صور من مواقف الأخت المسلمة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
صور من مواقف الأخت المسلمة

مقدمة

إن الثقافة الغربية قد واجهت العالم بسيل غامر من أحاديث أبطالها رجالا ونساء ، ونحن إذ نتحدث عن الفضليات من نساء المسلمين وبطولاتهن قديمًا وحديثًا ، نجد أنفسنا في جو مسموم قد امتلأت سماؤه بأسماء الغربيات ، ففي مدارسنا وصحافتنا وأجهزة إعلامنا لا يذكرون في سجل الخلود عندهم غير جان دارك ومدام كوري أو يتحدثون عن بعض أولئك المتطوعات من أسبانيا في حرب نابليون ، ولدينا في تاريخ الإسلام كله ذكريات حافلة بنجوم مشرقة من أولئك المجاهدات الصابرات الخيرات المستبسلات ، اللواتي وقفن حياتهن لإعلاء كلمة الإسلام ورفع رايته ، وناضلن إلي جانب الرجل في الحدود التي تسمح بها أنظمة الإسلام وتقاليده . وعندنا عائشة في العلم وأسماء في مواجهة الطغيان ، والخنساء ونسيبة في الفداء والاستبسال .

إن تاريخ الإسلام حافل بوقائع كلها عظمة لمسلمات خالدات تحيي في قلوبنا العز والفخر . ولكن آذاننا – واحسرتاه – قد أصيبت بصمم عن هذا التاريخ ، لأن أسماء أخري قد تكدست بها أفكارنا وعقولنا فأصبحنا لا نسمع طنينًا ولا دويًا ولا نصغي إلي صوت إلا إذا أقبل ذلك كله من ناحية الغرب .

إن في تاريخنا الحديث نساء مجاهدا مستبسلات علي طريق أسماء والخنساء ونسيبة نجل عن الحصر . ونحن في هذه العجالة نورد شواهد وأمثال صادقة لهذه النماذج النسائية التي شملها منهاج الأخوات المسلمات بالتربية والرعاية فغمر قلبها الإيمان وأشرق علي نفسها نور تعاليم القرآن فشاركت أخاها أو زوجها أو أبناءها رافعة معهم راية الدعوة إلي الله ، عاملة وإياهم علي مجابهة الطغيان .

هذه أم شاء الله لها أن تبتلي

هذه أم شاء الله لها أن تبتلي – كما ابتليت كثير من الأمهات معها – باعتقال ولدها الأكبر عام 1954 ، فما جزعت وما أصيبت بهلع الأم علي وليدها عندما يلحقه سوء ، بل كانت المسلمة المؤمنة الثابتة ، المدافعة عن الحق والفئة المؤمنة في هذه الأمة ، إذ طالمًا ردت سهامًا خسيسة من ألسنة المنهزمين والمنافقين ، حاولت النيل من المؤمنين المجاهدين خلف القضبان . فذكرتنا بتلك المرأة المسلمة التي واجهت الحجاج وزلزلت طغيانه وردته خائفًا مذعوراً وفي ذلك يقول الشاعر :

أسـد علي وفي الحروب العامة
فتخاء تنفـر من صفيـر الصافر

هلاّ برزت إلي غزاله في الوغى

بل كان فلبـك في جناحـي طائر

حتى إذا انقشعت الغمة ، وانتهت هذه المحنة ، فما زادها ذلك إلا صلابة ووعيًا بطبيعة هذه الدعوة التي كان ولدها واحداً من آلاف شبابها . ثم إن ما هوت ضربات الطغيان – لمرة أخري في عصر عبد الناصر – علي الإخوان المسلمين وجنودهم عام 1965 ، وكان ولدها – مرة أخري – من الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، رأيناها ثابتة الجنان ، رابطه الجأش ، قوية الإيمان ، عارفة بطريق أصحاب الدعوات ، فلم تقل إلا ما قالته أسماء في ولدها عبد الله بن الزبير وهو يواجه القتل : " اللهم قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت ـ فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين " .

وظلت ثلاثة أعوام لا تراه ولا تسمع إلا أخبار المذبحة الكبرى التي يخوضها الأنكال الأنذال مع العزل من خيرة أبناء هذه الأمة . حتى إذا سمع المهزومون في أعقاب نكستهم سنة 1967 بالزيارة ، تذهب إليه مع الزائرين لا لتقول إن قلبي ملهوف عليك وقد طالت المحنة ، بل لتشد علي يديه وتدعو له وتحثه علي الثبات ، وتوصيه بألا يهن أو يضعف . تقول له هذه ولا يبدو منها غير علامات الفخر والاعتزاز بابنها وبإخوانه فهم في عينها أمثلة صدق ورجولة . ولا تنتهي الزيارة إلا مع قولها له : إني لأدعو المولي سبحانه أن تكون يا بني آخر إخوانك خروجًا من السجن حين يأذن الله لكم بالخروج ، فأنك عندي لست بأفضل منهم .

وحين يتوفي والده رحمه الله ، وهو ما يزال بين جدران السجن ، تكتب إليه مواسية معزية ، تبلغه باعتزام زيارتها له – كالمعتاد – كي تراه " علي حد قولها " يستقبلها بابتسامة الرضا المعهود فيه ، وتروح إليه حين الزيارة لا ترتد سوادًا ، نقص أحداث الوفاة ، وكيف أنعم الله عليها من فضله رضا وطمأنينة : فلم تقم للنساء مأتمًا ولم يصدر ما يصدر من المؤمنات الصابرات المحتسبات .

وظلت علي هذا – يرحمها الله – تزوره وتكتب إليه وتحيي إخوانه حين زيارتها له ، وتبث فيهم الأمل والعزيمة وأنهم الغالبون ، حتى خرج ابنها مع آخر من خرجوا من المعتقل . تمامًا كما دعت المولي سبحانه فاستجاب دعاءها .

أخذت علي نفسها العهد أن تشارك إخوانها محنتهم

أخذت علي نفسها العهد أن تشارك إخوانها محنتهم ، فها هي تبادر إلي رعاية أسر المسجونين ، بأن تطوف علي بيوتهم مشرفة علي أبنائهم وبناتهم .. فذلك تتعهد شئونه في المدرسة أو الجامعة ، وتلك في مدرستها أو جامعتها ، وهذه تبحث لها عن أخ مؤمن يكون لها نعم الزوج البار الحنون ، وهي بين هؤلاء جميعًا تسدد الديون ، وتحضر كساء الشتاء والصيف ، وتسدد إيجار المنزل ، ولديها – بين حنايا صدرها – عناوين هؤلاء جميعًا ، وبيان واف بأحوالهم المعيشية والاجتماعية ، لا تنام إلا حين ينامون ، ولا تهدأ إلا بعد أن يجد كل بغيته واحتياجاته ، وعبثا تعمل إليها عيون الطغاة وأسماعهم ، ثم يلقون عليها القبض عام 1965 ويودعونها – وهي الكبيرة المسنة – سجن القناطر ، وتحتسب ذلك عند الله ، كما احتسب زوجها الذي أودع – في الليلة ذاتها – السجن الحربي ، وتخرج لتستأنف حياة الجهاد – في تجرد واحتساب كريم .

حينما أودع زوجها المؤمن جدران السجون

حينما أودع زوجها المؤمن جدران السجون كتب إليها كما كتب إخوانه إلي زوجاتهم – يخيرها بين أن تبقي زوجة – علي الورق – وبين أن تطلب الخلع فهذا حقها ، سيما وقد حكم عليه بالمؤبد ، فما كان منها إلا أن أرسلت إليه عاتبة : أهكذا هانت عليك تلك العشرة الطيبة ، والتي وثقتها أخوة في الله خالصة جمعت بيني وبينك ، أتضن علي أن أشاركك بعض أجرك حين يثقل الله ميزان حسناتك ؟ أم أثرت أن تمض به وحدك ؟ ضانا به علي شريكة حياتك ؟ قد أقسمت ألا يفرق بيننا إلا الموت . وظلت تلك المؤمنة علي عهد الله وميثاقه .. وخرج إليها زوجها بعد عشرين عاما ليجد البيت الآمن ، والأبناء وقد تخرجوا ، والإبنة وقد أوشكت علي الزواج .. ووجد كل شيء في مكانه ، ليعاودا معا – علي الطريق – حياتهما في طاعة الله .

كانا قد حددا موعدًا للزواج في سبتمبر عام 1965

كانا قد حددا موعدًا للزواج في سبتمبر عام 1965 ، وكان كل شيء قد أعد ورتب في عناية بالغة وحسابات دقيقة ، حتى كانت ليلة طرق فيها زوار الفجر باب البيت بأيد محطمة لكل شيء ، وبدا لهما أن كل شيء قد ضاع ، وحالت بينهما أسوار وجدران .

حتى إذا أذن الله لهما أن يريا بعضهما البعض بعد سنوات ثلاث ، جددت معه العهد والميثاق بأنها ستظل له زوجة مهما طالت السنون وباعدت بينهما الأيام .. وعبثا حاول أن يحلها من الارتباط به .

بل إن دموعها المنهمرة حالت بينه وبين أن يتم كلماته إليها . ثم علمناها زائرة مع بداية كل شهر تحمل إليه أطيب الآمال ، وجميل الكلمات المشجعة الحانية الرقيقة ، ثم تكتب إليه تستحلفه بالله ألا يلين أو يضعف ، وأن يكون كما عهدته وكما اختارته – صلب القناة ، قوي العزيمة ، صادق الإيمان .

وخرج إليها بعد سنوات ست عجاف كي يعمرا البيت بالصلاة والصيام وبتقوى من الله ورضوان ، ويرزقان بعدد من البنين والبنات .

آل بيت الهضيبي

( 5 )

" ما استفاد المؤمن بعد تقوي الله تعالي خيراً من زوجة صالحة ، إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا أقسم عليها أبرته ، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله " حديث شريف .

هذه ما وصف به نبي الرحمة الزوجة الصالحة وهذا ما قسم لها عليه السلام من أثر بالغ في سعادة الزوج . وما حسبني والله رأيت نموذج هذه الزوجة النبوية قبل أن أعرف سيدتي الوالدة أم أسامة ، بارك الله في عمرها . وأحسن عن المرشد الراحل وعنا جزاءها ، وألبسها التوفيق والعافية ، وألزمها كلمة التقوى ما أحياها . وسأجترئ في هذه الحلقة بسبع ومضات من سيرتها الحافلة بالنضارة والإشراق ، إثباتا لمواطن الكمال – التي أوردها الحديث النبوي في شمائلها .

(أ) التفنن في إدخال السرور علي الزوج

وأول ما لفت نظري من مثاليتها الزوجية شقيقتي القروية البريئة ، آمنة عليها رحمة الله ، فقد وافتني للعلاج ، ورحلي في الركاب إلي الإسكندرية ، للاجتماع بالمرشد ، في مسعى أشار إليه شهيد الإسلام ألألمعي التقي الشيخ محمد فرغلي طيب الله ثراه لإزالة الجفوة بين الإخوان والثورة ، فلم يسعني إلا حمل الشقيقة معي لعلاجها هناك .

وما بلغت الإسكندرية بسيارة الأخ في الله الحاج توفيق الفشني – وفيها كذلك أختنا خالدة الهضيبي وأولادها الثلاثة – حتى وضع آل الهضيبي يدهم علي شقيقتي المتواضعة – ولنا في الإسكندرية أهل ودار – ولم يسمحوا لها قط بمغادرة دارهم إلا إلي عيادة الطبيب في حراسة نشء الإيمان يومذاك " علية الهضيبي " التي كانت في الثالثة عشرة من عمرها المبارك المديد إن شاء الله .

قضت شقيقتي ثلاثة أيام في بيت الهضيبي وهو حاضر ، وأربعة أيام مع زوجته وابنتيه ، أثناء غيابه في الرحلة التي وفقني الله لإقناعه بالقيام بها في بعض مناطق الدعوة بدلتا مصر ، قبل وصوله إلي القاهرة ، تمهيدا لاجتماع إصلاحي مع قيادة الثورة .

وكان علي أن أتخلف بالإسكندرية هذه الأيام الأربعة ، لأنوب عن فضيلة المرشد في تنظيم الاتصال بالأطباء القائمين علي علاج زوجته الجليلة ، إذ كانوا جميعا من خاصة الأصدقاء ، ولأعود بشقيقتي إلي القاهرة بعد أن يكتب الله لها الشفاء .

ولبثت الأستار قائمة بيني وبين الشقيقة رحمها الله ، لا أراها إلا مع علية " العلية " لحظات الانتقال بها إلي الطبيب في سيارة الصديق الكريم النبيل الأستاذ عبد العزيز القيسي ، الذي سبق إلي جوار الله ورحمته إن شاء الله ! ولما انقضت مآربنا من الإسكندرية وعدت بشقيقتي لا ثالث لنا إلا الله أقبلت علي رحمها الله تسائلني بلغتها العامية ونحن في القطار ، ما ترجمته بالفصحى :

-يا أخي يا ابن أمي وأمي : من أي طينة امرأة الهضيبي هذه ؟ أهي من طينة الملائكة ليس فيها من طبائع البشر والنساء في شيء قط ؟! .

-ولم يا آمنة ؟ وما وجه هذا السؤال ؟

-يا عبد يا أخي . أخذ في العجب من سلوكها نحو زوجها .. ففي الأيام الثلاثة التي قضيتها بحضوره ، تبالغ في التحبب إليه ، وإدخال السرور علي قلبه ، فلا تلقاه في الضحى بثياب الصبح ، ولا في العصر بثياب الظهر ، وإذا ودعته حين يخرج ساعة الأصيل تجهزت بثياب أجمل حين تستقبله في المساء ، ولا تخلو من كل ذلك من التزين له بما يناسب أهل الكمال والوقار ! أضف إلي ذلك – تقول الشقيقة – إنها تنشط لتوديعه حين يخرج ، وتتأهب لاستقباله حين يرجع ، بأعذب ما يصنع عروسان متوافقان ، في الأيام الأولي من الزواج ! والأعجب من ذلك – تقول شقيقتي الساذجة عليها رحمة الله – إنه منذ سافر عنها الهضيبي لم تبدل الثوب الذي ودعته به طوال هذه الأيام ولم تقرب الماء العادي – إلا للوضوء والصلاة !! .

رحمك الله يا أختاه قلتها وهي معي في القطار وقد خنقتني العبرات ، لاختفاء هذا المثل الرفيع إلا في آل الهضيبي - : لقد علمتني من مناقب هذه السيدة في حياتها الخاصة ما أخفاه عني لمعان مواقفها في حياة الجهاد العامة !! .

(ب) الطموح العلمي في خدمة الوفاق

وقد أثار هذا الأسلوب المثالي في معاملة الزوج – من سيدة في حدود الخمسين – فضولي إلي الإحاطة بشيء من أسلوبها في معاملة أستاذنا الجليل أيام الشباب حيث كثرة الأعباء والاستغراق في تربية الأولاد ، وكانت لي معه رحمه الله دعابة ومباسطات يسعها بكل تلطف وانشراح ، كما كنت أعلم من لصوقي به ، وإعجابي بأثر دعوته في محيطه ، بالغ إعزازه وإيثاره لأهله ، وطربه للحديث عن مناقبها الجليلة الرفيعة .

وهكذا أقبلت عليه أسأله : بعد أن رويت له افتتان شقيقتي بأم ولده . يا فضيلة المرشد : هذا مبلغ حفاوة أهلك بك وإنما علي أبواب الشيخوخة فقال لي – بأبي أنت وأمي – كيف كانت لك في مطالع الشباب فقد أكلت قلوبنا الغيرة من هذا التدليل !! وانبسطت أسارير الزوج العظيم ، المؤمن العظيم ، الداعية العظيم ، وابتدرني مازحا بهذه العبارة ( عين الحسود فيها عود ) ثم راح يسألني : أيكفيك الإيجاز أو تريد الإطناب ؟ وأجيبه : ما شئت هات !

وهنا قال المرشد عليه رضوان الله : من طبعي الإيجاز فاعلم أننا شارفنا الأربعين عاما من حياتنا الزوجية ، لم يتكدر صفو الوفاق بيننا أربعين ثانية منها والحمد لله .

قلت : ولكن في طبعك إصرار و " حنبلية " لا تصبر عليها النساء !! فأجاب : قد صبرت راضية قريرة العين ، والفضل لها بعد الله . واستطرد رحمه الله يستشهد علي مسارعتها فيما يرضيه ويرفع رأسه : فذكر أنها تعلمت الفرنسية إجادة وهي أم لأربعة أولاد ، لمجرد أنها رأت صديقتها زوجة وكيل النيابة الذي يعمل معي في إحدى المحاكم القريبة من مدينة المنصورة تتقن الفرنسية وتتحدث بها مع عاملات المتاجر الكبيرة في عاصمة الدقهلية ، فأكبرت أن تكون لزوجة وكيل النيابة قدرة علي التحدث بلغة لا تعرفها ، وهي زوجة القاضي الذي يعلو في المرتبة علي وكيل النيابة ، وسرعان ما استأجرت مدرسة ، تختلي لحظات فراغها النادرة ، لتتلقي عنها الفرنسية ، وتلتها قراءة وكتابة وفهما في بضعة أشهر بعدها تتحدث معي الفرنسية إذا دعت الحال كما أتحدث إلي زملائي في القضاء ! أبعد ذلك غاية من علو الهمة وكبر النفس ، في سبيل إسعاد الزوج وإشعاره بالمشاركة الحقيقية في تأمين أسباب الوفاق ، إدخال السرور علي قلبه ومقاسمة له في حمل الأعباء والتبعات ؟! .

(ج) الطاعة والامتثال حيث لا أمر ولا إلزام

اهتزت مصر كلها أسفا لكارثة السفينة " السلوم " التي غرقت في البحر الأحمر وعليها نخبة من الجنود والضباط – بعد قيام الثورة بأسابيع – وتبارت الصحف وأجهزة الإعلام في وصف المأساة والإعلان عن الجنازة الوطنية الكبرى التي ستشيع بها جثث أولئك الشهداء من ساحة المنشية بالإسكندرية في ضحى اليوم التالي لإعلان المأساة . وكنت بجوار المرشد الهضيبي رحمه الله بمكتبه بالقاهرة في الليلة السابقة لموعد التشييع ، وهو يمارس تصفية الحاضر بين يديه من أعمال الدعوة قبل ذهابه بأهله مغرب اليوم التالي لقضاء شهري الصيف بالإسكندرية تنفيذا للنظام الطبي الذي كان ضرورة لا محيص عنها ، للإبقاء علي حياته الغالية !

وما هو إلا أن لاح في خاطري مشهد الجنازة الوطنية يتقدمها رئيس الجمهورية اللواء محمد نجيب يحتشد فيها سائر الزعماء والشخصيات ، وليس بينهم المرشد العام للإخوان المسلمين ، الذي لن يصل الإسكندرية حسب منهاجه التطبيقي إلا بعد الجنازة بساعات حتى كبر علي أن يفتقده المشيعون ورجال الصحافة ، فإذا الجنازة منه خلاء ! وسرعان ما نقلت إليه هذه المشاعر وأشرت عليه بالتبكير إلي الإسكندرية لحضور الجنازة الوطنية ، لأنه أولي بذلك من سائر الرؤساء والزعماء .

غير أن الرجل – يحكم زهده في المظاهر وكراهته لأضواء الدعاية – لم يرحب بالمشورة ولاسيما لأنه لازال وأهله في إعداد العدة لرحلة شهرين إلي الإسكندرية ، ولن يستطيعوا إلا بشق الأنفس إنجاز الإعداد في اليوم الباقي علي الرحيل ! .

ولكني لجأت إلي كل ما لي عليه من دالة في محاولة حملة علي التبكير بالسفر في أول قطار لإدراك الجنازة متعهدا أن أكون ومن يشاء في خدمة الأسرة لمعاونتها في الإعداد وتوصيلها إلي القطار في المساء . وقبيل أن تبلغ بنا المناقشة درجة اللجاج أسعفني الخاطر باقتراح مخابرة السيدة ، باعتبارها المتضررة الأولي بسفره دونها في البكور – ليعرض عليها رأيي وليسمع الجواب ! وفي مثل لمح البصر أدار المرشد الحبيب قرص الهاتف وأدركت أن أم أسامة هي التي أجابت من إنصاتي لحوار لم أسمع منه طبعا إلا عبارات المرشد القصيرة الخالية من التكاليف كما يلي :

(1)عبد الحكيم عابدين بجانبي يريد أن أسافر بقطار السادسة صباحًا بدلا من السادسة مساء لإدراك الاشتراك في تشييع شهداء السلوم ، بحيث أتركك تلحقين بي حسب الخطة في قطار المساء .

(2)كيف ؟ أنا أقول له إن ذلك غير ممكن لأننا ما نزال مستغرقين في الإعداد لرحلة الصيف ، ولا يمكن الفراغ منها قبل مساء غد .

(3)وأنت أيضا تستطيعين الفراغ من عدة الرحيل وتسافرين معي في الصباح ؟! هذا إرهاق معناه أنك ستسهرين في تعب إلي الصباح !

(4)ومهما تكن المناسبة وطنية ، فلا أري ضرورة لوجودي فيها إلا الدعاية التي لا أحبها وقد أنبت إخوان الإسكندرية وفيهم الكفاية .

(5)الآن يشمت بي عبد الحكيم لأني رافض اقتراحه حرصًا علي راحتك .

(6)طيب أنت حرة ! راحتنا وحياتنا للدعوة ؟ خلي عبد الحكيم يشبع شماتة !! .

وما بلغ الحديث الهاتفي هذه العبارة التي كنت أستنبط منها إجابات الزوجة الوفية المجاهدة حتى أسرعت أعبر عن شماتتي قبل أن يضع سماعة الهاتف من يده بقبلات فرحة أغمر بها جبينه النضر – وأنا أصيح في نشوة النصر .

" الآن نعلم أن عبد الحكيم ربح عليك الجولة في عقر دارك ! " والمرشد رحمه الله يقول في بشر وابتسام : " وما الحيلة إذا كانت أم أسامة لا تعرف أن تقول لا ؟ . وهكذا ستفر المرشد بأهله عقب صلاة الفجر وحملت الصحف صورته بين أعلام المشيعين بما أقر أعين الإخوان في جميع أنحاء البلاد .

(د) رعاية نشاط الأخوات المسلمات

كان الجانب النسائي لدعوة الإخوان المسلمين يتولاه فريق من الأخوات المؤمنات ذوات الإيمان الصادق والغيرة اللاهبة ، سبق منهن إلي العمل في الدعوة – بعد أن انفردت الداعية المجاهدة زينب الغزالي أكرمها الله بجماعة السيدات المسلمات – الأخوات : فاطمة البدري ، وفاطمة أخري غاب عني لقبها ، وسنية الوشاحي ، وسنية عبد الواحد ، وغيرهن من السابقات المجاهدات ، وكن علي فضلهن جميعا واعتزاز الدعوة بنشاطهن من ذوات الثقافة المتوسطة ، باستثناء الأخت المجاهدة الألمعية الأستاذة آمال العشماوي زوجة البطل الحبيب الصديق الصدوق منير الدلة ، الذي سبقن له الحسني علي تقوي وجلد وإيمان بحمد الله .

ولما قدر الله لسفينة الدعوة أن تلقي بأزمتها إلي أستاذنا الهضيبي ، وشمر عن ساعده ناهضا بأعباء القيادة استجابة لرغبة الإخوان ، سارعت الأخوات كذلك إلي حرم المرشد الجديد يسألونها تقلد الزمام في قيادة الأخوات المسلمات ، لما كان معروفا عنها من رجاحة العقل وسمة الثقافة وأصالة الإيمان .

واستجابت أم أسامة الجليلة بمثل تواضع زوجها الصديق لحمل نصيبها من الجهاد ، والعمل لإعلاء كلمة الله بكل ما تتسع له طاقة المرأة ، وما تختص به المؤمنة دون المؤمن من أعباء الدعوة والتربية .

وفي الحق لقد كانت السيدة الفضلى دعوة ناطقة بعملها وخلقها وإيمانها ، أضعاف ما كانت كذلك بأحاديثها وجولاتها وإرشاداتها . وبتسلم السيدة نعيمة خطاب ذروة النشاط النسائي ، متعاونة مع أمثال من سلفت إليهن الإشارة من الأخوات ، اشتد الإقبال علي أقسام الأخوات المسلمات ولاسيما بين طوائف المثقفات من المعلمات والجامعيات وذوات المناصب الرفيعة في بعض الوزارات .

وسنزداد معرفة بأثر هذه الطاقة الإيمانية العظيمة إذا عرفنا دور بناتها المؤمنات ، وما بذلن في سبيل الدعوة من جهد وتحملهن مع أمهن الفضلى من محن السجن والتشريد والاعتقال .

(هـ) الورع عن شبه الاستفادة بمكانها في الدعوة

وهل ينتظر من شريكة الهضيبي ، ولدة ورعه وإيمانه ، إلا أن تكون علي شاكلته في الورع عن كل شبهة للاستفادة بما جري العرف علي التساهل في الاستفادة من ممتلكات الدعوة . أجل كانت السيدة نعيمة – أكرمها الله – صورة صادقة لكل ما أشرقت به سيرة الهضيبي من الورع عما يستحله ، بما يستسيغه جمهرة الدعاة ورؤساء الهيئات

رفضت استخدام سيارة المرشد العام

عندما استقل الأستاذ الهضيبي الطائرة في صيف 1954 متجها إلي السعودية وبعض بلاد الشام ، جاءني سائق السيارة – التي خصصها مكتب الإرشاد العام لاستعمال المرشد دون غيره من قادة الإخوان – يسألني ما يصنع بالسيارة بعد أن سافر المرشد العام فأمرته بقيادة السيارة إلي داره بروضة القاهرة لوضعها تحت تصرف السيدة عقيلته ، وما هي إلا لحظات حتى عاد (الأسطى سيد) بالسيارة إلي منزلي في منطقة سراي القبة ، يذكر أن السيدة لم تقبل السيارة ، بل أعلنت ألا حاجة لها فيها ، فضلا عن استحالة الاستفادة بها ، حتى لو دعت الحاجة ، لأنها لا حق لها استعمالها وغضبت علي السائق أن غادر بيت المرشد مكررا إليه الأمر بإعادتها ووضع نفسه والسيارة رهن تصرف السيدة الفاضلة .

وما لبث " الأسطى سيد " أن أنار شفقتي وهو يسألني بلهجة التوسل أن أرحمه من كثرة التردد بين بيتي وبيت المرشد وأن أفض هذا الخلاف هاتفيا بيني أو بين السيدة الجليلة ، ثم أصدر الأوامر إليه وفق ما يتم عليه الاتفاق .

ورأيت المنطق في طلب السائق المسكين ، فأمسكت الهاتف وأدرت الحديث مع السيدة الفضلى مستخدما كل ما أملك من وسائل الإقناع ، دون أن أبلغ مثقال ذرة ، من صخرة الورع التي اعتصمت بها السيدة في قولها " إن السيارة مخصصة للمرشد العام بصفته ، لا لحسن الهضيبي بشخصه .

فإذا غاب المرشد العام فلا حق لأحد من أهله أن ينتقل بها لبضع خطوات . ومن ثم توسلت مبررا جديدا لاحتفاظها بالسيارة ، فقلت لها : إنك تقومين برعاية نشاط الأخوات وتنتقلين بين شعبهن للتفقد والإرشاد وبذلك تحتاجين إلي السيارة لتحققي بها الدعوة أجل الخدمات ! ولكن الداعية الحصيفة الواعية كانت أمنع من أن يستدرجها هذا المبرر الجديد إلي قبول السيارة ، إذ راحت تقول إنني أتفقد الشعب والأخوات وفقا لجدول أضعه وتعتمده ، فاحتفظ بالسيارة حتى إذا أرسلت لك جدول زياراتي واعتمدته أرسلت معه السيارة إن شئت ، لأستخدمها في حدود ما يلزم لتنفيذه !!

بشاشة الإيمان في أتون البلاء

وأشهد وسيشهد التاريخ أن هذه السيدة التي بدل مظهرها أنها ينبوع رفق وحنان ، فقد سجلت في مواطن البأس والضراء من ضروب الجلادة والصمود ، ما لم تألفه العصور الحديثة من عزائم الأبطال ! وإليك ثلاثة من مواقفها تحت وطأة البلاء في أقلها ما يجاوز الكفاية الوفاء .

1 – مع زوجة الوزير أ.ح بعد اعتقال المرشد العام

فوجئت عقب خروجي من السجن الحربي في ربيع 1954 بالأخ م ع يلتهب حنينا إلي المرشد ويتدفق إعجابا به وبعد أن كنت أعنفه حتى ساعة دخولي السجن علي غمزه من قناة المرشد الجديد تحت ستار المبالغة في الثناء علي الإمام الشهيد ! فلما رآني استغرب هذا التحول المفاجئ ، لم يمهلني لأسأله بل راح يقول لا تعجب : لقد ذهبت روحية – اسم زوجة الأخ المتحدث – لزيارة آل بيت الهضيبي بعد سجنه لمجرد إبراء الذمة ورفع الملامة إذ كانت في تشيعها لآل الأمام الشهيد لا تكاد تطيق أن تري بيت من يخلفه .. غير أنها عادت من هذه الزيارة المستثقلة ، وقد انقلبت مشاعرها وأفكارها رأسا علي عقب ، وانطلقت تقول : " هكذا يجب أن يكون المرشد وكذلك ينبغي أن تكون زوجته وأولاده ..

لقد فوجئت – تقول روحية – بسيدة تغمرها البشاشة ، وحولها بناتها الثلاث إذ كان الذكور في المعتقلات علي وجوههن الاطمئنان والسكينة ، فنهضن جميعا لاستقبالي بترحيب ، وشملنني بكل لطف وإيناس ، واتفق أن حضرت السيدة " س " زوجة الوزير أ.ح لتواسي ربة البيت وزهراتها الثلاث فما استقرت في مجلسها حتى دار بينهما الحوار التالي أو ما في معناه :

-يا ست " أم أسامة " هوني عليك " فحسن بك " بخير وقد أرسلني زوجي لأحمل تحياته إليك وإلي البنات ولأطمئنك بأنه مستمر في بذل أقصي الجهود حتى لا يصاب في نفسه بأذى ، وإن كانت كلمة المرشد لا مجال لها بعد الآن .

-شكرا لك وللوزير ، ولكن من أخبره أننا في قلق حتى ينصحنا بالاطمئنان ويبشرنا بسلامة الأستاذ ؟

-أعني أن الجهود مبذولة لمنع محاكمته أمام محكمة الثورة ، وما وراءها من مصير !

-أتريدين تذكيري والبنات بأن الأحكام تصدر قبل المحاكمة ! وأن المصير هو الحكم بالإعدام !

يا سعدية هانم ، اسمعي مشكورة وبلغي السيد الوزير أن حسن الهضيبي ما تولي قيادة الإخوان المسلمين إلا وهو يعلم أن سلفه العظيم حسن البنا قد اغتيل وأهدر دمه علنا في شارع رئيسي بالعاصمة وما رضي الهضيبي أن يكون خليفته إلا وهو ينتظر هذا المصير ، وقد باع الله نفسه ، وبعناه سبحانه أنفسنا معه فلن يرانا أحد إذا كان هذا قدر الله إلا نماذج سكينة واطمئنان ، سعداء بأن نحتسب عميدنا عند الله ، وأوفر سعادة أن نلحق به شهداء .

ثم تلتفت صحابية الزمن إلي بناتها لتقول : هذا ما عندي فماذا عندكن يا بنات ؟! فتنبعث الصيحة من علية وخالدة وسعاد : ليس عندنا إلا ما عندك يا أماه !!

2 – رسالتها إلي ملك عربي توسط في تخفيف الحكم

حدثنا أخ من قادة الدعوة في بلد عربي اجتمع في الرياض بالملك السابق سعود بن عبد العزيز رحمه الله ، أنه رأي الملك العربي مأخوذا بدهشة الإعجاب والإجلال من كتاب نقلته إليه في سفارته في مصر ، بتوقيع زوجة الهضيبي وبناته الثلاث – بعد تخفيض حكم الإعدام علي الهضيبي بناء علي شفاعته إلي الأشغال الشاقة المؤبدة !! إذ قرأ في هذا الكتاب عبارات ومعاني ما كان يخطر بباله ، أن يسمع بها بعد عصر الصحابة والسلف الصالح ، لا من نساء ولا من رجال ، ومما لا يزال عالقا بالذاكرة من ذلك الكتاب كما اطلع عليه الأخ بيد الملك سعود رحمه الله ، ما نصه أو معناه :

يا جلالة الملك ، إننا إذ نشكر كريم عاطفتك نؤكد لك أننا علي عهد الدعوة وميثاق الجهاد ، وسواء استشهد الهضيبي أو طالت به حياة فلن نقف عجلة الصراع ، لأنه في الواقع ليس صراعا بين الهضيبي وعبد الناصر ؛ ولا بين الإخوان والثورة ، ولكنه الصراع الأزلي الأبدي بين الحق والباطل بين الإيمان والكفر ، بين الهدي والضلال ، بين جند الله وحزب الشيطان وسيظل لواء الدعوة مرفوعا وعملها موصولا ، ولو ذهب في سبيله آلاف الشهداء ، من رجال ونساء ، حتى تعلو كلمة الله ، ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ! .

3 – الإباء والجلادة وراء القضبان

وقدر الله للسيدة الفضلى أن تصيب قسطها المباشر من البلاء فاقتيدت في بعض مراحل المحنة الطاحنة إلي السجن ، وألقي بها في زنزانة مظلمة تتيح لها الانفراد بالمولي سبحانه والأنس بمناجاته ، وذلك بعد أن وخطها الشيب ووهن منها العظم – وإن بقي لها مضاء العزم – واستضافت طائفة من الأمراض عجزت كلها أن تصيب مناعة النفس ، وكانت تعلم أنها لم يبق من أبناءها أو بناتها من لم يشرفه الله باحتمال المحنة في التعذيب والسجن ! ... وعلي الرغم من كل ذلك كانت " أم أسامة " أعزها الله في دياجير المحنة كما كانت في منازل الرخاء والعافية ، مجلي بشاشة لم يتجهم ، ومعين سكينة لا ينضب ، وفيض أمن لمن حولها لا يخاف ولا يفزع ، ومثال رزانة وصبر لا يتخلف حتى لكأن الله سقاها من رحمته سحابة تظلل المكتوبات بنار المحنة ونفحة إسعاف تنصب في قلوب الشاكيات من ضراوة النكبة ... ولم لا وهي تعلم من جلال القدرة بين الرجال بزوجها ما تري حقا عليها أن يلمس النساء في ذاتها .

وفي مثل أم أسامة والله لا في سيف الدولة بصدق قول المتنبي :

لو كان النســاء كمن عرفنـا

لفضلت النسـاء علي الرجـال

فما التأنيث لاسـم الشمس عيب

ولا التـذكيـر فخـر الهـلال

للمزيد عن الإخوان المسلمون والمرأة

من أعلام الأخوات المسلمات

.

.

أقرأ-أيضًا.png

روابط داخلية

كتب متعلقة

ملفات متعلقة

مقالات متعلقة

تابع مقالات متعلقة

متعلقات أخرى

وصلات فيديو

.