حول إصلاح الأمم المتحدة والعدالة المفقودة!!

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حول إصلاح الأمم المتحدة والعدالة المفقودة!!

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..!!

فإن الحديث عن الإصلاح وتقديم المبادرات من أجله- على اختلافِ مصادرِها، وتباينِ بواعثِها ومقاصدِها، واتساعِ مجالاتِها- قد بات حديثًا معادًا تلتذُّ به نفوسُ طائفةٍ من البشر المحرومين والمضطَّهَدين البائسين، أو المثاليين الآملين، وبخاصةٍ أن أصحابَه يبشرون بقيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان وخير البشرية، في حين يرتاب منه آخرون، ويؤثرون جانب الحَذَر والحَيطة، وبخاصةٍ أنه يصدر عن دول ذات تاريخ استعمارى بَغيضٍ، وسجلٍّ وافر في تأييد الأنظمة الديكتاتورية، وإطالة أمد بقائها بكل ما تمثله من استبداد وفساد.. وعلى ذلك قد يصبح الحَذَر والحَيطة تربصًا وارتيابًا.

وفي منطقتنا العربية والإسلامية لا تكاد تمضي عدة أسابيع إلا ونستمع إلى مبادرة جديدة من مبادرات الإصلاح، فقد بلغت- وِفق بعض الإحصائيات- اثني عشر مبادرة في سنة واحدة!! وشعوبنا من أكثر شعوب الأرض حاجةً إلى الإصلاح وتطلُّعًا إليه؛ فهي تشتاق إلى الحرية السياسية بعد عقود من الاستبداد والقهر، وإلى العدالة الاقتصادية بعد نهب منظَّم ومستمر لثرواتها، وتوزيع غير عادل لها، وأمتُنا تحتاج إلى إصلاح تعليمي وتقني يقلص الفجوةَ بينها وبين العالم المتمدِّن، ويعمِّق هويتها، ويهيئ لها الانتفاع بما أودعه الله فيها من خيرات وهُدى، وإلى توافق اجتماعي يقوي نسيج شعوبها وطوائفها وجماعاتها.

لكننا نريد في الوقت ذاته أن يكون الإصلاح المنشود نابعًا من داخلنا، منسجمًا مع عقيدتنا وتراثنا، ليس مفروضًا من أعداء أمتنا الذين ساموها الخسفَ والنَّكالَ، ولا يستهدف الضغطَ على حكوماتها الهَشَّة والمذعورة؛ بغيةَ تهديدها وابتزازها؛ لتقدم مزيدًا من التنازلات التي لا تُشبع نهْمَ الصهيونية العالمية والأطماع الأمريكية، وعلى ذلك فالإصلاح ليس منحةً موهومةً لشعوب ينبغي أن تدفع استحقاقَه ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، وأن تدرك أن الحقوق- على مدار التاريخ- تُنتَزعُ من غاصبيها ولا توهَب، سواء أكان الغاصبون من داخل الأمة أم من خارجها.

وفي ذات السياق تأتي الدعوة لإصلاح الأمم المتحدة، وهي دعوة جديرةٌ بالتأمُّل، فبعد عقود من الزمن أدرك العالَم أن ذلك الكيانَ الكبيرَ- الذي سارعت دول العالم جميعها إلى الانضمام إليه، والانضواء تحت لوائه- بات لا يحقق المقصدَ منه ولا الآمالَ التي عُقدت عليه والمهامَّ التي أُنيطت به، وعلى رأسِها حفظُ الأمن والسلم الدوليين.

إن ميثاقَ الأمم المتحدة- الذي يحوي بين نصوصه مجموعةً من أنبل وأعظم المبادئ والغايات- عَصفت به تلك الثغراتُ المُفزعةُ في تكوينه المؤسَّسي، الذي كرَّس الأنانيةَ والأثَرةَ السياسيةَ حين ارتضى أن تتحكَّم في قراراتِه مجموعةٌ من الدول الكبرى ذات الأهواء والمطامع لا يزيد عددُها عن أصابع اليد الواحدة، وفي فترة الحرب الباردة التي تلت تأسيس المنظمة الدولية شُلَّت فاعليتُها في كثير من النزاعات الدولية الخطيرة؛ بسبب امتلاك القطبَين الكبيرَين- الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي- حقَّ النقض (الفيتو)، الذي يهدرُ حين استخدامِه آراءَ أغلبيةِ دول المنظمة في اعتداء سافر على مفهوم الديمقراطية والحرية الذي قامت عليه الأمم المتحدة، وأُسِّست بزعم تدعيمه وترسيخ وجوده.

أما في الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وانفراد الولايات المتحدة بالقوة.. فقد زاد حال المنظمة العالمية بؤسًا وشقاءً؛ حيث أصبحت- باعتراف العالم كله- مطيةً لإرادة القطب الأوحد، يحركها كيف شاء، ويستصدر منها ما يناسبُ رغباتِه، ويحقق طموحاتِه، وينفذ خططَه ورؤاه للعالم، وحين لا تستطيع الولايات المتحدة تحقيقَ مرادِها من الأمم المتحدة وباسمها فإنها لا تتورَّع عن تجاوزها، والتصرف بمفردها، بعيدًا عما "تطنطن" به من دعاوى الشرعية الدولية والقانون الدولي، وبما يتناقض مع أسس الشرعية ومبادئ القانون!! وحالة العراق وغزوه الغشوم شاهدُ صدقٍ لا يكذب على ذلك.

وفيما يتصل بعالمنا الإسلامي فإن السجلَّ السياسي للأمم المتحدة يبدو كالحًا وبغيضًا، فبعد بضع سنوات من تأسيسها حلَّت الكارثةُ بفلسطين ، وانتَزَعت أراضيها عصاباتُ الصهاينة التي هوَت إليها من كل سبيل، وفي تآمر دولي واضح صدر قرارُ تقسيم فلسطين بين أهلها والغاصبين الجدد في نوفمبر سنة 1947م، ثم اعترفت المنظمة الدولية بالكيان الصهيوني عضوًا مستقلاً ودولةً ذات سيادة في العام التالي؛ لتقنن السيطرة على أراضي الآخرين بالقوة، وهو ما يناقض صراحةً نصوصَ ميثاقها الذي قامت عليه.

وقد صدرت عشراتُ القرارات من هيئات الأمم المتحدة ومنظماتها تُدين الكيان الصهيوني، وتدعو إلى انسحابه من الأراضي العربية التي احتُلت بعد عدوان يونيو 1967م، لكن "الفيتو" الأمريكي ظل حاميًا للعدوانِ ودولتِه من قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة؛ ليزداد الصلف الصهيوني همجيةً وطغيانًا، ودمويةً وإرهابًا.

وما حدث من مأساةٍ في فلسطين.. وما زال يحدث تحت سمع وبصر المنظمة الدولية العاجزة.. حدثَ مثلُه في قضية كشمير التي صدر قرارٌ من الأمم المتحدة يؤكد حقَّ شعبها في تقرير المصير، لكنَّ الهند- المحتلةَ أراضي كشمير- صمَّت أذنيها عن ذلك القرار، وضربت به عرض الحائط.

واحتُلَّت أفغانستانُ المسلمةُ مرتين تحت سمع وبصر- أو لنقُل عجز- الأمم المتحدة، الأولى كانت بفعل الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، والثانية منذ سنوات قليلة بفعل الولايات المتحدة.. وفي البوسنة والهرسك كان الصرب والكروات يرتكبون مجازرَهم التي يَندَى لها الجبينُ تحت سمع وبصر قواتِ حفظ السلام الدولية، التي لم يتورَّع بعضُ أفرادها عن مشاركتهم في مخازيهم الأخلاقية في بعض الأحيان.. أما مأساةُ العراق والاحتلال الأمريكي البريطاني له- بالرغم من اعتراضِ مجلسِ الأمنِ وغالبيةِ دولِه- فما زالت حديثَ الساعة والجرحَ الأليمَ الذي لم يندمل..!!

إن سياسة الكيل بمكيالين- التي اشتهرت بها الولاياتُ المتحدة في الفترة الأخيرة- غدَت طابعًا يصمُّ تحركَ المنظمة الدولية تجاهَ عديدٍ من قضايا المسلمين، فالملف النووي الصهيوني لا تستطيع المنظمةُ الدوليةُ ولا الوكالةُ الدوليةُ للطاقة النووية- التابعة لها- أن تقترب منه، في حين تتضاعف التهديداتُ لإيران؛ بسبب خططها النووية التي لم تصل بعد إلى حيِّز التنفيذ، والتحرش بالسودان والضغط عليه فيما يتصل بقضية دارفور وحقوق الإنسان فيها على قدم وساق، في حين تتم عملياتُ الإبادة لأهالي الفلوجة وغيرها من مدن العراق دون كلمةِ إدانةٍ من المنظمة الدولية، أو بادرةِ اعتراضٍ.. ناهيكَ عما يرتكبه الصهاينة ليلَ نهارَ من جرائمَ في فلسطين .

ونحن مع ذلك لا نستطيع أن نغفل الدورَ الإيجابيَّ للأمم المتحدة ومنظماتها في النواحي الإغاثية والثقافية والإنمائية، وهو دورٌ لنا عليه بعضُ المؤاخذات، لكنه في النهاية يمثِّل جهدًا بشريًّا تضامنيًّا غير منكور.. أما المؤاخذةُ فمصدرُها أنَّ عجزَ المنظمةِ الدوليةِ أو تواطؤَها هو السبب في هذه المآسي الإنسانية التي تحاول المنظمةُ نفسُها التخفيفَ عنها، أو معالجةَ بعضِ آثارها، فالتخفيفُ من معاناة اللاجئين الفلسطينيين مثلاً هو فرعٌ للمأساة الفلسطينية التي شاركت الأممُ المتحدةُ في صنعها وإخراجها.

إن فكرة امتلاك خمس دول كبرى- لها مصالحُها وأهواؤها- حقَّ النقض (الفيتو) ضدَّ إجماع بقية دول العالم هي فكرة تتناقض مع مبادئ الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الشعوب، التي قامت الأمم المتحدة للتبشير بها، كما أنها تتناقض مع مبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، وهو أمر ينبغي على الدول الإسلامية- أعضاء المنظمة الدولية- الالتفاتُ إليه والتنبيهُ الدائمُ عليه.

لقد جعل الإسلام العدلَ أساسًا من أُسُسِه.. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ (النحل: 90)، وهو مبدأ لا يقبل المساومة أو النسبيةَ أو التلوُّن..﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: 2) ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ (النساء: 135) ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ (الأنعام: 152)، وقد حارب الإسلامُ الظلمَ بكل أنواعه، ومن باب أولى الظلم السياسي، الذي يتجاوز نطاق الأفراد إلى نطاق الأمم والشعوب والجماعات، والظلم في المفهوم الإسلامي باب الهلَكَة والبَوار.. ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ (الكهف: 59)، وقد بالَغ الإسلامُ في التحذير منه.. ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ (هود: 113).

وكذلك فإن الحريةَ هي شعارُ الإسلام، ولولا الحريةُ الفرديةُ لما كان هناك معنًى للحساب الأخروي، وتأتي حرية الاعتقاد على رأس ذلك.. ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29)، وقد قالها عمر بن الخطاب مدويةً: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا"؟! وتؤسَّس الحريةُ في الإسلام على المساواة في أصل الخلق.. ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)، وأن لا تَفاضُل بين الناس إلا بمقدارِ تقواهم لله.. ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13).

إن قيمَ الحرية والمساواة والعدالة هي مقومات أساسية للدولة الإسلامية، التي يُفترَض أن تكون حارسةً لهذه القيم، ومدافعةً عنها، وهي قيمٌ تمتازُ بالتحرر من النسبية والانتهازية والعنصرية، فهي مِلكٌ للبشريةِ كلها، وبخاصةٍ تلك الأمم المستضعَفَة التي ضُيِّعت حقوقُها وسُلِبَت إرادتُها، والتي يجب أن تجد في دولة الإسلام نصيرًا وحاميًا.. ﴿وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ (النساء: 75).

وإذا كنا نقول إنه آنَ الأوان لتحويل شعارات الإصلاح- التي تملأ الغلاف الجوي لكوكبنا البائس- إلى حقيقةٍ تسعد بها البشرية.. فإننا نقول إن الإصلاحَ الحقَّ في أرض الناس لن يكون بمعزِلٍ عن شريعة الله ودينه الذي ارتضاه لعباده، وإن العالَمَ الإسلامي الذي عانى المظالمَ والطغيانَ هو الأجدرُ بأن يُصلِحَ من شأنه، ويقدم رؤى الإصلاح الرباني للعالمين.. وهذا واجبُ حكامِنا ومحكومينا على السواء، ومبدأ ذلك أن نصلح أنفسَنا وحكوماتِنا لتكون إسلاميةً بحق.. ترفع رايةَ الإسلام وتتبنَّى دعاوى الحق والعدل والحرية والمساواة.

نداء إلى حكام ليبيا وشعبها

لقد صدَمتْنا أخبارُ تأييد الحُكم الجائر، الذي أصدرتْه محكمةُ الشعب الليبية ضد جماعة من الدعاة الإسلاميين هناك، والقاضي بإعدام اثنين من أساتذة الجامعات، والسجن المؤبد على ثلاثة وسبعين، والسجن عشر سنين لأحد عشر آخرين، وهي أحكامٌ صادرةٌ من محكمة استثنائية لا تتوافَر فيها شروطُ الحيدة والعدالة، التي يجب أن تتوافر في القضاء، والعجيبُ أن تَصدُر مثلُ هذه الأحكام في ليبيا التي ترأَس حاليًا لجنةَ حقوق الإنسان بالأمم المتحدة!!

وإننا لنرجو أن يتنبَّه الرئيس الليبي إلى خطورة ذلك الأمر- قبل أن يُصدِّق على هذه الأحكام- وتداعياته على حاضر البلاد ومستقبلها وسُمعتها الدولية، وله في التاريخ عبرةٌ، فكم من الدعاة إلى الله عُلِّقت لهم أعوادُ المشانق، وغُلِّقت عليهم أبوابُ المعتقلات والسجون، فما ماتت فكرتُهم، ولا ضعُفَت دعوتُهم، في الوقت الذي زالت فيه حكوماتٌ ونُظُمٌ، وظلَّت دعوةُ الله خالدةً باقيةً تنعقد حولَها الآمالُ، وينحني إجلالاً لها العارفون.

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21)

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

القاهرة

في: 26 من شوال 1425هـ

9 من ديسمبر 2004م