حوار خلف القضبان: الصراع داخل الإخوان المسلمين خلال فترة الإضطهاد الناصري

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حوار خلف القضبان: الصراع داخل الإخوان المسلمين خلال فترة الإضطهاد الناصري


بقلم: باربارا زولنر


ملخص

عندما كتب علي الإخوان المعاناة في سجونهم ومعتقلاتهم, اختار بعض منهم الكفر بالدين أو الشك في حقائق الإسلام. فعلي الرغم من الظروف الصعبة التي تلازمت مع حبس الإخوان, فإن بعض أفراد الجماعة قد اندفعت نحو تصحيح فهمهم. إلا أن الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبيالمرشد العام للإخوان المسلمين – في ذلك الحين قد أعطى رداً شافياً علي فيما يتعلق بنظرة الإخوان لقضية التكفير ضمنه كتابه "دعاة لا قضاة" – ذلك الكتاب الذي حدد الطريق ووضح المناهج والمهمات.

فهذا الكتاب يعرض لخطاب الإخوان داخل المعتقلات في أواخر الستينات. فقد ذكر المؤلف أنه وبعد أن شعرت الجماعة ببزوغ أفكار متطرفة في وسط الطريق, اعترض الإخوان عليها حتى في سياقاتها (أي داخل سجون عبد الناصر).

فبعد التغاضي عن قضية مماثلة هذا التوصيف لأحداث تاريخية مماثلة, فإن الإقتباس الموضح أعلاه يشير إلي خطاب هام جداً داخل الجماعة يربطها بمسارها التنظيمي العام. إن التحالفات التي دخلت وخرجت من الجماعة خلال المناظرات الداخلية قد باتت بعينها أسباباً كافية للتطور الأيديولوجي الذي جرى ما بين العامين 1954 و 1971, وهو الأمر الذي شدد عليه إبراهيم أبو ربيع في بحثه عن سيد قطب.

إلا أنه علي الرغم من أن أبو ربيع قد ألف هذا العمل كجهد علمي لنيل درجة أكاديمية, فإن ثمة تيار مهيمن قد تبنى هذه الصيغة البسيطة التي تم ترديدها من وقت لآخر منذ أن عكف كيبيل وسيفان علي دراستهما.

فهذا الخط الذي رسم خطاً نَسَبيَّاً مباشراً بين قطب والجماعات المتطرفة التي ظهرت إبان نهايات السبعينات قد كان لها هدفاً معيناً يكمن في تحليل الجذور الأيديولوجية للشبكات الجهادية التي توالت بعد ذلك.

فكل ما نحاول أن نعرضه هو دفاع بطريقة استرجاعية نجتهد فيه علي استخلاص الأفكار القطبية من السياقات التي صيغت فيها. وكذلك, فإنه غير منصف للتعقيدات التي انتابت الجماعة خلال فترة الصراعات الداخلية الشديدة خلف الأسوار.

وعلاوة علي ذلك, فإن هذا الخط البحثي الغير سردي يوضح بالتفاصيل – بلا استناد علي الدراسات التحليلية في الماضي والحاضر – كيف أن كبرى الجماعات الإسلامية في مصر قد تبنت خطاً أيديولوجياً متطرفاً؟

إن الهدف من هذه المقالة هو التحليل التاريخي لأزمة الإعتقال التي تعرض لها الإخوان المسلمون في الفترة ما بين العامين 1954 و 1971. ففي هذه الفترة التي مارس فيها عبد الناصر حكمه الديكتاتوري, كان علي رأس الإخوان آنذاك المستشار حسن الهضيبي كمرشد ثاني.

فعلي الرغم من مرور سبعة عشر عاماً علي إضطهاد الإخوان في السجون, إلا أن هذه المحن قد حددت إطاراً واسعاً للتطورت داخل الجماعة.

كما أنه لزاماً علي أن استرجع مسلسلات الإضطهاد ومن ثم ربطها بالتعديلات التنظيمية والمناقشات الأيديولوجية. وهذا يدعونا إلي عمل تحقيق أكثر قرباً لتفهم طبيعة العلاقة بين الإخوان وسيد قطب.

ففي محاولة مني لوضع أعمال قطب في سياقاتها الأصلية, فإني ارى أن كتابه "معالم علي الطريق" قد تم تأليفه كمدخل لما يعرف بنتظيم 1965. فعلي الرغم من التأثير القوى لهذا الكتاب علي إنشاء تنظيمات تحت مظلة إسلامية, إلا أن الإحتفاء بتراثه كأحد أعضاء الإخوان البارزين يبدو وكأنه مفارقة.

فعلي الرغم من دعم القيادة لقبوله كعضو في الإخوان في بدايات الستينات, إلا أنه في أواخر الستينات عارضت ذات القيادة أفكار قطب. وكما يبدو لي من أول وهلة, فإن الإخوان المسلمين كانت ولا تزال مشتتة بين تيارين متباينين: تيار يقبل أفكار سيد قطب وآخر يرفضها.

إن الأحداث التي تلت اعتقالات 1965 والخطاب الإخواني الداخلي الذي تلاها هما مفتاحان لفهم هذا التناقض الجلي. ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن القيادة الإخوانية قد تبنت موقفا إسلاميا معتدلا تجاه أحاجي المتطرفين.

عندما ظهر كتاب "دعاة لا قضاة" في عام 1969, كان من بين ما قيل عنه أنه نبذ واضح لأفكار سيد قطب. وفي الحقيقة, فإن هذه الوثيقة التي قدمت علي أنها تصريح رسمي من الهضيبي يطرح بعض الأسئلة يأتي في أولها استفسار بشأن كون هذا النص دحض للأفكار القطبية, وإن كانت كذلك, فلماذا لم يبدي الإخوان تفاعلاً معه؟

والطرح الثاني والأهم هو مدى صحة نسبة هذا الكتاب إلي الهضيبي. فإن لم يكن من نسج أفكار الهضيبي, فما هي التضمينات التي يمكن أن تؤثر علي اعتبار النص كتصريح رسمي؟

ففي حين عكفت الجماعة علي مراجعة الخطاب الإخواني الداخلي خلال فترة المحنة, فإن ثمة صورة مغايرة تماماً لتاريخ وأفكار الإخوان تلوح في الأفق. وهذه الصورة توحي بأن الجماعة قد بدأت في نبذ الأفكار المتطرفة التي ولدت خلال أواخر الستينات في القرن الماضي قبل ظهور الخلايا المتطرفة التي أسست لمنظمات عسكرية محققة.

وعلاوة علي ذلك, فإن هناك بعض المؤشرات التي تبين انهماك قيادة الإخوان للتربية من أجل وأد الفكر المتطرف في مهده. فلأن الأزهر بعلمائه كانوا تحت سيف النظام الناصري, فيمكننا التسليم جدلاً بوجود مصالحة ضمنية بين الإخوان والدولة المصرية قد شقت طريقها أواخر حكم عبد الناصر.

فمن أجل الوصول لفهم لهذه القضية التي تحتاج إلي تدقيق حذر, سيكون كتاب "دعاة لا قضاة" مفتاحنا لهذه المهمة. إن هذا الكتاب يتمتع بأثر كبير في التوجيه الأيديولوجي للإخوان, في حين أن أطروحاته العقائدية تتضمن أحاجي قوية ضد الفكر الإسلامي المتطرف.

أسباب الإنهيار السريع للإخوان المسلمين

إن محاولة إغتيال عبد الناصر في 26 أكتوبر 1954 قد دشنت لعصر إضطهاد الإخوان المسلمين. وجدير بالذكر أن هناك حالة من الإنقسام بخصوص منفذي العملية: هل هم من الإخوان؟ أو أن عبد الناصر هو الذي خطط لهذا الأمر من أجل تصفية معارضيه؟ إلا أن الإخوان اعتبروا مدانين في كل الأحوال.

فبعد حادث المنشية بفترة قصيرة, تم إعتقال الإخوان فيما يبدو أنها ممارسة مدروسة جيداً. فتم حبس الآلاف بمحاكمة وبدون محاكمة, كما تم عقد المجالس العسكرية لقيادات الإخوان التي أصدرت بدورها أحكاماً بالإعدام علي بعضهم, في حين تمكن البعض من الهروب خارج البلاد. ففي محاولة لوصف حالة المسجونين, فإن الإشارات الأولية قد أوحت بيأس صامت في أوائل سنوات الإعتقال.

لقد تمت كتابة بعض المذكرات من قبل الإخوان داخل السجون, ناقشت معظم هذه المذكرات باستفاضة محاولة الإغتيال المفبركة والمحاكمات التي تلتها. وكذلك, فإن تلك المذكرات اهتمت بالوصف الدقيق للمارسات التعذيب والمحن التي أحاطت بالإخوان داخل السجون. ولم يشر مؤلفي هذه المذكرات إلي أي نوع من الخطاب الداخلي بين المعتقلين, علي الأقل ليس في بداية المحنة.

فمن المثير للدهشة أن الإخوان الذين وجدوا أنفسهم فجأة داخل السجون ليمارس ضدهم إضطهاد دولة ربما سألوا انفسهم عن مغزى تحول هذه العلاقة الحميمية مع الثوريين في 1952 إلي هذه الوحشة! ولكن كيف لنا أن تتخيل أنه بعد مرور سنوات قليلة, تحول الشعور باللامبالاة بمحاولات لإعادة إحياء الحركة وترتيب أوراق التنظيم؟ إن التحليلات التي تعقبت سنوات سجن الإخوان تحديداً ما بين العامين 1954 و 1958 يظهر أن الجماعة لم يرخي من عزائمها قرارات الطرد والسجن والإعدام ضد قيادات الجماعة, إلا أن السخط الداخلي قد أضعف وحدتها الداخلية.

وهذا السخط قد ركز علي القائدة والتوجه العام والمشاركة, إلا أن هذا الصراع كان قد بدأ قبل تولي الهضيبي لمنصب الإرشاد. وهذا فيما يبدو أنه السبب الرئيس لحالة التحرر من الأوهام والصمت المختزن في بداية المحنة, وكذلك لحالة التفكك الحتمي لحركة الإخوان كتنظيم.

وكما مر, فإن حالات الشنق والنفي لعدد من قيادات الإخوان قد كان لها أثراً مثبطاً. وكان الأشد وقعاً في قطع الإتصالات بين الإخوان علي مختلف مستوياتهم الإدارية أنهم تم تفرقهم بين سجون عدة. فعلي سبيل المثال, تم حبس معظم قيادات الإخوان (الذين تولوا مناصب في مكتب الإرشاد قبل المحنة) في السجن الحربي بالقاهرة قبل نقلهم بعد ذلك إلي سجن الواحات في الصحراء الغربية ثم إلي سجن ليمان طرة بعد ذلك, في حين تم حبس أغلبية أعضاء التنظيم من الشباب في سجون محلية متناثرة عبر البلاد.

فالهضيبي, مرشد الإخوان الذي تم إبعاده عن التنظيم كلية, تم إصدار حكم بإعدامه إلا إن هذا الحكم تم تخفيفه وتم الإفراج عنه بعد فترة قصيرة من حبسه ووضع تحت الإقامة الجبرية في منزله. وبالفعل, فإن السلطات المصرية تبنت في هذا الموقف سياسة "فرق تسد" التي أفشلت جميع الإتصالات الداخلية بين قيادة وأعضاء التنظيم.

إن الإجراءات التي إتخذتها السلطات لم تحتوى أو تختزل من جهود الأعضاء الصامدين, إلا أن هذا التكتيك لإخراص المعارضة يفسر بطريقة مجتزأة حالة التحرر من الأوهام الوليدة لتوها والتي ساهمت في الإنهيار الداخلي الوشيك للنتظيم. فالهياكل التنظيمية الممزقة لم تكن العامل الأساسي للحظر الوشيك للجماعة, إلا أنه لم تمضي ثلاث سنوات حتى استطاع الأعضاء القدامى من بناء جسور إتصالية بينية علي الرغم من عدم تغير سياسات المعتقلات.

وحتى نتمكن من تحليل حالة الصمت السائدة في بداية فترة الإعتقال, فإننا بحاجة إلي التمعن في تاريخ الإخوان قبل أحداث الإعتقال مباشرة. ففي حين استطاعت الثورة المزعومة من تحويل النظام السياسي المصري إلي جمهوري, فإن الإخوان كانوا يحاولون التاثير علي المشهد السياسي من خلال التعاون مع النظام الجديد الذي احتكره مجلس قيادة الثورة.

فعلي الرغم من أن الإخوان قد وصلوا لأعلى درجات النفوذ السياسي, إلا أن بوادر سخط وخلاف داخلي قد طاف علي السطح. فالتوترات الداخلية بخصوص السلطات الواسعة للمرشد قد ذكرت بفترة الحقبة التكوينية للإخوان في عصر البنا.

فعلي الرغم من التسليم المسبق بكون البنا أكثر قيادات الإخوان هيبةً ومرشد لا يختلف عليه أحد, إلا أن عزل شخصيات قيادية كأحمد السكري يبرهن علي الإعتراضات الداخلية علي إدعاء البنا بإنفراده بالقيادة.

وفي ذات الوقت, وفي سياق سياسي أكثر فوضوية وتحديداً في أواخر الأربعينات, فقد البنا السيطرة علي النظام الخاص – الجناح العسكري للإخوان. وقد ترأس النظام الخاص صالح العشماوي, ثم عبد الرحمن السندي بعد ذلك, حيث ضمن النظام الخاص لنفسه استقلالية تنظيمية عالية المستوى عن القيادة.

فتسمية العشماوي كنائب سكرتير النظام الخاص بعد رحيل السكري أيد هذه المقولة, حيث ان الإدارة القوية للنظام الخاص قد كان لها وصولاً مباشراً لقلب التنظيم. إلا أنه بعد حادث إغتيال البنا في 1949, كانت الجماعة تدار بسرية, واستمر التنظيم حيث أن قادة التوتر الداخلي صالح العشماوي وعبد الحكيم عابدين وعبد الرحمن البنا والشيح حسن الباقوري قد نحوا خلافاتهم جانباً.

ومع ذلك, فإنه بعد تنصيب الهضيبي مرشداً ثانياً في 1951, لم ترد الدائرة القائدة أن تتنازل عن تأثيرها داخل القيادة. إلا أن التغيرات التي طرأت علي النظام السياسي المصري في عام 1952 قد عادت بالإخوان إلي المشهد السياسي من جديد بقوة متجددة وبتنظيم أكثر إتحاداً وتجانساً قادر علي ان يكون قوة سياسية حقيقية.

إلا أن إشكالية صراع القوى الداخلية كان ناراً تحت الرماد, لا سيما بين المرشد الجديد والنظام الخاص الذي يترأسه السندي آنذاك ويتلقى دعماً من العشماوي, مما أنذز بصراع قوى أوسع علي السلطة والإستراتيجيات والجدل السياسي.

فلم تكن القدرة التفاوضية الإخوانية عبر نظام الدولة في مخاطر بمفردها, فالإدارة الداخلية الناجحة للأعضاء والبنية التنظيمية كانت علي شفير الهاوية كذلك. فعلي الرغم من تجنب الهضيبي للتحديات التي تواجهه من الداخل, إلا أن قدرته قد شحبت بحلول العام 1954 وبالتحديد بعد حادث المنشية. إن السخط الإخواني الداخلي المتزايد في بداية المحنة كان سبباً مهماً في إشكالية الإضطهاد الرسمي للجماعة. وقد استطاع جمال عبد الناصر ببراعة استغلال هذه الإنقسامات.

لم تستطع محكمة 1954 من إلقاء اللوم علي الهضيبي والنظام الخاص وأفراد آخرون حيال حادث المنشية. وزاد الخلط بعد خيبة أمل الإخوان من الثورة وعبد الناصر.

فقد كان هناك كثرة من الإخوان, من بينهم سيد قطب, يدعمون رؤى ناصر السياسية عندما أصبح الأخير عضواً في مجلس قيادة الثورة, في حين تحالف مع ناصر شخصيات إخوانية أخرى من أجل رفضه قيادة الهضيبي , ومن هنا استطاع توحيد جدوال أعماله مع هؤلاء الغير راضين عن أداء المرشد.

كان هدف عبد الناصر من جراء ذلك محسوباً: إذكاء الصراع الداخلي واستخدامه للتخلص من منافسيه السياسيين والدينيين. إن التساؤلات التي لم تحسم بعد بخصوص فترة ما قبل المحنة لم تكن فقط لتسهم في إشكالية الإضطهاد بقدر ما كانت سبباً حقيقياً للصمت الذي تبع حادث المنشية.

ففي وسط الإبعاد والتعذيب, نظر معتقلي الإخوان إلي الإضطهاد الحكومي للجماعة علي أنه واقع مر. فعلاوة علي فقد المعتقلين الثقة في قيادة التنظيم وأحكام المحكمة, فإنهم كذلك قد تسألوا عن دورهم في هذه الكارثة. فكأن صمتهم هذا كان دليلاً علي إنكفائهم علي أنفسهم لتقييم الذات.

رتق الفجوة الأيديولوجية

فطبقاً للموقف البائس الذي عانى منه الإخوان في بداية المحنة, فإنه لم يكن مدهشاً غياب الأيديولوجيا الصامدة. فلم يترك الهضيبي إلا قليل من الخطوط الهادية التي يمكن أن يترشد بها الإخوان في مثل هذا الموقف. فالخطابات الرسمية القليلة والرسائل التي خطتها يده ما بين العامين 1951 و 1954 قد ألمحت فقط إلي وجود تطورات سياسية والتأكيد علي التعاون مع النظام, فلم يضع الإخوان استراتيجيات أو سياسات طويلة المدى أو حتى نصائح روحانية.

وهذا لا يعني أن الأفكار الرئيسية للجماعة قد اختفت. ففي الواقع, كانت هناك قواعد أساسية وافق عليها معظم الإخوان. فمفاهيم النظام الإسلامي والحركة الإسلامية كانت جزءاً لا يتجزأ من أيديولوجيات الإخوان التي لطالما نادى بها حسن البنا.

فبالإضافة إلي هذا الفكر المُسيَّس للإسلام, فإن بعض الأفكار الدينية القوية قد أثرت في البناء الفكري للجماعة ما بين أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات. فعلي سبيل المثال, أكّد عبد القادر عودة, أحد أشهر منظري الإخوان, أنه من الواجب الديني مقاومة سلطة الدولة إذا لم يستجب النظام لتطبيق الشريعة. فعلي الرغم من أن هذه الفكرة ليست وليدة اللحظة ومؤصَّلة في النظرية القديمة للدولة في الإسلام, إلا أن موقف عودة له دلالات أخرى خصوصاً بعد إنهاء دولة الخلافة ورضاء القيادة السياسية بالعلمانية.

وعلاوة علي ذلك, فإن الأدبيات الإسلامية المعاصرة قد توجهت نحو التفريق الثنائي بين الجاهلية والحاكمية الإلهية. فأبو الأعلي المودودي وأبو الحسن الندوي كانا من بين من أعاد صياغة هذه الأفكار وتطبيقها علي العصر الحاضر. فأعمال المودودي التي أكدت علي مبدأ الحاكمية الإلهية قد تمت ترجمتها في أوائل الخمسينات وبالطبع وجدت صداها عند سيد قطب , كما أن كتابات الندوي في الجاهلية الحديثة قد أثرت تاثيراً كبيراً علي سيد قطب, الذي عرف هذا الكتاب جيدا وكتب مقدمة لكتاب الندوي في إصداره الثاني عام 1954.

حتى إنه علي الرغم من أن قلة التوضيحات من قبل الهضيبي لم تترك اي فجوة أيديولوجية عميقة, إلا أنه لا يشك في أن المفاهيم الرئيسية التي احتضنتها الجماعة منذ تاسيسها قد حضرت الإخوان قبل بداية المحنة. فنشأة الرسالة الإسلامية الصحيحة والفاعلة قد بنيت علي هذه الأفكار الأصيلة, التي أوجزها قطب فيما بعد. وقد وجه قطب هذه الأفكار التي كان لها وجود سابق, إلا أنه أضاف إليها تفسيراته بتدرج.

وقد كان هذا التطور الفكري بمثابة استمرار للمفاهيم الساسية الموجودة علي الأرض إلا أنه يبقى رداً علي الإعتقال أو تعبير عن الخواء الأيديولوجي داخل الإخوان المسلمين. فالأعمال الكثيرة والمتعمقة قد فسرت التحول التدريجي الذي لخصه قطب في اعماله ووضح كذلك تطرفه داخل بيئة السجن.

وهناك فرضية تقول بأن قطب يمثل التطور الأيديولوجي للإخوان المسلمين في سنوات المحنة. وهذا يطابق الحقيقة إلي حد كبير إلا أن التطور الذي صاحب سيد قطب مصحوب بتغير المناخ السياسي وإعادة تكون الجماعات وبعث حركة الإخوان خارج السجن بروح جديدة.

فعلي الرغم من قضائه جزء كبير من حياته داخل مستشفى ليمان طرة, إلا إن سيد قطب كان قادراً علي تحقيق الكثير من المشاريع. فقد عكف علي إستكمال تفسيره للقرآن "في ظلال القرآن", وكذلك مراجعة كتاب "العدالة الإجتماعية في الإسلام", وكتابة كثير من المخطوطات المتنوعة. فكثير من الدراسات المركزة علي الجانب التطويري عند سيد قطب تؤكد علي الجرح النفسي الذي سببه اعتقاله وتعذيبه. إن سيد قطب قد تأكد بلا ريب من شيطانية كيان الدولة, لا سيما نظام عبد الناصر. وعلي الرغم مما مر, فإن بعض الإستقصاءات العلمية تؤكد أن حالة الصمت التي انتابت الإخوان إثر المحنة ولعدة سنوات بعدها تنطبق ذلك علي سيد قطب.

فبعد أن كان من كبار مؤيدي الأفكار الثورية التي نادى بها مجلس قيادة الثورة في فترة ما بعد الثورة, إلا أن الإضطهاد الذي عانى منه سيد قطب جعله يتحرر من أوهامه. فقد عبر قطب عن خيبة أمله في الثورة في أولى سنوات المحنة حيث راجع كل أعماله السابقة, وكانت عقليته في تلك الفترة لم تسمح له بتبني أفكار متطرفة. فهذا المنعطف الحاسم في فكر سيد قطب لأيديولوجيا سياسية أكثر تطرفا ً قد بدأ في أواخر الخمسينات, بعد عام 1957.

فكتابه الشهير "معالم علي الطريق" الذي تم استخلاصه من تعليقاته, قد ألفه بعد ذلك التاريخ بعامين اثنين. إن التأريخ لتطرف سيد قطب هو أمر عسير, خصوصاً عندما يتعلق ذلك بتطور فكره الشخصي لإحداث تغييرات داخل جماعة الإخوان, الأمر الذي حدث لتوه.

سيد قطب والإصلاح داخل الإخوان

شهد عامي 1957 و 1958 نقطة تحول في مسار الإخوان المسلمين. فمنذ ذلك التاريخ وقد حلت علامات النهضة محل خيبة الأمل. وجدير بالذكر أن هناك ثلاث مؤشرات أساسية لهذا التغير, أولها أن معتقلي الإخوان خلال تلك الفترة قد تمكنوا من تبادل ومناقشة الأفكار. وثانيها أن شبكة الإتصالات البينية بين المعتقلين قد تم إنشاؤها بالفعل لربط المعتقلين, ولا سيما سيد قطب, بأعضاء وقيادات الإخوان في الخارج.

أما ثالثها, فإن عبد الناصر قد وسع من قبضته الحديدية ضد الإخوان وتم الإفراج عن أعضاء الجماعة الذين طالتهم أحكام قصيرة. ومن المعلوم أن قطب كان قادراً علي الإتصال وتبادل الأفكار بسبب دخوله مستشفى ليمان طرة.

فمناقشته لمحمد هواش في تفسير سورة يوسف, التي جعلته يعيد التفكير في مواقفه حيال المقاومة, تعتبر دليلاً علي تبادله الأفكار. فالأكثر أهمية من المناقشة بخصوص وقوع هذه الواقعة, أن نفكر في مؤشر آخر أكثر اهمية وهو أن مستشفى سجن ليمان طرة كانت من الأهمية بمكان لإستعادة العلاقات الداخلية. فقد استغل سيد قطب العنابر المشتركة في المستشفى لتبادل الأحاديث وتوصيل أفكاره للمعتقلين الآخرين الذين تم تحويلهم من مراكز إعتقالهم لقضاء فترة العلاج.

فبعد العودة إلي محابسهم, يبدأ المتحاورون في تشكيل مجموعات لمناقشة أفكار قطب ومن ثم ترويجها بعد ذلك. هذا, وقد وضع فريد عبد الخالق وعبد العظيم رمضان, وسيد قطب ذاته, تصورات لنشر تلك الأفكار داخل معسكرات الإعتقال, فقد ذكروا كيف استقبل أعضاء الإخوان من الشباب أفكار قطب في سجن القناطر, خصوصاً فكرة التكفير التي وقروها لتوهم.

وكما تمت الإشارة إليه آنفاً, فإن أفكار سيد قطب لم يروج لها داخل السجون فقط. فمن المسجل أن سيد قطب كان علي صلة بأفراد خارج السجن. فهناك مصادر عديدة تذكر أن السيدة زينب الغزالي, رائدة تنظيم الأخوات المسلمات, كانت من أكثر هذه الأدوات خطورة.

فإلي جانب الحاجة زينب الغزالي, فإن أخوات سيد قطب أمينة وحميدة, وزوجة الهضيبي وبناته خالدة وعلية وتحية, وزوجة صديق الهضيبي منير الدلة السيدة أمل العشماوي, كل هؤلاء عملن كرسل إلي الخارج. فهذه المجموعة من النسوة كانت تزور قطب وآخرين بصفة مستمرة. وفي الواقع, فإن تلك النسوة لم تشكل بمفردها الوسيلة الوحيدة لتواصل المعتقلين مع الخارج, وإن كن هن الأخطر في التواصل خارج السجن وداخله.

إن انهماك تنظيم الأخوات المسلمات, الذي كان يدير برنامج دعم المعتقلين, يبقى شاهداً, ليس فقط علي النشاطات التي اسندت إليه, بل علي أهميته كذلك. إن هذا التنظيم كان من الأهمية بمكان للإبقاء علي دعوة الإخوان المسلمين. فكانت هؤلاء النساء تعمل كموصلات فائقة بين قطب والقيادة الرسمية, التي كان يديرها الهضيبي ظاهرياً. وكانت القيادة يم إخبارها دائما بأفكار قطب, وكانت زينب الغزالي وآل الهضيبي من النساء يعملون في تنظيم الأخوات لتوصيل هذه الأفكار.

وفي الحقيقة, فإن مبعوثي مكتب الإرشاد كانوا يرسلون لقطب شخصياً بوثائق تدلل علي أن القيادة الإخوانية كانت علي علم بما حدث. وقد اقترب عمر التلمساني وعبد العزيز عطية من قطب وأخبروه بأنهم مهتمين جداً بتضميناته الفكرية. فعلي الرغم من أن مسلمات سيد قطب في فكره الديني المُسَّيس قد استقبلها مكتب الإرشاد بحذر, إلا أنه لا يوجد دليل علي أن الهضيبي أو أي من أعضاء المكتب الآخرين قد عبر عن تلك المخاوف.

إلا أن افكار سيد قطب قد ساهم في ذياعها عامل ثالث, وهو السياسات الحكومية. ففي العامين 1957 & 1958, هدأت حملة عبد الناصر ضد الإخوان , وتم إخلاء سبيل المحكوم عليهم بفترات سجن قصيرة وكذلك الذين لم يمثلوا أمام محكمة.

وكان عبد الناصر لا يعترف بأعضاء الإخوان غير القياديين بعد أن أصبح النظام قادراً علي تأمين سلطاته بعد إنتصاره في معركة السويس. وكانت اسهم عبد الناصر في ازدياد دائم من خلال الدعاية التي تلت الوحدة بين مصر وسوريا ما بين العامين 1959 و 1961 وكذلك من خلال القومية العربية التي روج لها من العام 1962 وصاعداً.

وخلال هذا الوقت, كان قطب عاكفاً علي إعادة كتابة بعض النصوص. فعلي الرغم من أن قطب كان محبوساً خلف أسوار مستشفى السجن, فقد كان قطب علي معرفة جيدة بسياسات البلاد ومدى تأثيرها علي تطور الجماعة.

وكما تمت الإشارة إليه آنفاً, فلقد كان فكر سيد قطب مركز إحياء الإتصالات بين الإخوان, وكذلك مركزاً للخطاب الداخلي الجديد. فبعد أن تم الإفراج عن الإخوان, وضّحت رسائله للإخوان الحدود الأيديولوجية الفاصلة والمهمة لبدء نشاطهم.

فكان فكره بمثابة الأرضية التي تجمع عليها الإخوان خارج بيئة المعتقل وكانت ضرورية بالنسبة للبعث الجديد لجماعة الإخوان المسلمين وهذا ما يفسر عدم الدهشة من موقف الهضيبي والدائرة الرسمية عد الإعتراض علي افكار سيد قطب, وذلك بسبب أن أفكار الرجل استغلها الإخوان في البعث الجديد للحركة.

تنظيم 1965

خلال الفترة ما بين العامين 1957 و 1958, تشكل تنظيم الإخوان تشكلا جديدا خارج أسوار السجون. إن الجماعة التي تم تسميتها بـ "تنظيم 1965" قد خطت طريقها بعد إطلاق سراح الإخوان غير القياديين الذين صدر في حقهم أحكام قصيرة وكان أعداد من خططوا لإقامة التنظيم الجديد تحتوى علي معتقلين سابقين, قضى بعضهم الحبس في سجن القناطر سالف الذكر, إلي جانب مجموعة من الإخوان كانت قد هربت من موجة الإعتقالات في 1954. وقد تحمل عبأ إعادة تنظيم الإخوان المشتتين مجلس خماسي يرأسه عبد الفتاح.

وصف أحمد عبد المجيد, الذي كان واحداً من الخمسة القياديين, في مذكراته أنه هو والسيد عبد الفتاح والشيخ محمد فتحي رفاعي وعلي العشماوي كانوا معنيين تماماً بخلايا التنظيم المنتشرة عبر البلاد.

ويكتب أحمد رائف الذي تقابل مع قيادات التنظيم في المعتقل أن تلك اللجنة الخماسية كانت مكونة من السيد عبد الفتاح وأحمد عبد المجيد وصبري عرفة الكومي و مجدي عبد العزيز وعلي العشماوي. وقد تم استخدام المعارف الشخصية لبناء الخلايا التي كانوا يتفقدونها من وقت لآخر.

وفي ذات الوقت, استمر تنظيم الأخوات المسلمات في لعب دور مهم حيث كانوا يعملون كحلقة وصل مع الإخوان الذين لا يزالون قيد الإعتقال, خصوصاً سيد قطب. ومن الموثّق أن زينب الغزالي كان لها النصيب الأكبر في هذه الأعمال. فلقد زارت الغزالي عدداً من أعضاء مكتب الإرشاد وكذلك حسن الهضيبي في مناسبات كثيرة وقامت بوضع البرنامج التربوي للجماعة. وعلاوة علي ذلك, فقد سافرت إلي المملكة العربية السعودية للقاء المانحين الموجودين خارج البلاد.

فمع هذه الشبكة التنظيمية, طُلِب من سيد قطب أن يكون المرشد الروحي للجماعة. واستطاع سيد قطب, عن طريق الإتصالات الفورية لتنظيم 1965, أن يضع جدول الأعمال التربوي له. فكان علي قائمة القراءات كل أعمال سيد قطب وكذلك أبو الأعلي المودودي وبعض الإقتباسات من أعمال المفسرين الكبار أمثال ابن كثير وابن حنبل وابن تيمية. ويبدو أن كتاب سيد قطب الأشهر "معالم علي الطريق" قد ألفه لتربية تنظيم 1965 عليه.

وإذا ما سلمنا بأن هذا الكتاب قد اعتمد إلي حد كبير علي تفسير سيد قطب للآيات القرآنية, فإن هذا يمكن أن يوضح كيف أن هذا الكتاب كان من المقررات الأساسية لتطوير الحركة الإسلامية. وفي الحقيقة, يشير الكتاب إلي هذا الغرض. فيما يتعلق بقضايا التخطيط الإستراتيجي, أكدت الجماعة أن أفكار قطب لابد وأن تواجه صعوبات علي مراحل الدراسة والوعظ والإضطهاد حتى إستكمال الغرض الذي ترنو إليه وهو تأسيس المجتمع الإسلامي العادل, علي اعتبار قطب قائد طلائع الحركة الإسلامية.

وتؤكد بعض المصادر أن الهضيبي, الذي لم يزل مرشدا للإخوان, قد تم إعلامه بهذا التنظيم وطٌلب إذنه لتكوينه. ومن الواضح أن الهضيبي قد بارك هذا التنظيم وعين علي رأسه عبد الفتاح.

وعلي الرغم من أن الهضيبي كان داخلا في شبكة الإتصالات البينية, إلا أنه لم يلعب أي دور آخر. وقد قيل أنه لم يتمكن من المشاركة في العمل التنظيمي والتكتيكي للحركة بسبب خضوعه للإقامة الجبرية.

إلا أنه علي الرغم من ذلك, فإنه كان يشارك في شبكة الإتصالات بفاعلية. ومن المحتمل أن الهضيبي كان من اختار ان يبقى في القواعد. وحيث أن التطورات الفكرية لسيد قطب لم تكن سرية, فإننا نستطيع أن نستنتج بأن الهضيبي كان مطلعاً علي الأسس الفكرية لتنظيم 1965. ولم يقدم الهضيبي أي اعتراض علي نظريات قطب, ويمكن القول بأن الهضيبي قد اختار الموافقة علي أنشطة تنظيم 1965, إن لم يكن يدعمه بالفعل.

وعندما تم التنبؤ بالتنظيم من قبل النظام, حكمت المحكمة علي أعضاء التنظيم بالتخطيط لقلب نظام الحكم. وبالفعل, كان تنظيم 1965 (ليس الإخوان بشكل عام) يمتلك خططاً لأنشطة إرهابية. إلا أنه يبقى من المشكوك في صحته أن تمتلك جماعة ناشئة كهذا التنظيم من الكفاءة العسكرية للتخطيط لمؤامرة, علي الرغم من أن قطب لم يقبل أن ترعى الجماعة ترسانة. وفيما يخص السؤال بشأن وجود هدف عسكري ضمن أهداف الجماعة, فإن الإجابة هي نعم بتحفظ.

وبدون شك, كان الإخوان ينظرون إلي عبد الناصر علي أنه العدو الأول كما أن نظامه قد قدم سلوكاً معادياً للإسلام. فعلي الرغم من أن قطب لم يصرح – حتى في كتاباته المعلنة – بكفر وارتداد عبد الناصر ونظامه, إلا أن نبذه الواضح والصريح للنظام السياسي والاجتماعي القائم ربما يتضمن إشارات بحل إستخدام وسائل عنيفة للتغيير, كما أن كتابه "معالم علي الطريق" يعتبر الإطار الأيديولوجي للجماعات الإسلامية المسلحة والمتطرفة.

وعلي الرغم من الترشد في عدم نعت سيد قطب كقائد أيديولوجي للإخوان المسلمين خلال هذه الفترة, إلا أننا نستطيع أن نؤكد أنه كان منظّراً للمجموعة الفرعية للإخوان (تنظيم 1965), الذي كانت نشطة جداً في أصعب فترات التنظيم.

موجة الاضطهاد الجديدة وتطور أيديولوجية الاعتدال

ضربت موجة الاضطهاد الثانية ، جماعة الإخوان المسلمين عندما ظهرت مرة أخري عام 1965، فقد شنت حملة واسعة ، وقد اتخذوا كتاب سيد قطب " معالم علي الطريق " كذريعة لاعتقال من وجد عنده ، بالرغم من موافقة المسئولين علي نشره .

ولم تطل اضطهادات 1965 أعضاء الحركة فقط ، بل كل من تضامن معهم أيضا . وكما حدث عام 1954 فقد وجهت اتهامات بالتآمر والخيانة تجاه عدد كبير من الأشخاص المستقلين . وفي مقارنة واضحة للمحاكمات العسكرية عام 1954 ، فإن كلا من الادعاء والقضاة ذكروا أنه كانت هناك مؤامرة خطط لها ضد الرئيس ، إلا أنه تم إدراكها في الوقت المناسب . وفي العام 1966 أصدرت المحكمة أحكاما بالإعدام ، وأخري بالسجن لفترات طويلة. ومن ضمنها الحكم بالإعدام ضد سيد قطب ، الذي شنق في أغسطس 19663 .

وقد تغيرت أفكار المعتقلين في الفترة من سنة 1954 و 1956 . وقد استقبل ، أولئك الذين صدر ضدهم حكم الإعدام كالأبطال . وبالرغم من الروح الواحدة التي كانت تحكم المعتقلين ــ علي الأقل خلال فترة الاعتقال الثانية ــ فإن خلافا كبيرا قد اندلع بين أولئك المعتقلين واختلفت أيديولوجياتهم ، ومن أهم المراكز التي دارت فيها تلك النقاشات كان ، سجن القناطر وقنا ، وليمان طره بشكل خاص ، حيث سجن فيه الرعيل الأول لقادة الإخوان المسلمين مثل الهضيبى وأعضاء الجماعة الذين سجنوا عام 1965 .

وقد دب الخلاف فيما بينهم عندما بدأ أعضاء من الجماعة ( اعتقلوا 1965 ) بالسؤال في ما إذا كانت الاتهامات الموجهة لهم من قبل الدولة ، حقيقة أم غير ذلك . علاوة علي ذلك, فقد ناقش أن من أهم القضايا التي أثيرت، هو ما إذا كانت مناهج الجماعة عام 1965 قائمة علي فكرة التكفير . ولكن السبب الحقيقي وراء الخلاف ، يرجع إلي مسئولية الهضيبى منذ السنين الأولي واستمرار سلطته كمرشد عام للجماعة .

وقد أثار تصريح الهضيبى ــ إقصاء نفسه بعيدا عن نشاطات الجماعة 1965 ــ تساؤلات عن كونه جدير بالثقة . ويصف عبد المجيد ، أن أعضاء الجماعة عام 1965 لم يصدقوا أن المرشد الذي أعطي العهد ينسحب الآن .

وبالرغم من السؤال حول مسئولية الهضيبى عن الاضطهاد الذي وقعت تحت وطأته الجماعة ، إلا أن المرشد قد أدار المناقشة بسياسة عالية .

وركزت هذه المناظرة علي موقف الإخوان المسلمين تجاه نظام الدولة ، وخاصة استراتيجياته تجاه المعارضة . وقد تعرضت المناقشة في مجملها لكيفية معارضة حاكم طاغية مثل جمال عبد الناصر. ثم تطرق بعدها لأشياء أخري مثل حرب 1967 ضد إسرائيل .

أصبح الشقاق واضحا بين وجهتي نظر معارضتين . فقد كانت الجماعة المتطرفة ــ والتي عرفت باسم " القطبيين " الذين اتبعوا منهج سيد قطب في التفكير ــ تقف معارضة لقيادة الإخوان القديمة ، بشكل واضح ، حتى مع وجود الهضيبى كقائد .

واختلف المؤيدون لهذه الجماعة المتطرفة ــ من بينهم مصطفي شكري ــ مع الإخوان ، حول هذه النقطة ورفضوا أي نوع من التعامل مع الإخوان القدامى . وقد بدا عدد كبير من الإخوان مترددا ، فالحملة الثانية للاضطهاد لم تندلع لقرارهم والمبادئ التي يؤمنون بها فقط ، بل بتعهدهم بالولاء للهضيبي أيضا.

القطبيون يرفضون بوضوح النظام الحالي ويعارضون اقتراح دعم الطاغية حتي ضد العدو الخارجي . وبالنظر في بعض أعمال قطب وخاصة " معالم علي الطريق " فإن القطبيين يعتبرون الوريث الوحيد لأفكاره .

وقد تبنوا فكرة التعارض بين الإسلام والجاهلية ، علي وجه الخصوص والمسلم والكافر ، والاعتناق التام لمفهوم التظاهر الإسلامي كتعبير حقيقي عن الواجب الديني. ويري القطبيون أنهم الشكل الحقيقي للإسلام ، واتهموا نظام الدولة بمعارضة حكم الله ، وهذا يعارض موقف الهضيبى المتراضي . ولم يتهموا سياسة المرشد التي مارسها قبل المحنة بتذبذبها وضعفها وأنها السبب الرئيس في الاضطهاد فقط ، بل واتهموه بالتعاون مع نظام الدولة الجاهلي أيضا .

تخالف المواقف السياسية والدينية |للهضيبي الأيديولوجيا القطبية . فسياساته منذ عام 1951 حتى العام 1954 تبرز قائدا يؤمن بسيطرة النظام السياسي من خلال المفاوضات وصناعة السياسة والمناورات السياسية .

ويعول في سلطته علي مكتب الإرشاد ، وبالرغم من أن هدفهم هو التحول إلي دولة إسلامية ، فإنه بالتأكيد ليس تحولا ثوريا بل أنه علي الطريقة التي اتبعها الرعيل الأول ، والتي تنوي إعادة بناء حكومة إسلامية من خلال تغيرات تدريجية .

ولم يتغير هذا الموقف السياسي خلال سنوات السجن ، ولم يكن أبداً مثيراً للجموع ولم تعطيه الإقامة الجبرية بين عامي 1954 و 1965 الفرصة للتواصل مع الأعضاء. وقد فشلت محاولة الإخوان المسلمين في بداية العام 1960 لإحياء الجماعة لأنها قد أدت إلي موجة الاضطهاد الثانية.

واحتاج الهضيبى كقائد ومكتب الإرشاد من حوله لتحسين سمعتهم التي تشوهت تماما ، لأن قادة الإخوان قد شاركوا الأعضاء في السجن بعد عام 1965 وبذلك أتيحت لهم فرصة إعادة القوة والسيطرة علي الجماعة.

وعلي كل حال فقد كان المرشد مستعدا لتلقي العديد من الأسئلة . وقد كانت جهود الهضيبى ، لإعادة الاتصال مع أعضاء الجماعة تستهدف أولئك الأعضاء الذين ظلوا مترددين حول الانشقاق عن الجماعة وإتباع القطبيين . وفي الذاكرة ، سجلت بعض الأحداث التي تصف رغبة الهضيبى في مناقشة القضايا .ويمكن أن نحصر الحوار بين القيادة والأعضاء من خلال سبعة خطابات عامة للهضيبي في محبسه. كانت هذه الخطابات نتيجة لتساؤلات من قبل الإخوان المسجونين .

وقد نشرت الأسئلة والردود بعض ذلك كتصريحات رسمية ، وهذا معروف من قبل العمل المركزي للهضيبي والذي يشرح ويشتمل علي رؤية ما يعترض عليه الإخوان وعلاوة علي ذلك فإن هذا العمل يؤكد علي قيادة الهضيبى وترأسه لالهضيبى مكتب الإرشاد .

دعاة لا قضاة

انتقض الكتاب إتباع السلوك المتطرف ، بدلا من اقتراح تدخل ديني معتدل للنشاط الإسلامي . وبتسليط الضوء علي محتوياته, فإن الوصف التالي يركز علي اتخاذ بديل لوصف الإيمان والكفر والبعد عن المعني الديني والسعي إلي الحكم .

هذه النقاط علي وجه كبير من التناقض وتتفرع لثلاثة مفاهيم مركزية حول تفسيرات التطرف ، ومنها سياسة التكفير والعودة إلي الجاهلية في الوقت الحديث وعدم الالتزام بأحكام الله .

أما قضية التكفير فيعارضونها ، بأن من نطق الشهادة فهو مسلم ، ويقول في " دعاة لا قضاة " أن كل من قالها يعتبر مسلما وإحدى لبنات المجتمع المسلم. وفي هذا تصريح بأن البشر ليس لديهم الكفاءة لتحديد أن هذا مسلم ومؤمن وأن يقولوا بأن هذا قد ارتد . فلو أن شخصا قوي الإيمان أجبر أن ينكر دينه فهل يمكن اعتباره غير مسلم ، ولكن الله وحده هو من يقدر هذا مؤمن وهذا كافر .

لذلك يحكم كتاب دعاة لا قضاة علي مفهوم الخطيئة في محاولة لإثبات تأكيده . فبتبني مذاهب السنة نري كيف أن السياق يوضح سبل المغفرة لتقصير المسلمين . وأن القلم قد رفع في ثلاث حالات الجهل والخطأ والإكراه .

وبالرغم من أن المسلمين يخطئون ، فإنه يجب أن نأخذ في الاعتبار مخالفة الشريعة من قبل المسلمين . الله يعفو عن المسلمين إذا ما كانوا لا يعلمون ، أو أخطئوا الفهم أو أكرهوا وفي النهاية فإن الأعمال بالنيات . ويؤكد الكتاب أن المذنب يجب أن يعامل كآثم وليس ككافر . وقد أخذ نص الكتاب موقفا عاما ضد التكفير ، علاوة علي موقفه في إدانة المجتمع الداخلي كليا .

وفي دحضه لفكرة الجاهلية الحديثة فإن الكتاب يسرد براهينه من القرآن والسنة والتي تجعل الدين يصلح للمسلمين في أي وقت . وبما أن القرآن هو كلام الله ؛ فإن" دعاة لا قضاة " ينتقد الفكرة التي تعني بأن المعني في القرآن يؤخذ بظاهر السياق . وبمناقشة عمل المودودى "المصطلحات الأربعة في القرآن" فإن كتاب الهضيبي يذكر وجهة نظر المودودى حول أن العلاقة بين نص القرآن ومعناه وتفسيره من خلال التاريخ الإسلامي هو خطأ واضح .

وبالرغم من أن المودودي يؤكد علي أن المصطلحات الأساسية في القرآن يساء فهمها باستمرار وأن القيم والمفاهيم التي سبقت الإسلام لم يتم محوها ، فهو يريد القول بأنها مازالت موجودة حتى الآن ويقول " دعاة لا قضاة " أن هذه الفكرة غير صحيحة ويعترض الكتاب أيضا علي استخدام لفظ الجاهلية نفسه وقد شرع الهضيبي في تفسير حكم الله في رده علي الأمر الثالث .

وعلي الرغم من أن حكميات الله ليست لفظا قرآنيا فإن السياق يحقق في الشريعة والحكم الإسلامي لمكافحة مبادئ التطرف . فتبني موقف القانون الإسلامي ليس ثابتا في مجمله ولكنه يشمل مفاهيم مرنه ، ويبين الكتاب أن البشر خلقوا بقدرة علي صناعة القرار .

ويؤكد السياق علي اختلاف العبادات والمعاملات ويضع المبادئ الأساسية لها . ويذكر الكتاب أن ما نقوم به في سياق الحياة الاجتماعية يندرج تحت المباح . لذلك فهو يؤكد علي أن الأسباب الإنسانية لا يمكنها تشريع تحديا غير شرعي لتقسيم الحكم ، ما دام لا ينكر مبادئ الدين ومطالب الدين والتزاماته وبطريقة أخري ، ينكر الكتاب فكرة الإطاحة بالحكم الإسلامي لتنفيذ قانون الدين تحت ذريعة حكم الله .

ويرفض الكتاب فكرة أن هناك اتصال مباشر بين الإيمان بالقانون السماوي وتطبيق القانون الإسلامي كقانون للدولة . وفي الحقيقة فإن احتياج المسلمين لتنفيذ حكم الله في حياتهم اليومية ، هو أكثر أهمية من تنفيذه كقانون للدولة .

ويعد موقف " دعاة لا قضاة " ضد التكفير والجاهلية الجديدة وحاكمية الله ، تضامنا مع قضايا متصلة بها مثل الطاعة والمقاومة . وهذا الكتاب يدعم أهداف الإخوان واستراتيجياتهم التي تقول بعدم العنف وعدم المقاومة الثورية وتؤكد دائما علي سلطة متآلفة سياسيا ، وتريد الزيادة المتدرجة في القوة إذا تحول الحاكم عن الشريعة . ومع ذلك فهي تهدف إلي إصلاح المجتمع وجعله قواما يتبع حكم الله .

الكتاب والمؤلف والنظام

اعتبر علماء كثيرون كتاب" دعاة لا قضاة " أول الكتب وأفضلها في الرد علي التطرف الإسلامي لسيد قطب ومن أولئك العلماء جيلس كيبل ، إيمانويل سيفان ، وأحمد محمد جمعة . ومع ذلك فإن القارئ الجيد للنص ومحتوياته يثير بعض الأسئلة . الأول يتعلق بالتأليف ؛ والثاني يتعلق بحقيقة ما إذا كان يرد علي سيد قطب والثالث يتعلق بتأثير النص علي التركيب الأيديولوجي للإخوان المسلمين .

أما بالنسبة إلي القضية الأولي ، فهناك اعتبار قائم بأن حسن الهضيبي لم يكن المؤلف الفعلي له ، أو أنه تلقي مساعدات لإنشاء الحجج وتجميع الملاحظات وبعض الكتابات . وهناك بعض ممن زعموا ذلك ولكنهم لا يعرفون بالفعل من شارك في هذا العمل . فعلي سبيل المثال يؤكد فؤاد علام ، لواء مخابرات, أن الهضيبي لم يكتب كلمة واحدة .

ويدعي علام الذي يبلغ من العمر 88 عاما وأن من كتبه هو ابنه مأمون الذي أصبح مؤخرا المتحدث باسم الجماعة والمرشد العام لجماعة الإخوان وقد عمل علي تأليفه لكي يقاوم روح التطرف التي بدأت تنتشر بين معتقلي الجماعة . ولدعم المشروع, قام مجموعة من علماء الأزهر بتزويد مأمون الهضيبي بدلائل دينية . ثم طبع الكتاب ونشر علي أنه من أعمال حسن الهضيبي ، بعلم ابنه مأمون .

وعلي أي حال ، فإن الوقائع التي سردها علام تثير تساؤلا . فعضويته في الجهاز السري تثير الشكوك ، علاوة علي عدد من القصص غير المصدقة التي لم نذكرها . ويزودنا أحمد عبد المجيد ، الذي سجن في سجن قنا لانضمامه إلي الجماعة ببعض الأحداث المثيرة . يقول عبد المجيد أن الكتاب لم يكتبه حسن الهضيبي بنفسه ولكن قدمته مجموعة من الإخوان بموافقة من الهضيبي وتحت مراقبة تامة منه . ويقول أيضا أن مجموعة من علماء الأزهر قاموا بزيارة الهضيبي ورفاقه في السجن لمناقشة بعض الأفكار .

وقد أشار أحمد رائف ــ وهو من الإخوان الذين سجنوا في ليمان طره ــ إلي مثل هذه الوقائع . فقال أن مأمون الهضيبي وبعض علماء الأزهر هم من ألفوا الكتاب باستحسان من حسن الهضيبي .

وصرح عمر التلمسانى المرشد العام للجماعة ، الذي خلف الهضيبي سنة 1973، أن المرشد قد طلب من ابنه أن يساعده في كتابة "دعاة لا قضاة". وقال أن مصطفي مشهور قد شارك أيضا في هذا العمل . ويمكننا من هذا كله أن نتوصل إلي أن حسن الهضيبي لم يكن المؤلف الرئيسي للكتاب ، وأن من ألفه هو أعضاء من الإخوان الذين سجنوا مع الهضيبي بمباركة واستحسان منه واستشارات علماء الأزهر .

أما بالنسبة إلي من بدا الكتابة يمكننا أن نقترح اقتراحا صحيحا ، فقد ذكر مأمون الهضيبي مرارا وتكرارا ويبدوا أنه صاحب النصيب الأكبر في الاقتراحات . فبكونه محاميا تحت التمرين فلم يتعرض لكل ما يتعلق بالدين داخل تفاصيل الكتاب .

ومن الأسماء التي ذكرت أيضا ( عمر التلمساني ومصطفي مشهور وعبد العزيز عطية ) وأسماء أخري . وقد كانوا علي صلة بالمرشد وأعضاء لمكتب الإرشاد وقد سجن الاثنين في ليمان طره ، ومثلهم مثل مأمون الهضيبي فليسوا متخصصين في علوم الفقه .

ويثبت محتوي الكتاب أنه كان يتبني أفكار فقه الحنفية . ويعتبر انضمام علماء الأزهر كمستشارين ومؤلفين ، شيئا غريبا لأن عبد الناصر كان قد فرض سيطرته علي المؤسسة الدينية المركزية في مصر ، وبذلك لا يمكن لأي من علماء الأزهر المشاركة بدون موافقة ودعم النظام . وتطلبت حساسية الموقف الدهاء والحرص والذي يجعل الأمر بعيدا عن عبد الناصر وأن يكون محصورا في عدد قليل من كبار علماء الأزهر .

ومن الافتراض القائل أن " دعاة لا قضاة " هو نتاج تضامن لمجموعة من الإخوان الذين يقودهم الهضيبي داخل السجن ، يبزغ سؤال ألا وهو: هل كان الكتاب للرد علي كتابات قطب أم كان لهدف آخر؟ فسيد قطب لم يذكر ولو مرة واحدة في الكتاب ، ولم يلمح لأي من أفكاره . وسبب هذا التناقض يمكن أن نرجعه إلي استشهاد سيد قطب في العام 1966 والذي أعطته قدرا يجعل نقضه غير ملائما .

وبكل تأكيد فإن مساهمته في إعادة بناء الجماعة في أحلك فتراتها جعلت منه شخصية جديرة بالاحترام. وبرغم من إعادة تجديده لموجة الاضطهاد إلا أن أغلب من في الجماعة يدافعون عنه وعن أعماله .

وفي تفسير آخر لتبرير كتاب "معالم في الطريق" فإن الكتاب لم يكن يتعمق في فكرة التكفير ، ولكن هذه النتيجة جاءت نتيجة لبراهينه . ولأن معظم أعمال سيد قطب تؤكد علي الدراسة والدعوة؛ كانت هناك رغبة خارجية للتأكد من أن إستراتيجيته تتوافق مع الاتجاه العام .

وفي الحقيقة أن سيد قطب في سيرته الذاتية التي كتبها قبيل موته ، أنكر احتواء كتاباته علي فكرة التكفير . وأصبح قطب مثالا يحتذي به في الخارج وخاصة الإخوان المعتدلين من الرعيل الأول أمثال الهضيبي . ومن هذه التفسيرات فإن الإجابة الأقرب إلي التصديق حول عدم ذكر سيد قطب في كتاب "دعاة لا قضاة" هي : لأن الكتاب لم ينشر لدحض أفكار سيد قطب .

وفي ضوء بيئة السجن عام 1965 والارتباك الشديد وقتها ، كان جليا أن كتاب "دعاة لا قضاة" جاء للرد علي فكر القطبيين داخل جماعة الإخوان المسلمين . ومحاولات نص الكتاب لدحض تفسيرات القطبيين هذه التفسيرات التي أطلقها فكر سيد قطب والتي تختلف بشكل كبير مع مبادئ الإخوان المسلمين .

وعلاوة علي ذلك ، هدف الكتاب إلي إقناع الإخوان ، اللذين ما زالوا في حيرة من أمرهم ، بالإستراتيجية التي يتبعونها وهي أن رؤية الهضيبي للنشاط الإسلامي أكثر صدقا . فهو يهدف إلي تحدي الأيديولوجية الإسلامية المتصلبة التي أطلقها القطبيون ويحث الإخوان علي التمسك بعدم العنف كبديل . وتوضح مقدمة الكتاب هذا الهدف :

يحتوي الكتاب علي بعض الآراء حول مناقشات عدة والتي طرحت في أوقات مختلفة . وعلي أي حال فليس هناك دليل علي صحتها . وكلنا يشعر بأنه يجب أن نأخذ إجابة واضحة من القرآن أو السنة لنعطي دليلا قويا وبأسلوب واضح . ومن الواضح أن الرد علي القطبيين من خلال كتاب دعاة لا قضاة ، هو نتاج لجهود من قبل قيادة الجماعة لإعادة السيطرة علي هيكل الجماعة . وبينما وصل النزاع الداخلي للجماعة إلي ذروته ، اندلعت حرب 1967 . وعندها واجه الإخوان سؤالا مباشرا حول مساعدة الجماعة للنظام ضد التهديدات الخارجية .

وبالنسبة للقطبيين فالنظام كان متهما بالردة ولذلك فهو العدو الأول . واتخذ القطبيين موقف معارضة الحكومة بشتى الوسائل . أما الحرب والخسائر الفادحة للجيش المصري ، أبرزت مناقشة قد فات أوانها حول المبادئ والأهداف والإستراتيجية .

قد كتب الكتاب في السجن ونشر هناك . والمناقشات الأساسية كانت معروفة بشكل عام لأتباع الجماعة . وقد نشر كتاب " دعاة لا قضاة " في العام 1977 ولم يعش الهضيبي حتى يراه منشورا فقد مات عام 1973 . وباختصار فإن السبب وراء نشر " دعاة لا قضاة " كان يتعلق بالعنف الإسلامي الذي لاحت بوادره تحت اسم جماعات " التكفير والهجرة " و " الجهاد " . وفي ظل الهدوء السياسي في عهد أنور السادات ، فإن الهدف من الكتاب لم يكن أكثر من إعادة تجديد الإخوان لولائهم وإقصاء الجماعة عن أي مظهر من مظاهر الإرهاب . وقد أدي الإسهاب في البراهين المعقدة والتي تخفي وراءها اعتبارات دينية وقانونية ، إلي صعوبة فهم نص الكتاب ، إلا أن هذا لم يؤثر علي وقف بيع الكتاب .

وبالرغم من أن الهضيبي لم يعش حتى يري كتابه منشورا ، إلا أنه كان يضمن ولاء رفاقه ( عمر التلمساني ومحمد أبو النصر ومصطفي مشهور ) وكذلك ابنه مأمون الهضيبي ، ليعززوا مواقعهم ومواقعهم في استمرار سير الجماعة . وكل من هؤلاء الأشخاص أصبح بعد ذلك مرشدا للجماعة . وبفضل هؤلاء انتشرت فكرة الكتاب وأصبحت جزءا لا يتجزأ من أيديولوجية الإخوان .

ختام

هذا المقال لبيان الموقف بين أعضاء الإخوان المسلمين في أحلك فتراتها وتحدياتها بين عامي 1954 و 1971 . في بداية حقبة جمال عبد الناصر فإن الوضع السائد وسط الإخوان كان اليأس والتخبط ، والأسباب وراء ذلك معقدة وكثيرة ، ولا شك أن الاضطهاد والسجن ساهموا في خلق مثل هذه البيئة من الشقاق بين القادة وأعضاء الجماعة .

وعلي كل حال فقد هناك أسباب واقعية حول ضعف الجماعة : بنيتها التدريجية والاستبدادية ، ومبادئها غير المحددة كجماعة كبيرة ، أساليبها الخفية في اختيار القائد وكذلك الاستقرار بالقرار من خلال وحدة سرية .

وهذه القضايا الداخلية جعلت الجماعة عرضة لممارسات عبد الناصر . فالسنوات التي أعقبت حادثة المنشية كانت بمثابة استفاقة غير سعيدة للإخوان اللذين ساعدوا عبد الناصر بعد ثورة 1952 وقد أخذوا سنوات للاستفاقة من هذا الطابع اليائس الذي سيطر عليهم والذي جعل الجماعة تنهار . ومع ففي العام 1957 و1958 تغير الوضع بشكل مفاجئ ولاحت بوادر العودة . ومن ضمن هذه البوادر كان سيد قطب ، وشكلت شبكة اتصالات لتمكن من التواصل ومناقشة أفكار سيد قطب. فبالطبع قد وصلت أفكار سيد قطب إلي المسجونين من الإخوان المسلمين وكذلك التنظيمات الموجودة خارج أسوار السجون .

وقد حاز تطوير الأيديولوجية الشخصية لقطب علي موافقة الإخوان لأنه كان يدعوا للإفراج عن الإخوان ، والذين بدئوا في إعادة تجمعهم وتضامنهم بحلول عام 1958 . وقد أعاد التصلب المذهبي لتلك الجماعة الجديدة فكرة المقاومة وإعادة البناء .

وذلك في كتابه "معالم في الطريق" والذي يميز بين الحق والباطل سلطة الله والمجتمع الجاهلي . وقد طلب من قطب أن يتولي منصب المرشد للجماعة . والجدير بالذكر أن إعادة إحياء الجماعة بعد إشرافها علي الانهيار كان من أهم اهتماماتهم . وغيرت الأوضاع مرة أخري عندما تعرضت الجماعة للاعتقالات بتهمة تدبير مؤامرة ضد الدولة وقامت حملة اعتقالات واسعة عام 1965 وامتلأت السجون بأعضاء الإخوان . وبالرغم من وجود تطابق في الحالتين إلا أن الإخوان كان وضعهم قد تغير ، وأفكار سيد قطب قد غرست فكرة المقاومة . والعديد من التقارير التي وجدت في هذه السنوات تصف المعتقلين بالأبطال .

وقد وزع الأعضاء الأقل رتبة علي سجن طره حيث كان الهضيبي ورفاقه موجودون ، ولم يحدث هذا من قبل . وقد وصل الحوار والجدال إلي ذروته في عام 1967 . فقد ووجهوا بأسئلة حول الولاء الوطني خلال وبعد الحرب ، وقد تحولت الجماعة القطبية المتطرفة عن الإخوان المسلمين . وبهذا الموقف قام مكتب الإرشاد بقيادة حسن الهضيبي بمواجهة التحدي وإقناع عدد كبير من الأعضاء بالالتفاف حول قيادة الإخوان المسلمين .

أما كتاب " دعاة لا قضاة " فقد جاء كنتيجة مباشرة للحوار ويعكس وضع قيادة الجماعة ، والتي اتخذت موقفا صريحا ضد التطرف ، حتى الآن . وقد أعد الكتاب من قبل ثقات حول الهضيبي ونشر بعد ذلك باسمه ، وساهم كذلك علماء الأزهر باستشاراتهم ، وقد كانت مشاركتهم بمثابة مؤشر لبداية التحاور بين السلطة والإخوان .

وبتحكم السلطة الشديد في المؤسسات الدينية ، فإنه من الغريب عدم معرفة عبد الناصر بالتعاون بين الإخوان وعلماء الأزهر .