حسن البنا في دمنهور

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
"حسن البنا" في دمنهور

'الظروف السائدة بمصر قبل نشأة جماعة الإخوان (3) '

ألإمام الشهيد حسن البنا
  • عاش حالة إيمانية خلال المراهقة.. وكان تصوفه يقظًا يقوم على العلم والمجاهدة.
  • توازنٌ في مطلع شبابه: التصوف الوضيء مع الوطنية الصادقة والخدمة الاجتماعية.
  • تكونت عنده فكرة عن الدور الاجتماعي للإسلام فدعا إلى تكوين جمعية خيرية.

عاش "حسن البنا" خلال فترة المراهقة حياةً صوفيةً بكل ما فيها من تأثير في حياته، ومنها الاستغراق في التعبد والتصوف، لكنه لم يتخلَّ عن أي مشاركة فعلية في الواجبات الوطنية التي أُلقيت على كواهل الطلاب حينذاك، ثم التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور عام1920 م، واستمر بها حتى عام 1923 م، وكان عمره آنذاك أربعة عشرة عامًا، وظل بها حتى السابعة عشرة من عمره.

منذ أن جاء من المحمودية ارتبط "حسن البنا" بالطريقة الحصافية، وأخذ العهد على شيخه "السيد عبدالوهاب"- ابن مؤسس الطريقة الشيخ "حسنين الحصافي"- وشيخها في ذاك الوقت في يوم 4 رمضان سنة1341هـ الذي أذن له بأدوار الحضرة بمسجد التوبة بدمنهور ووظائفها، ولقد استفاد "حسن البنا" من شيخه هذا أجلَّ استفادة من الجِد في الأمور، والتحرر من صرف الأوقات في غير العلم أو التعلم أو الذكر أو الطاعة أو التعبد، سواء كان الإنسان وحده أم مع إخوانه ومريديه، وحسن التوجيه لهم، وصرفهم عمليًا إلى طاعة الله، كما تعلم منه عدم السماح للإخوان المتعلمين أن يكثروا من الجدل في الخلافيات أو المتشابهات، أو أن يرددوا كلام الملاحدة والزنادقة أو المنصرين أمام العوام من الإخوان، وكان يقول لهم: "اجعلوا هذه فيما بينكم، أما أمام العوام فتحدثوا بالمعاني المؤثرة العملية التي توجههم إلى طاعة الله؛ لأنه لا يجوز أن تتعلق بنفس أحدهم شبهة ولا يفهم الرد عليها فيتشوش اعتقاده بلا سبب".

ولأن دمنهور كان بها ضريح الشيخ "حسنين الحصافي" ونخبة صالحة من الأتباع الكبار للشيخ- رحمه الله- فكان طبيعيًا أن يندمج "حسن البنا" في هذا الوسط، وضاعف من هذا الاستغراق أن أستاذه الحاج "حلمي زكريا" كان مثالاً من أمثلة التعبد والصلاح والتقوى والتأدب بأدب الطريق، كما كان الشيخ "حسن خزبك" زميل الحاج "حلمي" يعقد كثيرًا من الاجتماعات العلمية والوعظية في بيته، وكان يدرس كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي "حامد الغزالي" قبل صلاة الفجر من رمضان في مسجد الجيش بدمنهور، وكان الحاج "حلمي" يصحب الشاب "حسن" معه في هذه الاجتماعات، فيقول الإمام الشهيد في مذكراته: "فكنت أجد نفسي- وأنا الطالب الصغير- مع رجال كبار فيهم الأساتذة الذين يدرسون لي في المدرسة، وغيرهم من العلماء الفضلاء، وكلهم يشجعونني ويشجعون أمثالي من الشباب على السير في هذا الطريق- طريق طاعة الله- فكانت هذه كلها عوامل للتشجيع على هذه الخطة التعبدية الصوفية.

ويواصل الإمام "البنا" حديثه في مذكراته عن هذه الفترة الصوفية بقوله: "ولست أنسى في دمنهور ليالي مسجد الجيش أو مصلى الخطاطبة، فلقد تطور حضور درس الأستاذ الشيخ "حسن خزبك" قبل صلاة الفجر في رمضان إلى اعتكاف ليالٍ بطولها مع لفيف من الإخوان الحصافية الصالحين... نصلي العشاء ثم نتناول قليلاً من الطعام بحضرة بعض الإخوة الكبار... ثم نذكر الله بعض الوقت، ثم ننام قليلاً، ونقوم نحو منتصف الليل؛ للتهجد ثم صلاة الفجر ثم قراءة القرآن والوظيفة والأوراد، وبعد ذلك ننصرف إلى الدراسة، وكثيرًا ما كنا نستيقظ ونحن في بيوتنا قبل الفجر بوقت طويل- لم تكن المساجد قد فتحت فيه أبوابها- فنمضي إلى مصلى على شاطئ ترعة الخطاطبة؛ حيث نصلي إلى قبيل الفجر، ونسرع إلى المسجد لندرك صلاة الجماعة، وكانت لنا أيام ننذر فيها الصمت والبعد عن الناس.. فلا يتكلم أحدنا إلا بذكر أو قرآن، وإذا صادف وجاءني خطاب في هذه الأحيان.. فلا أحاول فتحه؛ حتى لا يشغلني عن ذكري... فإن الصوفي متخفف يجب عليه أن يقطع علاقته بكل ما سوى الله، وأن يجاهد في سبيل الله ما أمكنه من ذلك".

هكذا انشغلت عواطف الشاب "حسن البنا" بالطاعة والبر والتقوى أو شغلت بالطريقة الصوفية، ولكنه كان تصوفًا يقظًا يقوم على العلم والمجاهدة دون انحراف.

جمعية الحصافية الخيرية:

في هذه الفترة لم ينسَ "حسن البنا" الدرب الذي سار عليه منذ نعومة أظافره من الجمعيات التي تنشر الخير والفضيلة في المجتمع، فكان من نتائج اندماج الشاب في الطريقة الحصافية، وعمله وهو طفل في جمعيات متعددة، أن تكونت عنده فكرة عن الدور الاجتماعي للإسلام، فدعا إلى تكوين جمعية حصافية خيرية، وحدد لها ميدان العمل كالتالي:

الميدان الأول: نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات والمحرمات الفاشية... كالخمر والقمار وبدع المآتم.

الميدان الثاني: مقاومة الإرساليات الإنجيلية التنصيرية التي جاءت إلى دمنهور، واستقرت فيها، وكان قوامها ثلاث فتيات ترأسهن مسز "ويت"، وأخذن في التنصير عن طريق: تعليم التطريز، إيواء الصبية اليتامى والفقراء، التمريض، وقد استطاعت هذه الجمعية أن تؤدي رسالتها في ذلك.

الوطنية الصادقة:

في هذه الفترة التي كانت تمر بها البلاد وبأحداث جسام.. لم تمنع حياة الصوفية التي عاشها الشاب "حسن" أن يشارك في الأعمال الوطنية كافةً، فقبل ذلك وفي طفولته عايش حياة الوطنية مع أهالي المحمودية عام 1919 م، وهو تلميذ بالإعدادية، ويحكي عن هذه المعايشة فيقول: "لا زالت تتراءى أمام عينَي مناظر الإضراب الشامل الذي كان ينتظم البلد كله من أوله إلى آخره، ومنظر أعيان البلد ووجهائها وهم يتقدمون المظاهرات ويحملون الأعلام، ولا زلت أحفظ تلك الأناشيد العذبة التي كان يرددها المتظاهرون في قوة وحماس:

حب الأوطان من الإيمان

وروح الله تنادينا

إذ لم يجمعنا الاستقلال

ففي الفردوس تلاقينا

ولا زلت أذكر مناظر بعض الجنود الإنجليز وقد هبطوا القرية وعسكروا في كثير من نواحيها، واحتك بعضهم ببعض الأهالي حتى أوقعوه في شرك، وانفرد الوطني بالإنجليزي فأوسعه ضربًا، ولا زلت أذكر الحرس الأهلي الذي أقامه أهل القرية من أنفسهم، وأخذوا يتناوبون الحراسة ليالي متعددة؛ حتى لا يقتحم الجنود البريطانيون المنازل ويهتكوا الستر والحرمات غيلةً وخيانةً، ولا زلت أذكر يوم أن مات "محمد فريد" إذ دخل علينا أستاذنا وقد اغرورقت عينيه بالدمع الحزين، وأخذ يحدثنا عن سيرته وكفاحه وجهاده في سبيل الوطن؛ حتى أبكى التلاميذ جميعًا، وانفعلت بهذا الجهاد فقلت يومها أبياتًا.. أذكر منها:

أفريدُ نم بالأمن والإيمان

أفريد لا تجزع على الأوطان

وأحاديث الناس حول لجنة "ملنر"، وإجماع الأمة على مقاطعتها، وكيف كان هذا الشعور فياضًا غامرًا حتى إنه يدفع بالتلميذ "حسن البنا"، وهو في الثالثة عشر من عمره إلى أن يقول شعرًا منه:

يا "ملنر" ارجع ثم سل

وفدًا بباريس أقام

وارجع لقومك قل لهم

لا تخدعوهم يا لِئام

وهي قصيدة طويلة أعقبتها قصائد وطنية أخرى حتى صارت ديوانًا كبيرًا ضاع هذا الديوان وأُهمل مع مؤلفات أخرى في الفقه على المذاهب الأربعة والأدب، وذلك في فترة انشغل فيها الخاطر بالعمل عن العلم، ورؤي أن الاشتغال بالتأليف الكثير معطل عن العمل النافع وعن التفرغ لعبادة الله، وحسب الإنسان لدينه أن يتعرف على ما يصحح به أحكامه، وحسب الإنسان لدنياه أن يتعرف على ما يحصل به على رزقه، ثم عليه بعد ذلك أن يتصرف بكليته وجهده ووقته إلى العبادة والذكر والعمل، ولقد كنت- رغم اشتغالي بالتصوف والتعبد- أعتقد أن الخدمة الوطنية جهادٌ مفروضٌ لا مناص منه، فكنت بحسب هذه العقيدة وبحسب وضعي بين الطلاب- إذ كنت الأول عليهم- ملزمًا بأن أقوم بدور بارز في هذه الحركات الوطنية...، وكذلك كان..

ففي يوم 18 ديسمبر يوم ذكرى الحماية البريطانية أوعزنا للطلاب جميعًا بالتفرق في الحقول المجاورة طول اليوم، وتم الإضراب وانتهى اليوم بسلام، وخاب سعيُ الناظر ومدير البحيرة "محمود باشا عبد الرازق" في إقناع الطلاب بعدم الإضراب".

وهكذا تظهر منذ الصغر وطنية التلميذ "حسن البنا"، وقد توازن فيه التصوف الوضيء مع الوطنية الصادقة مع الخدمة الاجتماعية المحتسبة في مطلع شبابه، وقد ظل هذا التوازن معه طوال حياته.