زوجة جودة شعبان

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
السيدة زينب حسانين .. زوجة الأستاذ جودة شعبان

زوجة جودة شعبان .. شاهدة على مذابح عبد الناصر

الأستاذ جودة شعبان

إن الإنسان يولد في هذه الدنيا بغير إرادته، ثم يعيش فيها طفلاً، ثم صبيًّا، ثم رجلاً، ثم شيخًا، ويعمل في حياته هذه كل الأفعال من خير أو شر، ثم يموت، فما مغزى هذه الحياة؟ وما معناها؟ وما الهدف منها؟

إن الله قد خلق هذا الخلق جميعًا لعبادته؛ فنحن جميعًا مؤمنون بأن هناك إلهًا خالقًا عظيمًا، خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق هذه المخلوقات جميعًا منذ آدم وحتى نهاية العالم لتسبحه وتعبده، ولقد قال -سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات)، وفي آية آخرى قال: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ (الإسراء)

إذًا نحن لم نخلق عبثًا لنأكل ونشرب ونلهو ثم نموت وينتهي الأمر، كلا إن رسالتنا أن نعبد الله الذي خلقنا ووهب لنا هذه الحياة، ووهب لنا هذه الحواس من بصر وسمع وشم، وسخر لنا كل هذا العالم بكل خيراته ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم)، وإن أعظم النعم جميعًا هي نعمة العقل التي ميز الله بها الإنسان عن باقي المخلوقات، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾ (الروم).

ولقد أدرك الإخوان المسلمون هذه المعاني، فربوا رجالهم ونساءهم عليها، فكانوا نموذجًا يحتذى به في الأخلاق ومعاني الإنسانية والصبر والصمود والتضحية من أجل الفكرة.

وكانت زينب السيد حسانين إحدى الذين سطروا هذه المعاني في صحائف التاريخ بمداد من نور.

من الميلاد إلى طريق الدعوة

في حي الحلمية الجديدة والتي شهدت أرضه تمركز دعوة الإخوان المسلمين حيث كان المركز العام للإخوان موجودًا به كما أنه الحي الذي شهد أحداثًا جسامًا حدثت لدعوة الإخوان المسلمين، مثل صدور قرار حل الجماعة وهي في هذا المكان عام 1948م بعد أن خرّجت جنودًا عرفوا معنى الرجولة، وأبلوا بلاءً حسنًا في فلسطين، كما أنه الحي الذي شهد هجوم عصابة جمال عبد الناصر عام 1954م على المركز العام، وقاموا بحرقه بما يحوي بين دفتيه من مصاحف ومخطوطات وكتب نادرة.

في هذا الحي ولدت هذه الزهرة التي كانت شاهدة على أحداث ذلك العصر وما جاء بعده، كما أنها كانت ضمن الذين ذاقوا التعذيب على أيدي جلادي عبد الناصر.


ففي أكتوبر 1933 ولدت زينب حسانين لأب متوسط الحال، فكان يعمل في صيدلية، وكان لها ثلاثة من الأخوات أكبرهن كانت السيدة، وكانت هي أوسطهن، والصغرى كانت نفيسة، وقد اعتنى الأب بتربية بناته تربية إسلامية فأكرمهن واعتنى بهن طمعًا في أن تصيبه دعوة رَسُولُ اللهِ (ص): «مَنْ عَالَ ثَلاَثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَرَحِمَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ» الحديث أخرجه أحمد في «مُسْنَدِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (ص)»، ح(11488) وأبو داود في «الأَدَبِ»، باب: «فِي فَضْلِ مَنْ عَالَ يَتِيمًا»، ح(4481)".

كما أنه حرص على تعليمهن القرآن، ومع هذا الحرص الشديد لم تنل الحاجة زينب قسطًا من التعليم بسبب وضع المرأة في هذا الزمن، وقلة تعليمهن بسبب العرف السائد، وسوء الحالة الاقتصادية التي خلفها المحتل الإنجليزي، غير أنها أجادت القراءة والكتابة. (1)

ترجع أصول عائلتها لقرية الصنافين، والتي تتبع مركز منيا القمح بمحافظة الشرقية، وهي نفس البلدة التي ولد فيها زوجها الأستاذ جودة محمود شعبان (والذي ولد في 14/4/1926م)، وكان وحيد والديه، وحصل على الابتدائية.

لكنه ترك التعليم وعمل مع والده في محل البقالة الذي كان يمتلكه، ضاقت به سبل العيش في قريته فخرج إلى القاهرة عام 1945م بحثًا عن عمل, فنزل شبرا الخيمة حتى وفقه الله للعمل في مصنع صباغة وتجهيز بشبرا الخيمة، تعرف على دعوة الإخوان عام 1948م على يد المهندس صلاح العطار،

وكان أحد الإخوان الذين تم تعيينهم في المصنع مهندسًا، وفي أثناء فترة الأستاذ الهضيبي دعي للاشتراك في النظام الخاص، غير أنه لم يحدث بسبب تدافع الأحداث، وبعد حادث المنشية نشط مع إخوانه في رعاية أسر المعتقلين وتمويلهم حتى تم اعتقاله في مارس 1955 وزج به في غياهب السجون، وحكم عليه بعشر سنوات شاقة قضاها كلها في سجون مصر حتى خرج في مارس 1965م.

وكان أحد شهود العيان على مذبحة طرة، والتي حدثت في أول يونيو 1957م على يد زبانية عبد الناصر ضد الإخوان العزل في سجن طرة، وبعد خروجه لم يقض فترة كبيرة في الخارج فاعتقل فى أغسطس 1965م وقدم للمحاكمة في قضية تنظيم السجون، ولم يخرج من السجن إلا في أغسطس 1971، وفى هذه الفترة لم يلن ولم تخط يده تأييدًا لعبد الناصر، بل كان مثالاً للمسلم الصابر الذي اشترى آخرته بدنياه، وانتقل من سجن القلعة إلى سجن أبي زعبل، ثم مزرعة طرة". (2)

في عام 1950م تعرف الأستاذ جودة عليها عن طريق ابنة عمه وسرعان ما تم الزفاف، وأنجب منها نادية في يونيو 1951م، ثم علية في أغسطس 1955م، ثم ياسر عام 1965م، ثم عمرو عام 1974م، وقد اجتهدا في تربية أولادهما على نهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله سلم.

وبعد زوجها تعرفت على دعوة الإخوان عن طريق زوجها، فنشطت وسط أخواتها بشبرا، وقد ساعدها على ذلك أن زوجها أحد الإخوان المسلمين، وبرز دورها ونشاطها مع الحاجة أم أحمد (فاطمة عبيد والتي تحدثنا عليها من قبل)، وزاد من حبها واندفاعها للعمل هو انضمام أم زوجها الحاجة (عالية السيد حسن) لدعوة الإخوان، فكانتا تعملان بهمة ونشاط وسط الأخوات.

الزوجة والأم في وجه المحن

منذ أن انضمت الزوجة وأم الزوج إلى دعوة الإخوان وهن قد حملن على عاتقهن العمل وسط المجتمع النسائي، ولم يقتصر دورهن على ذلك، بل قامتا على رعاية الأرامل والأسر اليتيمة التي فقدت عائلها، وعندما حدثت حادثة المنشية سارعن بوضع كل إمكانياتهما تحت تصرف السيدة الفاضلة أم أحمد.

كما وضع الزوج نفسه أيضًا تحت تصرف الدعوة، وأخذوا يجوبون شبرا الخيمة يبحثون عن الأسر التي غاب عائلها لرعايتها وتفقد أحوالها وإمدادها بما يعينهم على نوائب الحياة، خاصة وأن عبد الناصر قد قطع مرتباتهم، لكن سرعان ما اكتشف عبد الناصر هذا التنظيم والذي سمي بتنظيم التمويل.

وقبض على زوجها في مارس 1955م، ونال من التعذيب الكثير حتى إنه كان أحد الذين شهدوا مذبحة طرة عام 1957م، بل أصبح أحد الناجين من رصاصات الغدر التي أزهقت أرواح الكثيرين من الإخوان، ومع هذه الأخبار التي يشيب لها الولدان كانت الزوجة والأم نعم الصابرين، فنشطن بالرغم من ذلك في رعاية الأسر، واستمرت قافلة العطاء حتى خرج كثير من الإخوان الذين لم يأخذوا أحكامًا أواخر عام 1956م، فشاركهن العمل ورعاية الأسر.

كانت الزوجة صابرة فقامت برعاية أولادها وتربيتهم، وكانت تنفق عليهم من أموال أهلها خاصة بعد أن قطع عنها مرتب زوجها، وظلت ترعى بيتها ودعوتها مدة عشر سنوات، وهي المدة التي قضاها زوجها خلف القضبان.

كانت الحاجة زينب حسانين إحدى اللائي حدثت مذبحة طرة أثناء زيارتهن، يقول الأستاذ جودة:

"وقبل يوم المذبحة جاءت زيارة لمجموعة إخوان ، وكانت من أكبر الزيارات، وكنت واحدًا من المطلوبين للزيارة، وقد جاء أهالينا ببعض الطعام وكان أهلي معهم، وكان من ضمن الذين أخذوا طعامًا الأخ عبد الغفار السيد.
وفجأة ظهر الضابط عبد الله ماهر ودفع الأخ فأوقعه في صورة مستفزة، ولم يقتصر على ذلك بل قام بضرب أم أحد الإخوان، ثم أنهى الزيارة، وسارع إلى الإدارة وقال: إن الإخوان اعتدوا عليه، وكأن الأمر مبيتًا، فانتفضت الإدارة لتنفذ ما اتفق عليه مع السادة من قبل.
وجاءوا وقالوا: من أخذ شيئًا فليركن على جنب، فخرجت ومعي بعض الإخوة، فأمر بأخذنا إلى عنبر التأديب، وساقوا أهلنا إلى قسم المعادى مرفقًا معهم مذكرة يقولون فيها: إنهم أدخلوا ممنوعات للسجن، غير أن النيابة أفرجت عنهم"، ويقول عنها الأستاذ جابر رزق:
"لقد أقيمت المذبحة في أول يونيو 1957م لمائة وثمانين من الإخوان المسلمين هم الذين بقوا في سجن ليمان طرة بعد ترحيل إخوانهم إلى سجن المحاريق وبني سويف وأسيوط وغيرها من السجون". (3)

وسط الجحيم

لم يمنعها غياب الزوج عن العمل الدعوي؛ فقد قامت بما كلفتها به الحاجة أم أحمد من أعمال، بالرغم من أن المباحث العامة كانت ترصد تحركاتها إلا إنها لم تهتز ولم تتزعزع.

لقد جُنّ جنون عبد الناصر عندما علم أن للإخوان تنظيمًا؛ فقد كان يظن أنه قضى على كل الإخوان حتى إنه أصبح يصرخ في وجوه المخابرات صرخات محمومة جنونية: "كيف يسرقوا مني جيل الثورة، قباني بائع قطن (يقصد الشهيد عبد الفتاح إسماعيل)، وامرأة يعني (زينب الغزالي)، واضطرب كيانه وساءت صحته، وخارت قواه العقلية والعصبية مما اضطره أن يذهب إلى روسيا حيث الحمامات الساخنة والجلسات الكهربائية، وبعد أن أمسك بأنفاسه في روسيا أعلن من فوق قبر لينين: (لقد اكتشفنا مؤامرة للإخوان المسلمين، ولئن عفونا المرة الأولى، فلن نعفو المرة الثانية)، وأعطيت الأوامر المشددة فكان التعذيب الرهيب الذي استمر قرابة عام أثناء التحقيق". (4)

لم يترك عبد الناصر أحدًا من الإخوان سواء رجالاً ونساء فأصدر قراره باعتقال كل الإخوان وكل من صدر اعتقاله، فأخذت سيارات المباحث العسكرية والمباحث العامة تلهب الطرق بعجلاتها للقبض على الإخوة والأخوات.

فنالت شبرا نصيبًا كبيرًا من الاعتقالات، وكانت السيدة زينب السيد حسانين (الزوجة) والسيدة عالية السيد حسن (والدة الأستاذ جودة شعبان) واعتقلت لأن أحد الضباط حضر لاعتقال زوجة ابنها جودة بعد اعتقاله في أغسطس 1965م، وناقشته عن سبب اعتقال السيدة زينب السيد حسن زوجة ابنها وهي أم لأولاد صغار (نادية 14 سنة، علية 11 سنة) فضلاً عن رضيع عمره أربعين يومًا (ياسر جودة شعبان)

فما كان منه إلا أن اعتقلها هي أيضا، وبهذا صار المعتقلون من عائلة المجاهدجودة شعبان أربعة هم:

جودة شعبان (35 سنة - العباسية)، والدته عالية السيد حسن (65 سنة وقت الاعتقال لكنها خرجت بعد شهرين بسبب مرضها وتوفيت عام 1981م)، وزوجته زينب السيد حسانين (35 سنة)، وطفله الرضيع ياسر (40 يومًا)، وتم القبض على السيدتين في الثانية بعد منتصف الليل بصورة مفزعة ومرعبة، وكانت لا تزال في فترة النفاس بعد الولادة، وتم اقتيادهما إلى قسم السيدة زينب حيث تم ترحيلهما بعد ذلك إلى معتقل النساء في سجن النساء بالقناطر.

وتحكي السيدة زينب السيد حسانين عن ليلة القبض عليها فتقول:

في عام 1954 قُبض على زوجي جودة شعبان، وحاكموه محاكمة ظالمة وحكموا عليه بالسجن 10 سنوات أشغالاً شاقة، ويومها كان عندي نادية وعمرها 3 سنوات، وكنت حاملاً في ثلاثة شهور، وبعدها بستة أشهر وضعت مولودتي الثانية (علية) في عام 1955م، وجاءت حماتي وأقامت معنا للمعاونة في رعاية الطفلتين، ويعلم الله كم قاسينا وعانينا في تلك الفترة بعد أن أوقفوا صرف مرتبه بعد سجنه، ولم يتركوا لنا موردًا نعيش منه..
لكن الله عز وجل كفانا وآوانا وأطعمنا وسقانا، بحوله وقوته.. وكم لا كافي له ولا مأوى!! .. وعشنا هذه السنوات العشر على أمل اللقاء مع الزوج بعد الصبر الطويل والمعاناة والجري وراءه في السجون .. الحربي ليمان طرة سجن الواحات سجن المحاريق سجن القناطر..
وكنا نعيش الأخبار بمرها وعلقمها، ومعاناتها.. وطال الصبر وخرج الزوج، وسعدنا به أيامًا قلائل.. وفجأة وبعد عدة شهور قبضوا عليه في منتصف الليل بصورة لا تقل بشاعة ولا فظاعة عما كان في عام (1954) .. دون سبب ودون جريمة إلا أن يقول: (ربي الله)..
فأيقنت أن لا راحة في الدنيا لمن يسير في هذه الطريق، وأن الثبات على هذا المبدأ ليس مجرد كلمة تقال، أو حتى عزيمة يعزمها ويصر عليها صاحبها.. ولكن الثبات معاناة، وألم، وفراق، وقسوة، ومشقة.. ولكنا كنا قد تعودنا وتعلمنا الرضا بقضاء الله.. وأيقنا أن المطلوب ليس مجرد الرضا فقط، ولكن المطلوب دوام الرضا.. واستمرار الرضا.. بل والاستعداد بسلاح الرضا، في مواجهة المزيد من الإرهاب والضغط والتنكيل..
ولا ينفع مع هذا الموقف سوى اليقين بأن الله يرى .. ويطلع ويشاهد ويعلم.. بل واليقين بقوله -عز وجل: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد: 4). هذا اليقين الذي نبه عليه رسول الله حبيبه أبا بكر في أحلك المواقف في الغار بقوله: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" ونزل في هذا الموقف قوله عز وجل: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ (التوبة: 40).
... نعم..... الله..... ثم الله... ثم دع الوجود وما حوى.
ففي مواجهة هؤلاء الطغاة فقد تفقد كل شيء، ولكنك لا تفقد الله أبدًا.. وما وجد من فقد الله... وما فقد من وجد الله.
وبكيت أنا وأمه ليلة القبض عليه في المرة الثانية ما لم نبك من قبل وبكت الطفلتان "نادية" (15 سنة)، "عليه" (10 سنوات) هلعًا ورعبًا من فزع منظر القبض على الوالد الحنون العطوف.. الذي لم تشبعا من حنانه وعاطفته وأحضانه بعد.. فهما لم يتذوقا عاطفة الأبوة سوى شهور قليلة بعد حرمان طويل..
ولم نفهم شيئًا عن سريان تلك الأحداث ولا سبب القبض عليه، أقصد السبب المادي، لكن السبب الحقيقي هو ما جاء في سورة البروج ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (البروج: 8).. ولم نكن نعلم أن الأقدار تخبئ لنا مزيدًا من الامتحان والابتلاء.. فأنت كلما نجحت في امتحان (الابتلاء).. ترقيت في سلم الشهادات الإيمانية.. جاء الامتحان من الأعلى والأصعب.. نسأل الله أن يكون هذا ترقية عنده سبحانه ورفعة في الدرجات، ومحوًا للذنوب والخطايا..
قبضوا على زوجي بعد ولادتي ولدي "ياسر" الذي فرحنا به فرحًا غامرًا.. وما كادت عينا زوجي تكتحلان برؤية ولده الذي جاء بعد طول انتظار حتى تم القبض على زوجي.. فرضينا بقضاء الله وقدره.. حتى جاءت ليلة ليلاء.. وفي منتصف الليل وجدنا الباب يقرع بشدة، ويكاد يتحطم من شدة وغلظة من يقرعه.. ودار هذا الحوار معهم:
  • من بالباب؟!
  • افتحي وإلا سأكسر الباب.. إحنا الحكومة.
  • لقد قبضتم على زوجي.. فماذا تريدون ؟!
  • وارتديت ملابسي وحجابي وفتحت الباب، ووقفت أنا وحماتي مشدوهتين، مذهولتين.. ورأينا مخبرين.. طوالاً.. عراضًا معهم ضابط.
  • عاوزين إيه ؟!
  • عايزين نقبض عليك إنتِ !!
  • لماذا ؟!
  • مافيش داعي لكثرة الكلام.. مطلوب القبض عليك.. إحنا بنفذ الأوامر.
  • وهنا تدخلت حماتي التي تقيم معنا (والدة الأستاذ جودة شعبان).
  • وهي عملت إيه.. ما أنتم أخذتم زوجها تاني.. إيه الظلم ده!! هي معها أولاد صغار كيف تتركهم ؟!
  • الضابط: وإنت كمان مقبوض عليك، البسي ملابسك فورًا بدل البهدلة.
  • فقلت لهم (في ثبات): عندي بنتان صغيرتان نائمتان داخل البيت.. وأمي تسكن قريبًا منا.. تسمحوا لي أوصل البنتين إلى جدتهم.
  • الضابط.. لا.. اتركيهم هنا للصباح .. إحنا سنأخذ كلمتين وبس في القسم.. ما فيش مناقشة.

وقمت بتغطية البنتين في فراشهما وقلت لهما:

في الصباح تذهبان إلى جدتكما، وتخبرانها بما حدث.. والبنات تنظر في ذهول من هول ما تريان.. ولكني استدركت أن معي ياسر ابني.. فقلت لهم: لا يمكن أن أترك الطفل الرضيع وعمره أربعون يومًا فقط وحده.. ففكر الضابط مليًا.. ثم أجاب: أحضريه معك إلى قسم السيدة ..
فذهبت أنا وابني الرضيع الحديث الولادة (ياسر) ومعي حماتي وركبنا معهم عربة الترحيلات التي لا تليق بالآدميين، وذهبنا إلى قسم السيدة زينب.. وهناك في تخشيبة قسم السيدة وجدنا الأخت الحاجة "أمينة الجوهري" حرم الأستاذ محمود الجوهري أمين عام قسم الأخوات المسلمات (قبل عام 1954م)..
ثم دخل علينا في التخشيبة أربعون شابًا وشيخًا من الإخوان المسلمين.. وبعد قليل تم ترحيلنا في الفجر إلى معتقل القلعة حيث التعذيب الرهيب.. ومررت أنا ورضيعي وحماتي على مشاهد التعذيب البشعة.. ثم وضعونا ومعنا الأخت أمينة في زنزانة مظلمة، ومن فضل الله أن الطفل الرضيع كان نائمًا طوال الوقت، وقالت لهم الأخ أمينة: إنها مصابة بذبحة صدرية.. ولكنهم لم يعيروها أي انتباه.. فالأرواح عندهم آنذاك لا وزن لها.
وبعد وقت قليل أخذونا ثانية نحن النساء ومعنا الرضيع في عربة لوري ظلت تمر على كل أقسام الشرطة بالقاهرة لتجميع المعتقلات من النساء، فجمعوا عددًا ضخمًا طوال النهار وجزءًا من الليل، ونحن قابعون في العربة.. ولا تسألني هل أكلتم شيئًا أو شربتم شيئًا.. أو ماذا فعل الرضيع.. وتنهدت وقالت: حسبنا الله ونعم الوكيل.. حتى صار الوصول إلى سجن النساء أملاً كبيرًا لنا.
وقضت في السجن مع رضيعها ستة أشهر حتى أفرج عنها، وظلت تنتظر زوجها حتى أفرج عنه أغسطس 1971م.

ما بعد المحنة

سعى زوجها بعد خروجه للعودة إلى عمله، وتحمل مع زوجته الصعاب ومواجهة الحياة حتى فتح الله عليهم من فضله، وعمل في مجموعة مصانع الشريف، وظل بها حتى بلوغه سن المعاش.

ونشط في العمل الدعوى مع إخوانه، وقام بمشاركتهم في تنظيم الأسر والكتائب منذ عام 1986، واعتبروه مسئولاً عن منطقة عين شمس، وما زال حتى الآن نهرًا من العطاء وسط شباب الدعوة رغم كبر سنه، وظل هو وزوجته متمسكين بدعوة الله حتى هذه اللحظات التي يحيونها وهم لا يضنون على دعوتهم بشيء ولا على إخوانهم.

الهوامش

  1. حوار أجراه الأستاذ عبده مصطفى دسوقي مع الأستاذ جودة شعبان يوم 7/11/2007م.
  2. جابر رزق: مذبحة الإخوان المسلمين في ليمان طرة، دار اللواء للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1421 هـ - 2001م.
  3. أحمد رائف: سراديب الشيطان، الزهراء للإعلام العربي.
  4. محمد الصروي: الإخوان المسلمون في سجون مصر ، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1427 هـ -2006م.

للمزيد

روابط داخلية

كتب متعلقة

أبحاث ومقالات متعلقة

.

تابع أبحاث ومقالات متعلقة

متعلقات أخري

روابط خارجية

مقالات خارجية

وصلات فيديو