلك الطريقة فقد تصل النتيجة إلى أن يملك ألف مالك مثلا الأكثرية الساحقة لأراضي القطر .

ثالثا : لقد انخفض سعر الفدان من الأراضي الزراعية إلى قيمة النصف تقريبا على نظيره قبل سنة 1938 ولذا فقد شهدت الفترة من 1939 وحتى أوائل 1944 أكبر تحول في شكل الملكيات الزراعية وكانت جميع هذه التحولات تتم لصالح كبار الملاك الذين كانوا في الغالب لا يقطنون القرية وإنما كانوا يمارسون دورا اقتصاديا خطيرا عن طريق وكلائهم في القرية .

ونظرا لأن الظاهرة كانت صارخة بسبب ما يمكن أن يترتب عليها من هزات عنيفة حيث أن الحروب الكبرى يتبعها دائما ناشط زائد في السعي إلى عدالة التوزيع للثروات وعدالة الاستمتاع بالحياة ولم تكن ظهور الشيوعية عقب الحرب العالمية الأولى في دولة تبلغ مساحتها سدس مساحة العالم من قبيل المصادفة . لذا كان لزاما أن يعاد النظر في الفروق الطبقية الشاسعة داخل المجتمع المصري ومن هنا فقد تقدم النائب محمد خطاب عضو مجلس الشيوخ بمشروع قانون يحظر شراء الأراضي على الذين زيد أملاكهم على خمسين فدانا ويبدو أن هذه لم تكن المرة الأولي التي يتقدم فيها بعض النواب بطلب تحديد الملكية الزراعية حيث سبقتها دعوي عبد الرحمن عزام النواب بطلب تحديد الملكية الزراعية حيث سبقتها دعوي عبد الرحمن عزام سنة 1924 حينما تقدم للبرلمان طالبا تحديد الملكية بمائة فدان للشخص الواحد.

وعلى الرغم من أهمية هذا المشروع وما يترتب عليه من استقرار الحياة الاقتصادية إلا أن القانون في صورته النهائية قد خلا من المحتوي الاجتماعي لصالح السواد الأعظم من الشعب ويبدو هذا واضحا من خلال مواده :

مادة 1: كل شخص يملك خمسين فدانا أو أكثر من الأراضي الزراعية لا يجوز أن ينتقلا إلى ملكيته أرض زراعية جديدة وكل عقد يؤدي إلى ذلك يعد باطلا .

مادة 2: لا يسري حكم المادة السابقة على الأراضي الزراعية التي تؤول إلى الأفراد بطريقة الميراث .

مادة 3 : لا يجوز الوقف فيما لا يزيد على الخمسين فدانا للشخص الواحد إذا لم يكن وارثا فإذا كان وارثا فلا يجوز أن يزيد ما يوقف عليه عن حصته الشرعية أو خمسين فدانا أيهما أكثر.

مادة 4 : يستثني من أحكام هذا القانون أطيان الحكومة والأراضي غير المستصلحة والتي لا تدفع عنها ضريبة أطيان .

مادة 5 : على وزير المالية العدل تنفيذ هذا القانون كل منهما فيما يخصه .

وأعتقد أن هذا القانون لم يحقق أي نوع من التغيير في شكل الملكيات الزراعية حيث كان من السهل التحايل على هذا القانون وشراء الأراضي بأسماء الأبناء والأقارب وبمقارنة شكل الملكيات عقب صدور هذا القانون بنظائرها قبل صدوره يبدو أنه لم يحقق الغرض الذي أنشئ من أجله وهو الحد من ضياع الملكيات الصغيرة يؤدي بدوره إلى انتشار التعاون الزراعي الذي لم يقدر له في مصر أى نجاح في الفترة موضع البحث .

ووفق اعتقادي فإن المحافظة على لملكيات الصغيرة مرتبط أشد الارتباط باستقلال الحقيقي حيث أن استقلال الاقتصادي وتعميق الشعور بالانتماء وكرامة الأفراد التي يتكون من مجموعها كرامة الوطن كل هذه الأمور تعد جذور أكيدة للاستقلال السياسي وكلما ارتفع مستوي المعيشة للأفراد زادت بلا شك قوة الأمة وحيويتها .

الصناعة والتجارة وإخضاعهما لخدمة الحلفاء

لقد كانت الحرب العالمية فرصة للمزيد من النمو الصناعي حيث أخذت الصناعة المصرية تنتعش انتعاشا حقيقيا وخصوصا بعد اشتراك ايطاليا إلى جانب ألمانيا في الحرب فقد ترتب على هذا إغلاق البحر المتوسط أمام حركة التجارة ومن ثم اعتمدت كافة الصناعات على المواد المحلية سواء منها ما كان خاصا بمصانع الحلفاء أو ما كان خاصا بالنشاط الرأسمالي الوطني فخلال الحرب قد نمت الصناعة بمعدل 5,5% سنويا وزاد إنتاج صناعة النسيج بمعدل 14,5% في العام الواحد ووصل إنتاج الصناعة عموما من أربعة ملايين سنة 1939 إلى ثلاثة وعشرون مليونا سنة 1943.

وعلى ضوء النمو الصناعي الذي شهدته البلاد خلال الحرب العالمية الثانية فلقد ازداد انسحاب المصانع الصغيرة من حلبة المنافسة ونقص عدد المصانع الصغيرة التي تقل قيمة إنتاجها السنوي عن 500 جنيه من 94,9% إلى 37,7% بينما ارتفع عدد المصانع التي يزيد إنتاجها عن 1000 جنيه من 15 , 7 إلى 22,7 %

وعلى الرغم من هذا النمو الصناعي وما ترتب عليه من ارتفاع في متوسط دخل العامل إلا أن هذا الارتفاع لم يكن يمثل القيمة الفعلية لارتفاع الحاجيات المعيشية فلقد وصل متوسط دخل العامل شهريا 293 قرشا في حين أن إردب القمح قد وصل سعره في السوق إلى ما يقرب من عشر جنيهات .

ومن المعتقد أن حكومة 4 فبراير 1942 لم تدرك الدلالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تركتها أثار الحرب حيث زادت الهوة بين الأغنياء والفقراء ففيما بين عامي 19401944 ارتفع عد أصحاب الملايين في مصر من 50 إلى 400 وزادت الودائع في البنوك من 45 إلى 120 مليون من الجنيهات .

وعلى الرغم من زيادة أصحاب الملايين وارتفاع حجم الودائع في البنوك إلا أن هاتان الظرهاتان لم يواكبهما نموا ملحوظا في الاقتصاد الإنتاجي ففي عام 1942 أغلق ما يزيد على 110,000 نوع من أنواع النسيج بسبب عدم قدرة هذه المصانع الصغيرة على المنافسة وعجزت الحكومة عن إيجاد حل لهذه المشكلة ولما تقدم النائب محمد الفرنواني عضو مجلس النواب بسؤال إلى وزير التموين بخصوص الآثار التي نجمت عن الحرب فيما يتعلق بمصانع الغزل وما تحصل عليه القوات للبريطانية وهل هناك علاقة بين ما تحصل عليه القوات البريطانية والحالة المتردية لمصانع الغزل الصغيرة لجأ وزير التموين إلى الغموض في إجابته ملقيا بالمسئولية على الوزارات التي تعاقبت على الحكم منذ قيام الحرب وعلى حد قوله : فإن السياسات الخاطئة التي سارت عليها الحكومات السابقة هي التي أوصلت البلاد إلى هذه الحالة .

وبينما طرأ تحسن واضح على بعض الصناعات الأخرى مثل المواد الكيماوية وصناعة الماط فقد تعرضت صناعة الحرير الصناعي للتدهور لعدم وجود المواد الأولية وكادت تغلق المصانع لولا تدخل الحكومة وتقديم بعض المعونات لها .

أما باقي الصناعات التي كانت مرتبطة بحاجة الحلفاء فقد كانت في نمو وازدياد مستمر فلقد زاد إنتاج صناعة الجبن من 100,50 طن في العام في الفترة قبل الحرب إلى 1800 طن عام 1943 وزادت صناعة تجفيف الخضر والفاكهة من لا شئ تقريبا إلى 1700 طن في المتوسط وبلغ سنويا كما زاد إنتاج صناعة الأسمنت من 365 طن قبل الحرب إلى 420,000 طن بعد الحرب .

وعلى ضوء الاعتبارات العديدة التي اقتضتها ظروف الحرب فقد كان من الطبيعي أو يواكب هذا كله نموا ملحوظا في الصناعة حتى يمكن استيعاب حاجة السوق من الإنتاج والاستهلاك فأخذ عدد المصانع في الازدياد حتى بلغ عام 1944 – 129,220 مصنعا بلغ عدد المشتغلين فيهم 457,954 ويلاحظ تركز الإنتاج الصناعي في يد قلة من الرأسماليين المصريين بعد أن انعدمت المنافسة بينهم وبين أصحاب المصانع الصغيرة وتفسيرا لهذه الظاهرة التي تركت بعدا اجتماعيا خطيرا على المجتمع المصري خلال تلك الفترة فمن الممكن ردها إلى عدة أسباب :

أولا : ظهرت سياسة الاحتكار في أشكال متعددة ولفئة ارتبطت مصالحها ببعض لعناصر التي كانت قريبة من الحكومة وما كان انشقاق مكرم عبيد عن الوفد سنة 1942 إلا دليلا على وجود العديد من أشكال الاحتكار .

ثانيا : لقد اعتمد حزب الوفد بدأ من سنة 1942 على بعض العناصر الرأسمالية التي تمثل ثقلا هاما داخل المجتمع المصري وكان من الصعب على هذه العناصر أن تتجاهل مصالحها الاقتصادية بل على العكس فقد اتخذت من موقعها الجديد داخل الهيئة الحاكمة فرصة الحصول على العديد من التسهيلات سواء في شكل أذونات تصدير واستيراد أو إعانات كانت تخصها الحكومة لبعض الصناعات التي وشك الانهيار .

ثالثا: ارتباط عدد كبير من الرأسماليين بمصالح الاحتلال الذي سهل لهم في مناسبات عديدة الحصول على بعض الامتيازات التي عجز أصحاب المصانع الصغيرة من الحصول عليها وأمام اختفاء المنافسة الأجنبية وازدياد الطلب على إنتاج المحلي وحاجة جيوش الحلفاء إلى العديد من المواد الصناعية فقد انتعشت الصناعة عموما وانعكس ذلك على ميزانيات الشركات المنتجة ومقدار الأرباح التي تحصل عليها.

ووفقا لما اقره مجلس الشيوخ فإن وزارة التجارة والصناعة قد عنيت بكافة الأساليب التي من شأنها الأخذ بيد الصناعات المحلية وتنشيطها والعمل على إنشاء بنك صناعي تقتصر مهمته على دعم الصناعات المحلية وتشجيعها .

ومن الملاحظ أن الرأسماليين المصريين قد نشطوا نشاطا ملحوظا وغامروا في تمويل أنواع من الصناعات التي اقتضتها ظروف الحرب مثل صناعة الكيماويات وإنتاج الحرير الصناعي وصناعة المعلبات الغذائية وغير ذلك من الصناعات التي تخدم جيوش الاحتلال وبلغ عدد الشركات المساهمة التي أنشئت خصيصا لهذا الغرض 375 شركة مساهمة بلغ رأسمالها في مجموعة 78 مليون جنيه منها شركة مصرية الجنسية بلغ رأسمالها في مجمله 69 مليون جنيه .

ولا شك أن نجاح هؤلاء المغامرين لم يكن مرده إلى كفاية خارقة أو موهبة متميزة وإنما مرده إلى تأثير هذه النخبة في نظام الحكم والتمتع بالحماية الجمركية إذا ما هددت صناعاتهم من المنافسة الأجنبية ولذا فقد تميزت الرأسمالية المصرية بخصائص معينة أهمها أنها لم تتجه إلى لتخصص في مجالات اقتصادية معينة وإنما كان فريق كبير منها يجمع بين المجالات الثلاثة تارة صناعة مال رغبة في الكسب السريع الميسور وامتلاك حرية الحركة التي تمكنه من تحقيق أكبر عائد من الربح في أقل وقت ممكن .

وبعد هذا العرض يتبين أن الحرب العالمية الثانية قد أفادت الرأسمالية المصرية فائدة عظمي في تدعيم مركزها المالي وقوتها الاقتصادية وقد ظهر ذلك عند انتهاء الحرب حيث تراكمت رؤوس أموال ضخمة في أيدي هذه الطبقة جعلت منها قوة اقتصادية واجتماعية هامة وبرزت في محيط الرأسمالية الوطنية مجموعة كبيرة من أسماء الباشوات والبكوات الذين جمعوا بين الاقتصاد والسياسة ومن أبرز هؤلاء حافظ عفيفي باشا الذي كان عضوا في مجلس إدارة 33 شركة و عبد المقصود أحمد بك الذي كان عضوا في مجلس إدارة 29 شركة ثم أحمد فرغلي باشا الذي عضوا في مجلس إدارة 27 شركة و إسماعيل صدقي الذي كان عضوا في مجلس إدارة تسع شركات أما أحمد زيور باشا فقد كان عضوا في مجلس إدارة ست شركات .

ويلاحظ حافظ عفيفي باشا من خلال إحصاء رسمي بأن – أربعة ملايين شخص من سكان مصر يعيش الفرد منهم بإيراد يقل عن جنيه واحد في الشهر أى بنحو ثلاثة قروش في اليوم ويلاحظ أيضا أن الضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على الطبقات الفقيرة تمثل 75% من الإيرادات العامة وأن مرتبات الموظفين ومعاشتهم تستنفذ 41 % من إجمالي مصروفات الدولة .

وتعرضت البلاد لحالة من النهب لصالح البريطانيين وبعض الرأسماليين المصريين وعلى سبيل المثال فإن السلطات البريطانية استغلت فرصة ربط الجنيه المصري بكتلة الاسترليني ولجأت إلى إصدار سندات على الخزانة البريطانية واستخدامها كغطاء مالي لما يصدر من أوراق فقد مصرية تتسلمها السلطات البريطانية لتشتري بها كل ما تريد من السوق المصري وتسدد بها أجور جنود الاحتلال والعاملين في المعسكرات وقد أدي ذلك بطبيعة الحال الي تزايد شديد في كمية الصادر من النقد الورقي .

وكذلك فإن مصلحة الجمارك أعفت السلطات البريطانية في مصر من ضرائب مستحقة على السلع المستوردة طيلة مدة الحرب بلغت قيمتها 61,772,790 جنيها مصريا أما مجموع الضرائب التي تنازلت الحكومة المصرية عن تحصيلها من البضائع المصدرة فبلغت قيمتها 10,188,229 وكان من الطبيعي أن يواكب كل هذا ارتفاعا ملحوظا في الأسعار ونقصا أكيد في الدخل القومي للبلاد بدا هذا واضحا في عدم مقدرة الحكومة على استيعاب الكم الهائل من المشاكل الاقتصادية الناتجة عن الحرب .

وعلى الرغم من أن معاهدة 1936 قد وضعت شكلا واضحا للعلاقات بين مصر وبريطانيا إلا أن الفترة من 1942 وحتى 1945 قد شهدت تجاوزا أكيدا لبنود المعاهدة وتحولت مصر إلى ضيعة بريطانية بدا هذا واضحا من تطويع الاقتصاد المصري بما يهدف إلى خدمة جيوش الحلفاء وفوضت الحكومة البريطانية اللورد كيلرن في عقد الاتفاقات وإبرام المعاهدات التجارية مع الحكومة المصرية وعلى ضوء الاتفاقات التجارية التي أقرها مجلس الوزراء المصري بجلسته المنعقدة في 23 فبراير 1942 فقد اقتصرت بنود المعاهدات على ما تورده الكومات المصرية لجيوش الحلفاء من مواد تموينية وصناعية دون التعرض لحاجة السوق المصرية للبضائع والمنتجات البريطانية .

ولذا فإننا نعتقد أن هذا النوع من الاتفاقات ثم يراع فيه مصالح مصر الاقتصادية لأنه كان يلزم الحكومة المصرية بإمداد جيوش الحلفاء بأوراق النقد المصرية التي يتعامل بها جيش الاحتلال في شراء حاجياته المعيشية من المواد التموينية المصرية المخصصة أصلا للشعب المصري ولم يراع الجانب المصري في هذا الاتفاق الأزمات التموينية لحادة التي أحدثت خللا ملحوظا في الاقتصاد المصري وزيادة في إخضاع الاقتصاد المصري لكي يخدم جيوش الخلفاء فقد اخترعت الحكومة البريطانية ما يسمي بمركز تموين الشرق الأوسط والذي كان يهدف في ظاهرة إلى تنشيط التجارة بين دول الشرق الأوسط أثناء الحرب إلا أنه كان يهدف في باطنه إلى إمداد جيوش الحلفاء بالمواد الغذائية والتموينية التي يصعب استيرادها من بريطانيا زمن الحرب ووفق هذه الحقيقة فإنني لا أتفق مع الرأي القائل : بأن هذا المكتب قد حقق نجاحا لا يستهان به في تنشيط التجارة بين دول الشرق الأوسط أثناء الحرب ويعتقد صاحب هذا الرأي أن الروابط التاريخية بين الدول العربية كانت مشلولة في زمن السلم وأن هذا المكتب قد أنشأ بعض الصناعات التي لم تكن موجودة وزاد الإنتاج المحلي واستغني عن السلع المستوردة وقام المكتب بالقضاء على الاحتكارات التخزين والمضاربة في المواد الغذائية .

وعلى ضوء الظروف الاقتصادية الناجمة عن الحرب فإن هذا المكتب قد أحدث نوعا من التوازن في العلاقات التجارية إلا أن هذا التوازن لم يكن لصالح المصريين بقدر ما كان يهدف إلى إمداد الجيوش البريطانية بالمواد التموينية التي تمثل الدافع الحقيقي من وراء إنشاء هذا المكتب ولعل هذه كانت بداية التي تمثل الدافع الحقيقي من وراء إنشاء هذا المكتب ولعل هذه كانت بداية استعمال اصطلاح كلمه الشرق الأوسط كاصطلاح سياسي عندما اعتبر الشرق الأوسط وحدة واحدة من حيث حاجاته ومن حيث تنمية إمكاناته اعتبر العديد الأوسط وحدة واحدة من حيث حاجاته ومن حيث تنمية إمكاناته وعقدت العديد من المؤتمرات التي تمخضت عن هذا المكتب وكانت في معظمها ذات طابع اقتصادي تجاري.

وإذا كان لهذا المكتب من فضل فإنه قد لفت نظر الدول العربية إلى أهمية التخطيط والتعاون في القضايا الاقتصادية بين الأقطار العربية وعلى ضوء المصالح البريطانية فإن أى تعاون أو تقارب بين الدول العربية أو أى تنسيق في سياسة بريطانيا مع الدول العربية سيعود حتما بالفائدة على قضية الحلفاء وعلى سلامة جويشهم المحاربة في المنطقة وبذلك تحصل بريطانيا على تأييد الدول العربية مجتمعة من خلال التنسيق الاقتصادي الذي كان يحمل بعدا سياسيا أكيدا . وإذا كانت بريطانيا قد تمنت من إخضاع الاقتصاد الزراعي والصناعي لخمة أهدافها لم تعدم الوسائل التي مكنتها من إخضاع الجانب التجاري أيضا ليس برسم سياسته فقط وإنما عن طريق السيطرة الفعلية حيث استحدث ما يسمي بالغرفة التجارية المصرية البريطانية لتنمية العلاقات بين الحليفتين "

وعملا بمفهوم القائمين على الغرفة التجارية المصرية البريطانية فقد شارك الأعضاء البريطانيون في وضع السياسات التموينية والتجارية للحكومة المصرية وعلى حد قول أحد مؤسسي هذه الغرفة " أن العلاقات التجارية بين مصر وبريطانيا وتنميتها كفيل يجعل علاقة البلدان وصداقتهما وطيدة وفي اجتماع الغرفة التجارية بلندن في 8/11/ 1942 أعلن حسن نشأت باشا أن الميزانية التجارية بين مصر وبريطانيا الآن في مصلحة مصر وذلك للقيود المفروضة على الصادرات البريطانية لظروف الحرب ولأن عددا كبيرا من القوات يقيم في مصر ومما جاء في التقرير الذي قدمه المجلس عن أعمال الغرفة : أن صادرات بريطانيا إلى مصر هبطت بمقدار 48% في عام 1938 .

وعموما فإن بريطانيا كانت تهدف من إقامة سواء مركز تموين الشرق الأوسط أو الغرفة التجارية المصرية البريطانية إلى إمداد القوات المحاربة في الشرق بالمواد التموينية والغذائية ومن هنا فقد تأثرت تجارة مصر الخارجية بسبب الصعوبات الشديدة سواء بسبب تعذر وسائل النقل البحري أو بسبب الالتزامات التي فرضتها المعاهدات المصرية البريطانية وكان من الضروري هبوط حجم التجارة الخارجية هبوطا محسوسا إذ بلغت قيمة الصادرات عام 1942 – 19,290,000 جنيها مصريا مقابل 000, 612, 22 جنيها مصريا في سنة 1941 أى عجز قدره 3,332,00 جنيه .

أما تجارة الواردات فقد نشطت في النصف الأول من 1942 ثم عادت إلى الهبوط على أثر الرقابة عليها في البلاد المصدرة وقلة وسائل النقل وقد بلغت جملة الواردات 55,12,000 جنيه في سنة 1942 مقابل 33,137,000 سنة 1941 أى بزيادة قدرها 000, 375, 22 وبذلك أصبح العجز الظاهر في الميدان التجاري 36,222,000 جنيها مصريا .

على أن هذا العجز في الميزان التجاري لا يمثل الحقيقة لاعتبارين هامين :

أولهما : أن ما اشترته الحكومة البريطانية من القطن منفردة أو باشتراكها مع الحكومة المصرية لم يتم تصديره بأكمله وأن كان ثمنه قد دفع فعلا للبائعين ولو أن هذا القطن صدر بالفعل لأضيف إلى قيمة الصادرات ولظهر الميزان التجاري على حقيقته ومن الصعب أن لم يكن من المتعذر حصر كميات هذا القطن بمختلف أنواعها ورتبها وتقدير ثمنها تقديرا حقيقا لما تتطلبه هذه العملية من دقة التفاصيل وتعدد الأرقام .

ثانيهما : أن بعض الأصناف المستوردة كانت مشاعا بين الاستهلاك المحلي واستهلاك قوات الحليفة المرابطة في مصر أى أن مجموع ثمنها موزع هذين المستوردين الرئيسيين فدفعت مصر ثمن نصيبها منها أما نصيب القوات المرابطة في مصر فدفع من أموال غير مصرية ودفع خارج مصر ..

وعلى ما يبدو فإن الحكومة المصرية لم تتمكن نظرا للاعتبارين السابقين من تحديد حجم الميزان التجاري بالمعني الصحيح اعتقادا منها بأن بقاء بعض المشاكل التجارية وعلى رأسها مشكلة القطن المصري تحول بين الحكومة وبين حقيقة الميزان التجاري .

والملاحظ أن عمليات الاستيراد قد واجهت العديد من الصعوبات مما اضطر الحكومة البريطانية إلى إبلاغ السلطات المصرية عدم الترخيص بتصدير وشحن البضائع إلى بلاد الشرق الأوسط ومن بينها مصر ما لم تصلها توصية من مندوبها في مركز تموين الشرق الأوسط الذي اجتمعت لديه المعلومات الخاصة بوسائل الشحن والمقادير التي يمكن تصديرها من المناطق المختلفة ونظرا للهزات الاقتصادية العديدة التي لحقت بالاقتصاد المصري طوالي فترة الحرب لذا فقد اتسم الميزان التجاري بالعجز الدائم والمتسمر والذي وصل في مجموعة إلى ما يقرب من مائة مليون جنيه مصري

وعلى ضوء كل ما سبق فإن مصر وأن لم تعلن الحرب على ايطاليا وألمانيا إلا في فبراير 1945 فإنها قد ساهمت بنصيب كبير في العمليات الحربية مما كان له الأثر البائع في انتصار بريطانيا وحلفائها على المحور حيث كان تموين جيوش الحلفاء من المواد الغذائية والصناعية وقد أخضعت مصر إنتاجها الزراعي والصناعي والتجاري لمقتضيات هذا التموين وليس خافيا أن تموين الجيوش من أهم أسباب ثباتها وقوتها وقد بذلت مصر في هذا السبيل تضحيات جسيمة إذ كان تموين الحلفاء دون مقابل بل كان بطريق التسليف الذي نشأت عنه مشكلة الأرصدة الإسترلينية والتي سبق الحديث عنها في موضع أخر من هذه الدراسة .

المتغيرات الاجتماعية في ظل الحرب

أن ما حدث مساء 4 فبراير 1942 من إرهاب الملك فاروق لم يكن الغاية من سياسة الحكومة البريطانية وإنما كان وسيلة لإخضاع مصر سياسيا واقتصاديا خدمة لقضية الحلفاء ومن هنا لا يمكن الفصل بين ما حدث في 4 فبراير وأوضاع مصر الاقتصادية وبالتالي لا يمكن الفصل بين تردي الأحوال الاقتصادية والحياة الاجتماعية على اعتبار أن الأوضاع الاجتماعية هي المقياس الفعلي لقوة الاقتصاد أو ضعفه في بلد ما ومن هنا فإن الأمرين الاقتصادي والاجتماعي ) نتاج فعلي للحياة السياسية .

وإذا كانت مصر قد أعلنت الأحكام العرفية منذ بداية الحرب وبدأ هذا واضحا في العديد من القرارات الاستثنائية فإن ما ترتب على هذا الإجراء السياسي من ردود فعل داخل المجتمع المصري يعد بعدا اجتماعيا واضحا حيث عاشت الجماهير في حالة أشبه بالمأساة وبدا هذا في العديد من أشكال القلق النفسي وانتشر الهمس بين أوساط المصريين البسطاء بأن أركان الحرب البريطانية قد اقترحت على الحكومة المصرية إرسال جيش من المتطوعين لخوض غمار الحرب على الجبهة الأوربية كما تردد في ريف مصر بأن الدواب والمواشي سوف تصادر وأن مديري المديريات المصريين سوف يستبدل بهم ضباط انجلترا وعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية قد حاولت في العديد من المناسبات أن تكذب هذه الدعايات إلا أنها لم تستطع بأي حال أن تقلل من حجم الكراهية الشديد التي يكنها المصريون للاحتلال البريطاني.

وضاعف من حجم هذه الإكراهات تصرفات ضباط وجنود جيش الاحتلال التي تتناقض مع عادات وتقاليد الشعب المصري سواء وهم في الشوارع والطرقات وبعضهم في حالة سكر وتعددت حالات الاعتداء على الفتيات المصريات وفي كل الأحوال عجزت الحكومة المصرية عن محاكمة المتهمين بحجة إن المعاهدات بين مصر وبقية دول الحلفاء كافية لمحاكمتهم .

وتعددت حالات اعتداء الجنود الانجليز على بعض الفتيات المصريات وصلت بعض الأحيان إلى حد هتك العرض وفي كل الحالات كانت الحكومة المصرية لا تملك إلا أن ترفع الأمر إلى هيئة أركان حرب الجيش البريطاني مما يعد من وجهة نظرنا اعتداء صارخا على استقلال مصر وشرفها .

وتعددت حالات الاعتداء من بعض جنود الحلفاء على بعض المصريين واكتظت أقسام البوليس بالعديد من الشكاوي ووقفت السلطات المصرية عاجزة عن منع تكرار مثل هذه الاعتداءات ونظرا لتغلغل الوحدات العسكرية داخل القرى المدن المصرية وما يترتب على ذلك من وقوع العديد من المشاكل فقد تقدم أحد أعضاء مجلس النواب بسؤال إلى رئيس الحكومة عن مدا إمكانية نقل تلك الوحدات بعيدا عن الأحياء السكنية ونظرا لعدم قدرة الحكومة على اتخاذ قرار في مثل تلك لحالات فقد تذرعت بظروف الحرب بسبب مسائل الأعداد والتموين وغير ذلك وعلى حد تعبير رئيس الوزراء:

أن الشعب المصري قد ضحي بالكثير وبمزيد من الصبر ستفي بريطانيا بكل مطالبنا وعلى ضوء تطور العلاقات المصرية البريطانية حتى نهاية الحرب فقد ثبت عكس هذا الاعتقاد وبدا واضحا أن معاهدة 1936 كنت ترضية لزعامات المصرية لم يترتب عليها اى نوع من الاستقلال بل استباحت بريطانيا لنفسها كل موارد الحياة المصرية مما ترتب عليه بالضرورة أحداث خلل في الاقتصاد المصري لأزمة الحياة المصري لازمة بالضرورة عدم تناسب تعبير وزير المالية في بيانع أمام مجلس النواب حيث قال : أن للحرب أثرا أشد وأخطر ولعل أخطر الشر فيه أنه يؤدي إلى تضخم خلقي حيث يسري التضخم من مرافق الناس إلى أخلاق الناس ومن قيم المال إلى قيم الرجال حيث تتضخم المطامع والشكايات ويندفع البعض مخاطرا مغامرا مقامرا ويبدو ذلك في التهرب والتهريب .

واستغلال ضعف الضعفاء وحاجة الفقراء وهكذا ينزلق الضعفاء سعيا وراء الربح الحرام لا يعنيهم في ذلك إلا أن تتضخم بطونهم ولو جرد الفقير من الطعام ولما كان هذا التضخم الخلقي مرتبطا بالتضخم النقدي ونتيجة حتمية له بالتفاعل بينهما شديد كل يفعل فعله في الآخر .

وقد يتصور البعض أن الحرب قد أحدثت تقدما في شتي المجالات الاقتصادية إلا أن ما ترتب على تلك الحرب من تناقضات اجتماعية وبلورة ( ما يسمي ) بالصراع الطبقي لأول مرة في تاريخ مصر يعد أمرا خطيرا وذلك لازدياد حدة الفوارق بين من يملكون ومن لا يملكون إلى جانب موجة الغلاء وارتفاع الأسعار وحدة التضخم ومن هنا فقد اهتزت المبادئ الأخلاقية .

ويعتقد البعض ان تردي الأوضاع الاجتماعية في القري المصرية كان بسبب المعتقدات الإسلامية التي أفلح كبار الملاك في نشرها باسم الدين وبواسطتها استطاع كبار الملاك إخضاع الفلاحين لنفوذهم الاقتصادي والاجتماعي إلا أننا لا يمكننا أن نقبل هذا الرأي بأن الغالبية العظمي من الفلاحين كاد أن يقتلها البؤس والفقر إلا أن مرد ذلك لم يكن بسبب المعتقدات الاستسلامية التي افلح كبار الملاك في نشرها باسم الدين ( كما يعتقد صاحب هذه الرواية ) وإنما كان بسبب السياسات الخاطئة للحكومة المصرية والتي أهملت في برامجها النهوض بحالة الفلاح المصري والارتفاع بمستواه الاجتماعي ويلاحظ أن كل الأحزاب المصرية قد افتقرت إلى البرنامج الاجتماعي الذي يستهدف رفع مستوي الفلاح المصري وكل الأحزاب المصرية تقريبا بما فيها حزب الوفد قد اهتمت بالبيانات الإنشائية بعيدا عن الواقع العملي ووضع الخطط والبرامج التي تستهدف الارتفاع بمستوي القرية المصرية ووفق الوثائق الرسمية فقد وصل متوسط الدخل القومي تسعة جنيهات للرفد سنويا .

وعلى الرغم من أن بعض الحكومات قد وضعت يدها على أساس المشكلة حيث أوضحت الحكومة في احدي تقاريرها أهمية التضامن الاجتماعي بين أبناء الوطن على اعتبار أنه لا يمكن أن يتحقق هذا الهدف إلا بتحقيق العدالة الاجتماعية برفع مستوي الحياة العامة لطائفة كبيرة من أبناء هذا الوطن تئن تحت أثقال الفقر والمرض والجهل ولابد من تكاتف كل الجهود إلى علاج هذه الأدواء الثلاثة والعمل على خلق طبقة من صغار الملاك تحيا حياة إنسانية في المستوي الأدني الذي تراه البلدان المتمدنة أقل ما يجب أن يبلغه واحد من أبنائها إلا أنه لم تبذل أى مجهود عملية لتحقيق هذه الغاية مما يجعلنا نعتقد أن هذا الإعلان كان لمجرد المزايدة بهدف إرضاء تلك الطبقات المعدمة .

وتجددت تلك المحاولة مرة ثانية حيث تقدم أحد النواب بسؤال إلى الحكومة حول الأحوال الاجتماعية السيئة التي يحياها معظم الفلاحين المصريين وما هي جهود الحكومة في هذا الصدد وفي هذه المرة أيضا لم تقدم الحكومة على إجراءات عملية وغنما كل ما فعلته هو وعود طالما تتبدد بمجرد انتهاء الدورة البرلمانية ولم تقتصر سوء الأحوال عموما على الفلاح وإنما شملت أيضا الطبقة العاملة حيث ظهرت العديد من التحقيقات الصحفية عن سوء مستوي العامل وضرورة العمل على رفع مستواه وعلى الرغم من أن العديد من المؤسسات الصناعية قد حققت ربحا كبيرا خلال سنوات لحرب وصل في بعض الحالات إلى عشرة أمثال رأس المال المستثمر .

إلا أن دخل العامل المصري قد ارتبط بالارتفاع المستمر بالمواد التموينية الأساسية ومن خلال الجدول التالي مكن معرفة مستوي الحياة التي يحياها العامل المصري .


اسم الشركة إيراداتها في عام 1942 متوسط أجر العامل في اليوم

شركة السكر

ويلاحظ أننا إذا وضعنا في الاعتبار أجرة العمال الدائمين ومعظمهم يعولون أسر لا يقل عدد أفراد الواحد منها على ثلاثة كما أغفلنا طبقة العمال الذهورات – الذين صدر من أجلهم الأمر العسكري الذي حدد خمسة قروش كحد أدني لأجورهم وكانوا قبل ذلك يتقاضون أجرا يوميا يتراوح بين رشين وأربعة على ضوء كل ذلك يتبين مدي الغبن الذي يقع على عاتق الطبقة العاملة والتي تعتب عصب الحياة الاقتصادية .

وعند فحص طلاب الجامعة وهم من وسط يمثل طبقات الشعب العليا – لم يوجد من بينهم من يصلح للخدمة العسكرية سوي نسبة لا تزيد على السدس أما خمسة الأسداس الأخرى فهم غير صالحين جثمانيا للخدمة العسكرية وأما باقي طبقات الشعب فإن الأمراض كانت تفتك بهم – بنسب لا تتفق والحياة الآدمية فقد بلغ عدد المصابين بالرمد الحبيبي 14,500,000 أى بنسبة 90%من عدد السكان وعدد المصابين بالبلهارسيا 12,000,000 أى بنسبة 75% من السكان وعدد المصابين الديدان المعوية الأخرى 8,000,000 أى بنسبة 50% من السكان .

ومن خلال بحث أعده الدكتور عبد الواحد الوكيل وهو حجة في شئون الصحة العامة حيث قال : " إذا جمعنا أمراض لوجدنا جملتها أكثر من خمسين مليونا أى أنها تكفي لإصابة شعب من خمسين مليون نفس بحيث يصيب كل شخص منهم مرض واحد فإذا وزعناها على المصريين أصاب كل شخص في المتوسط ثلاثة أمراض في وقت واحد ".

وتناولت احدي الصحف العلاقة بين انخفاض أجور العمال وحالة التسول التي انتشرت في أنحاء القطر وأرجعت السبب في انتشار جماعة المتسولين الذين يلجأون إلى الاستجداء عن طريق الحياة اليومية وعدم الربط بين هذا الارتفاع والأجور مما أدي إلى ترك العمل وتفضيل حياة التسول .

ونظرا لسوء التغذية وظهور ما يشبه المجاعة في بعض مناطق القطر المصري فقد انتشرت العديد من الأمراض وخصوصا مرض الملاريا والذي بدأ بصورة واضحة في مناطق الجنوب وخصوصا في بلاد النوبة وبعض مناطق مديريتي قنا وجرجا بدأت في أكتوبر 1942 ولأن الحكومة كانت تعلم جيدا أن سوء التغذية قد لعب دورا كبيرا في حدوث المرض فقد أقرت الحكومة مبلغ 4300 جنيه لتوزيع الأغذية على فقراء المناطق الموبوءة بحيث نال كل فقير مريض كيلة من الذرة العويجة وأقة من زيت القطن ونصف أوقه سكر .

ويبدو أن الحكومة لم تكن في حالة تمكنها من القضاء على هذا المرض الذي بدأ ينتشر في معظم مناطق جنوب مصر ولا أدل على ذلك من أن المبالغ التي خصصت لهذا الغرض لم تكن كافية للحد من هذا الوباء اللعين فقد اعتمدت الحكومة مبلغ 15,000 جنيه لمقاومة البعوض , 300 جنيه , 223 مليما لوضع خطة واقية لمقاومة الملاريا .

وفي منتصف سن ة 1943 أصيب بهذا المرض أكثر السكان حتى لم ينج منه أحد في بعض المناطق وتعذر على وزارة الصحة تحديد عدد المرضي على وجه الدقة وارتفعت نسبة الوفيات ارتفاعا يتباين تبعا للحالة الاقتصادية والاجتماعية من مسكن وملبس وغذاء ووصلت نسبة الوفيات إلى 20% في بعض المناطق 10% في مناطق أخري .

وعلى الرغم من أن وزارة الصحة قد أصدرت بيانا أرجعت فيه سبب ظهور وباء الملاريا إلى سوء التغذية وانتشار البعوض إلا أن الأستاذ الرافعي قد أرجع سبب هذا الوباء إلى دخول بعوضة ( الجامبيا ) من الحرب ومواد الطائرات البريطانية حيث يؤكد أنه قد ثبت من الحقائق والبحوث العلمية أن تلك البعوضة لم توجد من قبل في أى مكان من البلاد المصرية أو شمال السودان قبل الحرب فلما اشتد القتال سنة 1942 كانت منطقة البحر الأبيض المتوسط غير مألوفة فكانت الطائرات البريطانية التي تقصد مواقع الجيش الثامن بشمال أفريقيا تسلك طريق غرب أفريقيا – الخرطوم – وادي حلفا – القاهرة ولم تعن السلطات البريطانية في السودان بتطهير الطائرات التي تقصد وادي حلفا فمصر ومن هنا تسربت بعوضة" الجامبيا " إلى النوبة ومنها انتشرت بواسطة القطارات ووسائل الاتصال إلى المديريات الجنوبية .

وأيا كانت الأسباب التي أدت إلى ظهور الوباء إلا أن الحكومة المصرية لم تعط لهذا الوضع أهمية تتناسب وخطورة الموقف ويبدو هذا من المبالغ الضئيلة جدا والتي اعتمدت لهذا الغرض ومن هنا فقد استفحل الأمر وتفشي الوباء وتسبب في وفاة 20416 ولم تتمكن الحكومة من استئصال هذا الوباء إلا في فبراير 1945 على عهد وزارة أحمد ماهر .

أما مرض التيفوس فقد ارتفعت حالات الإصابة به أيضا ووفق بيان وزير الصحة : لقد زادت الإصابة بمرض التيفود هذا العام ( 1942 ) عن مثلها في الأعوام السابقة إذ المعروف أن إصابات هذا المرض تكثر في مثل هذه الأزمات وكان أشدها خطورة في مديريات الوجه البحري وبعض مناطق الوجه القبلي مما تسبب في وفاة خمسة أطباء وهم يؤدون واجبهم وعندما طلب بعض أعضاء مجلس النواب إحصائية بعدد الوفيات التي حدثت بسبب هذا المرض أبدي الوزير عدم إمكانية حصر حالات الوفاة في الوقت الحاضر إلا أن بعض الصحف قد نشرت حصرا مبدئيا بعدد الوفيات التي راحت ضحية هذا المرض والذي بلغ على د قولها 12,000 حالة خلال عام 1942 فقط .

ولعل أهم الآثار الاجتماعية وأخطرها والتي كانت نتاجا طبيعيا لاختلاط المصريين بالأجانب " الأزياء العامة " وخصوصا لدي السيدات والفتيات فلأول مرة في تاريخ مر تخرج الفتاة لمصرية وهي متبرجة ووصل الأمر إلى حد ظهور المرأة لمصرية شبه عارية على الشواطئ وفي الأندية العامة ولذا فقد تقدم النائب محمد قرني بك باقتراح يقضي بإلزام المرأة المصرية بارتداء الزي الذي يتناسب والسلوك الاجتماعي وعلى الرغم من اعتراض بعض النواب بحجة أن هذا الاقتراح غير جدير بالنظر لتعارضه مع الحرية الشخصية المكفولة في المادة الرابعة من الدستور علاوة على أنه لا يتمشي من الروح الاجتماعية الحديثة.

وبعرض هذا الاقتراح على مجلس النواب والشيوخ فقد حظي بالأغلبية ولذا فقد صدر القانون رقم 33 لسنة 1942 ويقضي في مادته الأولي بأن كل سيدة مصرية بلغت من العمر ست عشرة سنة يجب أن يكون لباسها الخارجي في الطرقات والأماكن العامة والشواطئ ساترا لأعضاء الجسم ما عدا الوجه والكفين بحيث تكون مرسلة إلى الكفين واصلة إلى الكعبين وألا تكون الملابس محددة لأعضاء الجسم .

وقضت المادة الثانية بأنه لا يجوز لسيدة مصرية بلغت العمر المنصوص عليه بالمادة الأولي أن تشاهد في الطرق أو الأماكن العامة وهي مخاصرة رجلا أو معه على أى حال منافية للآداب كما لا يجوز أن تخالط الرجال في الاستحمام أو تري على الشواطئ بلباس البحر .

المادة الثالثة: كل سيدة ارتكبت محظروا مما نص عليه في هذا القانون تعاقب بإنذارها أو ولي أمرها وإذا تكرر منها نفس الأمر يتم تحذيرها للمرة الثانية فإذا لم ترتدع يحكم عليها بغرامة قدرها عشرون جنيها أو الحبس مدة لا تتجاوز أسبوعا .

ووفق المذكرة الايضاحية التي تقدم بها النائب محمد قرني والخاصة بهذا القانون فقد بني الاقتراح على العديد من المبررات التي كانت سببا في استصدار قانون بهذا الشأن حيث اعتمد النائب مذكرته على بعض الحقائق التي ينكرها الإسلام وتتنافي مع طبيعة المرأة المصرية ومن أهمها :

1- ظهور المرأة المصرية وهي متبرجة متشبهة بالمرأة الأجنبية في مظهرها .

2- ظهور المرأة المصرية وهي برفقة جنود وضباط جيش الاحتلال وهي في حالة منافية للآداب العامة .

3- أن كل الشرائع الإلهية حتمت بالنص الصريح على النساء أن يدنين عليهم من جلابيبهن وألا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن... الخ.

ووجه هذا الاقتراح ببعض الانتقادات على اعتبار أن الحياة الاجتماعية قد قطعت شوطا بعيدا فيما يختص بالأزياء ومن العبث الرجوع بالأزياء بعد هذا التقدم إلى الوراء .

وكان تناول قضية الأزياء لبعض النواب لكي يتحدثوا عن الجرائم الأخلاقية التي ترتكب نهارا بلا رادع أو قانون حيث لا يعاقب القانون الفتاة البالغة ستة عشرة عاما إذا ارتكبت الجريمة مع شاب تزيد سنه عن الثمانية عشرة عاما .

وعلى الرغم ن صور هذا القانون إلا أن المرأة المصرية قد تأثرت كثيرا بسبب الحروب وما نتج عنها من سوء الأوضاع الاقتصادية ووفق دراسة أعدتها مجلة " كورونيت " حيث أرسلت أحد مراسليها إلى القاهرة ليكتب لها عن المرأة المصرية والحرب فكتب يقول : حقا لقد تأثرت حياة البعض من الحرب إلى أقصي حد .... ويا له من تأثر نشأ عنه انقلاب خطير في حياة بعض المصريات وعلى ضوء تلك الدراسة التي اجري بسببها العديد من بعض المصريات وعلى ضوء تلك الدراسة التي أجري بسببها العديد من اللقاءات الشخصية مع بعض النسوة اللائي اختزن مهنة البغاء اختار مراسل تلك الصحيفة بعض النماذج الآتية :

1- اللقاء الأول مع فتاة تعمل في كباريه " الأكسلسيور " في الإسكندرية وأسمها كيكي ويضيف مراسل المجلة أن كيكي هذه كان اسمها " عائشة" وكانت تعيش في قرية في أعماق الريف المصري وتحدثت معها طويلا وسألتها كيف حدث هذا الانقلاب في حياتها وكيف أصبح شكلها هكذا وكيف أصبحت تكلم الانجليزية وبسؤالها عن كل ذلك أجابت اسألوا الحرب لأنها هي السبب ؟

2- واختار مراسل المجلة امرأة أخري كانت تعمل خادمة في احدي البيوتات الراقية ووجدت نفسها بلا مقدمات تقع فريسة للإغراءات الشديدة من جنود وضباط الحلفاء ولم تستطع أن تقاوم الكافيار والشامبانيا .

3- أما النموذج الثالث فقد كان لفتاة يبدو عليها الجمال الشرقي وبالطبع لم تذكر اسمها الحقيقي حيث اختارت لنفسها اسما جديدا " شوشو" وتؤكد تلك الفتاة أنها تنتمي إلى احدي البيوتات الراقية وقد وقعت في حب أحد الضباط الانجليز الذين يعملون ضمن الوحدات المتمركزة في القاهرة وبعد أن مكنته من نفسها بعد أو وعدها بالزواج فقد تم نقله إلى الفرقة الأولي في الصحراء الغربية حيت لقي حتفه واختارت تلك الفتاة طريق البغاء سترا لفضيحتها وسط أهلها .

4- وعلى الرغم من اعتقادنا بأن هذا الأثر السيئ لم يشمل إلا عددا محدودا من الفتيات المصريات إلا أننا لا يمكن أن نغفل هذا الجانب لأهميته الخطيرة وارتباطه الأكيد بتردي الأحوال الاقتصادية وخصوصا في مدينة الإسكندرية التي تعرضت لقصف الألمان واستشهاد الآلاف من الرجال والنساء اختارت بعضهن حيا الليل بعد أن فقدت زوجها .


وعلى الجانب الآخر فقد أعطت الحرب المرأة المصرية بعضا من الحرية وبعضهن قد اشترك في الحياة العامة وتعرض البعض للاعتقال ويعد اعتقال السيدة / نبوية مرسي لأسباب سياسة انقلابا خطيرا في حياة المرأة المصرية وتعد محاكمتها أمام المحكمة العسكرية فرصة استغلتها المرأة لكي تطالب بمزيد من الحقوق العامة وفي مقدمة تلك الحقوق حق المرأة في إقامة حزب نسائي حيث صرحت الأستاذة مفيدة عبد الرحمن بأن فكرة إقامة حزب نسائي قد راودت الكثيرات من النساء المتعلمات وفي مقدمتهن السيدة نعمت راشد عطيات الشافعي زينب لبيب وبدأت ولي جلسات الهيئة التأسيسية للحزب في أول فبراير 1944 ودار الحديث عما يلزم الحزب من مطبوعات وقانون الحزب وغير ذلك من الإجراءات .

إلا أن تلك التجربة على ما يبدو لم تحظ بالنجاح حيث فضل بعضهم الاشتراك في الأحزاب التقليدية حتى لا يتهمن بالتعصب من جانب الرجال ووصل الأمر إلى أن بعض النسوة كفاطم اليوسف بدأت تحت الفتيات المصريات على الإضراب عن الزواج خصوصا العاملات منهن بحجة أن المرأة التي قد يضطرها عملها إلى التغيب عن منزلها معظم ساعات اليوم لتعود مرضاها كطبيبة أو لتعد قضاياها كمحامية أو لتشرف على مجلتها كصحفية لا يمكن أو توفق بين عملها ومنزلها ثم أضافت قائلة : أطالبكن يا حضرات الزميلات الناشئات الثائرات وأنصحكن بعدم الزواج إذا أردتن المجد والعمل تزوجن الثورة على أنانية الرجل وغروره.

ويلاحظ إن قضية المرأة قد شغلت حيزا كبيرا في ضمير المجتمع المصري في تلك الفترة وليس من قبيل المصادفة أن تظهر تلك الدعوات الغريبة والجديدة على المجتمع المصري وإنما كان للآثار التي تركتها الحرب الأكبر الأثر في تمرد المرأة المصرية وظهور الدعوات التي تعد خروجا صارخا على تقاليد وعادات المجتمع المصري ولم تتوقف مطالب المرأة عند هذا الحد بل تبنت احدي المجلات الدعوة إلى حق المرأة في دخول الأزهر وأجرت المجلة عدة لقاءات مع بعض الشخصيات العامة حول حق المرأة في دخول الأزهر وفيما يلي آراء طائفة من هؤلاء :

توفيق الحكيم : إذا قبلت المرأة أن تلبس عمامة وجبة وكاكولة وقفطانا فإنا لا مانع عندي من التحاقها بالأزهر وأري أن أنسب كلية لها هي كلية الشريعة حتى يمكن أن تتخرج محامية شرعية أو قاضية شرعية حيث تكون أجدر بفهم المرأة ومعرفة شئونها ويضيف توفيق الحكيم بأسلوب تهكمي ألا تري أن المرأة قد بالغت في مطالبها لدرج أن تطالب بدخول الأزهر .

أما الأستاذ زهير صبري فقد أيد حق المرأة في أن تدخل الأزهر باعتباره معهدا للعلم أما الدكتور زكي مبارك فقد قال أنني من أشد المؤيدين بفتح أبواب الأزهر أمام الجنس اللطيف .

أما فاطمة اليوسف فقد قالت : لقد عشت عمري مدافعة عن حقوق المرأة ولا شك أنني أؤيد دخولها الأزهر .

وخلاصة القول أن الحرب العالمية الثانية ( 19391945) قد تركت آثارها في كل نواحي الحياة العصرية سواء أكانت تلك الآثار بالإيجاب أو بالسلب حيث قد أحدثت ردود فعل عنيفة لأنها حدثت طفرة واحدة سواء في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية وما نورده من أمثلة هو من باب الاستدلال وليس من باب الحصر .

ويبدو أن حكومة الوفد قد قدرت خطورة الآثار الناتجة عن الحرب فيما يتعلق بانحراف الأخلاقيات ولذا فقد أصدر الحاكم العسكري أمرا بإلغاء البغاء إلا أنه قد استثني من هذا القرار عواصم المحافظات والمديريات .

ولذا فقد تقدم أحد أعضاء مجلس النواب بسؤال إلى رئيس مجلس الوزراء والحاكم العسكري العام عن عدد بيوت الدعارة التي أغلقت في جميع أنحاء القطر وما إلي فعلته الحكومة لهؤلاء البغايا كي يصلن إلى سبيل الاستقامة ولكي تكون الأسرة المصرية محفوظة فلا يصل إليها شر .

ولقد أجابت الحكومة بأنه تم إغلاق 407 من بيوت العاهرات في جميع أنحاء البلاد تنفيذا للأمر لعسكري رقم 247 الصادر في 11 أبريل 1942 وقد أرسلت وزارة الشئون الاجتماعية إلى كل مديرية بكتاب تطلب موافاتها ببعض التفاصيل عما تعتزم المديرية اتخاذه من الإجراءات بالنسبة للبغايا اللائي ستغلق بيوتهن وقد اقترحت بعض المديريات تخصيص مكان لإيواء البغايا تحت إشراف البوليس وتزويدهن بالمال من مجلس المديرية أو المجلس البلدي حتى يتزوجن أو يجدن عملا شريفا ولقد اقترحت الحكومة بناء على رغبات مديري المديريات تأليف لجنة من وزارتي الداخلية والصحة النظر في الطرق التي تسهل للمديريات تنفيذ الأمر العسكري المذكور والتي تكفل النتيجة المنشودة من إلغاء البغاء وحماية لناس مما ينجم عنه من شرور .

ويلاحظ أن الحكومة قد حرصت على إصدار القرارات ذات الطابع الجماهيري حرصا منها على أن يسترد الوفد بعضا من الأرض التي فقدها عقب 4 فبراير وانطقا من هذا المفهوم فقد أصدر الحاكم العسكري العام قرارا بإلغاء المارهنات على سباق الخيل ويلاحظ أن حيثيات القرار لم ترجعه الحكومة إلى أسباب إسلامية وإنما إلى منافاته للأخلاق النتيجة المنشودة من إلغاء البغاء وحماية الناس مما ينجم عنه من شرور .

ولما كانت الحركة العمالية قد اهتزت ثقتها في الوفد بسبب العديد من الأحداث التي لا تتفق وشعبية الوفد حرصت الحكومة على كسب هذا القطاع الجماهيري الهام ولذا فقد أصدر النحاس باشا قرارا عم جميع قطاعات لدولة سواء أكانت قطاعات صناعية أو زراعية يقضي بجعل الحد الأدنى لأجر العامل في اليوم الواحد خمسة قروش .

ولما كانت الحكومات التي تعاقبت على الحكم بدأ من سنة 1936 قد رضيت على كسب ود العمال لأسباب سياسية وحزبية فقد حرصت حكومة الوفد بدأ من 1936 على إقامة نقابة للعمال ترعي مصالحهم إلا أن هذا المشروع قد تعثر إصداره بالرغم من تشكيل لجنة لوضع مذكرة تفصيلية بالمشروع وبدأ من حكومة محمود 1938 وحتى حكومة حسين سري قبيل حادث 4 فبراير فقد حرصت كل الحكومات على النظر والتفكير في مشروع تلك النقابة إلا أنه لم تكن هناك خطوات جاد للخروج بهذا المشروع إلى حيز الوجود حتى كانت حكومة 4 فبراير حيث صدرت العديد من التشريعات العمالية كان أبرزها قانون الاعتراف بالنقابات العمالية ثم أعقب ذلك قانون التأمين الإجباري ضد حوادث العمل وقانون عقد العمل الفردي وقانون مكافحة الجهل ومحو الأمية بين صفوف الشعب.

أما القانون الخاص بالاعتراف بالنقابات فقد نص في مادته الأولي علي تحديد كلمة" عمال " وهم الذين يقومون بتأدية عمل نظير أجر مادي سواء أكان هذا لعمل ماديا أو عقليا وسواء أكان صاحب العمل شخصا حقيقا أو معنويا أما في مادته فقد حدد الأشخاص الذين لا يندرجون تحت تلك النقابة وهم :

أ‌- موظفو لحكومة ومجالس المديريات والمجالس البلدية والمحلية والقروية وعمال الجيش والبوليس .

ب‌- عمال الزراعة .

ت‌- الوكلاء المفضون الذين يمثلون أصحاب العمال .

ث‌- الممرضون وعمال المستشفيات على أن هؤلاء الموظفين والمستخدمين والعمال أن ينشئوا لهم جمعيات ترعي مصالحهم المشتركة .

ج‌- وهكذا تم التمييز بين العمال الذين لهم حق تأليف النقابات وغيرهم بناء على رغبة الحكومة لأن بعض الأعضاء داخل مجلس النواب والشيوخ كانوا يطالبون بحرمان عمال البيوتات ( الخدم) من حق تأليف النقابات بحجة أنه ليس من المعقول أن تتدخل النقابة في العلاقة بين الخادم ومخدومه وقد يلجأ لخدم إلى إعلان الإضراب وهذا لا يتفق مع العلاقات العائلية والعادات الشرقية وأن السبب الذي يدعو عمال الصناعة والتجارة إلى تأليف مع مراعاة أن عمال المصانع والشركات أرفع في مستواهم الاجتماعي من الخدم والطهاة والسائقين وحرصا من الحكومة على ضمان حق الخدم ومن شاكلتهم أضافت الحكومة اقتراحا يقضي بالاعتراف لهم بحق الدخول في النقابة بشرط ألا تتدخل لنقابة في لعلاقة بين الخادم ومخدومه ولذا فإننا نعتقد أن النقابة ق فقدت أهميتها بالنسبة لتلك الطبقة كما أن الحكومة قد جردتهم من أهم حق من الحقوق القانونية وهو الإضراب " حيث لا يجوز لهم الإضراب وإذا قرروا الاضراب وجل حل نقاباتهم "

ح‌- ووفق مضابط مجلس النواب فقد تمسكت الحكومة بحق العمال الخصوصيون ( الخدم والسائقون وغيرهم ) في الاشتراك في النقابة على الرغم من أن الأغلبية البرلمانية كانت تميل إلى خروجهم من النقابة وهذه نقطة تسجل للوفد ولوزير الشئون الاجتماعية عبد الحميد عبد الحق الذي نجح بمهارة في إقناع الأعضاء بأن هذا التمييز يعد مخالفا للدستور ولذا فالحكومة لا يمكنها الفصل بين العمال بغض النظر عن نوعية العمل , ومما يؤخذ على هذا المشروع أنه جرد النقابة من حق ممارسة الناشط السياسي والديني على اعتبار أن مثل تلك النشاطات لا تدخل في الغرض الذي أنشئت من أجله النقابة كما أنها حرمت عمال الزراعة من الاشتراك في تلك النقابة على اعتبار أن من حقهم تكوين نقابة خاصة بهم وكان الأولي عدم التفرقة على اعتبار أن من حقهم تكوين نقابة خاصة بهم وكان الأولي عدم التفرقة بين العمال الصناعيون والزراعيون ومن هنا فقد فشل العمال الزراعيون في إقامة ترعي مصلحتهم وتحميهم من بطش أصحاب العمل وفي الوقت الذي قطعت فيه نقابات العمال شوطا كبيرا في رفع مستوي العمال وحماية الوقت الذي قطعت فيه نقابات العمال شوطا كبيرا في رفع مستوي العمال وحماية حقوقهم كان العمال الزراعيون يعيشون في ظروف اجتماعية لا تتفق بأى حال والحياة الآدمية ويعتقد بعض المؤرخين المعاصرين أن حرمان عمال الزراعة من حق تكوين النقابات هو خوف أعضاء مجلس النواب والشيوخ من أن عمال الزراعة وكذلك يسري الخوف من أن تكون النقابات سبيلا لتسرب المبادئ الشيوعية داخل الريف مما يؤدي إلى إثارة النزاع بين الملاك ومزارعيهم وهذا الرأي يحمل قدرا كبيرا من الحقيقة على الرغم من أن الأعضاء البرلمانيون ( وهو من كبار الملاك) لم يعلنوا هذا صراحة.

لقد كان قانون الاعتراف بالنقابات مخيبا الآمال العمال حيث خضعت النقابات لرقابة البوليس وفرض عليها إبلاغه عن الاجتماعات التي تزمع النقابة عقدها قبل موعدها بوقت كاف , كما نص القانون على أن من حق الحكومة حل النقابة إذا رأت السلطة أنها انحرفت عن الغرض الذي أقيمت من أجله ولهذا فإن نعتقد أن الدافع وراء اهتمام الحكومة بإقامة نقابة شرعية للعمال كان دافعا حزبيا في الدرجة الأولي .

واستكمالا لملامح التشريع العمالي فقد أصدرت الحكومة قانونا بتحديد ساعات العمل حيث نصت المادة السادسة من هذا القانون على أن مدة العمل الفعلية ثماني ساعات في اليوم او ثمانية وأربعون ساعة في الأسبوع ومدة العمل ليلا ست ساعات وأنصت المادة السابعة على أن العمل سبع ساعات في اليوم في الأعمال الخطرة بالصحة وخمس ساعات إذا كان العمل ليلا وقد حدد القانون الأعمال الخطرة أو المضربة بالصحة فيما يأتي :

أ‌- أعمال المناجم والمحالج .

ب‌- صناعة المواد الكيماوية والمواد القابلة للانفجار والغازية .

ت‌- صناعة المواد السامة أو المضرة بالصحة.

ث‌- شحن وتفريغ الحبوب والمواد الغذائية .

وعلى الرغم من القيود التي فرضت على النشاط النقابي إلا أنه قد خطأ خطوات هامة مع نهاية سنة 1945 حيث كان الاتحاد الدولي لنقابات العمال قد دعا اتحادات العمال أن يرسلوا مندوبيهم في المؤتمر المزمع إقامته في باريس وسافر من مصر وفدان يمثلان اللجنة التحضيرية لعمال القطر المصري ومؤتمر نقابا القطر المصري وأمن توحيد الوفديين في وفد واحد حيث نوقشت مشاكل الأجور والبطالة وطرد القوات الأجنبية من أدي النيل وأثر الاستعمار البريطاني على تأخر الصناعة وتفاقم المشكلة الزراعية وتقييد الحريات واستطاع الوفد المصري أن يحصل من المؤتمر على قرار يندد بالاستعمار في مصر .

ومع الاقتراب من نهاية الحرب بدت مشكلة عمالية ذات نتائج اجتماعية خطيرة فلقد نشأت السلطة العسكرية البريطانية أثناء الحرب العديد من المصانع التي تخدم أغراض الحرب ولما كانت على وشك الانتهاء منها فإن الوفاء من العمال الذين يعملون في هذه المصانع سوف يتعطلون عن العمل وسوف يترتب على ذلك العديد من الآثار الاجتماعية الخطيرة ولذا فقد اقترحت الحكومة المصرية شراء تلك المصانع وقبلت بريطانيا هذا الرأي مع تحفظ واحد وهو أن يكون للسلطات البريطانية حق نقل بعض المصانع التي يقتضي نقلها إلى الشرق الأقصى ( حيث كانت الحرب ما تزال مستمرة ) . وبصرف النظر عن المبلغ الذي قدرته الحكومة البريطانية ثمنا لتلك المصانع أما كان لبريطانيا أن تتنازل لمصر عن تلك المصانع بلا مقابل وهل كل التضحيات التي قدمتها مصر لبريطانيا خلال الحرب لا تعد ثنا باهظا لتلك المصانع الصغيرة .

ولعل أخطر الآثار الناجمة من الحرب تلك الحركات التبشيرية والتي أخذت تندس وسط صفوف المصريين وفي المتجمعات الجماهيرية وخصوصا وسط المرضي في المستشفيات ولقد أغفلت السلطات البريطانية أعينها عن تلك المهام الخطيرة في الوقت الذي كانت السلطات البريطانية ترصد كل حركة في المجتمع مما يجعلنا نعتقد بأن هذه الأنشطة كانت تدور في إطار السياسة البريطانية .

ولعل هذا النوع من النشاط قد بدأ بصورة أكثر وضوحا داخل المدارس الأجنبية حتى يفرض على الطلاب حضور النداوت التي تعقد لهذا الغرض ومطالبة الطلاب بأعداد بعض البحوث عن موضوعات ذات صبغة تبشيرية مثل سماحة المسيحية وغير ذلك من الموضوعات ومما يلفت النظر انتشار الجماعات التبشيرية وتعدد مسمياتها وكلها تحمل أسماء ذات طابع مهني مثل جماعة مساعدة الأيتام وجماعة أصدقاء المرضي وغير ذلك من المسميات ولقد نجحت تقارير على سفارات فرنسا وأمريكا وانجلترا وخصوصا في غير أوقات العمل الرسمية ما يزيدنا اعتقادا بأن هذا النوع من الناشط يعد جزءا من مهام سفراء دول الحلفاء في القاهرة وفي الوقت الذي كان الوفد يتتبع الخصوم السياسيين ويزج بهم في السجون بلا تحقيق أو مساءلة أغمضت الحكومة أعينها عن هذا النشاط الخبيث ومما يضاعف من مسئولية الحكومة أنها كانت على بينة من كل تلك التحركات مما اضطر أحد أعضاء مجلس النواب إلى التقدم بسؤال إلى وزير الداخلية حول ما تقوم به مستشفي هرمل بالتبشير بين المرضي من الفقراء المسلمين , ولعل أخطر ما في الأمر أن الحكومة لم تكذب هذا الخبر وإنما أ‘لن وزير الداخلية بأن الوزارة ستخطر إدارة المستشفي بضرورة أبطال هذا النوع من النشاط .

ويبدو أن طلبة الأزهر كانوا من أولي القوي التي قدرت خطورة الأمر ولذا فقد تقدم بعض الطلاب بعريضة إلى رئيس مجلس الوزراء يلفتون نظرة إلى خطورة الدعايات التي تقوم بها بعض الجماعات وخصوصا وسط المدارس والمستشفيات وطالبت العريضة بفرض لتعليم الديني في المدارس وخصوصا المدارس الأجنبية .

والملاحظ أن الحكومة لم تقدر خطورة الأمر حيث لم تتخذ أى نوع من الإجراءات ضد تلك الجماعات ومن الصعب الحصول على إحصائية تحدد حجم الانجازات التي قامت بها تلك الجماعات نظرا للطابع السري الذي كان مفروضا على هذا النوع من النشاط ولذا فمن الصعب الحكم على النتائج التي حققتها تلك الجماعات.

إلا أن ما نستطيع أن نجزم به هو مسئولية الحكومة المصرية وتغافلها عن خطورة الأمر وبلا أى مساءلة .

وعلى ضوء كل ما تقدم يمكننا أن نطرح تساؤلا: ما هي العلاقة بين كل ما تقدم وحادث 4 فبراير ونتائجه السياسة ؟

ولابد من تقرير حقيقة تاريخية : أن ما حدث في 4 فبراير 1942من إرهاب الملك فاروق وكل من تسول له نفسه الخروج من دائرة لنفوذ البريطاني لم يكن هدفا بريطانيا وإنما يعد وسيلة لإخضاع مصر سياسيا واقتصاديا وعسكريا لخدمة الدول المتحالفة .

وبلاشك فقد نجحت السياسة البريطانية في تحقيق أغراضها حيث خضع الاقتصاد المصري لصالح الدول الحليفة .

أما من الناحية السياسية فإن تطبيق الأحكام العرفية في مصر في الوقت الذي لم تتمن السلطات البريطانية من تطبيقه في بريطانيا ذاتها يعد نجاحا باهرا من وجهة النظر البريطانية وأيضا من الناحية العسكرية حيث قدمت الإمكانات المصرية الخدمة القوات المحاربة ومن هنا فقد عاشت مصر وكأنها دولة محاربة في الدرجة الأولي .

ولا يمكن الفصل بين كل ما تقدم والمتغيرات الاجتماعية وليس من قبيل المصادفة على سبيل المثال أن تقدم حكومة 4 فبراير على إصدار العديد من التشريعات ذات الصبغة الاجتماعية مثل قانون النقابات وتحديد ساعات العمل وغير ذلك من القوانين التي سبق لحديث عها ألا لكي تقلل من حجم الآثار التي تركها هذا الحادث وسط صفوف الشعب المصري ولذا فإنه لا يمكن الفصل بين الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأن تلك المظاهر الثلاثة تعد نتاجا مؤكدا لحادث 4 فبراير 1942 ..

الفصل الثامن : العلاقة المصرية البريطانية على ضوء المتغيرات الجديدة

الأطماع البريطانية في مصر بعد فبراير 1942

إذا كانت معاهدة 1936 قد وضعت شكلا محددا للعلاقات المصرية البريطانية فإن قيام الحرب العالمية الثانية يعد – من وجهة النظر البريطانية - مبررا معقولا للخروج على تلك المعاهدة ووقوع العديد من التجاوزات التي أحدثتها بريطانيا بحجة " داعي الحرب " وبكل المقاييس فإن ما حدث في 4 فبراير يعد انتهاكا لنصوص المعاهدة وتدخلا في عمل يعد من أخص شئون السيادة المصرية التي قررتها المعاهدة .

وعلى ضوء كل ما حدث في 4 فبراير فقد تخطت العلاقات المصرية البريطانية مرحلة الرجوع غلى نصوص لمعاهدة والثوب إلى مرحلة جديدة تعد في الدبلوماسية المعاصرة : شكلا من أشكال التسلط السياسي والذي ترتب عليه بالضرورة انتهاكا اقتصاديا وعسكريا وأخلاقيا.

والغريب في الأمر أن حكومة 4 فبراير ظلت تسوق العديد من المبررات ليس دفاعا عن سياستها فقط وغنما للدفاع أيضا عن سياسة بريطانيا بحجة " تأمين الديمقراطية وتناست الحكومة أن الاحتلال البريطاني لمصر منذ 1882 يعد انتهاكا صارخا لمبدأ الديمقراطية وأى وعود سوف تقدمها بريطانيا تعد من باب السراب الذي لا وجود له وتمكنت السياسة البريطانية من أن تطبق على مقدرات الشعب المصري وتوجه لا اقتصاد المصري ليخدم أهداف الحرب مما دعا اقتصاديا بارزا كالدكتور عبد الجليل لعمري أن يقول في وصف الحالة لقد كان الاقتصاد المصري كبقرة ترعي في أرض مصر ولكن ضروعها كانت تحلب خارجها وهذا ما يضاعف من اعتقادي بأن ما حدث في 4 فبراير لم يكن هدفا بريطانيا وإنما كان وسيلة لإخضاع مصر سياسيا واقتصاديا وعسكريا بهدف خدمة الحلفاء .

ولعل السياسة البريطانية كانت تدرك جيدا ما أصاب الوفد من جراء 4 فبراير ولذا فقد حرصت على أن تعمق هذا المفهوم لدي الجماهير الوفدية الكاسحة وليس من قبيل المصادفة أن ينعم على السفير البريطاني بلقب" لورد" عقب 4 فبراير وأن يذهب النحاس باشا مهنئا حيث استعرض مع السفير قوات من الجيش البريطاني في ميدان الإسماعيلية .


ويبدو أن النحاس قد أراد أن يناور مناورة سياسية للفت نظر الرأي العام حيث تحدث شفهيا مع السفير البريطاني حول إشراك مصر في مفاوضات الصلح على الرغم من أن مصير الحرب لم يكن قد تقرر بعد إلا أن الحكومة البريطانية لم تجد ما يحول دون إشراك مصر في جميع المفاوضات التي تمس مصالحها بالإضافة إلى أن الحكومة البريطانية لن تتدخل أثناء هذه المفاوضات في مناقشة أى شئ يمس مصالح مصر المباشرة دون تبادل الرأي مع الحكومة المصرية .

ووفقا للمعني السابق فإن الحكومة البريطانية ستبذل كل معاونتها ليتحقق لمصر أن تمثل على قدم المساواة بين جميع مفاوضات الصلح التي تمس مصالح مصر مباشرة فالقيد ينصب على مصالح مصر المباشرة أى أنه فيما عدا مصالح مصر المباشرة لا تسعي بريطانيا حيث لا يكون هناك مبرر لكي يكون لمصر مكان في هذا المؤتمر وتفسيرا لهذا النص فإنه من المفترض ضمنيا أن يتعرض المؤتمر لمصالح مصر غير المباشرة من غير أن تكون مصر موجودة وأكبر مثل على هذا هو قضية السودان فوفقا للمبدأ السابق فإن السودان يعتبر قضية مصرية غير مباشرة ولذا ستكون بريطانيا طرفا عن مصر في تلك القضية وهو ما يتعارض تماما مع حق مصر السياسي في السودان .

أما القول بأن حكومة جلالة الملك لن تدخل في أثناء هذه المفاوضات في مناقشة أى شئ يمس مصالح مصر المباشرة دون تبادل الرأي مع الحكومة المصرية فإن هذا النص لا يتفق ومصالح مصر الوطنية لأن مصر أما أن تكون وصلت إلى أن تمثل في المؤتمر وهي بذلك موجودة باعتبارها عضوا فيه وهذا يمكنها من التحدث عن نفسها وإبداء آرائها والدفاع عن مصالحها وأما أن تكون فشلت المساعي لإشراك مصر في المؤتمر وهنا يكون النص غاية في الخطورة لأن معناه أن بريطانيا تستبيح لنفسها أن تتحدث عن مصر وأن تتفاوض عن مصالحها المباشرة ومصر تقبل ذلك وتكتفي بمجرد أخذ أيها خارج المؤتمر الأمر الذي دعا أحد أعضاء مجلس الشيوخ البارزين إلى القول : أن كان للحماية الخارجية معني , فحدثوني ما هو هذا المعني إذا لم يكن أن دولة تتحدث عن أخري وتقضي في صوالحها .

ومزيدا من إحراج الحكومة فقد أجمعت المعارضة على ان مطالب مصر واضحة لا غموض فيها ولا تحتاج إلى مؤتمرات لحلها وهي الجلاء عن مصر والسودان وبذلك نكون قد قطعنا خطوات كبيرة لتحقيق مصالح مصر .

وعلى الرغم من أن مصر كانت تتطلع إلى اليوم الذي تتحرر فيه من قيود التبعية البريطانية إلا أن حكومة الوفد قد سعت لاستقدام بعض الخبراء الانجليز في مجال الاقتصاد مما كان سببا في تفاقم حالة القلق لدي المصريين وخصوصا وأن مصر في تلك الفترة كان لديها المجلس الاقتصادي العلي وهو هيئة رسمية تضم مجموعة من الخبراء الممتازين في المسائل المالية والاقتصادية ولدي مصر أيضا اللجنة المالية بوزارة المالية واللجنة المالية في مجلس للنواب ومثلها في مجلس الشيوخ ولدي مصر أيضا طبقة عظيمة من جال المال وال‘مال الذين يتولون فعلا مشروعات ومؤسسات مالية واقتصادية فهذه الهيئات وكل تلك المؤسسات سواء كانت رسمية ام غير رسمية ألا يوجد فيها من يصلح بأن تسترشد به الحكومة .

وهذا ما يدعونا إلى القول بأن إدخال خبراء انجليز بحجة إصلاح الخلل في الاقتصاد المصري يعد سياسة بريطانية قصد بها تطويع الاقتصاد المصري وتوجيه بما يحقق المصالح البريطانية حيث تشير مذكرات رئيس البوليس السياسي إلى تعدد المطالب البريطانية وتنوعها في كل مرافق الحياة المصرية وكانت كل الطلبات تجمع في مكتب رئيس الحكومة حيث يصدر أوامره إلى كل الهيئات موضع الاهتمام البريطاني وفي كثير من الأحيان كانت تصدر الأوامر من النحاس باشا تليفونيا حتى لا يقع في حرج إذا ما بعث بالمذكرة البريطانية .

وعلى الرغم من التحالف القائم بين بريطانيا وأمريكا وحصول الأخيرة على قدر من الامتيازات التي تتمتع بها بريطانيا داخل الأراضي المصرية إلا أن السفير الأمريكي ( كيرك) قد طلب من ايدن وبطريقة ودية محاولة كسب ود الملك فاروق وترضية خاطرة بسبب ما لحقه من جراء 4 فبراير وأضاف السفير الأمريكي بأن المعاملة الخشنة التي اختص بها الدبلوماسيون البريطانيون الخديوي عباس حلمي لم تسفر إلا عن تحويله إلا كاره لكل ما هو بريطاني وعلى حد تعبير السفير الأمريكي : أن الصراع الدائر بين بريطانيا والملك فاروق يجعلنا نسير على الحبال بصورة خيالية لطيفة .

ولعل الحكومة البريطانية في محاولة منها للوقيعة بين الشعب المصري والملك فاروق فقد أشادت من خلال البيانات التي صدرت بصفة رسمية من الخارجية البريطانية بالروح المعنوية العالية ورباطة الجأش التي يبديها المصريون وخصوصا في الأوقات العصبية وفي الوقت نفسه فقد شككت في نوايا القصر عن اعتبار أنه يأخذ موقفا مناهضا للشعب المصري من خلال تأييده الواضح للمحور . وأخذت الصحافة البريطانية تشيد بأهمية الدور المصري حيث كتبت التايمز 20 أغسطس 1942" تقول : أن كثيرا من الناس لا يدركون مبلغ ما تدين به الجيوش البريطانية في مصر للحكومة المصرية فقد وضعت مواني البلاد ومطاراتها وطرقها وكل مرافقها تحت تصرف الجيوش المتحالفة وقال المستر تشرشل حين مر بالقاهرة في رحلته الأخيرة : أن مصر ولو أنها كانت لا تزال بلدا محايدا فليس من الحق مطلقا أن يقال أنها لم تقم بدور مهم ومشرف لا في دفاعها عن نفسها فحسب بل في الصراع العالمي الذي أخذ الآن يتقدم تقدما عظيما نحو نهايته.

وبالرغم من كل التصريحات التي أطلقها الساسة الانجليز والتي تشيد بموقف مصر وشجاعة حكومتها إلا أن بريطانيا لم تقدم بديلا مرضيا لحل القضية الوطنية التي بدتها أحداث الحرب ولم تفقد الحكومة المصرية الوسيلة التقليدية في الإشادة بمبدأ الديمقراطية التي تحارب من أجلها الدول المتحالفة ضد الفاشية والنازية .

ولعل ما تعرضت له مصر منذ سنة 1882 ما يقف دليلا على عدم صدق بريطانيا بصرف النظر مبدأ الديمقراطية أو الفاشية ومبالغة من الحكومة المصرية في صدق نواياها تجاه بريطانيا فقد زج بالعديد من المصريين في غياهب السجون وبلا أى محاكمة ولعل هذا في حد ذاته يعد تناقضا صريحا لفكرة الديمقراطية وعملا بمبدأ الديكتاتورية ولذا فإنني أعتقد أن كل التصريحات التي أطلقتها الدوائر البريطانية كانت من باب ترضية خاطر المصريين ويبدو فما أعلنه لمستر تشرشل ( رئيس وزراء بريطانيا ) ما يؤكد وجهة نظرنا حيث أعلن : أننا مسئولون طيلة الحرب عن المحافظة على العلاقات الطيبة مع الدولة المصرية التي وقيناها شر اعتداء القوات الايطالية والألمانية .

وهذا التصريح يتناقض بشكل واضح مع ما سبق أن أعلنه تشرتشل مرارا وهو يثني على موقف مصر أيام العلمين ذلك الموقف الرائع الذي لولاه لتغير مصير الحرب وتبدو تلك المنالطات في بيان تشرشل لأن لتلك الحرب التي كانت تخوضها انجلترا في الصحراء الغربية لم تكن من أجل مصر بدليل بيانات الشكر التي بعث بها عدد كبير من الساسة الانجليز والتي تشيد برباطة جأش المصريين فليس من المعقول أن يتولي رجل الدفاع في بيتك ثم يشكرك لأنك أمنت له مؤخرته ولو أنه كان يدافع عنك لما رضي بأقل من وقوفك إلى جانبه ؟ ولكن كان يدافع عن نفسه وهو في بيتك وكان من واجبه أن يشكرك لأنك ساعدته وأمنته فانجلترا لم تكن تدافع عن مصر وإنما كانت تدافع عن إمبراطوريتها ومصر ستحق الشكر لأنها جعلت هذا الدفاع ممكنا بتركها أرضها وكافة مواصلاتها وتقديمها قوت يومها إلى قوات الحلفاء ولم يكن هذا ممكنا إلا إذا كانت هناك حكومة مصرية تتخذها بريطانيا وسيلة لتحقيق كل أغراضها ولذا فإن ما حدث في 4 فبراير ليس أمرا عاديا وإنما كان استراتيجية بريطانية واضحة المعالم والأهداف .

ويعلق الدكتور أحمد ماهر على البيان السابق للمستر تشرشل قائلا :

أنني لا أجد مسوغا لأن يمتن على مصر لوقايتها من اعتداء المحور لأن المعاهدة المصرية البريطانية تحتم أن تشترك معنا بريطانيا في صد الهجوم الذي يشن علينا أما في هذه الحالة التي لم نكن طرفا فيها فلم تكن مصر إلا ميدان حرب بين بريطانيا والمحور .

وقد علق أحد زعماء الأحزاب السياسية المعارضة بقوله : أن تصريح المستر تشرشل مسألة معروفة في السياسة البريطانية التي كثيرا ما تلجأ إلى هذه الوسيلة لأغراض سياسية ترمي إليها .

ولعل الغرض من إعلان تشرشل أن يقلل من الآثار السياسية التي تطمح إليها مصر مقابل وقوفها بجانب الحلفاء .

وعلى ضوء كل ما تقدم يمكننا القول : لقد كان التدخل البريطاني السافر في 4 فبراير 1942 فرصة لكي تحقق بريطانيا كل أغراضها بما يؤدي إلى استقرار الأوضاع المصرية بهدف تطويع الاقتصاد المصري لخدمة الحلفاء .

وقد نجح لامبسون في تحقيق كل الأغراض أعظم نجاح كما أن ما حدث في 4 فبراير أتاح للنحاس الفرصة لكي يحد من سطوة القصر وهيبته وهذا مما ضاعف من حدة الصراع القائم بين القوتين ولا يتورع النحاس من أن يقدم نقدا مريرا للملك مطلبا إياه بتغيير موقفه تجاه الحلفاء . وأضاف النحاس أنه مصمم ما دام رئيسا للوزراء على أن تكون مصر قاعدة آمنة مستقرة حتى يتمكن الحلفاء ن تحقيق النصر مما أثار هذا الحماس سخرية الملك فاروق الذي أعلن أن بريطانيا لن تقف دائما إلى جانب النحاس فلقد خذلته سنة 1937 وبما أن حديث فاروق كان يحمل قدرا كبيرا من الحقيقة فلقد أجاب النحاس بأنه لا يعبأ بما يفعله البريطانيون سواء أيدوه أم خذلوه وأنه يلتزم فقط بالمعاهدة وأن مهمته بسيطة للغاية وهي الحفاظ على الديمقراطية وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية للغاية .

ويبدو أن الانتصارات التي أحرزها الحلفاء وعلى كل جبهات الحرب كانت سببا كافيا لكي يبدي الملك قدرا من التعاطف مع قضية الحلفاء ولعل أحمد حسنين رئيس الديوان قد لعب دورا هاما في إقناع الملك بوجهة النظر تلك حتي يبدو أمام بريطانيا كأنه بديل معقول عن الوفد .

ولعل القصر قد قطع شوطا كبيرا في إقناع بريطانيا بالعدول عن سياستها التي تهدف إلى مناصرة الوفد إلى أقصي حد ممكن وبالرغم من أن الوفد قد استنزف كل إمكانياته منذ 4 فبراير إلا أن الحكومة البريطانية اعتقادا منها بأن الوفد قد جيئ به لأداء مهمة محددة فلابد من استثمار فترة حكمه إلى أقصي حد ممكن .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن بريطانيا قد نجحت إلى حد كبير في استثمار حكومة 4 فبراير سواء في الأوضاع السياسية أو الاقتصادية ويشير نفس المصدر لى أن شعورا وطنيا قويا يسود البلاد وقد يجد له متنفسا بشكل أو آخر قبل مرور وقت طويل على اعتبار أن الحكومة الحالية التي تسود البلاد .

ولعل حكومة 4 فبراير قد أدركت ألاعيب السياسة البريطانية وخصوصا بعد انتصارات العلمين ونزول القوات الأمريكية في شمال أفريقيا حيث ساد الاعتقاد بأن حظ الحرب قد ابتعد عن مصر إلى غير رجعة مما دفع النحاس إلى أن يصرح بمكالب مصر القومية مؤكدا على ضرورة الاستقلال وبذل أعظم اهتمام لحماية المصالح الوطنية إلا أنه قد اعترف بأن انجلترا لم تقصر في أى وقت من الأوقات مهما كان عصبيا في مراعاة أقصي احترام لاستقلال مصر وحمايتها .

والملاحظ على تصريح النحاس أنه أراد أن يقطع على المعارضة ما تدعيه لنفسها من الزعامة الوطنية ولعله كان يهدف إلى أن يذكر بريطانيا بأن الوفد ما يزل في القوة السياسية القادرة عن التأثير في المجتمع المصري.

وفي الوقت نفسه فإن إعلانه عن استقلال لم يسكن واضحا بل اتسم بالمزايدة حيث اعترف بأن بريطانيا قد احترمت استقلال مصر وبذلك أعظم اهتمام لحمايتها ولو كان النحاس صادق النية لتقدم رسميا بطلب الجلاء ولذا فإننا نعتقد أن ما أعلنه النحاس لم يكن إلا منن باب تهدئة المشاعر الملتهبة وقطع الطريق على أحزاب المعارضة والتي نجحت في استثمار حادث 4 فبراير أعظم نجاح.

وعلى ما يبدو فإن الحكومة البريطانية قد أخذت من الحرب العالمية الثانية فرصة لمزيد من السيطرة على مصر وبدا واضحا أهمية الدور الذي لعبته مصر من خلال لصراع العالمي سواء سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا فلم يكن من المعقول أن تقبل بريطانيا الخروج من مصر طواعية ولعل احدي الصحف البريطانية أدركت هذا المعني قائلة : أن المهمة الشاقة التي تواجه بريطانيا حاليا هي صيانة المصالح الجوهرية التي أخذتها أمانة في عنقها لحساب الإمبراطورية البريطانية غير أن الأحوال قد تبدلت تبدلا تاما ولذا فإن العودة إلى النظام الذي كان قائما قبل الحرب هوة أضمن الطرق .وبالرغم من تعدد العوامل الموضوعية التي أوصلت مصر إلى هذه الدرجة من التردى إلا أن حادث 4 فبراير وما ترتب عليه من أحداث يعد الأساسي الذي تفجرت منه قضية الصراع والذي حمل بعدا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وقد يبدو أن موقف الوفد يعد غريبا بعض الشئ حيث اتسم موقفه بالسلبية إلا أن هذا الموقف لا يصعب تفسيره وإنما هو يتطابق إلى حد كبير مع الظروف الموضوعية التي أتت بالوفد في 4 فبراير 1942 ويتطابق أيضا مع تركيب الوفد الاجتماعي وتكوينه السياسي فبعد أن كان الوفد قائما على أساس الطبقة الوسطي بدأ كبار الملاك وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة يحكمون قبضتهم على سياسة الوفد وبلا شك فإن أول ما تهتم به تلك الطبقة هو حماية مصالحها بصرف النظر عن القضية القومية ولذا فقد اتسمت سياسة الوفد طوال وجوده في الحكم عقب 4 فبراير بنوع من المهادنة أما طبقة العمال والفلاحين والطبقة الوسطي فلم يكن في استطاعة تلك الطبقات أن توجه سياسة الوفد العامة ولعل السبب في هذا هو ما أصاب تلك الطبقات من انقسامات وما ترتب على ذلك من اختلافات بسبب تباين وجهات النظر حول ما حدث في 4 فبراير وما ترتب على ذلك من انقسام الوفد وخروج مكرم عبيد .

وليس في موقف الوفد كل هذه المتناقشات غرابة فهو لم يكن حزبا عقائديا صلبا كما ينبغي أن تكون الأحزاب بل تنتابه من الانتهازية الطاحنة بين أعضائه المتناقضين مع أنفسهم والتي أفقدته مع ظروف الحكم في 4 فبراير رصيدا كبيرا من التأييد الشعبي وجعلته متخلفا عن جماهير الشعب المصري لعجزه عن فهم المضمون الاجتماعي للثورة .

ومن العوامل الموضوعية التي ضاعفت من شعبية الوفد في البداية أنه تأسس في ظل الصراع الدائر ضد الاحتلال مما أكسبه قدرا هائلا من الشعبية إلا أن معاهدة 1936 وما ترتب عليها من سياسة المهادنة ومحاولة الوصول إلى الحكم بكل الوسائل بما في ذلك الاستعانة بالمحتل لتحقيق هذا الغرض من أهم العوامل التي أدت إلى انصراف الجماهير عن تلك المؤسسة السياسية الوطنية .

وما أن أقيل الوفد في 8 أكتوبر 1944 حتى عاد إلى موقفه التقليدي وهو معارضة السياسة الانجليزية مما أفقده القدرة على التأثير في المجتمع ولا تتورع إحدي الصحف الوفدية فتزعم أن " الآن " هو وقت المطالبة بتحقيق الأماني الوطنية وتضيف نفس الصحيفة إذا كانت بريطانيا قد شغلت في الماضي بمسائل السلم كمسائل بولونيا ويوغسلافيا وغيرهما يجعلنا نعتقد أن في إمكانها أن تجد الوقت الكافي للنظر في مطالبنا وفي أمانينا القومية . والسؤال الذي يفرض نفسه هل لم تكن بريطانيا تهتم بمسائل مثل بولونيا ويوغسلافيا وغيرهما من فبراير 1942 وحتى إقالة الوفد في أكتوبر 1944 ولذا فإننا نعجب لمواقف الوفد حينما يكون خارج الحكم وترك هذه الغفيرة في أكفان النسيان حينما يكون داخل الحكم .

وتبدو تلك الملاحظة ليس على الوفد فقط وإنما على غيره من الأحزاب التي تتولي الحكم حيث تتسابق إلى التسبيح بحمد الاحتلال والتقرب إليه أما التي خارج نطاق الحكم فدورها التقليدي هو المزايدة وشن الحملات ضد الاحتلال ولعل في حديث الدكتور أحمد ماهر ما يقوم دليلا على هذا الاعتقاد فلقد نشرت كل الصحف بيانا خطيرا لرئيس الحكومة حول العلاقات المصرية البريطانية قال فيه : أنني أصرح بأنه إذا ما ترك الأمر لنا فإننا لن نختار حليفا أو صديقا إلا انجلترا أقر ذلك لأن مصالحنا الحقيقة تتفق تماما مع ما تتطلبه انجلترا من مصر وهو حماية قناة السويس وطريقها إلى الشرق وهذا هو كل ما تريده مصر ولذلك لا أجد غضاضة في أن أقول أن سياستنا قائمة على التمسك بصداقة انجلترا والاعتماد عليها .

ومن المؤكد أن هذا التحول الغريب في سياسة الدكتور ماهر يعد تناقضا واضحا في بديهات السياسة عدها بعض أعضاء مجلس النواب تراجعا واضحا في سياسة الدكتور ماهر لأن مصر قد بذلك كل ما في استطاعتها وعلى بريطانيا أن تثبت حسن نواياها وأن رئيس الحكومة أحمد ماهر طالما اعترض على مسلك انجلترا مصر فما هو المقابل الذي اضطر رئيس الحكومة إلى العدول عن رأيه السابق .

وجريا على سياسة المزايدة فقد تقدم الوفد بمذكرة للسفير البريطاني يوليه 1945 على غرار المذكرة التي قدمها الوفد ( 1940) وهي تتناول المسائل القائمة بين انجلترا ومصر وأهمها مستقبل السودان وطلب لإجلاء العسكري عن مصر .

ولعل انتهاء الحرب العالمية الثانية قد ضاعف من ثقل التبعة الملقاة على كاهل الحكومة المصرية وخصوصا بعد أن ابتعدت المخاطر عن مصر والتي كانت تعتبرها بريطانيا ذريعة تحول دون الحديث عن أى مطالب وطنية ووفقا لأهمية تلك القضية فقد تقدم أعضاء مجلس النواب المصري إلى رئيس الوزراء يخصص موقف الحكومة إزاء تعديل معاهدة 1936 وعن الخطوات التي اتخذتها في هذا السبيل .

ويعد تصريح محمود فهمي النقراشي في هذا الصدد أول تصريح من مسئول رسمي يلخص مطالب مصر القومية حيث أعلن أن لم يعد هناك أى سبب يحول دون جلاء القوات الأجنبية عن مصر وأن وحدة وادي النيل بمصره وسودانيه تتفق وصميم رغبات أبناء الوادي جميعا .

وبالرغم من أهمية هذا التصريح إلا أنه لم تواكبه أية خطوة عملية لتحقيق هذا الغرض مما حدا ببعض أعضاء مجلس النواب إلى اتهام الحكومة صراحة بالتقصير لأنها لم تفاتح بريطانيا في أمر تعديل المعاهدة وتساءل أحد النواب هل قام الجانب البريطاني بتنفيذ ما قيدته به المعاهدة من قيود ضئيلة إلى جانب المكسب الضخم الذي حصل عليه ؟ لم نر إلى الآن رئيسا واحدا من رؤساء الحكومات جابه الرأي العام بأمر تتدخل لانجليز في شئوننا الداخلية وإذا أردتم أمثلة على هذا التدخل فلعل أبرزها جميعا هو ذلك الحادث الذي روع البلاد يوم أن ذهبت الدبابات الانجليزية إلى أعز مكان عند المصريين كي تقدم إنذار غاشما .

ولعل طرح قضية لعلاقات المصرية البريطانية للمناقشة أمام البرلمان المصري قد فجرت قدرا كبيرا من الغضب داخل نفوس الأعضاء ويبدو أنها كانت فرصة للنيل من معاهدة 1936 على اعتبار أن المتحمسين لها قد اعتقدوا أنها ستحول دون تدخل بريطانيا في الشئون المصرية .

وإلا أن الواقع العملي قد أكد عكس هذا المفهوم حيث تدخلت السلطات البريطانية في سن العديد من التشريعات التي تتعلق بالجيش والاقتصاد وتعيين الوزراء أو إقالتهم ولعل أهم التشريعات التي تدخلت فيها السياسة البريطانية أن السفير البريطاني قد حال دون صدور قانون محاكمة الوزراء وهو الذي حال أيضا دون صدور قانون التجنيد الإجباري وهو الذي لم يوافق على قانون إجبار الشركات على استعمال اللغة العربية.

وتبدو الأمور أكثر غرابة إذا ما علمنا أن مصر قد انضمت إلى اتفاقية التعمير وبمقتضاها تساهم مصر بـ1 % من دخلها القومي للمساهمة في إعادة تعمير الدول التي دمرها الحرب .

وبالرغم من التضحيات التي قدمها الشعب المصري طوال سنوات الحرب إلا أن السياسة البريطانية الماكرة أخذت تسوف وتماطل وعلى الفور برزت المسألة الوطنية على سطح الحياة السياسية في مصر ولم يمض وقت طويل حتى أدركت الجماهير المصرية أن حكومة النقراشي تسوف وانتشرت بين الناس عبارة " سياسة الصمت" التي تتبعها الحكومة ولما تحرك النقراشي لم يجد قولا يردده إلا أنه ينتظر " الوقت المناسب " فأطلقت عليه الجماهير والصحف " رجل الوقت المناسب " وزادت لهجة المطالبة وانتشر السخط وبدأت المظاهرات الشعبية تملأ الشوارع وترددت هتافات عدائية ضد لاحتلال والحكومة مما ضاعف من إحراج الحكومة ودفعها إلى التحرك ضمن حدود غير مجدية حيث أرسلت إلى الحكومة البريطانية مذكرة في 20 ديسمبر 1945 ذكرت فيها أن انتصار الحلفاء في الحرب يجعل الكثير من أحكام معاهدة 1936 لا مبرر لها ثم ذكرت أن وجود القوات الأجنبية في مصر يجرح الكرامة الوطنية ولا يستطيع الشعب المصري إلا أن يفسره بأنه دليل محسوس على الريبة وأن الحكومة البريطانية ذاتها لا تجد مبررا لها ثم طالبت المذكرة في نهايتها بتحديد موعد قريب لكي يذهب وفد مصري إلى لندن للمفاوضة في إعادة النظر في معاهدة .

وتلكأ الرد البريطاني أكثر من شهر ثم جاء في 2 يناير 1946 ليقول : أن المبادئ الأساسية التي قامت عليها المعاهدة البريطانية المصرية سلبية في جوهرها وأن سياسة حكومة جلالة الملك أن تدعم البريطانية والإمبراطورية في أثناء الحرب .. وأضاف الرد البريطاني أن الحكومة البريطانية لديها الاستعداد لإعادة النظر مع الحكومة المصرية في إحكام المعاهدة على ضوء تجاربها المشتركة .

وعلى أثر إذاعة مذكرة الحكومة البريطانية تبين للرأي العام مبلغ سوء نية الانجليز نحو مصر وإصرارهم على إبقاء معاهدة 1936 كأساس للعلاقات بين لبلدين وكأن انتهاء الحرب العالمية الثانية والتضحيات الباهظة التي قدمها الشعب المصري وإعلان ميثاق الأطلنطي والحريات الأربع والمبادئ الحديثة التي قررها ميثاق الأمم المتحدة كل أولئك لم يغير من سياسة الانجليز الاستعمارية حيال مصر وهنا تدخل الحركة الوطنية المصرية دورا جديدا وهاما يتفق وأهمية تلك المرحلة الراهنة .

سياسة بريطانيا العربية

ولقد كان من بين الدوافع التي حدت ببريطانيا إلى ارتكاب حادث 4 فبراير 1942 هو رغبتها في فرض حكومة مصرية تتمتع بثقتها وخصوصا عندما تدهور موقف بريطانيا العسكري في ميادين أوربا والشرق الأوسط ونظرا لأهمية موقع مصر الاستراتيجي باعتبارها من أهم قواعد بريطانيا العسكري في الشرق الأوسط وفي الوقت الذي كانت بريطانيا تفكر في إعداد خطتها لما بعد الحرب ولما كان أساس هذه الخطة يدور حول إحكام سيطرتها على الشرق الأوسط الذي صار مركز الثقل في السياسة العالمية كان من الضروري لبريطانيا أن تطمئن إلى إخلاص الحكومة القائمة في مصر حتى يمكن أن تتعاون معها في تنفيذ هذه الخطة .

ونشرت احدي الصحف البريطانية فصلا تحت عنوان " إعادة بناء الشرق الأوسط " أشارت فيها إلى أن حماية المصالح الجوهرية في الشرق الأوسط ضرورة بريطانية تحتمها حاجة الإمبراطورية والأمل الوحيد في نجاح تلك الفكرة هو إنشاء هيئة سياسية مستقرة الدعائم في الشرق الأوسط تكون مهمتها لتعاون على صيانة المصالح البريطانية وليست هناك وسيلة مختصرة توصلنا إلى إعادة بناء الشرق الأوسط إلا إذ عولجت أسباب القلق وعدم الاستقرار .

ولعل هذا التصور الذي أشارت إليه الصحيفة البريطانية قد سبق لعديد من الدراسات البريطانية وأخذت السياسة لبريطانية تعمل على تنفيذ خطتها مدفوعة في ذلك أولا وقبل كل شئ إلى تحقيق مصالحها الخاصة وليس من قبيل المصادفة عودة النحاس باشا إلى الحكم في 4 فبراير وقيام نوري السعيد في الحكم بالعراق في أكتوبر 1941 عقب تمكن بريطانيا من إخماد ثورة رشيد علي الكيلاني ولا عجب أ يكون النحاس نوري السعيد الداعيين الرئيسيين للوحدة العربية فقد حصل كل منهما على منصبه نتيجة التدخل البريطاني وكان كلاهما طموحا في أن يرفع من مركزه بالحصول على شهرة عن طريق اتخاذ سياسة في مجال أوسع وعلى ذلك كان من المناسب أن يعتنق كلا منهما فكرة الوحدة العربية التي يرجع الإلهام بها إلى بريطانيا . ولما كانت بريطانيا قد اختارت مصر لتكون محور هذه السياسة لذا كان من الضروري وجود حكومة مصرية مخالفة لبريطانيا ولعل رغبة بريطانيا في تحقيق هذه السياسة قد تطابقت إلى حد كبير مع ما صلح الوفد والذي كان يسعي إلى تحقيق انجاز عربي يعوض بعضا من شعبيته التي افتقدها عقب 4 فبراير 1942 وقد شهدت فترة ما بين الحربين تفتحا في الوعي العربي ونضجا سياسيا كبيرا أدي إلى قيام عدة ثورات تنادي في مختلف البلاد العربية بالاستقلال وتعلن سخطها على الاستعمار ومحاولات تقسيم الأمة العربية وخاصة عقب معاهدة لوزان 1923 والتي قررت توزيع الممتلكات العثمانية العربية بين مناطق نفوذ فرنسية وأخري بريطانيا وتعد قضية فلسطين محور العديد من اللقاءات والثورات التي أتاحت الفرصة لتجسيد وحدة مصير الأمة العربية وتبادل الرأي في المصلح المشتركة وأهمية العمل العربي الموحد وزاد الشعور بالروح القومية عند اندلاع الحرب العالمية الثانية ( سبتمبر 1939) مما دفع البعض لى التفكير في إقامة نوع من الاتحاد بين الشعوب العربية في الوقت الذي كان العالم العربي يشهد دعايات دول المحور بتأييد الأماني العربية في التحرر من النفوذ الأجنبي وتصريحات الحلفاء المضادة التي تبشر العرب بتحقيق آمالهم في قيام وحدة أوثق بين شعوبهم .

ولعل كل هذه الأحداث قد دفعت بريطانيا إلى أن تصدر في 29 مايو سنة 1941 على لسان وزير خارجيتها انطوني ايدن تصريحا تعلن فيه تأييدها لأماني بعض المفكرين العرب في قيام وحدة بين شعوبهم وأنها لذلك ستؤيد تأييدا كاملا أى مشروع ينال إجماع العرب في هذا الشأن وعلى أثر هذا التصريح نشطت الصحف المصرية والبريطانية إلى نشر العديد من المقالات والآراء الداعية لإقامة اتحاد فيدرالي عربي شبيه بنظام الولايات المتحدة الأمريكية .

ويبدو أن بريطانيا كانت تهدف من وراء هذا التصريح إلى عدة أمور من أهمها :

أولا: القضاء على ما بقي لتركيا من نفوذ من منطقة لشرق الأوسط.

ثانيا : أن تتزعم بريطانيا حركة الوحدة العربية من خلال القاهرة أو بغداد وكانت تطمع في أن يتزعم نوري السعيد الوحدة العربية .

ثالثا : امتصاص غضب الأمة العربية عن طريق بعض الوعود التي تتفق إلى حد كبير مع أماني العرب ويلاحظ أن اهتمام بريطانيا بفكرة الجامعة العربية قد سبقتها عدة دعوات من بعض المفكرين لعرب وكان الهدف من وراء مثل ذلك الدعوات إيجاد جبهة متحدة ومترابطة ضد خطر الصهيونية في فلسطين وعندما وجدت بريطانيا أن مصالحها تتطابق مع تلك الدعوة فإنها لم تفعل سوي أن جعلت سياستها تتفق مع الرغبة العربية فلقد كان الشغل الأول لبريطانيا في تلك الفترة هو أن تسترد تعاطف العرب في وقت كانت توشك كل الدول العربية على أن تسترد تعاطف العرب في وقت كانت توشك كل الدول العربية على أن تنفض يدها من سيرها في فلك بريطانيا حين كانت ثورة العراق قد أخمدت وكانت القوات الألمانية على أبواب مصر تهددها وتنشر الرعب والقلق في نفوس الكثيرين وكانت الدعاية الألمانية في أوج عظمتها ومن هنا كانت السياسة البريطانية تبحث عن فكرة جديدة لتجمع بها شمل العرب ولعلها قد وجدت في فكرة الجامعة العربية ما تيفق ومصالحها الاستراتيجية .

وليس هناك ما يؤكد بأن فكرة الجامعة العربية قد حققت أطماع بريطانيا بل ثمة دلائل تشير عكس ذلك الأمر الذي دعا أول أمين للجامعة العربية ( عبد الرحيم عزام ) إلى الاعتراف بأن فكرة الجامعة العربية قد خرجت من لندن حيث كان البريطانيون يريدونها أداة تعمل في خدمة مصالحهم الاستعمارية إلا أننا قد نجحنا برغم كل الدسائس والمؤامرات في أن تصبح الجامعة العربية أداة تعمل في خدمة العرب .

وعلى الرغم من التصريح الذي أدلي به انطوني ايدان ( مايو 1941 ) وما واكبه من ردود فعل لدي الساسة والمفكرين العرب إلا أن الفكرة لم تخرج إلى حيز التنفيذ إلا في 24 فبراير 1943 أى بعد عام كامل من المجئ بحكومة 4 فبراير وبعد أن تأكدت بريطانيا من أن نوري السعيد لا يحظي بقدر من الشعبية وسط العالم العربي وأن النحاس قد تمكن من السيطرة على الموقف وخصوصا بعد أن بدت قضية الصراع الدولي وكأنها مسألة وقت فقط وانفتح باب الأمل أمام الحلفاء .

وفي 24 من فبراير 1943 أكد " انطوني ايدن" أمام مجلس العموم البريطاني مرة أخري أن دولته تنظر بعين العطف إلى أى حركة تعزز الروابط الاقتصادية والثقافية بل والسياسية بين العرب وان الخطوة الأولي لتحقيق أى مشروع في هذا الشأن يجب أن تصدر عن العرب أنفسهم .

وإذا كان تأييدا بريطانيا وهي الدولة الاستعمارية لقيام اتحاد بين الدول العربية يبدو غريبا فلا شك أنها قامت بهذه الخطوة إدراكا منها للتطور التاريخي الحتمي للأمة العربية وفي محاولة منها لإرضاء العرب وكسب ودهم من ناحية وعلى أمل السيطرة على مثل هذا الاتحاد أو توجيه مستقلا من ناحية أخري .

ولم يمض أكثر من شهر على تصريح " ايدن" حتى تقدم أحد أعضاء مجلس الشيوخ المصري بسؤال إلى رئيس بخصوص اتحاد الأمة العربية وتقديم وزير العدل " محمد صبري أبو علم " بالنيابة عن رئيس الوزراء ليدلي بتصريح أشار فه أنه منذ أن أعلن المستر ايدن تصريحه قامت الحكومة المصرية بالتفكير في الموضوع طويلا ورأت أن الطريقة المثلي التي يمكن أن تصل إلى غاية مرضية هي أن تتناول الحكومات العربية هذا الموضوع وأن تخطو خطوات رسمية في هذا السبيل لاستطلاع آراء الحكومات العربية ثم الدعوة لعقد مؤتمر في القاهرة تدعي إليه الزعامات العربية لإكمال بحث الموضوع .

ولما كانت الحكومة البريطانية حريصة على أن يكون لها السبق في تلك المبادرة فقد أبلغت سفيرها في القاهرة " اللورد كيلرن" تطلب إليه أن يتحدث مع النحاس باش وأن يحثه على بذل جهد أكبر في هذا الموضوع : وكذلك أرسلت برقيات مماثلة إلى ممثلي بريطانيا في كل العواصم العربية .

وعلى ضوء كل ما تقدم فإن بريطانيا قد اختارت مصر لتكون محور هذه السياسية على اعتبار أو وجود مصرية صديقة لبريطانيا سوف يترتب عليه نتائج هامة بالنسبة للمصالح البريطانية ولعل عقد المعاهد المصرية 1936 كان أساسا لمحاولة العمل المشترك بين الحكومتين المصرية والبريطانية في حل القضايا للعربية المختلفة وخصوصا بعد المجئ بالوفد في 4 فبراير 1942 لأن بريطانيا كانت تعلم أن سياستها العربي إذا رسمت بالاتفاق والتفاهم مع حكومة صديقه فسوف تحظي رضاء وقبولا أكثر ليس في مصر وحدها وإنما في كل الأقطار العربية لاسيما إذا كانت هذه الحكومة تتمتع بثقة الدول العربية كلها وهي أوفرها نصيبا في مضمار التقدم والثروة .

وبالرغم من أن فكرة الجامعة العربية قد خرجت من لندن وبشهادة النحاس باشا نفسه إلا أنه وجد أخيرا من ينفي هذه الحقيقة اعتقادا منه بأن بريطانيا لم يكن من مصلحتها جمع كلمة العرب في صعيد واحد ولأن الجامعة العربية ستكون قوة متحدة في مواجهة الأطماع البريطانية في المنطقة وهذا ما يتناقض بالضرورة مع مصالح بريطانيا .

وعلى الرغم من أهمية هذا الرأي إلا أن التفسير العلمي وفق تطور الأحداث السياسية يحتم علينا عدم لأخذ بظواهر الأمور وانطلاقا من هذه المقولة المتواضعة فإنني لا أميل إلى الرأي السابق لأن بريطانيا إذا كانت تقدر خطورة جمع العرب في هيئة واحدة فإن الأخطر من ذلك هي حالة الاستياء العام والتي كانت منتشرة في كل الأقطار العربية وخصوصا في مصر والعراق وتصورت الحكومة البريطانية أن مجرد التلويح بمثل هذه الفكرة سيقلل من حجم الكراهية الشديدة ضد بريطانيا والتي تعم أقطار الوطن العربي ولما كانت للحكومة البريطانية تعلم جديا أن الهيمنة العسكرية التي فرضتها على معظم أقطار الوطن العربي لم تتناسب والمرحلة الجديدة فكان من الضروري التفكير في وضع سياسة جديدة تتفق وما أحدثته الحرب من أفكار وآمال جديدة وبدلا من أن تشتت جديدة تتفق وما أحدثته الحرب من أفكار وآمال جديدة وبدلا من أن تشتت بريطانيا جهودها مع العديد من الحكومات العربية فإن الوضع الجديد سيمكنها من تحقيق أهدافها لكن بشكل جديد وبأسلوب جديد بأسلوب مغاير إلى حد كبير للأساليب البريطانية السابقة وإذا كانت جامعة الدول العربية قد نفضت يدها من التبعية البريطانية بعد ذلك في محاولة لخلق شخصية مستقلة تتفق مع مصالح كل الأقطار العربية فإن هذا لا ينفي أن بريطانيا كانت صاحبة الفكرة الأولي منذ البداية .

ووفقا للمصالح البريطانية والتي كانت تمثل المعيار الأول في السياسة البريطانية فإن هناك العديد من الاعتبارات التي دفعت السياسة البريطانية إلى المضي في هذا الاتجاه ففي عام 1942 بدأ أول نوع من التحالف بين الحركة الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية ودعمت شركات النفط الأمريكية ودعمت شركات النفط الأمريكية مراكزها في السعودية كما كانت بريطانيا تقدر خطورة الوجود السوفيتي وخصوصا في إيران ولم يعد الموقف في الشرق الأوسط يتشكل وفقا للصراع بين المعسكر الفاشي وأعدائه وإنما وفقا لتضارب المصالح بين الثلاثة الكبار أمريكا بريطانيا الاتحاد السوفيتي وفي ظل الموقف الجديد قام البريطانيون بمحاولات لإنشاء كتلة عربية موجهة ضد الاتحاد السوفيتي من الناحيتين السياسية والعسكرية وضد الولايات المتحدة من الناحية الاقتصادية .

ولعل هذا المعني لم يكن خافيا على السياسة الأمريكية حيث أشار السفير الأمريكي في احدي برقياته إلى حكومته من أن المخابرات البريطانية تتابع كل أعمالنا في محاولة منها للوقوف على أدق المعلومات التي تتعلق بالعلاقات الأمريكية العربية .

وليس من قبيل المصادفة أن تتدخل بريطانيا بكل ثقلها لإنهاء الوجود الفرنسي في كل من سوريا ولبنان وإنما لكي يتم لها السيطرة السياسية والاقتصادية على هذين القطرين وفقا للسياسة البريطانية الجديدة في إطار الجامعة العربية ولعل في وجود مصطفى النحاس ونوري السعيد والأمير عبد الله مما يساعد بريطانيا على تحقيق أغراضها الاستراتيجية.

ويبدو أن بريطانيا قد تأكدت من أهمية التضامن العربي بعد نجاح فكرة مركز الشرق الأوسط في السنوات الأولي من الحرب حيث كان لبريطانيا السيطرة الكاملة على هذا المركز وتمكنت من تطويع اقتصاد العالم العربي لخدمة الحلفاء .

لكل هذه الاعتبارات السابقة كان يصعب على الحكومة البريطانية أن تحقق أهدافها لو لم يكن على رأس الحكومة المصرية شخصية مثل مصطفى النحاس والذي يستند إلى قاعدة جماهيرية تمثل غالبية الشعب المصري ولما كانت مصر بمثابة العمود الفقري في خطط بريطانيا السياسية والعسكرية والاقتصادية في هذه الفترة فكان من الضروري قيام حكومة وطنية في مصر تستطيع أن تعتمد عليها بريطانيا وتحظي بمساعدتها ومن أجل ذلك أجبر السفير البريطاني الملك فاروق في 4 فبراير 1942 كي يأتي بحكومة الوفد إلى دست الحكم كما أشرنا فقد كان مركز بريطانيا في ميدان الشرق الأوسط يواجه عواصف سياسية وعسكرية في وقت عمت الأزمة الاقتصادية الخانقة بلدان الشرق الأوسط وساهمت في إحراج مركز بريطانيا وإذا أضيفت هذه الأزمة الثقيلة إلى الأعباء السياسية والعسكرية اتضح لنا عمق الهوة التي انحدر إليها مركز بريطانيا ومبلغ حاجتها إلى حليف ومعين يخفف عنها أعباءها المتباينة بهدف تنسيق سياستها في الشرق الأوسط بحيث تتعامل مع دول المنطقة من مركز واحد وأن لم يستطيع هذا الحليف أن يحارب إلى جانبها فلا أقل من أن تأمن جانبه .

ويبدو أن الملك عبد العزيز آل سعود كان من المعارضين لفكرة الجامعة العربية منذ البداية حيث كان يعتقد أن اقترح مستر ايدن بإنشاء هذه الجامعة يثير الشك في نوايا الانجليز .

وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن لحكومة البريطانية قد بذلت قدرا كبيرا لإقناع العاهل السعودي بالعدول عن رأيه وخصوصا أن الإمام يحيى حميد الدين ملك اليمن قد التزم بالخط السياسي الذي يبديه العاهل السعودي .

وأعتقد أن محاولات النحاس باشا لإقناع الملك عبد العزيز أل سعود بفكرة الجامعة العربية كانت في إطار المحاولات البريطانية المبذولة حتى تأتي الفكرة وكانها مبادرة عربية خالصة .

واستنادا على ثقة بريطانيا في النحاس باشا فقد كثف من ناشطة لتبديد المخاوف التي أبداها العاهل السعودي عن طريق إقناع الملوك والرؤساء العرب بهذه الفكرة وكان من الطبيعي أن يثير هذا النشاط مخاوف الفرنسيين الذين كانوا على علم بمحاولات بريطانيا إنشاء حلف عربي الغاية منه في رأي فرنسا سلخ سوريا ولبنان عن نطاق الإدارة الفرنسية .

ووفقا لسياسة النحاس باشا تجاه الجامعة العربية فإننا نعتقد أنه كان من الأولي على الحكومة المصرية أن تطلب من بريطانيا تحديد موقفها من لاحتلال العسكرية لمصر وضرورة وجود ضمانات كافية تلزم بريطانيا بالخروج من الأراضي المصرية عقب انتهاء الحرب مقابل التعاون معها في سياستها العربية فلو أن النحاس قد عمل على توحيد الصفوف في مصر لاستطاع بغير شك أن يخدم البلاد أعظم خدمة ولخدمت مصر القضايا العربية في سائر الأقطار بأكثر مما أفادتها الجامعة العربية غير أن النحاس قد وقف موقفا سلبيا من بريطانيا فيما يتعلق بالمطالب المصرية فضلا عن أنه ذهب في مساعدتها خلال الحرب إلى أبعد مدي كما أنه ذهب في سياسته الحزبية إلى درجة أدت إلى زيادة الانقسام والفرقة بين القوي الوطنية المصرية مما فوت فرصة قيام جبهة مصرية متحدة ولعل النحاس ظل يحمل لبريطانيا مما فوت فرصة قيام جبهة مصرية متحدة ولعل النحاس ظل يحمل لبريطانيا دينا كبيرا في عنقه طوقته به السياسة البريطانية منذ فبراير 1942, وفي الوقت الذي كان يبذل من المساعي لحصول كل من سوريا ولبنان على استقلالها كانت مصر تعاني أشد القوانين العسكرية وأقسامها مما يجعلنا نعتقد بأن محاولات النحاس لحصول سوريا ولبنان على استقلالها لم يكن بهدف خدمة القضية العربية بقدر ما كان للسياسة البريطانية الماكرة لأن سلخ سوريا ولبنان عن الإدارة الفرنسية ودخولهما في حلف عربي ما يتيح لبريطانيا تحقيق غرضين :

أولهما : خروج فرنسا من الشرق الأوسط نهائيا وهو أمل طالما رواد السياسة البريطانية .

ثانيهما : أن دخول سوريا ولبنان في حلف مع بقية الأقطار العربية يربطهما بعجلة السياسة البريطانية .

وفي يوليه 1943 اتخذت مصر المبادرة العملية ببدء المباحثات الأولي وجاء إلى القاهرة كل من نوري السعيد رئيس وزراء العراق وتوفيق أبو الهدي رئيس وزراء الأردن والشيخ يوسف ياسين ممثل المملكة السعودية وسعد الله الجابري رئيس وزراء سوريا ورياض الصلح رئيس وزراء لبنان والسيد حسين الكبس مفوض اليمن واستمرت المباحثات حتى فبراير 1944 وكانت مباحثات مضنية بسبب الخلافات العديدة وتباين وجهات انظر بين الدول العربية وكانت العراق .

كل من سوريا ولبنان وشرق الأردن في دولة واحدة , وأن تشكل هذه الدولة الجديدة مع العراق اتحادا فيدراليا قد اصطدم بمعارضة علنية من جانب كل من مصر والسعودية على اعتبار أن أى مشروع لا يحظي بموافقة مصر ولا يخلع عليها الزعامة العربية فسوف يحكم عليه بالفشل .

ولذا فقد فشل مل من مشروع سوريا الكبرى الذي خطط له الملك عبد الله أثناء الحرب ومشروع الهلال الخصيب الذي خطط له نوري السعيد وكان كلا المشروعين يهدمان إلى توحيد آسيا العربية باستثناء شبه الجزيرة العربية بالإضافة إلى استبعادها لمصر ومحاولتها عزلها عن التيارات السياسية في المشرق العربي وبعد العديد من المفاوضات ( التي تخرج عن موضوع دراستنا ) تمكنت اللجنة التحضيرية من توقيع ما عرف ببروتوكول الإسكندرية أكتوبر 1944.

وهكذا تشكلت الجامعة العربية والتي عملت بريطانيا على إخراجها إلى حيز الوجود والتي كانت من صنع السياسة البريطانية .

ويبدو ان مشروع جامعة الدول العربية كان يختلف تماما عن تلك الفكرة التي جاء بها نوري السعيد والتي لم تكن تتطابق إلى حد كبير مع المصالح البريطانية لأن مشروع الجامعة العربية والذي وافقت عليه بريطانيا قد ضم مصر بطريقة مباشرة بعكس مشروع نوري السعيد والذي تركها خارج المشروع وترك لها حرية الدخول من عدمه ولعل هذا لا يتفق مع الخطة البريطانية الرامية إلى جعل مصر محور هذه الفكرة بثقلها السياسي والاقتصادي والبشري والجغرافي والتاريخي الخ .

وهذا ما يجعلنا نعتقد بأن كلا من المشروعين كان نوعا من الصراع بين مصر والعراق على زعامة الأمة العربية . بالإضافة إلى أن المشروع الذي وافقت عليه بريطانيا بل وابتكرته ( الجامعة العربية ) بضم أكبر عدد ممكن من دول هذه المنطقة وهكذا نجحت بريطانيا في تحقيق سياستها العربية كما نجحت في تحقيق الأهداف التي رمت إليها من وراء أحداث 4 فبراير 1942 على اعتبار أن المجئ بحكومة وفدية يعد ضرورة بريطانية بهدف تفسير بنود معاهدة 1936 بما يتفق مع المصالح البريطانية.

وعلى ضوء كل ما تقدم تبدو الظروف والملابسات التي دفعت الحكومة البريطانية كي تضرب بمعاهدة 1936 عرض الحائط وأن تتدخل تدخلا سافرا في السياسة الداخلية المصرية وعلى أعتقد فإن بريطانيا لم تغامر بسمعتها في 4 فبراير جزافا أو لمجرد إرضاء الوفد لأن قيام حكومة وفدية أو غيرها لا يعني بريطانيا في شئ بقدر عانايتها بمآربها وأهدافها طبقا للإستراتيجية التي اختطتها لنفسها ليس في مصر فقط وإنما في منطقة الشرق الأوسط كلها ولذا فإننا نعتقد عودة الوفد في 4 فبراير كان جزءا من خطة بريطانية مرسومة محددة المعالم واضحة الأهداف .

الخاتمة

يصعب على الباحث في مجال الدراسات الإنسانية عموما أن يحدد النتائج التي توصل إليها بشكل قاطع وقد يكون ذلك راجعا إلى أن قضية الدراسات الإنسانية عموما والدراسات التاريخية على وجه الخصوص تعني تقويم سلوك الإنسان ورصد حركته ايجابيا وسلبا ولما كانت عملية التقويم هذه لا تحكمها قوانين طبيعية وإنما تخضع في مجملها إلى اجتهادات شخصية اعتمادا على الوسائل المتاحة من وثائق ودراسات وغير ذلك ومهما حاول الباحث أن يجتهد إلا أن الحقيقة دائما تظل نسبية ولذا فإن القيمة الحقيقية لا تبدو من خلال النتائج فقط و وإنما من خلال الوسيلة التي استخدمها الباحث وطريقة استخدامها .

ولما كان حادث 4 فبراير 1942 يقع في إطار العلاقات المصرية البريطانية تلك العلاقة التي تستند على معاهدة 1936م والتي بمقتضاها حصلت مصر على قدر من حريتها واستقلالها إلا أن بريطانيا لم تكن خالصة النية ولعلها قد أرادت أن تهدئ من روع المصريين في وقت بدأت فيه العلاقات الدولية تنذر بمخاطر حرب توشك أن تقع .

واعتمادا على المقولة القائلة بأن معاهدة 1936م هي معاهدة الشرف والاستقلال إلا أن العلاقات المصرية البريطانية عقب توقيع تلك المعاهدة لم يطرأ عليها قدر يذكر من التغيير فلقد حرصت بريطانيا على أن تتدخل في شئون السياسة المصرية كما كان يحدث قبل توقيع العاهدة إلا أن تدخلها أصبح مستترا إلى حد كبير ولم يحدث منذ توقيع المعاهدة وحتى 4 فبراير 1942م أن كانت الإدارة المصرية حرة طليقة من التبعية البريطانية حتى في أخص القضايا التي أقرتها المعاهدة .

وإذا كان من أولي المسائل التي اقرها الدستور هو حق الملك في اختيار رؤساء حكومته إلا أن الحكومة البريطانية لم تسلم مطلقا بهذا الحق وإنما حرصت على أن يؤخذ رأيها عند اختيار كل حكومة جديدة ولعل هذه كانت بداية المصادمات بين الملك فاروق والانجليز .

وعموما فلقد بقي الوجود البريطاني قائما في كل شئون السياسة المصرية ولم يسمح للإدارة المصرية أن تمارس حقها إلا بالقدر الذي لا يتعارض مع النفوذ البريطاني والغريب في الأمر أن الحكومات المصرية كانت تدرك هذه الحقيقة إلا أن أحدا لم يجرؤ على التصريح بها علانية .

ويبدو أن قيام الحرب العالمية الثانية كان حدا فاصلا بين التدخل البريطاني المستتر والتدخل العلني وأستطيع أن أقول أنه منذ قيام الحرب والانتصارات الكاسحة التي حققها الجيش الألماني في أوربا فقد تضاعف الوجود البريطاني في شئون السياسة المصرية بقدر أكبر مما كان عليه الحال قبل توقيع معاهدة 1936م.

وإذا كان موقف مصر من قضية الصراع الدولي كان غير واضح إلا أن معاهدة 1936م كانت تضع مصر موضع الحليف لبريطانيا على الرغم من أن مصر لم تعلن الحرب رسميا ضد الألمان وشهدت أروقة البرلمان المصري مناقشات فقهية جادة دخول مصر الحرب أو عدم دخولها .

والحقيقة أن الملك فاروق كان صاحب سياسة تجنب مصر ويلات الحرب وعلى الرغم من أنه لم يعلن هذا صراحة إلا أنه اتخذ من حكومة علي ماهر وسيلة للتمسك بهذه السياسة ولقد كانت بريطانيا تدرك هذه الحقيقة ولذا فقد تضاعف العداء بينها وبين الملك فاروق .

ويبد أن الحكومة البريطانية قد أدركت أن إعلان مصر الحرب لن يكون له تأثير كبير من حيث المساهمة في العمليات العسكرية وأن بقاء مصر دولة غير محاربة يمكنها من حرية الحركة ويجنبها غارات المحور ويجعلها قاعدة مركزية لتموين جيوش الحلفاء ولذا فقد حرصت بريطانيا على أن تبقي مصر بعيدا عن حلبة الصراع الدولي .

وإذا كان بعض الزعماء المصريين أمثال أحمد ماهر قد حرصوا على دخول مصر الحرب إيمانا بقضية الديمقراطية ووقوفا بجانب الحليفة وقت شهدتها إلا أن هذه الرغبة كانت مرتبطة إلى حد كبير بسير المعارك الحربية فمثلا كان فشل ألمانيا في غزو بريطانيا وانتصارات ويفل في الصحراء الغربية ونجاح حملة الحبشة سببا قويا في تخفيف حدة التوتر السياسي خلال شتاء 19401941 م وجاء انتصار الألمان في البلقان في ربيع 1941 م ليعيد التوازن للموقف حيث تأرجح مرة أخري باحتلال بريطانيا لأراضي سوريا والعراق .

وإذا كان الموقف قد انتهي إلى اعتناق مبدأ " تجنب مصر ويلات الحرب ط إلا أن أجهزة المخابرات البريطانية قد توصلت إلى أن فاروق وعلي ماهر على اتصالات سرية يهتلر ولعل هذه المعلومات كانت سببا كافيا لكي تتجاوز بريطانيا حدود معاهدة 1936م وفي الوقت نفسه فقد سجلت العديد من تقارير استطلاع الرأي بأن الشعب المصري يتعاطف مع الألمان نكاية في الانجليز في الوقت الذي حققت فيه القوات الألمانية انتصارات ساحقة على الجبهتين الأوربية والأفريقية.

وعلى ضوء كل الاعتبارات السابقة يمكننا أن نخلص إلى بعض النتائج التي قد ارتبطت إلى حد كبير ببعضها البعض :-

أولا : لقد بدأت بريطانيا تعيد النظر في علاقتاها بالقصر بعد أن توصل السفير البريطاني إلى فكرة التقليل من حجم القصر عن طريق خروج علي ماهر من رئاسة الحكومة وعلى الرغم من أن " لامبسون " قد طلب من فاروق صراحة أبعاد علي ماهر من رئاسة الحكومة إلا أن الملك أخذ يراوغ ويماطل وخاصة بعد تدهور الموقف العسكري في أوربا وعقب انهيار فرنسا الأمر الذي شجع في مصر الميول التي كانت تتعاطف مع المحور شعبية كانت أم سمية لا على اعتبار أن المحور صادق النية فيما يتعلق باحترام سلامة واستقلال مصر ولكن على اعتبار أنه لن يكون احتلال أسوأ من الاحتلال البريطاني الذي عانت منه مصر ما يزيد على نصف قرن ولعل هذا الميل كان يحمل في طياته دوافع التشفي نحو حليف أكرهت مصر على محالفته ضد رغبة شعبها كما أنه كان يتضمن في الوقت نفسه معني الإعجاب بالعسكرية الألمانية التي لا تقهر من جانب بعض قطاعات الرأي العام المصري وقادته بل وحتى الملك فاروق ذاته وإذا كان الملك فاروق قد بعث إلى ملك انجلترا يشكو من التعسف والتشديد الذي يمارسه " لامبسون " في مصر إلا أن رسالة فاروق إلى ملك انجلترا لم تكن لتحدث أثرا على اعتبار أن الحكومة البريطانية هي المسئولة عن القرار الذي أخذته وأبلغته بدورها إلى لامبسون في القاهرة والذي يعني " إذا لم يستجب فاروق لمطالبنا ويبعد علي ماهر عن رئاسة الحكومة فإن فاروق يجب أن يتنازل عن العرش على أن لا يترك طليقا وإنما يوضع تحت الرقابة المشددة حتى لا يلجأ إلى ايطاليا ليطالب بعضه ".

ومن الواضح أن حرص بريطانيا على خروج علي ماهر لم يكن بسبب إحجامه عن إعلان الحرب إذ أن الانجليز قد انتهوا إلى الموافقة على اتخاذ مصر موقف الدولة غير المحاربة .

ولعل السبب في إخراج علي ماهر هو انعدام الثقة بينه وبين الانجليز بسب تشيعه للمحور وأنه كان يظاهر الملك في الاستخفاف بقوات الحلفاء والإشادة بانتصارات الألمان .

ثانيا : أن ما حدث في 4 فبراير 1942 ولم يكن سياسة بريطانية خالصة ووفقا للوثائق البريطانية التي أشارت إلى أن أطرافا مصرية مثل حسين سري وأمين عثمان قد شهد القضية منذ بدايتها بل أن حسين سري هو الذي أشار على السفير البريطاني " يتخويف " فاروق .

أما فيما يتعلق بمسئولية الوفد فلم يكن غريبا ولا مستجهنا أن يكون للحكومة البريطانية أي في اختيار رؤساء الحكومات المصرية على الرغم من أن معاهدة 1936 م لم تنشر إلى هذا صراحة أو ضمنا وكان من الطبيعي جدا أن تلجأ احدي القوي إلى دار السفارة البريطانية في محاولة لإسناد الحكم إليها .

وقد تمكنت من تحقيق تلك القضية وكانت مسئولية الوفد من هذه الناحية واضحة تماما أما الغريب في الأمر فهو شكل هذا التدخل والطريقة التي استخدمتها بريطانيا وأعتقد أنني قد تمكنت من كشف الجوانب الدقيقة حول عملية لإحصاء سواء ما يتعلق منها بحصار القصر وإجبار فاروق على التنازل وفي حالة رفض فاروق فإن على القوات البريطانية أن تتعامل مع الموقف على ضوء الخطة التي وضعها المجلس العسكري الأعلى والتي تعني دك المطارات المصرية العسكرية وتدمير كل الطرق المؤدية إلى القاهرة ث القبض على فاروق ونقله إلى احدي سفن الأسطول البريطاني حتى يتقرر مصيره من قبل الحكومة البريطانية والجديد في الأمر أيضا أن بريطانيا فكرت في إلغاء النظام الملكي في مصر وبعثت إلى سفيرها في القاهرة لكي يستطيع الأمر فيما إذا كان من الممكن قيام نظام جمهوري شريطة أن يحظي بموافقة الرأي العام المصري .

ثالثا : أن الطريقة التي عاد بها الوفد في 4 فبراير كانت سببا كافيا لكي تمارس بريطانيا سياسيتها في مصر بالطريقة التي تراها حيث تحول حزب النضال الوطني إلى أداة تمارس بريطانيا من خلالها كل ما تري أنه يدعم موقفها الوطني إلى أداة تمارس بريطانيا من خلالها كل ما تري أنه يدعم موقفها في الحرب ولعل من أخطر الأمور محاولة بريطانيا تدمير آبار البترول المصرية وشبكة الطرق والمواصلات وإغراق الدلتا بمياه البحر المتوسط في محاولة لإعاقة تقدم القوات الألمانية التي بدت على مشارف الإسكندرية وعلى الرغم من أن النحاس قد رفض كل هذه المطالب إلا أن رفضه لم يكن كافيا لإعاقة بريطانيا عما اعتزمت أن تقدم عليه .

وإذا كانت مصر لم تعلن الحرب رسميا ضد قوات المحور إلا ان السياسة التي اتبعتها حكومة الوفد كانت كافية من الناحية العملية حيث تم تطويع مصر سياسيا اقتصاديا خدمة لجبهة الحلفاء وعاش الشعب المصري أسوأ فترات حياته وإذا كان الانجليز قد تجاوزوا كل حد معقول مساء 4 فبراير إلا أن ما أقدمت عليه حكومة الوفد يعد من أخطر التجاوزات التي مارستها حكومة وطنية بدأ بقضية الاعتقالات وانتهاء المحسوبيات .

رابعا : أن أحزاب بأقلية قد لعبت دورا خطيرا سواء بالنظر للمقدمات التي ساهمت في صنع 4 فبراير أو النتائج و إنتهاء بالمحسوبيات .

خامسا : أن أحزاب بالأقلية قد لعبت دورا خطيرا سواء بالنظر للمقدمات التي ساهمت في صنع 4 فبراير أو النتائج التي ترتبت عليه .

ولقد كانت إقالة الوفد ( ديسمبر 1937) وإسناد الحكم إلى أحزاب لا تتمتع بقدر كاف من الشعبية سببا كافيا لتبديد فكرة الديمقراطية وبدأ بحكومة محمد محمود ( يناير 1938) وانتهاء بحكومة حسين سري (1942) فقد عاشت مصر خلال هذه الفترة في ظل حكومات لا تتمتع بقدر من الشعبية مما خلق جوا من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي وشهدت القاهرة وبعض العواصم الأخرى العديد من المظاهرات اتي انطلقت وهي تردد هتافات عدائية ضد بريطانيا وعجزت الحكومة المصرية ( وزارة حسين سري ) على السيطرة على الموقف تماما مما دفع حسين سري إلى أن يطلب من السفير البريطاني العمل على عودة الوفد باعتباره القوة الوحيدة القادرة على إعادة الاستقرار إلى الحياة المصرية.

وفي محاولة من أحزاب الأقلية لاستثمار حادث 4 فبراير بهدف التقليل من هيبة الوفد وتبديد شعبيته فقد بذلت محاولات مضيئة لتعريف الرأي العام المصري بما حدث مساء 4 فبراير على الرغم من أن زعماء الأقلية الذين اجتمعوا مع الملك فاروق يومي 3 , 4 فبراير يتحملون قدرا كبير قدرا كبيرا من المسئولية بسبب نصائحهم التي افتقدت في مجملها إلى أى وازع وطني .

ويبدو من المقابلات التي جرت بين الملك والنحاس وغيره من الزعماء السياسيين وبين لامبسون وأمين عثمان أن الخلاف كان ينحصر على توعية الوزارة الجديدة وكيفية تشكيلها هل تكون قومية أو ائتلافية حزبية ومحايدة .. وأعتقد أن كل هذه لخلافات لا ترقي إلى حجم الأزمة التي انتهت إليها لأن القضية كانت نوعا من الصراع على السلطة بين قوتين متعارضين الأولي تمثل حزب الأغلبية يسانده الانجليز والثانية تقوم على أحزاب الأقلية يساندها القصر .

خامسا : في جميع الأزمات التي مرت بمصر كانت الحكومة البريطانية تقدر أهمية الجيش المصري فعندما طالبت بإعلان مصر الحرب على ألمانيا قالت أنها تقدر الأهمية البالغة للقوات المسلحة المصرية وعندما طلبت من فاروق عزل علي ماهر حرصت على أن تجئ الوزارة الجديدة حائزة لولاء الجيش وعند الاستعداد لمحاصرة قصر عابدين مساء 4 فبراير وضعت خطة عسكرية لمواجهة أى رد فعل قد يحدث من الجيش المصري واحتفظت المخابرات العسكرية البريطانية بأسرار العملية إلى ساعة الصفر واتخذت جميع الاحتياطات لكيلا يقع تصادم بين الجيش المصري والقوات البريطانية وإذا كان الجيش بالمصري قد فوجئ بأحداث4 فبراير إلا أن ردود الفعل التي وأكبت تلك الأحداث قد تركت قدرا كبيرا من الغضب على اعتبار أن الاعتداء على ملك مصر يعد اعتداء على كرامة مصر وشرفها .

ولذا فقد شهدت تلك الفترة المولد الحقيقي لحركة الضباط الأحرار .

سادسا : لقد كان فاروق يقدر حجم الصدمة التي أصابته في 4 فبراير وكان يدرك جيدا حجم المسئولية التي يتحملها النحاس , لذا فقد ضاعف القصر من نشاطه بهدف النيل من الوفد وزعامته ولعل من أولي المحاولات التي نجح فيها القصر إلى حد كبير تلك المحاولة التي تهدف إلى تفويض الوفد من الداخل .. وبذلت محاولات على درجة كبيرة من الذكاء انتهت بانشقاق مكرم عبيد .. ولعل فاروق لم يكتف بتلك المحاولة وإنما عمل على إنشاء تنظيم سري بهدف اغتيال كل من ساهم في أحدث 4 فبراير ولقد نجح التنظيم في اغتيال أمين عثمان إلا أنه قد فشل ثلاث مرات في محاولة اغتيال النحاس باشا .

ولم يتوان فاروق في بذل كل المحاولات بهدف إقالة حكومة الوفد ويوم أن تمكن من تحقيق تلك الأمنية فإنه قد استسلم تماما لبريطانيا ولذا فإنني أعتقد أن ما حدث في 4 فبراير بعد نقطة تحول خطيرة في سلوك الملك الشاب وخصوصا في علاقاته مع بريطانيا .

سابعا : لعل من أخطر النتائج التي تتب على حادث 4 فبراير هو ظهور العديد من الاتجاهات السياسية والتي اتخذت من العنف وسيلة لتحقيق أغرضها وخصوصا بعد أن اهترأت الأحزاب التقليدية واختارت طريق الاستسلام والمهادنة وما حدث في 4 فبراير كان محك اختيار عملي أفقد الجماهير قدرا من ثقتها ليس في حزب الوفد فقط وإنما في غيره من الأحزاب ولذا فقد شهدت تلك الفترة أكبر موجة من العنف السياسي .

ثامنا : أن ما حدث في 4 فبراير لم يكن هدفا بريطانيا خالصا وإنما كان وسيلة لتطويع مصر سياسيا واقتصاديا وعسكريا بهدف خدمة القوات المتحالفة وإذا كانت أحداث 4 فبراير تعتبر أحداثا سياسية خالصة إلا أن مصر قد شهدت أزمة اقتصادية حادة حيث عملت الحكومة المصرية على أن توتر التموين اللازم للجيوش الموجودة بأرضها , واستطاعت ذلك على حساب ارتفاع الأسعار ومعاناة الشعب حيث لجأت الحكومة إلى خلط القمح بينما كان الخبز الأبيض يقدم للجيوش الأجنبية واستدعي ذلك تعديل النظام الاقتصادي المصري وتغيير الدورة الزراعية وتحقيق المطالب البريطانية على ما عداها من الطلبات وقد واكب سوء الأوضاع الاقتصادية تدهور واضح في الحياة الاجتماعية بأشكالها المختلفة بدأ بقضية لمرأة وانتهاء بتردي الأحوال الصحية .

وهكذا تحملت مصر كثيرا من التضحيات بسبب الحرب ولم يكن موقفها هذا يرجع فقط إلى نصوص معاهدة 1936 أو إلى الشعور بمناصرة الديمقراطية ضد الفاشية والنازية ولكن كان يدفعها لهذا الموقف شعور آخر وهو أن تنال شيئا من تقدير بريطانيا يكون من نتائجه إعادة النظر في العلاقات بين الدولتين بصورة تخفف كثيرا من غلواء وقيود المعاهدة 1936.

تاسعا : لقد كانت أحداث 4 فبراير 1942 نقطة تحول خطيرة في شكل العلاقات المصرية البريطانية فلم تعد معاهدة 1936 تمثل إطارا مرضيا لبريطانيا لأن قضية الصراع الدولي قد فرضت على أى معاهدة أو تفاق وأصبحت مصر في ظل حكومة 4 فبراير ضيعة بريطانيا تمارس بريطانيا من خلالها كل ما تري أنه يدعم قضية الحرب وفي الوقت نفسه فإن الحكومة المصرية اعتقادا منها بأن بريطانيا ستقدر تضحياتها فإنها كانت تطمح غلى قدر أكبر ممن الاستقلال يتناسب وخطورة تلك التضحيات ويبدو أن الوفد قد حصل على وعد شخصي بالنظر في تلك القضية عقب انتهاء الحرب وفي محاولة من جانب بريطانيا لتبديد هذا الوعد فقد أعطت الضوء الأخضر للملك فاروق لكي يقيل الحكومة الوفدية ( أكتوبر 1944) .

ويبدو أن الحكومة البريطانية قد حرصت على إقالة الوفد قبل أن يسترد قدرا يتناسب وحجم التضحيات الباهظة التي قدمها ثمنا لعودته إلى الحكم في 4 فبراير فعلي الرغم من انتهازية الوفد إلا أنه كان مصدر قلق أمام السياسة البريطانية فترة أبعاده عن الحكم أما وقد تحقق الغرض من عودته وحسمت قضية الحرب فلا مانع من إرضاء فاروق وإجابته إلى مطلبه الذي حرص على تحقيقه وفي الوقت ذاته فقد تمكنت بريطانيا من تبديد شعبية هذا الحزب الذي كان دوما مصدرا للقلق والاضطرابات وهكذا استنزف الوفد بلا مقابل .. واستنزفت مصر أيضا بلا مقابل ونجحت بريطانيا في ترويض فاروق حتى استسلم أخيرا وأصبح انجليزيا أكثر من الانجليز .

القاهرة في 4/8/ 1983م.