ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
ابو الحسن الندوى1.jpg

منذ أكثر من خمسين عامًا طرح العالم الجليل " أبو الحسن الندوي "- رحمه الله- تساؤلاً كبيرًا، هو: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)، استغرقت الإجابة عليه أكثر من مائتين وخمسين صفحة، حملت معها عللاً وعلاجات لأمراض الإنسان القيمية والحضارية ومشكلات ومخاطر الحضارة، عندما تسود بلا ضابط من قيم، ولا وازع من ضمير.

وقد غاص الرجل في أعماق أفكار وحضارات سادت أممًا وشعوبًا مختلفة، وخلَّفت جراحًا عميقة، بقدر ما امتدت أجنحتها، ووجد "الندوي" أن هذه الحضارات تحركت بعيدًا عن منظومة القيم الأساسية للحياة البشرية، وأنها اصطنعت قيمًا لها، تقرُّ فيها بعض القيم المضادة للقيم الأساسية الإنسانية، فأقرت بعض الحضارات التفاوت بين الطبقات والألوان والأجناس كقيمة مجتمعية، ومجَّدت أخرى القوميات، وأطلقت ثالثة العنان للشهوات، وذوبت الفضائل، وطغَت اعتبارات المادة والمعدة والشهوة على كل اعتبار، وأصبحت قيمة الإنسان بقدر ما يجلب من منفعة بقول "الندوي": "وأصبح العقل الأوربي محاميًا عن المادية لا يحكم على الأخلاق بالحسن والصحة إلا بمقدار جلبها للمنافع المادية، فأصبح الربح المادي هو الميزان للأخلاق والفارق بين الشر والخير".

وفي هذا الخضم من اختلال القيم الضابطة والأخلاق الموجهة خلص "الندوي" إلى حاجة البشرية إلى قيادة جديدة، ألا وهي الإسلام، بدلاً من سيطرة اليد الأوربية الغربية على دفة القيادة؛ لأن هذا التحول هو الذي سيغير التاريخ وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي تنتظره.

وأبدى "الندوي" أسفًا عميقًا ونقدًا عنيفًا لاستيلاء الفلسفة الأوربية على العالم، وسير الشعوب والأمم المختلفة خلف الأوربيين، وانتقد فقدان كثير من المسلمين لثقتهم بدينهم وقيمهم وأنفسهم في سيرهم خلف الغربيين؛ مما ترك أثرًا سلبيًّا في نظرة العالم إلى الإسلام والمسلمين، إذ اتخذ العالم من فشل المسلمين دليلاً قاطعًا على عدم صلاح الإسلام لقيادة البشرية؛ لذلك كان الخلاص عنده بالعودة إلى الإسلام ونهضة المسلمين الشاملة وإيجاد الترابط المتين بين العلم والدين.

تلكم كانت أهم دوافع "الندوي" لطرح تساؤله قبل خمسين عامًا، وتلكم هي الأسباب والدوافع التي تجعلنا نعيد طرحه بعد هذه العقود الخمس، فما تزال قيادة البشرية في أيدي الغربيين، فالمجداف انتقل من أوربا إلى الولايات المتحدة، وكلاهما أبناء ثقافة واحدة، رغم ما فيهما من تمايز، وأصبحت الولايات المتحدة تسعى لفرض نموذجها الحضاري ونمط حياتها وثقافتها على الآخر كنموذج واجب الاحتذاء طوعًا أو كرهًا.

وعلى الجانب الآخر كان هناك تصدع في كيان الإنسان، وتدمير لخصائصه، ومحاولات استنساخ لأخلاقيات وقيم وأذواق الإنسان الأمريكي على جميع البشر، ومواجهة التنوع الذي هو سر من أسرار الخلق، بتعميم النموذج الأمريكي. وفي ظل ذلك الصراع بين القوة المتغلبة وبين قوانين الخلق ونواميس الكون كان الإسلام هو الخلاص للبشرية، رغم أنه النموذج المغيب عن الواقع.

عالم وحيد القطب:

برزت القطبية الأحادية الأمريكية في العالم بصورة جلية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وانهيار الكتلة الشرقية، وتحطم سور برلين، وترسخت القطبية الأمريكية في النظام الدولي بعد انتصارها في حرب الخليج الثانية في بداية التسعينيات، وظهور ما عُرف بالنظام الدولي الجديد الذي تهيمن فيه واشنطن على قمة النظام الدولي منفردة. وسعت الولايات المتحدة لتعميم وتصدير نموذجها الحضاري ومنظومة قيمها إلى الآخرين، مستخدمةً في ذلك وسائل وأدوات القوة والنفوذ المختلفة بما فيها الحق في التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وكان واضحًا أن الولايات المتحدة تسير برؤية معينة، وتنطلق من أفكار محددة، استطاع اثنان من مهندسي السياسة الخارجية الأمريمية صوغها في (نظريتين) كبيرتين هما "صدام الحضارات" و "ونهاية التاريخ".

صدام الحضارات:

أثارت أفكار المفكر الأمريكي "صمويل هنتنجتون" حول صدام الحضارات اهتمام وقلق الكثيرين في العالم بما فيهم الأمريكيون أنفسهم، فوصف وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "هنرى كيسنجر" مقال "هنتجنون" عن صدام الحضارات بأنه أفضل ما صدر منذ مقال "جورج كينان" عن نظرية الاحتواء في مجلة "فورين أفيرز" عام 1947 م.

وكان "كينان" أعد "نظرية الاحتواء" لتكون وصفة ناجعة لاحتواء الخطر السوفيتي بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية؛ وذلك بخلق قوى مناوئة للتصدي له على امتداد العالم بأسره، وظلت تلك النظرية عماد السياسة الأمريكية الخارجية حتى انهيار الاتحاد السوفيتي.

وقد تحدث "هنتجتون" في بداية مقالته عن "تآكل المصالح الأمريكية"؛ لأن السلعة التي كانت تروجها السياسة الأمريكية الخارجية وهي الحماية من الاتحاد السوفيتي قد اختلفت، وكان لابد من تصنيع سلعة جديدة بديلة من خلال "خلق عدو"؛ بهدف تجديد هوية أمريكا القومية، وأكد أن أمريكا ليست في حاجة إلى القوة، بل في حاجة إلى أهداف لاستخدام هذه القوى؛ لهذا كانت أفكاره وتصوراته عن العلاقة بين الحضارات تصادمية صراعية تحسم بالمعارك لا بالحوار.

ورأى "هنتجتون" أن خطوط الانقسام الثقافي ستكون المصدر الرئيسي للنـزاعات المقبلة في العالم، وأرجع ذلك إلى الاختلافات الجوهرية والعميقة بين الحضارات، والتزايد السكاني الذي يبعث معه الانتماءات المرتبطة بالحضارات والنـزاعات المتصلة بذلك، إضافةً إلى فقدان الغرب لجاذبيته بالنسبة للنخب الأخرى عند إعادة اكتشاف ذاتها، كما أن الحكومات تبرز قيمة الهوية الإثنية والدينية؛ من أجل تعبئة السكان بعد ما تبين أن الأيدولوجيات تجاوزها الزمن، ومثل هذه الهويات تعمق الاختلافات بين الحضارات وتعزز المنازعات، خاصة المرتبطة بالحوار.

وخلص "هنتنجتون" إلى أن مشكلة الغرب هي مع الإسلام قبل الأصوليات الإسلامية فيقول: "إن الأصولية الإسلامية ليست هي المشكلة المهمة للغرب، بل الإسلام، فهو حضارة مختلفة شعبها، مقتنع بتفوق ثقافته، وهاجسه ضآلة قوته، فهم أكثر تورطًا في العنف من أي حضارة أخرى، فللإسلام حدود هوية، وقامت رؤية "هنتجتون" على افتراضَين لا دليل عليهما:

الأول:

وجود تناقض أساسي لا سبيل إلى رفعه بين مضمون الحضارتين الإسلامية والغربية، يكمن في تناقض القيم المسيطرة على كلا الحضارتين.

الثانى:

الافتراض بأن هذا "الاختلاف" في مضمون كلا الحضارتين وقيمهما العليا لا يمكن أن يصفَّى إلا من خلال الصراع والتصادم.

نهاية التاريخ.... والعولمة:

أما الرؤية الثانية فقدمها الكاتب الأمريكي "فوكوياما" في مقال عام 1989 م إبان تفكك الاتحاد السوفيتي، ثم تضخمت في كتاب بعنوان "نهاية التاريخ".

ذهب "فوكوياما" فيه إلى أن التاريخ انتهى إلى مصب القطب المتحكم سياسيًّا، وأن تفكك الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية لم يضع حدًّا للصراع التقليدي فحسب، وإنما وضع نهاية للتاريخ، وبتلك النهاية يميل التاريخ إلى الاستقرار عند الرأسمالية العالمية كنظام سياسي واجتماعي واقتصادي عالمي أمثل، واعتبر "فوكوياما" أن انتصار الليبرالية سيصير المثل الأعلى والموجَّه الأول لتطور العالم المادي بما يعني الهزيمة المطلقة للخيار الآخر المزاحم لليبرالية الغربية، كما أنه انتصار غير مشروط لليبرالية السياسية والاقتصادية؛

لهذا كانت العولمة محاولةً لملء الفراغ وتبرير تفرد الرأسمالية الأمريكية بالعالم، والإعلان عن توقف الفكر الإنساني وانسحابه لحساب الليبرالية الغربية بثقافتها وقيمها وأخلاقياتها، فصارت المتغيرات تطرح نفسها وكأنها بدائل للثوابت والقناعات.

وسعت الولايات المتحدة- باعتبارها الدولة الأغنى والأقوى- للتحكم في العالم، وفرض هيمنتها السياسية عليه، وأن يكون لها الدور المركزي في تحديد التوجُّه العام للعالم؛ ومن ثمَّ اقصاء الخصوصيات وتذويب الثقافات، وهو دور وصفه البعض بالاغتصاب الثقافي والعدوان الرمزي على سائر الثقافات، فما يطرح من أحاديث مكررة ومكثفة عن العولمة ما هو في حقيقته إلا غطاء نظري وفلسفي لاقتصاديات السوق والشركات المتعددة الجنسيات؛ من أجل فتح أسواق العالم وعقوله أمام المنتجات الأمريكية والغربية التي تتمركز حول مفهوم الاستهلاك بمعناه الواسع، بدءًا من الغذاء وانتهاءً بالأفكار والتصورات وأنماط السلوك ومعايير الذوق.

ومن هنا كان النظام الثقافي الجديد في ظل العولمة هو عبارة عن الخصوصية الثقافية للغرب معمَّمة على غيره من الأمم والأجناس، وهو ما يفضي حتمًا إلى تجريد الإنسانية من التنوع الثقافي وتعدد الحضارات، وهذه هي الأسس التي تُبنى عليها الخصوصيات التي تتميز بها الشعوب، وتستمد منها طاقاتها ومعاني وجودها وأسباب عطائها، كما أنه مصادرةٌ للفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي تقوم على التنوع لا النمطيَّة.

واقع مقلق: والشيء المقلق في هذه الثقافة المصدرة والمفروضة أنها ثقافة الاستهلاك التي لا ترى في الإنسان إلا موطن الشهوة واللذة، وما دامت ثقافة المجتمع منتجًا لظروفه التاريخية والاجتماعية والاقتصادية؛ لأنها لا تنشأ من فراغ، فإن إطلالة على الثقافة والممارسة الأمريكية تبعث على القلق، وتبث في النفس هواجس لا تجد طمأنينة من احتمالية هيمنة هذه الثقافة العنيفة التي تمجد القوة وتغيب التسامح وتعشق المال ولا ترى في الآخر إلا مصالحها فقط.

وتحدث الفيلسوف الفرنسي "روجيه جارودي" في كتابه "أمريكا طليعة الانحطاط" عن رفضه نفي الثقافات وتفريغ العالم من ثقافاته، وأكد أن العالم بلا مشروع إنساني في ظل السيطرة الأمريكية، وأن الثقافة الأمريكية هي الخطر الأول على الثقافات العالمية.

فالأمريكيون منذ حملوا السلاح لإبادة الهنود الحمر السكان الأصليين للقارة الأمريكية، أصبح السلاح مكونًا ثقافيًّا، وممارسة واقعية، فالإحصاءات تشير إلى أن الأمريكيين يملكون (60) مليون مسدس، و(120) مليون بندقية، ويفضي هذا السلاح إلى معدل سنوي من جرائم القتل تصل إلى (19) ألف حادثة في العام، وفي الفترة من 1975م حتى 1991م قتل ما يقرب من خمسين ألف أمريكي في حوادث قتل، ويكفي أن نعلم أن الولايات المتحدة تستهلك نصف استهلاك العالم من الكوكايين، رغم أن سكانها لا يزيد عن 5% من سكان العالم، إضافةً إلى أنها تحتجز في سجونها أكثر من 1% من سكانها لجرائمهم.

ونشر المكتب الفيدرالي للعائلة تقريرًا في أغسطس 2002 م مفادُه أن حوالي ثلاثة ملايين طفل أمريكي ممن تتراوح أعمارهم ما بين 12: 17 سنة فكروا في الانتحار عام 2000 م، وأن حوالي الثلث منهم حاول الانتحار بالفعل.

أما موقف الولايات المتحدة من الآخر الخارجي فكان ذا عنف ودموية وغطرسة، تناول بعضها الكاتب والسياسي الأمريكي "وليام فولبرايت" في كتابه "غطرسة القوة"، وذهب إلى أن انعدام الثقة بالنفس يولد شعورًا متضخمًا بالقوة والرسالة، وأنها إذا اجتمع في أمة واحدة أقصى القوة مع انعدام الثقة بالنفس تصرفت هذه الأمة بأسلوب فيه خطر على نفسها والآخرين، وعادةً ما يتملك هذه الأمة رغبةٌ جامحةٌ بحاجتها؛ لأن تبرهن على ما هو واضح جلي لكل ذي عينين، وهذه حالة مرضية من أبرز أعراضها أن تخلط الأمة بين فكرة القوة العظمى والقوة المطلقة، وبين المسئولية العظمى والمسئولية الكلية، ويصحب هذا إصرار عجيب على أنها لابد أن تكسب أي مناقشة مع الآخرين مهما بلغت تفاهة ما لديها من مبررات.

وفي إطار سيادة "غطرسة القوة" على ثقافة الأمريكيين حاول "فولبرايت" تقييم ثقافة الأمريكيين تجاه الشعوب الأخرى التي ذهبوا لمساعدتها فأكد "أن هناك علامات لغطرسة القوة لا تُخطئها العين في مسلك الأمريكيين عندما يذهبون إلى البلاد الأخرى، فإنهم يتصرفون بنوع من التعالي، كأنهم يملكون المكان، وكأن أهل البلاد أنفسهم غير موجودين".

أما كتاب (حق التضحية بالآخر: أمريكا والإبادات الجماعية)، للكاتب "منير العكش" فيحوي بين دفتيه أهوالاً عن المذابح التي ارتكبها الأمريكيون في حق الشعوب الأخرى فأورد شهادات للأمريكيين أنفسهم عما ارتكبوه في فيتنام في السبعينيات، حيث رأى الأمريكيون أن حلهم الأمثل لمشكلتهم مع الفيتناميين هو أن يفعلوا معهم مثلما فعلوا مع الهنود الحمر، أي الإبادة التامة.

وقد عرضت محطة History التليفزيونية في يوليو 1996 م فيلمًا وثائقيًّا بعنوان (قيام العنقاء) يصور سلخ الجنود الأمريكيين لرؤوس بعض كوادر الثوار في فيتنام في مهمة أشرفت عليها المخابرات المركزية، وبلغ عدد الضحايا المدنيين في هذه العملية أكثر من عشرين ألفًا، ووصفت هذه العملية بأنها أكبر برنامج للقتل الجماعي المنظم شهد العالم منذ معسكرات النازية.

ومن المذابح المروعة التي ارتكبها الأمريكيون في فيتنام مذبحة "ماي لاي" التي قتل فيها (347) شيخًا وامرأة وطفل، ويكفي أن نعلم أن أمريكا ألقت في هذه البلاد (14) مليون طن من القنابل.

كما ردم الأمريكيون عدة آلاف من الجنود العراقيين أحياءً في الرمال بالبلد وزرات، وتقدمت العراق بشكوى للأمم المتحدة لكن لم يلتفت إليها.

إن هناك شعورًا بالقلق من أن تكون السيادة في هذه الأرض لراعي البقر الأمريكي- رغم تقدمه العلمي وثرائه- لأنه لا يتعامل مع الآخر إلا من منطق الوصاية والمنفعة والتوجيه باستخدام القوة. المؤسسات الاقتصادية الدولية.... وابتزاز الفقراء:

إن ما يستدعي إعادة طرح سؤال "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" هو حالة الاستغلال والابتزاز الاقتصادي الواقعة على الفقراء، خاصة في دول الجنوب، وسيطرة الجشع على حركة رأس المال، وازدياد الهُوَّة بين الفقراء والأغنياء في العالم، مع عدم وجود قيم أخلاقية وإنسانية تلطف من هذه الفروق، فحدوث الانفصال التام بين المال والأخلاق كان من الأمور المقلقة والمحزنة في ذات الوقت، فالإحصاءات تشير إلى أن هناك 13% من سكان العالم ينفقون 68% من الإنتاج العالمي، فالولايات المتحدة 5% من سكان العالم تستهلك20% من الاستهلاك العالمي، وهناك ثلاثة مليارات إنسان فقير، وحوالي (900) مليون في دول الجنوب يعانون الجوع، وأن 85% من ثروات العالم تتمركز في أيدي 20% من شعوبه، في حين أن هناك (40) دولة في العالم ميزانيتها أقل بكثير مما قد يمتلكه مجموعة من أثرياء العالم لا تتجاوز أعدادهم أصابع اليد الواحدة، ويوجد (358) مليارديرًا يمتلكون ثروة تضاهي ما يمتلكه (5,2) مليار نسمة، ويبلغ الدخل القومي لبعض هؤلاء الأثرياء (17) مليون دولار.

وعلى صعيد المؤسسات المالية الدولية والشركات متعددة الجنسيات فثمة مأساة كبيرة إذ تحولت إلى مؤسسات يمارس فيها الأغنى والأقوى عمليات اغتصاب وابتزاز حقيقي للدول الفقيرة، وفرض قيم معينة عليها تفضي إلى إزالة تامة للحواجز؛ مما يسمح بتدفق السلع المنتجة في الدول المتقدمة إلى الدول الفقيرة وخروج موارد الأخيرة، وبالتالي فالذي يمتلك الاختراع ويتفوق فيه سيكون في موقع استغلال الآخر وصوغ حياته.

ويوجد في العالم حوالي (500) شركة عابرة للقارات تسيطر عمليًّا على70% من حركة التجارة الدولية، وتستقل بإدارتها ومصالحها عن سياسات الدول.

وهناك اتجاه لتعزيز اقتصاديات الخدمات على حساب القطاعات الاقتصادية التقليدية، مثل الصناعة والزراعة، وهو ما يخدم الدول الغنية، ويقسم العالم إلى منتج غني ومستهلك فقير.

أما صندوق النقد الدولي فإن إدارته للمشكلات الاقتصادية لبعض الدول التي لجأت إليه عاد بكارثة عليها، إذ لم يقدم لها طوق النجاة، ويؤكد ذلك الاقتصادي الأمريكي الكبير "جوزيف استجلز" الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في كتاب مهم بعنوان "العولمة الاقتصادية ودواعي السخط عليها"، وقد تولى "استجلز" منصب كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي في أواخر السبعينيات، وخلص إلى أن صندوق النقد الدولي بطريقة إداراته للعولمة الاقتصادية قد عاث في الدنيا فسادًا، وأن تدخُّله في دولة بعد أخرى من الدول التي اضطُّرت إلى اللجوء إليه لم يأت إلا بالكوارث الاقتصادية والاجتماعية؛ بسبب فرضه لإرادته على الدول، إضافةً إلى أن غالب قراراته تخدم ذوي المصالح القوية والنفوذ المالي، والذي يدفع تطبيق هذه القرارات هم فقراء العالم الثالث؛ بسبب قبض يد الدولة في التدخل لصالحهم وتخفيض ما يقدم لهم من سلع وخدمات.

وأكد "استجلز" أن إصرار البنك في الاعتماد على قوى السوق ليس دائمًا هو الحل الأمثل، إذ إن هناك حالات تستوجب تدخل الدولة لتحقيق التنمية، ومكافحة البطالة، والمساواة في توزيع الدخل. تدمير خصائص الإنسان:

القيم هي معايير ومقاييس الفعل البشرى، ومحددات السلوك، وضابط أهداف النشاط الإنساني، وبالتالي فلا يمكن أن يكون الإنسان معيارًا ومقياسًا لتقويم نفسه؛ لأن ذلك يؤدي إلى التباس الذات بالقيم، ويفتح بابًا كبيرًا للفساد والاستغلال وتسلط الإنسان على أخيه الإنسان، فتنعدم المساواة ويحدث طغيان الميزان وفقدان العدل، وتتحول القيم إلى وسيلة للهيمنة؛ لهذا كان تحويل الإنسان إلى آلة فقط أو شهوة فقط هو تدمير لخصائصه، وأدرك ذلك الشهيد "سيد قطب" في كتابه "معالم في الطريق" عندما قال: "إن البشرية تقف على حافة الهاوية؛ بسبب إفلاسها في عالم القيم....

فقيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال لا لأن الحضارة الغربية أفلست ماديًّا أو ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والفكرية، ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره؛ لأنه لم يعد يملك رصيدًا من القيم يسمح له بالقيادة".

ويرى الدكتور " محمد عمارة " أن عولمة القيم الثقافية هي سبيل "التأبيد" لذوبان الحضارات غير الغربية؛ لهذا نلحظ الإصرار على عولمة منظومة القيم الغربية والثقافة الغربية، ونمط الحياة الأمريكية من خلال صياغتها في مواثيق يتم عولمتها باسم الأمم المتحدة عبر المؤتمرات الدولية.

ومن ذلك وثيقة مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة في سبتمبر 1994 م حيث سعت هذه الوثيقة إلى عولمة التحلل والتفكك الأسري الذي يعانى منه الغرب، واستبدال الزواج الشرعي بالزنا، فتشير الإحصاءات أن 40% من طفولة الغرب تأتي من الزنا، ودعت هذه الوثيقة إلى إباحة الشذوذ بكل أشكاله وممارساته وكفالة الأمن والرعاية للمتع الجنسية الآثمة، ومن يطالع هذه الوثيقة يدرك أنها تعاملت مع العفة على أنها خطر على السلام العالمى، أما مؤتمر المرأة في بكين عام 1995 م الذي جاء مكملاً لمؤتمر القاهرة، وهدف إلى تحرير المرأة من أدوارها الطبيعية في الأمومة والأنوثة فكان صيحةً أخرى ضد الفضيلة والقيم وضد خصائص الإنسان.

وإجمالاً فهناك حالةٌ من الانفلات في القيم، والإصرار على أن يكون هذا الانفلات ذا مرجعية دولية، وما يثير القلق هو نظرة الحضارة الغربية للإنسان، والتي نظرت إليه من منظور المنفعة لا من منظور القيمة، والنظرة الأولى تفضي إلى إباحة التخلص من الإنسان مع انتهاء ما ينتجه من سلع وخدمات، أما الأخرى فترى في الإنسان أنه قيمة، وأنه من خلق الله.

وكان من مآسي النظرة الأولى تقنين الانحطاط، فأصبحت هذه الحضارة تنظر لحياة الإنسان على أنها مجرد ثمن لما يقدمه من نفع لمجتمعه مثله مثل الآلة، فإذا ما وصل إلى مرحلة العجز والشيخوخة فلا داعي لبقائه على قيد الحياة، وإذا كان مرضه ميئوسًا فلا مانع من قتله بدافع الرحمة!!.

يقول "جاك أتالي" مستشار الرئيس الفرنسي السابق ميتران: "إنني أعتقد أن إطالة العمر لم تعد هدفًا مرغوبًا في منطق مجتمعنا الصناعي، فالماكينة الإنسانية مادامت تنتج فهي تستحق البقاء والصيانة، فإذا تجاوزت عمرها الإنتاجي كانت تكاليف صيانتها خسارة اقتصادية، كما أن التخلص منها لا يكون بتركها تتآكل، ولكن بإعدامها مرةً واحدة، والإنسان إذا بلغ الستين أو الخامسة والستين، وتوقف عن الإنتاج يصبح استمراره في الحياة عبئًا على طائفة المنتجين"، وقد وافقت هولندا على قانون القتل الرحيم في التسعينيات، ووضعت له قواعد، وفي ذات العام جرى في هولندا (2300) حالة قتل رحيم، تمثل 8.1% من مجموع الوفيات في هولندا.

إن ما يستدعي إعادة طرح سؤال "الندوي" ما زالت قائمة حتى بعد مرور خمسين عامًا، وما زال الإسلام يملك القدرة على العطاء للبشرية، فالإسلام يعطي البشرية القيم ولا يفقدها تقدمها العلمي، ويمنح البشرية الإيمان والروح ولا يفقدها العقل ولا المادة، يعلم البشرية الأخلاق ولا يسلبها الحرية، فالإسلام دين يعترف بالآخر ولا يلغيه، بل يحاوره بالتي هي أحسن، وكما يؤكد المؤرخ البريطاني "تويني": "إن المسار الإنساني نحو العالمية سيحتاج إلى عطاء الإسلام في القضاء على العرقية بجميع تفرعاتها، وفي التخلص من مظاهر الانحطاط التي أحدثتها المجتمعات الكحولية والملاهي".

المصدر

قالب:روابط أبو الحسن على الندوى