علماء أعلام عرفتهم .. "العراق"

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
علماء أعلام عرفتهم
من أعلام الدعوة الإسلامية في العراق

بقلم/ المستشار عبدالله العقيل

مقدمة الناشر

منذ قيام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالدعوة إلى الله، مبشرًا به، وجامعًا الناس حوله، وقافلة الدعاة إلى الله لم تتوقف عن العمل بالإسلام وللإسلام، يتبع خَلفها سَلفها.

وها نحن نرى جيل الدعوة المعاصر يسير على خطى سلفه الراشد، يحمل الرسالة، ويؤدي الأمانة، ويجوب المشرق والمغرب داعيًا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، مبلغًا عن الله، ومتأسيًا برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يحمل لواء الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم.

ولقد كان المستشار عبد الله العقيل وفيًا للعلماء الأعلام من أبناء الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، إذ انبرى يترجم لهم معددًا مآثرهم في مراحل حياتهم المختلفة، فسجل صفحات حب وأخوة، وجهاد ودعوة، وابتلاء وصبر، وصمود وتضحية، تتضح من خلال حركة هؤلاء الأعلام المستمرة في سبيل إعلاء كلمة الله، ومواقفهم الخالدة، وآرائهم الصائبة التي تصحح واقع الأمة الإسلامية آخذة بيدها إلى العزة والنصر والتمكين.

و مركز الإعلام العربي إذ ينشر هذا الكتاب، يتمنى أن يجد فيه شباب الإسلام القدوة الصالحة التي تعينهم على التزام منهج الله (سبحانه وتعالى)، ويتقدم بخالص الشكر والتقدير لفضيلة المستشار عبد الله العقيل الذي أخذ على كاهله مسؤولية التعريف بأعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة؛ تخليدًا لذكرهم، وإعلاءً لشأنهم، وتعريفًا للأجيال القادمة بدورهم في نهضة الأمة الإسلامية والدعوة إلى الله على بصيرة.

كما يدعو الله تبارك وتعالى أن يتقبل هؤلاء الدعاة الأعلام في الصالحين، وأن يسكنهم فسيح جناته جزاء ما قدموه خدمة للإسلام والمسلمين. اللهم آمين

تقديم بقلم/ المربي الداعية الأستاذ غانم حمودات

قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23).

في ضوء هذه الآية الكريمة أكتب ما طلب إليَّ الداعية الغيور

أبو مصطفى مقدمة لكتابه القيم وما يُرَدُّ لمثله طلب.

فأقول – وما أزكيه على الله –: إنه من النفر الغر الذين وقفوا حياتهم على خدمة الإسلام والمسلمين، حتى يصح أن يُقال: إنه في مقام الأسوة والقدوة للعاملين الآن.

لقد أنجب العراق أعدادًا طيبة من الدعاة إلى الله، فمنهم من قضى نحبه واستأثرت به رحمة الله، (ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً). وأحسب أن أخي "أبا مصطفى" – أفضل الله عليه – ما بدل تبديلاً.

فما بخل بجهد ولا مال ولا وقت في سبيل الله.

لقد أعان إخوانًا له في الله على شظف العيش، وأمدهم بما يسر الله، وأوقف جانبًا من جهده وماله على نشر تاريخ دعوة الإخوان المسلمين في العراق، فنشر تاريخ جمعية الأخوة الإسلامية في العراق للباحثة إيمان عبد الحميد الدباغ، ونشر دواوين الأخ الشاعر وليد الأعظمي، ونشر معظم مجهود الأخ وليد في النثر في ثمانية مجلدات. دع عنك ما قدمه وألفه عن أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، وهو شمس ساطعة في سماء التأليف، قعد عنه الكثيرون ووفقه الله إليه.

أما ديوانه العامر فيذكر بمناقب الشيخ الجليل محمد نصيف وبيته ومكتبه.

وهو الآن يقضي حق رجال من رجال الدعوة في العراق مضوا إلى رحمة الله.

ويحسن بي أن أذكر أن الإنجليز لما سيطروا على العراق عملوا على إبعاد الناس عن الإسلام بوسائل شتى، منها: أنهم ضيقوا على العلماء وجعلوا مرتباتهم ضئيلة لا تفي بحاجاتهم إلا بشق الأنفس.

وفرضوا العلمانية في التعليم بوساطة الأستاذ ساطع الحصري، فنشأت أجيال لا تكاد تعرف من الإسلام شيئًا إن لم تكن تعاديه، والإنسان كما قيل عدو ما جهل.

فكان المجتمع العراقي أحوج إلى الإسلام الصحيح من الأرض القاحلة إلى ديمة سمحة القيادة سكوب، فكانت هذه الديمة وهذا الغيث هو دعوة الإخوان المسلمين. لقد كانت هذه الدعوة المباركة تحرك الجامد من العقول والهامد من الهمم، وتوقظ النيام، صارخة مهيبة بهم ألا (يا أيها النوام ويحكم هبوا).

فسرت روح جديدة في المجتمع العراقي تخاصم الاستعمار والسائرين في ركابه، وتعلم الجاهلين، وترشد الضالين، وتنازل الشيوعيين والعلمانيين دعاة القومية الذين أرادوها بديلاً عن الإسلام، وكان جل دعاتها وإن لم يكن كلهم غير مسلمين. كما فتحت أعين الناس على الصفحات الناصعة من تاريخ الإسلام التي حاول المستشرقون والمنصرون وأعداء الصحابة طمسها.

لقد كان فضل الله (سبحانه وتعالى) بهذه الدعوة المباركة على المجتمع العراقي عظيمًا حتى قال أحد المشار إليهم بالبنان(رحمهم الله): (لولا الإخوان المسلمون لما بقي وجود لأهل السنة في العراق) .

لقد مضت هذه الدعوة المباركة تحث الخطى على طريق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تكلؤها عناية الله، غير آبهة بالأراحيف والأكاذيب، وكان لثبات قادتها وعلى رأسهم الشيخان الجليلان: أمجد الزهاوي ، و محمد محمود الصواف – بعد فضل الله – الأثر الكبير في رد كيد الأعداء في نحورهم.

وإني لأشهد الله وأشهد أن أكثر ما كان يميز هذه الجماعة أمران: غيرة شديدة على الإسلام تبعث على العمل دون كلال أو ملل، واهتمام بأمور المسلمين، يشهد لذلك ما بذلته لفلسطين - مسرى الرسول الحبيب (صلوات الله وسلامه عليه) - والمسجد الأقصى - ثالث المسجدين الشريفين - وما قدمته للجزائر حتى نالت استقلالها، وما كانت تنزل بساحة بلد إسلامي مصيبة أو تحل به كارثة حتى ترى هذه الجماعة سباقة إلى الوقوف بجانبه بما تستطيع وإن قل ما تستطيع.

لقد ربت هذه الجماعة رجالاً يستسقى بهم المطر، ولقد قال فيهم الشيخ أمجد الزهاوي (رحمه الله): (هؤلاء – الإخوان – خيرة خلق الله في أرضه)، والذي يعرف الشيخ أمجد يعرف أنه لا يلقي القول جزافًا.

ولقد أغنى رجال من هذه الجماعة المباركة المكتبة الإسلامية بالنافع والمفيد من الكتب، وحسبي أن أذكر الأساتذة: الصواف ، و عبد الكريم زيدان ، و محسن عبد الحميد، و منير البياتي، و أكرم العمري، وسواهم ممن لا أحصيهم.

وبعد، فإن المعول عليه بعد الله في رد المجتمع إلى الإسلام هو هذه الجماعة (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) (الإسراء: 51).

هذا؛ ولابد من تقدمة يسيرة لما خطه قلم الأخ "أبي مصطفى" السيال عن رجال خدموا الإسلام في العراق خاصة.

لقد مَنَّ الله (سبحانه وتعالى) على العراق برجال هم شموس أضاءت سماء العراق ولم يخصوا العراق بما وفقهم الله إليه.

وفي مقدمتهم وفي القمة منهم بركة العصر كما وصفه الشيخ علي الطنطاوي بحق هو: الشيخ أمجد الزهاوي ، شيخ العراقيين في المعقول والمنقول وفي سائر العلوم، الذي قيل فيه: لو ضاعت كتب الفقه الحنفي لأعاد كتابتها الشيخ أمجد. ومهما يُقَلْ في حقه فهو قليل، لقد أهمه أمر المسلمين قاصيهم ودانيهم، لقد كانت خدمته الإسلام أكبر همه ومبلغ علمه، وما أحسب أن أهل العراق أجمعوا على حب رجل وتقديره كما أجمعوا على حبه وتقديره.

قال عنه الشيخ الطنطاوي : (كان كنزًا مخبوءًا فكشفه الصواف .. عَرَّفَ الناس به، واستفاد مما عنده من العلم ومن العبقرية ومن النبوغ، لولا حماسة الصواف لما ظهرت هذه العبقرية المخبوءة، ولولا عبقرية الشيخ ما أثمرت حماسة الصواف ... إلخ).....رجال من التاريخ لعلي الطنطاوي جـ2 ص233

لقد ردّدت بعد وفاته ووفاة عالم آخر قول الشاعر:

وما كان قيس هلكه هلك واحدٍ

ولكنه بنيان قوم تَهَدَّمَا

أما الرجل الثاني الذي سماه في سماء العراق وصح أن يكون مضرب المثل في الغيرة على الإسلام والعمل له من غير كلال ولا ملل والاهتمام بأمور المسلمين عربهم وعجمهم قريبهم وبعيدهم، الذي أَثَّرَ فيَّ ما لم يؤثره عالم غيره، وكان له من الفضل عليَّ بعد فضل الله (سبحانه وتعالى) ما أعجز عن وفائه، فهو الشيخ محمد محمود الصواف، أمطر الله قبره بشآبيب رحمته.

وما أعرف عالمًا من العلماء أو زعيمًا من الزعماء – عدا الحسيني مفتي القدس (رحمه الله) – عمل ل فلسطين ما عمله الصواف . وما أعرف عالمًا من العلماء عمل للإسلام والمسلمين في غدوه ورواحه، وفي غناه وفقره، وفي صحته وسقمه، ما عمله الأستاذ االصواف ، لقد جاءته الدنيا تجرر أذيالها، فأعرض عنها ونبذها وهو في أمس الحاجة. لقد حورب بالإشاعات والأكاذيب فتكسرت أمواجها على صخرة صموده وثباته.

وثالث الرجال الذي ذاع صيته وعرفه دعاة الإسلام في شتى الأقطار والأمصار، الشاعر الفحل وليد الأعظمي ، وأصبح شعره على لسان كل الدعاة، وبخاصة بيته الفذ:

يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي

أَنَّا بغير محمد لا نقتدي

لقد سخَّر الأعظمي شعره ونثره للإسلام، ولعل الله (سبحانه وتعالى) أكرمه (فأقامه في الأواخر مقام حسان في الأوائل).

لقد كان هائمًا بحب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فشرف شعره في القول فيه ونظمه، وأكثر التأليف في شاعره حسان وفي صحابته (رضي الله عنهم). ولقد كتب في فضح الأصفهاني - مؤلف الأغاني - كتابًا ما سبقه إليه غيره.

ورابع الرجال، الذي كان يأسر القلوب بما آتاه الله من مواهب وأنعم عليه من قابليات سخرها لخدمة الإسلام والمسلمين، هو اللواء الركن محمود شيت خطاب. ولو أن الأمة ألقت بمقاليدها إلى هذا الرجل العظيم وأمثاله ما أصبحت أضحوكة العالم. إن العراق ومنه الموصل ما عقم أن ينجب مثل هذا الرجل، لقد أثنى عليه المؤلف الإسرائيلي صاحب كتاب (الحرب بين العرب و إسرائيل)؛ أثنى على عبقريته، ووصفه بأنه أكبر عقلية استراتيجية في العرب، ولكنه لا يجد من يستفيد منه.

لقد أضاعت أمتنا هذا الرجل وأمثاله؛ فضاعت!

وخامس الرجال الأفذاذ الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه – كما أحسبه والله حسيبه – الشيخ المجاهد عبد العزيز البدري، الذي أقول فيه: كأن الله (سبحانه وتعالى) أراد للرجولة والصدع بالحق أن تتجسد فتجسدت في الشيخ البدري. ولا عجب فقد تربى على أيدي علماء تتعطر الدنيا بذكرهم هم الشيوخ: أمجد الزهاوي، و محمد فؤاد الآلوسي، و عبد القادر الخطيب. وعسى أن يسلكه الله (سبحانه وتعالى) في عداد من يصدق فيهم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).

وسادس هؤلاء الرجال الأخ صالح الدباغ الذي سمعت الثناء عليه ولم أسعد بلقائه، ولقد أشاد به الأخ أبو مصطفى إشادة خبير به معجب بخصاله، وهل ينصر الله (سبحانه وتعالى) دينه إلا برجال (من العاملين المجاهدين والأتقياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا)، يخفون حسناتهم كما يخفي الإنسان سيئاته؟!

وسابعهم الأستاذ المربي عبد الوهاب السامرائي - مؤسس مدارس التربية الإسلامية في بغداد، وتلميذ الشيخ الزهاوي - الذي كانت مدارسه منارات الهدى في العراق . ولقد عرفت فيه الصدق في القول والإخلاص في العمل وابتغاء وجه الله فيما يأتي ويذر.. ولا أزكيه على الله. وكان يزينه الهدوء والرزانة والوقار، وتكاد قسمات وجهه تنطق بما حباه الله به من إيمان. لقد كنت أرى سيماء الصالحين في وجهه، ولعل الله يدخله في عباده الصالحين).

وختامًا، أسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يجزل ثوابك يا أبا مصطفى، ويجعلك قدوة للعاملين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

مقدمة المؤلف

المستشار عبدالله العقيل

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسول الله النبي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. وبعد...

فهذه تراجم لبعض علمائنا الأعلام، الذين كانوا نماذج صادقة للدعاة في هذا العصر، بعمق الفهم، وقوة الحجة، وصدق اللهجة، وقول كلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثبات على الأمر، والتصدي للباطل، ومقارعة الظلم، ورفد الجهاد، وتعضيد الدعاة، ومساندة المستضعفين في الأرض ومجابهة الطغاة، والتزام منهج الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، والنصح لولاة الأمر، والأخذ بأيدي العامة إلى طريق الحق، وفك كرب المكروبين ورفع الظلم عن المظلومين.

إن هؤلاء الأعلام الدعاة الذين عرفتهم عن قرب، والتقيتهم مرارًا، واستفدت منهم كثيرًا في مسيرة حياتي الدعوية والعملية، هم الصور المشرقة والنماذج الفذة لرجال الإسلام في هذا العصر.

وإني مدين لهؤلاء بالفضل الكبير على ما قدموه من نصح وتوجيه، وإرشاد وتقويم للدعاة وطلبة العلم، الذين استقاموا على منهج الله، واتبعوا سنة رسول الله، فكان الله غايتهم، والرسول قدوتهم، والقرآن شرعتهم، والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم.

وإني لأرجو أن يعم بهذا الكتاب النفع، ويطلع شباب الإسلام وطلبة العلم والدعاة الجدد على هذه السير العطرة لهؤلاء العلماء الأفذاذ والدعاة الصادقين – كما نحسبهم والله حسيبهم – ويستفيدوا من علمهم وخبراتهم وتجاربهم وأساليبهم، فضلاً عن شمائلهم وأخلاقهم، فقد كان الناس يكنُّون لهم الحب والتقدير، والإجلال والاحترام، لأنهم كانوا صورًا صادقة ونماذج حية عن الإسلام الحق، البعيد عن هيمنة المستكبرين وأصحاب النفوذ، رحمهم الله رحمة واسعة، وأسكنهم فسيح جناته، والحمد لله رب العالمين.


سماحة الشيخ العلاَّمة أمجد الزهاوي

(1300 ـ 1387هـ = 1883 ـ 1967 م)

لقائي به في البصرة

الشيخ أمجد الزهاوي

كان أول لقاء لي مع سماحة الشيخ أمجد الزهاوي عام 1947 م بمدينة البصرة، حيث قدم إليها زائرًا، وبصحبته الشيخ محمد محمود الصواف، والأستاذ المحامي عبد الرحمن خضر، وكنت مع مجموعة من زملائي الطلبة بمتوسطة البصرة، أذكر منهم عبد الواحد أمان، و عمر الدايل، و خليل العقرب، و عبد القادر الأبرشي، و عبد الرزاق المال الله.. وغيرهم، فكان نشاطنا الإسلامي من خلال جمعية الآداب الإسلامية (فرع البصرة) التي اتخذت لها من جامع الخضيري مقرًا.

فخرجنا إلى محطة القطار القادم من بغداد، وفي مقدمتنا الحاج حمد الذكير، والقاضي عبدالله الصوفي، والشيخ عبد المحسن البابطين، والشيخ عبدالله الرابـح، والحاج عبـد القادر العبايجي، و تـوفيق الصانع، و جـاسم محمد صالح، و عبد الهادي الباحسين، و يعقوب عبد الوهاب، و عبد العزيز الربيعة، و عبد الرحمن الخزيم، و عبد العزيز الوتار ، و طه البصري، و عبد المجيد الرحماني، و يعقوب الباحسين وآخرون.

وكان البرنامج حافلاً بالخطب والمحاضرات والدروس والندوات والزيارات، فضلاً عن الجلسات الخاصة المخصصة للأسئلة والاستفسارات عن كل ما يهم المسلم معرفته عن دينه والواجب الملقى عليه لتبليغ رسالة الإسلام وحمل الدعوة إلى عموم الناس، والدور الذي يجب أن يضطلع به لتعبئة الأمة المسلمة لحرب اليهود الذين اعتدوا على إخواننا الفلسطينيين بمساعدة الإنجليز، واحتلوا الديار المقدسة، بمباركة من دول الكفر مجتمعة، التي أصدرت قرار تقسيم فلسطين المسلمة بين العرب واليهود سنة 1947 م، وكانت الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، أُولى الدول التي وقَّعت على قرار التقسيم الجائر، ولقد أحدث هذا القرار الظالم ردة فعل كبيرة في العالم الإسلامي، فقامت المظاهرات في مصر وبلاد الشام و العراق و السودان وبلدان المغرب العربي والعالم الإسلامي كله.

جمعية إنقاذ فلسطين

وبادر علماء العراق ، وعلى رأسهم سماحة الشيخ أمجد الزهاوي، بتأسيس (جمعية إنقاذ فلسطين) وتحركوا في طول البلاد وعرضها، وفي مقدمتهم الشيخ محمد محمود الصواف، مستنهضين همم المسلمين لنجدة إخوانهم المجاهدين في فلسطين، وكان لشباب الإخوان المسلمين في العراق دورهم الرائد وجهودهم الخيّرة، حيث انتشروا في المدن والقرى والأرياف والبادية، يذكِّرون الناس بواجبهم الإسلامي في الجهاد، ودعم المجاهدين والوقوف إلى جانب المضطهدين من المسلمين بفلسطين.

ولقد تكررت لقاءاتي بالشيخ الزهاوي بعد ذلك في بغداد، حيث ذهبتُ للدراسة في الثانوية الشرعية، ثم بعد التخرج في الأزهر بمصر عام 1954 م، فازددت منه قربًا، وبه معرفة، وله إكبارًا وحبًا، حيث كان (رحمه الله) شجاعًا في كلمة الحق، راجح العقل، سديد الرأي، عميق الفقه، بسيط المظهر،جم التواضع مع الصغير والكبير والغني والفقير، كما وجدت فيه الصفاء في الذهن، والنور في الوجه، والعلم الغزير المتدفق في الأصول والفروع على حد سواء.

وما زلت أذكر حين صلينا معه لأول مرة كبَّر تكبيرة الإحرام بصوت عال، اهتزت له مشاعرنا، وارتجفت أجسادنا، فكأنه قد خرج من الدنيا إلى لقاء الله (سبحانه وتعالى) بهذه التكبيرة الخاشعة، وكنا أثناء السير معه نلاحظ أنه كلما رأى ورقة أو جريدة «صحيفة» ملقاة على الأرض التقطها ووضعها في جيبه خشية أن يكون فيها اسم الله (سبحانه وتعالى) وتتعرض للإهانة.

كما لاحظنا أنه يكرر السؤال عن أسمائنا، رغم أننا عرّفناه بها، حيث كان ينسى الأسماء، في الوقت الذي يستحضر فيه دقائق المسائل العلميّة الفرعية في الأصول والفروع، ببديهة حاضرة، وذاكرة عجيبة تُذهل السامع والسائل، وتبهره لهذا العلم الغزير والفيض المتدفق.

كان الشيخ الزهاوي يكثر من الثناء والإشادة بالشيخ الصواف، على حماسته وغيرته على الإسلام والمسلمين، ويوصينا بالعمل معه في طريق الدعوة إلى الله، والالتزام بمنهج الحركة الإسلامية، الذي حمله الأستاذ الصواف بعد عودته من مصر، حيث التقى الإمام الشهيد حسن البنا - المرشد العام للإخوان المسلمين - وإخوانه وتلامذته، وتأثر بهم خلال دراسته بالأزهر غاية التأثر.

ولقد أكبرنا في الشيخ الزهاوي هذه الهمّة والحيوية والنشاط والعمل الدءوب ـ رغم كبر السن ـ دونما كلل أو ملل، فلا يسأل عن الطعام أو الشراب، ولا ينشد الراحة أو المنام، مما جعلنا نحقِّر أنفسنا أمام هذه النفس الكبيرة، التي تُجهد جسمها في سبيل الله تعالى في حمل كثير من الأعباء التي ينوء بها كاهل الشباب، ونعجز أن نجاريه في بعض ما يقوم به، وصدق القائل:

وإذا كانت النفوس كبارًا

تعبت في مرادها الأجسامُ

لقد كان الإمام أمجد الزهاوي علاّمة العراق وفقيه الحنفية في عصره، وإليه يرجع العلماء من أنحاء العالم الإسلامي للاستنارة برأيه، والتفقه من علمه، والاستزادة من فتاويه، كما كان يرجع إليه ذوو الحاجات وأصحاب الظلامات والمستضعفون من الناس، ليقضي حاجاتهم، ويشفع لهم في معضلاتهم، وفك أسراهم، ورفع الظلم عنهم لدى المسؤولين وأصحاب النفوذ والقرار، الذين كانوا يستجيبون لشفاعته لما له من مهابة في نفوسهم ولعظيم احترامهم له وتقديرهم إياه.

أعوام مشحونة بالغضب

وفي فترة الدراسة الثانوية ببغداد، كانت لنا برامج تربوية، ومناهج ثقافية، ونشاط دعوي ولقاءات أُسرية، وكتائب روحية، ومعسكرات رياضية، يتولى التوجيه فيها ثلة من العلماء والأساتذة والمربين، وفي مقدمتهم الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف، ولقد كان عاما 1947 م و 1948 م من الأعوام المشحونة بالغضب والثورة على الإنجليز واليهود، حيث كان في هذين العامين قرار بتقسيم فلسطين وعقد معاهدة (بورت سموث) الاستعمارية المسماة «جبر ـ بيفن» فعمّت المظاهرات الطلابية والشعبية أنحاء العراق، وبخاصة العاصمة بغداد، حيث مقر الحكومة الموالية للإنجليز، والتي أقرّت التقسيم، وعقدت المعاهدة مع الإنجليز، وهي حكومة "صالح جبر"، وتصدّر هذه المظاهرات وقادها طلاب الثانوية الشرعية والكلية الشرعية بالأعظمية، وفي مقدمتهم: إبراهيم منير المدرس، و نعمان السامرائي، و يوسف العظم وغيرهم، حيث ألهبوا حماسة الجماهير واصطدموا بأزلام السلطة، وأعوان الطواغيت وخدم الاستعمار، فاعْتُقل من اعتقل، واسْتُشهد من استشهد، وجُرح من جرح، وفُصل من الدراسة أو العمل من فصل، ولم يفت ذلك في عضدهم، ولم يوهن عزيمتهم، بل انتشر السخط في جميع البلاد، وخرجت الأمة عن بكرة أبيها تطالب بإسقاط الحكومة العميلة، وتم ذلك حيث استقالت الحكومة، وبطلت المعاهدة وأُلغيت بإرادة شعبية.

ولقد برز الأستاذ الصواف، كقائد للجماهير الشعبية الساخطة على الاستعمار والصهيونية، وارتفع صوت الشباب المسلم، يردد هتافات الإسلام، وكانت قصائد الشاعر الكبير وليد الأعظمي الحماسية على كل لسان، فقد كان شاعر الملحمة الكبرى، في التصدي للطغاة وخدم الاستعمار وأذناب الغرب والشرق، واحتل التيار الإسلامي موقعه، كقوة سياسية فاعلة، لها القيادة والريادة، اكتسحت كل ما عداها من القوى القومية و اليسارية و العلمانية، وأقبل الناس وبخاصة الشباب، على الانخراط في سلك الحركة الإسلامية المعاصرة، التي تربي الشباب على منهج الإسلام الصحيح، الذي يصوغ الرجال، ويصنع الأبطال؛ لأنها دعوة الحق والقوة والحرية المستقاة من الكتاب والسُّنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة.

وكان لعـلماء العراق وشبـاب الحركة الإسلامـية - وفـي مقدمـتهم أمجد الزهاوي، ومحمد الصواف - الدور الريادي والقيادي في توجيه الشباب نحو نصرة الإسلام والالتفاف حول رايته، والتمسك بعقيدتـه، والالتزام بمنهجه.

ميلاده ونشأته

وُلد الشيخ أمجد الزهاوي عام (1300هـ/1883 م) بمدينة بغداد، ونشأ في أُسرة علمية ثرية، ذات مكانة اجتماعية مرموقة، وهو ابن محمد بن سعيد الزهاوي، درس على والده وبعض المشايخ، والتحق بالمدارس الرشدية والابتدائية والإعدادية في بغداد، ثم سافر إلى استانبول حيث درس ست سنوات في «كلية القضاء»، وتخرج فيها، فكان ترتيبه الأول على الطلاب، وقد منحه السلطان عبد الحميد الثاني وسام الشرف تقديرًا لنبوغه وتفوقه، ثم عاد إلى بغداد، حيث تقلد مناصب القضاء، إلى أن انتهى إلى رئاسة مجلس التمييز الشرعي، وبعدها تقاعد عن العمل واشتغل في المحاماة فترة من الزمن، ثم تفرغ للعمل الدعوي عام 1946 م، وكان من مؤسسي أهم الجمعيات الإسلامية في العراق، وهي: «الآداب الإسلامية، وإنقاذ فلسطين، والتربية الإسلامية، والأخوة الإسلامية، ورابطة العلماء، واللجنة العليا لنصرة الجزائر» وكان رئيسًا لهذه الجمعيات جميعها في آن واحد.

الإنقلاب العسكري

وحين وقع الانقلاب العسكري في العراق، بقيادة عبد الكريم قاسم، يوم 14/7/1958 م، وناصره الشيوعيون والملاحدة والعلمانيون.. عمّت الفوضى البلاد، وانتشر السلب والنهب والقتل والسحل، وعاش الناس في القطر العراقي كله عيشة الرعب والخوف، ولم تبق كرامة لعزيز، ولا قيمة لرجل الدين، وهان العلماء والقضاة، وحرّضت السلطة الأوباش على كرام الناس، وتعرَّض كثير من العلماء إلى الإهانة والاعتقال، ومُلئت السجون بدعاة الحق والخير، أمثال الشيخ محمد الصواف، والشيخ عبد العزيز البدري، والشيخ محمد الخالصي، وغيرهم كثيرون من الشباب والشيوخ والنساء والرجال، وانتشرت كتب الكفر والإلحاد والدعوة إلى الفجور.

وحاول الشيخ أمجد الزهاوي نُصح عبد الكريم قاسم طاغية العراق، وأسمعه كلامًا قويًا في مقابلتين معه بديوان الرئاسة، ولكنه كان يراوغ، وأصمّ أذنيه عن الحق، وظـل سـادرًا في غيِّه.

عندها قرر الشيخ أمجد الزهاوي الارتحال إلى المدينة المنورة، وسافر معه ابنه الشيخ محمد سعيد وزوجته وابنته نهال، وبقي في المدينة المنورة نحو سنة ونصف السنة، وقد لحق به الشيخ محمد الصواف بعد أن خرج من العراق عن طريق سوريا، حيث استقر بالمملكة العربية السعودية إلى وفاته، بينما عاد الشيخ أمجد الزهاوي إلى العراق.

ولقد أكرمني الله (سبحانه وتعالى) برؤية الـشيخ أمجد الزهاوي قُبيل وفاته في الكويـت مع إخـواني عبد الله المطوع و عبد الواحد أمـان و عـمر الدايل وغيرهم، ثم غادرنا إلى العراق، ولم ألتق به بعدها لوفاته ببغداد عام 1387هـ 1967 م.

آخر أعماله

وكان آخر أعماله ـ رحمه الله ـ أنه تلقى دعوة لحضور المؤتمر الثالث لوزراء التربية العرب، وكان المرض قد اشتدت وطأته عليه، فلم يستطع الحضور، واكتفى بإرسال مذكرة أملاها على ابنته نهال، يوضح فيها وجهة نظره في إصلاح وزارات التربية، وقُدّمت الورقة للمؤتمر، وقد قامت «جمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت» مشكورة، بطباعة هذه المذكرة ضمن المذكرات الأخرى، ووزعتها على نطاق واسع.

وبعد المؤتمر ببضعة أيام غادر الدنيا الفانية إلى الدار الباقية، يوم الجمعة 14 شعبان 1387هـ، تاركًا وراءه أعظم الأثر، وأطيب الذكر، وأعطر السير، لرجال الدعوة وعلماء الأمة الذين يؤثرون ما عند الله على ما عند الناس، فكان الزهاوي بحق، كما وصفه الإمام الـشهيد حسن البنا - حيث قال: «يـا بني إذا أردت أن تنـظر إلى وجه رجل من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فانظـر إلى وجـه الشيخ أمجد الزهاوي».

قالوا عنه

قال عنه الشيخ محمد محمود الصواف: «كان ـ الزهاوي ـ أزهد الناس في الثناء، وأبعدهم عن الرياء، فهو لله وحده، لذا ما كان يرجو سواه، ولا يبغي إلا رضاه سبحانه وتعالى، ويبتعد عن السعي من أجل السمعة، ويكره الشهرة».

وقال عنه الشيخ علي الطنطاوي: «إذا وقف الشيخ أمجد للصلاة نقّى قلبه ثم صرخ: الله أكبر، فتحس وكأن قنبلة قُذفت في وجه الشيطان».

وقال عنه الشيخ عبد العزيز البدري: «إن الشيخ أمجد إسلام يمشي على الأرض، فكل من يراه يذكر الله تعالى، لما منّ عليه الله من فضل وجلال وهيبة ووقار».

ويروي الأستاذ سليمان القابلي أن طلاب الشيخ لاحظوا أن شيخهم كلما رأى علبة سجائر تركي يلتقطها من الأرض، فسأله أحدهم فأجاب الشيخ: ألم تروا ما كُتب على العلبة؟ أليس هذا لفظ الجلالة؟ وأشار إلى اسم صاحب الشركة (عبدالله لطفي) المدون على كل علبة سجائر، فلما علم صاحب الشركة بذلك بدل اسمه من «عبدالله» إلى «عبود».

ويقول د. نعمان عبد الرزاق السامرائي: «لقد كان الشيخ أمجد الزهاوي من ذلك النفر الرباني الذي عرف الله، وحاول أن يرضيه بصدق ويلتزم طريقه، سواء رضي من حوله أم غضبوا».

وقد عاش في القرن الرابع عشر للهجرة، ومن عرفه عن قرب كان يشعر كأنه هبط من القرن الثاني للهجرة، ويروي د. أبو اليقظان الجبوري عن شدة حياء الشيخ أمجد، فيقول بأن رجلاً شكا من ألم في ركبته، ولما كشف عنها أمام الشيخ، أدار الشيخ وجهه عن حياء.

ويروي د. طه جابر العلواني: أنه حضر مجلسًا ضم الشيخين أمجد الزهاوي و قاسم القيسي ـ وكان مفتي العراق في حينه ـ فدار حوار بينهما حول مسألة لغوية.

يقـول الشيخ القيسي للشيخ الزهاوي: «يـا شيخ أمـجد، كـنت تركـت لك الفقـه والأصـول، وسلمت إليك القيادة والريـادة فيهمـا، ولم أكن أظن أنه يمكنك أن تناقشني في عـلوم العربية والبلاغـة، ولكنني الآن مضطر لأن أسلم لك بهذه أيضًا، فأنت يا أمجد أفندي شيخي وشيخ العراقيين جميعـًا في الـمنقول والمعقول وفي سائر العلـوم، ولن أجادلك بعد اليوم ولكن أستفتيك».

كما روى عنه أحد القريبين منه: أنه عندما كان يشيّد داره في الأعظمية سمع أحد العمال يقول كلمة كفر فناداه وأعطاه أجره كاملاً وصرفه، ثم أمر بهدم ما بناه هذا العامل وجاء بغيره.

ويروي الأستاذ كاظم أحمد المشايخي في كتابه القيم (الإمام أمجد بن محمد سعيد الزهاوي فقيه العراقين والعالم الإسلامي) ـ والذي أخذنا عنه كثيرًا من النقول السابقة ـ يقول المشايخي: «كانت ليهودي قطعة أرض مجاورة لأرض الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله، فاغتصبها الوصي منه، فاشتكى اليهودي على الوصي وصدر الحكم في مصلحة الوصي، فميّز اليهودي الدعوى وعرضت على الشيخ أمجد الزهاوي باعتباره رئيس مجلس التمييز يوم ذاك، وتوسط بعض معارف الشيخ لجعله يصادق على قرار الحكم إرضاء للوصي فردَّهم قائلاً: لا يهمني رضاء الوصي، ولكن يهمني رضاء رب الوصي، ودرس القضية جيدًا ووجد الحق في جانب اليهودي، فنقض قرار الحكم وأعاد الأرض لليهودي» انتهى.

ويقول الأستاذ الشيخ إبراهيم منير المدرس: إن الشيخ أمجد الزهاوي وجهت إليه أسئلة، فكان جوابه عنها بتوقيعه:

س1: ما رأي سماحتكم في جماعة الإخوان المسلمين؟

ج1: هم جماعة من خيرة خلق الله، يعلمون الناس الخير، ويدافعون عن الشريعة الغراء، ويسعون في تكثير أمثالهم.

س2: ما رأي سماحتكم فيمن يعمل مع جماعة الإخوان؟

ج2: إن العامل مع جماعة الإخوان المسلمين مأجور، ومن يدخل معهم، ويسعى في تكثيرهم له عند الله منزلة عظيمة.

س3: ما الحكم الشرعي فيمن يحارب دعوة الإخوان المسلمين؟

ج3: هو آثم وصاد عن سبيل الله.

موقفه من فلسطين

ذلك هو الشيخ الزهاوي وتلك نبذة عن سيرته وهذه بعض أقوال من عايشوه عن قرب وقالوا عنه بصدق، أما موقفه من القضية الفلسطينية، فقد كانت همّه الأول والأخير، وشغله الشاغل طيلة حياته؛ لأنها في نظره قضية الإسلام الكبرى في هذا العصر، وقد حضر جميع المؤتمرات التي عقدت من أجلها في القاهرة ودمشق و القدس، وسافر من أجلها إلى معظم البلاد العربية والإسلامية، ولازم أول فوج من مجاهدي العراق إلى فلسطين، وزار الخطوط الأمامية بنفسه، وعاش المأساة على أرض الواقع، وكان رئيس المؤتمر الإسلامي لنصرة فلسطين.

احتفال النصف مليون

وكانت معرفته للأستاذ الإمام حسن البنا، قد توثقت بزيارته لمصر عام 1948 م، وحضوره الاحتفال الكبير بالمركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة بمناسبة مرور عشرين عامًا على تأسيس الجماعة، حضره ما لا يقل عن نصف مليون شخص، وكان يرافقه في رحلته الشيخ فؤاد الآلوسي والشيخ إسماعيل الأيوبي، كما زار الأستاذ البنا في بيته المتواضع، ودام اللقاء أكثر من ساعتين ونصف الساعة، وخرج معجبًا بحركة الإخوان المسلمين وتنظيماتها وبرامجها ومناهجها وإخلاص رجالها وصدقهم ونشاطهم وتعاهد مع الإمام البناعلى أن يعملا معًا لإعادة بناء الدولة الإسلامية، وفي زيارته هذه لمصر تعرّف على الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ودعاه لزيارة العراق وساعده في حملة التبرعات للجزائر وطاف معه البلاد العربية لنصرة للجزائر، وحين زار الزعيم المغربي علال الفاسي بغداد سنة 1953 م التقى الشيخ الزهاوي والشيخ الصواف، كما أن الشيخ الزهاوي زار المجاهد الكبير عبد الكريم الخطابي بطل الريف المغربي بمصر، أما صلته بالحاج محمد أمين الحسيني - مفتي فلسطين - فهي وثيقة متينة لاهتمامهما معًا بقضية الإسلام الكبرى في هذا العصر: قضية فلسطين.

يقول تلميذه د. عبد الكريم زيدان: «فإن شأني مع شيخ الإسلام الزهاوي(رحمه الله) شيء آخر لا يخضع لما تعودت عليه في حياتي من زهد في الرثاء واكتفاء بالعبرة والدعاء لأني ما تأثرت بشخص رأيته بعيني بمثل ما تأثرت بأستاذي الزهاوي(رحمه الله تعالى)، وما رأت عيني مثله على كثرة من رأيت وعرفت وخالطت.. لقد رأيت فيه ما كنت أفتش عنه من زمن بعيد وأريد الوصول إليه لمسًا باليد ورؤية بالعين وسلوكًا في الخارج.. حتى عرفت الشيخ فرأيت فيه ما أريد: إخلاصًا نقيًا ومخافة من الله واهتمامًا بأمر المسلمين..

أما إخلاصه، فكان صافيًا خالصًا لا تشوبه أكدار التلفت إلى الحياة والسلطان والمنصب والثناء والسمعة والظهور.. استوى عنده عمل السر والعلن؛ لأنه لم يعد عنده ما يخفيه في العلن ويبديه في السر.. يعمل الخير ولا يتحدث فيه، فحسبه أن يعرفه الله فمعرفة الله تغني عن معرفة الناس، فقد بلغ به الإخلاص إلى حد نسيان ما يعمله من صالح الأعمال نسيانًا لا بسبب ضعف الذاكرة، ولكن بسبب فعل الإخلاص.. لقد كان (رحمه الله) أمة في الإخلاص لا يعرف بسببه تكلفًا ولا تصنعًا ولا رياءً حتى ظهر الإخلاص في كلامه وحركاته وسكناته، وطفح على قسمات وجهه المشرق النّير المهيب الذي يبعث في الناظر إليه انشراحًا واطمئنانًا وهدوءًا.. ولا أكتم القارئ الكريم أني كنت إذا ما ألم بي ضيق في الصدر وانقباض في النفس؛ أسرعت إليه (رحمه الله) لأجلس بجانبه وأنظر إليه وأستمع منه فتهدأ نفسي ويزول عني الضيق والانقباض، وهكذا تفعل مجالسة الصالحين المخلصين.

أما مخافته لله فأمر محسوس ظهر في وقوفه عند حدود الله، وهو الفقيه بهذه الحدود وفي تعظيمه شعائر الله، وفي مبادرته إلى أداء حقوق الله وفي جهره بالحق عند السؤال والاستفتاء، وهكذا يكون شأن الخائف من الله، فمن خاف هرب، ولكن هرب الخائفين من الله يكون إلى الله...

وأما اهتمامه بأمور المسلمين، فقد كان منطلقه فيه الحديث الشريف: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (رواه الطبراني) وقد كان (رحمه الله) يريد أن يكون من المسلمين لا من غيرهم ولهذا فقد أهمه أمر المسلمين وأرّق جفنه فما كان يسمع باجتماع إسلامي إلاّ وسارع إليه معللاً نفسه بحصول شيء يخدم الإسلام وينفع المسلمين، ومن أجل ذلك شدّ الرحال إلى أقطار الإسلام: إلى إندونيسيا و باكستان ومكة المكرمة و تركيا وغيرها من بلاد الإسلام، على الرغم من شيخوخته وجسمه النحيل ولكن هي الهمة، همة المسلم الصادق المخلص تحرك البدن الضعيف على الرغم من تجاوز صاحبه سن الثمانين... لقد كان من فرط اهتمامه بأمور المسلمين وحزنه على ما آل إليه أمرهم يبكي إذا ما تحدث عن عزهم السابق وقرنه بهوانهم الحاضر، نعم يبكي وتسيل دموعه على وجهه المشرق المنير حتى تبل لحيته الكريمة البيضاء.

لقد صحبتُ الشيخ (رحمه الله) في إقامته وفي سفره وفي صحته وفي سقمه وحضرت مجلسه العام والخاص فما رأيت منه ضعفًا أو فتورًا فيما تحدثت عنه من إخلاص وخوف من الله واهتمام بأمر المسلمين، رحم الله أستاذي الكريم الذي قلّ نظيره وعزّ مثيله، لقد أحببته حب التلميذ لأستاذه وحب الابن لأبيه وحب الأخ لأخيه في الله.. لقد عاش (رحمه الله) فقيهًا عزيزًا لا يمارى ولا يداهن، يصدع بالحق وإن سكت غيره ولا يبيع شيئًا من دينه بالدنيا كلها، فالدنيا أتفه من أن تكون ثمنًا لشيء من معاني الإسلام؛ فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وجمعنا معه في جنات النعيم والسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيًا» انتهى.

يقول الأستاذ الكبير النائب الأردني يوسف العظم: «.. كان الشيخ أمجد الزهاوي على علاقة طيبة بالمغفور له الملك الشاب فيصل الثاني ملك العراق، علاقة الأب المحب والعالم النقي بالملك الذي كان يتوق لنصح أمثال هذا الشيخ ورعايته، وكان الملك الشاب يعامله معاملة الحفيد للجد أو التلميذ المؤدب للعالم الجليل. وكان الشيخ الزهاوي إذا أراد الحديث مع الملك فيصل الثاني (رحمه الله) رفع السماعة وطلب مأمور قسم الهاتف ورجاه أن يصله بـ (فيصل أفندي) وهو يعتقد أن هذا اللقب يليق بالعظماء؛ لأنه اللقب الذي كان ينادى به السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين، وكان الملك الشاب يستجيب للطلب.

قامت مظاهرة ذات يوم في بغداد، وشارك فيها الشباب من سائر الانتماءات السياسية فزج بعدد منهم في التوقيف للتحقيق معهم فما كان من الشيخ الزهاوي إلاّ أن اتصل بـ (فيصل أفندي)، كما كان يناديه ببراءة ليفرج عن شاب لقيت أمه الشيخ بباب المسجد ترجوه في ولدها الموقوف. فسأل الملك الشاب بتواضع جم وأدب: أي شاب يريد شيخنا أن نفرج عنه؟ فكان جواب العالم الجليل: كلهم يا ولدي أولادنا.. الله يرضى عليك!!.. ويتم الإفراج عن الشباب جميعًا إسلاميين وقوميين وماركسيين إكرامًا من الملك الأصيل للعالم الجليل...» انتهى.

من أقواله

ومن كلمات الشيخ الزهاوي المأثورة: «إن العالم الإسلامي يحترق، وعلى كل منا أن يصب ولو قليلاً من الماء ليطفئ ما يستطيع أن يطفئه دون أن ينتظر غيره». وقد توّجت منظمة حماس الجهادية دستورها بهذه الكلمة الرائعة.

رحم الله أستاذنا العلاّمة، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي عباده الصالحين، ونفعنا الله بما ترك لنا من السيرة الحسنة والقدوة الصالحة، وجمعنا وإياه في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

الداعية المجاهد محمد محمود الصواف (أبو مجاهد)

(1334/1413هـ = 1915/1992 م)

معرفتي بـه

من منا لا يعرف الأستاذ محمد محمود الصواف، ومَنْ مِنَ المسلمين يجهل قدره وجهوده ومساهماته، فالأستاذ الصواف علم من أعلام الإسلام وداعية من دعاته ومجاهد من مجاهديه ليس على مستوى العالم العربي فحسب، بل على مستوى العالم الإسلامي كله، ولقد شرفت بالتلمذة عليه والاغتراف من علمه والالتزام بمنهجه وطريقته، وصحبته في جولات كثيرة في البلاد العربية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين الميلادي.

ميلاده ونشأتـه

الشيخ محمد محمود الصواف

وُلد في مدينة (الموصل) أول شوال سنة (1333هـ/1915 م) بالعراق، وينتسب إلى طيِّئ، من قبيلة شمّر المعروفة. نشأ في بيت علم وجهاد وتجارة.


تتلمذ على شيخه الفاضل عبدالله النعمة، وعلى الشيخ صالح الجوادي، وعلى الشيخ أمجد الزهاوي عالم العراق الفريد.


ودرس بالمدرسة الفيصلية، وحصل على إجازتها العلمية، والتحق بالأزهر عام 1943 م، وكان من المتفوقين في كل مراحل دراساته وأبرزها الأزهر، فقد كان لتخرجه ضجة في أوساط العلماء والصحافة العربية، وذلك حين استطاع أن يختصر دراسته في الأزهر من ست سنوات إلى ثلاث، وحصل على شهادة العالمية في سنتين بدلاً من أربع وعلى التخصص في سنة بدلاً من سنتين، حتى قال شيخ الجامع الأزهر في زمانه الشيخ محمد مصطفى المراغي:


«لقد فعلت يا بني ما يشبه المعجزة، وسننتَ سنة في الأزهر لم تكن».


لقاؤه الإمام البنا

عاد الصواف إلى العراق بعد أن اغترف من العلم الشرعي والعلم الدعوي، الأول اكتسبه من الأزهر، والثاني من خلال لقائه الإمام الشهيد حسن البنا؛ وقد اقتنع بفكرة البنا الإسلامية وعاهده وبايعه، وكان من المبرّزين في الدعوة إلى الله، وشغل منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في العراق، وكان له دور في تأسيس قسم الاتصال بالعالم الإسلامي بالتعاون مع الأخ عبد الحفيظ الصيفـي، من مصر، والفضيل الورتـلاني، من الجزائر وإسماعيل مندا، من إندونيسيا، وقد عُيّن الصواف مدرسًا بكلية الشريعة ببـغداد بعـد تخرجـه، بعد أن رفض منصب القضـاء الذي عرضه عليه وزير العدل العراقي جمال بابان باعتباره مختصًا بالقضاء الشـرعي، وكانت كليـة الشريعة أُسست في الأعظمية في سنـة تخرج الصواف سنة 1946 م وتتبع مديـرية الأوقـاف العامة التي كان مـديـرها تحسين علي، وكان للصواف الدور البارز في توجيه الطلاب للدعوة إلى الله.

نشاطه الدعوي والعلمي

اشتغل بالعمل الشعبي والتوجيه الإسلامي في المساجد والجمعيات، فانتسب إلى جمعية الشبان المسلمين بالموصل، وأنشأ جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها، كما أسس مع شيخ علماء العراق الشيخ أمجد الزهاوي جمعية الأخوة الإسلامية التي قامت بدور رئيس في الدعوة إلى الله في أنحاء العراق.

جهاده وجهوده

عمل مدرسًا بكلية الشريعة في الأعظمية ببغداد، وكان يقود المظاهرات الشعبية لمقاومة المعاهدات الاستعمارية التي تقيد العراق وتربطه بالإنجليز، مثل (معاهدة بورتسموث) التي أسقطتها العمائم البيضاء بقيادة الصواف، كما كان لقضيّة فلسطين و القدس السهم الأكبر من كفاحه، حيث أسس مع الشيخ الزهاوي (جمعية إنقاذ فلسطين) التي ضمَّت نخبة المجاهدين والعاملين لقضية الإسلام الأولى في هذا العصر، وقامت الجمعية بجمع الأموال، وتجهيز المتطوعين، وتقديم الشهداء في سبيل الله للدفاع عن الأرض والعرض والمقدسات. وقد قامت هذه الجمعية بالدعوة إلى مؤتمر القدس سنة 1953 م بالتعاون مع مؤتمر العالم الإسلامي، الذي حضره مجموعة كبيرة من العلماء من أنحاء العالم الإسلامي، أمثال: أمجد الزهاوي، و علي الطنطاوي، و سيّد قطب، و محمد أمين الحسيني، و محيي الدين القليبي، و مصطفى السباعي، و عصـام العطـار، و سعيد رمضان، و محمد الصواف، و عبد اللطيف أبو قورة، و أحمد الخطيب وغيرهم.

كما كانت له مع الشيخ الزهاوي و علي الطنطاوي جولات في الأقطار العربية والإسلامية لشرح قضية فلسطين، وتوحيد الجهود لتحريرها. كما كان لكتيبة المجاهدين العراقيين التي دخلت فلسطين مع كتائب الإخوان المسلمين من مصر و سوريا و الأردن دورها الفاعل والمؤثر في قتال اليهود بفلسطين.

مطاردته وسجنه

وعندما قام الانقلاب العسكري عام 1958 م في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم، وسيطر الشيوعيون على مقاليد الأمور، انصب غضب هؤلاء على الشيخ محمد الصواف ودعوته، يؤازرهم أعداء الإسلام من العلمانيين والقوميين وعملاء الاستعمار، الذين عمدوا إلى الهجوم على مطبعة (لواء الأخوة الإسلامية) وتحطيمها، ثم الهجوم على بيته والقبض عليه وسجنه في سجن أبو غريب مع الكثير من رجالات العراق، مثل اللواء محمود شيت خطاب، وبعد خروجه من السجن استمرت الملاحقة له ومحاولة اغتياله من قبل الشيوعيين مما اضطره إلى مغادرة بغداد في شهر سبتمبر سنة 1959 م في رحلة رهيبة شاقة تحفها المخاطر عن طريق الصحراء الفراتية. وقد تجلت عناية الله ورعايته وتعمية عيون الجواسيس والأعداء عنـه حتى وصـل إلى الحدود السورية، واستقبـل في (البو كمال) و(دير الزور) ثم حلب ودمشق استقبالاً رائعًا مشهودًا على المستوى الشعبي، وكانت فرحة اللقاء به ـ بعد شائعة مقتله من قبل الشيوعيين ـ كبيرة من قبل علماء سورياوشعبها. وعقدت له الاجتماعات الخطابية بكل مكان.

هجرته إلى المدينة

وبعد ذلك، قدم إلى المدينة المنورة، وكان قد سبقه الشيخ الزهاوي إليها ثم إلى مكة المكرمة، وأقام بها منذ سنة 1962 م، وعمل مدرسًا بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، واختير عضوًا بالمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وعضوًا بالمجلس الأعلى العالمي للمساجد، وعضوًا بالمجمع الفقهي الإسلامي للرابطة، ثم مستشارًا بوزارة المعارف السعودية، فمبعوثًا للملك فيصل إلى الملوك والرؤساء، من أجل الدعوة الإسلامية والتضامن الإسلامي، وكانت آخر جولاته رئاسته لوفد المصالحة بين الأحزاب الأفغانية في بيشاور و باكستان.

محاربته الاستعمار و الصهيونية

لقد صدع الأستاذ الصواف بكلمة الحق، وأهاب بالمسلمين أن يرجعوا إلى دينهم، واستنهض الهمم لإنقاذ فلسطين، حين صدر قرار التقسيم الجائر سنة 1947 م، وأنشأ (جمعية إنقاذ فلسطين)، وسارع إلى الجهاد يُعِدُّ الكتائب ويجهز المجاهدين ويجمع الأموال لدعمهم، كما أسهم وتلامذته في العراق بإسقاط معاهدة (جبر ـ بيفن) الاستعمارية، وظل هذا دأبه وشأنه مع المجاهدين في كل مكان سواء كانوا في فلسطين أم في الجزائر أم في أفغانستان أم في الفلبين أم في كشمير.

جولاته الدعوية

وكان لجولاته الدعوية في أفريقيا وجنوب شرق آسيـا - التي لقـيت كل دعم من الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز آل سعود - أكبر الأثر؛ فقد أحيت روح التضامن الإسلامي، ووطدت العلاقات بين المسلمين قادة وشعوبًا بعد أن كان المد القومي العلماني يجتاح المجتمعات العربية بدعم من أمريكا وعملائها بمصر.

ولقد كانت له مواقف بطولية أمام تجبر الطغاة والمستعمرين تمثّلت فيها العزّة والإباء والصلابة والرجولة والجرأة والصراحة، تلمس هذا في خطبه ومحاضراته وأحاديثه وكلماته وتآليفه ومصنفاته التي تلهب الحماس وتستجيش المشاعر، فقد كان أول كتاب صدر له أوائل الأربعينيات هو كتاب (صرخة مؤمنة إلى الشباب والشابات) الذي كان له أعظم التأثير في دعوة الشباب إلى الحق والخير والالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة وسلوكًا ومنهج حياة، إذ أقبلوا على الإسلام إقبال الظمآن على الماء.

مـواقـفـه

ولم يتأخر الأستاذ الصواف عن موقف من مواقف المروءة والشهامة، فقد كان كريم النفس واليد، يجود بكل ما عنده في سبيل الإسلام والمسلمين، وهذا بشهادة كل من عرفه عن قرب وعايشه أو رافقه في أسفاره ورحلاته.

كما كانت مواقفه من ثورة التحرير الجزائرية ومساندتها مشهودة، متعاونًا مع علمائها أمثال البشير الإبراهيمي و الفضيل الورتلاني وغيرهما، إذ دعاهم لزيارة العراق وعقد لهم المؤتمرات الشعبية لشرح قضية الشعب الجزائري وجهاده ضد المستعمرين الفرنسيين، وسافر معهم إلى الأقطار العربية للتعريف بالقضية والدعوة لمؤازرتها.

والأستاذ الصواف لم يترك مدينة في العراق إلا زارها ودعا جماهيرها وخاصة شبابها إلى منهج الإسلام وطريق الدعوة، كما زار معظم الأقطار الإسلامية ينشر دعوة الإسلام ويتصدى للمفسدين في الأرض من أصحاب المبادئ المستوردة، وينبري لتفنيد دعاواهم، وكشف زيفهم ودحض شبهاتهم، لما كان يتمتع به من جرأة في الحق وقوة في الحجة والبرهان.

وفي السنوات العشر الأخيرة من عمره، أعطى معظم جهده للجهاد الأفغاني الذي ملك عليه كل جوانب نفسه، وأصبح القضية الأولى والهم الأكبر الذي يسخر له طاقاته، ويدعو الأمة الإسلامية كلها إلى مؤازرة المجاهدين الأفغان والوقوف إلى جانبهم ومساندتهم في جهادهم الإسلامي.

بل كان لجهوده الإصلاحية والتوفيقية بين فئات المجاهدين وقادتهم الدور الكبير في وأد الفتن التي يثيرها الأعداء، وكم كانت خطبه ومواعظه تُبكي الحاضرين، وتستل السخائم من النفوس، ويعود الجميع إخوة متحابين متعاونين في جو من الصفاء والروحانية، ورغم كبر السن وضعف الجسم ووهن العظم؛ فإن روحه كانت روح الشباب والفتوة، وعزيمته لا تلين ولا تضعف أمام العقبات أو المغريات لاعتماده على الله في كل خطواته.

إن الأستاذ الصواف مدرسة قائمة بذاتها هابه الطغاة وأحبه الناس، فقد كان صادق اللهجة، طيب القلب، ودودًا متحبّبًا إلى الصغير والكبير، يعيش هموم الناس ومشكلاتهم ويتفاعل مع الأحداث التي تواجه المسلمين في كل أقطارهم، ويبذل قصارى جهده لعلاجها وحل معضلاتها.

ولقد ترك جيلاً، بل أجيالاً من الشباب في العالم الإسلامي وبخاصة في العراق والمملكة العربية السعودية، كلهم يعتز بالتلمذة عليه ويذكره بكل الخير.

وفـاتــه

توفي يوم الجمعة 13 ربيع الآخر سنة (1413هـ/أكتوبر 1992 م) بينما كان في انتظار إقلاع الطائرة من مطار (استانبول) في طريق عودته إلى مكة المكرمة، وقد صُلي عليه بالمسجد الحرام ودفن في مقابر المعلاة بمكة المكرمة.

من مؤلفاته

شهادة بـحقه

يقول الأستاذ يوسف العظم - الداعية والشاعر المعروف عضو البرلمان الأردني ومدير مدارس الأقصى:

«.. وفي بغداد عرفت عددًا كريمًا من أساتذتي ومعلميّ الذين لا أنسى عطاءهم وإخلاصهم وفي طليعتهم العالم الشاب الشيخ محمد محمود الصواف، المدرس بكلية الشريعة ببغداد، كان يفيض إيمانًا بالله ورسوله، ويتفجر عاطفة صادقة وحبًا لأمته ووعيًا لدينه، وكان قريبًا من نفوسنا، فلم يكن مجرد معلّم يلقي الدرس أو يلقي المحاضرة، بل يقوم بدور المرشد والموجّه وولي الأمر أحيانًا فيحلّ لنا المشكلات، يقدّم لنا النصيحة، وكان من المعجبين بفكر الإمام الشهيد حسن البنا ودعوته لوحدة الأمة، مما حببنا بالأستاذ البنا ودعوته وكان يفهم الإسلام بكماله وشموله كدين ينظم شؤون الحياة كلها فهو عقيدة أمة ومنهج حياة، وكان له دور كبير في فضح الاستعمار البريطاني الذي أفسد المجتمع العراقي وأبعد الدين عن ميدان الحياة، كما كان يحثّ الجماهير للمطالبة بالحرية والعمل على تحرير فلسطين قاطبة من اليهود وأعوانهم. وكانت خطبه الجماهيرية في الرجال والنساء تستجيش المشاعر فيقدم الناس تبرعاتهم، وتخلع النساء حليهن متبرعات للجهاد في فلسطين من خلال جمعية إنقاذ فلسطين التي أسسها بالتعاون مع علامة العراق الشيخ أمجد الزهاوي...» انتهى.

ويقول المحامي نور الدين الواعظ:

(كان الأستاذ الصواف مخلصًا لدينه، عاطفيًا، صادقًا مع إخوانه، وكان وفيًا وغيورًا على الإسلام، بعيدًا عن المقاصد الشخصية، ولم يكن يؤمن بالقومية نهائيًا، لا يفرق بين إخوانه من العرب والأكراد والتركمان).

ويقول الأستاذ غانم حمودات:

(إنه كان يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، لقد رأيت إخلاصه، وعلو همته، وغيرته، وحبه للعمل، واستغناءه عن الناس، وصبره، ومصابرته، واهتمامه بأمور المسلمين، وجهده وجهاده في سبيل قضيتي فلسطين و الجزائر، وغضبه إذا انتهكت حرمات الله أو تكلم إنسان في وجهه ينتقص الإسلام، وكان يمشي في حاجات الناس وبخاصة حاجات إخوانه.

إن هذه الصفات وأمثالها من طيب صفاته هي ما يصح أن يقتدى به). ويقول المهندس عبد الوهاب الحاج حسن: (الصواف غني عن التعريف، فقد كان مسلمًا صادقًا منذ صباه وإلى حين وفاته، ونذر نفسه لخدمة الإسلام ونشر مبادئه ووقف جهده وماله في سبيل إعلاء كلمة الله).

ويقول الشيخ إبراهيم منير المدرس:

(لم أجرب عليه إلا كل طيب، ولم يكن عنده إلا هم واحد هو هم الإسلام والمسلمين، كان متواضًعا في كل تصرفاته، ولم يكن يملك إلا ضروريات الحياة في بيته، ويسكن في بيت صغير يعود إلى خال أولاده سالم الأطرقجي، ولم يكن يأخذ منه أجرًا، ولم يكن عنده مورد إلا راتبه، ولم يكن يحمل في صدره ذرة حقد على أعدائه، وكان كريم النفس، يستقبل زوار بغداد من العالم الإسلامي في بيته وكذلك إخوانه).

ويقول الشاعر وليد الأعظمي:

(وجاء أبو مجاهد فبهرنا به، خَلقه وخُلقه وبيانه، كان متواضًعا عالمًا لم يتفرغ للعلم وإنما للدعوة، كان ذكيًا وفيًا، يعرف الإخوان بأسمائهم، وكان يحضر جميع المناسبات الاجتماعية، حتى لأفقر الإخوان، وحضر مرة مباريات فرق الإخوان في ساحة الكشافة ووزع الجوائز. ولم يهتم لاستنكار بعض العلماء لهذا التصرف من معمم.

كان فقيرًا، وكانت له علاقات واسعة مع الكل، ولم يكن يتردد في أي عمل تكون فيه مصلحة الدعوة الإسلامية ولم يكن عنده أي ميل قومي، وبالاختصار كانت تتوافر فيه شروط القيادة، وكان يستشير كبار العلماء، وعلى رأسهم شيخنا العلامة أمجد الزهاوي (رحمه الله تعالى).

ويقول الأستاذ عبد القادر الجنابي:

(كان الأستاذ الصواف متحمسًا خطيبًا مفوهًا، يلقي حماسًا وصدى في نفوسنا، كان هو النافخ فينا، والعلماء لم يستطيعوا ما فعله الصواف.

كان متواضعًا وكان فقيرًا له سهم صغير في محل للخياطة في شارع الرشيد مع رجل فلسطيني هو المرحوم أحمد الزقة).

رحم الله الأستاذ الصوافرحمة واسعة، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي عباده الصالحين، ووفق الله علماء الأمة ودعاتها لتحمل التبعة وإبلاغ الرسالة، فإن الطريق طويلة والرحلة شاقة والمخلصين قلة، ولكـن التوكل على الله والاعتماد عليه وطلب العون منه والأخذ بالأسباب والصبر والمصابرة على مشاق الطريق ووعورة المسالك واحتساب كل ذلك في سبيل الله، كلها كفيلة ـ بإذن الله ـ بتحقيق النصر لدعوة الله في الأرض وهداية الناس إلى طريق الحق والخير، وإقامة منهج الله في واقع الناس: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).

وقد رثاه الشاعر الإسلامي الكبير وليد الأعظمي بقصيدة جاء فيها:

أكبرت يومك أن يكون وداعا

يا مالئ الوادي هدًى وشعاعا

يا باعثًا همم الشباب إلى العلا

لولاك كادوا يذهبون ضياعا

يا داعيًا لله أفنى عمره

سعيًا ليهدم للفساد قلاعا

ومربيًا للناشئين موجّهًا

أفكارهم كي يبدعوا إبداعا

وأخذتهم بالرفق حتى جانبوا

سُبُلَ الهوى وسرابها اللماعا

واستيقنوا أن العقيدة نعمة

من حقها أن تُفتدى وتُراعى

يا شيخ أُمَّتنا وحامل همّها

أفنيت عمرك متعبًا ملتاعا

جاهدت في عرض البلاد وطولها

تتجاوز الأقطار والأصقاعا

تبكي على (القدس الشريف) وأهله

باتوا عراةً في الخيام جياعا

و(القادة العظماء) كل جهادهم

خُطَبٌ ولا تتجاوز المذياعا

هم كالأسود على الشعوب وفي الوغى

كانوا هناك ثعالبًا وضباعا

قد كنت ربان السفينة عندنا

تمضي وترفع للنجاة شراعا

وإذا خطبت فأنت سيل دافق

ملأ الوهاد هديره دفّاعا

وحديثك العذب الزلال بهديه

يحيي القلوب ويبهج الأسماعا

ويرنّ في أذن الزمان هتافكم

(الله غايتنا) هدىً وصراعا

علّمْتَنَا أن (الجهاد سبيلنا)

للمجد نمضي راكضين سراعا

وصرخت في وجه الطغاة مغاضبًا

وكشفت عن تلك الوجوه قناعا

وصدعت بالحق الصراح ولم تلن

عند الشدائد همّةً وقراعا

ولويت أعناق الطغاة بصولة

وتركتهم لا يرفعون ذراعا

وملكت أفئدة الرجال وغيركم

يسعى ليملك (منصبًا) و(ضياعا)

أنا من ثمارك شاكر لك شاهد

ما كان سعيك في الجهاد مضاعا

أبشر بفضل الله يوم لقائه

بركاته تترى عليك تباعا

اللواء الركن محمود شيت خطاب القائد المحنك والمؤرخ الموسوعي

(1337 ـ 1418هـ = 1919 ـ 1998 م)

نشأته

اللواء محمود شيت خطاب

ولد سنة1919 م بمدينة الموصل من أسرة تعمل في التجارة، وقد تولت جدته لأبيه حضانته لأن والدته سرعان ما رزقت بأخ له بعد سنة من ولادته، وكان لجدته الدور الكبير في تربيته على الإسلام ، والأخلاق الإسلامية، فقد كانت تصحبه إلى المسجد لصلاة المغرب، وتبقى معه حتى تصلي العشاء ثم تعود به إلى البيت، واستمرت رعايتها إياه إلى أن توفاها الله وعمره ستة عشر عاماً.

وكانت البيئة التي نشأ فيها، والمحيط الذي عاش فيه يلتزمان العبادة، من صلاة، وصيام، وزكاة، وتلاوة للقرآن الكريم، ويلتزمان الخلق الإسلامي من تعاون وإخاء وتواصل وتزاور. وقد درس في الكتّاب مبادئ الإسلام ، وتجويد القرآن وتلاوته وحفظه وتعلم فيه الخط، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية في السنة الثامنة من عمره، وواصل تعليمه فيها حتى أكمل المراحل الثلاث: الابتدائية والمتوسطة والثانوية.

وكان يصحب والده إلى مجالس الحيّ، حيث يجتمع الأعيان في مجلس يسهرون فيه على سماع الأخبار وقراءة الكتب النافعة، وتدارس مشكلات الناس، ومساعدة من يحتاج إلى المساعدة، وحلّ المعضلات التي تعترض الأفراد والأسر.

وكان والده يكلفه بقراءة أحد كتب التاريخ على الحضور، ومعظمهم من أهل العلم واللغة، فكان ذلك سبباً من أسباب حرصه على إتقان القراءة، وعشقه للتاريخ، وانصرافه للكتابة فيه، وكانت باكورة إنتاجه كتابه "الرسول القائد" الذي صدر سنة 1958 م ثم تتابعت كتبه الأخرى بعد ذلك.

حياته العلمية والعملية

وقد كان يرغب بدراسة الحقوق بعد حصوله على الثانوية، ولكن شاء الله غير ذلك، حيث التحق بالكلية العسكرية سنة 1937 م وتخرّج فيها برتبة ملازم في سلاح الفرسان، وقد سأله آمر السرية:

أتشرب الخمر؟ أتلعب القمار؟ أتحب النساء؟

ولما نفى خطاب ذلك، قال آمر السرية:

إن انضمامك إلى سريتي نكبة عليّ !! واستكمل مراحله العسكرية، حيث تخرج برتبة ضابط ركن، وابتعث إلى دورة في بريطانيا لمدة سنتين حتى وصل إلى رتبة لواء أركان حرب.

وقد شارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941 م، وأصيب بشظايا من قنابل الإنجليز، ولكن شاء الله له الشفاء، رغم شكوك الأطباء، كما تعرض لمؤامرات الشيوعيين أيام عبدالكريم قاسم بعد ثورة الشواف بالموصل، وناله التعذيب الشديد وأصابته كسور كثيرة، حيث اعتقل لمدة ثمانية عشر شهراً، وقد مارس التدريس في الكليات العسكرية في العراق و مصر، وكان من فراسته ودقة دراسته للعدو الصهيوني، أنه حدد اليوم الذي عزمت فيه الكيان الصهيونى أن تضرب ضربتها وهو يوم 5-6-1967 م، ونشر هذا في جريدةالعرب البغدادية يوم 1-6-1967 م، حتى إن المؤلف الإسرائيلي صاحب كتاب "الحرب بين العرب و إسرائيل" قد أثنى على عبقرية شيت خطاب ووصفه بأنه أكبر عقلية استراتيجية في العرب، ولكنه لا يجد من يستفيد منه.

وقد اختير رئيساً للجنة توحيد المصطلحات العسكرية في الجيوش العربية، ودعا لوضع معجم عسكري موحد، وصدر المعجم في أربعة أجزاء: بثلاث لغات هي: العربية، والإنجليزية، والفرنسية، كما ألف كتاب "المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم"، وقد شارك في عضوية كثير من المجامع العلمية واللغوية والمؤسسات الإسلامية وتولى عدداً من الحقائب الوزارية، فقد كان:

-عضو المجمع العلمي العراقي.

-عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

-رئيس لجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية في جامعة الدول العربية.

-عضواً مؤسساً لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.

-عضواً في المجلس الأعلى العالمي للمساجد بمكة المكرمة.

مناصب وزارية لعدة مرات.

وهو إلى جانب ذلك، يقرض الشعر، وله فيه إسهام طيب، وإن كان مقلاً فيه.

معرفتي به

زارنا بالكويت أواخر سنة 1969 بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لحضور الموسم الثقافي، وإلقاء المحاضرات، وقد كنتُ أقدّمه في المحاضرات، وأصحبه في الزيارات للشخصيات والهيئات والمؤسسات، وقد ألقى محاضرات عدة، وكانت إحداها بعنوان "إرادة القتال" وفيها تطرق بصراحة ووضوح إلى عدم جدية الحكومات العربية في محاربة إسرائيل، حيث إن الحكام يضطهدون شعوبهم، ويتصرفون في مقدرات البلاد وفق أهوائهم ونزواتهم، وتعبئة الجنود لم تكن إيمانية، ولم يكن ثمة إرادة للقتال ولا تدريب على مستوى المواجهة مع العدو الصهيوني، فكانت الأغاني هي زاد الجنود، وصور الزعيم والممثلين والممثلات والمغنين والمغنيات هي سلاحهم، ومن هنا كانت الهزيمة الكبرى وضياع المقدسات، وانتهاك الحرمات.

وكانت محاضراته وندواته وأحاديثه دواء وبلسماً، وكانت توجيهاته للشباب بالكويت وبخاصة للشباب المسلم بجمعية الإصلاح الاجتماعي ذات أثر بالغ في تجديد العزم، ورفع الروح المعنوية، لأن الإسلام لم يخض المعركة، ولكنها الزعامات الفارغة التي كشف الله عوارها، وأبان هزالها، وأسقط دعاواها وشعارها، وليس سوى الإسلام طريقاً لعزتها وسيادتها، وكل ما عداه باطل وهراء.

وتكررت اللقاءات به بعد ذلك في المملكة العربية السعودية وغيرها، وكان آخرها حين قدم للعلاج في الرياض سنة 1410 بالمستشفى العسكري، وزرته مع الأخ أبي غزوان، فإذا هو ذاك الرجل الفذ، والقائد الشجاع، والمؤمن الصادق الذي يعيش الإسلام بكل جوارحه، ويدعو إليه، وهو في أشد حالات مرضه، لأنه يؤمن بقضاء الله وقدره صابراً محتسباً.

مؤلفاته

له أكثر من مئة وعشرين كتاباً ومنها: الرسول القائد، الوجيز في العسكرية الإسرائيلية، العسكرية الإسرائيلية، حقيقة إسرائيل، دراسات في الوحدة العسكرية العربية، أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية، طريق النصر في معركة الثأر، الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها، بين العقيدة والقيادة، الإسلاموالنصر، عدالة السماء، تدابير القدر، تاريخ جيش النبي، دروس عسكرية في السيرة النبوية، غزوة بدر الكبرى، العسكرية العربية الإسلامية، المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم، الصديق القائد، الفاروق القائد، عمرو بن العاص، خالد بن الوليد المخزومي، قادة فتح المغرب العربي، قادة فتح مصر، القتال في الإسلام، جيش النبي، العدو الصهيوني والأسلحة المتطورة، التصور الصهيوني للتفتيت الطائفي، التدريب الفردي ليلاً، القضايا الإدارية في الميدان، تعريف المصطلحات العسكرية وتوحيدها، المجمع العسكري الموحد، الشورى في المواثيق والمعاهدات النبوية، ومضات من نور المصطفى، قادة فتح الجزيرة، قادة فتح فارس، إرادة القتال في الجهاد الإسلامي، الشورى العسكرية النبوية، قادة النبي، قادة فتح السند وأفغانستان، قادة الفتح الإسلامي في بلاد ما وراء النهر، قادة الفتح الإسلامي في بلاد أرمينيا، سفراء النبي ، عقبة بن نافع الفهري، قادة فتح بلاد الشام، قادة فتح بلاد الروم، قادة فتح بلاد الأندلس، الرسالة العسكرية للمسجد، دروس في الكتمان، أسباب انتصار الرسول القائد، التوجيه المعنوي للحرب، الرقيب العتيد، اليوم الموعود، أقباس روحانية، نفحات روحانية، السفارات النبوية، أسرار الحرب العالمية الثانية، الأمثال العسكرية في كتاب "مجمع الأمثال"، أهمية توحيد المصطلحات العسكرية، وله عدد كبير من الأبحاث والمقالات المنشورة في معظم الصحف والمجلات العربية والإسلامية.

مقتطفات من شعره

قال في رثاء جدته :

أجهدت نفسك فاستريحي قليلا

قد كان عبئك في الحياة ثقيلا

نزلت ْعليك مصائب الدنيا ولو

نزلت على جبل لخرَّ مهيلا

وجد القنوط إلى الرجال سبيله

وإليك لم يجد القنوط سبيلا

ولربَّ فرد في سمو فعاله

وعلوه خُلقاً يعادل جيلا


معركة جنين :

وقال بعد استرداد قواته لمدينة جنين من اليهود، وقبل انصراف قواته إلى العراق بعد الهدنة:

هذي قبور الخالدين وقد قضوا

شهداء حتى ينقذوا الأوطانا

المخلصون تسربلوا بقبورهم

والخائنون تسنموا البنيانا

لا تعذلوا جيش العراق وأهله

بلواكمُ ليست سوى بلوانا

أجنين يا بلد الكرام تجلدي

ما ضاع حق ضرَّجته دمانا

إني لأشهد أن أهلك قاوموا

غزو اليهود وصاولوا العدوانا

فإذا نُكبت فلست أول صارم

بهظته أعباء الجهاد فلانا

مرجُ ابن عامر خضبته دماؤنا

أيصير مُلكاً لليهود مهانا

وهو الخلود لمن يموت مجاهداً

ليس الخلود لمن يعيش جبانا

من أقواله

لما ذهبت للدراسة في الكلية العسكرية بلندن، سألني عميد الكلية: لماذا قدمت؟

قلت: لتجديد معلوماتي العسكرية، ولتلقي أي جديد في العلم.

فعقَّب العميد على كلامي: بل قدمت لتتعلم مغازلة الفتيات.

فكظمت غيظي وقلت في نفسي:

إن هذا لا يلقي كلامه جزافاً، وإنما يحكم عليَّ بما شاهده في سواي. ولما ذهبت إلى السكن المخصص لي، وجدت فراشاً وفتاة تعمل على ترتيب غرفة نومي، فانتظرت في البهو دون أن أعيرها اهتماماً، حتى إذا خرجت سألتني: هل لديك توجيهات؟

قلت: شيء واحد، هو أن تحضري لأداء مهمتك عندما لا أكون حاضراً".

ويروي أيضاً فيقول:

"بعد تخرجي ضابطاً سنة1938 م كان من تقاليد الجيش أن تولم وليمة للضباط الجدد، وشهدت الحفلة مع زملائي، فجاء قائد الكتيبة وقد ملأ كأساً بالخمر، وأمرني أن أبدأ حياتي بشرب الخمر، وكان الليل قد أرخى سدوله، وكانت السماء صافية تتلألأ فيها النجوم، وكان قائد الكتيبة برتبة عقيد يحمل على كتفيه رتبته العسكرية وهي بحساب النجوم: اثنتا عشرة نجمة، فقلت له:

إني أطيعك في أوامرك العسكرية، وأطيع الله في أوامره، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنك تحمل على كتفيك اثنتي عشرة نجمة، فانظر إلى سماء الله لترى كم تحمل من نجوم.

فبُهت القائد وردد: السماء.. السماء.. نجوم السماء!

ومضى غضبان أسفاً، وشعرتُ بأن موقفي هذا ليس مصاولة بيني وبين القائد، ولكنها مباراة بين إرادته بشراً، وبين إرادة الله خالق البشر".

ويقول: "إن الدعوة التي تبناها المبشرون وعملاء الاستعمار وأذنابهم في إبعاد الدين الإسلامي عن الحياة، دعوة مريبة، هدفها إبعاد العرب عن الناحية المعنوية في حياتهم، فالعرب جسم والإسلام روحه، ولا بقاء للجسم بدون الروح.

إن قوى هائلة تعمل على تحطيم هذا الجيل، وتفتيت قدراته، وكانت قبل مقصورة على العدو الخارجي، أما اليوم فقد وجدت لها مرتكزات لا تحصى في الداخل، وإن ارتباط مستقبل هذا الجيل صعوداً أو هبوطاً بمدى التزامه هداية الإسلام، أو إعراضه عنه.. إن المسلمين اليوم في حاجة ماسة إلى قادة كخالد والمثنى وغيرهم، إلا أن حاجتهم إلى العلماء العاملين أمسّ وأشدّ.

هناك أزمة ثقة بين الشيوخ والشباب.. ومردُّ ذلك إلى فقدان عنصر القدوة الصالحة في معظم الذين يُعدُّون في الشيوخ، ويظنون أن كل ما عليهم هو أن يحسنوا عرض الموعظة السطحية، ولو كان سلوكهم الشخصي أبعد ما يكون عما يدعون إليه".

مواقفه

يروي الأخ عبدالله الطنطاوي عن اللواء الركن محمود شيت خطاب أنه حدثه عن رحلته إلى مصر بصحبة رئيس الجمهورية العراقية المشير عبدالسلام عارف ، وهناك في القاهرة طلب من عبدالسلام عارف أن يتوسط لدى صديقه عبدالناصر للإفراج عن سيد قطب، وتحدث عارف مع ناصر بحضور خطاب، ووافق عبدالناصر للإفراج عن سيد قطب ، وعندها طلب خطاب من عبدالناصر أن يسمح له بزيارة سيد قطب في سجنه، فسمح له بذلك، وحين قابله وأخبره بالوساطة، قال سيد قطب في حزن:

سامحكم الله.. لو شاورتموني لرفضتُ الوساطة، ولما خرجتُ بهذه الصورة.

وحين خرج سيد قطب أهدى مؤلفاته لعبدالسلام عارف، و محمود شيت خطاب، وكتب لهما عليها إهداءً لطيفاً بخط يده.

وتكرر الموقف مع العلامة أبي الأعلى المودودي، حيث كان في السجن في زمن أيوب خان، ورفض المودودي الوساطة من عبدالسلام عارف للإفراج عنه، وأصر على البقاء في السجن.

كما كان للواء الركن محمود شيت خطاب موقف مجيد في الدفاع عن اللغة العربية، ومحاربة الدعوة إلى اللهجة العامية، والشعر الحر، وأن الشعر الموزون المقفى هو من دعائم اللغة العربية، كما حارب الدعوة لكتابة العربية بالأحرف اللاتينية، ورحب بالجانب العلمي من الحضارة الغربية، ورفض ما عداه من المبادئ والأخلاق والعادات والسلوك الغربي الذي انحدر إلى الحضيض في العلاقات الجنسية والإباحية والمادية وغيرها من المبادئ المادية، وما تتركه من آثار على إنسانية الإنسان وروحه، وسلوكه.

وقد كانت الصهيونية أعدى أعدائه، ومحور تفكيره وهمومه، كان يرى أن العلاج لها هو الجهاد، فإسرائيل لا تفهم غير لغة القوة، وهي الطريق لتحرير فلسطين، وسحق الكيان الصهيونى العنصرية.

وأن الإسلام هو الحل لسائر القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية للأمة الإسلامية، ونحن أمة أعزنا الله بالإسلام ، فإذا طلبنا العزة بغيره أذلنا الله، وأن الوحدة قدر، والقدر أقوى من البشر، ويجب العمل للوحدة من أجل العزة والمجد، ومن أجل القضاء على إسرائيل.

قالوا عنه

يقول الدكتور يوسف إبراهيم السلوم:

"زرته في المستشفى العسكري بالرياض عام 1410هـ قبل وبعد إجراء العملية التي أجريت له في القلب، ولمست منه الشجاعة الأدبية، والإيمان القوي، والرضاء بالقدر، وصبره على الآلام، مع كبر سنه، ورغم ذلك كانت حقيبته لا تخلو من بعض المؤلفات الجديدة له، وتفضل مشكوراً بإهدائي نسخاً منها، وكان يتحدث مع زواره بروح عالية، فازددت تعلقاً به، ومحاولة معرفة المزيد عن سيرته وحياته، وقد كنت أتابع ما يصدر له من كتب ومؤلفات وبحوث ومقالات، فأجد فيها المعين لي في حياتي العسكرية، لتأصيل العلوم والثقافة العسكرية حتى أصبحت مدرسة متميزة".

ويقول الأديب عبدالله الطنطاوي :

"عاش اللواء خطاب عصراً متفجراً من أعنف العصور، وكان نصيب العراق كبيراً من الحرائق والمعاول بعد فلسطين الذبيحة، وكان اللواء خطاب شاهد القرن على تلك الكوارث والمآسي التي اجتاحت العراق والشعوب العربية والإسلامية، فكان ميلاد الكيان الصهيوني ، ثم شهد هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران- يونيو سنة 1967 م.

عاش محمود شيت خطاب عصره بكل ما فيه، وناله الكثير مما فيه، وعاه بعقله وذكاء قلبه، وأسهم في إطفاء بعض الحرائق".

ويقول الإمام العلامة الشيخ محمد أبوزهرة :

"إن صديقي الكريم اللواء الركن محمود شيت خطاب القائد العظيم المدرك، والوزير المخلص وقليل ما هم سعدت بمعرفته، وأحسست بأني أعرفه منذ سنين، يسير بفكره، وقوله وعمله في خط مستقيم كاستقامته، وقد جمع الله له من الصفات ما تسمو به واحدة منها عن سفاسف الأمور، وتتجه إلى معاليها:

  • أولها: الإخلاص في القول والعمل.
  • وثانيها: الإدراك الواسع، والعلم بما حوله، وتعرف الأمور من وجوهها، وإدراكها من مصادرها، فقلمه نقي وفكره ألمعي.
  • وثالثها: إيمان صادق بالله ورسوله النبي الأمين.

ويكمل هذه الصفات همة عالية، وتجربة ماضية، وخبرة بالعلم والحرب، وخصوصاً ما كان بين العرب واليهود، وهو عالم بالعربية، وملم إلماماً عظيماً في شؤون الدين، وقارئ يتقصّى الحقائق فيما يقرأ، ينفر من التقليد للفرنجة، ويؤثر ما في القرآن والسنة، وهو قائد يعرف خصمه، ويدرك مراميه، حتى إنه ليتوقع الحرب أو الهجوم من عدوه في ميقاتها وقبل أن يعلنها، وقبل أن يفكر فيها من سيكونون حطبها، لأنه يعلم الخصم ومآربه وحاله، ويتعرف من ذلك مآله، لقد علم بهجوم اليهود سنة 1967 م، قبل أن يعلنوه، وقبل أن يقدره الذين كانوا في زعمهم يديرون الأمور، ويلبسون لكل حال لبوسها".

تكريمه

وفي حفل تكريمه ألقى الشاعر وليد الأعظمي هذه القصيدة:

اليوم أنشد في تكريم "محمود"

شعراً يعبر عن عن حب وتمجيد

أشدو به بين أهل الفضل مبتهجاً

ولا ابتهاجي في عُرس وفي عيد

هذا سروري لم أنعم به زمناً

مما أكابد من هم وتسهيد

موكّل بهموم الناس أحملها

وقراً على كاهلي المكسور أو جيدي

أسعى وأركض في إطعام ذي سغب

ودفن موتى المساكين المناكيد

واليوم ألقي همومي جانباً لأرى

هذا التجمع من أعلامنا الصيد

جاؤوا يُحيُّون "محمود" الصفات صفت

أخلاقه وزهت بين الأماجيد

ويصدحون بألحان الثناء كما

تشدو الطيور بتطريب وتغريد

هذي سجاياه كالريحان عاطرة

كالمسك ديف بأطياب من العود

يفوح منها أريج العلم ينعشنا

كالبارد العذب للظمآن في البيد

له أياد علينا جِدّ سابغة

بالفضل والعلم والإحسان والجود

يراقب الله في سرٍّ وفي علن

يقضي الليالي بتسبيح وتحميد

لسانه الرطب بالأذكار منشغل

عن ذم "سعد" وعن إطراء "مسعود"

وبالتلاوة في الأسحار متعته

وبالمناجاة للمولى وتوحيد

ذاق الأذى في سبيل الله محتسباً

ما كان عاناه في أيامنا السود

من اضطهاد وتعذيب وسخرية

يشيب من هولها شَعر المواليد

وهو الصبور على ما ذاق من محن

وكان أصلب من صمِّ الجلاميد

فما استكان لطاغوت ولا صنم

ولا تهيَّب من أحفاد "نمرود"

أخباره من ظلام السجن نافذة

تسري على ألسن النجوى بترديد

وسنة الله في الأبرار ماضية

بالابتلاءات من ضيق وتشريد

يُمحص الله أحوال الرجال بها

بين الصناديد منهم والرعاديد

أقلامه لسطور المجد راقمة

سفر الفتوحات من خير الأسانيد

و"قادة الفتح" نبراس يضيء لنا

نهج البطولات في عزٍّ وتخليد

وفي "السفارات" عند المصطفى خطط

تدعو لحسن اتباع في التقاليد

لطف ورأي وإخلاص وتضحية

وحكمة ووفاء بالمواعيد

مضى يدافع عن تاريخ أمتنا

يردُّ شبهة تنصير وتهويد

يردُّ كيد العدى في نحرهم قلم

يأتي على حجج الأعدا بتفنيد

وفي "فلسطين" أيام له سلفت

مجاهداً مع أبطال صناديد

يصول كالليث في غاراته جلداً

يطارد البغي في الوديان والبيد

وذكريات له في "القدس" باقية

لا ينمحي ذكرها من قلب "محمود"

يا رب بارك له في سعيه وأدم

عليه فضلك بالإنعام والجود

وفاته

في صباح اليوم الثالث عشر من شهر ديسمبر سنة 1998 م، كان اللواء خطاب يجلس على كرسي عتيق تحت درج منزله، وجاءت ابنته تودعه، وقبل أن تغادر المنزل إلى الجامعة، طلب منها أن تجلس معه لتقرأ سورة "يس" فجلست وجاءت زوجته وجلست وقرأت البنت سورة "يس" وكان يقرأ معها، فأحس بجفاف في حلقه بعد الانتهاء من قراءة السورة، فطلب من زوجته أن تأتيه بكأس من الشراب، وأسرعت الزوجة إلى المطبخ وهي تسمع زوجها يردد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.. وكررها مراراً ثم سكت، وابنته تنظر إليه وتردد معه شهادة الحق، فأسرعت زوجته إليه لتراه كالنائم، قد أسلم الروح لبارئها. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الشيخ المجاهد عبد العزيز البدري

(1347 ـ 1389هـ = 1929 ـ 1969 م)

مولده ونشأته

الشيخ عبدالعزيز البدري

هو الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف البدري، من مواليد مدينة (سامراء) بالعراق سنة 1347هـ 1929 م، نشأ في بيئة علمية، وتلقى دروسه الدينية على أيدي طائفة من علماء بغداد الأجلاء، أمثال: الشيخ أمجد الزهاوي، والشيخ محمد فؤاد الآلوسي، والشيخ عبد القادر الخطيب وغيرهم.

وقد تولى الوعظ والإرشاد والخطابة في مساجد بغداد وغيرها، وكان خطيبًا مفوهًا، جريئًا في كلمة الحق، متحمسًا لنصرة الإسلام، متصديًا للأفكار الوافدة، ودعاة المذاهب الهدّامة، يلاحقهم حيثما وجدوا، ويفنّد دعاواهم، ويبطل مقولاتهم، ويكشف زيف أفكارهم، ويفضح أساليبهم، فكانوا يهربون من مواجهته.

عرفته ببغداد أوائل الخمسينيات، شابًا متحمسًا، يتردد على المشايخ، ويستفيد من علومهم، ويقرأ الكثير من الكتب الإسلامية الحديثة، ومنها كتب الشيخ تقي النبهاني، وكان يكره الاستبداد والطغيان، ويتعرّض للمفسدين باليد واللسان.

وفي فبراير 1388هـ 1968 م، زارنا بالكويت، والتقيته عند معالي الأخ يوسف هاشم الرفاعي، وأهداني كتابين من مؤلفاته، هما: «الإسلام بين العلماء والحكام»، و«حكم الإسلام في الاشتراكية»، من منشورات المكتبة العلمية لصاحبها محمد نمنكاني بالمدينة المنورة.

وقد كتب الشيخ أمجد الزهاوي في مقدمته لكتاب «حكم الإسلام في الاشتراكية» يقول:

«... ولما شاع القول بوجود نوع من الاشتراكية في الإسلام، وذلك تقوُّل على الإسلام، ومدخل إلى المروق منه، ألّف فضيلة الأخ الشيخ عبد العزيز البدري هذا الكتاب ـ حكم الإسلام في الاشتراكية ـ في إبطال هذا القول، مبيِّنًا ألا اشتراكية في الإسلام، وأنها مخالفة لأحكام الشرع الشريف، وأن قواعده تأباها بكل صراحة، وقد جاء البيان بأسلوب واضح، معززًا بالحجج القطعية التي لا تدع مجالاً للشك، لانطباقها على النصوص الشرعية القاطعة، وذلك نصحًا للأمة الإسلامية...» انتهى.

وقد انبرى الشيخ عبد العزيز البدري لعبد الكريم قاسم، الذي أطلق على نفسه لقب «الزعيم الأوحد»، وهاجمه في الخطب والمحاضرات، وكان يطلق عليه «عتل بعد ذلك زنيم»، وقد بلغ التحدي مداه، حين أصدر عبد الكريم قاسم أحكام الإعدام، على بعض قادة الجيش المخلصين، أمثال: ناظم الطبقجلي، ورفعت الحاج سري وغيرهما، فأثار الشيخ البدري الجماهير، وقاد المظاهرات الكبرى، التي يقدّر عدد جمهورها بحوالي أربعين ألف متظاهر، كلهم يهتفون بسقوط عبد الكريم قاسم، كما أصدر الشيخ البدري الفتاوى بكفر الشيوعيين أنصار قاسم ومؤيديه، وطالب بمحاربتهم وقطع دابرهم.

فما كان من عبد الكريم قاسم، إلا أن أصدر أمره بفرض الإقامة الجبرية على الشيخ البدري في منزله مدة عام كامل من 2/12/1959 م إلى 2/12/1960 م، ثم رفع الحظر عنه، فلم يهدأ ولم يتوقَّف عن الخطب، وتأليب الجماهير ضد قاسم وأعوانه، فأصدر أمره ثانية بتحديد إقامته في منزله 7/8/1961 م إلى 4/12/1961 م، وأوقفه عن العمل الوظيفي، حيث كان إمامًا وخطيبًا بوزارة الأوقاف، ثم تكررتْ مرات سجنه واعتقاله أيام عبد الكريم قاسم، وبعده أكثر من عشر سنوات.

ولقد لقي من البلاء العظيم، والتعذيب الشديد داخل السجون، ما يشيب لهوله الولدان، ولكنَّه مع هذا ظلّ صامدًا صابرًا محتسبًا، رافضًا لكل العروض المغرية، التي عُرضت عليه ليسير في ركاب الحكام، ولم تنفع معه كل الأساليب رغبًا ورهبًا، فاستمر زبانية الظالمين، وجلادو السجون، وجلاوزة السلطة البعثية في تعذيبهم له، حتى قطَّعوا جسمه إربًا إربًا، ولفظ أنفاسه الأخيرة، ولقي ربه 1389هـ 1969 م، وهو لم يجاوز الأربعين من عمره، فضرب بذلك أروع المثل، لصبر العلماء الدعاة، أمام بطش الطغاة، وأخذ بالعزيمة؛ لأنه من أولي العزم، الذين لا يترخّصون حبًا للسلامة والعافية، بل يقدِّمون أرواحهم رخيصة في سبيل الله، ولإعزاز دين الله، ومن أجل المستضعفين في الأرض من المسلمين، فكان نعم المثل والقدوة، جرأة وصلابة وصبرًا وثباتًا.

رده على علماء السلطة

اتبع نظام قاسم أساليب متعددة مع الشيخ البدري، فكان يُرسل له في مكان إقامته الجبرية بعض المرتزقة، من المشايخ وأدعياء العلم، ليراودوه عن موقفه من الحاكم «الزعيم الأوحد»، مظهرين للشيخ البدري محبتهم وحرصهم عليه، وأنهم يريدون مصلحته ومصلحة أولاده، منكرين عليه تصديه للحاكم، وتدخله في السياسة، وأن الدين لا علاقة له بالسياسة!! وقد استاء الشيخ البدري من مواقف الجبن لدى هؤلاء، وعكف وهو في إقامته الجبرية على تأليف كتابه «الإسلام بين العلماء والحكام»، مبينًا فيه سيرة السلف الصالح، من العلماء العاملين والفقهاء، والمجاهدين، الذين تصدوا لظلم الظالمين، وقدّموا التضحيات الجسام، لنصرة الإسلام والمسلمين، فذكر محن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وجعفر الصادق، وأبي حنيفة، ومالك بن أنس، وابن حنبل، والشافعي، والبخاري، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وذكر جهاد العلماء أمثال عبدالله بن المبارك، وابن تيمية، وأسد بن الفـرات وغيرهم، كما ذكر مـواقف العلماء المتأخرين أمثال: أحمد السرهندي، وأحمد بن عرفـان الهندي، وعز الدين القسّام، وعبد القادر الجزائري، ومحمد المهدي، وأحمد السنوسي، وعمر المختار، وغيرهم من العلماء العاملين والمجاهدين الصـادقين.

يقول الأستاذ عبدالله الحسيني في مقدمته لكتاب الشيخ البدري (الإسلام بين العلماء والحكام)، الذي أصدرت الطبعة الثانية منه دار القلم الكويتية 1406هـ/1986 م:

«... في حرب 1967 م، التي اجتاح اليهود فيها القدس الشريف، والضفة الغربية، ومرتفعات الجولان، وسيناء، خلال ستة أيام، بل ست ساعات، ثارت ثائرة الشيخ البدري، وأرسل برقيات إلى جميع رؤساء الدول في العالم الإسلامي، يحمِّلهم المسؤولية ويتهم من وافقوا على وقف إطلاق النار بالخيانة، ثم قرر تشكيل وفد إسلامي شعبي، للسفر إلى أقطار العالم الإسلامي، لحثِّ القوى والشعوب الإسلامية، على النهوض بمسؤوليتها تجاه تلك الكارثة، ولتأكيد أن الإسلام لم يكن السبب في الهزيمة؛ لأنه لم يكن في المعركة أساسًا، وقد زار الوفد الهند، وباكستان، وإندونيسيا، وماليزيا، وإيران، وأفغانستان، وبعد عودة الوفد إلى بغداد، عقد الشيخ البدري مؤتمرًا صحفيًا، أوضح فيه ما شاهده في العالم الإسلامي، من طاقات مهدورة، كان يجب أن تُوجَّه لخدمة القضية الفلسطينية، مستنكرًا حصرها في النطاق العربي، بدل النطاق الإسلامي الواسع، ومتخوفًا من الاستمرار في التضييق عليها، لكي تكون في المستقبل قضية الفلسطينيين فقط.

العلمانيون يهربون من مواجهته

وعندما اهتز التيار العلماني في البلاد العربية، وأصبح المتهم الأول في هزيمة 1967 م، بدأ التيار الإسلامي في العراق ينشط ويضغط، مطالبًا بالعودة إلى الإسلام، ووضعه موضع التنفيذ منهج حياة، لكن التيار «المتغرب» المعادي للإسلام، اختار شخصًا عربيًا يحمل الجنسية الأمريكية يدعى «نديم البيطار» لمواجهة الإسلاميين، وقد تم استدعاؤه من كندا، لإلقاء محاضرات تؤكد أن الأفكار الإسلامية التي يسميها بالغيبية، هي السبب في الهزيمة، وأنه لا نصر على الصهيونية إلا بالتخلي التام عن هذه الغيبيات!! ومن الغريب أن هذا المحاضر يقول في كتابه (الأيديولوجية العربية) كلامًا صريحًا في الكفر والتعدي على الذات الإلهية، فطلب الشيخ البدري من رئيس الجمهورية آنذاك «عبد الرحمن عارف» إما أن يُسمح له بإلقاء محاضرة في القاعة نفسها، وإما أن يسمح له بمناظرة المحاضر في القاعة نفسها، أو يمنع المحاضر من إلقاء محاضرته، ولما لم يُستجب لمطالب الشيخ البدري، قرر الخروج بمظاهرة يوم المحاضرة، وبعد صلاة العصر هتف الشيخ «الله أكبر»، وتوجّه راجلاً من مسجده إلى قاعة المحاضرات وتبعه الشباب المؤمن، وجماهير الناس، هاتفين «الله أكبر لا إله إلا الله»، ولما سمع أنصار المحاضر هدير الجماهير بالهتافات الإسلامية، انطلقوا هاربين مع محاضرهم إلى المطار، حيث غادر بغداد في أول طائرة.

في كربلاء والنجف

رأس الشيخ البدري وفدًا من أهل السُّنَّة، وذهب إلى كربلاء والنجف، وطلب من علمائهما التدخل لإيقاف تنفيذ حكم الإعدام في سيد قطب، وعندما اتصل بالسيد محسن الحكيم المرجع الأعلى للشيعة، أبلغه السيد الحكيم، بأنه أبرق إلى جمال عبد الناصر، ألا يُقدم على إعدام العلماء، وسيد قطب من أكبر علماء العصر ومفكريه.

وفي سنة 1969 م، اختُطف الشيخ البدري ليلاً، وهو في طريقه إلى داره، وأخذوه إلى معتقل (قصر النهاية)، ومارسوا معه أشدَّ أنواع التعذيب، وقيل إنهم قطعوا لسانه وبعد مرور سبعة عشر يومًا، حمل الجلادون جثته، وتركوها أمام بيته، وأخبروا أهله، أنه مات بالسكتة القلبية، وأمروهم بدفنه دون الكشف عليه.. وانتشر الخبر، وحُمل نعش الشهيد إلى جامع الإمام أبي حنيفة في الأعظمية للصلاة عليه، وهناك قام شقيقه بالكشف عن جثته أمام جموع المشيعين بالمقبرة، ليشاهدوا آثار التعذيب على سائر بدنه، فضلاً عن نتف لحيته، وكان ذلك في شهر ربيع الأول 1389هـ 1969 م، بعد حياة مليئة بالمعاناة، والجهاد المتواصل، والتضحية والفداء.

لقد ترسّم الشيخ البدري خُطا الذين سبقوه بالسير في هذا الطريق المبارك، من المؤمنين الأفذاذ، أمثال: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن جبير، وفي العصر الحديث عز الدين القسَّام، وحسن البنا، وسيد قطب، فاختاره الله شهيدًا، كما اختارهم، ثم لحق به على درب الشهادة إخوانه محمد فرج، وعبد الغني شندالة، وعبد الرزاق العبودي، وغيرهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد» انتهى.

هذا هو الشيخ البدري، وهذا هو جهاده في سبيل الله، يخوضه في أكثر من ميدان، ويصاول فيه أكثر من عدو، فلا يضعف ولا يلين ولا يتردد، بل يتقدّم الصفوف بكل شجاعة وثبات، يثير الهمم، ويستنهض العزائم، ويتصدى للبغي بكل أشكاله، وفي مواقعه، ويدفع الضريبة غير هيّاب من الموت، ولا مدبر من المعركة، شأنه في ذلك شأن الرجال أولي العزم في القديم والحديث.

أصدر الشيخ البدري، الكثير من الكتب، نذكر منها: الإسلام بين العلماء والحكام، حكم الإسلام في الاشتراكية، الإسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية، الإسلام ضامن للحاجات الأساسية لكل فرد، كتاب الله الخالد القرآن الكريم... إلخ.

يقول الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه القيم (أصول الدعوة):

«... من الوسائل المهمة جدًا في تبليغ الدعوة إلى الله، وجذب الناس إلى الإسلام، السيرة الطيِّبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الزاكية، مما يجعله قدوة طيبة، وأسوة حسنة لغيره، ويكون بها كالكتاب المفتوح، يقرأ فيه الناس معاني الإسلام، فيقبلون عليها وينجذبون إليها؛ لأن التأثر بالأفعال والسلوك، أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام فقط، والإسلام انتشر في كثير من بلاد الدنيا، بالسيرة الطيبة للمسلمين، التي كانت تجلب أنظار غير المسلمين، وتحملهم على اعتناق الإسلام، فالقدوة الحسنة، التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة، هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام، يستدل بها غير المسلم على أحقية الإسلام، وأنه من عند الله، ولاسيما إذا كان سليم الفطرة، سليم العقل» انتهى.

قصته مع الجلادين في السجون

ويروي بعض المعتقلين مع الشيخ البدري، الذين أطلق سراحهم: «أن الشيخ البدري، قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا، وأنّه واجه ذلك التعذيب بصمود وثبات، تجاوز كل المقاييس والتوقعات، وأن الرجل كان شامخًا بإيمانه وثباته على الحق، متحديًا جلاديه، حتى آخر رمق من حياته، وأن هؤلاء المعتقلين كانوا يرجونه ويتوسلون إليه أن يلين بعض الشيء، وأن يسكت أو يجامل على سبيل المناورة، إلا أنه كان يزداد صلابة وشموخًا ـ بإيمانه ـ كلما اشتد الجلادون في تعذيبه.. فلم يطأطئ لهم رأسه، ولم يعترف لهم بشرعية، ولم يمنحهم تأييدًا، بل كان يصر في التحقيق على أنهم عملاء وأذناب المستعمر وجواسيسه، بل الأكثر من ذلك، أنه في أحد الأيام الأولى للتحقيق معه، رفع الشيخ البدري يده، وضرب رئيس التحقيق «ناظم كزار»، بعد أن شتمه، فانهالوا عليه بالضرب من كل مكان، وبمختلف الوسائل، إلى أن أغمي عليه، وعندها رموه في زنزانة لا تزيد مساحتها على متر واحد وبدون نوافذ....» انتهى.

يقول الشيخ البدري في كتابه القيِّم «الإسلام بين العلماء والحكام»:

«... لقد جرت سُنَّة الله (عز وجل) في خلقه أن يفتنهم ويختبرهم، ليميز الخبيث من الطيب، (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين) (العنكبوت: 1 ـ 3)، وقد اعتاد الظالمون من الحكام، أن يضطهدوا الذين يخالفونهم في سلوكهم المنحرف، ويناهضونهم في أفكارهم الباطلة، ولم يسايروهم في أهوائهم، وينزلوا بهم أنواع المحن، بعد أن أعرضوا عن أشكال المنح التي قدّمها الحكام إليهم في ذلة وصغار، ولكن أنّى للنفوس الكريمة، ذات المعدن الطّيب، أن تُغرى بمال، أو يسيل لعابها على فتات الدنيا، أو تُستمال بعرض زائل من الحياة.

أما المحن، فقد استعدوا لها، وتحمَّلوا نارها بصبر وجلد، وصابروا شدة بأسها، بعزم واحتساب؛ لأنهم فقهوا قول الله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: 81) وآمنوا بقول الخالق العظيم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: 207)، وكان أئمة المسلمين من السادة العلماء، الذين اشرأبت الأعناق إليهم، إجلالاً وتقديرًا وولاء، في مقدمة الذين أصابتهم المحن، ونزلت بهم الشدائد الصعاب، فخرجوا منها ظافرين ظاهرين» انتهى.

رحم الله أخانا الشهيد عبد العزيز عبد اللطيف البدري، وغفر الله لنا وله، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.


شاعر الإسلام.. وليد الأعظمي

(1350 ـ 1425هـ = 1930 ـ 2004 م)

المولد والنشأة

الأستاذ وليد الأعظمي فى المنتصف

ولد الأخ الحبيب وليد عبدالكريم إبراهيم الأعظمي سنة1930 م في "الأعظمية" المدينة التي أخذت اسمها من اسم الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وهو من قبيلة "العُبيد" العربية القحطانية الحميرية، كما أن سكان الأعظمية، معظمهم من أبناء هذه القبيلة، وقد تعلم قراءة القرآن الكريم لدى الملا عميد الكردي، وانتسب إلى مدرسة الأعظمية الابتدائية الأولى وأكمل الدراسة الابتدائية فيها.

وقد نشأ في بيئة دينية وأسرة محافظة على دينها، فكان محافظاً على الصلاة وهو صبي، وكان وأصحابه يقضون معظم أوقاتهم في جامع الإمام الأعظم حيث الدفء والأنوار والجو الروحي العابق بالبخور والعطور، والزرابي المبثوثة والسجاد الوثير الفاخر.

كما كان يلعب مع أترابه في "مقبرة الخيزران" التاريخية القريبة من جامع الإمام الأعظم، وكانت تستهويه وتثير إعجابه تلك الخطوط الجميلة المحفورة بالمرمر على رقيم بعض قبور الولاة وبعض الموظفين الأتراك، وكان الشاب وليد يحاول تقليد تلك الخطوط، كما كان يحفظ تلك الأشعار المخطوطة على رقيم تلك القبور، وفي هذه المقبرة ومنذ صباه تعلق بالخط العربي والشعر العربي.


مشايخه

كان في شبابه يحرص على حضور دروس العلامة الشيخ قاسم القيسي "مفتي بغداد" التي يلقيها على طلاب المدارس الدينية في "مسجد بشر الحنفي" في الأعظمية، وكذلك دروس العلامة الدكتور تقي الدين الهلالي في "مسجد خطاب" بالأعظمية، ودروس العلامة الشيخ محمد القزلجي الكردي، ودروس الشيخ عبدالقادر الخطيب، ومجلس العلامة الحاج حمدي الأعظمي في منزله، ودروس العلامة الشيخ أمجد الزهاوي في جامع الإمام الأعظم ومسجد الدهان.

بداياته الشعرية

بدأ نظم الشعر وهو ابن خمسة عشر عاماً، وكان قبل ذلك بقليل ينظم الزجل والشعر الشعبي بلغة العوام، وكان خاله الأديب مولود أحمد الصالح يوجهه ويرعاه ويصحح له بعض الأوزان ويبدل بعض الكلمات، وفي سنة 1946 م افتتحت جمعية الآداب الإسلامية فرعاً لها في الأعظمية فكان ينشر فيها بعض المقطوعات الشعرية بعد أن يراجعها ويصححها الأستاذ المصري الإخواني محمود يوسف المدرس في دار المعلمين بالأعظمية.

ثم انطلق بعدها إلى الشعر حيث أصدر عدة دواوين شعرية كان أولها "ديوان الشعاع" الذي أصدره سنة 1959 م وتتابعت بعد ذلك دواوينه وكان آخرها "نفحات قلب" الذي أصدره عام1998 م.

معرفتي به

كانت أول معرفتي بالأخ الشاعر وليد الأعظمي سنة1947 م، حيث توجهت إلى بغداد للدراسة في الثانوية الشرعية في الأعظمية مع زملائي الإخوة: يوسف العظم، وإبراهيم منير المدرس، ونعمان عبدالرزاق السامرائي، وعبدالحافظ سليمان وغيرهم.

وكان لنا مع إخواننا سكان الأعظمية أمثال الشاعر وليد الأعظمي والأخ صالح الدباغ والأخ عبدالحكيم المختار، وغيرهم لقاءات متصلة من خلال الأسر والكتائب والرحلات والمخيمات والدروس والمحاضرات والمؤتمرات والاحتفالات، وكانت "مكتبة الإخوان المسلمين" في الأعظمية من الأماكن التي نكثر التردد عليها، حيث تجري المناقشات الدعوية والمطارحات الشعرية والمساجلات الأدبية فضلاً عن المسابح على ضفاف نهر دجلة، حيث تمارس السباحة والرياضة.

وكنت ألمح في أخي وليد الأعظمي هذا الحماس والعطاء المتدفق والعمل الدؤوب والغيرة الصادقة على الإسلام وحرماته، والحرص على جمع الشباب على منهج الإسلام والتصدي لقوى الإلحاد والطغيان والفساد والإفساد الذي يمارسه دعاة الشيوعية وأذناب الاستعمار وعملاء الكفرة الأعداء.

كانت بواكير شعره تنطلق من أعماق قلب مؤمن وكبد حرّى، كما كان حبه لإخوانه العاملين في حقل الدعوة الإسلامية السائرين في ركب كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة هو الطابع الغالب على أشعاره، وقد اشترك معنا في المظاهرات الشعبية بقيادة الشيخ محمد محمود الصواف ضد معاهدة "بورت سموث" حتى سقطت حكومة صالح جبر التي عقدتها وألغيت المعاهدة، وقد أولاه الأستاذ الصواف عناية كبيرة، فكان يشجعه ويقدمه في المحافل العامة لينشد الشعر الإسلامي وينشره في مجلة "الأخوة الإسلامية" كما كان يصحبه في زيارة المدن العراقية.

وقد ذاع صيته وانتشرت قصائده وأشعاره في العالم العربي كله، وكان الشباب المسلم يترنم بها في كل مكان وينشدها في المناسبات.

وأسهم بإلقاء الكثير من القصائد في البلدان التي زارها مثل: الكويت، وسورية، والأردن، وفلسطين، ومصر، والجزائر، والسعودية، والإمارات، واليمن وغيرها.

ويعلم الله أنني مدين للأخ الحبيب أبي خالد بالكثير من الفضل، فقد وجدت في كتابه "السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني" ما أزال الغشاوة عن عيني، فقد كنت في مرحلة الدراسة الجامعية بمصر معجباً بكتاب "الأغاني"، وأعتبره من المراجع المعتمدة، حتى فضح عواره، وكشف عن خبيئته الأخ وليد الأعظمي، فسارعت في نقد الكتاب وبيان أغاليطه وأكاذيبه في مجلة المجتمع الكويتية الغراء، وحذَّرت الناس من الاغترار به.

وفي السنوات الأخيرة من 1998 م وحتى تاريخ وفاته، كانت لنا لقاءات كثيرة بالأردن وندوات، وأكرمني الله مع إخواني أن نشجعه على الإذن لنا بطباعة أعماله الشعرية كاملة، وتم ذلك بحمد الله، ونحن الآن بصدد طباعة تراثه النثري كاملاً إن شاء الله بمساعدة أخينا الأستاذ الأديب عبد الله الطنطاوي صاحب الهمة والعزم.

حياته العملية

عاش الأخ وليد الأعظمي داعية من دعاة الإخوان المسلمين، وشاعراً من شعراء الإسلام المعاصرين، وسخر كل طاقاته وإمكاناته لخدمة الإسلام والمسلمين داخل العراق وخارجه، فكان يعيش قضايا الإسلام والمسلمين، ويتفاعل مع الأحداث، ويؤكد المعاني الإسلامية وروابط الأخوة بين المسلمين، وأنهم جسد واحد، وأن بلاد المسلمين واحدة، فكان لا يقيم وزناً للحدود المصطنعة.

وكان يرى أن المسلمين أمة واحدة ربها واحد ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، وهدفها واحد، هو العمل لمرضاة الله وتحقيق معنى العبودية لله وحده.

وقد أسهم في كل ميدان من ميادين خدمة الإسلام والمسلمين على الصعيد الوطني والسياسي والاجتماعي، فشارك في مظاهرات 1948م التي أسقطت المعاهدة الاستعمارية، وأسهم في تأسيس "جمعية الأخوة الإسلامية" 1950 م، وشارك في جميع أنشطتها من المحاضرات والندوات والمؤتمرات والمخيمات والمعسكرات الكشفية، والتمثيليات والمسرحيات والأناشيد الإسلامية وغيرها.

وقد انتسب إلى معهد الفنون الجميلة ببغداد، قسم الخط العربي والزخرفة الإسلامية، وتخرج فيه، وتعلم فن التركيب في الخط العربي على يد الخطاط التركي الشهير ماجد بك الزهدي، كما رافق الخطاط النابغة هاشم محمد البغدادي عشرين عاماً، اغترف خلالها الكثير المفيد من فنه وفضله وأدبه. والأستاذ وليد الأعظمي متزوج من ابنة عمه التي كانت له نعم الزوجة الصابرة ورُزق منها بثمانية من الأولاد أربعة من البنين وأربع من البنات، واستشهد أكبرهم وهو "خالد" في الحرب العراقية الإيرانية. كما كان الأستاذ وليد الأعظمي رئيساً لنادي التربية الرياضي بالأعظمية لمدة خمس سنوات، وفاز النادي ببطولة العراق في المصارعة.

كما حصل على إنجازات في فن الخط العربي من الخطاط المصري الشهير محمد إبراهيم البرنس ومن الخطاط محمد طاهر الكردي "خطاط مصحف مكة المكرمة" ومن الخطاط أمين البخاري "خطاط كسوة الكعبة المشرفة" وغيرهم.

وكان عضواً مؤسساً في الحزب الإسلامي العراقي سنة 1960 م، وعضواً مؤسساً لجمعية المؤلفين والكتاب العراقيين، وعضواً مؤسساً لجمعية الخطاطين العراقيين، وعضواً مؤسساً لمنتدى الإمام أبي حنيفة في الأعظمية.

كما كان خبيراً في شؤون المصاحف في وزارة الأوقاف العراقية، وخبيراً في فن الخط العربي وتاريخه وآدابه في وزارة الثقافة والإعلام العراقية، واشتغل خطاطاً في المجمع العلمي العراقي، ومصححاً في مطبعته لمدة عشرين سنة.

وقد نشرت له الكثير من القصائد والمقالات والبحوث في النقد الأدبي واللغة والتاريخ والفن في عدد من المجلات منها: الوعي الإسلامي في الكويت، ومجلة المجتمع ببيروت، ومجلة المجمع العلمي العراقي، ومجلة الرسالة الإسلامية ببغداد، ومجلة التربية الإسلامية ببغداد، وبعض الصحف اليومية ببغداد مثل: الأيام، والبلد، والسجل، والجمهورية وغيرها.

كما قام بتزويق الكاشي المزجج بخطه الجميل في الكثير من محاريب المساجد وأروقتها وقبابها في بغداد. والأخ الشاعر وليد الأعظمي لم تزده الأحداث، ولا تعاقب الأيام إلا إصراراً على التمسك بالحق، والدعوة إلى الحق، والصبر على الأذى في سبيل الحق، واحتساب ذلك عند الله عز وجل.

وهو لم يتلون مع المتلونين، ولم يخضع للسلاطين، وظل شاهراً سيفه ينافح عن الإسلام ديناً، والمسلمين أمة، في أي صقع من أصقاع الأرض وجدوا، تؤرقه مشكلاتهم، ويتألم لمعاناتهم، ويستنهض الهمم لنجدتهم والوقوف إلى جانبهم.

والأستاذ وليد الأعظمي عاش ويعيش قضايا أمته الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي كلها وليس مختصاً بقطر دون قطر، فالعراق والعالم العربي كله، والعالم الإسلامي برمته، هو شغله الشاغل، فهو يتحدث عن فلسطين وكشمير وقبرص والفلبين والشيشان والجزائر وزنجبار وسائر الأقطار الإسلامية التي نابتها النوب، وأرخى الظلم بسدوله عليها، والاستعمار قمة الظلم والظلام، حيث حل ويحل، وشاعرنا الأعظمي كان له بالمرصاد، فلم يهادن ظالماً، مستعمراً جاء من وراء البحار، أو جاء بأمر من الاستعمار من أبناء الوطن، فكان يتصدى له شاعرنا أبوخالد، ويسوطه بسياط من القول حداد شداد، ويلقي عليه حمم شعره، وشواظ نظمه.

لم يكن وليد الأعظمي شاعر الدعوة في العراق وحده، بل كان بشعره يتخطى الحدود، ليكون على ألسنة أبناء الحركة الإسلامية الذين أحبوه وأحبوا شعره، وكان الوقود الذي يشعل جذوة الإيمان في القلوب، ليهب ذووها إلى ميادين العز والفخار، وهم ينشدون مرة ويهتفون بها مرات.

أهم مؤلفاته

للأستاذ وليد الأعظمي دواوين كثيرة أهمها: ديوان الشعاع، ديوان الزوابع، ديوان أغاني المعركة، ديوان نفحات قلب، وقد جُمعت كلها في حياته في مجلد كبير، تحت عنوان (ديوان وليد الأعظمي).

وأما مؤلفاته النثرية، فهي: شاعر الإسلام حسان بن ثابت، المعجزات المحمدية، تراجم خطاطي بغداد المعاصرين، الرسول في قلوب أصحابه، مدرسة الإمام أبي حنيفة، تحقيق ديوان الأخرس، تحقيق ديوان العُشاري، الخمينية، السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني، هجرة الخطاطين البغداديين، شعراء الرسول، تاريخ الأعظمية، تحقيق ديوان عبدالرحمن السويدي، أعيان الزمان وجيران النعمان في مقبرة الخيزران، حسان بن ثابت الأنصاري، عبدالله بن رواحة الأنصاري، كعب بن مالك الأنصاري، عباد بن بشر الأنصاري، قتادة بن النعمان الأنصاري، أبولبابة الأنصاري، سعد بن معاذ الأنصاري، أسيد بن حضير الأنصاري، أبوطلحة الأنصاري، حارثة بن النعمان الأنصاري، عقبة بن عامر الأنصاري، أبودجانة الأنصاري، ذكريات ومواقف، رجال من قبيلة العبيد.

وله مقالات كثيرة منشورة في الصحف والمجلات العربية، تنتظر طلاب الدراسات العليا، ليجمعوها، ويكتبوا عنها وعن صاحبها دراساتهم التي تؤهلهم لنيل الماجستير والدكتوراه.


مقتطفات من شعره

إيه فلسطين

إيه فلسطين للتاريخ دورته

وللحوادث إيراد وإصدار

نمنا زماناً، وكان الخصم منتبهاً

من نام خاب ولم تسعفه أقدار

إنّا على موعد يا قدس فانتظر

يأتيك عند طلوع الفجر جرار

جيش تدرّع بالإيمان يدفعه

لنصرة الحق تأكيد وإصرار

آلى على نفسه ألا يبل صدى

حتى تعود إلى أصحابها الدار

لا عذر للعرْب عند الله إن سكتوا

وبات في القدس من صهيون ديّار

ذكر ونسيان

شريعة الله للإصلاح عنوان

وكل شيء سوى الإسلام خسران

لما تركنا الهدى حلت بنا محن

وهاج للظلم والإفساد طوفان

تاريخنا من رسول الله مبدؤه

وما عداه فلا عز ولا شان

محمد أنقذ الدنيا بدعوته

ومن هداه لنا روح وريحان

لا خير في العيش إن كانت مواطننا

نهباً بأيدي الأعادي أينما كانوا

لا خير في العيش إن كانت عقيدتنا

أضحى يزاحمها كفر وعصيان

ها قد تداعى علينا الكفر أجمعه

كما تداعى على الأغنام ذؤبان

والمسلمون جماعات مفرقة

"في كل ناحية ملك وسلطان"

في كل أفق على الإسلام دائرة

ينهدّ من هولها "رضوى" و"ثهلان"

حرب صليبية شعواء سافرة

كالشمس ما عازها قصد وبرهان

كل الحوادث نالتنا مصائبها

ولم يزل عندنا عزم وإيمان

قرآننا مشعل يهدي إلى سبل

من حاد عن نهجها لا شك خسران

قد ارتضيناه حكماً لا نبدله

ما دام ينبض فينا منه شريان

ربيع تموز

من الخليج إلى تطوان ثوار

شعب يزمجر في أحشائه الثار

طافت به ذكريات المجد فالتهبت

طاقاته باندلاع دونه النار

تحركت فيه روح العزم ثانية

فهبّ لم يثنه بطش وأخطار

سامته خسفاً لصوص بات يدفعها

للغدر والظلم جاسوس ودولار

آمنت بالله أن الحق منتصر

والظلم منتحر والكفر منهار

والشعب إن مازج الإيمان همته

فإنه لقوى الإفساد دحّار

آمنت بالله إيماناً عرفت به

أن الزمان على الباغين دوَّار

لا ينكر الله إلا جاهل نزق

غرّ بليد سفيه الرأي ختار

يا هذه الدنيا

يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي

إنّا بغير محمد لا نقتدي

لا رأسمال الغرب ينفعنا ولا

فوضى شيوعي أجير أبلد

وسطاً نعيش كما يريد إلهنا

لا نستعير مبادئاً لا نجتدي

إسلامنا نور يضيء طريقنا

إسلامنا نار على من يعتدي


قالوا عنه

يقول الأستاذ الأديب عبدالله الطنطاوي:

"كانت فكرة جمع الأعمال الشعرية الكاملة للشعراء الإسلاميين تستهويني وتلح عليّ منذ ستينيات القرن الماضي، وقد بدأنا في حلب بجمع الأعمال الشعرية الكاملة لشاعر الدعوة في حلب الأستاذ محمد منلا غزيل، وطبعت في ديوان في سورية عام 1978 م ثم أعيد طبع الديوان في دار عمار في عمان عام 1983 م. وكنت وما زلت أحلم بجمع أشعار شعرائنا: جمال فوزي، وعبدالحكيم عابدين، والباقوري، ومحيي الدين عطية، والأميري، وضياء الدين الصابوني، ومحمد الحسناوي، وعبد الله عيسى السلامة، ومحمد المجذوب، وسواهم من شعراء الدعوة في سائر الأقطار.

وزارنا الأستاذ الأعظمي في عمان، والتقينا في ديوان الشيخ المستشار عبد الله العقيل، وذلك بعد سقوط بغداد، وعرضنا عليه الفكرة، فتهلل وجهه لها، وطرب لهذا الاقتراح، وفوضنا في جمعه وترتيبه، وسارعت إلى جمع الأعمال الكاملة وتصحيحها، وتحتوي أربعة دواوين مطبوعة "الشعاع، الزوابع، أغاني المعركة، ونفحات قلب"، وديواناً مخطوطاً "قصائد وبنود"، وآخر قصيدة نظمها وألقاها في الاحتفال الكبير بجامع الإمام الأعظم ببغداد، وهذا كل ما أخذنا من الشاعر وليد رحمه الله تعالى، نضدنا الديوان وأطلقنا عليه "ديوان وليد الأعظمي" الأعمال الشعرية الكاملة، واتفقنا على طبعة أولى 1300 نسخة مع صاحب دار القلم بدمشق.

وهاتفني الشيخ العقيل من الرياض وأخبرني أن شاعرنا أصيب بجلطة دماغية في بغداد، وألح على إيصال نسخة من الديوان المطبوع للشاعر قبل أن يحمّ القضاء.

وهاتفنا الطابع في بيروت، وطلبنا منه إرسال خمس نسخ بالبريد السريع وكان تجاوبه رائعاً فأرسل النسخ الخمس، وبادر الشيخ العقيل بإرسال نسختين إلى الشاعر مع رجلين صديقين كانا عائدين إلى مدينتهما بغداد.

وتلقى الشيخ العقيل رسالة من الشاعر الأعظمي يشكره فيها على جهوده المبرورة في إخراج الديوان بهذا الشكل الجميل ولم ينسنا من الدعاء والثناء على مقدمة العقيل للديوان، كان هذا قبل وفاة الشاعر بأسبوعين تقريباً، وحمدنا الله الذي أقرّ عيني شاعرنا الكبير، برؤية ديوانه مطبوعاً قبل وفاته.

ثم كانت الطبعة الثانية للديوان بعد شهرين (آذار 2004م) ثم جاءت الطبعة الثالثة بعد شهرين من الثانية، وكان مجموع نسخ الطبعات الثلاث، عشرة آلاف ومئة نسخة، بادر الناس إلى اقتنائها في العراق، ولبنان، والأردن، والسعودية، والمغرب، والسودان، والكويت، والإمارات، وقطر وسواها من سائر الأقطار ثم صدرت الطبعة الرابعة بعد أشهر من صدور الطبعة الثالثة".

ويقول الأستاذ الدكتور جابر قميحة:

"وليد الأعظمي شاعر عراقي باعتبار المولد، ولكنه شاعر عربي إسلامي باعتبار العقيدة والمنهج والسلوك والواقع الذي يعيشه، وأدائه الفني فكراً ولغة ووجداناً، فهو كما وصفه بحق الدكتور يوسف القرضاوي:

"شاعر الشعب يشدو له حين يفرح، ويبكي حين يأسى، ويزأر من أجله حين يُظلم، ويصرخ صراخ الحارس اليقظ إذا أهدرت حقوقه، أو ديس في حماه، وشعبه هم المسلمون في كل مكان، عرباً كانوا أم عجماً، بيضاً كانوا أو سوداً، رجالاً كانوا أم نساء، وهو أيضاً شاعر الإسلام، وكل شاعر حقيقي للشعب، لابد أن يكون شاعراً للإسلام، فالإسلام هو دين الشعب ومنهجه الذي ارتضاه الله له، وارتضاه هو لنفسه بمقتضى عقد الإيمان".

وكأنما هو الناطق بقول الشاعر:

أبي الإسلام لا أب لي سواه

كإذا افتخروا بقيس أو تميم

فلا عجب أن يقف قلمه وشاعريته لقضايا المسلمين على حد سواء، والشواهد أكثر من أن تحصى في هذا المقام، وبهذه النظرة الرحيبة الشاملة يتصدى للأدعياء في الغرب الذين يزعمون أنهم حريصون بل يعملون على "تمتيع" شعوب العالم الثالث بالسلام والاستقرار. إنه يحمل هموم الوطن العربي والإسلامي، فكل شبر من الأرض فيه مسلم موحد يعد وطناً لكل مسلم.

وشعر وليد الأعظمي ينهل من معين أصيل زاخر بالثقافات الإسلامية والعربية، والمعطيات التراثية عقيدة وفكراً وتاريخاً، ومن يقرأ سيرة الشاعر ويعش مسيرته الفنية الشعرية يكتشف بسهولة أن "مسيرة حياته" هي "مسيرة شعره" وأن شعره مرآة جلية لواقع أمته ونبض عقيدته، ومشاعره الصادقة التي لا يشوبها زيف ولا كذب ولا رياء، فهو شخصية متناسقة الملامح والتوجهات والطوابع، بمعنى أن أعماله المنظومة وأعماله المكتوبة عاشت انعكاساً أميناً صادقاً لنسيج شخصيته في أبعادها العقلية والنفسية والعقدية والخلقية، لأنه ينطلق من الإيمان العميق برسالته الأدبية، مرتكزاً على إيمان بالله ورسوله ومبادئ الإسلام وقواعده، وهذا الاتساق الإيماني يعني أنه لا تنافر بأية حال بين الجزئيات المكونة لعطائه الفكري والأدبي، بل تأخذ كل جزئية منها مكانها الطبيعي في هذا النسق الممتد، كما أنه لا تنافر بأية حال بين هذا التشكيل في هيئته الكلية وطبيعة شخصيته في سلوكياتها وتفاعلها وتوجهاتها.

ووليد الأعظمي كما تنطق سيرة حياته ومسيرته الفنية كان واحداً من دعاة الإسلام الرساليين الذين منحهم الله من فضله وآلائه، موهبة الخط الآسر الأخاذ، وموهبة الشاعرية القوية الأصيلة، وموهبة البحث والكتابة والقول والإلقاء المبين".

ويقول الأستاذ د.بهجت الحديثي:

"كثير من شباب فلسطين المجاهدين يحفظون قصائد وليد الأعظمي، واتخذوا أبياته شعارات جهادية، وكتبوها على الجدران واللافتات، وكذلك في سورية واليمن والجزائر والمغرب وباكستان وإندونيسيا...".

وقال عنه الشيخ يونس إبراهيم السامرائي:

"هو الأديب الشاعر الأستاذ وليد بن عبدالكريم بن إبراهيم كاكا بن مهدي بن صالح بن صافي بن عزو العطار العبيدي الأعظمي، ولد في الأعظمية في محلة الشيوخ في أول 1930 م وله عشرة إخوة هو أكبرهم، ووالده مثقل بالعيال فاضطر للعمل في حرف ومهن متعددة، وكان يصدر نشرة جدارية باسم "المشكاة" وبدأ نظم الشعر في سن مبكرة، كما كان يحب الخط العربي ويحب حلقات الذكر ويحرص على حضورها، وانتسب إلى جمعية الآداب ثم جمعية الأخوة الإسلامية، وساهم في تأسيس الحزب الإسلامي العراقي وهو عضو بجمعية المؤلفين والكتاب العراقيين، وعضو جمعية الخطاطين العراقيين، وساهم في إنشاء عدد من المساجد وله آثار فنية في جامع الدهان وجامع الأزبك، ومكتبة الحاج حمدي الأعظمي وجامع الشهيدين، وجامع الصديق وجامع الوزير وجامع القبانجي وجامع الخويلص وجامع الصحابة".

ويقول الأستاذ شمس الدين درمش:

"نعم أيها الشاعر الأعظمي، للتاريخ دورته، وإنك إذ رحلت ودورة التاريخ مازالت علينا، ومازالت رحى التاريخ تطحننا طحناً أليماً، تدور بشدة على إخواننا في فلسطين في الأرض المباركة في القدس وأكنافها وهم صامدون صابرون عطشى، يأبون أن يرتووا من ماء النهر.. ها قد رحلت عنا بعد خمسين عاماً من قصائدك "الزوابع"، والزوابع تلفنا فتكاد تقتلع قلوبنا من صدورنا.. ها قد رحلت عنا وقد دخل أحفاد السبي البابلي إلى بغداد تحت رايات الصليب من كل حدب وصوب تداعت على قصعة المسلمين ينهشونها دون رحمة.. ها قد رحلت والمغاوير من أحفاد حيدرة يقاومون الغزاة في بغداد وليس في القدس فقط.. فرحلت عنا بصمت مع رحيل العام الهجري 1424ه، فلك منا الدعاء ومن الله الرحمة والرضوان".

ويقول الدكتور عبد الرزاق محيي الدين رئيس المجمع العلمي العراقي:

"يطيب لي أن أحيي الأستاذ الأخ وليد الأعظمي تحية تقدير وحب، ويعزّ علي أن تكون هذه التحية بمناسبة مغادرته المجمع العلمي العراقي الذي كان له ولي شرف التعاون وتبادل الرأي في كثير مما نشر المجمع من كتب علمية وأدبية خلال اشتغاله بالعمل المجمعي. أيها الإخوان: في الناس من يكبر بالوظيفة، وفي الناس من تكبر به الوظيفة، ولكن هناك أفذاذ تكبر وظائفهم ويتجاوزونها إلى وظائف وخدمات يقل أن يصلح لها موظف من الموظفين وإن كان كبيراً، والحاج وليد الأعظمي من هؤلاء الأفذاذ الذين تجاوزوا وظائفهم وإن كَبُرَت بهم، وفي المثل "المعروف على قدر المعرفة"، وقد أتاح الله لي من المعرفة ما جعلني على بيِّنة من قيمة هذا الرجل في سمو مواهبه الأدبية.

أصغي إلى رأيه وأنتفع به في مجالات مختلفة من مجالات اللغة وفهم النصوص العالية، ولن أكتم أن المجمع لن يستغني عن مثله، مهما سمت منزلة موظفيه وأعضائه العلميين والأدبيين، وأنه كان عوناً لي وعيناً لي على تلمس طريقي إلى تحرير بعض النصوص، إنه على جانب من فهم علوم العربية، لغتها ونحوها وعروضها وإملائها، وعلى جانب من فهم آي القرآن الكريم وحديث الرسول {".

وفاته

وفي مساء يوم السبت الأول من محرم 1425ه الموافق 22 من فبراير سنة 2004 م انطفأ سراج وليد الأعظمي الذي طالما أثار الدنيا من حوله عن عمر يناهز أربعة وسبعين عاماً، وذلك بعد صراع مع المرض استمر أكثر من شهر عقب إصابته بجلطة، وصُلي عليه بمسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بالأعظمية.

طبت حياً وميتاً يا أبا خالد وتقبلك الله في الصالحين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


الداعيـة المربي صالح مهدي الدباغ (أبو صفوان)

(1339 ـ 1371هـ = 1920 ـ 1951 م)

بداية معرفتي به

كان ذلك في عام 1947 م، حين تعرفت إليه ببغداد أثناء دراستي في الثانوية الشرعيـة بالأعظـمية وهو الشاب الـتقي الورع الأخ صـالح مهدي الـدباغ (أبو صفوان)، معلم الناشئة ومربيهم، والباذل جل اهتمامه في توجيه البراعم المؤمنة إلى هدي الكتاب والسُّنَّة وإعدادهم ليكونوا حملة الدين ودعاته، المجاهدين في سبيله والذائدين عن حياضه، أمام كيد الكائدين ومكر الماكرين، الذين طغى شرهم وعم ظلمهم وانتشر فسادهم، فصارت بغداد «بلد الرشيد» تعجّ بدعوات الملاحدة الشيوعيين والزنادقة العلمانيين، والأذناب والعملاء من المتغربين والمأجورين، يمثّلهم سيل من الكتب والمطبوعات والصحف والمجلات والأحزاب والجمعيات المدعومة من اليهود والسفارات، وبخاصة السفارة البريطانية التي كانت ضدّ التوجه العربي والإسلامي باعتباره مؤيدًا لحركة رشيد عالي الكيلاني المناوئة للحلفاء والمتعاونة مع المحور أثناء الحرب العالمية الثانية، فرأت في اليسار فرصتها لضرب اليمين، فكان الحزب الشيوعي وجريدته (الشرارة) والحزب الشيوعي وجريدته (القاعدة)، والحزب الشيوعي وجريدته (الشعلة) والحزب الوطني الديمقراطي وجريدته (الأهالي) والجناح التقدمي الديمقراطي وجريدته (صوت الأهالي) وحزب الاتحاد الوطني وجريدته (السياسة) وكلها أحزاب يسارية مضافًا إليها: الأحزاب التي يقودها اليهود مباشرة مثل حزب «التحرر الوطني» وحزب «الاتحاد الوطني» وحزب (العصبة الصهيونية).. إلخ.

وأمـام هذه الهجمة الشرسة على الإسلام وعلى المسلمين، كان لا بد من التصدي بحزم وقوة لـهؤلاء المفسدين في الأرض، ومـن هنا بـرز دور الدعاة إلى الله ليـقدّموا الإسلام حلاً بديلاً عن الدعـوات الشيـوعية والعلمانية، فكانت الحركة الإسلامية التي من أبنائها الأخ صالح الدباغ.

نشـأتـه

لقد نشأ الأستاذ الدباغ ـ رحمه الله ـ في منطقة الأعظمية، حيث جامع الإمام أبي حنيفة النعمان الذي يزخر بالعلماء والدعاة والوعاظ والمرشدين، الذين يتصدّرون للوعظ والتدريس والتعليم والتربية والندوات والمحاضرات في جماهير المسلمين، وبخاصة الشباب الذين يشكلون الحلقات في المسجد الجامع، وينهلون من علوم الإسلام النافعة على أيدي الأساتذة المربين، وفي مقدمتهم الأخ المربي أبو صفوان الذي يشحذ هممهم، ويستجيش مشاعرهما ويثير غيرتهم على الدين، ويستنهضهم لحمل رايته، والوقوف في وجه أعدائه، متسلحين بالعلم النافع والتربية الصلبة، التي يتهاوى أمام صمودها دعاة الباطل والأقزام المهازيل من رموزه.

جهوده الدعوية

ولقد أصدر الأستاذ الدباغ سلسلة (مع الناشئة) لتكون زادًا للشباب المسلم مكملة سلسلة (قصص الدين والدنيا) لمحمد لبيب البوهي ورسالة «صرخة مؤمنة إلى الشباب والشابات» للأستاذ محمد محمود الصواف و«رسائل الصحابة» للأستاذ صابر عبده إبراهيم التي تولت (مكتبة الإخوان المسلمين) بشارع حسان بن ثابت في بغداد توزيعها في جميع أنحاء العراق، مما كان له أطيب الأثر في نشر الوعي الإسلامي والثقافة الإسلامية بين الشباب وجماهير الأمة.

وكنت أعرف الأخ الدباغ عن قرب، ومن خلال معايشته بحكم وجودي بالثانوية الشرعية بالأعظمية، وكان مسكنه قريبًا من سكن طلاب الثانوية، فكنا نلتقي به كثيرًا ونجد منه كل الحفاوة والرعاية وطيب المعشر وحسن الخلق، وقد استضافنا في بيته أكثر من مرة، وكان بسيطًا متواضعًا لا يحب التكلّف، يلقاك ببشاشة الوجه وطيب الكلام وحسن الحوار، ويضفي على إخوانه وزائريه كل مظاهر الحب والتكريم والترحيب والتقدير، ويشعرهم بأنهم أصحاب المنزل وأهل الدار.

وكم كان ـ رحمه الله ـ يؤكّد على ضرورة الاهتمام بأبناء الجيل الجديد؛ لأنهم أمل الأمة في مستقبلها، ويبذل قصارى جهده في تنشئتهم النشأة الصالحة وتربيتهم التربية القويمة ليكونوا رجالاً بحق ينصرون دين الله ويشدون أزر المجاهدين في فلسطين، ويقاومون الاستعمار وأذنابه الذين يريدون فرض معاهدة (بورت سموث) البريطانية على الشعب العراقي المسلم، وقد كان لجهاد الأستاذ الصواف وإخوانه وتلامذته الدور الكبير في التصدي لها حتى تمّ إسقاط هذه المعاهدة المشؤومة على أيدي شباب الحركة الإسلامية.

أخلاقه وصفاته

لقد ضرب الأخ الدباغ المثل الصادق للأخ المسلم في صدقه ووفائه ونبله وكرمه وحبه لإخوانه وإيثارهم على نفسه وقيامه بخدمتهم ورعايتهم، فقد وجدنا نحن الطلبة المغتربين النصيب الأوفر من هذه العناية والرعاية التي أفاضها علينا وغمرنا بها وهي ما زالت في ذاكرتنا رغم تقادم السنين ونتحدث عنها في كل حين.

لقد تميّز الأخ (أبو صفوان) بالزهد والورع وكثرة التلاوة للقرآن الكريم والحرص على المأثورات من الأذكار وأدعية اليوم والليلة، كما كان ـ رحمه الله ـ موفقًا في حسن عرض الإسلام بأسلوب محبب وطريقة جذابة، تبشِّر ولا تنفر، وتسلك المنهج الوسط، وتتخذ الحكمة والموعظة الحسنة طريقها إلى النفوس والقلوب، فأقبل الناشئة والشباب زرافات ووحدانًا ينهلون من نبع الإسلام الصافي، وينتظمون في صفوف الدعاة العاملين والمجاهدين الصادقين، فكانوا ثمرة يانعة من ثمار جهود أبي صفوان المباركة نتيجة عمله الدءوب مع شبان الرافدين وتوفيق الله له ولإخوانه.

أثر المكتبات والمعسكرات

كما كان للكتب الإسلامية الدعوية التي تنشرها مكتبات الإخوان المسلمين الأثر البالغ في تعريف الشباب بحقيقة الإسلام ودوره في تأسيس المجتمع المسلم الذي يقيم منهج الله في الأرض، ويخرج الناس من عبادة الطواغيت إلى عبادة الله، ومن فوضى المناهج الوضعية المستوردة إلى عدل الإسلام وكرامة المسلم وأمن المجتمع.

وقد كان للمخيمات الكشفية والمخيمات الصيفية ـ على شواطئ دجلة وفي غابات الشمال التي تضم العشرات، بل المئات من الشباب ـ أكبر الأثر في تربيتهم على الرجولة والشجاعة والتضحية والبذل والاعتماد على النفس من خلال الدروس وقيام الليل وتلاوة القرآن والذكر والدعاء والصيام والرياضة الكشفية، حيث التكامل في المنهج التربوي الذي يعنى بالجسم والعقل والروح، على حد سواء.

وعلى ضوء هذا المنهج، وبمثل هذا الأسلوب، انطلق العلماء أمثال أمجد الزهاوي وقاسم القيسي ونجم الدين الواعظ ومحمد الصواف وصالح الدباغ وعبد الكريم زيدان وغيرهم يتحركون بالإسلام من خلال المساجد ورابطة العلماء وجمعية الآداب الإسلامية وجمعية إنقاذ فلسطين، ثم جمعية التربية الإسلامية وجمعية الأخوة الإسلامية فيما بعد.

إن الأخ صالح مهدي الدباغ كان صالحًا كاسمه في سمته ومظهره وفي قوله وعمله، فهو مجاهد صامت يؤثر العمل على القول، ويتوارى عن الظهور، ويعتبر الإمام الشهيد حسن البنا مجدد العصر، والقائد الفذ الذي قل أن يجود الزمان بمثله، ويرى أسلوبه في الدعوة المعاصرة أمثل الأساليب؛ لأنه مستقى من منهج الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو يرى أن الأستاذ الصواف ثمرة من ثمار البنا أهديت للعراق، كما كان الشيخ محمد الحامد والأستاذ مصطفى السباعي من ثمار البنا التي أهديت لسوريا.

وكان يكرر القول بأن الأمل معقود على حركـة الإخوان المسلمين لتعيد للأمة مجدها، وتحررها من ربقة الاستعمار بكل أشكاله ومسمياته، وبخاصة البريطاني الذي يسعـى ليمكن اليهـود في بلاد المسلمين، ومـن ثم كـان انطـلاق كتائب الإخوان المسلمين من مصر وسوريا والأردن والعراق للتـصدي لليهود في فلسطين بعد قرار التقسيم سنة (1367هـ/1947م) الذي تواطأت على تأييده كل الدول الكافرة شرقية وغربية، وبخاصة أمريكا وبريطانيا وروسيا.

إن الأخ صالح الدباغ ليس من رجال الفكر البارزين ولا من الدعاة المشهورين، ولكنه من العاملين المجاهدين والأتقياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، فهو يعمل بصمت، ويربي الشباب على منهج الإسلام الموضح بالبرامج العملية للإخوان المسلمين حتى لقي الله سنة 1951 م ببغداد.

عرفتُكَ صالحًا خلاً وفيًّا

أبيَّ النفسِ ذا خلقٍ كريمِ

عرفتك داعيًا لله حقًا

بما آتاك من قلب سليمِ

فكم أسديت من نصح إلينا

وسرت بنا على النهج القويمِ

عليك سلام ربك حين تمسي

وتصبح في فراديس النعيمِ

هكذا عاش معنا، وهكذا رحل عن دنيانا وقليل من الناس من يعرفه ولكن الله يعلم من هو، وهو حسيبه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23).

نسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يلحقنا وإياه بالأنبياء، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.


الأستاذ المربي عبدالوهاب السامرائي

(1341هـ - 1427هـ/ 1922 م - 2006 م)

مولده وحياته العملية

الشيخ عبدالوهاب السامرائي

ولد عبد الوهاب بن عبد الرزاق السامرائي في عام 1922م في محلة خضر إلياس، بجانب الكرخ، في مدينة بغداد بالعراق، وقد توفي والده منذ طفولته، فتربى تحت رعاية والدته وجده أحمد العلي وعمه شهاب أحمد العلي، وقد قرأ القرآن وختمه في الكتاتيب. ودخل مدرسة الكرخ الابتدائية، وأتم دراسته المتوسطة والإعدادية في مدرسة الثانوية المركزية ببغداد/ الرصافة في منطقة جديد حسن باشا، وكان يتردد للصلاة في مسجد السليمانية القريب من المدرسة، حيث التقى هناك شيخه وأستاذه علامة العراق الشيخ أمجد الزهاوي، لتشكل تلك المعرفة المسيرة الروحية والتربوية له.


عُيِّنَ بعد تخرجه من المدرسة الثانوية معلمًا في مدارس التفيض الأهلية عام 1942 م، التي كان يديرها مؤسسها المرحوم السيد حسين العاني في مدينة تكريت، نقل بعدها في عام 1943 م إلى مدارس التفيض الأهلية ببغداد، وعاد إلى ملازمة شيخه الشيخ العلامة أمجد الزهاوي، ودرس على يديه الفقه والتفسير.



معرفتي بـه

عرفته أواخر الأربعينيات، وكان من الملازمين للشيخ أمجد الزهاوي، ومن تلامذته ومحبيه، وكان غيورًا على الدين وحرماته، ويسعى في أمور المسلمين وقضاء حوائجهم ورعاية شؤونهم، رغم أنه خريج الحقوق، ولكن الاهتمام بالتعليم والدعوة كان يمثل مكان الصدارة من اهتماماته، وكان صاحب خلق فاضل وأدب جم، وتواضع مع الصغير والكبير والعالم والجاهل، يحترم الجميع، ويسعى لخدمتهم قدر طاقته دون كلل أو ملل، بل له من الخدمات الشخصية لكثير من الأفراد والعوائل ما لا يعلمه إلا الله؛ لأنه لا يحب الظهور ويؤثر الصمت والعمل الدءوب لخدمة الإسلام والمسلمين، والذود عن حرماتهم والاهتمام بشؤونهم، ولن أنسى له مواقفه الكريمة حين اعتقل الإخوان: محمد الصفطاوي، وهاني بسيسو - المدرسان بمدرسية النجاة الأهلية في الزبير - من قبل عصابات حزب البعث في البصرة، والدور الكبير الذي قام به في بغداد لدى كل الجهات النافذة، حتى تمكن من الإفراج عنهما بعد أن لقيا شتى صنوف التعذيب والإيذاء في سجون الطغاة بأيدي زبانية البعث وأزلام السلطة.

وقد كان يحب رفيقنا في درب الدعوة الأخ عبد العزيز سعد الربيعة، ويحتفي به كلما زار بغداد لأمور تتعلق بمدرسة النجاة، ويساعده على إنجازها، وكذا اهتمامه بكل إخواننا في الزبير الذين يسافرون إلى بغداد لإجراء بعض المعاملات، فكان يبذل قصارى جهده لإنجاز معاملاتهم بحكم صلاته الطيبة وعلاقاته الاجتماعية واحترام الناس وتقديرهم له.

وفي لقاءاتي معه في بغداد والكويت والسعودية، كنت ألمس فيه هذه الروح السمحة والتواضع الجم والكلام العذب والدعاء والذكر الذي لا يفتر لسانه عنه، وكان يجد المتعة واللذة في خدمة الآخرين ومساعدة المحتاجين، والوقوف إلى جانب المستضعفين من العامة والخاصة على حد سواء، كما كان يهتم بالوقوف إلى جانب الدعاة والعلماء، وينصرهم على من يضع العقبات في طريقهم، ويسعى لبذل قصارى الجهد في توعية أبناء العشائر، وتبصيرهم بدينهم، مستعينًا بإخوانه الدعاة، كالشيخ إبراهيم منير المدرس، وكذا بالمحسنين من التجار أمثال الحاج عبد العزيز علي المطوع، وأخيه عبد الله المطوع، ونوري فتاح باشا، وغيرهم من المحسنين في العراق ودول الخليج.

تأسيس مدارس التربية

في عام 1943 م، دخل كلية الحقوق وتخرج فيها عام 1946 م، وانتسب إلى نقابة المحامين، إلا أنه لم يزاول مهنة المحاماة مطلقًا.

في عام 1949 م - وبالتشاور مع شيخه العلامة الشيخ أمجد الزهاوي وزملاء لهم - قدموا طلبًا بتأسيس جمعية التربية الإسلامية. وفي العام نفسه تم تأسيس مدارس جمعية التربية الإسلامية بالكرخ في بغداد، في دار استؤجرت في منطقة التكارثة بالكرخ، وتم استئجار قطعة الأرض التابعة لوقفية جامع قمرية خاتون في بغداد الكرخ منطقة سوق الجديد عن طريق الإيجار بالمساطحة لمدة (30) عامًا من دائرة الأوقاف في عام 1950م، واستكمل بناؤها من تبرعات المحسنين في العراق ودول الخليج العربي، حيث قام بعدة جولات في الكويت وقطر والبحرين و"أبوظبي" ودبي والشارقة. وتم انتقال الطلبة إليها في عام 1951 م، وكانت تضم في بدايتها المسجد وجناج الإدارة وغرفة المعلمين والصفوف: التمهيدي، والأول، والثاني الابتدائيين.. واكتمل بناؤها بعد ذلك فأصبحت بناية شامخة تضم جميع الأقسام الابتدائية والمتوسطة والثانوية مع قاعة للمكتبة وأخرى للمختبرات، ثم بعون الله تعالى شيدت البناية الثانية لمدارس جمعية التربية الإسلامية في حي المنصور ببغداد، وتم افتتاحها في عام 1973 م.

مجلة التربية الإسلامية

أما "مجلة التربية الإسلامية" التي أسسها عام 1959م، فقد صدر العدد الأول منها في 1/1/1959 م، وظل الأستاذ السامرائي رئيس تحريرها إلى أن توفاه الله، ولقد كانت هذه المجلة منبرًا حرًا للفكر الإسلامي الملتزم، البعيد عن التناحر والتحزب، فهي بحق واحة يستريح إليها الجميع على تباين مشاربهم ومذاهبهم، فهي تؤلف ولا تفرق، وترفأ ولا تمزق، وظلت هكذا ثابتة الخطا على المحجة البيضاء، برغم الأعاصير التي اجتاحت البلد عبر سنوات طويلة، والفضل بعد الله (تبارك وتعالى) يعود للفقيد السامرائي، الذي نأى بها عن أهواء السياسة ومتغيراتها، فقد كان ذا همة عالية لا تركن إلى حاكم، ولا تُزَيِّن لظالم، ولا تستمنح ذا سلطان مع ثبات على المبدأ دونه الجبال الراسيات.

ومن جهوده أيضًا بناء المساجد، خصوصًا في القرى والأرياف، وتذليل السبل أمام الدعاة والمرشدين، وإرسالهم إلى الأماكن النائية لإرشاد القبائل والعشائر الذين تنتشر فيهم الأمية والجهل بالدين وأحكامه.

من أقواله

يقول (يرحمه الله): "شخصيتان أثرًا في حياتي، وأخذت عنهما الكثير: الشيخ أمجد الزهاوي؛ فقد كان مرشدي لديني، والسيد حسين العاني - مدير مدارس التفيض - الذي علمني العمل الإداري".

قالوا عنه

يقول الشيخ إبراهيم منير المدرس:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فقد شرفني أخي وحبيبي في الله الشيخ المستشار سيد دعاة زمانه الأستاذ عبد الله العقيل الذي تشرفت بمعرفته من نعومة أظفاري عام 1947 م، حيث تقدمنا للقسم الثانوي في كلية الشريعة ببغداد أعاد الله عزها ومجدها التليد، فطلب مني أن أدون ملاحظتي وما علمته ولمسته من سيرة العارف بالله المقتدي بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المربي الكبير الأستاذ (عبد الوهاب السامرائي) (رحمه الله)، حيث أدى الأمانة بتربية أجيال، تربية إسلامية دعوية، متخدًا قائده وقدوته العالم الرباني الزاهد والمجاهد شيخ علماء العصر المرحوم الشيخ أمجد الزهاوي، مؤسس جمعيتي التربية الإسلامية في جانب الكرخ عام 1949 م، ورابطة علماء العراق في جانب الرصافة عام 1954 م.

لقد كان لي شرف التعرف على هذين الداعيتين المربيين منذ تأسيس جمعية التربية الإسلامية وانتسابي إليها، منذ تأسيسها وأنا في التاسعة عشرة من عمري، حيث كنت أدعوهما كل عام لافتتاح جامع أو جامعين في القرى القريبة من بغداد والبعيدة عنها، فسألني يومًا الأستاذ المرحوم السامرائي بحضرة المرحوم الزهاوي: هل عندك إمكانية مادية للاستمرار بالوعظ في القرى والمدن الجنوبية غالبًا؟

فأجبته بأن إمكانياتي المادية محدودة بما يرسله لي المرحوم والدي من البصرة، وأنا طالب في القسم الداخلي في كلية الشريعة ببغداد، فأشار الأستاذ على الشيخ الزهاوي أن يفاتح المرحوم المحسن نوري فتاح باشا الذي لا يرد للشيخ والأستاذ طلبًا، فبارك الشيخ فكرته، فاصطحبه وذهبا إلى المحسن جزاه الله خيرًا، فتوافرت السيارة، ثم اقترح الأستاذ على الشيخ أن يرسل معي كل خميس وجمعة مجموعة من الدعاة الذين يحسنون الوعظ، ولو من طلاب العلم لأوزعهم على القرى، يبيتون فيها ليلة الجمعة ليجمع لهم رئيس القبيلة رجال القرية وشبابها وصبيانها ليعلموهم العقيدة السليمة التي لا يشوبها الشرك الذي نشئوا عليه مما تعلموه من الجهلاء والمضللين، بأن غير الله يضر وينفع، وأن الحلف بغير الله جائز وغير ذلك، ثم يعلموهم الغسل والوضوء والصلاة، وفي اليوم الثاني يجمعونهم إلى صلاة الجمعة أو العيدين ويحثونهم على بناء مسجد، ولو كمفحص قطاة، وبعد تناول الغداء أعود إليهم قرية قرية لنعود إلى بغداد، ونقدم للمرحوم السامرائي تقريرًا مفصلاً عن سفرتنا الوعظية. وأذكر أن الأستاذ السامرائي اقترح على شيخنا الزهاوي (رحمه الله) أن يرسل مجموعة من طلاب التربية وأساتذتها لأداء فريضة الحج عام 1975م - على غالب ظني - فأيده وبارك وساهم كعادته ماليًا فعادوا من خيرة الدعاة والمربين.

ولا يفوتني أن أذكر العمل الجليل المبرور الذي قام به المرحوم السامرائي، حين حصل على موافقة مجلس الإدارة برئاسة العلامة الزهاوي بأن نفتح قسمًا في مدرسة التربية للتخصص بدراسة العلوم الشرعية لعدد محدود من أبناء بعض رؤساء العشائر ليكونوا دعاة وأئمة وخطباء في جوامعهم بقراهم، فوقع الاختيار أولاً على الشيخ الدكتور حارث سليمان الضاري، وأخيه المرحوم الشيخ مطلق، ثم على الشيخ عبد الجبار كصب الجنديل الجنابي، والشيخ الدكتور هاشم توفيق، والشيخ الدكتور حامد الشيخ عبد العزيز، وثلاثة آخرين، فبدءوا دراستهم في التربية الإسلامية على أيدي علماء من بغداد، أذكر منهم الشيخ ياسين السعدي، والشيخ المرحوم عبد العزيز البدري، والشيخ عبد الودود وغيرهم، وبعد سنوات قليلة اقترح الأستاذ السامرائي نقلهم إلى مدرسة الشيخ المرحوم عبد العزيز السالم في مدرسته الدينية بـ"الفلوجة" المعترف بشهادتها في الأزهر، حيث نال الشيخ حارث والشيخ حامد والشيخ هاشم الدكتوراه، بينما تفرغ الشيخ عبد الجبار الجنابي للإمامة والخطابة في جامعهم في ناحية جرف الصخر لوفاة والده المرحوم وتوليه رئاسة القبلية من بعده.

ولا أنسى موقفه الأخوي المشرف كعادته – رحمه الله - حينما كان يتعهد عوائلنا بالمساعدات الشهرية يجمعها من التجار والمحسنين عندما انقطعت رواتبنا، نحن أعضاء مجلس إدارة الحزب الإسلامي السبعة في بداية عام 1960 م، وكنا في سجن انفرادي موزعين على مراكز شرطة بغداد على ألا يزورنا أحد حتى يأذن الزعيم عبد الكريم قاسم، وفي ذلك الحين وبعد خمسة أشهر من اعتقالنا زارني الأستاذ ليبشرني بأن الشيخ نجم الدين الواعظ قدم للزعيم اعتذارنا، كي يطلق سراحنا فوعده الزعيم خيرًا، فانتفضت ودمعت عيناي وقلت للشيخ الواعظ: لماذا تعتذر باسمنا ونحن لم نعتذر له عن كل أمر نسبناه إليه في مذكرتنا لتكون كلمة الحق عند سلطان جائر لننال الشهادة بها، فاعتذر الشيخ الواعظ بخشيته أن يحكم علينا بالإعدام، كما حكم على كثير من الأبرياء في محكمة المهداوي، وعند خروجهما من المركز التفت إلى الأستاذ السامرائي قائلاً: والله يا أخي، ما كنت أظن أن يصدر هذا من الشيخ فسامحني. فقلت له: "إني أعلم بصدقك وإخلاصك وتجردك لله تعالى".

كنت أصفه (حمه الله تعالى) بـ"جامع الأحباب؛" لأنه كان مرابطًا في الجمعية يستقبل في الليل والنهار زائري الجمعية المحبين للخير والمستحقين للمساعدة من العوائل المتعففة والأرامل والمعوزين، فكان يهش ويبش في وجوه الجميع خاصة الفقراء والأيتام، فلم يرد سائلاً ولم يترك غنيًا إلا وذكره بالتبرع للجمعية وأطلعه على أعمالها، فلم تنقطع فضائله لاستمرار العمل بها إلى الآن، ويبقى إن شاء الله.

كان (رحمه الله) يفكر في مستقبل الجمعية ووارداتها من بعده فاستأذن شيخنا الزهاوي طالبًا منه رسائل إلى معارفه ومحبيه في الكويت، والإمارات، والأردن وغيرها؛ كي يجمع التبرعات لبناء مستغلات تكون مواردًا دائمًا للجمعية ومدارسها وطلبة العلم ومساعدة الفقراء، فجمع رحمه الله، وشيد بنايات إضافية تابعة للجمعية، استؤجرت جميعها بعد إلغاء المدارس من التابعة للجمعيات، وضمها إلى وزارة التربية.

ومن منجزاته أيضًا إصدار "مجلة التربية الإسلامية" التي تصل إلى جميع دول العالم، فيستفيد منها الدعاة خاصة في بلاد الغرب، ويتخذون من مواضيعها خطبًا للجمعة والعيدين.

هذا قليل من كثير فضائله وجليل أعماله، جعلها الله في ميزان حسناته – رحمه الله - وما شهدت إلا بما علمت منه، جمعنا الله به في جنات الخلد مع أخينا المستشار عبد الله العقيل أمد الله في عمره، حيث يُعرف المؤمنون بقدواتهم وقادتهم، جعلنا الله وإياه والعاملين المخلصين أئمة للمتقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

يقول عنه مدير تحرير مجلة (التربية الإسلامية):

"لقد كانت حياة فقيدنا الراحل المربي الأستاذ عبد الوهاب عبد الرزاق السامرائي مليئة بالعزم والإيمان بالله تعالى وتربية الأجيال الإسلامية القويمة التي دعائمها الورع وتقوى الله، وأن الدنيا دار عمل لا دار جزاء، وأن الدار الآخرة هي دار جزاء لا دار عمل".

ويقول عنه الأستاذ صادق الجميلي:

"كان يحب عمل الخير ويسعى إلى تحقيقه وإنجازه، وتحمل ما تحمل من أجل ذلك، ومن أجل خدمة إخوانه المسلمين، وتم ذلك بتواضعه المعهود، وصبره المشهود، وتفانيه من أجل تحقيق أغراضه.

وقد عاش الفقيد عصورًا نكدات ومظلمة قاسيات، وبخاصة أحوال العراق بعد احتلاله البغيض الأخير، فكان يدعو جلساءه وأصدقاءه إلى الصبر والاستقامة في الحياة، والتوكل على الله في جميع الأحوال؛ إذ لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ويدعوهم أيضًا إلى العمل المتواصل والتغيير نحو الأحسن، وعدم اليأس في تحقيق ما يرضي الله تعالى، وإن لم تحصل النتائج المطلوبة، وكان يذكرهم دائمًا بقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110).

وفـاتـه

توفي يوم الاثنين، 5 من شعبان 1427هـ/ الموافق 28 من أغسطس 2006 م، بعد عمر مديد قارب أربعة وثمانين عامًا قضاها بالعمل المتواصل وبالتقوى وملازمة الصالحين، وبالعمل المخلص الدءوب في خدمة الإسلام والمسلمين جميعًا، ونشر الثقافة الإسلامية الهادفة، وإشاعة روح الألفة والمحبة، والتعاون على البر والتقوى بين الناس أجمعين، وتقوية أواصر المحبة بين الأقرباء والمعارف والأصدقاء.

رحم الله أستاذنا الشيخ عبد الوهاب عبد الرزاق السامرائي رحمة واسعة، وحشرنا الله وإياه في زمرة الصالحين من عباده.