يا أيها العالم ... هذا هو حسن البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
يا أيها العالم ... هذا هو حسن البنا

إعداد: أسرة " رسالة الإخوان "

مقدمة

الإمام حسن البنا

( ... حسن البنا كلما باعدت الأيام بيننا وبين يوم استشهاده ازدادت شخصيته وضوحا وإشراقا وإثارة نورا وبهاء .. إنه كاللوحة الفنية البديعة .. كلما ابتعدت عنها محملقا في روعتها كلما وضح أمام ناظريك رواؤها ودقة الإبداع فيها. وحقا ما مضي عام إلا ازداد تاريخ حسن البنا وضوحا في ميادين الدعوة الإسلامية وظهر ما أجراه الله من خير على يديه للإسلام والمسلمين ..)....أ‌/ عمر التلمساني – رحمه الله


كلمة الرسالة: حسن البنا نسر يخفق بجناحيه في سماء الناس

لأنها لم تكن تجمعا بشريا اجتمع من أجل قضية جزئية يسعى لمعالجة هذه القضية .. رغم سمو أي تجمع من هذا النوع يعمل على إقرار الحق وإبطال الباطل، ولأنها لم تكن نفرة في سبيل راية عمِّية جاهلية محكوم عليها بسنة الله بالفناء، ولأنها لم تكن عصبية لجنس ضد جنس أو لقوم ضد قوم أو لزعيم دون آخرين .. لأنها لم تكن كذلك ولا كانت لغير الهدف الأسمى الذي يتجمع في سبيله أي بشر مخلصون .. كانت جماعة الإخوان المسلمين .. وكان مرشدها الأول حسن بن عبد الرحمن البنا .. حاول وحاولت معه جماعته أن تكون مخلصة لفكرها صادقة في بيعتها لخالق الكون وبارئه سبحانه وتعالى مُنَّزل الكتاب وحافظه والذي بيده ملكوت كل شيء .. والموت والحياة .. ومع اليقين الراسخ بأسس العبودية لله وحده فقد جاءت أسس الفكر التي انطلقت بإذن الله من يقين الإمام وما استوعبه من قرآن ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .. مجتهدا فيه .. دون ابتداع ودون مصادمة لاجتهاد سبقت به الأمة .. فلا استعلاء على تاريخ الأمة ومجتهديها .. ولا مناجزة لحزب أو تجمع اختار سبلا أخرى لرعاية الخلق وإصلاحهم .. سعيا لتحقيق ما يريد مستترا أو متخفيا أو خادعا للناس بما يفسد على الفكرة أصالتها أو يدخل عليها ما يخدش صفاء نواياها حتى ولو كانت الدنيا كلها .. وبهذا .. وباجتهاد الإمام وضربه للمثل أمام من بايعه والخَلْق أجمعين .. وباجتهاد الأفراد واندفاعهم دون التخلي عن الضوابط الحاكمة .. بقيت جماعة الإخوان المسلمين وبعد مرور أكثر من ستين عاما على استشهاد الإمام هي هي جماعة الإخوان المسلمين .. وهو هو .. الإمام الداعية المربي المجتهد حسن البنا.

هل يصف البشر الجبل الأشم بأبلغ ما يقال عنه أنه جبل أشم .. أو يجد بشر وصفا أقوى وأدق للنهر الدافق بغير أنه نهر دافق .. هكذا نرى ويرى معنا الكثيرون من الخلق الإمام الشهيد بأنه حسن البنا ولا غير، والآن وبعد هذه العقود الطويلة التي حاول الكثيرون بعد حادثة مقتله الغادرة ودفنه تحت التراب أن يعملوا فيه معاولهم للنيل منه فلم يحظوا بغير ما انحط عليهم من غبار التراب الذي وارى جسده الطاهر – بإذن الله – تماما كما يحدث مع الجبل الأشم، أو من حاول أن يكدر ماء النهر ويلقي فيه ما يكدر هذا الماء العذب المتجدد الذي يروي بإذن الله نماء النفوس وطُهر القلوب ولا ينال منه الشانئون أو المحبون أو الحيارى والقاتلون إلا رداذ الطهر والصفاء كما طالب الإمام به إخوانه (كونوا كالشجرة المثمرة .. يرميها الناس بالحجر وترميهم بالثمر) وهكذا ستظل سيرة مرشدنا الأول – يرحمه الله – متجددة مثمرة تواصل دورها لما خلقها الله لها تماما مثل ما خلق الله سبحانه لأجله الجبال الرواسي والأنهار العذبة دون أن يلحقها سوء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولعل قدر الله الذي جرى عليه بميتة شريفة فور أن بلغ رشده – 42 عاما – وبحال من الدنيا لا يُطغى ولا يفتح بابا للفتنة أو التأويل أو الطعن أو الشبهات في حياته وبعد استشهاده، فلا سلطة يختصم معه فيها الناس ولا مال يدور حوله القيل والقال .. وتراث من الفكر لا يبتدع فيه ولا يرفع به نفسه وإخوانه فوق مستوى عباد الله .. فتزل قدم أحد منهم حين يزل لسانه فينطق بما قد يوسوس به الشيطان إلى نفسه بأنه خير وأفضل عند الله من الآخرين. ليبقى حسن البنا – ولا نزكي على الله أحدا – كمثل (.. والسابقون السابقون ..).

سنظل أمام سيرة مرشد جماعة الإخوان المسلمين الأول الإمام الشهيد حسن البنا، وسنظل وغيرنا كلما طالعنا هذه السيرة طالعتنا معالم جديدة تختفي أحيانا وسط صخب رنين الكتابة في أسماع وقلوب المرهفين الذين يطالعون السيرة بأبصارهم وبصائرهم فلا يختلط الحق في أذانهم تحت ضجيج الأحداث، ولا تفقد أبصارهم وبصائرهم الرؤى عندما تغشى الدنيا ظلاماتها، وتظل نقاط الضوء الصغيرة التي تخترق هذا السواد بارزة شاخصة تنبئ عن ما وراءها وما حاول الكثيرون إخفاؤه بأستار ظنوا أنها يمكن أن تطمس ملامح الضياء في نفس داعية مؤمن أعدت له دولته ومن خلفها دول، موتة أجهدوا أنفسهم في حبك خيوطها في ليلة أطفأوا فيها أنوار العاصمة المصرية، آملين أن تخمد مع آخر نقطة دم تخرج من جسده المسجى، شعلة الضياء في النفس الربانية، فلا يراها بعد وضعه تحت التراب أحد، ولكن يظهر ضياؤها، عندما يصح البصر وتصفو البصيرة، وتتوهج السيرة وكأنها تبدأ من جديد مع كل معول ينبش وكل كلمة غير عادلة تصاغ.

في كلمات نختارها من كنوزه.. كلمة وجّهها لشباب الجامعة، قال فيها:

... لا أحب أن نعتذر بأن عجزنا عن تحقيق منهاجنا كاملا في أنفسنا يرجع معظمه إلى الظروف أكثر مما يرجع إلى الأشخاص فإن المقام مقام طموح إلى الكمال لا دفاع عن النقص.

ولكني أحب أن أنبه إلى الفارق بين الإخوان وبين غيرهم في هذا، فإن الإخوان يشعرون من أنفسهم بهذا ويعترفون. على حين يأخذ غيرهم في الدعوى العريضة، ويتسترون بخلابة الألفاظ. والإخوان مع هذا الاعتراف دائبون على طلب الكمال حتى يأخذوا منه بالنصيب الذي قدره الله لهم.

قدر الموت الذي يصاحب كل مخلوق في هذا الكون .. الإنس والجان والملائكة والشجر والحجر والجبال والدواب والأفلاك .. هذا القدر عاشه حسن بن عبد الرحمن البنا منذ وعى وجوده في هذه الدنيا بمداومة زيارته للمقابر، وظل وعيه يزداد قربا منه كلما زادت أيام عمره وسنينه، وأدركه يقين بقربه ودنوه عندما انطلق بدعوته وأدرك معها أن دعوة الحق التي يجهر بها لن يَرْضى عنها أكثر الناس، وأن استمساكه بهذا الحق الذي آمن به دون انخداع بغيره أو المساومة عليه أو التفريط فيه. ثمنه اليقين الذي لا شك فيه .. الموت.

يرحم الله مرشدنا وإمامنا حسن بن عبد الرحمن البنا الذي أتى إلى الدنيا كما يأتي كل الناس وخرج منها لا كما يخرج معظمهم، فقد وفقه الله سبحانه وتعالى في عمره القصير، أن يهب هذا العمر لدعوته وأن يختمه بدماء تسيل وعلى أيدي ظلمة بغير شرع من الله ولا قانون لتكون حكمة الله سبحانه وتعالى التي تغيب عن الجميع بأن تكون هذه الموتة هي الشهادة على أنه كان على الحق وأن تظل حرارة دمائه التي سالت، وقودا دافعا لجماعته التي بثت روحا جديدة في الأمة ، ويظل هو نفسه نسرا يخفق بجناحيه دنيا الناس.


بين يدي الملف

هذا الملف يحمل بين ثناياه بعضا من معالم هذه اللوحة البديعة .. حسن البنا ... رسمتها أقلام ... مسلمة وغير مسلمة ... مصرية وغير مصرية ... عاصرت الإمام أو كانت من غرس يده بفضل الله تعالى أولا وأخيرا ... أجرى الله على لسانها وأقلامها كلمة حق، أمام محاولات واهية ... قديمة جديدة ... لحجب إشعاع هذه اللوحة البديعة .

وليس لمعدي هذا الملف أي فضل – والفضل لله وحده - سوى في تجميع المادة وإعادة دمجها وتبويبها من مصادرها الأصلية – شكر الله لاصحابها جهودهم وجزاهم خيرا – ولذلك آثرنا ذكر هذه المصادر في نهاية هذا الملف ، نتيجة هذا العامل وحتى نركز على معالم هذه اللوحة البديعة ...

وختاما ... فهذا الملف يحتوي على معالم محدودة وسمات رمزية لهذه اللوحة البديعة ، وإلا فالإحاطة بجوانب الإبداع في هذه اللوحة البديعة يحتاج إلى أسفار واسفار ... ولذا رأينا في نهاية هذا المف أن نورد بعضا من الروابط الإلكترونية التي من الممكن أن تحوي جوانب أخرى من معالم صاحب هذه اللوحة البديعة ، جزاه الله عنا وعن الإسلام كل خير ، وتقبله في الصالحين مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ..

رحم الله إمامنا الشهيد وجمعنا وإياه وجميع المخلصين لدين الله في مستقر رحمته...

والله أكبر ولله الحمد


القسم الثاني حسن البنا.. الرباني المجدد - الإمام حسن البنا، واضع نظريات العمل الإسلامي المعاصر - الإمام الشهيد حسن البنا ومنهجيته في الانفتاح - موقف الدعوة من أصحاب التحامل والاتهامات - موقف الدعوة من شعوب العالم الغربي أمثلة من التربية الحضارية عند الإمام البنا ... جهود الإمام البنا مع العمال .. - الإمام حسن البنا وجهود التضامن الاجتماعي وأعمال البر ... الإخوان وتطبيق الشريعة الوطن والوطنية في فكر الإمام البنا - الإمام البنا ومواجهة الاحتلال الإنجليزي لمصر الإخوان المسلمون ونصرة قضايا العالم العربي والإسلامي ... حسن البنا.. شهيد فلسطين

القسم الثالث دروس وعبر من حياة الإمام حسن البنا - الإصلاح والتغيير في فكر الإمام البنا الإخوان المسلمون رواد علم الاقتصاد الإسلامي البنا والحركات التحررية والأقباط والمرأة والشباب والفن نموذج مواجهة الإمام البنا للضغوط والأزمات

القسم الرابع البنا والأدب والفــن - الإمام الشهيد مع الشعر والشعراء - الإمام البنا ورؤية جديدة في المسرح والسينما - الإخوان المسلمون والمسرح الإسلامي ... حسن البنا.. والنقد -. حسن البنا والنقد الذاتي - هل كان يضيق بنقد الآخرين له؟

القسم الخامس الإمام حسن البنا ولأواء الطريق: نصبر على الاعتقالات ونثبت في المحاكمات ... من أخر ما تحدث به الإمام البنا في جموع الإخوان ... الإخوان المصريون الإمام البنا ... حصاد السنين

القسم السادس قالوا عن الإمام البنا ... ماذا قلن عن حسن البنا؟ ... شهادات غير مصرية المصادر مواقع إلكترونية


القسم الأول : البنا في القلب

المرشد الأول ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين (1325-1370هـ = 1906 -1949 م)

نبذة عن حياة الإمام الشهيد

ولد الإمام حسن البنا في14 أكتوبر 1906 في مدينة المحمودية بمحافظة البحيرة المصرية.

كان أبوه أحمد عبد الرحمن البنا من العلماء العاملين، اشتغل بعلوم السنة، وله عدة مصنفات في الحديث الشريف أهمها "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد".

تبلورت شعلة الإيمان المقدسة في نفسه على مر الأيام، فاستطاع أن يترجمها إلى عباراته القوية فيما بعد، حيث يقول "والفرق بيننا، وبين قومنا أن الإيمان عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم، لا يريدون أن ينزلوا على حكمه، ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب، مشتعل، قوي، يقظ في نفوس الإخوان المسلمين "

وترجمت حياته منذ سنواتها الأولي هذا الإيمان الحي اليقظ، ففي مدرسة الرشاد الإعدادية كان متميزًا بين زملائه، مرشحًا لمناصب القيادة بينهم، حتى أنه عندما تألفت "جمعية الأخلاق الأدبية" وقع اختيار زملائه عليه ليكون رئيسًا لمجلس إدارة هذه الجمعية.

غير أن تلك الجمعية المدرسية لم ترض فضول هذا الناشئ، وزملائه المتحمسين، فألفوا جمعية أخرى خارج نطاق مدرستهم، سموها "جمعية منع المحرمات" وكان نشاطها مستمدًا من اسمها، عاملاً على تحقيقه بكل الوسائل، وطريقتهم في ذلك هي إرسال الخطابات لكل من تصل إلى الجمعية أخبارهم بأنهم يرتكبون الآثام، أو لا يحسنون أداء العبادات.

ثم تطورت الفكرة في رأسه بعد أن التحق بمدرسة المعلمين بدمنهور، فألف "الجمعية الحصافية الخيرية" التي زاولت عملها في حقلين مهمين هما :

الأول : نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات والمحرمات الفاشية.

الثاني : مقاومة الإرساليات التبشيرية التي اتخذت من مصر موطنًا، تبشر بالمسيحية في ظل التطبيب، وتعليم التطريز، وإيواء الطلبة.

التحق الإمام حسن البنا بعد إتمام دراسته الابتدائية بدار المعلمين عام 1920 حيث أتم حفظ القرآن الكريم قبل إتمام الرابعة عشرة من عمره... واشترك في جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وكانت الجمعية الوحيدة الموجودة بالقاهرة في ذلك الوقت، وكان يواظب على سماع محاضراتها، كما كان يتتبع المواعظ الدينية التي كان يلقيها في المساجد حينذاك نخبة من العلماء العاملين.

بيد أن ما رآه في القاهرة من مظاهر التحلل والفساد والبعد عن الأخلاق الإسلامية، جعلته يفكر في أن المساجد وحدها لا تكفي في إيصال التعاليم الإسلامية إلى الناس، وهنا تبدو عقلية البنا المبتكرة ؛ لأن الجمهور الذي لا يرتاد المساجد، أشد حاجة إلى الموعظة، وقد اقترح على جماعة من زملائه بدار العلوم وبعض أصدقائه الأزهريين أن يخرجوا للدعوة في المقاهي والمجتمعات العامة !! فعجبوا لفكرته، واستنكروها أول الأمر !! وانتهى الجدل بينهم أن تكون التجربة هي الحد الفاصل بين المضي فيها أو الإقلاع، وأظهرت التجربة نجاحًا عظيمًا لفكرته، شجعهم على الاستمرار فيها، وتخصصت منه شعبة تتولى نشر الدعوة الإسلامية في الريف والمدن أثناء الإجازة الصيفية، وأفادوا من هذه التجربة كسب الثقة النفسية، وحسن الأحدوثة في الأوساط الشعبية.

ثم اجتاحت مصر موجة من الإلحاد والإباحية، على إثر الانقلاب الكمالي في تركيا - إن صح هذا التعبير - وإلغاء الخلافة الإسلامية.

وكان لهذه الموجة الإلحادية رد فعل قوي، في الأوساط الإسلامية عامة، وفي نفس الأستاذ البنا خاصة، فكان يتحدث عن شعوره لكل المتصلين به من الزملاء، ولكل من يعرفه ويمكنه الاتصال بهم من الشيوخ والعلماء.

وكان ممن اتصل بهم المرحوم "السيد محمد رشيد رضا" والمرحومان "الشيخ الدجوي" والأستاذ الأكبر "محمد الخضر حسين " شيخ الأزهر السابق، والأستاذ الكبير "محب الدين الخطيب ".

وقد تحدث معهم في ضرورة مواجهة الموقف بعمل إيجابي، فأثمرت هذه الجهود صدور مجلة "الفتح". الإسماعيلية وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين (1927 -1933 ):

تخرج من دار العلوم عام 1927 م، وكان ترتيبه الأول، وعيّن مدرسا ابتدائيا بمدينة الإسماعيلية علي ضفاف قناة السويس ، فانتقل إليها وبدأ نهجا مدروسا في الدعوة، بعد ما أثر في نفسه ما رآه من الاستعمار العسكري المتمثل في المعسكرات الإنجليزية بالقناة، والاستعمار الاقتصادي المتمثل في شركة قناة السويس ، ثم ساءه أن يعرف أن المسلمين في البلد منقسمين بسب خلافات دينية، نتيجة تعصب كل فريق لرأي خاص، فاعتزل جمهور المسجد، وعاد إلى جمهور المقاهي مرة أخري، واختار لذلك ثلاث مقاهٍ كبيرة، ورتب لكل منها درسًا في الأسبوع، وأخذ يزاول التدريس ويتحرى الموضوع الذي يتحدث فيه ؛ حتى لا يتعرض للنواحي الخلافية، ويضرب لهم مثلاً لتسامح علماء المسلمين في الصدر الأول رغم اختلافهم في الآراء. وقد عمل الوعظ عمله في نفوس المتلقين، فأخذوا يفيقون ويفكرون، ثم تدرجوا من ذلك إلى سؤاله عما يجب عليهم تجاه دينهم وأمتهم، فأجابهم إجابات غير قاطعة جذبًا لانتباههم، واسترعاء لقلوبهم، وانتظارًا للفرصة السانحة، وتهيئة للنفوس الجامحة.

وفي ذي القعدة سنة 1347هـ، مارس سنة 1928 م زار الأستاذ البنا أولئك الإخوة الستة : حافظ عبد الحميد، وأحمد الحصري، وفؤاد إبراهيم، وعبد الرحمن حسب الله، وإسماعيل عز، وزكي المغرب ي، وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كان يلقيها، وجلسوا يتحدثون إليه، وفي صوتهم قوة، وفي عيونهم بريق، وعلى وجوههم سنا الإيمان والعزم، وقالوا : ما الطريق العملية إلى عزة الإسلام، وخير المسلمين؟! ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزة في عروقنا، وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفسنا، وهذه الدراهم القليلة، من قوت أبنائنا، وكل الذي نريده أن نقول لك ما نملك ؛ لنبرأ من التبعة بين يدي الله، وتكون أنت المسئول بين يديه عنا، وعما يجب أن نعمل.

كان لهذا القول المُخلص أثره البالغ في نفس الأستاذ البنا، ولم يستطع أن يتنصل من هذه التبعة، وقال في تأثر عميق : "شكر الله لكم، وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح، يرضي الله، وينفع الناس، وعلينا العمل، وعلى الله النجاح، فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جندًا، وفيها حياة الوطن، عزة الأمة".

وكانت بيعة، وكان قسمًا أن نحيا إخوانًا نعمل للإسلام ، ونجاهد في سبيله.

وقال قائلهم: بم نسمى أنفسنا؟ وهل نكون جمعية، أو ناديًا، أو طريقة، أو نقابة ؛ حتى نأخذ الشكل الرسمي؟

فرد الأستاذ البنا قائلاً: لا هذا، ولا ذاك دعونا من الشكليات، ومن الرسميات، وليكن أول اجتماعنا وأساسه : الفكرة والمعنويات والعمليات. ونحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن "الإخوان المسلمون ".

وجاءت بغتة وذهبت مثلاً... وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة حول هذه الفكرة، على هذه الصورة، وبهذه التسمية.

وهكذا غرست البذرة الأولى لفكرة الإخوان المسلمين في أرض طيبة من هذه القلوب الستة، آمنوا بها، عاهدوا الله على الجهاد في سبيله، فكانت تلك الثمار المباركة لوفائهم وإخلاصهم، من نجاح للدعوة، ومرشدها، مصداقًا لقول الله تعالى : (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(الفتح: من الآية10)

ولبث الأستاذ البنا يعمل لدعوته صامتًا، فكسبت دعوته - كل يوم - مزيدًا من الأنصار والجنود، بفضل إخلاصه العميق، وفهمه الدقيق للفكرة، وأهدافها.

ولاقت دعوته نجاحًا، فأغراه على مواصلة الكفاح، ودفعه الإيمان بالفكرة والحماسة لها إلى الفناء في سبيل نشرها، وإلى توسيع نطاق البيئة التي يعمل فيها، فلم يترك قرية، ولا بلدة، ولا كَفرًا إلا زاره، واجتمع بالناس فيها، في مساجدهم، وفي بيوتهم ؟! وكانت أسفاره في عطلته الأسبوعية، وفي عطلته السنوية في الصيف، ففي الأولى يزور البلاد القريبة، وفي الثانية يزور البلاد البعيدة.

وهكذا استمر الأستاذ البنا في نشر دعوته، في كل مكان يصل إليه في أسفاره البعيدة، أو القريبة. وقد أثمرت أسفاره بعد سنتين شعبة في كل من "أبوصوير" و "بورسعيد" و "البلاح"، وبعد ثلاث سنوات شعبة أخرى في السويس ، وبعد أربع سنوات نحوًا من عشرة فروع، معهداً بالإسماعيلية ؛ لتربية البنات ، وإعدادهم ليكُنَّ أخوات مسلمات.

القاهرة وبناء الدعوة (1933 -1949 )

وبعد نحو خمس سنوات من تأسيس الدعوة بالإسماعيلية ، نُقل الأستاذ البنا سنة 1933 إلى القاهرة ، ودخلت الدعوة بنقله مرحلة جديدة، وإن ظلت سائرة على النهج السابق من كتمان وإسرار، ونزول إلى المساجد ووعظ بها، وتجميع الأنصار وتأسيس للفروع، بحذر وصمت، وذكر الأستاذ البنا في إحدى مقالاته المنشورة سنة [[1934 ]]ـ أي بعد مضي نحو عام واحد من إقامته بالقاهرة ـ أن فكرة الإخوان قد انتشرت فيما يزيد على خمسين بلدًا من بلدان القطر المصري، وقامت في كل بلد من هذه البلدان تقريبًا بمشروع نافع، أو بمؤسسة مفيدة، ففي الإسماعيلية أسست مسجد الإخوان ، وناديهم، ومعهد حراء لتعليم البنين، ومدرسة أمهات المؤمنين لتعليم البنات ، وفي شبراخيت أسست مسجدًا، وناديًا ومعهداً للبنين، وداراً للصناعة يتعلم فيها طلبة المعهد الذين لا يستطيعون إتمام التعليم، وفي المحمودية - البحيرة - قامت بمثل ذلك فأنشأت منسجًا للنسيج والسجاد، إلى جوار معهد تحفيظ القرآن الكريم، وفي المنزلة - دقهلية- أقامت معهدًا لتحفيظ القرآن، وقُل مثل ذلك أو بعضه في كل شعبة من شعب الإخوان المنتشرة من إدفو إلى الأسكندرية .

وكان منهاج الأستاذ البنا أن يزور المركز العام في الصباح الباكر، ويترك فيه مذكرات فيها توجيهات وأعمال تتطلب إنجازًا، ثم يقصد مدرسته، فإن كان مسافراً، يتوجه من المدرسة إلى المحطة، وإن لم يكن يعرج على المركز العام ثانية، يقابل ويوجه ويصرف ما يجد من عمل، وفي المساء يزور المركز مرة ثانية مقابلاً الوفد والزائرين، أو مجتمعًا في لجان أو محاضرًا، ولم يمنعه من ذلك متابعة أسفاره إلى الريف، في أثناء العطلة الدراسية.

أصدر الإمام حسن البنا مجلة "الإخوان المسلمون " الأسبوعية، ثم "مجلة النذير" وعدد من الرسائل التي جمعت في كتاب "مجموعة الرسائل"، ولم يفرغ رحمة الله للكتابة والتإليف بل كان جل اهتمامه منصبا علي التربية ونشر الدعوة، وعلي تكوين جماعة ما تزال رائدة البعث الإسلامي في العالم كله.

وفي هذه المدة اقتحم الإخوان الميدان السياسي، فبدأ الأستاذ بإلقائه أحاديث دينية واجتماعية بالإذاعة والأندية، وفي إرسال رسائل إلى رؤساء الوزارات المصرية المتعاقبة، من عهد محمد محمود حتى قيام الحرب العظمى الثانية، وكان محور الرسائل : الدعوة إلى الإصلاح الداخلي على أساس النظام الإسلامي، غير أن الإخوان لم يسترعوا نظر الحكومات، لأن نشاطهم السياسي كان مغلفًا بالطابع الديني فلم يبال به الرسميون.

وفي سنة 1355هـ - 1936م، أرسل الأستاذ البنا خطابًا إلى الملك السابق فاروق، والرئيس السابق مصطفى النحاس رئيس الحكومة حينذاك - وإلى حضرات ملوك ورؤساء الدول العربية، وحكام بلدان العالم الإسلامي المختلفة، وكثير من زعمائها الدينيين والسياسيين، رسالة عنوانها (نحو النور) يدعوهم فيها إلى طريق الإسلام، وأصوله، وقواعده وحضارته، ومدنيته، نابذين طريق الغرب ومظاهر حياته ونظمها، ثم يبين فيه خصائص كل من الطريقين، ويوضح بأن الإسلام كفيل بإمداد الناهضة بما تحتاج إليه في الجندية، الصحة، والنظام، والاقتصاد، وينتهي بالدعوة إلى أن يكونوا أول من يتقدم باسم رسول الله r بقارورة الدواء، ومن طب القرآن واستنقاذ العالم المريض، ثم يضع منهاجًا للإصلاح الشامل في مختلف مظاهر الحياة، محتويًا على خمسين بندًا، وكان أخطر ما في هذه الرسالة هو توجيه قوى الأمة السياسية وجهة واحدة وصفًا واحدًا.

ودخلت الدعوة من سنة 1936 حتى سنة 1945 طورًا جديدًا من حيث علاقتها بالسياسة وبداية الازدهار من حيث النشاط وتحقيق البرامج الواسعة، وتضاعف نشاط الإخوان ، وانضم إليهم عنصرًا جديدًا من شباب جامعتي القاهرة والأزهر ومختلف الطوائف العمالية والمهنية، من عمال وتجار وصناع، وأصحاب أعمال ومهندسين، وأطباء ومدرسين ومحامين، وأصبح بها ممثلون لسائر طوائف المجتمع المصري، وضربوا في النشاط الاقتصادي بسهم وافر، وأقبلوا على النشاط الرياضي والكشفي، وانتظمت أعمالهم في الفروع التي ملئت القطر، وأصبحوا قوة يحسب لها كل حساب، وتوالى على حكم مصر في هذه الفترة من رؤساء الوزارات المصرية : علي ماهر ، و حسن صبري ، و حسين سري ، و مصطفى النحاس ، و أحمد ماهر ، و النقراشي ، و إسماعيل صدقي ، والنقراشي ثانية، وفي وزارات الأولين علي ماهر ، وحسن صبري دأبوا على الموعظة والنصيحة في كتبهم وخطبهم الخاصة والمفتوحة، شأنهم مع جميع الحكومات السابقة، وفي عهد علي ماهر خاصة، أعلنوا تأييدهم لقراره تجنيب مصر ويلات الحرب فحسب، دون أن يقابلوه أو يتقدموا إليه بطلب معين.

وبدأت المحنة الأولى للإخوان على يد حسين سري ، بضغط من السفارة والقيادة الإنجليزية فصادرت حكومته مجلتي التعارف والشعاع الأسبوعيتين، ومجلة المنار الشهرية، ومنعت طبع أي رسالة من رسائلهم، أو إعادة طبعها، وأغلقت مطبعتهم وحرمت على الجرائد أن تذكر شيئًا عنهم، كما منعت اجتماعاتهم، ثم عمدت إلى تشريد رؤساء الجماعة، فنقلت الأستاذ البنا من القاهرة إلى قنا، ونقلت الوكيل إلى دمياط، ثم أعادتهما بضغط من الحملة البرلمانية، ولكنها عادت إلى ماهر أعنف من ذلك وأشد، فاعتقلت الأستاذ البنا مرة ثانية، كما اعتقلت السكرتير العام ثم أفرجت عنهما لاتقاء ما أحدثه هذا الإجراء من حرج في صدور الإخوان .

ثم جاءت وزارة النحاس، ورغب الأستاذ البنا أن يرشح نفسه نائبًا في البرلمان عن دائرة الإسماعيلية ، مهد الدعوة ليمثل الإخوان ، وينطق بلسانهم، ولكن النحاس رجاه أن يعدل عن الترشيح فعدل، وبدأ النحاس بمهادنتهم، فسمح لهم بالاجتماعات، وأعاد إليهم المجلة والمطبعة، ثم تكرر ضغط السفارة الإنجليزية مرة أخرى، فعادت المحنة في صورة أشد من الأولى إذ أغلق النحاس جميع الشعب ماعدا المركز العام، وضيق عليهم في اجتماعتهم ومطبوعاتهم، وسائر نواحي نشاطهم، وقابلوا شدة الحكومة الأناة والصبر، فعدلت الحكومة النحاسية عن شدتها، واستمر الموقف بينهما يتقلب، تارة تدع الحكومة لهم الحرية فيعملون، وطورًا تراهقهم بالتضيق فيصبرون، ولكنهم ظلوا على عادتهم في تقديم النصح كتابة ومشافهة، إلى أن أُقيلت الوزارة سنة 1944 .

وجاءت بعد وزارة النحاس أحمد ماهر ، فأخذتهم بالشدة، حالت دون نجاح من رشح نفسه للنيابة عنهم، بناء على قرار مؤتمر الإخوان العام سنة 1941 : بأن يرشح الأكفاء على أساس خدمة المنهج الإسلامي.

وحين أعلن أحمد ماهر الحرب على ألمانيا وإيطاليا، عارضه الإخوان ، وكتبوا إليه بالعدول عن ذلك، ثم اغتال العيسوي أحمد ماهر لهذا السبب، وتولى النقراشي الحكم وبدأ باعتقال الأستاذ المرشد العام ، والسكرتير العام، وبعض الإخوان ولعل السبب الرئيس في ذلك الاعتقال، أن العيسوي ذكر في معرض التحقيق معه، أنه يطلب أخذ رأي زعماء البلد في إعلان الحرب، وذكر اسم الأستاذ البنا في معرض أسماء الزعماء الذين يجب أخذ رأيهم، ولكن النيابة أفرجت عنهم بعد ذلك، وبادر الأستاذ البنا إلى زيارة النقراشي معزياً في ماهر، راجيًا أن يطلق له حرية العمل. بيد أن النقراشي لم يستجب إلى الرجاء، وفرض عليهم أثقل القيود في نشاطهم، واجتماعاتهم، ومراقبة دورهم، كان يسمح لهم بعقد اجتماعات عامة، أو مؤتمرات عامة، تحت ضغط الظروف، ولكن سرعان ما يعود إلى سياسة العنف والإرهاق.

وانتهت الحرب سنة 1945 ودخلت الجماعة بعد ذلك في دور المحنة الكبري، لأنها تزعمت قيادة الحركة الشعبية، وألهبت المشاعر الوطنية للمطالبة بحقوق البلاد التي وعد الإنجليز - أثناء الحرب - بتحقيقها، فور انتهاء الحرب وإعلان الهدنة، واجتمعت الجمعية العمومية للإخوان لتحقيقها في 8 سبتمبر سنة 1945، شوال سنة 1364، وأدخلت بعض تعديلات على النظام الأساسي حتى أضحى شاملاً لجميع غايتها ووسائلها بصورة واضحة، وأقاموا شركات اقتصادية متنوعة، درّت عليهم الأرباح، ومكنت لهم في أوساط العمال، وأصدروا جريدة يومية، صدر العدد الأول منها في 5 مايو 1946 الموافق 3 جمادى الثاني سنة 1365، وأضحى بذلك صوتهم مسموعًا في مصر والبلاد العربية وأنشأوا الكتائب، وأقاموا أماكن للتدريب على الأعمال العسكرية، وأوثقوا العهود بصورة بيعة لرئيس الشعبة فالمرشد العام شخصيًا وقرروا السمع والطاعة في المنشط والمكره، مقرونًا بالقسم، ووضعوا المرشد العام موضع الثقة التامة، وجعلوا له المنصب مدى حياته، ليس له أن يتخلى عنه، أو يُعفى منه، إلا بقرار من الهيئة التأسيسية.

وبلغ أعضاء الجماعة العاملين في مصر وحدها نصف مليون، والأعضاء المنتسبين والمؤازرين أضعاف هذا العدد، أما عدد شعبهم في مصر وحدها فبلغ ألفي شعبة، وفي السودان، حوالي خمسين شعبة، عدا شعبهم في معظم البلدان العربية، والبلاد الإسلامية، والأصدقاء في جميع البلاد وفي أوروبا وأمريكا، ولهذا لقيت الجماعة مقاومة في غاية العنف من قبل الحكومات التي وليت الحكم بعد الحرب الكبرى الثانية.

وزار الأستاذ البنا النقراشي ثانية، وأهاب به أنه يسرع بالعمل في سبيل الحقوق القومية، واستكمال استقلال وادي النيل ووحدته، وإلا فليدع الأمة إلى الجهاد ، ويتقدمها في سبيله، وقدم النقراشي مذكرة إلي الحكومة البريطانية وجاءهم الرد عليها، ولم يرض الإخوان عن هذه المساجلة القليلة، وقاموا بمظاهرة مع الطلاب أدت إلى معركة مع البوليس في حادثة كوبري عباس الشهيرة، فاستقالت الوزارة.

وانصرف الإخوان منذ إعلان الهدنة إلى إثارة الشعب، وإيقاظ وعيه بالمؤتمرات العامة تارة، وزيارة القرى والريف تارة أخرى، وبالرسائل والأحاديث والنشرات تارة ثالثة، وتولوا زمام المعارضة الداعية إلى الجهاد ، وتركزت جهودهم في هذه الناحية طمعًا في أن تنال البلاد استقلالها التام، وجاءت حكومة إسماعيل صدقي واشتدت المظاهرات!

ودعا البنا جميع الهيئات ؛ لتأليف لجنة قومية، توحد القوى، وتنظم الصفوف، ولكنه لم يجد مؤازرة من الأحزاب، وعندئذ رأى أن يجنح إلى النصح يقدمه إلى صدقي، على أساس قطع المفاوضات والالتجاء إلى الجهاد السافر .

واستمر نشاطهم السياسي في هذا النهج، وأخذوا يحاسبون الحكومة حسابًا عسيرًا، ويتهمونها بممالأة الأجانب على حساب الوطن، والتساهل بتأليف الشركات التي تلبس أثواباً مصرية مستعارة، وبعجزها عن علاج مشكلة العمال العاطلين، وبترددها في قطع المفاوضات، وإعلان الجهاد ، واشتدت حملة جريدتهم على المفاوضات، وعلى حكومة صدقي، وعلى الإنجليز بوجه خاص وشن عليهم صدقي حملة، فاعتقل عدداً منهم، وصادر جريدتهم، ثم قبض على الوكيل العام، وقابله الإخوان بحملة مثلها، ووقعت انفجارات في القاهرة والأسكندرية ، اتهمتهم الحكومة بها فحوصرت دورهم وفُتشت، قاد صدقي حملة واسعة النطاق من النقل والتشريد، تناولت أخلص الموظفين من الإخوان في شتى المصالح والوزارات.

واستقال صدقي، وتألفت وزارة النقراشي في 10 ديسمبر 1946 وفي يوم تأليفها نشر البنا مقالاً دعا فيه الحكومة الجديدة إلى اختصار الطريق، واحترام إرادة الأمة، وإنهاء المفاوضات، وسلوك سبيل الجهاد ، ثم تابع نشر مقالاته في الجريدة مسفهًا منهاج الحكومة، مشيرًا إلى أنها حاربت الإخوان ، وأغلقت مدارسهم، وسجنت أحرارهم ولاحقتهم بالتضييق والإرهاق.

وكانت هذه البداية حرب داخلية بين النقراشي والإخوان ، زادتها قضية فلسطين ، التي ساهم فيها الإخوان مساهمة فعالة، وكانت بالتالي محك قوتهم ونفوذهم من جهة، ومصدر عزة لهم في مصر والعالم العربى من جهة أخرى، واشترك الإخوان في المعركة تحت إشراف الجامعة العربية ، وكان لهم هذا الاشتراك المسلح فرصة للتمرُّن على القتال، كما كشف عن مدى استعدادهم الحربي ومدى نفوذهم، وخشيت حكومة النقراشي سلطتهم، فاغتنمت فرصة وقوع حوادث عنف في داخل القطر، واتهمتهم بأن لهم ضلعًا فيها، وأنهم ينوون إحداث انقلاب، فأصدرت أمرًا عسكريًا رقم 63 مؤرخًا في 8 ديسمبر 1948 "بحل جماعة الإخوان وشُعبها أينما وجدت، وبغلق الأماكن المخصصة لنشاطها، وبضبط جميع الأوراق والوثائق والمجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال وكافة الأشياء المملوكة للجمعية"، وتبع هذا الأمر صدور أوامر عسكرية أخرى، بتصفية شركاتهم، والعمل على استخلاص أموال الجمعية لتخصيصها في الوجوه العامة التي يقررها وزير الشئون الاجتماعية، وحاول البنا أن يسد هذه الثغرة، ويسوي الموقف، ولكنه لم يجد من النقراشي وحكومته أدنى استعداد، حتى قضى مقتل النقراشي في 2 ديسمبر 1948 على هذه المحاولات، إذ اتهم الإخوان بقتله مما زاد الموقف حرجًا بينهم وبين الحكومة.

وقد تنبأ الأستاذ البنا بحصول كل هذه المحن وطالما كان يتحدث عنها وكأنه يراها، ويبين أن هذه هي سبيل أصحاب الدعوات، ويضرب الأمثال بما حدث للمجاهدين والنبيين من قبل، وكأنه وثق منها حتى أصبحت عقيدة راسخة في رأسه، فسجلها للإخوان في إحدى رسائله يقول :(أحب أن أعرفكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها، ويدركون مراميها وأهدافها، ستلقى منهم خصومة شديدة، وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فلا زلتم مجهولين، ولا زلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تطلبه من كفاح وجهاد، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين من العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام، وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجوهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة، والأخلاق الضعيفة، والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجمع حول دعوتكم غبار الشبهات، وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، معتدين بأموالهم ونفوذهم وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين، ومثوبة العاملين المحسنين.

ولكأن الرجل الملهم كان ينظر بعين الغيب، فقد تحقق بعد الحل كل ما كتبه في هذه الرسالة التي كتبها للإخوان قبل نشوب الحرب العظمى الثانية وقبل أن تحل تلك المحنة بسنوات، وإن كان قد عكف على تكرار هذه المعاني قبل المحنة مباشرة، حتى يعد الإخوان لاستقبالها فلا يصدموا بحقيقتها المروعة، ووسائلها التي أعادت إلى الأذهان صور محاكم التفتيش الأسبانية.

وقد صدقت جميع نبوءاته حتى في رجال الدين أنفسهم، فقد تطوع منهم من ألقى حديثًا في الإذاعة يؤيد به ما ذهبت إليه الحكومة من نفي للإخوان ، مستدلاً بالآية الكريمة (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)(المائدة: من الآية33) وعُلقت هذه الآية الكريمة في معتقل الطور وسائر المعتقلات ليقرأها الإخوان بأمر إدارة تلك المعتقلات، وواضح أن في ذلك ما فيه من معاني التحدي، والاستفزاز للشعور، والإيلام النفسي للإخوان باتهامهم بأنهم يحاربون الله ورسوله، مع أن هتافهم، الله غايتنا، والرسول زعيمنا. وقد فرح أعداء الإسلام داخل مصر، وخارجها عندما علموا بنبأ قتله.

وقد حرص الإمام حسن البنا علي ألا تكون حركته إقليمية في حدود القطر المصري، بل كانت عالمية بعالمية الدعوة الإسلامية، لذلك وجدناها تمتد في الأربعينيات لتشمل العالم العربي كله، ولتنطلق بعد ذلك في أقطار العالم الإسلامي مركزة علي الدعوة في كل مكان. وكان الإمام حسن البنا رحمه الله يرسل المبعوثين إلي أقطار العالم يتفقدون أحوال المسلمين وينقلون إلي القاهرة صورة عن واقع العالم الإسلامي.

وكان المركز العام بالقاهرة ملتقي أحرار المسلمين في وقت كانت فيه معظم أقطار العالم الإسلامي رازحة تحت الاحتلال الأجنبي، فمن رجال حركات التحرير في شمال إفريقيا، إلي أحرار إليمن، إلي زعماء الهند وباكستان وإندونيسيا وأفغانستان، إلي رجالات السودان والصومال وسوريا والعراق وفلسطين. كان الجهاد في سبيل الله عنصرا أساسيا ترتكز عليه دعوة الإخوان المسلمين . وكان للقضية الفلسطينية عناية خاصة لدي الإمام البنا، وكانت له نظرة ثاقبة في موضوع الخطر إليهودي، وكان الإخوان المسلمون منذ بداية الثورة الفلسطينية عام 1936 هم دعاة التحذير والتحرير في العالم العربي. ولما دخلت الجيوش العربية فلسطين عام 1948 ، خاض الإخوان المسلمون الحرب في كتائب متطوعة عبر الجبهة الغربية من مصر، والشرقية من سوريا وأبلوا فيها أحسن االبلاء.

بعد ذلك مباشرة صدرت الأوامر من الدول الغربية الكبري للحكومة المصرية بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال رجالها العائدين من القتال، وذلك بعد النكبة وتوقيع الهدنة.

أعلن النقراشي (رئيس وزراء مصر) في مساء الأربعاء : 8 / 12 / 1948 م قراره بحل جماعة الإخوان المسلمين ، ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها.

وفى اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات، ولما همّ الأستاذ حسن البنا أن يركب سيارة وُضع فيها بعض المعتقلين اعترضه رجال الشرطة قائلين : لدينا أمر بعدم القبض على الشيخ البنا. ولكن البنا أصرّ على الركوب في سيارة المعتقلين، فعادت السلطات وأطلقت سراحه، فصرح عندئذ بقوله : أنتم تقتلونني بعدم القبض علىّ. وقال أمام مجلس الدولة : إن قرار حلّ الإخوان صدر عن اجتماع عُقد في ثكنات الاستعمار. وأخذ يتردد على جمعيّة الشبان المسلمين ، وحدثَّهم مرّة قائلاً لهم : لقد جاءني سيدنا عمر في الرؤيا يُنبَّئني بأعلى صوته : سَتُقْتلُ يا حسن. ثم قُمتُ وتهجدت إلى الفجر.

ثم صادَرت الحكومةُ سيارة الإمام الخاصّة، واعتقلت سائقه، وسحبت سلاحه المُرخص به، وقبضت على شقيقيه اللذين كانا يرافقانه في تحركاته. وقد كتب إلى المسئولين يطلب إعادة سلاحه إليه، ويُطالب بحارس مسلح يدفع هو راتبه، وإذا لم يستجيبوا فإنه يُحَمّلهم مسؤولية أيّ عدوان عليه لكن الأمور كانت مرتّبة فتتابعت الحوادث سريعًا، حيث كان الأميرالاي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية يُدبر أمر اغتيال حسن البنا، واستخدم في ذلك عصابة من الأمن المصريّ "ووضع تحت تصرفهم سيارته الرسمية رقم 9979. وتفصيل ذلك في مفكرة النيابة العمومية المصرية سنة 1952 م.

محاولات اغتيال الإمام قبل 1949

لم يُحِطْ الغموض قضيةً من قضايا الاغتيال السياسي بمثل ما أحيطت قضية اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ، وأول مرشد لها.

لقد اغتيل الإمام حسن البنا في 12من فبراير سنة 1949 م= الموافق 14من ربيع الثاني 1368 هجريًّا، يوم عيد ميلاد الملك السابق فاروق أحمد فؤاد، فكان اغتياله هديةَ عيد ميلاد ملكٍ جلَب الدماء لشعبه.. لقد حاول المجرمون طمسَ الجريمة وإخفاءها حتى لا تَصِلَ يدُ العدالة إليهم، ويضيعَ الدمُ الزكي، والروح الطاهرة هدرًا.

انتهى التحقيق في القضية إلى حفظها ثلاث مرات لعدم معرفة الجناة، وجاء حسين سري باشا، وفتَح التحقيقَ من جديد، والذي انتهى أيضًا إلى الحفظ، وجاءت أيضًا وزارة النحَّاس باشا ووعَدت الإخوان بالقبض على مَن قتل مرشدَهم، ولكنها لم تفِ بوعدها وانتهى أيضًا التحقيق إلى الحفظ، وقامت حركة الجيش في 23 يوليو 1952 وأعيد التحقيقُ للمرة الرابعة لفضح مجازر العهود السابقة وقامت الشرطة بجمع المعلومات عن القضية وأحيل التحقيق إلى أمن الدولة وقُدِّم عددٌ من المتهمين وصدر الحكم بإدانة أربعة في أغسطس 1954 .

لقد تحالفت القوى العالمية مع الملك، والحكومة وتآمروا جميعًا على قتل الإمام الشهيد حسن البنا وطمْسِ معالم الجريمة حتى يفلت الجناة ولا يفضحوهم، وبقي الجناة مطلَقي الصراح حتى أُعيد التحقيق للمرة الرابعة بعد انقلاب 23 يوليو ، وقامت الشرطة العسكرية بجمع المعلومات، وألقي القبض على من نفَّذوا الجريمة وقُدموا للمحاكمة.

محاولات وخطط الاغتيال

هناك عدة محاولات تمَّت لاغتيال الإمام الشهيد حسن البنا قبل المحاولة الأخيرة، والتي نجح فيها الشر،ّ وأعوانه من تحقيق الهدف، حدثت هذه المحاولات قبل قتل النقراشي ، وكانت المحاولة الأولى من خلال خنجر مسموم أصاب قلب القضية المصرية في الصميم، لذلك فكَّر المرشد العام في تنظيم مظاهرة سلمية لشدِّ أزر النقراشي في موقفه أمام مجلس الأمن، وطلب من الجهات المختصة بوزارة الداخلية أن تسمح له بتسيير المظاهرة على أن يكون هو المسئول عما ينجم عنها من أضرار، وبعد السير فوجئ الإخوان بتدخل بوليس السواري ينهال على الإخوان بالضرب.

ركب المرشد سيارة ليذهب إلى الجهات المسئولة في وزارة الداخلية ليقدم احتجاجًا على ما يحدث، وفي الطريق فوجئ بقوة البوليس في العتبة تتصدَّى للسيارة وتأمر المرشد بالنزول، وما كاد ينزل حتى انهال الرصاص على موكبه وذهب الإخوة إلى قسم الموسكي ليبلغوا عن الحادث حتى وجدوا ضابطًا يصوِّب مسدسًا نحوهم.

المؤامرة الأخرى حدثت في مبنى الإخوان في شارع محمد علي؛ حيث تحدَّد يومٌ لسفر الإخوان في جبهة للقتال في فلسطين ، وألقى المرشد فيها كلمةَ وداع بمقر الشركة العربية للمناجم، والمحاجر، وشاء الله أن يتأخر المرشد وحدث انفجارٌ بإحدى الغرف التي سوف يتحدث فيها المرشد، وبعد حادث المظاهرة أراد ضابطٌ من البوليس أن يتحدث إلى المرشد، ولما انفرد به أخرج مسدسًا وضعه أمامه على المنضدة، وقال: “إليك هذا المسدس هدية مني، فقد كنت مكلَّفًا بالقضاء عليك وتبعتك إلى كثير من الأماكن التي كنت تتردد عليها لإفرغ الرصاص في جسدك؛ لكن مبادئك التي تدعو إليها قد أثَّرت في نفسي وجعلتني أتنحَّى عن العمل الإجرامي.

المحاولة التالية وهي آخر المحاولات الفاشلة للقضاء على الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله دبَّرها رجل معروف بصِلاَته بالقَصْر، استدعى الإمام ليتشاور معه في أمورٍ وصفَها بأنها مهمة وأتى الخادم بفنجان من القهوة، ولكن الإمام شعر بهاتف داخلي برفض المشروب، فاعتذر بحجه أنه صائم.

المحاولة الخامسة والأخيرة والتي نجحت في اغتيال مؤسس جماعة الإخوان ؛ حيث بدأ الأميرالاي محمود عبد المجيد مدير المباحث الجنائية في تنفيذ الاغتيال بتجهيز عصبة من الرجال الذين يثق فيهم المرشد ممن عملوا معه فسعى إلى ندب الضابطَين حسين كامل وعبده أرمانيوس للعمل معه بالوزارة، واستقدم الأمباشي أحمد حسين جاد بإشارة تضمنت أمرًا صادرًا من وكيل الداخلية عبد الرحمن عمارة لمديرية جرجا بنقله نقلاً مؤقتًا للوزارة، ثم أخذ آخر عن طريق اتصال شخصي تليفونيًّا بجرجا، ثم ندب الجاويش محمد سعيد إسماعيل والأمباشي محمد حسين محمدين للعمل بالوزارة وتم النقل.

وبدأت الحكومة تنفيذ الجريمة من خلال حملة اعتقالات واسعة قبضت فيها على الإخوان ، فتم اعتقال أعضاء مكتب الإرشاد ومعظم أنصار الإمام البنا، واعتقال عبد الباسط البنا قبل استشهاد الإمام بشهر كامل، وضاق الإمام حتى طلب من الحكومة اعتقالَه مع إخوانه فرفضت الحكومة وتركته وحده ليلقى مصيره. كان الإمام حسن البنا يحمل ترخيصًا بحمل مسدس، فسحبْتُه منه الحكومة وحَرَمتْه من وسيلة الدفاع عن نفسه، ظل الإمام يحمل هذا المسدس حتى يوم 13من يناير 1949 أي قبل شهر من الحادث، كما اعتاد المرشد استخدام سيارة خاصة بالإخوان في الوقت الذي صدر فيه قرارٌ بحلِّ الجماعة وتجميد أموالها، كما أن بمنزل الإمام الشهيد أحد الخطوط التليفونية بالمركز العام لجماعة الإخوان بالحلمية الجديدة، فلما قررت الاغتيال منعت اتصاله بالخارج هو وأهل منزله، ولم تكتف الحكومة بذلك بل وضعتْه تحت المراقبة من خلال البوليس السري.

وكان الإمام الشهيد يتألم من هذا الجوِّ في آخر أيامه، فأرسل إلى محافظ القاهرة يستأذنه في السفر وكان جوابه إهمال طلب الإمام وعدم الرد عليه لا سلبًا ولا إيجابًا!!

ثلاث خطط بديلة

كانت هناك ثلاث خطط لاغتيال المرشد العام للإخوان المسلمين بجانب التي نُفذت:

الخطة الأولى: وهي أن يحفروا له حفرةً في الهرم في طريق الفيوم ثم يستدعوه بالليل؛ على اعتبار أن النيابة أمرت باعتقاله ويكتشفوا الجريمة، فرفض اللواء أحمد طلعت حرب، وكيل حكمدار القاهرة وقتئذ هذه الخطة.

أما الخطه الثانية: فهي أن يقف أحمد حسين (المتهم الأول) أمام منزل الإمام فرآه خفيره الخصوصي فأخذه إلى قسم الدرب الأحمر فأطلع أحمد حسين المأمور على بطاقته فأخلى سبيله بعد أن أفهموا الخفير أنه “تاجر مواشي”.

أما الخطه الثالثة: فكانت يوم خروج السفير مع مصطفى مرعى وكان أحمد حسين سيعتدي عليه وكان الأميرالاي في شارع الملكة نازلي أمام شركة كايرو موتور فأمر حسين أحمد كامل بالامتناع عن الضرب وأراد الجناة أن يكون يوم ميلاد الملك هو موعد اغتيال الإمام حسن البنا ليكون هدية عيد ميلاد الملك الطاغية.

تنفيذ الجريمة:

أُحكمت الخطة وسُدَّت كل المنافذ أمام الشهيد حسن البنا وهُيِّئ مسرح الجريمة وأصبح الشهيد يقف وحيدًا، فأنصاره وإخوانه في السجن وسحبوا منه المسدس المرخَّص، وقطعوا عنه الاتصال التليفوني في منزله، وصادروا عربة صهره، وآخر ما فعلوه قبضوا على أخيه اليوزباشي بالبوليس عبد الباسط البنا الذي كان يلازمه كحارس.

أحسَّ البنا بالجوِّ المريب الذي يحيط به وشبح الموت يحدق أمام عينيه، ولكنَّ الحكومة المنفِّذة لهذه الجريمة أبقَت على ولع المفاوضات بينها وبينه، وقام مصطفى مرعى إمعانًا في إيهام الإمام حسن البنا وإبقاء الأمل بين الإخوان والحكومة، بل أكثر من ذلك وافقت الحكومة على زيارة حسن البنا لإخوانه المعتَقلين وحدَّدت له موعدًا بعد اغتياله بأيام.

تقرير الطبيب الشرعي:

أثبت الطبيب الشرعي أنه شاهد بجثة المرحوم حسن البنا سبعة جروح نتيجة سبع قذائف نارية وبتشريح الجثة وُجد نزيف بعضلات الصدر في الجهة اليمني ونزيف خفيف بتجويف الصدر ونزيف بالكتف الأيمن وتمزق بأوردة الإبط ونزيف بعضلات الفخذ الأيسر وكسر بعضدي الساعد الأيمن ونزيف بالأنسجة، ولُخِّص سبب الوفاة في أنه نتيجة النزيف الناشئ عن تمزق أوعية الإبط وإصابته بأربعة أعيرة نارية أطلقت عليه من حوالي مسافة نصف متر. ويقول دكتور يوسف رشاد إن إصابة الإمام حسن البنا لم تكن جسيمةً، وكان يمكن إنقاذ حياته إذا خُيِّطت جراح الإبط ولكنَّ ذلك لم يحدث، فكثُر النزيف مما أدى إلى الوفاة.

منعت الحكومة الاحتفال بتشييع جنازة الإمام حسن البنا ومنع اشتراك أحد فيها فلم يشيِّعْها إلا أبوه وأخواته وخرجوا بنعشه في صمت في الصباح المبكر، وحرَّمت الحكومة العزاء فيه فلم يتقدم أحد لعزاء فيه إلا مكرم عبيد ، القطب القبطي الوطني الكبير.

ظلت الوفاة ضد مجهول طول بقاء الملك فاروق في الحكم وبعد ثورة يوليو تم فتح التحقيق من جديد وفتحت الشرطة العسكرية الملف، وألقي القبض على الجناة، وأَدخلوهم السجن الحربي، واعترف مَن اعترف، وأنكر مَن أنكر، وصدر الحكم على الجناة، وحُكم بمعاقبة أحمد حسين جاد بالأشغال الشاقَّة المؤبَّدة وكل من الباش جاويش محمد محفوظ سائق السيارة، والأميرالاي عبد المجيد بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشرة سنة ومعاقبة محمد الجزار بالحبس مع الشغل لمدة سنة وبراءة الآخرين.

صدر الحكم في 2من أغسطس 1954 م، أي بعد حادث الاغتيال بخمس سنوات، إلا أن رئيس الجمهورية الأسبق جمال عبد الناصر أفرج عن الجناة نكايةً في جماعة الإخوان المسلمين حينما اصطدم بهم؛ ليظل دم الشهيد حسن البنا لعنةً تصيب كلَّ من شارك في اغتياله إلى يوم الدين.

تفسير:

لم تكن الإصابة خطرة، بل بقي الإمام البنا بعدها متماسك القوى ؛ كامل الوعي، وقد أبلغ كل من شهدوا الحادث رقم السيارة، ثم نقل إلى مستشفى قصر العيني فخلع ملابسه بنفسه. وقد شهد بذلك محمد الليثي الذي كان في غرفة العمليات حين وصول حسن البنا، كما شهد أن الطبيب أجاب البكباشي محمد وصفي، أحد زبانية فاروق، حين سأله عن المصاب : إن إصابته ليست خطرة.

فهذا كله يرجح بأن الإمام البنا لم يُقتَل برصاص المغتالين، بل بأحد أمرين:

الأول: أنه تُرك ينزف حتى أُجهز عليه، ومُنع الطبيب من إسعافه.

الثاني: أن محمد وصفي ارتكب جريمة القتل داخل غرفة العمليات. فقد أثبتت أقوال الشهود في التحقيقات أن محمد وصفي فرض نفسه في غرفة العمليات بوصفه ممثلاً لوكيل الحاكمدار أحمد طلعت، وأخرج كل من كان في الغرفة، ولم يبق بجانبه إلا الطبيب المغلوب على أمره. وقد ورد على لسان الأمين الخاص للقصر الملكي: إن الملك أرسل محمد وصفي للإجهاز على حسن البنا إن كان لا يزالُ حيَّا!

لفظ البنا - رحمه الله - أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف ليل يوم 14 ربيع الثاني 1368 هجرية، 12 فبراير 1949 ميلادية، أي بعد أربع ساعات ونصف من بدء محاولة الاغتيال، ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلا بعد ساعتين أخريين.

وأرادت الحكومة أن تظل الجثة في المستشفى حتى تخرج إلى الدفن مباشرة، ولكن ثورة والد الشهيد جعلتها تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلى البيت، مشترطة أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحاً، وألا يقام عزاء!.

واعتقلت السلطة كل رجل حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن فخرجت الجنازة تحملها النساء، إذ لم يكن هناك رجل غير والده الذي رفض أن يحملها، وقال لرجال الجيش والشرطة : أنتم قتلتموه فاحملوا حثته على أعين الناس!

ومن الغرائب، والغرائب كثيرة أن يكون حماة الأمن هم أنفسهم قطاع الطرق، وجناة، وقتلة...


استشهاد الإمام البنا .. يوم تيتمت فيه مصر

إنه مساء السبت 12 من فبراير سنة 1949 في لحظات منه أطلقت اليد الكالحة السوداء رصاصاتِ الغدر لتخترق الجسد النحيل، وتدفق الدم من القلب الطاهر الذي كان ينبض بذكر الله وروح الإيمان بالله!! اللون لون دم، والريح ريح مسك، ولم تسقط نقطة واحدة من هذا الدم علي الأرض ، بل استقبلتها وتشربتها ملايين الأوردة والشرايين التي امتدت في جسوم تلاميذه ومريديه، فعاشوا تنبض قلوبهم بدمه، ومضوا تحت راية ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾ (الفاتحة) يمخرون بها عباب الآلام والمحن بصبر أيوبي لا ينفد، وعزم بدري لا يهون، أما الإمام الشهيد.. فرفعته مشيئة الله إلى الروح والريحان وجنة النعيم.

ومن كرامات هذه الشهادة أنها كانت السبب القوي الذي وجَّه سيد قطب نفسيًّا وفكريًّا إلى الإخوان المسلمين ، وذلك أنه كان آنذاك في الولايات المتحدة مبعوثًا من وزارة المعارف المصرية، ورأى “سيد” مظاهر الفرح والابتهاج في المحافل، وعلى صفحات الصحف لمقتل حسن البنا عدو الغرب كما وصفوه، واقتنع بفكر الجماعة، وانضم إليها بعد عودته من أمريكا ليكون علمًا من أكبر أعلامها، ويقدِّم روحه فداءً لعقيدته بعد أن ترك وراءه عشرات من الكتب التي انتصرت للإسلام والفكر الإنساني الحصيف.

كان لا بد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ وحوَّل مجرى الطريق شهيدًا كما مات عمر وعلي والحسين، كان لا بد أن يموت باكرًا، فقد كان غريبًا عن طبيعة المجتمع، يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها، أو لم يأت وقتها بعد.

منظومات الكذب والافتراء

واستطاع الإمام البنا علي مدى عشرين عامًا أن يصنع - بفضل الله وكرمه وتوفيقه- كبرى الجماعات الإسلامية في القرن العشرين، وترجم الشعارات التي نادى بها أعمالاً وسلوكياتٍ وأخلاقياتٍ، وعاش كالجبل الأشم الشامخ الذي تحطمت على صخوره كل الأكاذيب، والادعاءات والأحقاد والمؤامرات، قال المفترون: لقد انحرف بالدين إلي السياسة، وقالوا كوَّن جهازًا سريًّا هدفه قتل الأبرياء والاستيلاء على الحكم، وقالوا: متعصب وديكتاتور، وقالوا: بدأ دعوته في الإسماعيلية بإيعازٍ من الإنجليز، وقالوا وقالوا، وقال التاريخ والحق ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا (5)﴾ (الكهف).

ولعل الطريف المضحك في منظومة الافتراءات أن يخوض هذا المخاض - بكتب ومؤلفات- رجال مباحث وأمن دولة يعجز الواحد منهم أن يكتب جملةً واحدةً من سطر واحد بلغة عربية سليمةٍ، ومن قبيل التفكُّه قرأت كتابًا ضخمًا طُبع طباعةً فاخرةً، ويبيعه مؤلفه بخمسة وثلاثين جنيهًا والمؤلف هو (اللواء فؤاد علام ) الذي كان المسئولَ الكبيرَ في أمن الدولة.

ومن حق القارئ أن يضحك وهو يقرأ في هذا الكتاب مثل هذه العبارات: “كان حسن البنا يهوى الزعامة والسلطة، ويسعى إليهما مهما كان الثمن، وعشق العمل السري، واتَّخذ منه أسلوبًا لتحقيق أهدافه، وكان حلمه الذي لم يتحقق هو أن يصبح خليفةً للمسلمين”، ويزعم أن أحمد السكري هو المؤسس الحقيقي لجماعة الإخوان .. وحسن البنا سرقها منه.

ويقول بالحرف الواحد: “الإخوان وحرب فلسطين من الأكاذيب الكبرى التي اخترعها حسن البنا والذين معه، نسجوا قصص بطولاتٍ تتحدث عن تضحياتهم وشهدائهم ودمائهم التي أُرِيقت على تلك الأرض المقدسة، ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا.. لم يقدموا شهيدًا، ولم يطلقوا رصاصةً، ولم يريقوا قطرةَ دماءٍ واحدة”. ولست أدري ماذا يقول “علام” في شهادة قادة الجيش المصري في فلسطين مثل أحمد المواوي ، وفؤاد صادق و السيد طه (الضبع الأسود)، بل شهادات الصهاينة أنفسهم من أمثال موشي ديان؟ وماذا يقول في وثائق وزارة الحربية المصرية؟؟!

ومن السهل على القارئ أن يكتشف أن كل هذه الادعاءات تفتقر إلى الحدِّ الأدنى من أخلاقيات النقد والتقييم وأدب الحوار.

هذا وما زالت منظومة الأكاذيب وسوء الظن وسوء التفسير للمواقف.. تتفاقم وتتضخم.. في كتب ومقالات وبرامج تلفازية.

ولا يبقى إلا الصحيح ودولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.

وضوح الطريق

حين تقدم الطالب حسن البنا إلي لجنة الامتحان الشفهي في مدرسة دار العلوم سأله أحد الممتحنين: ماذا تحفظ من الشعر القديم؟

فأجاب: أحفظ المعلقات السبع.

قال الأستاذ الممتحن: أسمعني معلقة طرفة بن العبد، فأخذ حسن البنا يقرأها في فصاحة وثبات، ولما تأكد الأستاذ الممتحن من جودة حفظه، قال له: علي رسلك، أريدك أن تختار بيتا أعجبك من هذه القصيدة، فأطرق حسن البنا هنيهة، ثم قال: إذا القوم قالوا من الفتي خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد .. فما كان من الأستاذ الممتحن إلا أن رفع عمامته من فوق رأسه وهو يردد الله .. الله .. فالتفت إليه الممتحن الآخر وقال له: ماذا جري يا مولانا؟ فأجابه، بأن هذا الفتي - يقصد حسن البنا - سيكون له شأن عظيم، وأعاد علي سمعه بيت الشعر الذي أعجب البنا من القصيدة، فشاركه إعجابه وتفاؤله .. وما هي إلا سنوات قلائل حتي صدقت فراسة هذا الشيخ في حسن البنا إذ أصبح بالفعل أمل أمته الحيري، ومرشدها وداعيتها إلي الإسلام.

عرف حسن البنا منذ صباه أن الجهل بالإسلام، وعدم إدراك حقيقة هذا الدين، وتلوث المحيط الاجتماعي فكريا وأخلاقيا هو الذي انتهي بأمته إلي الضياع والشرود، الأمر الذي يعود إلي ضعف التوجيه الديني السليم في حياة المسلمين، وإلي خضوعهم إلي توجيهات منحرفة ومتناقضة مع تعإليم الإسلام ومبادئه.

لقد كان حسن البنا هو ذلك الفتي الذي أحس منذ صباه بالفراغ الذي يعاني منه المسلمون، وهو عدم وجود قيادة مسلمة، وطليعة مؤمنة ترد المسلمين إلي الإسلام وتبصرهم بالطريق وتكتل جهودهم لاستئناف دورهم الحضاري كخير أمة أخرجت للناس.

لقد أدرك حسن البنا تطلع قومه إليه لاستخلاصهم واستنقاذهم من الضياع فكان هو ذلك القائد والمرشد الذي توفرت له كل ملامح القيادة والإرشاد من وعي وإدراك وإحساس عميق بثقل التبعة وعظم المسئولية، سجل الكثير منه في مذكراته، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

أنظر إليه وهو ينذر نفسه لتوجيه أمته وإرشادها في موضوع الإنشاء في امتحان التخرج من دار العلوم ... يقول رحمه الله:

كان أستاذنا أحمد يوسف نجاتي جزاه الله خيرا مغرما بالموضوعات الدسمة بالإنشاء، وله معنا نكات ظريفة طريفة في هذه المعاني. ومن كلماته المأثورة، حين كان يمل من تصحيح هذه المطولات، أن يقول والكراسات علي يده ينوء بحملها كما ناء طول الليل بتصحيحها: "خذوا يا مشايخ! وزعوا ما تزعمونه إنشاء. عليكم بالقصد يا قوم، فالبلاغة الإيجاز. والله إني لا أشبر الإنشاء ولا أذرعه" .. ونضحك ونوزع الكراسات. ومن الموضوعات التي أتحفنا بها بمناسبة آخر العام الدراسي، وكان بالنسبة لي ولفرقتي الامتحان النهائي 1927 ميلادية، هذا الموضوع: "إشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها" ..

وقد أجبت عنه بهذا الموضوع:

"أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي تري سعادتها في سعادة الناس وإرشادهم، وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم، وذود المكروه عنهم، وتعد التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحا وغنيمة، والجهاد في الحق والهداية علي توعر طريقهما، وما فيه من مصاعب ومتاعب راحة ولذة وتنفذ إلي أعماق القلوب فتشعر بأدوائها، وتتغلغل في مظاهر المجتمع، فتتعرف إلي ما يعكر علي الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم، وما يزيد في هذا الصفاء، ويضاعف تلك المسرة، لا يحدوها إلي ذلك إلا شعور بالرحمة لبني الإنسان، وعطف عليهم، ورغبة شريفة في خيرهم، فتحاول أن تبرئ هذه القلوب المريضة، وتشرح تلك الصدور الحرجة، وتسر هاته النفوس المنقبضة لا تحسب ساعة أسعد من تلك التي تنقذ فيه مخلوقا من الشقاء البدني أو المادي، وترشده إلي طريق الاستقامة والسعادة ..

وأعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عامله، قاصر ضئيل، وخير الأعمال وأجلها ذلك الذي يتمتع بنتائجه العامل وغيره، من أسرته وأمته وبني جنسه، وبقدر شمول هذا النفع يكون جلاله وخطره، وعلي هذه العقيدة سلكت سبيل المتعلمين، لأني أراهم نورا ساطعا يستنير به الجمع الكثير ويجري في هذا الجم الغفير، وإن كان نور الشمعة التي تضئ للناس باحتراقها ..

وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرمي الإنسان إليها، وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضا الله عنه، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه، وعذاب غضبه. والذي يقصد إلي هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين، لكل خواصه ومميزاته، يسلك أيهما شاء:

أولهما: طريق التصوف الصادق، الذي يتلخص في الإخلاص والعمل، وصرف القلب عن الاشتغال بالخلق خيرهم وشرهم. وهو أقرب وأسلم.

الثاني: طريق التعليم والإرشاد، الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل، ويفارقه في الاختلاط بالناس، ودرس أحوالهم، وغشيان مجامعهم ووصف العلاج الناجع لعللهم، وهذا أشرف عند الله وأعظم، ندب إليه القرآن العظيم، ونادي بفضله الرسول الكريم.

وقد رجح الثاني بعد أن نهجت الأول لتعدد نفعه وعظيم فضله، ولأنه أوجب الطريقين علي المتعلم، وأجملهما لمن فقه شيئا ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.

وأعتقد أن قومي بحكم الأدوار السياسية التي اجتازوها، والمؤثرات الإجتماعية التي مرت بهم، وبتأثير المدنية الغربية، والشبه الأوروبية، والفلسفة المادية، والتقليد الأفرنجي بعدوا عن مقاصد دينهم، ومرامي كتابهم ونسوا مجد آبائهم، وآثار أسلافهم، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلما وجهلا، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء، وتعإليمه الحقيقية السمحة، بحجب من الأوهام يحسر دونها البصر، وتقف أمامها الفكر، فوقع العوام في ظلمة الجهالة، وتاه الشباب والمتعلمون في بيداء حيرة وشك، أورثا العقيدة فسادا وبدل الإيمان إلحادا..!

وأعتقد كذلك أن النفس الإنسانية محبة بطبعها، وأنه لا بد من جهة تصرف إليها عاطفة حبها، فلم أر أحدا أولي بعاطفة حبي من صديق امتزجت روحه بروحي، فأوليته محبتي، وآثرته بصداقتي.

كل ذلك أعتقده عقيدة تأصلت في نفسي جذوتها، وطالت فروعها، وإخضرت أوراقها، وما بقي إلا أن تثمر، فكان أعظم آمإلي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان:

خاص: وهو إسعاد أسرتي وقرابتي، والوفاء لذلك الصديق المحبوب، ما استطعت إلي ذلك سبيلا، وإلي أكبر حد تسمح به حالتي، ويقدرني الله عليه.

عام: وهو أن أكون مرشدا معلما، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، ومعظم العام، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخري بالتإليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة.

وقد أعددت لتحقيق الأول معرفة بالجميل، وتقديرا للإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

ولتحقيق الثاني من الوسائل الخلقية: "الثبات والتضحية" وهما ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه كله، وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقا يزري به أو يشينه، ومن الوسائل العملية: درسا طويلا ، سأحاول أن تشهد لي به الأوراق الرسمية، وتعرفا بالذين يعتنقون هذا المبدأ، ويعطفون علي أهله، وجسما تعود الخشونه علي ضآلته، وألف المشقة علي نحافته، ونفسا بعتها لله صفقة رابحة، وتجارة بمشيئته منجية، راجيا منه قبولها، سائله إتمامها، ولكليهما عرفانا بالواجب وعونا من الله سبحانه وتعالي، أقرأه في قوله: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) ذلك عهد بيني وبين ربي، أسجله علي نفسي، وأشهد عليه أستاذي، في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير، وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير ومن أوفي بما عاهد عليه الله، فسيؤتيه أجرا عظيما".

هكذا كان حسن البنا يعرف ما يريد، ويعرف سبيله إلي ما يريد.

وذلك أنه من أخطر ما يؤثر في بناء شخصية الداعية هو وضوح طريقه، وشعوره بالثقة المطلقة بفكرته التي يدعو إليها بشكل يستطيع معه دخول معترك الصراع العقائدي الإنساني، وهو يحمل مبادئ واضحة محددة، يسهل عليه مقارنتها بغيرها من العقائد والمناهج في سرعة ويسر، ويتبين له من خلال تلك المقارنة الفرق الواضح بين فكرته وبين غيرها من الأفكار والمناهج، ويسهل عليه هذا الوضوح إيصال فكرته إلي عقل وقلب كل إنسان شريف، فيقنعه بأنها هي الخير المحض، والعلم الخالص، والحاجة الملحة. بهذا التكوين الرباني تمكن حسن البنا وبخطوات الواثق المطمئن من تقديم إسلامه إلي مجتمعه المتخلف والإنسانية المعذبة، كحل جذري لما تعانيه من ضنك وآلام وعذاب .. أنظر إليه وهو يجيب عن سؤال وجهه إليه صحفي يطلب منه أن يوضح بنفسه عن شخصيته للناس،

فقال رحمه الله "أنا سائح يطلب الحقيقة، وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس، ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية والإستقرار والحياة الطيبة في ظل الإسلام الحنيف ... أنا متجرد أدرك سر وجوده، فنادي: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين .. هذا أنا فمن أنت!؟".


حسن البنا .. ومراحل دعوته

عدنا بعد حفل الشاي الذي أقامه الإخوان لرجال الفكر والجامعة بالأسكندرية في نادي حديقة (أنطونيادس)، إلي دار شعبة الإخوان بمحرم بك وكانت فئة المستمعين هنا تختلف عن فئة المستمعين هناك في حفل الشاي، فاختلف أسلوب الدعوة والداعية ..

في هذه المرة أخذ فضيلة المرشد يشرح دعوته ومراحلها مستعملا أسلوب التشبيه وضرب الأمثال، هذا الأسلوب الذي يجئ في القرآن الكريم لزيادة الإيضاح والبيان ..

ذكر فضيلته، أن وزيرا حدثه فقال: أنت يا فضيلة المرشد مثلك في هذه الدعوة كرجل ورث مع أهله قصرا فخما كبيرا مضي عليه أكثر من ألف عام، وهذا القصر بدأ يتهدم وأصبح آيلا للسقوط .. فرأيت أن تجمع ورثة هذا القصر جميعا وتشاورهم في أمر إعادة هذا القصر إلي بهائه وروعته، وإدراكه بالإصلاح والترميم قبل أن يسقط ... ولكن الجميع رفضوا ذلك، بعضهم إحتج بأن القصر لا فائدة من محاولات إنقاذه فقد استهلك وأدي دوره وانتهي زمانه، وأن إصلاحه عبث لا طائل من ورائه، وبعضهم إعتذر بشيخوخته وكبر سنه وضعف وخور قواه ووهن عزيمته حتي أنه لم يعد له أمل في الحياة، وبعضهم رأي أن هذا العمل يحتاج إلي إمكانيات مالية فتعلل بضيق ذات يده .. وهكذا تخلي الجميع عن مسئولياتهم نحو قصرهم وإعادة مجده.

ومضي فضيلته في سرد القصة ..

وحدث الرجل نفسه: لقد كنت مقدرا لو تعاون معي الورثة تعاونا وثيقا، فإنه بالإمكان أن نختصر الوقت في إصلاح القصر حتي يتم ذلك فيما لا يزيد عن عشرين عاما، فلما رفض الورثة التعاون معي رأيت أن لا أتخلي عن واجب الوفاء لإنقاذ قصرنا التليد وإعادته إلي شموخه، وقلت في نفسي المهم هو الوصول إلي الإصلاح طال الزمن أم قصر، وتوكلت علي الله ومضيت في العمل مستعينا بحوله وقوته، وأحطت القصر بسور عال كما يفعل في تجديد العمارات الآيلة للسقوط في المدن الكبيرة، وحجبت القصر عن الأعين تماما .. وأخذت أجوب الكفور والقري والمدن، مدينة مدينة وقرية قرية وكفرا كفرا، أثير الهمم وأشحذ العزائم وأبني لبنة لبنة، حتي إذا اكتمل القصر واطمأننت إلي قوة بنيانه وأزحت عنه الحجب ورفعت عنه السور الذي أخفاه عن الأعين .. وفوجئ الناس بالقصر شامخا قويا جديدا، ودهشوا متي وكيف تم ذلك؟! ثم أشاعوا من أين المال، ومن أين الرجال؟! ..

شبه الإمام الشهيد الدعوة يوم قيامه بها بقصر متداع إنصرف عنه ورثته وتخلوا عن عبء القيام بإصلاحه وإعادة مجده، فحمل وحده مسئولية إقامة القصر من جديد ..

وأشار فضيلته إلي مراحل دعوته التي بدأها باتصالات ومحاولات لحفز همم رجالات الأمة وهيئاتها للعمل علي إعادة كيان الأمة الإسلامية واستئناف دورها الحضاري، ولكن كانت نتيجة هذه الجهود هي التعللات والمعاذير التي وردت في القصة، ويمكن الرجوع إلي حقيقة هذه الإتصالات في الفترة التي قضاها بالقاهرة طالبا بكلية دار العلوم والتي كتب عنها في كتابه "مذكرات الدعوة والداعية".

لقد نشأت دعوة الإخوان المسلمون في نهاية العشرينيات وتبلورت أهدافها أول ما تبلورت في نفس الإمام حسن البنا، وقد أجمع الذين عاصروه والذين كتبوا عنه من معارضيه ومؤيديه، أنه كان داعيا متمكنا من دعوته، فاهما لمضمونها الاجتماعي والحركي، مدركا لما يحيط بها وما ستواجهه من أخطار، وما يجب عليه أن يحققه من أهداف.

وإيمان الداعية بدعوته وتمكنه منها أول بوادر النجاح والنصر لها، لهذا حرص الإمام البنا من أول يوم في دعوته، أن يحدد الأسس العقائدية والحركية لها تحديدا واضحا، لا لبس فيه ولا غموض، ولكن التكتيك الحركي إقتضاه أن لا يكشف عن مراحل دعوته، ومعالم طريقها ووسائلها جملة واحدة، فيلفت إليه أنظار الأعداء المتربصين بها فيضربونها قبل أن تشتد عودها ويكثر أتباعها، ولهذا كانت خطط الدعوة واضحة بالنسبة للإمام البنا وضوح الشمس في رابعة النهار، كما كانت مراحلها محددة ومتكاملة في نفسه، إلا أنه لم يكن يفصح عنها إلا لخاصة الإخوان بين الفينة والأخري، أما بقية الناس فكانوا لا يعرفون عن أهداف الدعوة ووسائلها إلا الأهداف والوسائل المرحلية الآنية التي كان يعلنها في أحاديثه وخطبه للناس كافة.

إتجه الإمام البنا إلي عامة الناس، فاتصل بهم عن طريق المساجد والندوات والمقاهي علي طول القطر من أسوان إلي الأسكندرية في خلال عشر سنوات طوال، لم يدع مدينة أو قرية إلا ونزل بها واتصل بأهلها مبلغا دعوته، عاملا علي بناء الجماعة قوية شامخة.

وهذه هي المرحلة الأولي التي أوفت علي غايتها ثم جاءت بعدها مرحلة جديدة بعد عشر سنوات قضاها في بناء جيل من الشباب وإعداده بالتربية الصالحة والتنظيم النافع بعيدا عن الدعاية.

والحقيقة أن هذه الدعوة بقيت مجهولة للأعداء، إذ كانوا يعدونها واحدة من الطرق الصوفية أو جمعية دينية تقليدية من الجمعيات التي كانت منتشرة في مصر آنذاك، والتي لا يتعدي نشاطها الميدان الاجتماعي، حتي إستصدر الإخوان رخصة بمجلة (مجلة النذير) سياسية أسبوعية، التي صدر العدد الأول منها في مايو 1938م، وقد ظهر منها واضحا اتجاه الإخوان الوطني وإبتداء اشتراكهم في الكفاح السياسي في الداخل والخارج.


آفاق الطريق ومراحله

لقد كان حسن البنا منذ الصبا صادقا مع ربه، فكان بفضل الله تعالي عليه يعرف ما يريد، ويعرف سبيله إلي ما يريد .. وقد أجمل رحمه الله ما يريد في أكثر من مكان من رسائله، وكل ما ذكره فضيلته هو مما يفترض علي كل مسلم أن يعمل له بقدر إستطاعته، وهو ما لخصه في رسالة التعاليم في ركن "العمل" أحد أركان البيعة في دعوة الإخوان المسلمين .

يقول رضي الله عنه: "وأريد بالعمل: ثمرة العلم والإخلاص (وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلي عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)، ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق:

إصلاح نفسه: حتي يكون قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادرا علي الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدا لنفسه، حريصا علي وقته، منظما في شئونه، نافعا لغيره، وذلك واجب كل أخ علي حدته.

وتكوين بيت مسلم: بأن يحمل أهله علي إحترام فكرته، والمحافظة علي آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية، وحسن إختيار الزوجة، وتوقيفها علي حقها وواجبها، وحسن تربية الأولاد والخدم وتنشئتهم علي مبادئ الإسلام، وذلك واجب كل أخ علي حدته كذلك.

وإرشاد المجتمع: بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلي فعل الخيرات، وكسب الرأي العام إلي جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائما، وذلك واجب كل أخ علي حدته، وواجب الجماعة كهيئة عاملة.

وتحرير الوطن: بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي سياسي أو اقتصادي أو روحي.

وإصلاح الحكومة: حتي تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل علي مصلحتها، والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.

ولا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة، ولا عبرة بالشكل الذي تتخذه ولا بالنوع، ما دام موافقا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي.

ومن صفاتها: الشعور بالتبعة، والشفقة علي الرعية، والعدالة بين الناس، والعفة عن المال العام، والإقتصاد فيه.

ومن واجباتها: صيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع الهامة، وتنمية الثروة وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة.

ومن حقها - متي أدت واجباتها -: الولاء والطاعة، والمساعدة بالنفس والمال .. فإذا قصرت: فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية: بنشر دعوة الإسلام في ربوعه حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ويأبي الله إلا أن يتم نوره.

وهذه المراتب الأربعة الأخيرة تجب علي الجماعة متحدة وعلي كل أخ باعتباره عضوا في الجماعة.

وما أثقلها من تبعات، وما أعظمها مهمات، يراها الناس خيالا، ويراها الأخ المسلم حقيقة. ولن نيأس أبدا. ولنا في الله أعظم الأمل. والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


الداعية حسن البنا .. غني بالدعوة

حين ضاقت دار المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة بالقاهرة بشتي ألوان النشاط .. فكر الإخوان في شراء دار أخري فسيحة تساعد علي استيعاب النشاط العام للجماعة. وفي أثناء ذلك لفتت أنظار الإخوان فيلا كبيرة تقابل دار المركز العام، يحيط بها فناء فسيح في نفس الميدان، فعرضوا أمر شرائها علي فضيلة المرشد، فأوفدهم ليتفاهموا مع أصحابها .. فوافق أصحاب الفيلا علي بيعها في حدود عشرة آلاف جنيه، ولم يكن في صندوق الإخوان سوي خمسمائة جنيه فقط، فكتب الأستاذ المرشد العقد الابتدائي بهذا المبلغ.

وأشفق مكتب الإرشاد أن لا يستطيع الإخوان سداد باقي الثمن فضلا عن تكاليف إصلاحها وتأثيثها، كما توجس المكتب خيفة من أن يتهم أعداء الإسلام بأن الإخوان المسلمين تأتيهم أموال من الخارج، ولابد أن نعرف كيف يكون التصرف من الآن في مبلغ لا يقل عن خمسة عشر ألف جنيه.

وطمأنهم فضيلة المرشد قائلا: إنني سوف أعلن في مجلة "الإخوان " عن شراء دار للجماعة وسوف ننشر الصورة الفوتوغرافية للدار مع الإعلان، وأطلب من الإخوان التبرع، وأتعشم أن يسددوا بقية الثمن في الشهر الأول أو الشهر الثاني أو الثالث .. سأترك للإخوان فرصة حتي آخر ديسمبر 1944 م لتمويل المشروع، فإذا لم يستطع الإخوان الوفاء بالقيمة المطلوبة كلها قبل الموعد النهائي، فإني أحفظ من الإخوان أكثر من عشرين ألفا، وسوف أرسل لكل أخ منهم خطابا بالبريد أطالبه أن يساهم في شراء الدار بمبلغ جنيه واحد، وأعتقد أن ذلك هو أضعف الإيمان .. فسكت الإخوة أعضاء مكتب الإرشاد بعد هذا الإيضاح.

وللحق والتاريخ فقد كان الإخوان علي مستوي حسن الظن بإيمانهم ووفائهم، فلم يمض شهر واحد حتي توفر للإخوان المبلغ المطلوب ويزيد عن ذلك تلك الهبات العينية من عقود أراضي وأملاك أرسل بها الإخوان من كل مكان في العالم الإسلامي لتكون تحت تصرف الجماعة .. هذا وإني لأذكر بالفخر والإعجاب الأخوات المسلمات حيث تطوعن بالحلي الذهبية .. وقد أُتفق علي عدم التصرف في هذه التبرعات العينية ووضعوها في خزينة الجماعة ليراها زوارنا ولتكون دليلا علي المثل العليا التي انبعثت من نفوس المؤمنين بفضل عظمة هذه الدعوة ونبل أبنائها.

وفي حديث لمجلة (مسامرات الجيب) مع فضيلة المرشد، سأل مندوب المجلة فضيلته، فقال: هل أنت غني؟ وكان جوابه رضي الله عنه: نعم أنا غني بهذه القلوب المؤمنة التي تحابت معي في الله.

فقال مندوب المجلة: أقصد الناحية المادية ..

فقال فضيلته: نعم غني والحمد لله .. فكل أموال الإخوان التي في جيوبهم ملك للدعوة.

من أين المال؟

يتساءل هؤلاء الإخوان المحبوبون الذين يرمقون الإخوان المسلمين علي بعد ويرقبونهم عن كثب قائلين: من أين ينفقون؟ وأني لهم المال اللازم لدعوة نجحت وازدهرت كدعوتهم والوقت عصيب والنفوس شحيحة؟ وإني أجيب هؤلاء بأن الدعوات الدينية عمادها الإيمان قبل المال، والعقيدة قبل الأعراض الزائلة، وإذا وجد المؤمن الصحيح وجدت معه وسائل النجاح جميعا. وإن في مال الإخوان المسلمين القليل الذي يقتطعونه من نفقاتهم ويقتصدونه من ضرورياتهم ومطالب بيوتهم وأولادهم، ويجودون به طيبة نفوسهم سخية به قلوبهم، يود أحدهم لو كان له أضعاف أضعاف فينفقه في سبيل الله، فإذا لم يجد بعضهم شيئا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. في هذا المال القليل والإيمان الكبير ولله الحمد والعزة، بلاغ لقوم عابدين ونجاح للعاملين الصادقين ، وإن الله الذي بيده كل شيئ ليبارك في القرش الواحد من قروش الإخوان .. يمحق الله الربا ويربي الصدقات.

ثم تشاورنا في مكان الاجتماع وما نعمل فيه، واتفقنا أخيرا علي أن نستأجر حجرة متواضعة في شارع فاروق في مكتب الشيخ علي الشريف بمبلغ 60 قرشا في الشهر، نضع فيها أدواتنا الخاصة ونجتمع فيها إجتماعاتنا الخاصة، علي أن يكون لنا حق الانتفاع بأدوات المكتب بعد انصراف التلاميذ ابتداء من العصر إلي الليل، ويسمي هذا المكان "مدرسة التهذيب" للإخوان المسلمين ، ويكون منهاجه دراسة إسلامية قوامها تصحيح تلاوة القرآن الكريم بحيث يتلوه الأخ المنتسب إلي هذه المدرسة وبالتالي إلي الدعوة وفق أحكام التجويد، ثم محاولة حفظ آيات وسور مع شرح هذه الآيات والسور وتفسيرها تفسيرا مناسبا، ثم حفظ بعض الأحاديث وشرحها كذلك، وتصحيح العقائد والعبادات وتعرف أسرار التشريع وآداب الإسلام العامة، ودراسة التاريخ الإسلامي وسيرة السلف الصالح والسيرة النبوية بصورة مبسطة تهدف إلي النواحي العملية والروحية، وتدريب القادرين علي الخطابة والدعوة تدريبا علميا بحفظ ما يستطاع من النظم والنثر ومادة الدعوة، وعمليا بتكليفهم التدريس والمحاضرة في هذا المحيط أولا، ثم في أوسع منه بعد ذلك.

حول هذا المنهاج تربت المجموعة الأولي من الإخوان المسلمين الذين بلغوا في نهاية العام الدراسي: "1927 -1928 " سبعين أو أكثر قليلا، ولم يكن هذا المنهاج التعليمي هو كل شيء.

فقد كانت معاني التربية العملية التي تتفاعل في أنفسهم بالمخالطة والتصرفات الواقعية والود والمحبة فيما بينهم، والتعاون الكامل في شئون حياتهم، وتهيؤ نفوسهم لما في ذلك من خير أقوي العوامل في تكوين هذه الجماعة.

إنتهي الاستطراد الذي تم نقله من كتاب "مذكرات الدعوة والداعية".


حسن البنا .. حرارة العاطفة ورقة الشعور

في العيد ..

بعد أن أدي الأستاذ المرشد صلاة العيد توجه إلي دار المركز العام القديم بالحلمية الجديدة، وتوافد الإخوان لتهنئة فضيلته بالعيد، وجلست في زاوية من الحجرة الفسيحة أرقبه .. فكان رحمه الله يستقبل كل أخ مسلما عليه بإسمه أو بكنيته بحرارة وابتسامة مشرقة، ثم يشير إليه ليجلس، ثم يتابعه بالسؤال عن صحته والاستفسار عن أحواله الشخصية التي كان يعرف الكثير منها حيث كان موضع ثقة الإخوان ومشورتهم. ودخل عليه أحد الإخوان فسلم عليه وهنأه بالعيد ثم قال له: لعل الأمر قد انتهي بخير والأخ الطبيب قد وفقه الله، فقال الأخ: ببركة دعواتكم يا فضيلة المرشد .. وكانت هذه الكلمات مدعاة ليسأل بعض الإخوة أخوهم هذا عن الموضوع وهي مشاركة أخوية واجبة تفرضها آداب الإسلام وأخلاقه، فتبسم قائلا: الموضوع أن فضيلة المرشد كان عندنا في البلد وكانت عندي جاموسة متعسرة في الولادة ، فلما علم بذلك نصحني بإحضار طبيب لإنقاذها.

دموع

كتب أحد الإخوان يصف رقة قلب الإمام وحساسيته الشديدة وعواطفه الجياشة، يقول: دخلت عليه فقابلني بالبشر والترحاب، وقال: ستسافر بمشيئة الله يوم الثلاثاء إلي السودان .. فقلت علي الفور: أمر مطاع يا فضيلة المرشد .. وأردت أن أنصرف، ثم التفت إليه فجأة وقلت: ولكن يا فضيلة الأستاذ؟!، قال رحمه الله: ولكن ماذا؟ قلت: إن لي مشاكل كثيرة وشكاوي وفيرة، أود أن أتحدث إليكم فيها بعضها عام وبعضها خاص، فقال: هون عليك، وكّل أمرك إلي الله .. قلت: ولكني أود أن تعرف .. فقال: إنني أعرف .. قلت: إذن أنا أسعد ما أكون، ما دمت تعرف .. ولكنه استبقني وأخذ يتحدث عن مشاكلي وشكاواي يتحدث هو بنفسه لنفسه .. عجبت كل العجب، لأنه أحاط بدقائق نفسي ودخائل حسي، بل إن هناك مسائل كانت في باطن الشعور، هو الذي ذكرني بها .. وما إن انتهي من حديثه، حتي قلت: والله يا فضيلة الأستاذ، إني سعيد كل السعادة ولا أشكو من شيء أبدا .. قلت ذلك وصوتي متهدج ودموعي منهمرة وأحاسيسي متدفقة، ثم هجمت عليه، وكان واقفا لا شيء علي رأسه .. هجمت عليه واحتضنته بين ذراعي في شدة وعنف وأخذت أقبل رأسه .. واستمر هذا الموقف فترة من الزمن، وهو صامت مستسلم، ولم أتركه إلا حيت دخل علينا الأخ الأستاذ سعد الوليلي، وإذا بالأستاذ يبكي لبكائي وعيناه مليئتان بالدموع.

وكثيرا ما كان هذا البطل القوي يبكي بدموع غزار، وإني لأذكر في ذلك اليوم أن استلم وهو بدار "الشهاب" برقية من والد أحد الشهداء في فلسطين ردا علي برقية من فضيلة الأستاذ له، وكانت برقية والد الشهيد برقية مؤثرة فيها تضحية وفدائية واستبسال .. بكي الأستاذ كثيرا، وبكي الحاضرون، وكانت لحظات من الحساسية المرهفة والشعور العميق!.

ومع قصة دموع هذا القائد العظيم يروي أحد الإخوان هذا المشهد، فيقول: عرضت علي فضيلة المرشد ذات يوم خطابا من أحد الإخوان ، وكان بين عدة خطابات وأوراق قدمتها إليه، وغفلت لحظة أنظر إلي من بالغرفة، وإذا بي أري دمعات كبيرة تتساقط علي الخطاب .. ودهشت، ولقد كنت قرأت الخطاب قبل ذلك، ولكنه لم يثر في نفسي ما أثاره في نفس هذا الرجل.

كنت أعرف أن المرسل بعث بمبلغ أربعة جنيهات للجماعة، فماذا في هذا من عجب، في الوقت الذي كانت هناك مئات الجنيهات تتقاطر علينا..! ولكنه هو القائد قد أثاره ما لم يثرني ... كتب الأخ صاحب الرسالة يقول: إكتتب كثيرون في أسهم جريدة "جريدة الإخوان "، ثم تنازلوا عنها عندما ناديت فضيلتكم بأن يتنازلوا عنها .. ولما كنت راغبا في أن أشارك في هذه التضحية، ولم يكن لي شرف المساهمة لضيق ذات يدي، فقد أرسلت لكم نصف مرتبي الشهري وهو قيمة ثمن سهم أتنازل عنه.

وقال الإمام الشهيد معلقا: بمثل هؤلاء وبهذه النقود القليلة تنتصر الدعوة.

لا تميز

... جاءنا الأستاذ المرشد في زيارة بالأسكندرية في إحدي ليالي شهر رمضان المبارك، وكان معه وفد من إخوان السودان، وبعد أن حضروا مؤتمرا في حي باكوس، عاد الأستاذ إلي دار المكتب الإداري قبيل منتصف الليل، وأوصاني أن أوقظه قبيل الفجر لتناول السحور ولم ينم إلا بعد فترة طويلة قضاها في حجرته يصلي القيام.

وحضرت مجموعة من الإخوان لتصلي مع فضيلته الفجر وتتناول معه السحور، وأحضرت له طعاما فاخرا، فلما اجتمع الإخوان علي الطعام، قال لي: هل كل الإخوان سيأكلون معي مثل طعامي هذا؟ فقلت له: كل واحد حضر ومعه طعامه، فقال: سآكل من طعامهم، ورفض الطعام الفاخر فوزعناه علي الإخوان .

ولما دخلنا مسجد الدار وجد الأحذية خارج المصلي بدون تنظيم، فقال مداعبا: ألستم في أسر؟ قلنا: بلي، فقال: فلماذا لم تجعلوا أحذيتكم علي شكل أسر؟

وبعد الصلاة تلونا المأثورات، وعند شروق الشمس حضر الأستاذ المستشار منير الدلة رحمه الله بسيارته، فقد كان علي موعد مع فضيلته للعودة إلي القاهرة ، وعند باب المنزل وقبل أن يركب السيارة سألني عن بواب العمارة، فقلت: إنه نائم، فأعطاني له صدقة وأوصاني أن أبلغه السلام.

حسن البنا والأخ أحمد شوهان

حضر إخوان مدينة أبو كبير شرقية مؤتمر الإخوان المسلمون في مدينة الزقازيق الذي يتحدث فيه فضيلة المرشد العام حسن البنا .. وهناك إلتقي الأستاذ البنا بالإخوان وتعرف عليهم كل بإسمه وعمله.

وبعد أكثر من عامين زار الأستاذ البنا مدينة أبو كبير، وعند لقائه بالإخوان فوجئ الأخ أحمد محمد شوهان بأن فضيلته يسلم عليه باسمه .. وتعجب الأخ أحمد وهو يعمل نجارا بسيطا، كيف تكون له هذه المنزلة في نفس الأستاذ البنا، وظل يباهي بها إخوانه!

وهكذا كان الإمام البنا يعطي كل أخ حقه من التقدير دون النظر إلي طبقته الاجتماعية، فالجميع إخوان مسلمون ولا تدري في أي منهم يكون الخير والأمل المنشود.

حسن البنا ومخبر المباحث العامة

كان ذلك في عام 1937م، حيث اتخذ الإخوان المسلمون بالأسكندرية دارهم في عمارة ماجستيك بميدان المنشية، وهي الدار التي تنازل عنها الصاغ محمود لبيب رحمة الله للإخوان حين تعرف علي الأستاذ المرشد في مخيم الدخيلة بالأسكندرية .

وكان رئيس القسم المخصوص أو ما كان يسمي بالبوليس السياسي "المباحث العامة" الآن، وإسمه الصاغ زهران رشدي يجند مخبرا لمراقبة نشاطنا في الشعبة وكتابة التقارير عنا .. كان هذا المخبر يلازمنا طوال اليوم حتي ننصرف في المساء إلي بيوتنا، ولم يكن مجهولا لدينا، بل كان معروفا لنا.

ولما جاء الأستاذ البنا لزيارتنا، شكونا إليه من وجود هذا الشخص بيننا، وطلبنا منه أن يسمح لنا بطرده من الشعبة، فضحك رحمة الله وقال: إن وجود مخبر بينكم ومعروف لديكم خير من وجود مخبر لا تعرفونه، فاحرصوا علي معاملته معاملة كريمة، لعل الله يصلح حاله فلا يكذب عليكم ويكتب ما يراه وما يسمعه بالحق.

وأخذنا بنصيحة الأستاذ البنا حتي رأينا الرجل يخجل من نفسه وظل علي وضعه حتي نهاية خدمته، واستمر الرجل وهو في المعاش علي حاله في زيارته لنا، وكنا نستقبله بنفس الشعور الطيب.

أدب

كان من أدب الإخوان بالقاهرة إذا أراد أحدهم أن يسافر إلي بلدته إستأذن في ذلك من الأستاذ المرشد رحمه الله، فضلا عن أنه إذا كانت هناك رسالة أو مهمة كلفه بها.

وذات يوم حضر الأخ الحاج عبد الرزاق هويدي يستأذن في السفر إلي بلدته، فلما سأله فضيلة المرشد عن سفره المفاجئ أخبره بأن جده مريض ويريد أن يعوده. فدعا له فضيلة المرشد وطلب من الحاج عبد الرازق أن يبلغ جده خالص تمنياته له بالشفاء.

وفي اليوم التالي فوجئت عائلة هويدي بالأستاذ المرشد يحضر لزيارة جدهم الكبير، وكانت مفاجأة أثارت اهتمام العائلة جميعا فأسرعت ترحب بمقدمه، وشباب عائلة هويدي لهم ميول سياسية متباينة فمنهم الوفدي ومنهم السعدي، وحول سرير الجد الكبير دارت بعض الأحاديث الخفيفة، وتكلم الجد بكلمات ترحيب وشكر للأستاذ المرشد، ونوه بفضل الإخوان في أنهم جعلوا الحاج عبد الرزاق شخصية إسلامية مؤمنة .. ورد الأستاذ المرشد، فقال له إنه لا فضل للإخوان في ذلك، فالإخوان والحمد لله يرزقون من كل عائلة كريمة بمن يمثلهم في هذه العائلة.

ونزلت هذه الكلمات الرقيقة الواعية علي قلوب الجميع بردا وسلاما، وتذوقوا فيها قيمة الدعوة والداعية.

وأذكر يوم توفي إلي رحمة الله تعالي والد أحد الإخوان الفضلاء في أسيوط .. وكان هذا الأخ علي خلاف مع الإخوان منذ سنين ولم يحاول الاتصال بهم. وبمجرد أن علم فضيلة المرشد بهذا انتقل بسرعة من القاهرة إلي بلدة هذا الأخ ناسيا كل خلاف.

وحين وصل فضيلته استقبل هناك أحسن استقبال، وحين جاء وقت الصلاة العصر توجهت جموع المعزين إلي المسجد، وبعد أداء الصلاة طلب المصلون من فضيلة المرشد أن يلقي عليهم موعظة، فوقف فضيلته وشكرهم، وقال: لقد آتيت معزيا ولم آت داعيا ... وكانت هذه الكلمات المخلصة الكبيرة المعني أعظم دعوة. وعاد الأخ إلي صفوف الإخوان راضيا مرضيا وزالت الجفوة.


نقاتل أعداءنا بالحب

لعل مما يزعجنا الآن أن نلحظ أن بعض المتصدرين للدعوة للإسلام عصبيون لم يهضموا بعد أدب الاختلاف، ويضيقون صدرا بالرأي المخالف، مسبغين عليها التقريع بل السباب بل التكفير أحيانا في غير كفر والعياذ بالله .. واضرب مثلا مقابلا، حين جاء إلي الأستاذ البنا أحد زملائه خريجي دار العلوم هو الأستاذ "س. سعد" وهو من أورع الناس وأتقاهم، ولكنه غضب كل الغضب لأن الإخوان أنشأت فرقة للجوالة والكشافة (تلبس البنطلون القصير) .. قال الأستاذ "س. سعد": "يا حسن أفندي" .. فأجاب: "نعم يا سيدي" .. قال: "إني أكرهك" .. فابتسم حسن البنا وقال في هدوء وبشاشة: "وإني والله لأحبك" ... فقال الرجل: "ولكني أكرهك في الله"، وبالبشاشة نفسها والهدوء أجاب حسن البنا مخلصا "هذا يزيدني فيك حبا" ... ولم يكن ذلك مصانعة وإنما كان الرجل يقتات علي المحبة.

وكان من الاصطلاحات الشائعة جدا علي ألسنة الإخوان "المهم: الحب في الله" .. وكان يردد في دروسه (سنقاتل الناس بالحب)، بل كانت البيعة التي صاغها لهم، أن يعاهدوا الله علي "الاستقامة والمحبة والثبات علي الدعوة".

كان يري تعدد الآراء إثراء لأي مجتمع، وكان يضرب المثل بكبار الصحابة من حول الرسول صلي الله عليه وسلم، يكون لأبي بكر رأي ولعمر رأي ولعلي رأي دون أن يؤدي الاختلاف إلي تلك الحالقة التي تحلق الدين لا الشعر، ومن تعاليم الأستاذ البنا التي طالما رددها بلا ملل قولته المشهورة التي لا تزال حية إلي اليوم "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"، ولا نزال إلي الآن أفرادا وجماعات ودولا في حاجة إلي هذا الهدي، وكان في الأربعينيات عضوا نشطا في جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية من سنة وشيعة، مؤمنا بأن الأرضية الإسلامية المشتركة تتسع بل تحتاج لتضافر الجهود كلها ويبقي كل علي معتقده.

صراخ الأطفال

في محنة الإخوان في نهاية 1948 م، وفي الفترة التي قضاها قبل استشهاده في فبراير 1949 م .. كان كل هدف الإمام البنا هو إخراج المعتقلين، فتركزت كل جهوده ومساعيه حول تحقيق هذا الهدف، ولقد بلغت المأساة في ضميره ذروتها .. مأساة البيوت التي فقدت من يعولها وفقدت الأمن والسعادة والطمأنينة ... لم يستريح باله ولن تقر نفسه المعذبة ولن يهدأ قلبه الأسيف الحزين، ولن يتوقف ما يسمعه من صراخ أطفال المعتقلين يدوي في أذنيه حتي يري آباءهم قد أفرج عنهم وعادوا سالمين إلي بيوتهم ... هكذا يروي عن حاله في هذه الفترة المظلمة من تاريخ مصر... وكان الإمام الشهيد يستيقظ في الليل ويضع كلتا يديه علي أذنيه ويقول: "إنني أسمع صياح الأطفال الذين غاب آباؤهم في المعتقل".

وقالوا له: لقد اعتقلوهم جميعا وتركوك! فما هي الحكمة؟ .. إنه من الخير أن تخرج إلي سوريا أو الحجاز أو باكستان، فرفض، وقال: هذا هو الجبن، كيف أترك هؤلاء في المعتقلات ولا أسعي لإخراجهم! وكتب له الإخوان من المعتقل يقولون: دعك من أمرنا، وخذ الطريق الذي تراه .. ولكنه أصر علي أن يخرج هؤلاء حتي يستريح.

وقال له بعض المتحمسين: ألا تري أنهم قد حاربونا أعنف الحرب فحطموا بناء عشرين عاما .. صودرت الأموال وحلت الشركات، وأغلقت الشعب والمركز العام، واعتقل الإخوان بالآلاف، أليس هذا موعد الآية: (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..؟).

لقد كان في استطاعته أن يعلنها حربا ويشعلها نارا ، وكان لديه من القوة ما يمكنه من دك بنياتهم من القواعد .. ولكن بماذا أجاب علي هؤلاء المتحمسين؟ ..

قال: لن أكون داعية فتنة، ولن آمر بمنكر .. ولن أغضب لشخصي، ولن انتقم لنفسي. ولما سمع بمقتل النقراشي جزع وأسف.

في منزل الأستاذ مصطفي مشهور

يجهل كثير من الناس الحقائق والدوافع التي هي سر اليقظة والحيوية في الإنسان المسلم، وينظرون دائما إلي الأشكال والمظاهر ولا يغوصون ولا يستلهمون ما وراء ذلك.

ولقد كانت لحياتنا بعض الوقت مع الإمام حسن البنا رحمه الله طبيعة معينة لم نكن ندرك تماما روعتها إلا بعد أن فقدنا تواجده بيننا، ولم ندرك هذه الحقيقة إلا بعد أن قست علينا المحن ونأت بنا عن هذه المعايشة، لقد كان حسن البنا روحا كبيرة فسيحة تملأ كل الفراغ كما يملأ الهواء كل الأجواء، وكان الحضور معه يعني أن تعيش مغمورا في بحر من السعادة والنور .. فهو يتعامل معك كأنك وحدك المقصود بكل عواطفه ومشاعره، وليست هذه العاطفة منه مجاملة أو ترضية، ولكنها عاطفة صادقة حقيقية عميقة رقيقة تجيش بالحب، والأمثلة علي ذلك كثيرة:

أذكر منها ما أحسسته بنفسي وشعوري، كان ذلك في منزل الأخ الأستاذ مصطفي مشهور في شارع زين العابدين بمحرم بك بالأسكندرية عام 1945م، وهناك وجدت مجموعة من الإخوة قد سبقوني، وبعد لحظات وصل إلي المنزل فضيلة المرشد حسن البنا وكانت مفاجأة سارة .. جلس يتحدث معنا في تطورات الدعوة وواجبنا نحوها بروح لطيفة مؤنسة، وتحدث عن أمله في الشباب وثقته بإيمانهم .. وكانت لحظات واستأذن الأستاذ للخروج .. وقمنا لوداعه، وكان عناقا حارا مؤثرا أبلغ وأعطر وأزكي ما فيه، تلك الدموع التي تساقطت من عينيه .. ويا لها من لحظات في حياتنا .. لا تنسي أبدا.

وداع

تطوع شباب الإخوان المسلمون لقتال اليهود علي أرض فلسطين الإسلامية، وكان قد تقرر نقلي من سلاح الصيانة في مرسي مطروح للعمل مع القوات المسلحة في غزة، وذهبت إلي القاهرة لأودع الأستاذ رحمه الله. وهناك في دار المركز العام دعاني إلي لقائه في حجرة في الدور العلوي، وجلس معي علي انفراد في حديث الوالد يغمرني بعاطفة حلوة ندية، كأنه لقاء الوداع .. كان يستشعر أنني ربما يكتب لي الشهادة في هذه المعركة، لهذا طلب مني أن أسجل عن نفسي بعض المعلومات التي قد تفيد النشر إذا قدر الله لي أن أكون في سجل الشهداء، ثم وقف يودعني بنفس الحرارة ونفس العاطفة وظل يراقبني حتي غبت عن ناظريه ولسانه في دعاء وقلبه في رجاء... تلك هي القيادة التي توالي الجنود بصدق الحب والحدب، وبهذا يتكون الجنود الذين يسمعون ويطيعون القيادة بكل الإيمان والثقة والتجرد.

وحين استشهدت أول كوكبة من شباب الإخوان المسلمون في معركة دير البلح بفلسطين في مايو 1948 م، خرجت جريدة الإخوان المسلمون اليومية وقد صدرت صفحتها الأولي بإطار أخضر يضم تعريفا زود بالصور الفوتوغرافية لإثني عشر شهيدا، وكتب الإمام حسن البنا يقول هذا المعني: هؤلاء الإخوان قد أحسنوا صناعة الموت واختاروا الموتة المطهرة، التي طالما هتفوا بها، لقد صدقوا الله فصدقهم الله .. لقد عجبت كيف يحزن عليهم بعض الناس، مع أن الشهداء هم الذين فروا إلي الله تعالي رغبة وفرحا بلقائه (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

مع سماحة مفتي فلسطين

روي لي الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن أنه في إحدي زياراته لسماحة محمد الأمين الحسيني مفتي فلسطين، جاء ذكر الشيخ حسن البنا، فقال سماحة المفتي إنه قد تأثر كثيرا بشخصية الأستاذ حسن البنا، وقص عليه هذه القصة: ذات يوم زاره حسن البنا وجلس إلي جواره وتجاذبا أطراف الحديث، وبعد برهة من الوقت جاء ضيف، فتخلي حسن البنا عن مكانه بجواري .. وكلما دخل ضيف آخر ترك حسن البنا مكانه مفسحا للقادم الجديد وهكذا حتي أصبح مكانه إلي جانب باب حجرة الطعام .. ولما حان وقت الطعام وفتحت الغرفة، وكان من الطبيعي أن يكون أول الداخلين هو حسن البنا، ولكني لاحظت أنه أخذ يتراجع حتي صار آخر الداخلين .. فأدهشني هذا الخلق الرفيع!!

حسن البنا ... ورئيس وزراء سوريا

روي لي الأستاذ محمد عبد الرحمن خليفة المراقب العام للإخوان المسلمون في الأردن ، أن الأستاذ إحسان الجابري رئيس وزراء سوريا ، زار مصر بالقطار من طريق غزة ثم العريش.

يقول الأستاذ إحسان: أنه لم يتوقع الذي رآه!! ذلك أنه ما من محطة من محطات السكة الحديد علي طول الطريق إلي القاهرة يقف عندها القطار إلا ويجد هتافات تحيي جهاد سوريا وكفاحها تشق عنان السماء ويتقدم من بين هذه المظاهرة وفد من جماعة الإخوان المسلمون في المنطقة لتحيتي بكل عواطف الحب والاحترام والتقدير مع تمنياتهم لشعب سوريا الشقيق بالعز والسؤدد .. واستمر الحال علي ذلك حتي وصلت إلي محطة سكة حديد القاهرة ، وفيها وجدت الإخوان يقفون في انتظاري واستقبلوني بالبشر والحفاوة والترحاب.

ويعقب الأستاذ إحسان لشقيقه الأستاذ سعد الله الجابري، علي استقبالات الإخوان في مصر له: إنه لم يكن يحس نحو الإخوان بشيء من الصلة، ولكن بعد ذلك شعر بعاطفة تشده نحو الإخوان المسلمون .


حسن البنا والمعلم إبراهيم كروم

رغب الإخوان في حي بولاق بالقاهرة الاحتفال بذكري مولد الرسول صلي الله عليه وسلم، فذهبوا يبحثون عن أرض فضاء يقيموا عليها سرادقا يؤمه الناس بهذه المناسبة التي سيخطب فيها فضيلة المرشد. وفيما هم يبحثون وقع نظرهم علي أرض مناسبة، ولكنهم علموا أن صاحب الأرض (مسيحي) وبينما هم في حيرتهم يتناقشون الأمر إذا برجل كان يجلس علي مقهي مجاور لهذه الأرض، فسألوه: هل يمكن إستئجار هذه الأرض لنقيم عليها حفلا إسلاميا بمناسبة ذكري مولد الرسول صلي الله عليه وسلم؟

فاستقبلهم الرجل بأحسن الأخلاق، وقال لهم: إن هذه الأرض ليست ملكا لي، ولكني نيابة عن صاحبها أقول لكم أقيموا الحفل علي ضمانتي ... فعجب الإخوان من سماحة الرجل وشجاعته، وعرفرا أخيرا أن هذا الرجل هو (المعلم إبراهيم كروم ) فتوة حي بولاق الشهير... وذهب الإخوان إلي الأستاذ البنا وأخبروه بما حدث، فكان ذلك مبعث سرور له.

وجاء موعد الحفل، وهرع المسلمون للاستماع إلي مناقب الرسول صلي الله عليه وسلم في هذا الاحتفال ... وحين وصل الأستاذ البنا إلي سرادق الاحتفال توجه رأسا إلي المقهي وسأل عن المعلم إبراهيم كروم وسلم عليه بحرارة وشكره علي موقفه، وحضر المعلم إبراهيم كروم الحفل واستمع إلي فضيلة المرشد وهو يحييه مرة ثانية أمام الجماهير، وما إن انتهي الحفل حتي أصر المعلم إبراهيم كروم علي دعوة الأستاذ علي كوب شاي في المقهي.

ومنذ ذلك اليوم وإبراهيم كروم دائم الحضور إلي المركز العام، ولم تنقطع صلته به في يوم من الأيام. وفي حوادث مارس 1954 عندما هب الشعب المصري يطلب الخلاص من طغيان جمال عبد الناصر وديكتاتوريته العسكرية، كان إبراهيم كروم علي رأس المظاهرة الشعبية الكبري التي أجبرت الطاغية علي التنحي فيما يسمي بمقررات مارس التاريخية ... وعندما استطاع الطاغية بالمكر والخديعة أن يجهض هذه المقررات قبض علي إبراهيم كروم وحكم عليه بالسجن وتوفي رحمه الله بعد الإفراج عنه.

مع الداعية الإسلامي عليم الله الصديقي

قام فضيلة المرشد بزيارتنا بالأسكندرية ، وكان بصحبته المبشر الإسلامي عليم الله الصديقي ... وبينما نحن جلوس مع الأستاذ وضيفه حضر وفد من الإخوان بشعبة الحجاري بالأسكندرية وقدموا هدية للأستاذ المرشد عبارة عن شارة الإخوان المسلمون (سيفان متقاطعان وبينهما المصحف الشريف) محفورة علي قطعة من الخشب الأبانوس موضوعة في علبة جميلة ... وما أن قام الأخ محمد حمام، نائب الشعبة بتقديم الهدية إلي الأستاذ المرشد، حتي قام فضيلته من فوره إلي الضيف الجليل عليم الله الصديقي ، وقال: وأنا بصفتي المرشد العام للإخوان المسلمون أتقدم بهذه الهدية إلي مولانا وضيفنا عليم الله الصديقي .. وقام الرجل وتسلم الهدية في بشر وسرور.

ولقد كنا في ذهول من سرعة بديهة الأستاذ البنا وفطنته لأمر غاب عن كثير من الإخوان ، وكان درسا في رقة الشعور والإحساس.

وعلي ذكر شعبة الحجاري .. عقد الإخوان في شعبة محرم بك مؤتمرا، وفيما كان الأستاذ يلقي خطابه في هذا المؤتمر جاء إخوان شعبة الحجاري إلي المؤتمر بهتافاتهم المدوية: (الحجاري تحييك يا بنا ... الحجاري تحييك يا بنا) فقطع الأستاذ خطابه ورد عليهم في الميكروفون هاتفا (ومن للحجاري غير البنا) .. فاهتز المؤتمر بالتهليل والتكبير، وصارت مثلا ودعابة يستروح بها الإخوان .

حسن البنا والشيخ محمد الأنصاري

جاء لزيارة شعبة الإخوان المسلمون في حي محرم بك بالأسكندرية رجل في سن الخمسين من صعيد مصر، يرتدي جلبابا ويلبس في قدميه خفين، عرفنا بنفسه أنه محمد الأنصاري من الإخوان بمدينة الإسماعيلية ، ويعمل في هيئة السكك الحديدية في تركيب وخلع القضبان، وكان يأتينا علي فترات يمضي بعض الوقت في الشعبة ثم ينصرف دون أن يأبه له أحد أو يلتفت إليه شاب أو يهتم به الاهتمام الواجب فقد كانوا في شغل عنه.

وتمضي أيام ويعقد إخوان محرم بك مؤتمرا يحضره الأستاذ المرشد .. في قاعة اللقاء يري الأستاذ البنا الشيخ محمد الأنصاري بين الحضور، فيقبل عليه في حرارة واهتمام بالغ ويعانقه في حب وشوق، ثم يأخذه من يده ويجلسه إلي جواره في الصف الأول ... وحين تقدم الأستاذ البنا لإلقاء كلمته رحب بالأخ الضيف واحتفي به، وقال: يحضرنا في هذا اللقاء أخ من الرعيل الأول الذين عاصروا الدعوة منذ نشأتها في الإسماعيلية هو الشيخ محمد الأنصاري .

وكان درسا بليغا في التربية في معني الأخوة ومعرفة أقدار الناس، فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم علي الله لأبره!

ولم تمض شهور حتي قاد الإمام البنا أكبر مظاهرة فوق النصف مليون من الأزهر الشريف إلي فندق الكونتيننتال حيث يوجد زعماء العالم العربي للدفاع عن فلسطين المجاهدة، حيث أعلن الإمام إستعداد عشرة آلاف متطوع من شباب الإخوان لخوض غمار حرب العصابات ضد اليهود، وفي أثناء المسيرة الكبري أطلق رجال البوليس النار علي المتظاهرين بقيادة حكمدار بوليس القاهرة وأصيب الأستاذ البنا في يده، فنظر إلي موضع الإصابة في أصبعه وتمثل قول الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة:

هل أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

وفي نفس اليوم أصيب الشيخ محمد الأنصاري حيث استشهد رحمه الله.


حسن البنا ... وذي طمرين آخر من الإخوان المسلمين

يقول الدكتور "أحمد الملط": كنت في مستوصف "الإخوان المسلمين " في بدروم المركز العام بين من يعدون المجاهدين للذهاب إلي فلسطين عام 1948 م، أكشف علي "المجاهد" لأقول: هذا يصلح للجهاد أو لا يصلح.

وفي إحدي الليالي بعد الغروب بقليل، سمعت عويل امرأة في ميدان الحلمية الجديدة أمام المركز العام للإخوان المسلمين ، وخرجت لأستطلع الخبر، فوجدت عجوزا ومعها شابة وطفلان، يصرون علي لقاء الإمام حسن البنا.

وكان مدير الدار الأخ "الطوبجي" يحاول منعهم، ودعاني الفضول لأذهب وأري ما سيجري ... وكان الأستاذ بالدور الأعلي للمركز مع بعض مجالسيه، وعلا صوت المرأة بالصراخ مصرة علي لقاء "البنا" والطوبجي يمنعها.

ولما وصل الخبر إلي الأستاذ البنا أمر الطوبحي بإحضار السيدة ومن معها.

كل هذا كان يجري، والسيارات كانت معدة في الميدان لتحمل من المجاهدين من انتهي الكشف عليه ليتحركوا إلي فلسطين .. في انتظار الأمر بالتحرك .. وصعدت وراء السيدتين لأري ماذا سيفعلن مع الأستاذ الإمام حسن البنا.

دخلت كبراهن لتقول بالعامية الدارجة: "مش حرام عليكم يا بني تاخدوا عبد السلام وتسيبونا نجوع؟!" .. فقال لها الأستاذ: ما هي الحكاية يا سيدتي؟ فقالت: إبني عبد السلام باع البقرة والحمار .. واشتري بندقية ورايح يحارب في فلسطين، وإحنا عندنا فدان أرض مستأجرينه، وبناكل منه وبيتنا تخرب .. وأنتم أخذتم عبد السلام حرام عليكم .. فقال لها الأستاذ: يا سيدتي نحن أخذنا عبد السلام ولكن كل هؤلاء متطوعون .. فقالت: ولكنه مسافر خلاص.

فأمر الأستاذ البنا بإحضار عبد السلام .. وكان قد تم الكشف عليه، وصعد للسيارة استعدادا للرحيل .. ونادي المنادي علي "عبد السلام" للحضور للقاء الأستاذ البنا، ولكن عبد السلام تخفي بعد أن علم أنه المقصود، وعلم بوصول أمه وزوجته .. ولكن الأمر هو الأمر، أمر عسكري صارم .. إخواني: إن القائد يطلب أحد الجنود، فما كان من عبد السلام إلا أن سلم بالأمر الواقع، ونزل من السيارة ليلقي الأستاذ في مكتبه، ودون مقدمات دخل وسلم ثم قال: "اسمع يا أستاذ .. إن كنت فاهم أنني رايح فلسطين علشان تنبسطوا .. لا أنا رايح علشان أموت في سبيل الله، وادخل الجنة التي عرضها السماوات والأرض.

فقال الأستاذ القائد: يا عبد السلام .. أنت وراءك أطفال وزوجة وأم وهذا من صميم الجهاد في سبيل الله أن ترعي هؤلاء ولسنا الآن في حاجة إلي مثلك ممن يعولون ويوم أن نحتاج لمثلك لن نتواني في طلبك.

وإذا به يقول: "والله العظيم لرايح .. لا ابني ولا بنتي .. ولا مراتي .. ولا أمي حتنفعني" وخرج .. وأصدر الإمام القائد أمره بمنعه من الركوب في السيارة .. وإذا به يقسم أن يسير بطريقته الخاصة إلي فلسطين .. وينتهي المطاف به في "القنطرة شرق" حيث لقيه الإخوان وأخذوه معهم، وكان من أوائل الشهداء.


حسن البنا ... يحافظ علي جوهر الدعوة

أتمدونن بمال؟!

عندما فشلت أساليب الإرهاب والإعنات والتضييق التي استعملها المستعمرون الإنجليز وأذنابههم مع الإمام حسن البنا ليوقفوا تيار دعوته الجارف وليصدوه عن إثارة الوعي الإسلامي في نفوس الشعب ... عندما فشلوا في استخدام أساليب الترهيب، قالوا نحاول ترويضه فلم يأت معه أسلوب الوعيد بنتيجة، رأوا أن يجربوا معه طريقة الإغواء والإغراء فقد أفادت مع غيره.

وفعلا بدأ أحدهم يتصل بفضيلته في المركز العام الذي كان قد انتقل إلي 13 شارع أحمد عمر بميدان الحلمية الجديدة .. وتوالت الإتصالات، فهذا مسلم بريطاني يغار علي الإسلام والمسلمين، وذاك مستشرق يعشق الحقيقة وله عشق خاص بالدراسات الإسلامية ويحقق التاريخ الإسلامي، وتوالي (الغيورون) علي الأستاذ يتحدثون عن كفاءته وامتيازه والظلم الواقع عليه، كيف يكون هذا وقد كان أول دفعته، كيف يعمل مدرسا إبتدائيا ومن هم أقل منه أساتذة بالجامعات .. يا سيدي إن مكانك هناك في مدرجات الجامعة وليس في صفوف المدارس الإبتدائية!! وأفهمهم الأستاذ بأنه هو الذي اختار هذا الطريق وانصرف عن طريق البعثة لصالح الدعوة .. فقالوا وكأنهم لا يفهمون، الأمر ما زال في أيدينا ولا بد من رفع الظلم الواقع عليك .. واعتذر الأستاذ وقطع عليهم الطريق.

وجاء آخر يبدي إعجابه بنشاط الإخوان ، ويقول: إن الإمبراطورية من خططها معاونة الجمعيات الدينية والإجتماعية، وهي تقدر كثرة النفقات والأعباء الكثيرة التي تضطلع بها الجماعة، وهي لهذا تعرض مساعدتها بدون مقابل ولا بأس في ذلك .. ورفض فضيلة المرشد، ولكنه حاول أن يفهمه أن هذا أمر عادي نقوم به مع أصدقائنا، وقد سبق أن قدمنا مثل هذه المساعدات لجمعيات وأحزاب صديقة وزعماء ورؤساء نقدرهم ونعجب بنشاطهم، وهذا (شيك) بعشرة آلاف جنيه مساعدة من الإمبراطورية .. ورد الأستاذ بابتسامة: إنكم في حالة حرب وأنتم أكثر احتياجا إلي هذه الآلاف.

وظن بعضهم أن سعر السوق في دار الإخوان أعلي من هذا فرفع المبلغ، وكلما امتنع الأستاذ المرشد زاد في المبلغ، ولما لم يجد نتيجة للمحاولة، قال: يا فضيلة الأستاذ إني أريد أن أقدم لكم خدمة لا أكثر، ويدفعني إلي هذا حبي وتقديري، وهذا شيك علي بياض فاكتب الرقم الذي تريد ... ورفض فضيلة المرشد بكل إباء، وقال: إن المال لا يشتري به غير العبيد، وما دمتم تتعاملون مع الشعوب بهذه الطريقة، وما دامت هذه عقليتكم في سياسة مستعمراتكم فإن ملككم زائل لا محالة.

ويقول: لقد عرفت كيف يتعاملون مع زعماء الأحزاب وقادتنا السياسيين .. لقد كانت الكلمات تنزل علي صدري نزول الخناجر .. وتمثلت قول سليمان فيما روته عنه الآيه الكريمة (فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون).

في الرد إستهزاء بالأسلوب الرخيص الذي استخدمه الإستعماريون في سياسة مستعمراتهم وشراء ذمم القادة والزعماء ... وفي الرد استهزاء بالمال واستنكار للاتجاه إليه في مجال غير مجاله، مجال صاحب العقيدة وصاحب الدعوة.

وللأسف كان في صفوف الجماعة من خالف القائد في نظرته، وكانت حجته في ذلك، لما لا نأخذ المال ونستعين به عليهم؟! ..

وكان جواب القائد: إن اليد التي تمتد، لا تستطيع أن ترتد، وإن اليد التي تأخذ العطاء لا تستطيع أن تضرب .. إننا مجاهدون بأموالنا وليس بأموال غيرنا، وأنفسنا وأرواحنا لا بأرواح غيرنا.

الإمام ومندوب السفارة الإنجليزية

أتي مبعوث السفارة الإنجليزية إلى دار المركز العام للإخوان المسلمين وقابل الإمام وقال له: “إنَّ الإمبراطورية من خططها مساعدة الجمعيات الدينية والاجتماعية، وهي تقدِّر جهودكم ونفقاتكم؛ لذلك فهي تعرض عليكم خدماتها بدون مقابل، وقد قدمنا مساعداتٍ لجمعية كذا وكذا ولفلان و فلان، وهذا شيك بعشرة آلاف جنيه معاونة للجماعة”، فتبسَّم الإمام وقال: “إنكم في حالة حرب وأنتم أكثر احتياجًا إلى هذه الآلاف”، فأخذ المبعوث يزيد في المبلغ والإمام الشهيد يرفض، وكان بعض الإخوة يتعجبون ويتهامسون:” لم لا نأخذ المال ونستعين به عليهم”، فكان جواب الإمام: “إنَّ اليد التي تمتد لا تستطيع أن ترتد، واليد التي تأخذ العطاء لا تستطيع أن تضرب، إننا مجاهدون بأموالنا لا بأموال غيرنا وبأنفسنا لا بأرواح غيرنا”.

الله غايتنا

في عام 1938م عقد طلاب الإخوان المسلمون مؤتمرا بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة وعندما وقف الإمام البنا للخطابة، إذا بأحد الإخوة من الطلاب تجيش عواطفه وتأخذه الحماسة فيهتف (بحياة حسن البنا)!! .. وبالرغم من أن هذا الهتاف لم يكن إلا صيحة في فلاه، لم تجد من يستجيب لها من الحضور، فقد وجدنا فضيلته يقف صامتا والأنظار تتطلع إليه وكأن شيئا قد حدث، وما هي إلا لحظات حتي بدأ حديثه في غضب، فقال: أيها الإخوان إن اليوم الذي يهتف فيه في دعوتنا لأشخاص لن يكون ولن يأتي أبدا .. إن دعوتنا إسلامية ربانية، قامت علي قاعدة "لا إله إلا الله"، فلن تحيد عنها .. أيها الإخوان لا تنسوا في غمرة الحماس، الأصول التي آمنا بها وهتفنا لها من كل قلوبنا "الله غايتنا" فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالي، والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم .. (يا أيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) .. "والرسول قدوتنا" (إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

وبهذا الموقف الذي جاء في حينه، وضع حسن البنا شباب الإخوان أمام درس عملي للمحافظة علي جوهر الدعوة وأصولها الربانية، التي لا تقر قيام روابط المؤمنين بها علي (الأشخاص) مهما تكن مراكزهم في المجتمع أو في مسيرة العمل الإسلامي.

استمع إليه وهو يشرح هذا الهتاف، ويعمق معانيه في النفوس حين يقول:

لله غايتنا: (إن دعوة الإسلام أيها المسلمون مبدؤها ومنتهاها أن يتصل الناس بالله صلة حقيقية تطهر من قلوبهم وتغير من نفوسهم، وأن يتعرفوا عليه تعرفا حقيقيا، وهي الغاية التي قامت عليها السموات والأرض، وبعث لأجلها النبيون ويقوم بها الصالحون .. فالناس لا ينصلحون ولا تنصلح أحوالهم ألا إذا عرفوا ربهم .. ونريد نحن الإخوان أن نقيم الناس علي أمر الله، وذلك لن يكون إلا إذا عرفوه، وتفتحت قلوبهم عليه، فإذا لامست معرفة الله قلب إنسان تحول من حال إلي حال، وإذا تحولت الأسرة تحولت الأمة، وما الأمة إلا مجموعة أسر وأفراد .. إننا حينما نهتف بأن الله غايتنا، فإنما نريد أن تعلوا كلمة الله علي كل كلمة، وأن يسود شرع الله علي كل تشريع، وأن يصبح المسلمون جميعا ربانيين .. إذن فغايتنا الله، لأننا ندعوا الناس إلي الله، ونجمعهم علي الله، ونعرفهم بالله، ونحن نعلم أننا ما خلقنا في هذا الوجود إلا لعبادته (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ... ويقول الله تعالي في الحديث القدسي: "يا عبادي ما خلقتكم لأستكثر بكم من قلة، ولا لأستأنس بكم من وحشة، ولا لأستعين بكم علي أمر عجزت عنه، ولا لجلب منفعة، ولا لدفع مضرة، وإنما خلقتكم لتعبدوني طويلا وتذكروني كثيرا وتسبحوني بكرة وأصيلا" ... ونحن نأتمر بما أمر الله به رسوله صلي الله عليه وسلم، إذ قال له: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) ... وننصح لما نصح به الرسول صلي الله عليه وسلم ابن عمه عبد الله بن عباس، إذ قال له: "إحفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت علي أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا علي أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف".

فنحن لا نتوكل إلا علي الله، ولا نطلب إلا من الله، ولا نخاف إلا الله، فلن نضام ما دام معنا الله، فنحن في نعيم دائم، ولو تكاثرت علينا مصائب الدنيا (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

حسن البنا ... والدكتور أحمد الملط

قال الدكتور أحمد الملط نائب المرشد العام للإخوان المسلمين : كنت أعمل في أحد الأيام في المركز العام للإخوان المسلمين .. لا أذكر ماذا كنت أفعل، ولكني كنت مرتبطا بمستوصف الجماعة بالحلمية الجديدة الذي كان في البدروم للمركز العام، وبدا لي أن أسأل الأستاذ المرشد في شيء ما لا أذكره الآن، فذهبت إليه .. وفي صحن الدار وقفت أمامه لأحكي حكايتي.

وكنت وقتها حديث التخرج (فرحان بشبابي) فالبدلة مكوية .. والحذاء ملمع، وربطة العنق مسواة، والمنديل في جيب المعطف ذي ثلاث شعب ..

وبدأت حكايتي .. واستمع لي الإمام في صمت وأناه، وأنا مستمر في حكايتي وإذا بيده تمتد إلي جيبي الخارجي، وكلما استمر تدفق الكلمات من فمي، كلما استمرت أصابعه في دفع المنديل إلي داخل الجيب .. وتسمرت عيناي علي أصابعه وهي ما زالت تدفع بالمنديل .. وهنا اهتززت من الداخل، وشعرت أن هذا القائد الكبير يقول لي: "ليس من صفات الإخوان وضع المنديل في الجيب، ولا تلميع الشعر، ولا غيره من تخنث الشباب، ولكن الجد هو الصفة الأولي لكل من يدعي الانتماء إلي تلك الجماعة. ومن يومها وحتي يومنا هذا، وحتي ألقي الله جعلت هدفي الجد في كل شيء. وهذا ما أدعو إليه الإخوان جميعا من شباب، ومن شيب، أن يكون "الجد" هو الطريق الوحيد لنصل إلي أهدافنا، فليس هناك متسع للهزل في دعوتنا دعوة الحق والقوة والحرية ولا شك.

درس آخر في رشيد

في مدينة رشيد أقام الإخوان حفلا بمناسبة ذكري (الإسراء والمعراج) علي صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وحضره فضيلة المرشد.

وحين جاء دور أحد الدعاة في الخطابة، وكان من المتحمسين لنشر دعوة الإخوان ، قام فقال: إن مثلنا الآن من فضيلة الأستاذ المرشد (وهو يشير إليه) كمثل رسول الله صلي الله عليه وسلم بين أصحابه .. وما كاد الأستاذ المتحدث ينتهي من التلفظ بهذه العبارة، حتي نهض الأستاذ البنا مسرعا إلي المنصة واتجه إلي الناس وهو يقول: (أيها الإخوة معذرة إذا كان الأستاذ المتحدث قد خانه التعبير، فأين نحن من تلامذة تلامذة رسول الله صلي الله عليه وسلم!!) .. ثم عاد إلي مكان جلوسه.

وانتظر الناس أن يستأنف الأستاذ المتحدث كلامه، ولكنه لم يفعل، وفي اليوم التالي انقطع إتصاله بالإخوان ، وبعد مدة أعلن عن تكوين جمعية باسم (التقوي والإرشاد) بالأسكندرية .

والحق أن الأستاذ البنا لم يكن باستطاعته السكوت علي مثل هذه (الأقوال) .. ذلك أنها كانت تمس الأصل الأول الذي قامت عليه دعوته، وأراد بناء جماعته علي أساسه، فقام في الحال ليقطع مسلكا من مسالك الانحراف عن طريق الدعوة الرباني، فهو الذي يعلم الإخوان أن لا يهتفوا باسم أحد إلا الله، ولا يعظموا شخصا ولا يحيوا إنسانا إلا الرسول الكريم.

الوزارة

اتصل فؤاد سراج الدين في بداية بريقه بالإمام، وقال له: “أريدك في أمر هام”، فقال الإمام: “وما هو يا فؤاد باشا؟”، فقال الباشا: “أريدك معي في وزارة الشئون الاجتماعية”، فقال الإمام: “أنا موظف أعمل بالحكومة في أي مكان أنتج فيه، و لكن لي شرط واحد يا باشا”، فقال الباشا: “وما هو؟”، فقال الإمام: “أن أنقل في نفس الدرجة وبنفس المرتب”، فقال الباشا: “مستحيل فسيكون تحت أمرك من هو بدرجة مدير عام”، فقال الإمام: “آسف يا باشا وأنا متمسك بشرطي”، فقال الباشا: “أنا لا أستشيرك في الأمر، ولكني أخبرك، وسيصدر المرسوم الملكي بهذا الأمر”، فقال الإمام: “سأعتذر ولن أحرج وسيكون الحرج لك وللوزارة”.

حلال المشاكل

يقول الأستاذ عمر التلمساني: “كان الإمام حلالاً للمشاكل في بساطة ويسر ناجحين؛ ففي مركز من المراكز شعبة يرأسها ناظر مدرسة إلزامية، انتقل إلى هذا المركز أخ أكثر علمًا من الناظر، وبعد أيام قلائل قال الناظر للوافد الجديد: “يا أخي إنها أمانة، فأنت أحق بحملها مني، فاقبل رئاسة الشعبة وارحمني يرحمك الله”، فرفض الأخ في إصرار قائلاً: “إن أهل مكة أدرى بشعابها”، وصمَّم كل منهما على رأيه، ورُفِع الأمر إلى فضيلة المرشد، فقال لنائب الشعبة: “لماذا تصر على أن يكون أخوك هو نائب الشعبة؟”، قال: إنه أعلم مني، فقال الإمام: “هب أنه قبل، وزاول عمله فأخطأ، فمن يصلح خطأه؟ وأنت كما تقول دونه علمًا، فابق في مكانك فإن أخطأت أصلح لك خطأك، أليس هذا صحيحًا؟”، قال: بلى، وانتهى الأمر بهذه البساطة، وهذه الحنكة.

لا هتاف بالأشخاص

في مؤتمر الطلاب انعقد بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة عام 1938 م خطب الإمام فتحمَّس أحد الإخوة من الطلاب، فهتف بحياة حسن البنا، وبرغم عدم استجابة الحاضرين لهذا الهتاف إلا أنَّ الأستاذ المرشد وقف صامتًا لا يتحرك برهة، فاتَّجهت إليه الأنظار في تطلع.. ثم بدأ حديثه في غضب قائلا: “أيها الإخوان إنَّ اليوم الذي يُهتف في دعوتنا بأشخاص لن يكون ولن يأتي أبداً، إنَّ دعوتنا إسلاميةٌ ربانيةٌ قامت على عقيدة التوحيد، فلن تحِيد عنها، أيها الإخوان لا تنسوا في غمرة الحماس الأصولَ التي آمنَّا بها وهتفنا بها: (الرسول قدوتنا) ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾ (الأحزاب).

في مدينة رشيد أقام الإخوان حفلاً بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج، فتحدث أحد الإخوة المتحمسين فقال: “إن مثلنا الآن من الأستاذ المرشد- وهو يشير إليه- كمثل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه”، وما كاد الأستاذ المتحدث ينتهي من هذه العبارة حتى قفز الإمام إلى المنصة، ثم اتَّجه إلى الناس قائلاً: “أيها الإخوة، معذرة إذا كان الأستاذ المتحدث قد خانه التعبير، فأين نحن من تلامذة تلامذة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-”، ثم نزل إلى مكانه.

دعوته في المقاهي

يقول الإمام في مذكراته: “عرضت على زملائي وأنا طالب بدار العلوم أن نخرج للوعظ في المقاهي، فعارضوا، وكنت أخالفهم في هذه النظرة، وكنت أعتقد أن كثيرًا من روَّاد المقاهي فيهم خير، وقلت لزملائي إنَّ العبرة بحسن اختيار الموضوع، فلا نتعرَّض لما يجرح شعورهم، وبطريقة العرض، فتعرض بأسلوب شائق جذاب، وبالوقت، فلا نطيل عليهم القول، وقمنا بالتجربة، فألقيت في أول ليلة أكثر من عشرين خطبةً تستغرق الواحدة منها ما بين خمس دقائق إلى عشرة، ولقد كان شعور السامعين عجيبًا، وكانوا دائمًا بعد الخطبة يقسمون أن نشرب شيئًا، فنعتذر لهم بضيق الوقت، وبأننا نذرنا هذا الوقت لله، وكان أسوتنا قولُ كلِّ رسول: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ (الأنعام: من الآية91). ونجحت التجربة مائة في المائة بفضل الله وتوفيقه”، وكرَّر الإمام هذا الأسلوب وحده في الإسماعيلية عندما تخرَّج، وعُيِّن مدرسًا هناك، فنجح بفضل الله.

ويقول أيضا الإمام في مذكراته: “كنت أؤذِّن الظهر والعصر في مصلى المدرسة، وكنت أستأذن المدرس- إذا كان وقت العصر يصادف حصةً من الحصص- لأداء الأذان، وكان بعض الأساتذة يسمح وهو مسرور، وبعضهم يريد المحافظة على النظام، فأقول له :لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأناقشه مناقشةً جادةً لا يرى معها بُدًّا من السماح حتى يتخلص منها ومني”.

دعوتنا لكل الناس

زارَ الإمام محافظة سوهاج، وبعد انتهاء المؤتمر دُعِي إلى مائدةٍ، وجلس بجواره أحد الإخوة، وكان هذا الأخ يتمنى أن تُتاح له هذه الفرصة ليهمس في أذن الإمام بأمر هام، فقال له: يا أستاذ إنَّ الدعوات لا تُقاس بالكمِّ وإنما بالكيف، فماذا لو وضعنا ضوابطَ للذين يريدون الانتساب.. كأن نحدد لهم قدرًا من الثقافة الإسلامية يدرسونه، ويظلون زمنًا في إطار الانتساب وتحت الاختبار، ثم ينقل الصالح منهم إلى العضوية العاملة؟ فابتسم الإمام، وقال: “يا فلان هل تريدون مني ما لم يرده الله من أنبيائه ورسله وهم صفوة خلقه؟! إننا دعوة لكل الناس وليست لفئةٍ محدودةٍ، يتربَّى فيها كل من يريد أن يخدم الإسلام مهما كانت مكانته وثقافته، وكلٌّ ميسَرٌ لما خُلِق له، ومن يدري فلعل هذه الدعوة تواجه محنًا عاتيةً، تعدون فيها الرجال على الأصابع، وجاءت المحن العاصفة، وثبت كثير من الذين نحسبهم بسطاء في مكانتهم وثقافتهم، ولكنهم تخلقوا بمقومات الرجولة فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وسقط آخرون من أصحاب الثقافة الواسعة، والشخصيات اللامعة، ولله في خلقه شئون”.

مصلحة البلد

حين صدر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين في الثامن من ديسمبر عاد 1948 م في عهد النقراشي ، وكان ما كان من محنة وبلاء واعتقال وإيذاء، حينئذ ذهب بعض الشباب إلى الإمام ليستأذنوه في المقاومة حسب الطاقة، فنهاهم بشدة عن هذا الأمر، وأوضح لهم عاقبته الوخيمة، وذكَّرهم الإمام الشهيد بالقصة المشهورة عن نبي الله سليمان حين اختصمت امرأتان على طفل وليد، وادَّعت كلتاهما ببنوته، فحكم بشطره نصفين بينهما، وبينما وافقت المرأة التي لم تلد على قسمته، عزَّ ذلك على الأم الحقيقية، وآلمها قتل فلذة كبدها، فتنازلت عن نصيبها فيه لقاء أن يظل الطفل متمتعًا بحياته، ثم قال لهم الإمام: “إننا نمثِّل نفس الدور مع هؤلاء الحكام، ونحن أحرص منهم على مستقبل هذا الوطن وحرمته، فتحملوا المحنة ومصائبها، وأسلموا أكتافكم للسعديين ليقتلوا ويشردوا كيف شاءوا، حرصًا على مستقبل وطنكم، وإبقاءً على وحدته واستقلاله.

ومن مواقفه أيضًا..

أنه دُعِي إلى حفل في مدينة الزقازيق، وكانت الإضاءة بواسطة الكلوبات، فهوى إلى الأرض محشرجًا مدخنًا يكاد ينفجر، ولو انفجر لدمَّر السرادق، ولكان الحريق مروعًا، وهرول الناس مبتعدين عن هذا الكلوب الخطر، وفي كل بساطة وثقة وشجاعة وهدوء، ترك الإمام المنصة، وأخرج مدية الجوالة من جيبه، وتقدَّم إلى الكلوب في غير هرولة، وفصله عن السقف، وحمله إلى خارج السرادق، وعاد الهدوء والأمن، واستُكمِل الحفل على خير وجه.

الاقتداء بالرسول

يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله”: ذهبت مع الإمام مرة إلى مدينة طوخ بالقليوبية، وكان الحفل حاشدًا، والهتافات عالية، وفي الطريق سألني فضيلته: “ما رأيك في الحفل؟”، قلت: “إن الصخب شديد، والأصوات العالية، لا تطمئنني كالطبل الأجوف”، قال: “اسمع، نحن على قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يعرض نفسه على الناس في الأسواق، فلا يلقى إلا السخرية والإيذاء، فهلا نصبر على بطء الاستجابة، إننا لو خرجنا من هذه الآلاف بواحد فقط، فذلك خير من الدنيا وما فيها”.

تأليف الرجال

طلب كثير من الناس الغيورين من الإمام أن يؤلف كتبًا يودعها ما عنده من معارف بهرت عقول كبار العلماء، فكان رده عليهم: “أنا لا أؤلف كتبًا، وإنما مهمتي أن أؤلف رجالاً أقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه” فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلى الناس، ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم، ويبثهم كل ما في قلبه ونفسه وعقله، ويؤلف منهم رجالاً كما ألف هو من قبل.

كانت الجامعة- في بداية عهدها- خاليةً من الإعلان بمظاهر الإسلام، حتى الصلوات كانت تؤدَّى تحت الأرض، وفي أماكنَ باليةٍ وعلى استحياء، فقال الإمام لأحد الطلاب: “ أذِّن للظهر في مكان مرأي بأعلى صوتك، واصبر”،

ففعل الطالب، فدُهِش الطلاب والفراشون، والموظفون وكانت إحدى العجائب، فصلى السنة، ثم أقام الصلاة، وصلَّى وحده، والجموع حوله تتعجب، وفعل في اليوم التالي مثل ما فعل بالأمس، وبعد أيام قلائل زاد العدد واحدًا بعد الآخر، وهكذا لما جاء الحق وصمد، زهق الباطل وفرَّ.

درس في النظام

أعلن الإمام عن رحلة إلى الإسماعيلية ، فجاء الإخوان المشتركون في الموعد المحدد، وجاء الأتوبيس، وكان عدد الإخوان أكثرَ من عدد المقاعد، فلما أذن الأستاذ المرشد بصعود الأتوبيس، إذا بمجموعة من الشباب تسارع وتزاحم ليحجز كل واحد مقعدًا يجلس عليه، فلما رأى الأستاذ هذا المشهد ألغى الرحلة، وكان درسًا عمليًّا في مراعاة النظام، والتدريب على الإيثار.

ثبات على المبدأ

عندما قام الإخوان بعمل مظاهرات في البلاد انتصارًا لقضية فلسطين عام 1936م استدعى رئيس النيابة في القاهرة الإمام للتحقيق معه، وقبل أن يدخل مكتب النائب العام تقدَّم أحد الإخوة المحامين يطلب من الأستاذ المرشد أن يدخل معه أثناء التحقيق، ولكن الأستاذ لاحظ أن المحامي يمسك (بسيجارة) مع العلم بأن الوقت في شهر رمضان المعظم، فقال له الأستاذ المرشد: “نحن لا نستعين بمن يعصي الله في طاعة الله تعالى”.

روح الجهاد

يقول الأستاذ عمر التلمساني: “لقد أحيا الإمام روح الجهاد في نفوس أبناء هذا الجيل، وتأثَّر الإمام، وتأثر الشباب، وتأثر آباؤهم وكانت مواقف رائعة، استشهد أحد أبناء الإخوان في فلسطين، فذهب الإمام إلى والد الشهيد ليعزيه، فسمع الناس ورأوا درسًا باهرًا؛ قال الوالد للإمام: “إن كنت جئت معزيًّا فارجع أنت ومن معك، وأما إن كنت جئت لتهنئني فمرحبًا بك وبمن معك، لقد علمتنا الجهاد وبيَّنت لنا ما فيه من عزة ورفعة في الدنيا والآخرة، فجزاك الله خيرًا، وإني لحريص على مضاعفة الأجر، فها هو ولدي الثاني، أقسمت عليك لتصحبنَّه إلى ميادين الجهاد ”، فانهمرت دموع، وعلا تشنج، وتصاعدت زفرات وارتج على الإمام من روعة الموقف.

سلامة صدر

يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله: “غاضبت الإمام مرة وانصرفت، وشعرت بخطئي، فعدت في اليوم التالي معتذرًا، فلم يقبل، وأمرني بالرجوع من حيث أتيت!!، فعدت كاسف البال، ولكن لست ناقمًا، وما راعني إلا أنني بعد عودتي إلى منزلي، أجد باب المنزل يدق، وإذا به الإمام ومعه أحد الإخوان ، ويقول جئنا لنتغدَّى عندك”!


الإمام البنا ومنهج التربية علي الحب

كان الإمام البنا فريدًا في أساليبه التربوية التي انتهجها لتربية أبناء هذه الدعوة ورجالها علي المفاهيم والمعاني الإسلامية، ومن أهم المعاني والمفاهيم التي كان حريصًا عليها (الحب والأخوة والترابط) بحيث جعلها أصلاً أصيلاً في التربية والبناء وعنصرًا أساسيًّا في مكونات الشخصية المسلمة النموذجية، بل وجعل الأخوة ركنًّا من أركان البيعة العشرة التي يبايع عليها الإخوان المجاهدون.

وهنا نستعرض لقطات من أساليبه التربوية أثناء دروسه ومحاضراته في لقاء الثلاثاء، أو عاطفة الثلاثاء كما كان يسميه، ونري كيف كان يؤلف بين قلوب المئات والآلاف من أتباعه ومريديه، ويغرس فيهم روح الأخوة والوحدة، ويعمق بينهم مشاعر الحب والترابط، وهذه مقتطفات من كلماته التي كان يبث من خلالها أسلوبه الخاص في التربية علي الحب.

أولاً: لماذا نلتقي؟

يقول الامام البنا: “جميل جداًّ أن يقف الإنسان هذا الموقف من هذه الصفوة الطيبة والنخبة الممتازة من الشباب المؤمن الطهور الذي ما جمعه هذا الجمع وما ألف بين قلوبه هذا التآلف إلا دعوة صالحة وكلمة صالحة وغاية صالحة من أهل الصلاح، الصلاح للدنيا والصلاح للآخرة، والصلاح للحق وبالحق.. إنه نعم المولي ونعم النصير..

وتري أيةَ مغفرة وأية رحمة وأي فيض يتنزل في هذا المجلس الكريم الذي ينعقد في الله ولله؟!.. أية رحمة؟! أية مغفرة؟! أي فيض ينزل علينا نحن- المجتمعين- في روضة من رياض الجنة؟! .. أليس اجتماعنا من حلق الذكر.. ورسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: “إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا.. قالوا وما رياض الجنة يا رسول الله قال: حلق الذكر”.

ويقول صلي الله عليه وسلم: “وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في ملأ عنده”.

أيها الإخوة الأحباء.. ألم نجتمع نحن في بيت من بيوت الله؟ إن لم يكن مسجدًا فهو ملحق بالمساجد في الغاية التي أنشئ من أجلها المسجد والتي يعمل له.. أليس تقام فيه الصلوات وتصلي فيه الجمع؟.

دائمًا يجتمع فيه الإخوان للتآزر علي البر والتقوي.. ألسنا نتذكر كتاب الله ونتدارسه؟ فأبشروا أيها الإخوان .. فإن الملائكة تحفنا، وإن رحمة الله تغشانا، وإن السكينة تتنزل علينا.

- وللترابط والتآخي.. نلتقي

وأحب أيها الإخوان أن ألفتكم إلي ما أشعر به من هذه العاطفة، وإلي ما يجب أن يكون.. ذلك أن القصد من هذا الحديث ليس هو مجرد الفائدة العلمية أو الروحية فحسب، نحن أيها الإخوان لا نقصد من هذا الاجتماع أن نتقدَّم إليكم بكثير من الحقائق العلمية، تستفيدون منها، ولا أن نؤثر في أرواحكم تأثيرًا هو في النهاية تأثير ضروري لمن يستمع لكتاب الله تبارك وتعالي ويتدبره، لا أقصد إلي هذين المعنين وحدهما، ولكن أقصد إلي فائدة عملية، ذلك أن نتَّخذ من لقائنا في هذا الاجتماع حول هذا الحديث وسيلة لتعارفنا وتواصلنا، وليأنس بعضنا بلقاء بعض، فتتجاذب النفوس، وتتواصل القلوب، وتحتك الأفكار، ولنتبادل في هذا الحديث وفي هذا اللقاء جلسةً ندرس فيها كثيرًا أو قليلاً من نواحينا العلمية.

فهذه الليلة كما اتفقنا ليست للتدريس ولا لتحصيل العلم والمعارف ولكن لتلاقي القلوب وتوجيه الأرواح، ثم بعد ذلك نتفاهم كما تتفاهم الأسرة الواحدة، فهذا يتحدث في موضوع من الموضوعات وهذا عنده مسألة تهمه، فكلامنا كلام مدارسة لشئوننا من جهة، ومن جهة أخري عرض لمسائلنا عرضًا سريعًا كما تعرض الأسرة أمورها، فيما تريد أن تتجه إليه.

- رابطة العقيدة .. تجمعنا

وليس في الدنيا ما هو أقوي ولا أعز ولا أقوي من رابطة الإسلام بين أبنائه؛ فالمسلمون مهما تباعدت ديارهم واستطالت المسافة بينهم لا تزال تجمعهم كلمة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.

عقيدة ألفت بين قلوبهم ووحدت بين أرواحهم، وإلا فما الذي جاء بكم إلي جلسة ليس فيها نفع مادي اللهم إلا متعة الروح ننعم بها ونسعد بلذتها حين نقطع هذه اللحظات في الحديث عن الإسلام ومحاسن الإسلام من أزاهير رياض الدوحة اليانعة، فتحسون أيها الإخوة بالأثر العميق الذي لا يمكن أن يكون إلا من فيض الله تبارك وتعالي.

- أصول دعوتنا: إيمان وحب

حديثي إليكم الليلة أيها الإخوان .. يتناول المقدمة المعتادة التي تحلو كلما تكررت، والتي تنبع صافيةً نقيةً من أعماق القلب وقرارة النفس، والتي تبدو دائمًا براقة من فيض الله تبارك وتعالي. كان من الملاحظات التي شافهني بها أحد الإخوان ، ولا أدري لِمَ كان منه هذا؟!

قال لي إننا نقطع بعض الوقت في هذه المناجاة العاطفية التي نفتتح بها المحاضرة، وليعذرني الأخ إذا قلت له، إن هذه المناجاة وتلك المكاشفة القلبية تمليها العاطفة وتوحي بها الإخوة، ويراد بها الوصول إلي الهدف العملي لا مجرد القول، إني أترقب هذه الليلة وكلما وقفت هذا الموقف لم أتمالك نفسي أن أفاجئكم بهذه المقدمة، فإني أريد أن ألفت أنظاركم إلي هذه الفكرة الإسلامية، وهي معني التآخي في الله، وفي مرضاة الله، وإلا فكيف يقول صلي الله عليه وسلم: “وهل الإيمان إلا الحب والبغض”.

هذا الإيمان هو الذي نهض بالمجتمع الإسلامي، وصار جزءًا من حياتهم فخلَّد ذكرهم، وأعلي منارهم.

﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَي نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23). وأنا أستطيع أن أقول إن هذا الإيمان وحده يؤدي إلي الجنة، بل وإلي أعلي فراديسها، متي قام علي الحب في الله، والتآخي في الله، فهو الذي يجمع شمل الأمة، ويحل مشاكلها. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ (التوبة: 71).

بهذين الجناحين حلق الإسلام في سماء العزة والمجد، ولا أكون مغاليًا إذا قلت إنه لا يتصور إيمان بغير محبة، ولا محبة بغير إيمان قال تعالي: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَي عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)﴾ (آل عمران).

فما فرَّ المؤمنون كفر جحود، ولكنهم اختلفوا بعد وحدة، وتفرقوا بعد جمع، وهو أمرٌ يتنافي مع الإيمان، وما الإيمان إلا الوحدة والحب، وصدقوني أنه لا يفقد المسلمون شيئًا أكثر مما يفقدون من هذين العنصرين، فالمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء.

برأيكم أية ناحية من نواحي الخير أعلي وأسمي من تلك الناحية التي اعتز بها الإسلام؟ قال صلي الله عليه وسلم: “إن من عباد الله أناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالي”، قالوا يا رسول الله أخبرنا من هم؟ قال: “هم قوم تحابوا بروح الله علي غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلي نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس” ثم قرأ هذه الآية: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس: 62) .

- ولنا في الصالحين قدوة

وأقف من هذا الحديث علي واقع الحياة التي عاشها المسلمون الأول:

“مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم”. هذا المعني طفقت أتلمسه في حياة هؤلاء الأسلاف، وإنك لتجد فيهم صورًا عدة، أما حياتنا التي نحياها فقلما تعثر علي تلك الصور، ولعلنا نتسلي بهذا الجمع الذي يجمعكم خطر ببالي هذا الحديث الشريف، أو تصورته، لا كما نتصور الكلمات، ولكن تصورته ورأيته كأنه يرسم أمامي …

قرأت أن رجلاً في إحدي المواقع الحربية أصيب بالسيف فحضرته المنية، وما تأوه ولا صاح ولكنه خرَّ صريعًا كما تخر الأبطال، ليس هذا الذي أسوق له الحديث، انظر: تقع ضربة السيف علي عاتقه، فإذا أخ آخر بجواره يصيح وذاك يصيح، والمضروب لم يصح، بل يتشجع لأنه مؤمن يعلم أن الضربة ستودي به إلي الجنة، ولكن انظر إلي جاره وهو يقول: آه.. كأن الضربة قد نزلت به: أخي سبقتني إلي الجنة، هذا المعني صور لي قول رسول الله صلي الله عليه وسلم “تري المؤمنين في توادهم وتراحمهم “ … لم يتأوه المضروب، لكن تأوه له أخوه، كأنهما حقيقة واحدة”.. والذي يزيد هذا المعني روعةً أن الذي نطق لم ينطق بها تكلفًا بها ولكن إحساسًا بألم أخيه.

- كذلك يطالعنا تاريخ السلف بما يدلك علي أن المجموعة كلها كالجسد الواحد، تعمل بعمل واحد، وتشعر بشعور واحد، حتي في أحرج المواقف.

رُوِي أنَّ سريةً من المسلمين خرجت للغزو، وكان بينها وبين العدو مخاضة، وقف الفريقان، فقال رئيس السرية: ما وقوفكم من عدوكم وزادهم وماؤهم يرد إليهم بدون عناء وبأقل مشقة، وما هو الرأي؟ فقال نخوض عليهم هذه المخاضة وتغزوهم في عقر دارهم:﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَي فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (الأنفال: 16)

فاقتحموا عليهم هذه المخاضة، وأقحموا فيها خيلهم، فإذا بالعدو يري سريةً مسلولةَ السيوف مفتولةَ السواعد، ثم يصبح فيهم صائح: (قعبي قعبي.. وقع مني في البحر) يقصد قدحًا له من الخشب.. فإذا بصوت أمير الجماعة يقول: ابحثوا لأخيكم عن قعبه.. فيبحثون عنه، والعدو ينتظرهم، والموت يرفرف علي رءوسهم، فلما رأي رئيس الأعداء حالتهم هذه، قال: ما هذا؟ قالوا إن واحدًا منهم قد ضاع قعبه وهم يبحثون له عنه، فقال هذا الرئيس: إذا كان هذا شأنهم في قعبهم فما بالكم لو قتلتم منهم واحدًا؟‍ يا قوم صالحوهم علي ما يريدون.

فكان هذا المعني كافيًا في فشل الأعداء، ونصر المؤمنين وفتح تلك المدينة.

– وعلي درب الصحابة نسير

أيها الأخوة الفضلاء.. إنَّ ما تثيره في نفسي الليلة عاطفة الثلاثاء شعورٌ من نوع جديد؛ فهو رجوع بالذهن والفكر والقلب معًا إلي بطن الصفا.. بدأت نفسي تحس هذا الشعور وبدأت تتجِّه هذا الاتجاه أوَّل ما وقفت في صلاة المغرب الليلة وتلفتُّ إلي الإخوان ، تلفتُّ من ورائي لأسوي الصفوف، ولأنزل عند هذه السنة.

فما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يكبِّر للصلاة حتي ينظر خلفه، فإما أن يسوي الصفوف أو يأمر رجلاً فيسوي الصفوف للصلاة، وكان يقول صلي الله عليه وسلم: “سووا صفوفكم: صفوا الأقدام والمناكب، ولينوا بأيدي إخوانكم”.

وقفت ونظرت إلي الإخوان ، وكانت هذه النظرة هي التي ذهبت بفكري وقلبي إلي بطن الصفا، حيث كان يجتمع رسول الله- صلي الله عليه وسلم- في أول دعوته مع نخبة من مختلف الأعمار والمنازل، “ فمنهم الصبي، ومنهم الكهل، ومنهم الشاب، ومنهم الغني، ومنهم الفقير، ومنهم الظاهر، ومنهم المغمور، ومنهم اللقن المثقف، ومنهم الأمي العامي … منهم العبد ومنهم الحر، وهم جميعًا في عدد الأصابع لا يزيدون عن الآحاد ولا يصلون إلي المائة.. يجتمع صلي الله عليه وسلم مع هذه النخبة في بطن الصفا بفيض عليها من روحه الكريم، ويلقنها من كتاب الله العظيم، ويملي عليها من آيات الوحي الإلهي.. ويكون منها الأمة الجديرة بالدعوة الجديرة للعام الجديد.

والله يا إخوان كدت أنسي التكبيرَ في الصلاة؛ لأني كدت أغلب في تصور هذا الموقف، وفطريت النفس علي ما في النفس، وانتهزت فرصة هذه الوقفة بينكم لأنفس عن نفسي بعض ما في نفسي.. لم لا يكون؟‍ من هذا الانعقاد – الصفا – ومن هذه الفئة الخلف لتلك الفئة السالفة؟، ولم لا تلقون الدعوة الجديدة لتكون منكم الفئة الجديدة، التي يبني عليها العالم الجديد، يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحق لا يضرهم من خالفهم “، وجاء في بعض الأثر “الخير في وفي أمتي إلي يوم القيامة “.. وطالعت في أشخاصكم وفي صدوركم هذه النخبة الكريمة بين يدي رسول الله- صلي الله عليه وسلم- التي تبدأ بابن التاسعة إلي ابن الأربعين.. مجموعة فيها الفقير الذي لا يجد قوت يومه، والغني الذي وسَّع الله عليه في رزقه.. التقت هذه المجموعة، ليس بأعظمها جاهاً، ولا بأعزها عددًا، ولا بأقواها عدة.. ولكنه رجل منها “ إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد ؟. التفت حول هذا النبي الكريم صلي الله عليه وسلم، فبم كانت تحلم؟ وفيما كانت تفكِّر؟ وماذا تريد؟… وإلي أي مدي يمتد أمل هذه المجموعة التي تجتمع في خفية، وتتناجي في سر، ماذا يريد هؤلاء الناس؟ يريدون أن يضعوا في رءوس الناس عقلاً جديداً، وأن يقيموا علي ظهر الأرض دنيا جديدة، وأن يرمموا من هياكل البشرية بناءً جديدًا.

لذلك أنا مصر أيها الإخوان علي أن أناجيكم دائمًا وأوجهكم إلي أنه لا نهضةَ بغير حب، ولا حب بغير إيمان، وكلما خطرت بالنفس صورةُ هذا الاجتماع الكريم، أحييت بها أملاً كريمًا، وذلك لأننا- معشرَ المسلمين- لا ينقصنا شيء، تنقصنا العاطفة القوية الدفاقة التي تؤلف بين القلوب، وتحقق فيها العسل التصويري الذي قصده رسول الله- صلي الله عليه وسلم- في قوله: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالحمي والسهر”.

ثانيًا: من وحي اللقاء.. مشاعر ومواقف

- سعادة لا يعدلها شيء

أيها الإخوة الفضلاء تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. واللهِ إنها لسعادة لا يعدلها في الدنيا شيء، هذه التي نحسها ونشعر بها كلما التقينا في هذا المجتمع الذي يحفه رضا الله تعالي، وتحضره الملائكة.

- وتيار حب متبادل

أيها الإخوة الفضلاء.. إنَّ هناك تيارًا متبادلاً من الحب العميق والمودة الصادقة بين هذه القلوب التي جمعها الله تعالي لتحرير الأوطانالإسلامية، وإقامة حكم الله تعالي في الأرض وهذا الشعور ما زال يتدفق، والاجتماع في هذه الليلة ما زال ينمو ويزيد..

وفي الحق إننا عاجزون عن أن نوفر لهذه العاطفة ما يقول بشكرها، وهكذا تتدفق العواطف في سبيل الغاية العليا التي نعمل لها والآداب السامية التي نقصد إليه.

- وحنين وترقب واشتياق

أيها الإخوة الفضلاء.. في مثل هذه الليلة، وبالأمس القريب ونحن كذلك إذ شعرنا بالحنين إلي ليلة الثلاثاء، ولا أدري لماذا نستعجلها؟ إنَّ معني هذا هو الرابطة الروحية، والتوفيق الأخري، والصلة بين القلب والقلب، وهذه المعاني مما يحرص عليها الإسلام كل الحرص، ولهذه كان الإيمان هو الحب والبغض، فإذا أحببت لله، وأبغضت لله، كان ذلك دليل علي إيمانك بالله، وأنه هو الذي يتصوف في مشاعرك وتخضع لأوامره، وقد أحاط بكل شأنك، ولهذا حصر رسول الله الإيمان في الحب والبغض كما قال: “لن تدخلوا الجنة حتي تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتي تحابوا” (وهل الإيمان إلا الحب والبغض).

وصدقوني أيها الإخوان .. إنَّ هذه الليلة تتراءي أمام عين القلب، فتحِن لها الأفئدة وتتطلع إليها الأرواح، إني أترقبها وأسَرُّ بها، وأحس بقربها؛ لأنها ستجتمع فيها القلوب التي آمنت بالحق وتعاونت علي كلمة الحق، وأبت إلا أن تتفقه في دينها، حقيقة إن روح الإسلام الحق ورابطته التي لا تنفصل، والتي لا يشعر فيها المسلم بالفرقة هي روح قرية مهما تباعدت الديار.

ويقولون: إنَّ مألوف الإنسان جزءٌ لا يتجزَّأ من حياته ومن فارق هذا المألوف فقد فارق الحياة نفسها.. وهذه الليلة أيها الإخوة.. كأنها جزءٌ من حياتنا.. أَنَسنا بها وأنست بنا، نترقَّب فيها هذا الجمع الحاشد، وتلك الوجوه النيرة، والوجوه التي تلاقت في الله، وعلي طاعة الله.. وإذا مضت تلك الليلة فلم نلتقِ فيها فإنه يطول بنا الشوق والحنين إليها.. ونسأل الله تبارك وتعالي الحبَّ فيه والاجتماع عليه وأن يجعله سببًا نافعًا في الدنيا والآخرة”.

- وزاد وشحنات للقلوب

ويقول بعض الإخوان : إنِّي آخذ معظم الجلسة في التطلع إلي وجوه الإخوان ، وأشعر بحالةٍ غريبةٍ كأنها “دينامو” متصل ببطارية يصل إلي منها شحنة روحية، فأفكر وأحس بأنَّ هذا التيار يتردَّد كلما نظرت إلي الإخوان ، ثم ينصب علي انصبابًا.

هذا الشعور الغريب بتلك الرابطة الروحية الإسلامية هو صدي لدعوة الحق وللمبادئ العليا التي جاء بها القرآن الكريم، والتي لن يقوم صلاح الإخوان إلا عليها، بل السماء والأرض، لن تقوم إلا علي الحقِّ. ﴿وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (المؤمنون:71) ولا يمكن جمع الحق والهوي، فإذا تحكَّم الحق خضع الهوي والعكس بالعكس، وقد جعل الله تبارك وتعالي رسوله صلي الله عليه وسلم علي الحق ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ إِنَّكَ عَلَي الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ (النمل: 79).

ولا حق إلا ما عليه رسول الله- صلي لله عليه وسلم- وأصحابه، وهذا الحق لا يمشي علي رجليه، ولكن جعل الله له أنصارًا يجاهدون في سبيله ويقومون بالشهادة عليه.

يقول الأخ: هذه الخواطر كلما شعرت بها شعرت بلذةٍ غريبةٍ وعجيبةٍ في بابها وأثرها.

- وخطاب يتكلم حبًّا

في صباح الثلاثاء الماضي جاءني خطاب من أحد الإخوان ، وجاءني بالبريد المستعجل، ففتحت الخطاب، فإذا هو مجرد تحية وسلام لا أقل ولا أكثر.. استغربت.. لِمَ أرسله بالبريد المستعجل؟ وما الذي دفعه لهذا؟!

قيدت الخطاب وقلت لعلي أجد ما يذهب غرابتي، وإذا بحاشية يقول فيها: إنما أرسلت الخطاب بالبريد المستعجل لعله يصل قبل يوم الثلاثاء، فتبلغ إخواني تحيتي وسلامي، إذ إني لم أستطع أن أشاركم بجسمي فأشاركهم بخطابي.

هذه حقيقة الحب، فانظروا كيف طفي الحب علي الأوضاع بهذه العاطفة التي جعلها الله تعالي منشأ هذا الاجتماع الكريم، فعلي الأخ الكريم السلام ورحمة الله وبركاته ونسأله تعالي أن ينفعنا بهذا الحب يوم لا ظل إلا ظله.

- وتكفينا النظرات الحانية

أيها الإخوان الأجلاء.. إني قد سمعت من أحد الإخوان كلمةً عابرةً، وكثيرًا ما وجدت لها هذا الأثر الحلو في نفسي.

ذلك أننا كنا في كتيبة، ومن نظام الكتيبة أن يكون فيها حديث حول الفكرة والدعوة، ولكنه في هذه الكتيبة كان حديثاً مختصرًا، ونظر أحد الإخوان إلي أخيه، وقال له: لم لم نتكلم الليلة كثيرًا؟ فقال إنا لا نأتي للكلام، ولكن يكفينا أن ينظر بعضنا إلي بعض وأن يتلاقي بعضنا مع بعض.

صدقوني أيها الإخوان ، إن هذه الكلمة أثَّرت في نفسي تأثيرًا عميقًا؛ فإن الأخ كان يقولها من عصارة قلبه، ومن أعماق نفسه بهذا الشعور جاء هذا الأخ ليسعد ولينعم بهذه القلوب المؤمنة التي اجتمعت علي أقدس المبادئ وأنبل الغايات، طمأنني هذا الشعور، وعلمت أنَّ الله تعالي قد أنعم علينا بالرباط الروحي الذي لا يعادله أية قوة في الوجود.. أطمأننت كثيرًا لأن فيه قوة الإيمان وقوة الحب وقد جمعهما الله لنا، ومتي اجتمع لجماعة الإيمان بالفكر والحب الوثيق في مؤازرتها، فقد جمع لها كل شيء، وأصارحكم أني قد استرحت لهذا الرباط المتين وأيقنت أننا نجتمع لله، وأكثر منه للدرس، وما دام الأمر كذلك، فلست في حاجة إلي إعداد الدرس في حديث الثلاثاء، وارتحت لهذا المعني وشعرت بهذا التغيير، وسألت نفسي: ما مصدر هذا الحب؟ ولماذا يحب بعضنا بعضًا حتي يري أن النظر إلي أخيه كسب وطمأنينة؟!

هل مصدره التأثير بجاه أو التطلع إلي مال أو أمل من آمال الدنيا؟ ومن وجد الإحسان قيدأ تقيدا.. اللهم لا شيء من هذا أبدًا؛ فإن الإخوان في عزة أنفسهم وقوة أرواحهم أغنياء عن كل هذا وإنما مصدره الحب في الله.

﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال:63) فهي نعمة لا تُنال بمجهود ولا تُشتري بمال، لأنَّ القلوب التي تحابت وتعاهدت وتضافرت علي نصرة الحق غايتها أسمي الغايات والمهمة التي جمعت قلوب الإخوان هي مهمة الرسول- صلي الله عليه وسلم- الذي أرسله الله تعالي:

﴿شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَي اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)﴾ (الأحزاب)

فإن هم صدقوا في دعوتهم وآمنوا ولم يخرجوا عنها كانوا دعاةَ إصلاحٍ ومصابيح هداية علي قدمِ رسول الله- صلي الله عليه وسلم- وعلي طريقة السلف الصالح الذين باعوا لله أنفسهم وأبدانهم، وإن أهدي طريق للإصلاح ما جاء عن كتاب الله تعالي.

-وقلب منشغل بإخوانه

وسألني أحد الإخوان : هل يستطيع الأخ أن يفيد أخاه وأن ينفعه وأن يمده بسبب مادي أو روحي؟ فقلت له: أوضح، فقال: يدعو له ويهتم بأمره بينه وبين نفسه أو يشتغل به، وهل في اشتغال المؤمن بأخيه وتوجهه إليه والشعور بالصلة التي تربطه به ما يفيده؟؟ وهل في النصوص الإسلامية أو الوقائع ما يدل علي هذا أو يؤيده؟؟

في الواقع أيها الإخوان لقد سُرِرت لهذا الأمر من وجهين:

الأول: أنه فائدة علمية.

والثاني: أنَّ النبي- صلي الله عليه وسلم- قال: “العلم خزائن ومفتاحها السؤال”.

ويثاب في السؤال ثلاثة: السائل، والمسئول، والمستمع، فهو يفتح بابًا من أبواب الخير.

ولكن سروري كان أبلغ وأعظم، لأني استشرفت من وراء هذا معني عاطفيًّا، وهو أن هذا الأخ كان مشغولاً بإخوانه، وأنه يود أن يشتغل بهم، وما خطر له ذلك وما دفعه إليه إلا شعور باطني عظيم، لأنه إما مشغول به علي أنه ينفعه، فهو يريد أن يقيد أخاه، وإما أنه في حاجة إلي معونة إخوانه، فلعله يتلمس منهم هذه المعونة، ففي هذه الحركة النفسية اشتغال قلب بقلب، ونفس بنفس، وذلك كله من صميم الإسلام، وإني أصدقكم أنَّ كل مشاغلي لم تنسني التلذُّذ بهذا السؤال، وقد أحسست بأنَّ القلوب يشتغل بعضها ببعض.

أما الجواب علي هذا السؤال، فمن حيث النصوص، ما قاله فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا”

- وإخاء عالمي يتخطي الحواجز:

أيها الإخوان .. كنت اليوم مع موظف كبير عاد مؤخرًا من رحلة خارج القطر ومر خلالها ببلاد كثيرة.. ودار الحديث حول هذه الرحلة، وتوقف طويلاً عند هذا المعني الذي يقسم بالله أنه لم يتأثر في حياته مثل ما أثَّر في نفسه مشهد شاب التقي به في أحد البلدان، فلم يكد هذا الشاب يعلم بأنه أمام أخ له مسلم، إلا وقد فاضت عيناه بالحب وامتلأ حديثه بالعاطفة علي غير معرفة سابقةٍ علي غير لقاء سابقٍ.. لا شيء يجمع هذا اللقاء إلا أننا مسلمون، فكانت هذه المقابلة- كما يقول الأخ المسلم - تيارًا من الكهرباء سري إلي نفسه لأنه رأي إخوانًا له مسلمين، ويرتبطون به رابطةً روحيةً، فعلم أنه ليس هناك أقوي ولا أمنع من هذه الرابطة التي أوجدها الإسلام، متي خلعت القلوب واستشفت نعمة الله عليها. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَي شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾

ثالثا: مناخ الحب والتلاقي

- مساواة وزوال فوارق أرضية

أيها الإخوة الفضلاء.. إنَّ سعة العاطفة متسعًا للجميع.. زارني بعض الإخوة، فقال كنت في المؤتمر العام للإخوان المسلمين فلاحظت أمور عجيبة، فمن ذلك: أنني وجدت “باشمفتش” مصلحة جالسًا علي حصيرة، وآخر ناظر مدرسة جالسًا في ركن من أركان الدار.. وهكذا من أمثال ذلك كثير يستمعون في إصغاء وانتباه، من غير ضجر ولا ملل، بينما غيرهم يجلسون علي الكراسي المذهبة في صدر المكان، ثم لا يجدون في أنفسهم غضاضة، مطمئنين لما هم فيه من متعة روحية.. أربع ساعات طوال في وسط الشارع وفي الطرقات وفي فناء الدار، وقلت لهذا الأخ: إن كثيرًا من إخواننا الفضلاء لو استطعنا لحملناهم علي أكتافنا، ولكنهم يأبون إلا أن يضعوا أنفسهم هذا الوضع بدون أن يشعروا بغضاضة، ومن هنا نعلم أن الأزمة في النفوس، وليست الأزمة أزمة دراهم ولا نقود، ولا عرض من أعراض الحياة، وإنما هي أزمةُ تعاطفٍ وتراحمٍ وتوادٍّ، ولذا يقول تعالي: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)

- في التزاحم تلاصق أجساد وارتباط أرواح

كنا نتمني أن تكون المحاضرة في مكان أبرح وحيز أفسح.. ولكن هو حكم الظروف والجو.. فمعذرة، واحتسبوها ساعةً في الله، يتحمل فيها الواقفون مشقة هذا الوقوف ابتغاء مثوبة الله ورضائه، ويتحمل فيها الجالسون مشقة هذا الزحام، ابتغاء مثوبة الله كذلك.. وإن كنا في الحقيقة في هذه الليلة تغمرنا العاطفة الحبيبة القلبية اللذيذة، التي تُنسينا الشعور بالتعب المؤاخذة فيه، فلا يشعر الواقف بمشقة الوقوف، ولا الجالس أثر هذا الزحام، وهو الذي يجعلنا نعتقد أن مشكلة الدنيا ليست مشكلة فلوس ولا غذاء، وإنما مشكلة نفوس، وحب سخاء، وبغضاء.. فالناس فقراء في التعارف والتجارب والتواد..

ولكن في الحقيقة أيها الإخوة.. إنَّ في هذا التزاحم بركةً.. وفي هذا التقارب الحسي تقاربًا معنويًّا، فإنا نستمد اتحادنا – بعد الله ومعونته – من تضامن هذه القلوب واجتماعها علي البرِّ والتقوي وتعاونها علي طاعة الله تبارك وتعالي، فمن هذه العاطفة، عاطفة الحب في الله والتقارب في مرضاته، ومن هذه العاطفة نجد الأنس وراحة البال وهدأة الضمير.

أيها الإخوة.. إنَّ في ديننا الحنيف إشاراتٍ لطيفة إلي هذا المعني.. انظر إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه، وهم من خلفه صفوف، يقول لهم :”صفوا المناكب ولينوا بأيدي إخوانكم”.

وهذا هو الرباط الحسي، يُعني به رسول الله صلي الله عليه وسلم لغرض أسمي وأعلي، وهو ارتباط القلب بالقلب، والروح بالروح.. فكان صلي الله عليه وسلم يجسِّد لهم هذه المعاني الروحية في إشارته الحسية: “سدوا الفرج، سروا الصفوف، لا تختلفوا فتختلف قلوبكم”.. ففي قوله هذا صلي الله عليه وسلم أبلغ الإشارة إلي أنَّ القلوب إذا تباعدت وتفرقت، يجد الشيطان فيها حظه..

﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ ( الأنفال:46).

أيها الإخوة.. إن في هذا التزاحم شيئًا من التضامن، وتقارب القلوب، واتحاد الكلمة، فإذا ضاق بكم المكان، ففي القلوب فسحةٌ فلنكُنْ علي قلب رجل واحد، وعلي مبدأ واحد، وغاية واحدة.

- ولا يمنع التلاقي مطر وتقلب طقس:

أيها الإخوة.. إنَّ هذه الليلة التي تجمعنا علي مجالس الخير وعلي مدارسة الخير، وعلي مرضاة الله، ومع هذه العوائق التي تعوق الناس عن مصالحهم الخاصة، وأبت تلك القلوب المتحابة إلا تتغلب عليها، وإلا تجتمع كما تجتمع كل أسبوع، فهو اجتماع المتحابين فيه لنكون من الذين قال فيهم رسول الله صلي الله عليه وسلم “إذا كان يوم القيامة، نادي منادٍ من قِبَل الله تبارك وتعالي: أين المتحابون في؟ أين المتزاورون في؟ أين المتجالسون في؟ اليوم أظلهم بجلالي يوم لا ظل إلا ظلي”.

- وهرولة من الداعية المحب عند تأخر

معذرة أن أتخلَّف عن ساعةٍ هي أحب الساعات إلينا.. فليس أحب إلينا، ولا أشوق لأرواحنا من تلك الساعات الكريمة التي نلتقي فيها.

(فأعتذر إليكم شكلاً عن تأخري هذا الوقت.. وموضوعًا أعتذر لنفسي، فقد حرمتها جمال الأنس برؤيتكم هذا الوقت).

أيها الإخوان .. تأبي عاطفة الثلاثاء إلا أن تبرز حقَّها، وتدلِّل علي وجودها، وإذا لم نعرف للنفس حقَّها، فمن ذا الذي يعرفه لها؟.. لهذا دعوني أيضًا أسترسل مع عاطفة الثلاثاء في تصوير بعض حقِّ هذا الإخاء، سائلاً اللهَ تعالي أن ينفعنا وإياكم بما نقول وما نسمع، وأن يوثق بين قلوبنا هذه الرابطة التي هي قوة المستضعفين، وعدة الآملين العاملين.. وأسأل الله تعالي أن يجمع بين قلوبنا علي مرضاته، وأن يمتعنا بمتعة الحب فيه وأن ينفعنا بذلك في الدنيا والآخرة.

- وماكان لله دام واتصل

حقيقة، ما جمعه الحق لا يفرقه الناس، إننا يوم أن قمنا، قمنا لله ومن الله وإلي الله، ويوم أن عملنا عملنا لله وإلي الله، ويوم أن قامت دعوتنا لله ومن الله وإلي الله كذلك، وإن دعوةً يرعاها الله سبعةَ عشر عامًا كاملةً تتخطَّي فيها العقبات، وتجتاز فيها المصاعب والمتاعب والزلل، لا بد أن يكون لله تعالي فيها إرادة.

هذه الدعوة قامت ولا زالت تقوم علي أكتاف موحدة، وقلوب مؤمنة، وجهود مجموعة، وأشخاص مجهولة، لا يكاد يعرفها أحد وليست مجموعة رياء ولا سمعة ينصرها ويؤيدها، ويقيم دعائمها بتوفيق الله الصانع والزارع والطالب والفقير والغني والأتقياء، والأحباء الأقوياء بصلتهم بالله، وستظل قائمةً عليهم إن شاء الله تعالي.

الواقع أننا مطمئنون علي مستقبلها، ونمائها ما دامت تحبوها هذه العاطفة العاطرة الشريفة في مثل هذه الليلة من كل أسبوع تتجلي فيها الوحدة وتتقوي فيها الرابطة وتتوحَّد فيها الجهود والحمد الله علي هذا التوفيق، والحمد لله رب العالمين، وكان لهذه التربية العالية آثار واقعية وعملية شهدها تاريخ الإخوان المسلمين في مختلف الظروف.. في ميادين الجهاد ، وبين جدران السجون، وفي أنحاء المعمورة، وعلي امتداد السنين والأعوام.

ويحضرنا هذا المثال: فبعد أربعين عامًا وقف الداعية المجاهد الأستاذ: مصطفي مشهور في لقاء الثلاثاء، وتذكَّر وذكَّر إخوانه بعاطفة الثلاثاء وأثر التربية الربانية التي كان يربيهم عليها الإمام الشهيد رحمه الله، فقال: “أيها الأخوة: درس الثلاثاء وعاطفة الثلاثاء… ذكريات مضي عليها عشرات السنين… ولم تنطفئ جذوتها في قلوبنا أيام كان يحييها فينا إمامنا الشهيد رضوان الله عليه.

وهكذا أيها الأخوة نعيش معًا عاطفة الثلاثاء.. الحب في الله والأخوة في الله التي تجمع الصفوف وتشد البنيان.. لنسير علي الطريق علي استقامة، وفي قوة وتماسك نواجه به كل المحن والشدائد لنذكر هذه العاطفة وهذا الحب، ولنحرص عليه”.

( لقاء الثلاثاء – مدينة الأسكندرية –5-8-1986م ).


بيت العائلة

الوالد

الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، الذي اشتهر بـ"الساعاتي"، المولود في عام 1300هـ، الموافق [[1882 ]] م، حفظ القرآن الكريم في صغره، وتعلم في جامع إبراهيم باشا بالأسكندرية ، وتعلم حرفة إصلاح الساعات وهو صغير، كانت له اتصالات كثيرة بعلماء الأزهر في عصره أمثال: الشيخ عمر خليفة المالكي الشهير بـ"مالك الصغير"، والشيخ أحمد طولون وغيرهما، فكانوا يحترمونه ويوقرونه ويشاورونه.

وكان- يرحمه الله- عالمًا فقيهًا صبورًا، عكف علي كتب السنة ونبغ فيها، وله إسهامات علمية جليلة؛ فقد رتب مسند الإمامين أحمد والشافعي- يرحمهما الله- علي أبواب الفقه المعروفة، وسمي الكتاب "بدائع المسند في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن"، و"الفتح الرباني" وسمي شرحه "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني"، وله كتاب "جامع أسانيد الإمام أبي حنيفة"، وكتاب "إتحاف أهل السنة البررة بزبدة أحاديث الأصول العشرة".

الوالدة

والدة الإمام الشهيد حسن البنا والتي لا يعرفها الكثيرون، لقلة ما كُتب عنها، رغم دورها العظيم في تربية الأبناء كانت واحدة من اللائي أحسن البناء فأخرجت أبناءً وأحفادًا تركوا بصمات مؤثرة في المجتمع الإسلامي.

لم تكن أم السعد صقر أمًّا للإمام البنا فقط، بل أصبحت أمًّا لكل فرد في جماعة الإخوان المسلمين ، يقول عنها أصغر أبنائها المفكر "جمال البنا": "كانت والدتي يرحمها الله تتصف بالعناد في الحق وقوة الشخصية، وكانت علي جانب كبير من الذكاء، وإذا انتهت إلي قرار فمن الصعب أن تتنازل عنه"

الأم ورعاية الأبناء

عملت منذ البداية علي رعاية أولادها رعاية إسلامية، فقامت بمساعدة زوجها بتعليم أبنائها، فسعت إلي تحفيظهم القرآن منذ الصغر وإلزامهم بذلك، والعناية بدراستهم للعلوم الشرعية، حتي إنها قامت ببيع قلادتها الذهبية ليستكمل أبناؤها التعليم، ولم تكتف بذلك بل باعت أساورها الذهبية لنفس السبب الابن البار عندما تم تعيين الإمام "حسن البنا" في الإسماعيلية ، حزنت الأم لفراق ولدها الحبيب، لكنه كان دائمًا ما يرسل الخطابات لهم. وفي أحد تلك الخطابات، يقول: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: فقد ورد خطابكم الكريم، وإن اليوم الذي أستطيع فيه إرضاءكم هو أسعد أيامي حقًّا، وعقيدتي أنني ما خلقت إلا لأرضيكم، وليس لي من الحق في كل ما يقدره الله لي بعض ما لكم، ذلك ما أعتقده وأقوله بإخلاص ويقين، والذي أريده فقط أن تغتبطوا بذلك وتعلموه، وأن تخفف سيدتي الوالدة من ألمها، فإن هذه ضرورة لا بد منها ستنفرج عما قليل، والله إني لأقضي ساعات طوالاً في ألم لتألم والدتي، وفي تفكير كيف أرضيها، وكيف أسعدها، وكيف أجعلها هانئة مغتبطة، فهل يوفقني الله إلي هذه الأمنية؟

الأستاذ البنا وبيت الزوجية

ربانية البيت تبدأ منذ الاختيار، (فطنة الأم).. الأم كانت بين الفينة والأخري تذهب لزيارته، وكانت لها علاقات طيبة مع بيوت أهالي الإسماعيلية مثل؛ بيت "آل الصولي" التي كانت دائمة التردد عليهم، وفي إحدي المرات سمعت صوتًا نديًّا يقرأ القرآن في خشوع ترق له القلوب، فانجذبت نفسها إليه، وسألت عن صاحب الصوت، فأجابتها حرم الشيخ الصولي: إنها ابنتنا "لطيفة" تصلي فأحبتها أم الإمام، وتأثرت بنبتة هذا البيت الطيب، وبعد أن فرغت من الصلاة قدمت ترحب بالضيوف، وكانت أم الإمام تنظر في وجه الفتاة، فتجده مشرقًا بالإيمان، فداخلها شعور بصلاح الفتاة.. وعادت ونقلت إلي ابنها أن هذه الفتاة جديرة بأن تكون زوجة له، ولم تكن "لطيفة" تدرك أن صوتها الخاشع سيكون رسولها إلي قلب الإمام، أيضًا بعد أن فهمت أمه ماذا يريد ابنها من مواصفات في رفيقة الدرب والحياة، وما إن سمع مشورة والدته في الزواج، حتي توجه علي الفور إلي بيت الحاج "حسين الصولي" يطلب يد الفتاة، وكان حادثًا سعيدًا تلقاه الجميع بالقبول مبتهجين مستبشرين ويقول عن ذلك: "كأنما أراد الله أن يخفف عن نفسي وقع هذه الفتن، فأتاح لي فرصة الزواج، وتم الأمر في سهولة ويسر وبساطة غريبة، خطوبة في غرة رمضان تقريبًا، فعقد في المسجد ليلة السابع والعشرين منه، فزفاف في العاشر من ذي القعدة بعده وقضي الأمر والحمد لله".

حفل الزواج كان حفل القرآن

ويتحدث "عبد الرحمن" شقيق الإمام البنا في أحد خطاباته عن هذه الزواج قائلاً: "وكان حفل القران قد جري بالمسجد، وجاء الإخوة بأجولة التمر التي وُزعت علي الحاضرين، وكان الاجتماع حافلاً بالعاطفة الدافئة والمشاعر المتأججة"

كيف يري الإمام البنا المرأة؟

ففي مجال الحقوق والواجبات يقول الإمام البنا قضية القوامة: ينطلق الإمام البنا في هذه القضية من خلال احترام الإسلام للتنوع البيولوجي للجنسين ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَي﴾ (آل عمران: من الآية 36)، ولا يعني ذلك استعلاءً أو تكريمًا، وإنما يعني تنوعًا في الاختصاص والمهام، طالما تؤمن بأن هناك أمومة وأبوة؛ ولذلك فإن رؤيته لهذه القضية تنبع من ثلاثة محددات: الأول: الاختلاف بين الزوجين فطري: فيقول: الرجل كائن والمرأة كائن، وللرجل مهمته، وللمرأة مهمتها، يقول تعالي في شأن تكوين الأسرة، وتنظيم شئونها ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: من الآية 228)، فقرر أن الأسرة دولة بينهما، وأنها تتكون منهما، وإنما تكون القوامة للرجل ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَي النِّسَاءِ﴾ (النساء: من الآية 34)، وذلك للاختلاف الفطري بينهما طالما نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة.

الثاني: الاختلاف الفطري يترتب عليه اختلاف المهمتين، وفي نظم الحياة المتصلة بكل منهما، "وذلك يعني في نظام الأسرة الطبيعية، والذي يقره الإسلام أن للمرأة مسئوليات زوجية وأمومة تشمل الحمل، والإنجاب، والإرضاع رعاية وتربية الأطفال، وأن للرجل دوره في الإنفاق علي هذه الأسرة، وتولي شئونها، وتوفير حاجاتها المادية والاجتماعية.

الثالث: التجاذب الفطري بين الجنسين يؤسس لعلاقة زوجية متوازنة: يقول الإمام البنا عن العلاقة الزوجية بأن أساسها التجاذب الفطري، وأن الغاية من هذه العلاقة لا تقوم علي مجرد المتعة وحدها، ولكن علي التعاون معًا للمحافظة علي النوع، وتحمل متاعب الحياة، فضلاً عن التجاذب النفسي الذي يسمو بهذه العلاقة عن صور الاستمتاع البحت إلي صورة رائعة من العلاقة الروحية التي تُبني علي التعاون التام بين الزوجين كما في قوله تعالي: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم: من الآية 21).

التزم الإمام البنا بأدبيات الإسلام في بيته سلوكًا ومنهجًا، فكان ابنًا بارًا، وزوجًا مخلصًا محبًّا لزوجته، ووالدًا حانيًا عطوفًا علي إخوته وأبنائه، مهذبًا في سلوكه، مربيًا نصوحًا واصلاً لرحمه ورحم زوجته.

وكان للمرأة في بيت الإمام المؤسس الاحترام، والتقدير، والرعاية، فالمرأة تمثل له الأم والأخت والزوجة والابنة والخادمة، التزم معهن جميعًا بأدب الإسلام وقيمه وفضائله، واهتم بأسرته اهتمامًا بالغًا، فجعلها من القلب والوجدان قرة عينه، وحمل مسئولياتها بشرف ورجولة "فقد شارك أسرته كل همومها، وتحمل النصيب الأوفي من مسئولياتها، وخفف عن والده عبء تربية أشقائه، والإنفاق عليهم، فكان في سلوكه مع أسرته ينطلق من دوافع رب الأسرة وليس مجرد فرد فيها".

الإمام البنا مع زوجته

وهكذا نري أن الإمام البنا كان زواجه نموذجًا للزواج الذي يفضله الإسلام، ليكون مثلاً ونموذجًا يقتدي؛ حيث سارع في الزواج طلبًا للعفة والإحصان، والزواج في سهولة ويسر وبساطة، فلا تعقيدات ولا شروط مسبقة، أو مؤجلة، والفتاة ذات دين، والعقد تم في المسجد، والزفاف بعد مدة قصيرة من العقد، لا تتجاوز الشهر، وهكذا بدأ الإمام المؤسس تأسيس أركان أسرته وأولي لبناتها، فقد كان للأسرة اهتمام كبير في مشروعه باعتبارها الركيزةَ الأساسيةَ التي إن صلحت صلح المجتمع، ورسخ بنيانه وصمد في مواجهة ما يتعرض له من تحديات، وفي القلب من الأسرة الأم التي هي بمثابة الشجرة الطيبة، التي تمد بقيم الحب والحنان، والثمرات الصالحة. وكان حرص الإمام البنا علي اختيار الزوجة الصالحة المتدينة هو أول تطبيق عملي لما يؤمن به، فهي كما يقول: "نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته..".

كان الإمام المؤسس (رحمه الله) إنسانًا ناجحًا في حياته الأسرية والعملية، وقد كان يقول: إذا وُجد الرجل المؤمن وجدت معه عوامل النجاح، ولذا فقد كان لإيمانه القوي بالله، والتزامه بمنهجه وسلوكه مخلصًا لدعوته، عاكفًا علي تأسيس مشروعه لنهضة الأمة، كما كان أيضًا إنسانًا ناجحًا في بيته وأسرته واصلاً لأرحامه وأصهاره أيضًا، يقول أحمد سيف الإسلام عن والده الإمام البنا: "حرص (رضي الله عنه) أن يعرف أقارب زوجته فردًا فردًا، وكل ما يرتبط بها بصلة رحم، وأحصاهم عدًا وزارهم ووصلهم جميعًا.

ومن هنا ندرك كيف يمكن للعلاقات الإنسانية أن تتوطد ووشائج الأرحام أن تتلاحم، وصلات الأبناء بالأرحام كيف تؤسس من خلال علاقات زوجية ناجحة، وممارسة عملية من الآباء مع الأرحام أمام أبنائهم.

تميز الإمام البنا بسمات جعلته زوجًا ناجحًا محبوبًا في أهله، ومن ذلك أنه "كان مع زوجته هادئ الطبع، واسع الصدر، هينًا لينًا، لم يرتفع له صوت علي أحد في البيت، لأي سبب من الأسباب، يعاون زوجته في بعض أعباء البيت رغم انشغاله بأعباء الدعوة، كان دقيقًا في تصرفاته، منظمًا لشئونه، نافعًا لبيته، حرص علي أن يكتب مذكرةً صغيرةً بكل احتياجات البيت الوقتية، حتي يحضرها بنفسه، أو يكلف من يحضرها، علي علم بكل شيء يخص المنزل حتي موعد تخزين الأشياء كالسمن والبصل والثوم. بمثل هذا الخلق الرفيع مع زوجته، كان رحمه الله نموذجًا للزوج الصالح الناجح، يتمثل الإسلام في قيمه ومبادئه، ويلتزم بسلوك رسوله الكريم مع أهل بيته، وكان عليه الصلاة والسلام هاشًا باشًا وفي مهنة أهله.

الإمام مع أبنائه

من حديث للسيدة سناء البنا "نحن خمس بنات وولد واحد، وهناك اثنتان تُوفيتا في حياة الوالد، تكبرنا وفاء، ويليها أحمد سيف الإسلام، ثم سناء، ومحمد حسام الدين (توفي)، ثم رجاء، وصفاء (توفيت)، وهالة، واستشهاد، التي وُلدت بعد وفاة الإمام البنا، وكان جدي قد انتوي تسميتها "دماء" غير أن موظف الصحة رفض، فأحسَّ جدي أن الاسم سيكون ثقيلاً عليها، فقرَّر تسميتها "استشهاد" فرفض الموظف من جديد غير أن جدي أصرَّ وقال له إذًا لن أسميها وسأتركها حتي تكون "ساقطة قيد"، فلما أسقط في أيديهم سجلوها باسم "استشهاد"؛ لأنها وُلدت بعد استشهاد الوالد، ومن اختار لها الاسم هو جدي ووالدتي ووفاء…".

إن أهم ما يميز الإمام البنا في علاقته بأبنائه هو الالتزام التربوي العملي، وفي قدرته علي بناء الشخصية السوية، التي تؤسس علي الإيمان بالله ومراقبته، والاحترام، وتحري الصدق والأمانة، والحب واللين، فقد كانت هذه القيم جانبًا أصيلاً في منهجه التربوي الذي التزمه في داخل أسرته وخارجها.

تحكي سناء البنا عن والدها فتقول: "كنا لا نحس فيه الغلظة، يغمرنا بالمودة والرحمة والعطف، ينادينا بأحب الأسماء إلينا، يدخل البيت يطمئن علي غطاء كل الأبناء، يتناول عَشَاءه المعد له سلفًا علي المائدة دون إيقاظ الوالدة، أو أحد من أهل البيت".

ومن هنا ندرك كيف كان يملك القدرة الفائقة في التأثير علي سلوك الأبناء نتيجة لهذا الخلق الطيب معهم كمعلم وقدوة، ووالد حنون، فالتوجيه بالحب والالتزام والقدوة من أهم سمات المربي الصالح. يقول عنه ابنه أحمد سيف الإسلام: إنه كان عطوفًا إلي أقصي درجة، يراعي مشاعر الطفولة في أبنائه بشكل كبير، وكان لديه القدرة علي جعلنا نطيعه دون حاجة إلي أمره. ومع التزامه التربية الصحيحة مع أولاده، فقد عني أيضًا بتعليم إخوته وأبنائه، يستوي في ذلك ابنه سيف مع إخوته البنات ، وفي خطاب وجهه إلي والده دليل واضح علي اهتمامه بتعليم أخته فاطمة فيقول: "أما فاطمة فأنا أوصيها كلما سنحت الفرصة الوصايا التهذيبية، وسأشرع معها في القراءة والكتابة بحول الله وقوته.

ولا يخفي علينا مكانة بناته العلمية اليوم؛ فقد اهتم بتعليمهن، وحصلت ثلاث منهن علي الدكتوراه في الطب، وفي التجارة، وفي الاقتصاد المنزلي؛ وذلك لأنهن نشأن في بيت علم ودين، فكلما كان والدهم (رحمه الله) يؤمن بأهمية دور المرأة الصالحة المتعلمة في أسرتها ومجتمعها آمن بأهمية التفوق العلمي ودوره في حياة المرأة والمجتمع "من حديث سناء البنا" (7 ).

وعن طبيعة معاملة الإمام لأبنائه.. تقول الحاجة سناء البنا: كان هناك توازنٌ في التربية، فمثلاً وفاء لأنها الكبري كانت هي سكرتيرته الخاصَّة؛ لأن والدتي كانت مشغولةً جدًّا ومريضةً بالقلب أيضًا، وكان عبء الدعوة علي والدتي كله، فمثلاً ضيوف المركز العام كانوا يرسلون إلي والدتي الطعام إلي البيت بالصناديق وتقوم هي بطهيه، أما التمييز فلم يكن هناك تمييز بين الولد أو الفتاة، لا من الوالد أو الوالدة، حتي في العقاب ليس هناك تمييز، وقليلاً ما كان يعاقبنا، ولا بد أن يكون هناك شيءٌ كبيرٌ أو شيءٌ قد نبَّهَنا بخصوصه، فإذا أخطأنا فيه فلا بد من العقاب "سياسة الثواب والعقاب"، وكان إذا عاقب- ونادرًا ما كان يعاقبنا- يعاقب دائمًا علي شيء كبير، وأذكر أنه عاقبني بسبب شقاوتي، ففي منزلنا القديم كان هناك شباكٌ مقسومٌ، وكان والدي يصرُّ علي أخد السلاملك (وهو الدور الأرضي) قائلاً: حتي لا أُتعِبَ إخواني، وأيضًا لا يتعب الجيران بطلوع الناس ونزولهم.. وذات مرة كنت جالسةً علي الشباك ورأيته قادمًا من بعيد فركضت إليه ولم ألبس "الصندل" وكان يُحضر لنا صندلاً للعب وحذاءً للمدرسة، فركضت إليه ونسيت ألبس "الصندل" فنظر إليَّ مجرد نظرة، عرفت أني سأعاقَب، فعدت سريعًا إلي المنزل وبمجرد انصراف الإخوان ناداني: سناء.. فعرفتُ أن أوان العقاب قد حان، فطلب مني الجلوس علي طاولة الطعام ورفع قدمي فرفعتها بنفسي وأخرج مسطرةً من جيبه وضربني علي قدمي علي كل قدم عشر ضربات، وكان ضربًا خفيفًا لدرجة أني كنت أضحك وهو يضربني، ولكني فهمت وقتها أني أخطأت، ولا بد لي أن أقول إنه كان يعلمنا- رحمه الله- بالحب، فكنا نحبه جدًّا ونطيعه؛ لأننا نحبه وليس خوفًا منه، حتي إنه إن سافر.. افتقدناه جميعًا.. وأذكر أن أختي رجاء كانت تقوم بالاتصال بالمركز العام لتسأل عوض عبد الكريم يوميًّا في وقت الغداء عن الوالد (لأنه كان مسافرًا)، ودائمًا كان رحمه الله يقوم بإطلاق أسماء للدَّلع لنا جميعًا، وكان يتركنا نقوم نحن أيضًا بإطلاقها عليه.

تعليم الخادمة

كما اهتم الإمام البنا بتعليم الخادمة؛ حيث كلف ابنته الكبري وفاء بأن تعلم الخادمة القراءة والكتابة والصلاة.

وقدَّم (رحمه الله) أروع المثل في تحقيق المساواة التي نادي بها الإسلام، ليس مع الأبناء والأولاد فحسب، ولكن أيضًا مع الخادم في بيته، فقد كان لها من الحقوق والتكريم، كما كان لأبنائه وأفراد أسرته، فكان يوصي أبناءه بإحسان معاملتها، وقد حدث أن عاقب ابنته سناء ذات مرة لأنها عاملتها معاملةً غير لائقة، وكان للخادم في بيته سرير مستقل، ودرج للملابس مستقل في دولاب الأولاد، وتأكل مما يأكلون وتشرب مما يشربون وتلبس مما يلبسون وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَي نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).

القسم الثاني : حسن البنا.. الرباني المجدد

تقديم

لما بلغه نبأ اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا قال قائد الجهاد بالريف المغرب ي الأمير عبد الكريم الخطابي : “ويح مصر وإخوتي أهل مصر، لقد قتلوا وليًّا من أولياء الله”،

وفي أواخر السبعينات كتبت جريدة تصدر بالفرنسية في بلدٍ مغربي مقالاً مطوَّلاً عن الحركة الإسلامية نشرت فيه صورة الإمام الشهيد وتحتها هذه العبارة (أكبر خائن في التاريخ)!.

ما أوسع البون بين الحكمين يكمن سره في أن الإسلاميين عرفوا الرجل عن كثب وخبروا تقواه وأخلاقه وتضحياته وتجديده فلمسوا فيه خصال الولي الصالح، أما خصوم الإسلام فعرفوا أنه الطود الشامخ في وجوههم الذي أبطل سحرهم فألَّبوا عليه أتباعهم في بلاد العرب والمسلمين، وهناك حقيقة لا يختلف حولها الطرفان، وهي أن موته لم يكن حدثًا مغمورًا إنما كان خطبًا جللاً للبعض، وخلاصًا للبعض الآخر.

ذلك الرجل الفذ

بعيدًا عن كل مبالغةٍ وتهويلٍ يتيقن الدارس لحياة المرشد العام المؤسس أن العناية الإلهية قد جمعت فيه ما تُفرِّق بين النبغاء من الخصائص والقسمات، فقد تلقَّى تربيةً روحيةً منذ صباه في حلقات الصوفية وامتاز بذكاءٍ خارقٍ تعضده ذاكرة قوية عجيبة وجمع بين الإحاطة بالتراث والإلمام بالواقع المحلي والعالمي، وكانت حال الإسلام والمسلمين تؤرّقه وهو فتى غرير فيتنكَّر لاهتمامات الأتراب ولا يشتغل بدواعي السن بل كان همّه منصبًا كليةً على دينه وأمّته حتى أدرك بدقّة مواطن الداء وأعدَّ لها ما يُناسب من الدواء، وساعده على ذلك معرفته الواسعة الدقيقة بالنفس الإنسانية وبسنن الله في الكون والمجتمع والعلاقات البشرية.

وقد كان رحمه الله خطيبًا مفوهًا؛ حيث يحكي مَن حضروا ندواته أنَّهم كانوا لا يشعرون بمرور الوقت مهما طال كلامه، وإذا تحدَّث دخلت كلماته القلوبَ بغير استئذان حتى إن صحفيًّا أمريكيًّا ارتعشت فرائسه وهو يستمع إليه يتكلَّم بلغةٍ عربيةٍ لا يفهم هو منها شيئًا!.

هذا الشاب المصري الذي كُتِبَ له أن يفتح للعالم الإسلامي صفحةً جديدةً من تاريخه لم يكن من حملةِ الشهادات العاليّة، ولا هو من خريجي المعاهد الدينية إنما هو معلِّم ابتدائي فحسب، لكن حباه الله بخصائص العظماء ومناقب الصالحين، فكان له قلب الزهاد وعقل النوابغ وفراسة العارفين ونشاط المصلحين وسمات الملهمين، وقد كان منطلقه القرآن الكريم لكن بطريقته الخاصة، يقول عنها الأستاذ مالك بن نبي- رحمه الله- في كتاب (وجهة العالم الإسلامي): “وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يُؤثِّر تأثيرًا عميقًا في سامعيه فما ذلك إلاَّ لأنَّه لم يكن يُفسِّر القرآن بل كان يوحيه في الضمائر التي يزلزل كيانها، فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقةً باردةً أو قانونًا محرّرًا بل كان يتفجَّر كلامًا حيًّا وضوءًا أخاذًا يتنزّل من السماء فيُضيء ويهدي”.

ويقول رحمه الله أيضًا: فلكي يتغير الفرد لم يستخدم ذلك الزعيم (أي حسن البنا) سوى الآية القرآنية، ولكنَّه كان يستخدمها في نفس الظروف النفسية التي كان يستخدمها النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده”، وهذا هو السر كلّه: أن تستخدم الآية كأنها فكرة موحاة لا فكرة محرَّرة مكتوبة.

وقد ترعرع في جوٍّ إيماني وحركي يُساهم في أعمال الإصلاح والتغيير وهو تلميذٌ صغيرٌ؛ مما نمَّى عنده عوامل النشاط الدعوي إلى درجةٍ هجر معها الراحة والإجازات، وقد استمر على رأس جماعة الإخوان المسلمين عشرين سنةً، لم يعش فيها لغير الإسلام والحركة ويكاد عمله يستغرق الليل والنهار، وهذه طاقة لا تتوفّر إلا عند المصطفين الأخيار.

ويخطئ مَن يظن أن همَّ الأمة الإسلامية قد طوقه وعزله في خانة التشدّد والصرامة، فقد كان لين الجانب معتدل السلوك رفيع الذوق مرهف الحس بشوشًا متفتِّحًا يرعى حقوق الوالدين والإخوة والزوج والأبناء والجيران.

الفكرة والجماعة

يندرج إنشاء جماعة الإخوان المسلمين في سياق حركية النهضة، وقد استطاعت الجماعة أن تنسج ترابطاً وثيقاً بين العقيدة والشريعة والسياسة وبين الفكر والتنظيم الحركي كما تمكّنت _بفضل نبوغ مؤسسها_ أن تمزج بين علوم الأزهر وروحانية الصوفية ونضال الأحزاب الوطنية فكانت حركة تجمع ولا تفرق، لم تحل شمولية منهجها دون الاعتراف بالآخر والتعاون معه في المتفق عليه فكانت ترى أن تعدّد التنظيمات الحركية كتعدّد المذاهب الفقهية بل مدت جسر التفاهم حتى مع غير الإسلاميين بناءً على رابطة الوطنية والإنسانية، كيف لا وقد كان عمل الجماعة مبيّناً على الحب لا على البغض فكان بعيداً عن أساليب المرارة والغلظة شعاره “سنقاتل الناس بالحب” .

واستطاع المؤسس الشاب أن ينجز بناءً فكريا متماسكاً سماته التوازن والاعتدال والوسطية يحسن تسيير العلاقة بين الذات والآخر وبين المحلية والعالمية وبين التاريخ والعصر، كما كان فكراً متكاملاً أوجد تصوّراً استراتيجياً شاملاً مستوحى من القرآن والسنّة جعل جماعة الإخوان المسلمين تسير وفق خطط مدروسة لا بمجرّد ردود الأفعال وذلك في إطار غايتها المتمثلة في البعث الإسلامي والتصدي للتغريب وقد كان ذلك فتحاً نوعيّاً في العمل الإسلامي التغييري الذي انحصر قرونًا في الجوانب الفردية والاهتمامات الشكلية؛ لأن حسن البنا بعث صحوة لم يعد دعاتها كالسابق من المشايخ بل هم من الشباب الذين ركَّز عليهم التغريب لضرب الإسلام، وهم بدورهم نشروا الدعوةَ في صفوف المثقفين المستهدفين من قِبل غيرهم.

هذه الصحوة لم تكتفِ بتقديم كلام وإنما أنشأت حركة تكفل الاستمرارية وتضمن الانتشار عمدت إلى رفع التحدي بعد سقوط الخلافة الرمز الذي كان له أسوأ الأثر على المسلمين؛ وذلك من خلال التجديد داخليًّا والجهاد خارجيًّا، فأما التجديد فقد رأى فيه الإمام الشهيد الخطوة الضرورية نحو النهضة واسترجاع أمجاد الإسلام، وخلافًا لما كان يدعو إليه المستغربون فإن التجديد هنا لا يعني إضافة إلى الدين ما ليس منه أو انتقاص بعض مكوناته إنما يعني صحة الممارسات، وكذلك تجديد حياة الأمة بإنشاء الفرد والأسرة والجماعة والشعب المسلم الرباني الواعي برسالته.

ولم يتوقف مجهود الرجل وجماعته عند حدود التنظير والتوعية، وإنما تعداها إلى التغيير الميداني خاصة في عقد الأربعينيات عندما تركز المجهود على استئناف الحياة الإسلامية بطريقة مرحلية متدرجة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية من خلال إنشاء المصانع والمستوصفات ونحوها التي تُمثِّل البديل الإسلامي العملي، أما الجهاد فقد كان السبيل في مواجهة اليهود المعتدين في فلسطين والاحتلال الإنجليزي في مصر، وبقدر ما كان حسن البنا يعتمد على اللين والهوادة في إصلاح المجتمع كان متحمسًا للجهاد ضد العدو المستعمر وقد نظر له طويلاً ومارسه أتباعه ميدانيًّا في فلسطين وضفاف القنال.

إسلام.. عروبة.. إنسانية

بعيدًا عن الجمود الرافض والتفتح المتحلل دعا المرشد الأول إلى الإسلام غير المشوه، الإسلام الرباني الذي يملأ القلوب حياةً والعقول معرفةً ويُنشِّط الجوارحَ لصناعةِ الحياة الصالحة الراقية؛ لذلك لم يُضق ذرعًا بالمفاهيم التي لا تناهض دين الله مثل العروبة باعتبارها انتماءً نعتزُّ به ولغةً هي من شعائر الإسلام ودعوة تُجمِّع ولا تُفرِّق وتؤمن بالخصائص وترفض أي بُعد عرقي أو تميز ترابي، كما احتضن- رحمه الله- الوطنية بعد أن نزع منها زوائد الجاهلية وأخضعها للضوابط الشرعية والتصور الأصيل.

ومن مآثره الكبرى سعيه الجاد إلى التقريب بين أهل السنة والشيعة ، ولولا أن المنيةَ قد عاجلته لأوصل- فيما نظن- ذلك المشروع إلى منتهاه في إطار المسعى التوحيدي الذي كان يشغل باله، ولم يمنعه تميزه العقيدي من ربط أجمل الصلات مع مواطنيه الأقباط وزعمائهم الدينيين والسياسيين من أجل المصلحة الوطنية وخدمة القيم والمثل المشتركة، وقد مكَّنه هذا الصدر الرحب، وهذا الأفق الواسع من النظر إلى الحضارة الغربية من منظورٍ إنساني بعيدٍ عن مواقف الرفض المطلق والتقوقع السلبي فناهض وبشدّة الغزو الثقافي ودعا إلى التفاعل الحضاري آخذًا في الاعتبار الموروث البشري المشترك، وهكذا تعامل بفهم عميق مع دوائر الإسلام والعروبة والوطنية والإنسانية وبين نسقها الصحيح وسياقها الممتد لكل من الوجدان والجوار والمصلحة والأخوة الإنسانية، وللعلم فهذا الذي ما زال يستعصي إلى اليوم على عدد من التنظيمات الإسلامية والقومية فأوقعها في أنانية قاتلة ونزاعات لا تنتهي.

عطاء قائد وجماعة

لم يمضِ الإمام الشهيد إلى ربَّه إلا وجماعته الفتية قد جاوزت طوق الاسم لتصبح أبرز مظاهر البعث الإسلامي تعقد عليها آمال التحرير وإعادة الإسلام إلى الدنيا لما رأى فيها الناس من علامات النجاح، فالحركة بقيادة مؤسساتها أثارت الوعي الإسلامي وعبَّأت الجماهير ووجَّهتها صوب الهدف، وجددت الانتماء للإسلام والاعتزاز بهو الالتزام بأحكامه وسمته، وقد كوَّنت لعملية التجديد عشرات، بل مئات العلماء حتى قيل لو نُزعت كتبهم لبقيت المكتبة الإسلامية الحديثة فارغةً أو تكاد، تخصَّصوا في العلوم الشرعية الاقتصاد والتربوية وغيرها، وأمدت عملية تحرير الأرض من الاستعمار بآلاف الرجال الربانيين الذين طمست مآثرهم الخيانات المحلية.

وقد نال منهم الشهادة غير قليل، كما كان لهم مع الاستبداد والطغيان منازلات معروفة، وفي ظروف الأمن والعافية، ولأول مرةٍ في العصر الحديث، شقَّت الحركة الطريق إلى النخبة المثقفة في البلاد الإسلامية، وارتبطت بجماهير الشعب فلم تُخدرها بالأوهام وإنَّما بصَّرتها بالحقائق، واهتمَّت بالطبقة العاملة وبرجال المال والأعمال وأبلت البلاء الحسن في كسب المرأة إلى جانبِ العمل الإسلامي الحركي، ولئن نشأت في مصر فقد نبتت لها فروع طيبة هنا وهناك حتى أصبح من النادر أن تخلو منها بلاد.

وقد بذل الإمام الشهيد لإنجاز هذه الأعمال حياته كلَّها ووقته كلَّه وماله كلَّه، فكان العمل للإسلام طعامه وشرابه وهواءه وراحته وضالته فأحبَّه أتباعه حبًّا لا يكاد يضاهى؛ لأنه كان أهلاً لذلك وقد نفخ فيهم روحًا جديدةً عجيبةً بقوا يعملون عليها بعد وفاته ردحًا من الزمن، ولعل مثالاً واحدًا يكفي لبيان متانة البناءِ النفسي الذي أقامه المؤسس، فعندما شغر منصب المرشد العام بعد اغتياله لم تجد الجماعة حرجًا من عرضه على رجالٍ ليسوا مصريين ولا عربًا في بعض الأحيان أمثال مصطفى السباعي وأمين الحسيني والبشير الإبراهيمي وأبي الحسن الندوي.

يمضي الرجل ويبقى البناء

اشتهر حسن البنا- كما يقول د. محمد عمارة- بالكياسة والصياغات المرنة والتوفيقية التي تدع مختلف الأبواب مفتوحة وتترك الفرص لكل الاحتمالات لذلك استطاع إقامة بناء دعوى متكاملٍ عميقٍ يُنذر بتهديدٍ فعلي للقصر الملكي بمصر والاستعمار الإنجليزي فبادرت هذه الدوائر إلى تدبير اغتياله يوم 12 فبراير 1949 ، وهو لم يجاوز الأربعين من عمره إلا بثلاث سنوات، فتوقف عطاء رجل أكد الراسخون في الدين والعلم والدعوة أنه مجدد القرن الرابع عشر الهجري عاش فيه بقسمات رجال القرون الأولى في تقواهم وروعهم وسعة علمهم وجليل أعمالهم، وصدق مَن قال (إن لم يكن حسن البنا وليًّا فليس لله ولي).

وقال الملك فاروق بعد عملية الاغتيال “الآن استقرَّ عرشي”، وكان واهمًا إذ طاردته لعنة الولي الصالح طول حياته، ويكذب مَن يظن أن غياب المؤسس لم ينل من متانة البناء الذي شيده فقد كان موته خطبًا كبيرًا أحدث زلزالاً استغله الخصوم لقضاءِ مآربهم، لكن صمود أبناء الحركة رغم هول الصدمة أبطل الكيد وبقي اسم حسن البنا علمًا على الإسلام الحركي الفعال المتجدد المصلح للنفوس والمجتمعات، وهي مكانة بلغها وهو حي، ويكفي أن نورد هذه الشهادة: فقد ترشح- رحمه الله- للبرلمان مرتين وخرجت الجماهير المؤيدة له تجوب الشوارع في المرة الأولى وتهتف “إلى البرلمان يا بنَّا”، أما في المرة الثانية فقد كانت تهتف “إلى البنا يا برلمان”!.

ذلك هو مؤسس الحركة الإسلامية المعاصرة لا ندعي له العصمة ولا نُحيطه بالقداسة، ولكنه نسيج وحده قلَّما يجتمع في شخصٍ واحدٍ ما اجتمع فيه من خصالِ الصلاح والنبوغ والعبقرية؛ وذلك لا يكون إلا لمَن انتدبته العناية الإلهية ليجدد للأمة دينها، ويكفيه فخرًا أن غرس يده قد أتى من الثمار ما لم يره- رحمه الله- في حياته وما لم يحلم بمثله أي مجدد ومصلح وتبشر الأيام بمزيدٍ من الثمرات الطيبة تغدق بها الشجرة المباركة التي غرسها.

توفي الشيخ محمد الغزالي وهو يذكر أفضال حسن البنا عليه، وما زال العلامة القرضاوي يؤكد أنه أكثر الناس تأثيرًا فيه، ولو أنصف الناس لأعلنوا أن ثبات غزة الشامخ وانتصارها في معركة الفرقان إنما هو من صنيعِ أتباعه بفصلِ الله تعالى والتربية الراسخة المتكاملة التي ورثوها ومنه، وبثوها في أهل غزة، والحمد لله رب العالمين.


الإمام حسن البنا .. واضع نظريات العمل الإسلامي المعاصر

ظلَّ العمل الإسلامي يعاني من تجزئته وانتقاصه وغموضه ومن ثَمَّ كانت المعاناة والآلام؛ حيث كان العمل الإسلامي في حاجةٍ إلى مَن يُجلِّيه ويُحدد معالمه ويرسم طريقه لينتظم فيه تيار الصلاح المتدفق الباحث عن هويته، الراغب في نصرة دينه.

وظلَّ العمل الإسلامي مفتقرًا إلى مَن يُحدد الأهداف العليا التي ينبغي على المسلمين أن يعملوا من أجلها، ويُحدد مراحل العمل الإسلامي لتحقيق هذه الأهداف العليا، ويُخط بعمله وجهاده وبذله وعطائه سبيل الوصول للهدف المأمول.

شاء الله تعالى لأمة الإسلام أن تنهض من كبوتها وتصحو من غفوتها وتقوم من عثرتها وتستعيد وعيها وتدبُّ فيها رُوح العمل والنشاط لنصرةِ دين الله والتمكين له من جديد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله رب العالمين.. شاء الله تعالى أن يبث في الأمة روحًا جديدة.

فكان حسن البنا واضع نظريات العمل الإسلامي المتكامل الشامل في العصر الحديث، وكانت عبقرية البناء والتأسيس من أجل نهضة الأمة والتمكين للدين ورفع شأنه وجمع الأمة تحت رايته وتحويل العمل للإسلام من ميدان القول إلى ميدان العمل وتقديم التجارب الناجحة والنماذج العملية التي تؤكد جدارة المشروع الإسلامي الحضاري، وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين قال: “إنَّ الله يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنة مَن يُجدد لها دينَها” (رواه أبو داود والحاكم والبيهقي).

“حدد الإمام البنا الأهداف التي يفترض على كلِّ مسلمٍ أن يعمل من أجلها، وبين مضامينها، وهي ليست أهدافًا مخترعة، ولكنها أهداف مستقرأة، وحدد معالم الشخصية الإسلامية من خلال أركان البيعة والواجبات التي تحتاجها الحركة لتحقيق الأهداف على ضوء المراحل.

وحدد الأصول التي تضبط الفهم وتضبط العلاقات، وتضبط السير فلا غلو ولا تفريط ولا اندفاع وراء السراب ولا تعطيل للسنن، وكل ذلك ضمن فقرتي رسالة التعاليم أركان البيعة وواجبات الأخ المجاهد” (سعيد حوي- في آفاق التعاليم ص5 و6 وما بعدهما).

وسنعرض هنا نموذجين من فرائد وجواهر نظريات العمل الإسلامي للإمام البنا، يكشفان بوضوحٍ جانب العبقرية والتوفيق في حياةِ الإمام الشهيد.

أما النموذج الأول فهو من المقالات العامة التي اعتاد الإمام البنا- رحمه الله- أن يُسطِّرها في رسائله أو يتحدث بها في خطبه، وهي تجيب على سؤالٍ ضخمٍ جاشت به صدور الآلاف من الغيورين على الدين، الذين انتصبوا معبرين عن رجولتهم الكاملة، راغبين في العمل لنصرة الإسلام والتمكين له في الأرض.. لقد استجابوا لنداء الحق والتفوا حول الإمام وسألوا مَن أين نبدأ؟ فأجاب الإمام البنا- رحمه الله تعالى- في رسالة “إلى أي شيء ندعو الناس؟” فقال: “إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوةٍ نفسيةٍ عظيمة تتمثل في عدة أمور:

- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.

- ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.

- وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.

- ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقديرٌ له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره.

على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تُبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة وتتكون الشعوب الفتية وتتجدد الحياة فيمن حُرموا الحياة زمنًا طويلاً.

وكل شعبٍ فَقَدَ هذه الصفات الأربع أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جوٍّ من الأحلام والظنون والأوهام، ﴿إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ (يونس: من الآية 36)، هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).

وهو أيضًا القانون الذي عبَّر عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود: “يوشك الأمم أن تتداعي عليكم كما تتداعي الأكلة إلى قصعتها، فقال قائلٌ: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن..فقال قائلٌ: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت” (مجموعة الرسائل صــ54).

أما النموذج الثاني فهو بيانٌ شافي وإيضاح كافي لمسيرة العمل الإسلامي المعاصر، بدءًا من تكوين الفرد المسلم ذي الشخصية الإسلامية المتكاملة، وانتهاءً بأستاذية العالم وريادة الكون.

ويُفصِّل الإمام البنا ذلك كله في رسالة التعاليم حين يذكر ركن العمل فيرسم الخطوات ويحدد المعالم ويوضح الواجبات بأسلوبه الذي امتاز به وهو السهل الممتنع الذي يسهل علي الجميع فهمه واستيعابه دون حاجةٍ إلى شرح معانٍ غامضة أو كلمات مبهمة.

يقول الإمام الشهيد وأريد بالعمل: ثمرة العلم والإخلاص ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (التوبة).

ومراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق:

1) إصلاح نفسه حتى يكون: قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادرًا على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدًا لنفسه، حريصًا على وقته، منظمًا في شئونه، نافعًا لغيره؛ وذلك واجب كل أخ على حدته.

2) وتكوين بيت مسلم، بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في مظاهر الحياة المنزلية وحسن اختيار الزوجة، وتوقيفها على حقها وواجبها، وحسن تربية الأولاد والخدم وتنشئتهم على مبادئ الإسلام؛ وذلك واجب كل أخ على حدته كذلك.

3) وإرشاد المجتمع، بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل والأمر بالمعروف والمبادرة إلى فعل الخير وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائمًا؛ وذلك واجب كل أخ على حدته، وواجب الجماعة كهيئة عاملة.

4) وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي- غير إسلامي- سياسي أو اقتصادي أو روحي.

5) وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق؛ وبذلك تؤدي مهمتها كخادم وأجير عندها وعامل على مصلحتها والحكومة الإسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.

ولا بأسَ بأن نستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة ولا عبرة بالشكل الذي تتخذخ ولا بالنوع، ما دام موافقًا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي.

ومن صفاتها: الشعور بالتبعة، والشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس، والعفة عن المال العام والاقتصاد فيه.

ومن واجباتها: صيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة.

ومن حقها- متى أدَّت واجبها- الولاء والطاعة، والمساعدة بالنفس والأموال.

فإذا قصرت، فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق.

6) وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافتها وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة.

7) وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه ﴿حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ ، ﴿ويأبى الله إلا أن يتم نوره﴾.

وهذه المراتب الأربعة الأخيرة تجب على الجماعة متحدة، وعلى كل أخٍ باعتباره عضوًا في الجماعة، وما أثقلها تبعات وما أعظمها مهمات، يراها الناس خيالاً ويراها الأخ المسلم حقيقةً، ولن نيأس أبدًا، ولنا في الله أعظم الأمل ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).


توحيد الجهود حول الفكرة الإسلامية

حرص الإمام المؤسس حسن البنا (رحمه الله) منذ نشأة هذه الدعوة على توحيد الجهود، ونبذ الفرقة والخلافات بين كلِّ العاملين المخلصين لدعوة الإسلام، لأن واضع نظريات العمل الإسلامي الحديث ربى ابناء جماعته على إن صاحب الدعوة وهو يسعى للتعريف بالفكرة الإسلامية والعمل على إرشاد المجتمع إلى تعاليم الإسلام وقيمه وأخلاقه، فإنه لا يعمل منفردًا؛ لتحقيق هذه الغاية السامية، وهي إعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ والتمكين لدينه في ربوع العالم، كما أنه يعلم تمام العلم أن الإخوان المسلمين ليست جماعة المسلمين، ولكنها جماعة من المسلمين، وهذا يعني له أن هناك كثيرًا من العاملين؛ لتحقيق نفس الغاية والفكرة الإسلامية، وإن اختلفت الميادين التي تعمل من خلالها لتحقيق ذلك؛ لذلك فقد وجب على صاحب الدعوة أن يكون مبادرًا دائمًا لتوحيد هذه الجهود والطاقات والتنسيق بينها والعمل على جمع كلمتها وتحقيق الأخوة الإسلامية بينها، والعمل على إزالة أسباب الفرقة والاختلاف تحقيقًا لقوله تعالي: “وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا “ (الأنفال: من الآية 46) ، وقوله تعالى: “ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”.. (المائدة: 2).

ومن أجل هذه الغاية السامية حرص - رحمه الله- على تحديد موقف الإخوان المسلمين من الهيئات الإسلامية بقوله: “أحب كذلك أن أفصح لحضراتكم عن موقف الإخوان المسلمين من الهيئات الإسلامية في مصر، وذلك أن كثيرًا من محبي الخير يتمنون أن تجتمع هذه الهيئات وتتوحد منها جبهة إسلامية ترمي عن قوس واحدة، ذلك أمل كريم وأمنية عزيزة يتمناها كل محب للإصلاح في هذا البلد، والإخوان المسلمون يرون هذه الهيئات على اختلاف ميادينها تعمل لنصرة الإسلام، وهم يتمنون لها جميعًا كل النجاح، ولم يتفهموا أن يجعلوا من منهاجهم التقرب منها، والعمل على جمعها، وتوحيدها حول الفكرة العامة”.

وكما حرص رضون الله عليه على تقرير اتباع القواعد الحاكمة، والضوابط الأساسية التي تمنع حدوث الفرقة والخلاف في منهج العمل لدى الجماعة وفي مقدمتها تلك القاعدة الذهبية التي تحدث عنها الفقهاء والعلماء وردَّدها الإمام حسن البنا رحمه الله- وعمل على تحقيقها عمليًّا: نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه.

كما حدد في منهاج العمل للجماعة العديد من المعالم التي يجب العمل بها والسير عليها من قبيل:

- البعد عن مواطن الخلاف: فيقول (رحمه الله): “فأما البعد عن موطن الخلاف الفقهي، فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري لا بد منه، إذ أن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام، لهذا كان الخلاف واقعًا بين الصحابة أنفسهم وما زال كذلك، وسيظل إلى يوم القيامة، وما أحكم الإمام مالكًا- رضي الله عنه-؛ حيث قال لأبي جعفر وقد أراد أن يحمل الناس على “الموطأ”: “إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة”، وليس العيب في الخلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي، والحجر على عقول الناس وآرائهم.

وهذه النظرة إلى الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة الواحدة، وحسب الناس أن يجتمعوا (على ما يصير به المسلم مسلمًا) كما قال زيد- رضي الله عنه-، وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة يريدون أن ينشروا فكرتهم في بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معنى للجدل ولا للخلاف فيها “....رسالة المؤتمر الخامس

وقرر رحمه الله أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين نفسه، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور، ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هين لين، لا جمود فيه ولا تشديد، ومن القواعد الحاكمة لتحقيق هذه الوحدة بين العاملين للإسلام ما ذكره الإمام البنا- رحمه الله- في رسالة دعوتنا بقوله: “نعتذر لمخالفينا: نعتقد هذا فنلتمس العذر كل العذر لمَن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدًا حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته”.

ثم أجمل الأستاذ البنا- رحمه الله- هذه القواعد في كلمات معدودة بقوله رحمه الله: “ذلك منهاج الإخوان المسلمين أمام مخالفيهم في المسائل الفرعية في دين الله، يمكن أن أجمله لك في أن الإخوان يجيزون الخلاف، ويكرهون التعصب للرأي، ويحاولون الوصول إلى الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب”.


الإمام الشهيد حسن البنا ومنهجيته في الانفتاح

رؤيــة الإمـام الشهيد للانفتاح

يرى الإمام أن الانفتاح يلزمه فكرة تحركه أو بعبارة دقيقة رسالة ... والفكرة إذا لم تتحرك فهي عاجزة أو تحمل بذور الفشل والفناء وإما إما أن حامليها غير قادرين على تحريكها للأسباب الآتية كما ذكرها الإمام البنا في رسائله :

1- قلة الإيمان بها أو ضعف القناعة نحوها وهذا ما جعله يضع الإيمان العميق من الوسائل الدعوية الكبرى

2- التراجع أمام الأفكار المخالفة أو المعادية أو الضالة المنحرفة بحكم انتشارها وأنها مدعومة من أوساط نافذة ومؤثرة

3- عدم استيعابها بالأساليب العملية الجادة والبرامج الموضوعية والواقعية وتركها في مجال الخيال والنظري المجرد

قال الإمام الشهيد “ إن تكوين الأمـم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمـة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور إرادة قوية لايتطرق إليها ضعف ووفاء ثابت لايعدو عليه تلون ولا غدر وتضحية عزيزة لايحول دونها طمع ولابخل ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره ،،،على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها . وعلى هذه القوة الروحية الهائلة نبني المبادئ وتتربى الأمم الناهضة وتتكون الشعوب الفتية وتتجرد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنا طويلا ..”

في منهجية الإمـام الشهيد رحمه الله تعالى تجلت جملة من الحقائق وهي ذات أهمية في مسيرة الحركة الإسلامية وتعمل على مد الفكرة بالحيوية الكافية لتجعلها تستمر وتتطور مع الأجيال وهي أربع حقائق

الحقيقة الأولى ... الفكـرة تنتعش وتتفاعل بالاحتكاك والتجاوب مع الأحداث والأوضاع المختلفة وبالاتصال بالأخر سواء بالقبول والتأييد أو الاعتراض والتحامل والخصومة أو الانتقاد

وقد أشار الإمام رحمه الله تعالى إلى هذا بقوله “ الناس أمام دعوتنا أربع:

1- المؤمن بها “القناعة والقبول”

2- المتردد الذي يقدم ويتراجع في الوقت نفسه نظير شبهات تحوم حوله

3- النفعي هو الذي ينظر للفكرة من زاوية المصلحة والمنفعة التي يسعى لتحقيقها من وراء حمل الفكرة

4- المتحامل وهو من يحمل فكرة مناقضة لها ويعمل على تقويضها ويشوه حاملها ويعترضه بكل ما أمكن له ذلك بالقدح والطعن والتشكيك في صحتها ومقاصدها

وإظهار الفكرة يقتضي انفتاحا واتصالا بالأخريين والخروج إليهم بمشروع يحمل لهم الخير والسلامة في الدنيا والآخرة .

وكان الإمام الشهيد يجتهد في الاتصال بجميع شرائح المجتمع وبكل الوسائل المشروعة والمتاحة من خلال المنتديات والتجمعات والدروس والخطب والرسائل لكل من يهمه الأمر من ذوي الكفايات العلمية والأدبية والعلمية والدعوية والسياسية وغيرها والمشاركة في كل الفعاليات التي تحدث في المجتمع مع الانتساب إلى النوادي والجمعيات النافعة والتي تؤدي أدوار إصلاحية ووطنية.

الحقيقة الثانية .... أظهرت المنهجية المتبعة من طرف فضيلة الإمـام الشهيد أن المسالك المؤدية لأعمـاق المجتمع ومواقعه الحساسة أنها مغلقة وبينت أن الإغلاق الحاصل في المجتمع يرجع إلى عدة أسباب تشكل عقبة في طريق الانفتاح يشتكي منها الدعـاة إلى الله

أولا - الجهل بالدعوة وعدم معرفة الفكرة والإنسان عندما يجهل شيئا ينفر منه وينغلق أمامه ويوجس منه خيفة ويتحفظ منه كثيرا

ثانيا - معرفة حقيقة الفكرة وإدراك مقاصدها وأبعادها ومن هنا تظهر منهجية التصدي ورد الفعل وغلق المسالك أمـام انتشار الدعوة

ثالثا - الموروث الاستعماري لقد ترك الاستعمار إرثا يعمل من خلال دوائر النفوذ والتأثير على إعاقة السير والإصلاح ويريد أصحاب الموروث على تكريس التبعية وإفشال كل مشاريع الاستقلالية والاعتزاز بالهوية الإسلامية الوطنية

الحقيقة الثالثة ... أظهرت المنهجية أن الانفتاح ليس شعارا ولا خطبة سياسية تطلق ولا رغبة تحمله النوايا الحسنة وإنما الانفتاح مجاهدة للنفس لقبول الأخر والصبر معه وحمله كما وفد إلي الحركة مع القدرة على ترقيته وتأهيله للأدوار الحركية والدعوية، والانفتاح ممارسة وعمل متواصل دون انقطاع لايخضع للظرفية والمناسبة السياسية

الحقيقة الرابعة .... بينت منهجية الانفتاح لدى الإمـام الشهيد أنها عملية قيادية بالدرجة الأولى من جهة التخطيط والبرمجة والتنفيذ والميدانية من جهة أخرى

وهي قيادية بالأفق والسقف العالي فالمنفتح يؤهل نفسه لريادة الناس والتأثير فيهم والذي ينغلق يخشى تأثير الناس فيه ومن هنا يظهر ملمحا خطيرا هو الضعف والخوف من مواجهة الناس وحقائقهم فلا قدرة له في جذب الناس لدعوته وفكرته

بهذه الحقيقة استحق الإمـام الشهيد صفة المجدد والقائد الملهم في الأمـة الإسلامية

أبرز ملامـح منهجية الإمام في الانفتاح

يرى الإمام المؤسس أن الانفتاح هو التأثير الإيجابي في الآخرين والعمل على تركيب مسار سليم في حياة الناس وذلك بوضع القدوة أمـامهم وتقريبها إليهم بصورة عملية ملموسة و تتحرك فيهم.. والذي لايقدر على التأثير في الأخر فلا يلتفت إلى الانفتاح ولا يشتغل به فيكون مضيعا لجهده ويهدر وقته و يلزمه أن يلوم نفسه وليس غيره .

وقد وضع الإمام جملة من معايير في الانفتاح ليكون صائبا وهادفا في عمقه وأفاقة

في مقدمة ذلك التقاطع مع كل المخلصين لدينهم ووطنهم وشعبهم بالتعاون والاستيعاب والمشاركة الفعالة والإيجابية في كل عمل أو موقف أو مشروع يحمل درء المفاسد وتحقيق المصالح للمجتمع والوطن

وكذلك العلاقة الإيجابية والنوعية مع التيار الإسلامي بمختلف تصوراته وأطيافه بدون استثناء وقد عبر عن هذا بقوله “ لو أراد الله وألتقت قوة الأزهر العلمية بقوة الطرق الروحية بقوة الجماعات الإسلامية العملية لكانت أمة لا نظير لها تـوجه ولاتتـوجه تقود ولا تنقاد تؤثر في غيرها ولايؤثر فيها وترشد المجتمع الضال إلى سواء السبيل “

محددات الانفتاح من خلال منهجية الإمام البنا

حدد الإمام البنا عددا من المحددات في إطار منهجيته المرسومة لتحقيق الانفتاح :

- الإيمـان العميق بالفكرة لا التعصب للأشخاص والهيئات

- امتلاك عقلية التحاور ونفسية المحاور وأسلوب الحوار

- القدرة على التوافق والتعاون والتقاطع

- السعي لتحقيق المدافعة في سياسة المشاركة “دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة” .

- ترجيح المصلحة العليا للفكرة والدعوة أمام المصلحة الخاصة للتنظيم والهيئة والكيان .

- الحفاظ على ثنائية العلاقة بين الدعوي والسياسي وعند التوازن يكون للدعوي حق الصدارة بمعنى أن السياسي يجب أن يوظف لخدمة الدعوي وليس العكس

- الحركة الإسلامية تأسست من أجل إقامة الإسلام وتحكيم الشريعة وهذا الهدف لاينبغي الخجل منه أو الرضا بتحوله إلى نقطة ضعف

- الحركة الإسلامية لم تنشأ باعتبارها جماعات سياسية وإنما بوصفها جماعات دعوية تتبنى العمل لإعادة المنهج الإسلامي إلى واقع الحياة ومن ثم كانت المشاركة السياسية تخريجا تاليا وطبيعي على هذه الحقيقة

- الدول التي تسمح بالممارسة السياسية للإسلاميين تتركز جهود المنع لديها ليس في أصل وجود الحركة الإسلامية أو أصل مشاركتها ولكن في ضبط مستوى تفوقها وانتشارها واكتساحها في الانتخابات عند حد معين لايتم تجاوزه وهذا الانتشار والاكتساح والحضور الشعبي لايتحقق بالمزاجية السياسية في المواقف ولا المزايدة السياسية ولا العنتريات الوهمية وإنما يتحقق بالانفتاح الواعي والهادف الذي يرسمه الميدان .

موقف عموم الناس من الدعوة

يقول الإمام الشهيد: “والناس عندما تبلغهم دعوة الإخوان يكونون أحد أربعة أصناف: مؤمن- متردد- نفعي- متحامل”.

مؤمن: إما شخص آمن بدعوتنا، وصدق بقولنا، وأعجب بمبادئنا، ورأى فيها خيرًا اطمأنت إليه نفسه، وسكن له فؤاده؛ فهذا ندعوه أن يبادر بالانضمام إلينا، والعمل معنا.

متردد: وهذا شخص لم يستبن له وجه الحق، ولم يتعرف في قولنا معنى الإخلاص، والفائدة فهو متوقف متردد؛ فهذا نتركه لتردده، ونوصيه بأن يتصل بنا عن كثب، ويقرأ عنا من بعيد، أو من قريب، ويتعرف إلى إخواننا فسيطمئن بعد ذلك إن شاء الله.

نفعي: وهذا شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة، وما يجره هذا البذل له من مغنم؛ فنقول له: حنانيك، ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله إن أخلصت، فإن كشف الله الغشاوة عن قلبه، وأزاح كابوس الطمع من فؤاده؛ فسيعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وسينضم إلى كتيبة الله، وإن كانت الأخرى فالله غني عمن لا يرى لله الحق الأول في نفسه، وحاله، ودنياه، وآخرته وموته وحياته.

متحامل: وهذا شخص ساء فينا ظنه، وأحاطت بنا شكوكه وريبه فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم؛ فهذا ندعو الله لنا وله أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ندعوه إن قبل الدعاء، ونناديه إن أجاب النداء، وندعو الله فيه، وهو سبحانه أصل الرجاء، وإنما شعارنا معه ما أرشدنا إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم من قبل: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”. (رسالة دعوتنا صـ14- 15، باختصار).


موقف الدعوة من أصحاب التحامل والاتهامات

وحول الموقف من هذه الألوان من الناس، فنرد عليهم ونوضح إن قبلوا النداء، ولا ندخل في حوار أو جدال، ولا ننشغل برد الاتهامات، ولا نرد بنفس الأسلوب، أو ندخل معهم في خصومة؛ فهذا كفاح سلبي. ويوضح باختصار الإمام الشهيد أنه ليس لنا مع هؤلاء المتحاملين من جواب، إلا أن نقول لهم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

وقد صنف الإمام الشهيد هذا الصنف من الناس إلى أنواع خمسة أو ستة:

1- شخص متهكم مستهتر لا يعنيه إلا أمر نفسه، وإلا أن يهزأ بالجماعات، والدعوات، والمبادئ، والمصلحين.

2- أو شخص غافل عن نفسه، وعن الناس جميعًا لا غاية، ولا وسيلة، ولا فكرة، ولا عقيدة، إلا ترديد ما يسمع من اتهامات.

3- أو شخص مغرم بتشقيق الكلام، وتنميق الجمل؛ ليقول السامعون: إنه عالم ليظن الناس أنه على شيء، وهو يعلم كذب نفسه، وإنما يتخذها ستارًا يغطي به قصوره وأنانيته.

4- وإما شخص يحاول تعجيز من يدعوه ليتخذ من عجزه عن الإجابة عذرًا للقعود وسببًا للانصراف.

5- وكذلك يُضاف لهذه الأصناف الذين يهاجمون الدعوة لقاء ثمن بخس من متاع الدنيا، ويتقربون بهذا الهجوم إلى ذوي السلطان والنفوذ، أو يكون مصدر تحاملهم خصومةً خاصةً وعداءً مسبقًا، وليس لنا مع هذه الأصناف إلا أن نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

6- وهناك صنف آخر من الناس قليل بعدده، يسأل إذا دعوته إلى المشاركة بغيرة وإخلاص، إنه غيور تملأ الغيرة قلبه، عامل يودّ لو علم طريقة العمل، هذا الصنف هو الحلقة المفقودة، والضالة المنشودة، وإنا على ثقة إن وقع في أذنه النداء لن يكون إلا أحد رجلين: إما عامل مع المجدين، وإما عاطف من المحبين، فهو إن لم يكن للفكرة فلن يكون عليها.

فعليهم أن يجربوا ولا يتواكلوا، ويندمجوا، فإن وجدوا صالحًا شجعوه، وإن وجدوا معوجًا أقاموه، ولا تكن تجربتهم حائلاً بينهم، وبين التقدم. اهـ...(رسالة هل نحن قوم عمليون صـ 95- 61 باختصار).

ويقول الإمام الشهيد عن قاعدة عامة وتجربة من تجارب الواقع، في شأن هذه الأصناف المختلفة: “ورأينا منهم ضروبًا وألوانًا وأصنافًا وأشكالاً جعلت النفس لا تركن إليهم، ولا تعتمد في شأن من الشئون مهما كان صغيرًا عليهم” ...(رسالة هل نحن قوم عمليون صـ60).

كما يذكر في مذكرات الدعوة والداعية ما نصحه به الشيخ محسن العرفي بشأن تزكية الأفراد، وإدخالهم الجماعة بأن يحذر الشيخ غير الملتزم، فإن صلاحه لنفسه، وعدم التزامه وانضباطه يضرّ الصف؛ لكن يستفيد بهم خارج الصف.


موقف الدعوة من شعوب العالم الغربي

يفرّق الإمام الشهيد في الموقف والتعامل بين شعوب العالم الغربي، وبين الحكومات الغربية التي تتخذ موقفًا معاديًا للإسلام، وشعوبه، وكذلك ما ارتبط بها من منظمات تدور في فلكها، وتخدم أغراضها.

فبالنسبة للشعوب نادى الإمام الشهيد بالتعاون، ونشر السلام العالمي على أسس العدل والحق، وتوضيح دعوة الإسلام، والرد على حملات التشويه ضده.

وعلاقة الأمة الإسلامية مع غيرها من الدول تقوم على هذه الأسس:

1- الدعوة؛ أي دعوتهم إلى الإسلام.

2- التعاون لخير الإنسانية.

3- المعاملة بالمثل.

ويشير الإمام الشهيد إلى ذلك فيقول: “وقوم ليسوا كذلك، لم نرتبط معهم بعد بهذا الرباط (أي رباط العقيدة والوطن) فهؤلاء نسالمهم ما سالمونا، ونحب لهم الخير ما كفوا عدوانهم عنا، ونعتقد أنه بيننا وبينهم رابطة، وهي رابطة الدعوة، علينا أن ندعوهم إلى ما نحن عليه؛ لأنه خير الإنسانية كلها، وأن نسلك إلى نجاح هذه الدعوة ما حدده لها الدين نفسه من سبل ووسائل، فمن اعتدى علينا منهم رددنا عدوانه بأفضل ما يُردّ به عدوان المعتدين” (رسالة دعوتنا صـ24).

ويقول: “وأما العالمية والإنسانية فهي هدفنا الأسمى، وغايتنا العظمى، وختام الحلقات في سلسة الإصلاح”، “إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله” (رسالة المؤتمر الخامس )، “نريد السلام للعالم كله” (من رسالة اجتماع رؤساء المناطق )، ويقول أيضًا: “نحب الخير، ونتعاون مع الغير” (من رسالة المؤتمر السادس ).

“فمن دعوتكم أيها الإخوة الأحبة أن تساهموا في السلام العالمي، وفي بناء الحياة الجديدة للناس بإظهارهم على محاسن دينكم، وتجلية مبادئه وتعاليمه لهم وتقديمها” (من رسالة اجتماع رؤساء المناطق صـ251)، “وأن نقيم في هذا البناء الإنساني لبنة” (رسالة دعوتنا في طور جديد ).

كما يشير فضيلته إلى أن تطور الشعوب والزمن سوف يؤدي إلى التمهيد لهذه الفكرة العالمية: “كل ذلك ممهد لسيادة الفكرة العالمية، وحلولها محل الفكرة الشعوبية القومية”. اهـ.


أمثلة من التربية الحضارية عند الإمام البنا

فى امتحان الليسانس فى دار العلوم سأل أحد الممتحنين الأستاذ البنا عن حصيلته من الشعر العربى، فأجابه ثمانية عشر ألف بيت من الشعر.

فسأله الرجل هل تحفظ قصيدة طرفة ابن العبد؟

قال: نعم، استطرد الشيخ وسأل: هل أعجبك فيها بيت معين،

فقال البنا: نعم، «إذا القوم قالوا من فتى.. خلت أننى عنيت فلم أكسل ولم أتبلد.

فطرب الأستاذ لإجابة البنا طربًا عظيمًا، فسأله ممتحن آخرعن سر سروره البالغ بهذه الإجابة، فقال له الشيخ الممتحن: لقد وقفت نفس الموقف أمام الإمام محمد عبده، وسألنى نفس السؤال فظللت أقول بيتًا من هنا وبيتًا من هناك، فضاق الإمام محمد عبده بإجاباتى، وقال لى: هل تذكر قصيدة طرفة ولا يذكر قوله: «إذا القوم قالوا من فتى، خلت أننى عنيت فلم أكسل ولم أتبلد»، وهذا الفتى البنا قالها من أول مرة، وبدون تردد.

نعم لقد كان أهم ما يميز الإمام البنا هو هذه الهمة الحضارية العظيمة، والتى تدفعه دفعًا إلى البحث فى خريطة المهام الحضارية وإعداد نفسه لتحمل هذه المهام بما حباه الله من فضل، وأفاض عليه من علم، ومن قدرات متعددة، ولعل هذه الخاصية «الهمة الحضارية» و«البحث عن الواجبات الحضارية» هما أهم ما يميز حركة الإخوان المسلمين .

لقد كانت دعوة البنا دعوة إحيائية تحيى موات الأمة، وتعيدها إلى النبع الصافى من القرآن والسنة متجاوزة عمليات الإحياء الضيقة التى كانت تقوم على نُتَفٍ مذهبية أو نتفٍ تاريخية، أو نتف عرقية. وهذا الإحياء لم يكن نظريًا، وإنما كان إحياءً عمليًا، فهذا الجسد الذى تريد إحيائه محتلة أرضه، منهوبة موارده، وتحيط به أمراض حضارية كثيرة. فهذا إذن إحياء تحت صليل السيوف الممشوقة فوق رقابنا تحرس ما تراكم فى وعائنا من تخلف حضارى.

وفى هذه الوريقات سوف أتذكر مع القارئ مجموعة من مواقف الأستاذ البنا فى التربية الحضارية ومعظمها سمعتها ممن شاهدوها بأنفسهم، فأنا هنا أروى عن شهود.

ولن أعلق كثيرًا على هذه المواقف حتى أتيح للقارئ حرية التأمل، واستخراج العبر.

1- تقوية النسيج القومى:

فى أوائل التسعينيات جاءنى زميل مهندس إلى اللجنة العلمية فى نقابة المهندسين، وقدم لى شابًا لا أعرفه: أقدم لك المهندس أخنوخ فانوس - رئيس المركز الثقافى الأمريكى بالقاهرة - فسألت الشابا على الفور: أنت ابن المجاهد العظيم لويس فانوس ، فأجابنى: نعم، المستشار السياسى للإمام الشهيد حسن البنا، استغرب زميلنا الأول، حيث جاء ليعرفنى بالرجل فوجدنا قد تعارفنا بظهر الغيب، وهنا حكيت لهم قصة أعرفها عن البنا وفانوس.

القصة رواها لى الأستاذ عبد الحليم أبو شقة الناشر الشهير، كان ذلك فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى عندما تقدم شابان مسيحيان يعيشان فى طنطا للانضمام لشعبة الإخوان المسلمين هناك. وهنا انقسم الإخوان إلى رأيين، رأى يرى أنه لا مانع من ذلك، ورأى يعارض هذا الانضمام، أرسلوا رسالة للإمام البنا يطلبون منه الرأى، مضى شهر أو أكثر، ولم يصل الرد، ولكن فاجأهم الأستاذ البنا عندما دعوه فى المولد النبوى أن حضر وأحضر معه صديقه ومستشاره السياسى الأستاذ لويس فانوس ، وتحدث يومها فى الحفل الأستاذ لويس من روح مصرية تؤمن بأن مصر تملك حضارة عربية إسلامية تدعو المسلم والمسيحى أن يستمسك بها ويعيش فى رحابها، ويعمل على رفعة بلده فى ظلها، بعد الحفل اجتمع الإخوان بمرشدهم وسألوه الرأى فى المشكلة القديمة، فقال لهم: إنه أرسل الرد بالموافقة من قبل، ولكن يبدو أن الرد وقع فى أيدى المعارضين فخافوا أن يكون فى الأمر لبس فانتظروا، والأستاذ البنا لم يكن له مستشار مسيحى واحد، وإنما كانت له مجموعة من القيادات المسيحية تعينه على اتخاذ المواقف الوطنية السديدة، فالبنا يريد أن ينهض بالوطن كله لا بجزء منه، وهو فى حاجة إلى كل يد تبنى معه، مع احترام عقائد الجميع.

2- التعاون التام مع كل القوى الوطنية فى العمل الوطنى المشترك:

يحضرنى فى هذا ما رواه الرئيس السادات فى مذكراته (البحث عن الذات) عن رغبته فى العمل مع شباب الإخوان المنخرطين فى الإعداد السرى لمقاومة الاحتلال الإنجليزى فى مصر ، والعصابات الصهيونية فى فلسطين، يذكر السادات أن الأستاذ البنا أرشده أن يذهب إلى عيادة طبيب فى باب اللوق، ويدخل إلى الطبيب كمريض، وهناك سيجد من يوجهه.

وفعل السادات ذلك، وفوجئ بالفريق عزيز باشا المصرى فى حجرة الطبيب، حيث ضمه معهم فى فصائل المجاهدين، والتى ضمت فيما بعد أسماء لامعة مثل: عبد المنعم عبد الرءوف، وجمال عبد الناصر وغيرهما. كان الأستاذ البنا يسعى إلى تحرير وطنه من الاحتلال الإنجليزى، وكان يرى تدفق اليهود فى هجرات جماعية إلى فلسطين، من أجل ذلك سعى عند كل القوى الوطنية فى مصر والعالم العربى من أجل جمع الجهود وتنظيم القوى لمواجهة هذا الخطر فى بلاد العرب والمسلمين، وكان يرحمه الله على صلة بكل الزعماء الوطنيين فى العالم العربى والإسلامى.

يحكى الدكتور توفيق الشاوى فى مذكراته الذاتية أن بعثته الدراسية كانت فى الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن استعد للبعثة ذهب يزور أستاذه البنا، وأخبره بشأن ابتعاثه، فاقترح عليه الأستاذ البنا أن يغير اتجاه البعثة من أمريكا إلى فرنسا، وأخبره أننا نحتاجك فى فرنسا لمساعدة مجتمعات المجاهدين هناك، والذين يحاولون أن ينظموا أنفسهم، ثم طلب منه بعد ذلك أن يلتقى هناك بالمجاهد الكبير شكيب أرسلان، وكان هذا ما تم وذهب الشاوى إلى فرنسا، وقام بدور متميز فى الإعداد لتحرير الشمال الأفريقى.

وعندما عاد الشاوى إلى مصر ودخل السجن عام 54 لم يخرجه من السجن إلا رجاء الإخوة المجاهدين الجزائر يين والمغاربة إلى الرئيس عبد الناصر بالإفراج عنه لحاجتهم الماسة إلى جهوده، وخرج الشاوى من السجن إلى المغرب ، حيث ظل يكافح مع إخوانه، حتى تحررت الجزائر ، وكان يسكن فى بيت واحد مع بن بيلا، ومحمد خيضر، وآخرين.

انظر إلى رؤية البنا وانفتاحه على كل القوى الوطنية فى عالمنا العربى والإسلامى، وتوجيه تلميذه الشاوى لتغيير وجهة بعثته من أجل الإعداد والمساهمة فى معارك التحرير، بل يحكى لى المستشار عثمان حسين - رئيس المحكمة الدستورية الأسبق - أن الأستاذ البنا أرسله هو وأخوين آخرين برسالة إلى رجل من الهند سيمر بمطار القاهرة ، ولم يكن هذا الرجل إلا القائد محمد على جناح - مؤسس باكستان فيما بعد - والعجيب أنهم عندما التقوا بالرجل فى المطار طلب منهم أن يحملوا إلى الأستاذ سلامًا عطرًا، ويبلغوه أنهم استفادوا كثيرًا من نصائحه الغالية، متى وأين كان يلتقى البنا الشهيد بإخوانه من قادة الجهاد فى الهند وإندونيسيا وكافة أنحاء العالم الإسلامى، وانظر كيف يربى تلاميذه على أن دار الإسلام دار لنا جميعًا.

3- قيمة الوقت :

يروى أستاذنا فريد عبد الخالق أن الأستاذ البنا اصطحبه ومجموعة صغيرة من شباب الإخوان لزيارة بهي الدين بركات باشا فى عوامته فى النيل. ذهب الأستاذ قبل الموعد بنصف ساعة، وانتظر هو وأصحابه على الشاطئ، ولما بقى من الوقت خمس دقائق نزل وحده، وظل ينتظر حتى حان الوقت تمامًا، فدق جرس العوامة فخرج الباشا لاستقباله، ونظر إلى ساعته، وقال مستغربًا شيخ ومنضبط كل هذا الانضباط، استأذن الأستاذ أن يدخل معه أصحابه، فأذن الباشا وانتهزها الأستاذ فرصة ليتحدث عن قيمة الوقت فى الإسلام، حتى أن الله أقسم به فى آيات كثيرة من القرآن الكريم، كان هذا درسًا عمليًا ونظريًا لتلاميذه ولمعالى الباشا، ثم أضاف الأستاذ درسًا آخر لتلاميذه ولصاحب الدار عندما عرض عليهم الباشا أن يقدم لهم طعام الغداء. قال الأستاذ الإمام: إننا صائمون، وإنه لصيام تطوع، فإن كان يسعدك أن نفطر فإن الإسلام يعطينا رخصة الإفطار من أجل إدخال السعادة على المضيف.

سأل الباشا فى استغراب وإعجاب: هل يقول الإسلام ذلك؟

وهكذا استطاع الأستاذ الإمام أن يعلِّم تلاميذه ومضيفه الباشا بطريقة عملية درسين فى منتهى الأهمية الحضارية: قيمة الوقت، وقيمة إفشاء المودة والسعادة بين الناس.

4- التدرج فى دعوة الناس:

فى إحدى زياراته للصعيد اقترح أحد إخوان الصعيد (الأخ حسين عبد الرازق ، وهو الأخ الأصغر للشيخ مصطفى عبد الرازق ) أن يزور الأستاذ المرشد أحد الباشوات فى المنطقة، واسمه لملوم باشا.

استأذنوه فى الزيارة فأذن، وذهبوا فى الموعد المحدد، وانتظروا فى قاعة الانتظار بالقصر قرب الساعة، وهنا نزل الباشا إليهم يرفل فى روب من الحرير وتنبعث منه روائح العطور الفاخرة.

وبدأ الأستاذ البنا بالحديث عن عائلة لملوم ومكانتها فى المجتمع، وأنها أعطتنا كثيرًا من العلماء النجباء، وأثنى ثناءً طيبًا على الخير الذى تقدمه عائلة لملوم لمجتمعها.

كان الباشا يستمع إلى الشيخ سعيدا ومنتعشاً .

ولما انتهى الشيخ من حديثه التفت إليه لملوم باشا قائلاً: إننى أحب أن أصلى، ولكن أشعر بضيق من هذا الوضوء الذى يسبق الصلاة، لقد انتظرتمونى حتى نزلت، وكنت أثناء ذلك فى حمامى الخاص الصباحى، فأنا أستحم مرتين فى اليوم: مرة فى الصباح ومرة فى المساء، فما هو ضرورة أن أتوضأ ما دمت نظيفًا؟

فقال له الأستاذ المرشد: لا تثريب عليك أن تصلى على هذا الحال، ولا تشغل نفسك بالوضوء، فزع الإخوان الذين كانوا فى صحبة الأستاذ من هذا الرأى العجيب (ومنهم الأستاذ فريد عبد الخالق راوى القصة)، ولكن الأستاذ أشار إشارة لهم ألا يخوضوا فى الأمر، وانتظروا على مضض حتى خرجوا.

وصاح الأستاذ فريد: ما هذا يا فضيلة المرشد، صلاة بغير وضوء!

قال له الأستاذ: يا فريد هذه ليست فتوى هذا علاج مؤقت.

يقول الأستاذ فريد: وبعد شهر من هذا اللقاء وصل الأستاذ حسين عبد الرازق للقاهرة، واجتمعنا حوله، فسأله: ما أخبار الباشا لملوم؟

قال: ما شاء الله أصبح يتوضأ لكل صلاة ويسبغ الوضوء، ويقيم معظم صلواته فى المسجد القريب من قصره، لقد تغير الباشا تمامًا، وأصبح إنسانًا غير الذى كنا نعرف، وهو دائمًا يذكر زيارة الأستاذ البنا له، ويثنى عليه كثيرًا.

انظر - رحمك الله - إلى هذا الداعية الموفق عندما يقول: هذه ليست فتوى، وإنما هو علاج. والعلاج يحتاج إلى طبيب حاذق، ولا يحتاج إلى متحذلق يحمل فوق ظهره أسفارًا.

5- لين الجانب والتبسط الراشد:

فى الأربعينيات كان الأستاذ فؤاد الخطيب يدرس فى الجامعة فى القاهرة ، وكان أبوه يعمل سفيرًا للسعودية فى مصر. تعلق الأستاذ فؤاد بالأستاذ البنا وأصبح من الناشطين فى الجامعة، وأراد الأستاذ فؤاد أن لا يحرم من هذا الخير زملاءه من الطلبة السعوديين، فدعاهم يومًا للغداء، ودعا الأستاذ البنا معهم.

وقبل أن يصل الأستاذ البنا ظل هؤلاء الطلاب يمزحون مع فؤاد حول شيخه القادم، ويطلقون النكات على المشايخ عمومًا، ومنهم شيخنا البنا، ويبدو أنهم لم يكونوا قد رأوه من قبل فتصوروه شيخًا كبيرًا، وعلى رأسه عمامة ضخمة، وتحيط به جبة واسعة، وقفطان مزركش.

ثم بدا لفؤاد أن ينزل لشراء بعض الأغراض، وللمصادفة يصل الأستاذ البنا فى غياب فؤاد، وكان يلبس بنطلونًا وقميصًا، وتبدو عليه الفتوة والنشاط، فلم يظنوا للحظة واحدة أن هذا الرجل هو الشيخ الذى ينتظرونه، واستمروا يمطرون المشايخ بوابل من النكات المضحكة، والشيخ يضحك معهم ويشاركهم فى مزاحهم، وبينما هم كذلك إذ وصل فؤاد

وقال: أستاذنا فضيلة المرشد.

فصمت الضاحكون فجأة، وقالوا فى صوت واحد: الأستاذ البنا.. معذرة يا أستاذ تصورناك غير ذلك، ولكن الأستاذ طمأنهم بكلام جميل عن فوائد الفكاهة البريئة، وأن الضحك ليس جريمة. المهم خرج من الموقف بسلاسة حضارية غريبة، ثم بدأ بعد ذلك طريقه إلى قلوبهم وعقولهم ليحملوا معه هَمَّ العمل الحضارى عندما يعودون إلى بلادهم.

يقول الأستاذ فؤاد الخطيب (عليه رحمة الله): إن هذه المجموعة أصبحت فيما بعد أعمدة بناء الدولة الحديثة فى السعودية ، بما فيهم الأستاذ فؤاد الذى تعرفت عليه بعد أن أصبح سفيرًا لبلاده فى بلدان كثيرة.

الملاحظة هنا أنه بدأ من واقع الناس، وبمهارة فائقة قادهم إلى الهَمِّ العام وحمَّلهم مسئولياته، سواء انضموا إلى تنظيمه، أو عملوا موازيًا لهذا التنظييم.

وتحضرنى فى نفس الاتجاه قصة رواها الدكتور سعيد رمضان فى إحدى خواطره فى مجلة “المسلمون”.

يقول الدكتور سعيد: إن الأستاذ البنا ذهب فى رحلة دعوية إلى قرية العزيزية بالشرقية، وكان القوم يحتفلون بذكرى القطب الصوفى الكبير الحسن الشاذلى، ودعوه للمشاركة. وفى كلمته ظل يتحدث عن الإمام الشاذلى، ويردد أذكاره وأوراده حتى وصل إلى دعاء الشاذلى الذى يقول: “اللهم ارزقنا الموتة المطهرة”.

وهنا سأل الأستاذ البنا سامعيه: أتدرون ما الموتة المطهرة؟ ثم صمت دقيقة، والناس معلقة أبصارهم صاغية قلوبهم إلى إجابة البنا، ومن هنا بدأ يصوغ قلوبهم فى طريق دعوته، وظل يحدثهم عن الموتة المطهرة دفاعًا عن العرض والمال والمقدسات، وقتالاً فى سبيل الله.. وخرج بهم من الآفاق الضيقة التى كانوا يعيشون فيها إلى آفاق حضارية متعددة، يقول الدكتور سعيد (عليه رحمة الله):

وما غادر البنا العزيزية حتى بايعته عن بكرة أبيها.

مرة أخرى تتجلى عبقرية البنا فى الخروج بالناس من مواقعهم إلى مواقع المسئولية الحضارية ببساطة مذهلة.. رحم الله الأستاذ الإمام.

6- الرفق بالعاملين معه لتكثير خيرهم:

كنت و أنا صبى صغير أصطحب الدعاة الزائرين لقريتنا لزيارة قرى أخرى لا نصل إليها إلا مشيًا، أو ركوبًا للدواب. وكان حظى أن أصطحب دعاة لا أنسى أثرهم فى حياتى بما ألقوا فى قلبى من المواعظ وفى عقلى من الذكر.

وكان من هؤلاء الشيخ عبد اللطيف الشعشاعى (عليه رحمة الله)، وكان الشيخ ضريرًا، ويحتاج إلى صحبة ترافقه فى تنقلاته البعيدة، وفى إحدى هذه التنقلات سألته أن يحكى لى عن الإمام البنا، وتجلياته الروحية والحضارية.

قال (يرحمه الله): أرسلنى الأستاذ البنا أنا والأخ أحمد السكري فى مهمة إلى الأسكندرية ، كان الأستاذ السكرى يحب رغد العيش، فلا يركب إلا الدرجة الأولى، وكنت أركب أنا الدرجة العادية.

المهم أن الأستاذ البنا أوصانى بأخى أحمد خيرًا وأعطانى مبلغًا من المال، وقال لى: إذا طلب منك أخوك السكرى مالاً فأعطه ولا تجادله. وبينما نحن فى رحلتنا إلى الأسكندرية ، وأنا فى الدرجة العادية أبصرت (وهو الضرير) كأن الأخ السكرى مقبل عليّ من الدرجة الأولى، وهو يتخطى القفف والغلقان التى تمتلئ بهم العربة التى أركبها حتى وصل إليَّ ووضع يده فوق كتفى وسألنى: إن كان معى نقودًا؛ لأن محفظته قد سرقت منه وليس معه أى نقود.

دمعت عيناى وقلت له صدق البنا.. خذ يا سيدى هذا المبلغ الذى أعطاه لى الأستاذ مخافة أن نحتاج فى الطريق.

أقول مع الشيخ الشعشاعى: من أخبر حسن البنا بهذا؟ وما هذا الرفق بأتباعه، لو كان غيره لقال: الذى يريد أن يزهو فليزهو من جيبه وجيب أبيه .

ولكنه البنا يرفق بالعاملين معه ويحملهم معه بتكويناتهم المختلفة، ويعينه ربه بكشاف ربانى يراهم فى ضعفهم فيقيل عثراتهم (رحم الله الأستاذ والإمام).

7- الجنود والمواقع:

فى عام 1966 م وكنت ما زلت فى أمريكا جاءتنا الأنباء المفزعة بإعدام أستاذنا العظيم سيد قطب ، وكنت أنا خطيب الجمعة فى تجمع لطلاب جامعة ستانفرد بكاليفورنيا، كنت فى ثورة أحرجت بعض المصريين الذين كانوا سيعودون فى نفس العام لمصر ، فكانت هناك مشادة بينى وبين هؤلاء الإخوة بعد الصلاة.

كان من بين المصلين الأخ الكريم الدكتور وهبي محمود الذى كان وكيلاً لوزارة التخطيط، وجاء إلى جامعة ستانفرد فى برنامج تقدمه ستانفرد فى الإدارة العليا لمدة عام.

وفى المساء اتصل بى الأخ الدكتور وهبى وسألنى أن ألتقى معه فى شقته، حيث كان يسكن مع الأخ الدكتور عبد الله عمر نصيف الذى كان يدرس لدرجة الماجستير فى الجامعة.

المهم التقينا وتحدث الأخ الدكتور وهبى وعيناه مغرورقتان بالدموع: إيه يا عم سيد لقد أبكيتنى وغالبت البكاء حتى لا ينفضح أمرى، ثم حكى: فى النصف الثانى من الأربعينيات كنت أستعد للتخرج من الجامعة، وكنت عصبيًا جدًا، وكل يوم يذهب زملائى فى الجامعة من الإخوان ويشتكون للأستاذ البنا: محرم تشاجر اليوم مع الشيوعيين.. محرم تشاجر اليوم مع الوفديين. كل يوم أورط إخوانى فى خناقة مع آخرين.

وفى إحدى هذه المرات انفرد بى الأستاذ البنا، وقال لى: يا محرم اختفى من الحركة.

قلت: تفصلنى يا أستاذ؟

قال: لا، ولكن أريد أن أضعك فى عمل آخر.

ثم قال لى: أنت ستتخرج هذا العام؛ ففى أى مجال تنوى العمل؟

قلت: فى ميدان التدريس.

فقال لى: أريدك أن تختفى فى وزارة المعارف، حتى تصل إلى أعلى المناصب وتخدم دينك وأمتك فى صمت.. وتعاهدنا على ذلك، وبدأت رحلتى فى وزارة المعارف، ثم وزارة التربية والتعليم حتى وجدتنى مديرًا لمكتب الوزير كمال الدين حسين فى الستينيات.

ثم فوجئت برجل آخر كنت أعرف صلته القديمة بالأستاذ البنا، وهو أيضًا يعمل مستشارًا للوزير.. إنه الأستاذ الأديب فريد أبو حديد ، وتصارحنا؛ فإذا قصته مثل قصتى، ولم ينكشف أمرنا إلا عندما كتب الدكتور نظمى لوقا كتابه الشهير “محمد الرسالة والرسول”، والذى يقول فى آخر صفحة فيه: “لا خيرة فى الأمر ما نطق هذا الرسول عن الهوى، لا خيرة فى الأمر ما ضل هذا الرسول وما غوى، لا خيرة فى الأمر ما صدق بشر إن لم يكن هذا الرسول بالصادق الأمين، فسلام عليه بما هدى، وسلام عليه فى الخالدين”.

المهم أننا قررنا هذا الكتاب على طلبة الإعدادية فى مادة النصوص، وبدأت اعتراضات محلية وغير محلية، وانكشف أمر الجنديين الذين أرسلهما حسن البنا ليحفظا لمصر نصوصها الدراسية فى وقت تطاولت فيه الأيدى العلمانية .

المهم أنه فى عز سطوة الشيوعيين والعلمانيين كانت المواد الدراسية فى حفظ أمين بفضل هذين الجنديين العظيمين (رحمهما الله).

جهود الإمام البنا مع العمال .. مسيرة النهوض والترقي

فهم لأهمية العمل ... ووعي لدور العمال

فهم الإمام البنا مدى اهتمام الإسلام بأمر العمل المشروع ، وضرورة أن يكون المسلم صاحب عمل وحرفة دون تعال أو تكبر على طبيعة العمل ولو أن يحتطب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب، فيبيع فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس”.

وفهم الإمام أيضا أن العمل يعطي لصاحبه الثقة بالنفس و تحمل المسؤولية و القوة و الجلد والصبر و الصحة البدنية و النفسية ، من أجل هذا كان رحمه الله قد ألزم نفسه هذا الأمر قبل أن يلزمه أحدا من إخوانه ،فكان ينتهز فرصة الإجازة الصيفية حين كان طالبا في كلية دار العلوم للعمل فى دكان أقامه لتصليح الساعات ـ وهى نفس مهنة والده ـ ليعول نفسه ويكسب من عمل يده .

وكان دائما يدعو إخوانه لأن يكونوا أصحاب حرف بجانب عملهم الأساسي ، بل ويرى ضرورة ذلك فربما يفقد الأخ عمله الوظيفي لسبب أو لآخر ، حينها لاتتوقف أموره بل يمضي به الحال ميسورا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا .

أما العمال فقد اهتم بهم الإمام البنا اهتماما عظيما ، فهو يعلم أنهم دائما مستهدفون من قبل مختلف التيارات والأفكار والدعوات والهيئات ،وذلك لما يتصفون به من رجولة وشهامة وغيرة و حمية و طيب القلب ، فعمد إلى نشر الدعوة في أوساطهم مستفيدا بكل الوسائل المتاحة ، فمثلا كان هناك ناد للعمال في الإسماعيلية .. فاستفاد منه الإمام البنا كمكان لإلقاء المحاضرات الدينية والاجتماعية والتاريخية على مسمع و مرأى من جموع غفيرة من هذه الفئة الطيبة الكادحة .

كما اهتم أيضا بالعمال الفلاحين بصفة خاصة ، فقد كان يقضي معظم إجازاته الصيفية بين العمال الفلاحين يدعوهم إلى مبادئ الإسلام ، ويؤلف قلوبهم بتقديم الكثير من الخدمات في قراهم مثل ( إنارة تلك القرى ، وتوزيع الزكاة على فقرائهم ، وانتشال الأطفال من التشرد بتشغيلهم ، وإقامة المساجد والمستوصفات و المستشفيات، وغير ذلك الكثير بفضل الله كل هذا الجهد آتى ثماره المباركة، فالتاريخ سيظل يذكر بعزة و فخر أن الستة المؤسسين لجماعة الإخوان المسلمين كانوا عمالا حرفيين، يقول الإمام حسن البنا عن ذلك :

“لست أنسى هذه الساعة الكريمة فى مدينة الإسماعيلية الطيبة، ولم يكن قد مضى وقت طويل فقد حللتها ضيفًا جديدًا على أهلها وعلى مدرستها، ولم تتوثق بعد روابط الإخاء الكامل والحب العميق بينى وبين أهلها الطيبين المباركين، ولست أنسى هذه الساعة التى لقينى فيها ستة من الإخوان العمال بهذا البلد، وجلسوا إلى يتحدثون فى إيمان عميق وحماسة دافقة وتأثر بالغ عن وجوب العمل الإسلامى كدعوة منقذة وكنور وضاء يهدى الناس من ظلام الحيرة ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض.

وقد قلت لهم: وما وسائلكم إلى ذلك، فقالوا فى إيمان ودهشة، وهل من وسيلة لأهل الدعوات إلا الإيمان العميق والحب الوثيق والعمل والأمل، فأعجبنى الفقه، وقلت: على بركة الله إذن نحن الإخوان المسلمون ، نؤمن بالإسلام إيمانًا عميقًا، ويحب بعضنا بعضا حبًا وثيقًا، وندأب على العمل مجاهدين، ونأمل الخير والتأييد من رب العالمين {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ]البقرة: 143[.

وهكذا، وعلى هذه الصورة المتواضعة .. وضعت أول بذرة فى حديقة دعوة الإخوان المسلمين الفينانة بيد هؤلاء الأخوة الأحبة القلة من العمال.

ومنذ تلك اللحظة وللإخوان العمال فى كل مكان منزلة فى النفس وأمل الدعوة، نسأل الله أن يحققه بهم ولهم إن شاء الله.” انتهى ولذلك كانت نسبة كبيرة من أتباع الجماعة في بدايتها من العمال و الحرفيين ، بل لقد كان العديد منهم يتولون مراكز قيادية ،فمثلا كان نائب الإمام المرشد نجارا ، و أصبح هذا الأمر من سمات الإخوان .

وهكذا نرى مدى إدراك الإمام ووعيه لأهمية دور هذه الطبقة من العمال و الحرفيين في نشر الدعوة ، لذا حرص من أول يوم على أن تكون دعوته موجهة لهم في أماكن تجمعاتهم من نواد ، ومقاه ، وغيرها ، فتوسعت بذلك قاعدة الجماعة الجماهيرية وسط الشعب المصري .

الجهود العملية التي قام بها الإمام البنا من أجل نهضة العمال :

لم يكتف الإمام البنا رحمه الله بالحب القلبي للعمال والحرفيين فقط ، بل كانت له معهم جهودا عظيمة وخدمات جليلة وأعمالا رائعة كانت نتائجها ارتفاع مستوى العامل الديني و الاجتماعي و الثقافي بل وحتى السياسي بصورة نموذجية لازال التاريخ يذكرها جيدا جيلا بعد جيل بكل فخر وعزة و شموخ . ومن هذه الجهود المباركة :

أ- مؤازرتهم لإصلاح أحوالهم و رفع الظلم عنهم

درس الإمام البنا واقع العمال ، ووجد الأوضاع المؤسفة التي كانوا يعانون منها و مدى الظلم الواقع عليهم ، فنشط للرفع ذلك الظلم و التصدي للإهمال والفساد الحكومي في قضاياهم ، و عمل على مؤازرتهم بكل السبل لاسترداد حقوقهم .

فقد كان لصحافة الإخوان منذ نشأتها اهتمام ومتابعة لقضايا العمال و مشاكلهم ، كما كان لها دور ريادي في الدفاع عن مطالبهم وتبني قضاياهم ، بالإضافة إلى تعايشها مع الأحداث العمالية و النقابية أولا بأول .

ومن أمثلة ذلك جريدة الإخوان المسلمون الأسبوعية ، التي بدأت في نشر مقالات منذ عام 1935 م عن أحوال العمال وأوضاعهم السيئة ، حتى أن إحدى هذه المقالات والتي كانت بعنوان “ في مقابر الأحياء “ كان لها وقع طيب لدى عمال المطابع ، فكان أن أرسلوا كلمة شكر لكاتب المقال الأستاذ الكبير أبي الحسن . وفي عام 1940 م صدر قانون النقابات الذي منع تكوين اتحادات عمالية ، و منع العمال من حق الإضراب الذي يعد سلاحهم الوحيد في مواجهة أصحاب الأعمال و الرأسماليين . فشنت صحف الإخوان حينها هجوما حادا ضد هذا القانون الظالم .

كما نشرت مجلة الدعوة مقالا بعنوان ( الدعوة في خدمة العمال ) جاء فيه : “كان للحملة القوية التي حملنا لواءها ضد مصلحة الأشغال العسكرية بسبب قيام هذه المصلحة بفصل آلاف العمال الكادحين دون ذنب أو جريرة أثرها الكبير؛ إذ استجاب معالي عبد الفتاح حسن باشا- وزير الحربية والبحرية بالنيابة- لحملتنا، وأمر مشكورًا بإعادة جميع من فُصلوا من العمال إلى أعمالهم فورًا “ وأصبح من المعتاد في صحيفة الإخوان و في مجلة الدعوة أن يقرأ القارئ:

“جاءنا وفد من عمال..... “

“زار دار الدعوة وفدٌ يمثل نقابة شركة سباهي بالأسكندرية

“جاءنا وفد كبير من عمال مصلحة الأشغال العسكرية”

وغدت دار جريدة الإخوان المسلمون ملجأ لكل العمال المطالبين بحقوقهم ، والشاكين من ظلم أصحاب المصانع و الشركات العاملين بها .

وفي أواخر الثلاثينيات كان الإخوان ضمن القوى التي ساهمت في قيام اتحاد عمال النسيج الميكانيكي بشبرا الخيمة عن طريق طه سعد عثمان، الذي كان عضوًا بالجماعة قبل أن ينضم إلى نقابة عمال النسيج”.

وفي 5/10/1946 م بدأ إضراب عمال ترام القاهرة ، فساندهم الإخوان بقوة وأيدوا مطالبهم كاملة ، فقد كان للإخوان موقف واضح تجاه قضية تأميم وسائل النقل ، ومن أقوى ما كتب في هذه القضية مقال الأخ الأستاذ سعد الدين الوليلي و الذي كان بعنوان “ تأميم وسائل النقل.. هل يحققه العمال بسواعدهم “ .

وفي 8/2/1948 م اهتمت جريدة جريدة الإخوان المسلمين بمشكلات عمال شركة سباهي بالأسكندرية ، حتى أنه لما أجريت انتخابات مجلس الإدارة تكلم الأستاذ محمد فؤاد عوض- رئيس النقابة- فشكر للإخوان المسلمين عظيم جهودهم وكريم تأييدهم، و قرر المجتمعون أول ما قرروا وسط مظاهر الحماسة إرسال برقية شكر لفضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين اعترافا لجهودهم وتأييدهم لهم .

وفي أغسطس عام 1953 م ساندت الجماعة إضراب عمال مصنع نسيج الشوربجي بإمبابة ، فقد كان لهم تواجد قوي في هذه النقابة كما أكد ذلك النقابي الكبير طه سعد عثمان وكان لعمال مصنع السكر بالحوامدية نصيبا من اهتمام الإخوان وتأييدهم ومساندتهم ، فقد وضحوا للرأي العام مدى الظلم الواقع من قبل إدارة الشركة على نقابة العمال وزعيمها المخلص الشيخ محمد عبد السلام.

ولما تفشت أزمة البطالة هاجم الإخوان و بشدة وزارة الشئون الاجتماعية ومكتب التوظيف بها لفشلها في حل هذه الأزمة، فكان أن استجابت الحكومة لمطالب الإخوان الذين قاموا - عن طريق المناطق والشُّعب- بعمل كشوف بأسماء وعناوين العمل والسكن والأجر اليومي للعمَّال الذين يعملون بوِرَش ومصانع الحلفاء لتقديم صورة منها لوزارة الشئون الاجتماعية للعمل على شراء المصانع الحربية وتحويلها للإنتاج المدني واعتبار العمال مساهمين فيها ،ونجحت مساعيهم في ذلك و استجابت الحكومة لمطالبهم .

وهكذا حقق الإمام حسن البنا المؤازرة العملية الكاملة للعمال بعرض قضاياهم و مشكلاتهم وتحليلها ومن ثم اتخاذ اللازم من أجلها و ذلك عن طريق الجريدة و المجلة و المشاركة النقابية فأدى ذلك إلى رفع كثير من الظلم عنهم ، و استعادة لحقوقهم ، وأصبح العمال قوة يحسب لها أصحاب المصانع و الشركات ألف حساب لسبق علمهم أن الإخوان يساندون ظهورهم .

ب- تعليمهم ، ورفع المستوى الثقافي لديهم

كان الإمام البنا يدرك تماما بأن سر نهضة الأمة ورقيها ونصرتها ومن ثم التمكين لها في الأرض هو العلم ، من أجل ذلك رسم الخطة المحكمة وضمنها الوسائل المعينة للوصول إلى الهدف المهم ألا وهو تعليم العمال و تثقيفهم في كل المجالات الدينية و الدنيوية و محو أميتهم .

وقد تم له ما أراد بفضل الله تعالى فأصبح العامل حين يتكلم يكون حديثه بليغا و مؤثرا في نفوس سامعيه ، بل وأصبح العامل على علم بكثير من الأمور الشرعية و الاجتماعية وكأنه حاصل على الشهادات العلمية .

ومن أهم ما قام به الإمام البنا في هذا المجال ما يلي :

- إنشاء مدرسة ليلية في كل شعبة هدفها الأساسي محو الأمية الدينية التعليمية؛ حيث يجتمع العمال والفلاحون فيها وكانت أول مدرسة في هذا هي مدرسة التهذيب التي أقامها الإمام الشهيد في الإسماعيلية ، ثم أقيمت بعد ذلك مدارس ليلية لتعليم الكبار في العديد من الشعب؛ نذكر منها المدرسة الليلية في أبو صوير.

كما قرَّر مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين بالقاهرة فتح قسم للتعليم الليلي مجانًا بالمركز العام ودعت راغبي الالتحاق إلى التقدم بطلباتهم.

وافتتح قسم البر والخدمة الاجتماعية معهدًا للدراسات الشعبية في شعبة عابدين، واحتوى هذا المعهد على فرعٍ لمكافحة الأمية، وفصول لتحفيظ القرآن الكريم، ولقد نشط فرع مكافحة الأمية بالشعبة، فأنشأ مدرسةً ليلية بلغ عدد المتقدمين إليها ما يزيد عن 300 دارس.

وفي قنا وأسوان أنشأ الإخوان قسمين لمكافحة الأمية: أحدهما نهاري، والثاني ليلي، كما فتح قسم البر والخدمة الاجتماعية بشعبة الجمالية فصولا لمحو الأمية وكان يقوم بالتدريس فيها نخبةٌ من الإخوان المثقفين.

وافتتح الإخوان المسلمون بالقرين شرقية قسمًا لمحو الأمية، وكان الإقبال عليه شديدًا لحسن نظامه ورغبة الأهالي في القضاء على الأمية.

- إنشاء مدرسةً للتوجيه النقابي والشئون العمالية في قسم العمال تلقى فيها محاضراتٌ فنيةٌ عامة أسبوعيًّا لتعليم الإخوان العمال كيف يُديرون شئونهم النقابية ويحلون مشاكلهم على أسس سليمة من القوانين العمالية؛ وتبصير العمال بحقوقهم وشرح التشريعات العمالية وتبسيطها لهم ومساعدتهم على الاستفادة من هذه التشريعات إلى أقصى حد ممكن.

- إنشاء دور للصناعات ملحقة بالمعاهد يتعلم فيها الذين لا يستطيعون إتمام التعليم العلمى .وليس هناك إحصاء عن عدد هذه المدارس المتنوعة ولا عدد طلابها وأساتذتها . ولكن هذه المدارس كانت تقوم إلى جانب الفروع بحيث لا يخلو فرع من مؤسسة علمية . وقد ذكر أن عدد طلاب إحدى مدارس محو الأمية بلغ مائة عامل .والراجح أن الإقبال على هذه المدارس كان كبيرا لا سيما ما كان منها فى بيئات العمال والفلاحين . وحين وضعت الحكومة منهاجا لمكافحة الأمية أثناء تولى العشماوى ( باشا ) وزارة المعارف سنة 1946 طلب من الإخوان أن يساعدوا الوزارة فى تنفيذ خطتها اعترافا منها بنفوذهم .

ج- تأسيس قسم خاص لشؤونهم ولائحته

وقد تبلورت كل صور العناية السابقة من الإمام البنا بهذه الفئة المهمة في المجتمع حين قام بتأسيس قسم خاص بهم ولم يكن الهدف منه التدخل فى شئون العمال النقابية، ولا التنافس مع الهيئات العمالية، ولا التعرض لهم فى مصانعهم أو شركاتهم، ولكن المقصود كله من هذا القسم أن تصل دعوة الخير إلى هذه النفوس الكريمة، فتكشف لها عن جمال الإسلام وضرورة التمسك بآدابه وتعاليمه تمسكًا يدفع إلى الاستقامة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وقضاء وقت الفراغ فيما يجدى ويفيد من دروس نافعة أو رياضة بدنية صالحة ابتغاء وجه الله من خلال العمل على مافيه خير الإخوان العمال وصلاح أمرهم فى الدنيا والآخرة ومن ثم العمل على توصيل وإبلاغ هذا الخير لجموع العمال في المجتمع.

لقد كان لهذا القسم دور بارز - فكريًا وعمليا - في الوقوف بجانب العمال المصريين وكان من أهدافه : تفهيم العمال حقوقهم والطرق المشروعة التي تكفل لهم تحقيقها وتنظيم النشاط النقابي، والدعوة إلي أن ينضم العمال إلي نقاباتهم ، ومحاربة الأمية، وتبصير العمال بالمعلومات العامة (جتماعية وسياسية و وطنية وصحية .. )

ودراسة الأفكار الصناعية وأساليب الإنتاج الحديثة وتعريفها للعمال حتى لا يقل العامل المسلم عن مثيله - صناعيًا - في أية أمة من الأمم ، بجانب أهدافه التربوية العقدية والروحية والاقتصادية. وقد أنشأ القسم مدرسة للتوجيه النقابي العمالي .

تبني الإخوان مطالب العمال والدعوة إلي حقوقهم ، في مجلاتهم وكتبهم ، مثل ربط أجور العمال بأرباح المؤسسات الاقتصادية التي يعملون فيها بحيث يكون لهم أسهم مع أصحابها في الأرباح .. وغير ذلك مما توضحه لائحتهم عام 1948 أيام الإمام البنا والتي تم اقتباسها ووضعها كما هي في عام 1951 .

وقد كان واقع هذا القسم هو الترجمة العملية القوية لما جاء في اللائحة وعمل قسم العمال من جانبه كما أشار الأستاذ محمد شوقى زكى على تقديم خدمات اجتماعية للعمال ، وذلك بمساعدتهم على حل مشاكلهم ففى إدارة القسم بالمركز العام محامون متخصصون فى الشئون العمالية لتوجيه العمال التوجيه السليم ، وإرشادهم إلى ما فيه صالحهم كما يعمل القسم أيضا على مساعدة العاطلين على إيجاد أعمال لهم فى حدود إمكانياته ، وذلك بالاتصال بمصلحة العمل ، والمؤسسات التجارية والصناعية التى تربطها بالإخوان صلات طيبة وتوجيه الشركات العمالية وصبغها بالصبغة الإسلامية.

وكان لقسم آخر هو قسم المهن بالمركز العام بعض الخدمات الاجتماعية بالإضافة إلى أنواع نشاطه الأخرى ، وقد نص على أن من أغراضه : ( توثيق الصلة بين أرباب المهن فى مصر والبلاد الإسلامية ).

واضطلع قسم المهن بالمركز العام للإخوان بدور كبير فى النشاط العلمى المحض ، فهو يقدم مساء كل خميس بالمركز العام للإخوان ، محاضرة علمية قيمة يلقيها أحد المحاضرين المتخصصين لتجيء هذه الجهود التي استفاد منها العمال كجزء مكمل لنشاط قسم العمال بالجماعة ..

ومن المهم هنا التأكيد على أن تأثير العمل الإخوان ي مع العمال كان كبيرا حيث امتد لقطاعات أخرى متخصصة منها قطاع الجيش ووجد لدعوته صداها بين الضباط الجنود والعمال العسكريين فلقد أسس البنا قسما اسمه قسم الوحدات والذي كانت مهمته العمل والتحرك داخل الجيش المصري و يقول عنه الأستاذ صلاح شادي في كتابه صفحات من التاريخ :

( وكان قسم الوحدات يضم عسكريين ومدنيين من كافة الأسلحة فى الجيش . وعرفت من العسكريين الاخوة محمد الشناوي و علي بدران وكانا فى هذا الوقت يعملان فى سلاح الطيران برتبة صول . . ومن المدنيين محمد الكاشف وحسين البوهي ورفعت النجار وعبد السلام وعمار وإبراهيم بركات وغيرهم .

وكان عامة نشاط القسم يتلخص فى تجميع العسكريين والعمال علي هدف الإسلام ، وتعريف بعضهم ببعض ، ومحاولة إيجاد رباط فى العمل بينهم لإعانة بعضهم بعضا ، فيما يلحقهم من مظالم في داخل الوحدات وتبصيرهم بحقيقة الجهاد فى الإسلام ، وأنه لا يكون إلا لإعلاء كلمة الله حتى لا يموت الجندي فيهم ميتة جاهلية ، ثم تعريف الضباط بواجباتهم نحو جنودهم ونحو أنفسهم ، وأن شجاعتهم فى دفع الظلم عن جنودهم وعن أنفسهم لا تقل ثوابا عن جهادهم فى المعارك ).

كل هذه الجهود تبين حجم الواقع الكبير الذي أقامه الإمام البنا في هذا القسم والذي أدى إلى انضمام عدد كبير من العمال إلى صفوفها، فقد ساعد اهتمام الإخوان الواضح بالشئون العمالية على تعزيز مكانتها، فكان لها صوت قيادي إن لم يكن الصوت القيادي الوحيد المعبر عن الجماهير التي لا صوت لها”، وهذا الانتشار الإخواني دفع س. ن. فيشر أن يقرر في مقال له بعنوان (اتحادات العمال في الدول العربية):

“أن للجماعات الوطنية المتطرفة كالإخوان المسلمين نفوذًا داخل نقابات العمال المصرية أكثر مما للشيوعيين” هذا الواقع الذي كان متميزا يرجو كل غيور من أبناء الجماعة عودة مثله من الجهد والأنشطة القوية في وقتنا الحاضر بعدما انحصر شيئا ما عن ذي قبل وإلى هذا يشير الأستاذ عباس السيسي حيث يعقد مقارنة بين الفترة التي عاشها والوضع الحالي فيقول:

لقد كان قسم العمال جناح جهودنا وتوازن حركتنا - إني أحس بانفصام في التصور الشامل لجامعة القلوب وأحس بنقص في بنية الجماعة وضعف في تركيبها - إن جسم جماعة الإخوان جسم متكامل حيث يكمل بعضه بعضا ثقافيا وفنيا واجتماعيا وتعاونيا عند الحاجة والاقتضاء ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.

د- مواجهة سيطرة الشركات الأجنبية عليهم

سيطرة العدو الأجنبي على عمال بلد ما من خلال إحكام قبضتهم على شركات ومؤسسات هذا البلد يعني النجاح التام في احتلال هذا البلد بأسرع ما يمكن . وهذه حقيقة أدركها الإمام البنا جيدا لذا كان حريصا جدا على الحد من انتشارها من جهة ، والعمل على إيجاد البدائل العملية من جهة أخرى ... وهذا ما كان فعلا كما يلي:

- راقبت الجماعة جميع الشركات الأجنبية، وعلى الأخص شركة قناة السويس بخصوص إحلال الأجانب محل المصريين، و”أعدت الجماعة ملفًّا خاصًًّا بشركة قناة السويس ، وكلما اقتضى الأمر قدمت الشكاوى إلى مصلحة العمل بوزارة الشئون الاجتماعية وإلى رئيس الشركة”، وعكست مشاركة الإخوان الناجحة في الحملة ضد شركتي قناة السويس وشلّ قمة نشاط الجماعة في الحركة العمالية، وعلى الرغم من تحفُّظ الإخوان تجاه تشجيع الإضراب فإن تأييدهم لمطالب العمال- خاصةً كفاح شركة شلّ- زاد مكانتهم وتأييد العمال لهم في منطقة القناة”.

- فرضت الجماعة كذلك رقابةً دقيقةً على مختلف المؤسسات التي يملكها أجانب في المدن الرئيسة لتطمئن على أن حقوق العمال لم تهدر.وقد وجدت أن مصر بها أكثر من ( 320) شركة أجنبية تحتكر كل المرافق العامة وكل المنافع الهامة في جميع أنحاء البلاد الشركات المصرية إلي سنة 1938 بلغ إحدى عشر شركة فقط مقابل 320 شركة أجنبية.

- أخذ الإمام وإخوانه يحاسبون الحكومة حسابا عسيرا ، ويتهمونها بممالأة الأجانب على حساب الوطن ، والتساهل بتأليف الشركات التى تلبس أثوابا مصرية مستعارة ، وبعجزها عن علاج مشكلة العمال العاطلين ، وبترددها فى قطع المفاوضات ، وإعلان الجهاد . واشتدت حملة جريدة الإخوان المسلمون على المفاوضات ، وعلى حكومة صدقى ، وعلى الإنجليز بوجه خاص.

- قام الإمام مع إخوانه بإيجاد البديل للعمال وذلك عن طريق إنشاء وإقامة الشركات الإخوان ية ، أو المساهمة في إنشاء شركات مصرية ،ويتضح هذا بالأمثلة الآتية:

شركة الإخوان المسلمين للغزل والنسيج - شركة المطبعة الإسلامية والجريدة اليومية- شركة المعاملات الإسلامية - الشركة العربية للمناجم والمحاجر - شركة التجارة والأشغال الهندسية بالأسكندرية - شركة التوكيلات التجارية.

وجدير بالذكر أن جميع أسهم الشركات الإخوان ية موزعة على مجموعة كبيرة جدا من المساهمين ، بعكس ما ألف الناس فى الشركات الكبيرة فى مصر التى يتحكم فيها ويملك غالبية أسهمها قلة من الرأسماليين ، ولعل أوضح مثال لذلك هو شركة الإخوان المسلمين للغزل والنسيج ، فرأس المال الفعلى لها كان 6500 جنيه وكان عدد المساهمين 550مساهما ، ومعظمهم من العمال الذين كانوا يساهمون بمبلغ 25 قرشا شهريا فكانت الشركة بذلك سبيل ادخار للفئات التى لم تتعود الادخار ، وتكوين رأس مال صناعى من الطبقات الشعبية. ولا يفوتنا أن نذكر أن الادخار مأمور به فى الإخوان المسلمين ، فقد نصت واجبات الأخ العامل على “ ان تدخر للطوارىء جزءا من دخلك مهما قل ، وألا تتورط فى الكماليات أبدا “

- في 12/ 7/ 1946 نشرت جريدة جريدة الإخوان هذه المقترحات التي قدمها قسم العمال إلى مكتب الإرشاد :

. إعداد دراسة لمعرفة حاجة البلاد الصناعية وإمكانياتها وذلك بالاشتراك مع وزارة التجارة . والصناعة. تأسيس شركات مساهمة محدودة لتزويد البلاد بالمنتجات الصناعية، وذلك باستخدام رؤوس أموال الأغنياء.

. خصم حصة من أجور العمال الأسبوعية؛ بحيث تكفي في النهاية لشراء أسهم الشركة وتسديد ما دفعه المستثمرون السابقون.

فإذا تم ذلك فسيكون فيه حل حاسم لمشكلتين في آن واحد.. البطالة والنزاع المستمر بين العمال وأرباب العمل.

وتم تنفيذ ذلك عمليًّا فيقول بنين: “أما أهم نشاط للإخوان في شبرا الخيمة في هذه الفترة فكان إقامة مصنع نسيج هو شركة غزل ونسيج الإخوان المسلمين ، وكان قرار إقامة هذا المصنع قد اتُّخذ في مايو 1946 من فرع الإخوان في شبرا من أجل حماية أعضائها من البطالة، وتم جمع رأس المال له عن طريق بيع 1950 سهمًا، يقدَّر ثمنها بستة آلاف جنيه مصري، وقد بدأ المصنع يعمل في ديسمبر 1947 ”، وعلى الرغم من صغر المصنع إلا أنه كان مربحًا للغاية؛ حيث بلغت نسبة أرباح الاستثمار فيه 15% في يوليو 1948 ”.

مواقف الإمام البنا مع العمال وحرصه عليهم

وسنتكفي بذكر بدايات نشأة الجماعة ليظهر من خلالها أنها كانت عمالية بحتة فمن صور اهتمام البنا بالعمال هذا المشهد الذي يحيكه في مذكرات الدعوة والداعية يقول:

الدعوة في جباسات البلاح اتصل بعض عمال الجباسات الفضلاء بالإخوان بالإسماعيلية فنقلوا عنهم الفكرة إلى إخوانهم، ودعيت إلى زيارة الجباسات وهناك بايعت الإخوان على الدعوة فكانت هذه البيعة نواة الفكرة في هذا المكان النائي. وبعد قليل طلب العمال إلى الشركة أن تبني لهم مسجدا إذ كان عددهم أكثر من ثلاثمائة عامل. وفعلاً استجابت الشركة لمطلبهم وبني المسجد وطلبت الشركة من الجماعة بالإسماعيلية انتداب أخ من العلماء يقوم بالإمامة والتدريس، فانتدب لهذه المهمة فضيلة الأخ المفضال الأستاذ الشيخ محمد فرغلي المدرس بمعهد حراء حينذاك.

وصل الأستاذ فرغلي إلى البلاح وتسلم المسجد وأعد له سكن خاص بجواره. ووصل روحه القوى المؤثر بأرواح هؤلاء العمال الطيبين. فلم تمضي عدة أسابيع وجيزة حتى ارتفع مستواهم الفكري والنفساني والاجتماعي ارتفاعا عجيباً: لقد أدركوا قيمة أنفسهم وعرفوا سمو وظيفتهم في الحياة وقدروا فضل إنسانيتهم، فنزع من قلوبهم الخوف والذل والضعف والوهن واعتزوا بالإيمان بالله وبإدراك وظيفتهم الإنسانية في هذه الحياة - خلافة الله في أرضه - فجدوا في عملهم اقتداء بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ثم عفوا عما ليس لهم، فلم تأسرهم المطامع التافهة ولم تقيدهم الشهوات الحقيرة وصار أحدهم يقف أمام رئيسه عالي الرأس في أدب، شامخ الأنف في وقار، يحدثه في حجة ومنطق لا يقول ولا يقبل منه كلمة نابية أو لفظة جافية أو مظهراً من مظاهر التحقير والاستصغار كما كان ذلك شأنهم من قبل. وتجمعوا على الأخوة، واتحدوا على الحب والجد والأمانة.

ويذكر الأستاذ عباس السيسي في كتابه حكايات عن الإخوان هذا الموقف والذي صور اهتمام البنا بالرعيل المؤسس الذي كان من العمال فلنقرأه ونتعلم .

يقول الأستاذ عباس السيسي :

جاء لزيارة شعبة الإخوان المسلمون فى محرم بك بإسكندرية رجل فى سن الخمسين من صعيد مصر يرتدى جلبانا وخفين وشعره بارز من قبل صدره. عرفنا بنفسه فقال إنه محمد الأنصارى من الإخوان القدامى بمدينة الإسماعيلية . ويعمل فى هيئة السكك الحديد (عامل دريسة) يعنى من العمال الذين يقومون بتركيب وخلع قضبان السكة الحديد للقطارات - وعاش معنا فى الشعبة فى زيارات متقطعة - ولكنه لم يجد من الإخوان الشباب الاهتمام الواجب .. وشاء الله تعالى أن يعلن عن مجئ الأستاذ البنا فى زيارة للإسكندرية.. وأقيم فى الشعبة حفل كبير بمناسبة حضوره. ولما جاء الأستاذ البنا ودخل الحفل فوجئ بوجود الشيخ محمد الأنصاري فتوجه إليه وأخذه بالأحضان وسر بوجوده كثيرا وأخذه من يده وأجلسه بجواره عن يمنه. مع وجود كثير من كبار الإخوان وأساتذه الجامعة وعليه القوم - ولفت ذلك أنظار الإخوان وتعجبوا كيف أن الرجل عاش معهم ولم يقوموا بواجبه كما ينبغى - ولما وقف الأستاذ البنا ليلقى كلمته - قال يوجد معنا اليوم أخ كريم من الإخوان السابقين فى الدعوة والذين بايعوا من أول يوم وهو الأخ الفاضل الشيخ محمد الأنصاري الذى زاملنى فى الدعوة بالإسماعيلية فكانت تحية رائعة للرجل المتواضع. وكان درسا رائعا لمعنى الأخوة فى الله تعالى والتجرد لها بعيدا عن المظاهر الشكلية فرب رجل أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره.

ولم تمض شهور حتى تزعم الأستاذ البنا مسيرة كبيرة من أهل القاهرة متوجها من الأزهر الشريف إلى فندق الكونتننتال للإعلان عن استعداد جماعة الإخوان للتطوع بعشرة آلاف مقاتل فى سبيل تحرير فلسطين الإسلامية وكان ذلك أمام زعماء الأمة العربية - وفى أثناء مسيرة المظاهرة الشعبية الكبرى أطلق البوليس عيارا ناريا أصاب الأستاذ البنا فى يده . وفى نفس الوقت استشهد الشيخ محمد الأنصاري فى تلك المظاهرة - رحمه الله تعالى..ومثل هذه الصور كثيرا جدا والتي تعبر عن تقدير الإمام البنا لجهود ومكانة العمال ونكتفى بما ورد أعلاه .. وفي كتب تاريخ الجماعة العديد من هذه القصص لمن أراد الاستزادة ..

العمال عصب التغيير

وهكذا نجد كيف أن الإمام البنا رحمة الله عليه أدرك جيدا أنه لا سبيل إلى إحداث التغيير و من ثم استعادة المجد و التمكين لهذه الأمة إلا من خلال أعمدة قوية و سواعد فتية ، يمثل قطاع العمال أحد أهم هذه الأعمدة و تلك السواعد . من أجل هذا وجه لهم اهتماما خاصا جدا كما أسلفنا ، وكللت جهوده بالنجاح العظيم حيث ظهرت فئة جديدة من العمال هم عمال الإخوان الذين كانت لهم جهود كريمة و بصمات مؤثرة وبطولات مشرفة في خدمة دينهم و مجتمعهم .

وقد علمت الحكومات المتتالية أهمية طبقة العمال لما يتمتعون به من صفات الرجولة و النخوة و الشهامة و الفدائية و الغيرة ، وأنه متى ما سيطر الإخوان على العمال فإنهم قد ملكوا زمام الأمور كلها وحان وقت التغيير ، لذا حرصوا دائما و أبدا و بكل الوسائل غير المشروعة على إحداث هوة كبيرة و فجوة عميقة بين الإخوان و فئة العمال ولكن الله خيب مسعاهم ، وليتجه العمال تلقائيا و بفطرتهم السليمة للاندماج مع جماعة الإخوان و الالتحاق بركبها المبارك.


الإمام حسن البنا .. وجهود التضامن الاجتماعي وأعمال البر

1- اهتمام الإمام البنا بأمر أعمال البر و إدراكه لأهمية أثرها

وعى الإمام البنا مفهوم الزكاة والصدقات وأعمال البر عموما وأدرك أثر ذلك في سلامة الفرد والمجتمع المسلم ، وكيف أن الإسلام له مع كل مشكلة اجتماعية دواء،

والدواء الأول في كل علاج: صلاح النفوس والتضامن الاجتماعي ، فارتأى أن يكون لجماعة الإخوان المسلمين السبق في إحياء هذا الركن عمليا ، مبتدئين بأنفسهم فيخرجوا زكاة أموالهم طيبة بها نفوسهم ، فإذا نجحوا في ذلك كانوا حجة على المقصرين ودليلاً للراغبين ودعاة للقاعدين .

يقول الإمام البنا : ولهذا كان هدف الإخوان المسلمين يتلخص في كلمتين :

ـ العودة للنظام الإسلامي الاجتماعي.

ـ والتحرر الكامل من كل سلطان أجنبي.

وبذلك نستطيع أن ننقذ مصر من آثار هذه الويلات، ولنا بعد ذلك آمال جسام في إحياء مجد الإسلام وعظمة الإسلام ، يراها الناس بعيدة ونراها قريبة : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60).

2- كذلك فطن رحمه الله إلى كون ذلك وسيلة مهمة وناجعة جدا في تعريف الناس برسالة الجماعة

يقول الإمام البنا في ذلك : (وللتعريف وسائله من دروس ومحاضرات وندوات ومؤتمرات، ونشرات ورسائل وصحف ومجلات، ومدارس ومستشفيات وأندية رياضية ومؤسسات اقتصادية، وكذا مجال البر والخدمات الاجتماعية إلى آخر ذلك).

ويقول أيضا : “ فمن أهدافكم أن تعملوا لإصلاح التعليم، ومحاربة الفقر والجهل والمرض والجريمة، وتكوين مجتمع نموذجي يستحق أن ينتسب إلى شريعة الإسلام “.

ويقول أيضا : “ووسيلة الإخوان في هذه الميادين: التنظيم والتطوع والاستعانة بأهل الرأي والخبرة، وتدبير ما تحتاج إليه هذه المشروعات من أموال من المشتركين تارة ومن المتبرعين أخرى إلى ما يدفع لمثل هذه المشروع “.

3-حرصه على تخصيص قسم بالجماعة يعني بالبر ووضع اللائحة الخاصة بذلك

ظهر هذا الحرص مبدئيا في العديد من رسائل الإمام البنا فها هو يبين ما يريده الإخوان المسلمون ويجهزون أنفسهم له فيقول:

( وتتكون الجماعة من جماعات الإخوان ، فتتخذ داراً وتعمل على تعليم الأميّين، وتلقين الناس أحكام الدين، وتقوم بالوعظ والإرشاد والإصلاح بين المتخاصمين، والتصدق على المحتاجين، وإقامة المنشآت النافعة من: مدارس.. ومعاهد.. ومستوصفات.. ومساجد، في حدود مقدرتها والظروف التي تحيط بها ) رسالة المؤتمر السادس ، ص205 .

وجعل الإمام البنا العمل في البر واجب فردي على الأخ فقال مبينا سبيل كل أخ في ذلك: (أعتقد أن المسلم مطالب بالعمل والكسب، وأن في ماله الذي يكسبه حقاً مفروضاً للسائل والمحروم، وأتعهد بأن أعمل لكسب عيشي وأقتصد لمستقبلي، وأؤدي زكاة مالي وأخص جزءاً من إيرادي لأعمال البر والخير وأشجع على كل مشروع اقتصادي نافع ... ولا أتعامل بالربا في شأن من شئوني، ولا أتورط في الكماليات فوق طاقتي).

وكانت الترجمة العملية لهذا الواجب هو وضع لائحة الزكاة والصدقات والتي جاء ضمن نصوصها:

- على كل أخ مسلم يملك النصاب أن يخرج زكاة ماله.

- الأخ المحب يؤمر، والأخ الأخوي يؤمر ويذكر، والأخ العامل يعتبر عضواً في لجنة الزكاة العامة.

- مهمة الهيئة التنفيذية الإشراف على تحصيل الزكاة المستحقة وحفظها حتى توزع، وتوزيعها على المستحقين الشرعيين لها بدون تحيز ولا محاباة ولا تحكم أغراض أو غايات بعد أن يقسم كل منهم اليمين على مراعاة ذلك.

- كل أعمال لجنة الزكاة سرية لا يطلع عليها إلا اللجنة العامة، ومندوب مجلس الشورى المركزي أو النائب. وليس من حق الجمعية العمومية للإخوان في الدائرة المطالبة بمعرفة ما عملته اللجنة اكتفاء بعلم مجلس الشورى وعلم أعضاء اللجان العامة للزكاة أنفسهم، مع اعتبار القسم على كل عضو له الحق في الاطلاع على مراعاة هذه السرية .

- المصارف التي تصرف لها الزكوات هي المصارف المذكورة في القرآن الكريم ولا تصرف في غير هذه الحالة بحال.

- الأخ العامل القادر على الزكاة ثم لا يؤديها مطلقا يرد من رتبته إلى التي قبلها، فإن أداها ولو بنفسه فعليه أن يخطر اللجنة العامة بتاريخ أدائه لها حتى تكون على علم بذلك، وينبه إلى عدم العودة مرة أخرى وإلا رد إلى رتبته التي قبلها.

- يقوم مكتب الإرشاد العام بعمل رسالة ليبين فيها أحكام الزكاة وفضل الصدقة.

لقد استطاع هذا القسم أن يؤدى خدمات جليلة الأثر للمجتمع المصري حيث كان هذا القسم مستقلا بإدارته عن هيئة الإخوان المسلمين ، ويخضع لإشراف وزارة الشئون الاجتماعية ، ولقانون الجمعيات الخيرية ، ويرأسه الوكيل العام لأقسام البر والخدمة الاجتماعية ، ولكنه في ذات الوقت يخضع لإشراف المرشد العام مباشرة مما يعني أنه أخذ عناية فائقة بهذه المتابعة لهذا الجانب الرئيس في الجماعة. وقد قامت الجماعة بالفعل بالخدمة العامة وأعمال البر في المجتمع وقد أشار الإمام إلى أمثلة ذلك منها:

“.. بناء المساجد وعمارتها، ومن فتح المدارس والمكاتب والإشراف عليها، ومن إنشاء الأندية والفرق وتوجيهها ورعايتها، ومن الاحتفال بالذكريات الإسلامية احتفالاً يليق بجلالها وعظمها، ومن الإصلاح بين الناس في القرى والبلدان إصلاحاً يوفر عليهم كثيراً من الجهود والأموال، ومن التوسط بين الأغنياء الغافلين والفقراء المعوزين بتنظيم الإحسان وجمع الصدقات لتوزع في المواسم والأعياد”.

وتبلور هذا القصد داخل الجماعة عندما خصصت قسما يعني بذلك في لائحة الجماعة والتي جاء فيها :

مادة (1): في شهر ذي القعدة 1347هج 1928 م تألفت جماعة الإخوان المسلمين ، ومقرها الرئيسي مدينة القاهرة ، ويجوز نقل القيادة في الظروف الاستثنائية بقرار من مجلس الشورى إذا تعذَّر ذلك من مكتب الإرشاد .

مادة (2): الإخوان المسلمون هيئة إسلامية جامعة، تعمل لإقامة دين الله في الأرض، وتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام الحنيف، ومما يتصل بهذه الأغراض:

أ‌- تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس كافة وإلى المسلمين خاصة، وشرحها شرحًا دقيقًا يوضحها ويردها إلى فطرتها وشمولها، ويدفع عنها الأباطيل والشبهات.

ب‌- جمع القلوب والنفوس على مبادئ الإسلام، وتجديد أثرها الكريم فيها، وتقريب وجهات النظر بين المذاهب الإسلامية.

ج- العمل على رفع مستوى المعيشة للأفراد وتنمية ثروات الأمة وحمايتها.

د- تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لكل مواطن، ومكافحة الجهل والمرض والفقر والرذيلة، وتشجيع أعمال البر والخير.

وفيها ايضا :

العمل: بإنشاء مؤسسات تربوية واجتماعية واقتصادية وعلمية، وتأسيس المساجد والمدارس والمستوصفات والملاجئ والنوادي، وتأليف اللجان لتنظيم الزكاة والصدقات وأعمال البر والإصلاح بين الأفراد والأسر، ومقاومة الآفات الاجتماعية والعادات الضارة والمخدرات والمسكرات والمقامرة، وإرشاد الشباب إلى طريق الاستقامة، وشغل الوقت بما يفيد وينفع ويستعان على ذلك بإنشاء أقسام مستقلة طبقًا للوائح خاصة.

4- بعض ما قامت به لجنة البر من جهود قبل الحل

كانت أنواع البر والخدمات الاجتماعية التى سبقت الإشارة إليها طابع الإخوان فى أول عهدهم .. وقد بين الإمام البنا ذلك فقال : يعمل الإخوان جاهدين لتقريب وجهات النظر بين الهيئات الإسلامية، وتعريف بعضها ببعض تمهيدًا لإنشاء اتحاد عام لها، ثم لاندماجها اندماجًا تامًّا في سبيل تحقيق منهاج موحد هو “تعاليم الإسلام الفاضلة وأحكامه القويمة”.

وهذه الهيئات أنواع:

أ- الهيئات القائمة بمشروعات الخير مثل: الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية المواساة، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، وجمعيات البر والإحسان ودفن موتى الفقراء من المسلمين، وتلحق بها جمعيات الخدمة العامة إلخ، هذه الجمعيات تحقق جانبًا من الخير الذي يعمل له الإخوان المسلمون ، فهم يساعدونها ما وسعتهم المساعدة ماديًّا وأدبيًّا، محتسبين ما ينفقون من وقت ومال في سبيل الله، وهم كذلك يقدمون إليها النصيحة إذا خرجت في بعض أعمالها عن حدود الإسلام وتعاليمه، ويمتنعون عن مساعدتها إذا لم تقبل هذا النصح، فتعمل في سيرها على منهاج التعاليم الإسلامية.

لذا فقد كان نشاطهم مكثفا في هذا الجانب وشمل العديد من المظاهر ومنها:

أولا:- أنهم أنشأوا قبل صدور القانون رقم 49 لسنة 1945 الخاص بتنظيم الجماعات والمؤسسات الخيرية وحين استقر بهم المقام فى القاهرة مكتبا للمساعدات الاجتماعية ، لرعاية الأسر الفقيرة للقيام بالخدمة الاجتماعية على أساس علمي صحيح ؛ ليمكن الأسر الفقيرة من السير فى طريق الحياة العادية ، وانتشالها من السقوط أو الموت جوعا على أنه يمكن تبويب الخدمات الاجتماعية التي يؤديها الإخوان للمجتمع المصري إلى ثلاثة أبواب :

بر وخدمة اجتماعية.. التربية البدنية والكشافة.. خدمات وطنية وقومية .

وقد نص مشروع المكتب على أن المساعدات المادية تقدم للفئات الآتية :

1- الأسر الكريمة التى أحنى عليها الدهر .

2- الأسر التى فقدت عائلها الوحيد وليس لها أى مورد ورزق كاف .

3- الأسر لا الفقيرة التى اشهرت بحسن السير والسلوك ولم تصدر ضدها أحكام مخلة بالشرف ، ولها استعداد بمعاونة المكتب فى تحقيق رسالته بتنفيذ إرشاداته وتوجيهاته .

ثانيا:- عملوا من أول يوم على الإصلاح الريفى ، وأسسوا جماعة للعناية بنهضة القرى المصرية، واشترك بعض الإخوان فى عمل مزرعة تعاونية نموذجية فى فرشوط، وشيدوا فى إحدى القرى أربعة مدافن واسعة لدفن الفقراء والمساكين ، وتبارت الشعب فى إطعام الففراء خلال الأشهر الثلاتة المباركة ، وفى إنارة القرى ، وإخراج الزكاة فى رمضان ، والعناية بالمصالحة بين المتخاصمين ، وتولت إحدى اللجان إحصاء الأطفال المشردين والأسر الفقيرة ، لتشغيل الأطفال فى صناعة تتفق وإمكاناتهم ، وإعالة العجزة الذين لا عائل لهم .

ثالثا- أنشأ الإخوان دار التربية الإسلامية للفتاة وكانت الدار تقوم بمساعدة أسر الفتيات وبعض العائلات الفقيرة ، بتقديم الكساء والعلاج والإعانات المالية وغيرها من المساعدات ... بالإضافة إلى إطعام الفقراء فى شهر رمضان وكذلك توزيع أغطية وملابس على العائلات الفقيرة فى الشتاء وفى المواسم والأعياد .. والمساهمة فى الإرشاد الاجتماعي والوعظ عن طريق محاضرات تعد لذلك .. والقيام بالإصلاح بين السيدات “ فى البيوت.

رابعا:- وكان لجماعات أقسام البر والخدمة الاجتماعية فضل كبير في إنشاء عيادات ومستوصفات في كثير من الأحيان وإنشاء مستشفي شعبي في حي العباسية مع توجيه الشباب إلى العناية بالناحية الرياضية والاتصال بالأندية في هذه الناحية مما جمع بين طب الوقاية وطب العلاج ودرس مشروع التأمين الصحي للأعضاء وكان على وشك النفاذ وكان للإخوان بعد هذا فضلا بتنظيم الإحسان والصدقات في كثير من القرى والبلدان.

خامسا:- وعملوا على إنماء جوانب الرعاية الصحية باعتبارها ركنا أصيلا في أعمال البر وسببا لتقدم الشعوب وأرسل الأستاذ البنا إلى وزير الصحة خطابًا جاء فيه:

في غمرة هذه المحنة التي تهدِّد الصحة العامة للبلاد بوباء الكوليرا، والتي تنادي كلَّ وطني صادق أن يساهم بكل ما يسعه من جهد وطاقة، تتقدَّم إدارة الجوالة العامة للإخوان المسلمين إلى معاليكم ليحملوا نصيبهم من هذا الكفاح الوطني المقدَّس، معلنين أنهم يضعون تحت تصرُّف وزارة الصحة 40 ألف جوال من خيرة شباب الأمة وزهرة أبنائها الأطهار، منبثِّين في جميع أنحاء الوادي من كبريات المدن والحواضر إلى صغريات القرى والكفور كلهم على أتمِّ الاستعداد للقيام بما عُهد إليهم من أعمال لمكافحة هذا الوباء.

ولمَّا كنا حريصين على العمل الجدي؛ لذلك نتقدَّم إلى معاليكم بنماذج من الأعمال التي يُمكن لهذه المجموعات القيام بها، علاوةً على ما يراه المسئولون من تكليفهم لما يتراءى لهم، وهي:

1- نشر الدعوة الصحية في محيط القطر كله وسرعة إذاعة النشرات والتعليمات الصادرة عن الوزارة مع التكفل بإفهامها للجمهور ومعاونته على التنفيذ.

2- التبليغ عن المصابين والإصابات، كلٌّ في محيط منطقته مع بعض الجمهور، على اعتبار ذلك واجبًا وطنيًّا لا يعذر المتخلِّف عنه.

3- تكوين فرق مختلفة للقيام بأعمال التمريض.

4- مساعدة رجال الجيش في كافة أعمالهم؛ من حصار المناطق الموبوءة، ونقل الإشارات اللاسلكية، وقيادة السيارات.

هذا، ويسرنا إلى جانب ذلك أن نضع تحت تصرف وزارة الصحة 1500 شعبة من دَور الإخوان المسلمين تكون مركزًا للأغراض الوقائية والعلاجية ضد هذا الوباء، ولا سيما في المناطق التي ليس للصحة بها مراكز ثابتة.

سادسا:- افتتح قسم البر والخدمة الاجتماعية معهدًا للدراسات الشعبية في شعبة عابدين، واحتوى هذا المعهد على فرعٍ لمكافحة الأمية، وفصول لتحفيظ القرآن الكريم، ولقد نشط فرع مكافحة الأمية بالشعبة، فأنشأ مدرسةً ليلية بلغ عدد المتقدمين إليها ما يزيد عن 300 دارس.

وفي قنا وأسوان أنشأ الإخوان قسمين لمكافحة الأمية: أحدهما نهاري، والثاني ليلي، كما فتح قسم البر والخدمة الاجتماعية بشعبة الجمالية فصولا لمحو الأمية وكان يقوم بالتدريس فيها نخبةٌ من الإخوان المثقفين.وافتتح الإخوان المسلمون بالقرين شرقية قسمًا لمحو الأمية، وكان الإقبال عليه شديدًا لحسن نظامه ورغبة الأهالي في القضاء على الأمية.

هذا وقد قدم قسم البر والخدمة الاجتماعية قبل الحل خدمات كثيرة لا حصر لها ، فقد كان له قبل الحل 500 شعبة فى أنحاء القطر المصرى تشرف عليها وزارة الشئون الاجتماعية .

5-قصة قانون 49 لسنة 45 وكيف تغلب عليه الإخوان

في عام 1939 م تم إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية في وزارة “علي ماهر“ ، ليصبح الجزء الخيري من نشاط الجمعيات خاضعا للوزارة .

وفي عام 1944 م أرادت وزارة الوفد - التي جاء بها الاحتلال الإنجليزي -إصدار قانون للجمعيات؛ لتحد من نشاط الإخوان المسلمين لكنها أقيلت وخيب الله مسعاها فلم تتمكن من إصدار القانون .

وتسلم النقراشي أمر الوزارة بعد ذلك ليصدر في 12يوليو عام 1945م القانون رقم (49) لسنة 1945م لتنظيم عمل البر بالجمعيات الخيرية، وقررت المادة الأولى من القانون أنه “تعد جمعية خيرية كل جماعة من الأفراد تسعى إلى تحقيق غرض من أغراض البر، سواء أكان ذلك عن طريق المعاونة المادية أم المعنوية، وتعد مؤسسة اجتماعية كل مؤسسة تنشأ بمال يجمع كله أو بعضه من الجمهور لمدة معينة وغير معينة، سواء أكانت هذه المؤسسة تقوم بأداء خدمة إنسانية دينية أو علمية أو فنية أو صناعية أو زراعية... أم بأي غرض آخر من أغراض البر أو النفع العام”.

وقد أعطى القانون للجمعيات القائمة مهلة ثلاثة أشهر لتوفيق أوضاعها وفقًا للقانون، وإلا جاز لوزير الشئون الاجتماعية طلب حلها.

ولما كانت بعض أنشطة الإخوان تخضع لذلك القانون، كما أن بعض جمعيات الإخوان كانت تتلقى المساعدات من وزارة الشئون الاجتماعية، فقد درس الإخوان الأمر بسرعة وشرح الله صدر الإمام البنا فدعا الجمعية العمومية لهيئة الإخوان المسلمين ورؤساء المناطق والشعب ومراكز الجهاد فى جميع أنحاء المملكة المصرية إلى الاجتماع فى اليوم الثانى من عيد الفطر 2 من شوال1364 الموافق 8 من سبتمبر 1945 قد لبى الدعوى ألفان وخمسمائة عضو يمثلون فروع الهيئة ودام الاجتماع برئاسة فضيلة الأستاذ ( حسن البنا ) المرشد العام حوالى أربع ساعات تناولوا فيه البحث فى موقف الجماعة من الحقوق الوطنية، كما تناولوا موضوع القانون رقم 49 لسنة 1945 الذى أصدرته وزارة الشئون الاجتماعية الخاص بالجمعيات .

وبعد مناقشات أصدروا القرارات الآتية :

يقرر المجتمعون باعتبارهم الجمعية العمومية للإخوان المسلمون التى تمثل مناطقهم وشعبهم فى المملكة المصرية ما يأتي:

أولاً - فيما يتعلق بموقف الإخوان المسلمين بمناسبة صدور القانون رقم 49 لسنة 1945 الخاص بتنظيم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الإجتماعية.

إن جماعة الإخوان المسلمين هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق المقاصد والأغراض التى جاء بها الإسلام الحنيف ومنها :

الغرض العلمى: وهو شرح دعوة القرآن الكريم شرحاً دقيقاً، وعرضها عرضاً يوافق روح العصر ويرد عنها الأباطيل والشبهات.

الغرض العملى: وهو جمع كلمة الأمة المصرية والأمم الإسلامية عامة على هذه المبادئ حتى يتكون رأى إسلامى عام يعمل على نصرتها وتحقيقها .

الغرض الاقتصادي: وهو يرمى إلى تنمية الثروة القومية من زراعية وصناعية وتجارية ويعمل على تحريرها وحمايتها.

الغرض الاجتماعي : وهو يحقق رفع مستوى المعيشة وكفالة التوازن الاجتماعي بين الأفراد والطبقات وضمان تكافؤ الفرص للجميع بمكافحة المرض والفقر والجهل والرذيلة وتشجيع أعمال البر.

وبناء على ذلك تم فصل قسم أعمال البر و الخدمة الاجتماعية عن مكتب هيئة الإخوان ليصبح قسما مستقلا له لائحته الخاصة به ، وسمى: “ جماعات أقسام البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين “.

وقبل انتهاء المهلة المحددة لسريان القانون 49 لسنة 1945 قدم الإخوان قانونهم المعدل إلى وزارة الشئون الاجتماعية للنظر.. ولم يتأخروا عن التقدم للوزارة وعرض الأمر على المستشار القانونى لوزارة الشئون الاجتماعية، وكان المرحوم محمد العشماوى باشا فأفتى بجواز تسجيل أقسام البر والخدمة الاجتماعية منفردة.

وهكذا نجى الله الإمام وجماعته من كيد النقراشي ومكر سادته الإنجليز.

وتوسعت دائرة نشاط المكتب إلى تقديم خدمات صحية وثقافية بالإضافة إلى أنواع النشاط القديمة التى كان يقدمها، مكتب المساعدات الاجتماعية السابق ذكره.

6- استمرارية جهود البر بعد الحل

أما بعد الحل والسماح للجماعة باستئناف نشاطها، فقد بدأ القسم نشاطه بمشروع كبير قام به فرع البر والخدمة الاجتماعية للإخوان بحى الروضة بالقاهرة .. حيث تم بناء مؤسسة اجتماعية تشمل مسجدا ومستوصفا للعلاج، ومكتبة للمؤلفات العلمية ، وصالة للمحاضرات ، وقد تنازلت وزارة الأوقاف عن الأرض لهذا الغرض ، وتطوع الدكتور المهندس سيد كريم بعمل تصميم المشروع .

وقام الإخوان بتنظيف الأرض فى الحال ، وعمل سور خشبى وسقف مؤقت من الحصير وأدخلوا النور الكهربائى إلى الأرض التى تستعمل كمسجد حاليا لعدم وفرة المساجد فى ذلك الحى إلى أن تتم التبرعات التى تسمح لبدء البناء .

ولم يكتفى الإخوان بالإشراف على المساجد التى يمتلكونها بل إن نشاطهم كان يمتد لتعهد المساجد المهجورة بالتعمير ، والمهملة بالرعاية والإشراف وتزويدها بالإمام وخطيب الجمعة باستمرار .. كما قام قسم العمال بدور تكميلي في هذا الصدد باضطلعه بحل مشاكل الفقر بين الفلاحين وما يتصل بها من مشاكل الملكية الزراعية وكانت هذه الجهود كلها تصب في النهاية في نشاط البر في المجتمع الذي قام فيه الإمام البنا وإخوانه بجهود عظيمة ومازال هذا القسم يسير على الخطى ويتلمس سبل نفع المجتمع التي حث عليها الإسلام.


الوطن والوطنية في فكر الإمام البنا

يُقصد بالمواطنة: العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية دون أدنى تمييز قائم على الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي والموقف الفكري.

ولا يستطيع باحث أو دارس مُنصف لفكرة “الوطن والوطني “ أن ينسى أو يتناسى جهود الإمام حسن البنا في هذا المضمار، فقد اتضح مفهوم الوطن والوطنية لديه من خلال النظرة الموسوعية لهذا المفهوم، واعتبار أن الوطن والوطنية جزء لا يتجزأ لفهم المسلم لإسلامه وتجرده وحبه له، وأن هذا أصل مهم في عقيدة الإسلام وفهم الإخوان المسلمين له.

والمتتبع لجهود الإمام البنا يلمس أنه يحب وطنه، ويحرص على وحدته القومية بهذا الاعتبار، ولا يجد غضاضةً على أي إنسانٍ أن يخلص لبلده، وأن يفنى في سبيل قومه، وأن يتمنى لوطنه كل مجد وكل عز وفخار، كما يحترم قوميته الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرى بأسًا أن يعمل كل إنسانٍ لوطنه، وأن يقدمه في العمل على سواه، ويؤيد الوحدة العربية، باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض.

وفي أكثر من موضع يؤكد الإمام البنا على الجامعة الإسلامية، باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام كما يجعل فكرة وحدة الأمة والعمل لإعادتها في رأس مناهجه.

ويعتقد أن ذلك يحتاج إلى كثيرٍ من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوةَ المباشرةَ لإعادةِ وحدة الأمة لا بد أن تسبقها خطوات:

1- العمل على الوحدة الثقافية والفكرية والاقتصادية بين الشعوب الإسلامية كلها.

2- يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد.

3- يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية.

4- حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الإجماع على “الإمام” الذي هو واسطة العقد، ومجمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض.

كما نادى الإمام البنا بالوحدة العالمية؛ لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه، ومعنى قول الله تبارك وتعالى ﴿ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).

أما مصر، فإنها قطعة من أرض الإسلام، وزعيمة أممه (رسالة إلى الشباب).. وفي المقدمة من دول الإسلام وشعوبه (الإخوان المسلمون تحت راية القرآن).. ونحن نرجو أن تقوم في مصر دولة مسلمة، تحتضن الإسلام، وتجمع كلمة العرب، وتعمل لخيرهم، وتحمي المسلمين في أكناف الأرض من عدوان كل ذي عدوان، وتنشر كلمة الله وتبلغ رسالته.. فالمصرية لها في دعوتنا مكانتها ومنزلتها وحقها في الكفاح والنضال.. ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله..) (رسالة دعوتنا في طور جديد ). ومن ثم نجد أن الأستاذ البنا صاغ أهم النظريات السياسية والاجتماعية المعاصرة في تعدد وتكامل دوائر الانتماء- الوطنية.. والقومية.. والإسلامية.. والإنسانية-.. مع الإشارة إلى دور مصر الرائد والقائد في تحقيق هذه الوحدة المنشودة لأمة الإسلام.

فكل هذه الدوائر للانتماء هي درجات في سلم الانتماء الواحد، يصعد عليها الإنسان المسلم- عقيدةً أو حضارةً- دونما تناقضات، وبعبارة الأستاذ البنا: “فكل منها تشد أزر الأخرى، وتحقق الغاية منها، دونما تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار..”.

معنى الوطنية عند الإمام البنا

يحلل الإمام البنا الوطنية إلى عدة معان، ويُبيِّن موقفهم من كل معنى:

فإن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب مصر والحنين إليها، والانعطاف نحوها، فهذا أمر فطري من جهة، ومأمور به في الإسلام من جهةٍ أخرى، أي أن رابطة الوطنية بهذا المعني فطرة يقرها الإسلام، “إن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب هذه الأرض وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، ومأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلالاً الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه، هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبياتٍ تسيل رقةً وتقطر حلاوةً:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً

بوادٍ وحولي أذخر وجليل

وهل أردن يومًا مياه مجنةٍ

وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل

ولقد سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصف مكة من (أصيل) فجرى دمعه حنينًا إليها، وقال: “يا أصيل دع القلوب تقر”...رسالة دعوتنا، ص20

وإن كان يُراد بها وجوب العمل بكل جهدٍ لتحرير البلد من الغاصبين، وتوفير استقلاله له وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضًا، والإسلام يشدد في ذلك أبلغ التشديد، يقول: “وإن كانوا يريدون أن من واجب العمل بكل جهد في تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله له وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضًا، وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد، فقال تبارك وتعالي: ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: 8)، ويقول: ﴿ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (النساء: 141)....رسالة دعوتنا، ص20

وإن أُريد بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد، وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فيوافق الإمام البنا على ذلك، بأن الإسلام يراه فريضة لازمة، يقول: “وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد وإرشادهم إلي طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فذلك نوافقهم فيه أيضًا، ويراه الإسلام فريضة لازمة، فيقول القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ) ( آل عمران : 118 ) ...رسالة دعوتنا، ص21

الإمام البنا يرفض الوطنية إذا أُريد بها تقسيم الأمة طوائف متناحرة متشيعة لمناهج وضيعة، تُفسَّر وفق مصالح شخصية تستغل من قِبل العدو لمنع اتصالِ بعضهم ببعض وتعاونهم، ويرى أن هذه وطنية لا خيرَ فيها وزائفة؛ يقول: “وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضيعة أملتها الأهواء وشكَّلتها الغايات والأغراض وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً يُفرِّقهم في الحق، ويجمعهم على الباطل، ويُحرِّم عليهم اتصال بعضهم ببعض ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله فلا يقصدون إلا داره ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خيرَ فيها لدعاتها ولا للناس، فها أنت ذا قد رأيت أننا من دعاةِ الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوة الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام”....رسالة دعوتنا، ص21

والذي يبين فهم الإمام البنا للوطنية هو بيانه لعلاقة الوطنية بالعقيدة، ولحدود الوطن، وبناءً علي تلك العلاقة.

فالإمام البنا يذكر أن الإخوان المسلمين أشد الناس إخلاصًا لأوطانهم، تفانيًا في خدمتها، واحترامًا لكل مَن يعمل لها مخلصًا، إلا أنه يقرر أن هناك فروقًا بين الوطنية كما يفهمونها، وبين دعاة الوطنية المجردة.

إن أساسَ وطنية المسلم العقيدة الإسلامية، والإسلام قد جعل الشعور الوطني بالعقيدة لا بالعصبية الجنسية، وقد حدد هدفه بالعمل للخير من أجل البشر، فالاعتبار هنا للعقيدة، بينما هي عند غيرهم ترتبط بالحدود الجغرافية فوطن المسلم هي كل أرض فيها مسلمون، يقول الإمام البنا: “أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطني عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.

ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوي نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطرٍ إسلامي وإنما نطلب القوة لنا جميعًا، ودعاة الوطنية المجردون لا يرون في ذلك بأسًا، ومن هنا تتفكك الروابط، وتضعف القوى، ويضرب العدو بعضهم ببعض”....رسالة دعوتنا، ص21 - 22

ويبين الإمام البنا خطورة ذلك فيما أرادت الأمة أن تقوي نفسها على حساب غيرها، ويقرر أننا نطلب القوة لنا جميعًا، أما دعاة الوطنية المجردة فلا يرون بذلك بأسًا مما يؤدي إلى تفكك الروابط، يقول الإمام البنا: “يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعًا؛ ألست تسمع قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ (الأنفال: 39)، وبذلك يكون الإسلام قد وفَّق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة، بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جميعًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).....رسالة نحو النور – ضمن مجموع الرسائل- ص71

الموقف من الوحدة الوطنية (الأقليات)

تقدَّم أن الوطنية عند الإخوان تنطلق من العقيدة الإسلامية، وذات مضمون إسلامي؛ مما قد يؤدي إلى تساؤل عن الموقف لغير المسلمين في الوطن المصري فهل لهم حقوق المواطن وواجباته كاملاً، أم أن القول بالمضمون الإسلامي للوطنية يؤدي إلى انحصار بعض تلك الحقوق عن غير المسلمين؟.

ويتضح من خلال استقراء الأفكار الإمام البنا في هذه النقطة أنها كانت تأخذ حيزًا غير قليل من بياناته وتوعيته، مما يشير إلى أنها كانت تُمثِّل اهتمامًا له، والمنهج السائد في تناوله جميعًا هو بيان موقف الإسلام- عقديًا وتاريخيًا- من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.

ففي أكثر من رسالة وخطاب يتناول الإمام البنا الموقف من الأقباط، فيرد على مَن يقول إن فهم الوطنية بهذا المعنى السابق يُمزِّق وحدة الأمة؛ لأنها تأتلف من عناصر دينية مختلفة، بأن الإسلام دين الوحدة ودين المساواة، وأنه كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة 8)، فمن أين يأتي التفريق إذن؟....رسالة دعوتنا- ص22

وفي رسالة “نحو النور”: يذكر أن الإسلام يحمي الأقليات عن طريق: أنه قدس الوحدة الإنسانية العامة، وقدس الوحدة الدينية العامة بأن فرض على المؤمنين به الإيمان بكل الرسالات السابقة، ثم قدس الوحدة الوطنية الخاصة من غير تعدٍ ولا كبْر، ويري أن هذا (مزاج الإسلام المعتدل) لا يكون سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل يكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط، ويذكر أن الإسلام حدد بدقة من يحق للمسلمين مقاطعتهم وعدم الاتصال بهم، وهم الذين يقاتلونهم في الدين ويخرجونهم من ديارهم ويظاهرون علي إخراجهم، يقول: “فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة:8)، فهذا النص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم”.

هذا الإسلام الذي بُني على هذا المزاج المعتدل، والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط”.

ويؤكد الإمام البنا على الفكرة نفسها في رسالته للشباب، فيقول: “فيخطئ مَن يظن أن الإخوان دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة”، ويستدل بأن “الإسلام عني أدق عناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان، وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم، وبإنصاف الذميين وحسن معاملتهم (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، فلا ندعو إلى فرقةٍ عنصريةٍ ولا إلى عصبية طائفية، ثم يؤكد الإمام البنا المعنى السابق للوطنية فيقرر: “ولكننا إلى جانب هذا لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا، ونهدر من أجلها مصالح المسلمين وإنما نشتريها بالحق والعدالة والإنصاف وكفى”....رسالة إلى الشباب- ص99

وفي رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي): يبين الإمام البنا موقف الأقلية غير المسلمة ذاتها من الإسلام وبالتالي من دعوة الإخوان ، فالأقلية- كما يذكر الإمام البنا- من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة- في كل تعاليم الإسلام وأحكامه، “وهذا التاريخ الطويل للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعًا- مسلمين وغير مسلمين- يكفينا مئونة الإفاضة والإسراف، فإن من الجميل حقًّا أن نُسجِّل لهؤلاء المواطنين الكرام أنهم يُقدِّرون هذه المعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم ، وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم”.

ويمكن إجمال نظرة الإمام البنا والإخوان للأقباط في عاملين أساسيين هما:

الجانب العقائدي: وفيه التزام الإخوان بما جاء في القرآن الكريم والسنة من أن أهل الكتاب أرسل الله لهم سيدنا عيسى- عليه السلام- نبيًا ورسولا وأنزل معه الإنجيل، وهم أقرب للمسلمين من اليهود فقد قال الله فيهم: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا ولَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْبَانًا وأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة : 82)، وهذا هو المفهوم العام والذي تربى عليه الإخوان وهو موجود في مختلف أدبياتهم.

الجانب المعاملاتي: وفيه اعتبر الإخوان أن الأقباط لهم كافة حقوق المواطنة؛ حيث إنهم جزءٌ من نسيج الوطن، فهم شركاء في هذا الوطن؛ ولذلك جاءت علاقة الإخوان بالأقباط عمومًا علاقة طيبة كباقي فئات المجتمع، ولم يُعكِّرها إلا تدخل بعض المغرضين الذين يكرهون الخير للبلاد، أو متعصبين ضد كل ما هو إسلامي، يحكمهم في ذلك الهوى والحقد الشخصي، أو فئة فهمت الإسلام فهمًا خطئًا.


الإخوان وتطبيق الشريعة

كان الإخوان المسلمون أول هيئةٍ تُنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتتبنى هذه القضية منذ نشأتها، وتعتبرها إحدى أهم قضاياها الكبرى، وسلكت في نصرتها سبلاً متعددة:

- صحافة الإخوان وتبني قضية تطبيق الشريعة:

كتب الأستاذ البنا ومن بعده كتاب ودعاة الإخوان سيلاً من المقالاتِ والدراسات امتلأت بها صحف الإخوان المسلمين حول فرضية تطبيق الشريعة، ومميزاتها، والموازنة بينها وبين القوانين الوضعية... وفي أول صحيفةٍ للإخوان المسلمين كتب الإمام البنا في العيد الخمسين للمحاكم الأهلية يُذكِّر الحكومةَ بأنَّ دستور الدولة ينص على أن الإسلام دينها الرسمي، ويجب أن تراعي الحكومةُ ذلك وتعمل على تنفيذه، فتحل التشريع الإسلامي محل التشريعات الأخرى التي تصطدم مع شريعة الإسلام"....( جريدة الإخوان - سنة 1- عدد 25- 5/1/1934 م).

- تأييد وتوجيه المطالبين بتحكيم الشريعة الإسلامية:

في مقالٍ للإمام تحت عنوان "هل تحل الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية في البلاد الإسلامية" يحيي الأزهر على عدم حضوره الاحتفال بالعيد الخمسين للمحاكم الأهلية وعدم الاعتراف بالمحاكم الأهلية.. ( جريدة الإخوان - سنة 3- عدد 8- 4/6/1935 ).

- وأيَّد الإخوان المسلمون طلاب كلية الشريعة (ومنهم عدد من طلبة الإخوان ) في ندائهم الموجَّه إلى الشعب المصري والحكومة المصرية لجعل القوانين المطبقة موافقة للشريعة الإسلامية.. ( جريدة الإخوان - سنة 4- عدد 11- 23/6/1936م).

- تحركات عملية للسعي نحو تطبيق الشريعة:

مقترحات شعب الإخوان :

في عام 1941 م اقترح الإخوان بشبين القناطر على لجنةِ المؤتمر السادس توقيع عريضة من المؤتمر تطالب باتخاذ الشريعة الإسلامية أساسًا للحكم في مصر، ورفعها إلى الملك وأولى الشأن وتأييدها من شُعب الإخوان جميعًا، وتمَّت الموافقة على هذا الاقتراح.

مناظرات في شُعب الإخوان حول تطبيق الشريعة:

وكان لشُعَب الإخوان دور مهم في نقل هذه القضية إلى جمهورِ الناس وتوعيتهم بأهميتها ومن الوسائل التي اتبعتها بعض الشُّعَب عقد المناظرات العامة للتباحث حول هذه القضية المهمة، ومن أمثلتها أن "جمعية الإخوان المسلمين بالمنصورة دعت الجمهور لحضور وسماع مناظرة موضوعها: "هل من الممكن تطبيق التشريع الإسلامي في مصر بظروفها الحاضرة؟".. (البنان- س 12 ع 517- 31/3/ 1941 م).

- أكبر حملة للدعوة لتطبيق الشريعة (معركة المصحف 1948 م):

بتاريخ 6 مايو 1948 م اجتمعت الهيئة التأسيسية للإخوان برئاسة الإمام البنا، وقد أصدرت في اجتماعها قرارات هامة كان من بينها:

"الإعلان عن معركة المصحف حتى يتحدد موقف الدولة التي ينص دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام، وموقف الأمة التي تعتز بأنها زعيمة أمم الإسلام من أحكام القرآن وتعاليمه في هذا الوقت الذي انتشرت فيه الدعايات الخبيثة والدعوات الباطلة في كل مكان، وحتى يظهر للناس كافة أنه لا علاجَ لما استشرى من أدواء الفقر والجهل والمرض والتحلل الخلقي والوطني إلا بالرجوع إلى أحكام الشريعة الصحيحة".

وقد بدأ الإمام فعلاً يكتب سلسلة مقالات تحت عنوان: (معركة المصحف- والقضاء والتشريع والمحكمة من حكم الله)....( جريدة الإخوان اليومية- عدد 629 631).

ولكن رئي تأجيل المعركة بالنسبة لقضية فلسطين ووجوب الوحدة في سبيل مواجهتها، وكان ذلك بعد اتصالات كثيرة اشترك فيها كثيرون من أهل الرأي وأقطاب رجال العالم الإسلامي وألحوا على الإمام إلحاحًا شديدًا في قبول الهدنة وإيقاف الحركة مؤقتًا"....(مجلة الدعوة- عدد 124).

- الإخوان وإصدار أول مشروع لدستور إسلامي 1952 م: "صدر مشروع الدستور الإسلامي المقترح عن الشعبة القانونية للإخوان وصاغ مواده الدكتور محمد طه بدوي (أستاذ القانون العام والعلوم السياسية بكلية التجارة بجامعة الأسكندرية ) في 103 مواد، وراجعته لجنة مُشكَّلة من ثلاثة أعضاء (برئاسة المرحوم عبد العزيز عطية عضو مكتب الإرشاد ورئيس المكتب الإداري للإخوان وعضوية كلٍّ من الأستاذ علي فهمي طمان المحامي والدكتور غريب الجمال "أستاذ الاقتصاد الإسلامي بمعهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة " عضوي الشعبة القانونية)، وصدر عن الهيئة التأسيسية في 25 ذي الحجة 1371 هـ الموافق 16 سبتمبر 1952 ".


الإمام البنا ومواجهة الاحتلال الإنجليزي لمصر

احتل الإنجليز مصر عام 1882 ، وقد تمكنوا من استيعاب المقاومة ضدهم وأخضعوا المنظومة السياسية لإرادتهم، وسيطروا على عناصرها يتلاعبون بها، وأحدثوا تغييرًا اجتماعيًّا نشأ عنه ارتباط شريحة من المثقفين والرموز السياسية ورجال الأعمال وأصحاب الأراضي بهم وبأفكارهم، وارتبطت مصالحهم بمصالحها. لكن رغم كل هذا استمرت الروح الوطنية ترفض هذا الاحتلال، وتسعى للاستقلال، وواجه الإنجليز ذلك بدهاء، حيث طرحوا أشكالاً مزيفةً للاستقلال المنقوص، وأداروا بمهارة الصراع بين القوى السياسية المختلفة وقد أمسكوا بخيوطها، وبالتالي تدهورت الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وانتشر الفساد بأشكال مختلفة في كل هذه المجالات.

كانت محاولات الوطنيين والمصلحين مستمرة تجاهد ما استطاعت، لكنهم لم تكن تحمل مشروعًا متكاملاً للنهوض بالأمة في كل المجالات، ولم تؤسس واقعًا عمليًّا يغير المجتمع ويفرض نفسه على أرض الواقع.

فكيف واجه الإمام الشهيد حسن البنا ذلك؟، وما هي المساحة التي حددها لهذا الأمر في مشروعه الإسلامي للنهضة؟، بل وكيف استطاع تأسيس دعوته وعين الإنجليز متربصة بكل دعوة وحركة للمقاومة؟.

وبنظرة سريعة على خطوات ومنهجية الإمام الشهيد في هذا الميدان، نرى أن هناك خمس سمات أساسية بهذا الشأن:

1- جعل الإمام الشهيد تحرير الوطن من هذا الاحتلال هدفًا رئيسيًّا من أهداف المشروع الإسلامي وجعله المرتبة الرابعة في مراتب العمل "وهي تحرير الوطن من كل سلطان أجنبي" وأن هذا لا بد أن يسبق إقامة الحكم الإسلامي المنشود.

2- أنه ينطلق في رؤيته تلك من الجانب العقائدي الإيماني، فأعاد للإسلام دوره الفعال في النفوس وفي واقع المجتمع، حيث قرر الإسلام أن الحرية فريضة من فرائضه لا يجوز التنازل عنها أو التفريط فيها، وأن الجهاد لتحرير الوطن فرض عين وواجب حتمي تسعى الأمة كلها إليه.

3- كان الإمام الشهيد يستهدف نزع جذور الاستعمار الأجنبي من العقول والأفكار ومن النفوس والقلوب، ومن تبعية السلوك والتقليد وادعاءات المصالح والارتباطات، كان يريد تحريرًا واستقلالاً كاملاً شاملاً لا يقتصر فقط على مجرد رحيل القوات الأجنبية، ولهذا كان يؤسس مشروعه وخطته لمواجهة الاحتلال وفق هذه الرؤية الشاملة والبعيدة المدى.

4- أن يسير في خطته الشاملة في محاور متوازية، تنمو وتتسع مع نمو واتساع الجماعة، فتكون خطواتها متناسبة مع الإمكانيات، وتسير في اتجاه تحقيق الأهداف وكانت هذه المحاور تشمل:

أ- محور تأمين نمو الجماعة وتثبيت جذورها وزيادة تأثيرها وانتشارها مع البعد عن أي صراعات جانبية.

ب- محور إعداد أفراد الجماعة وتكوينهم للدور المطلوب منهم.

ج- محور توعية الشعب وإعداده وحشده في الاتجاه المطلوب.

د- محور الضغط السياسي والحراك المجتمعي.

هـ- محور التدريب العسكري والإعداد لمعارك التحرير.

5- كما كانت رؤية الإمام أنه لتحقيق ذلك الواجب، لا بد أن تنهض وتتعاون قوى الأمة جميعًا لتحقيقه.

- كانت هذه الرؤية واضحة والأهداف محددة منذ اليوم الأول الذي بايع فيه الستة المجاهدون الأوائل الإمام الشهيد لتأسيس الجماعة ومشروعها الإسلامي عام 1928 م.

ومن كلمات الإمام الشهيد نذكر هذه المقتطفات: ".. ومن هنا يعتقد الإخوان المسلمون أن كل دولة اعتدت وتعتدي على أوطان الإسلام دولة ظالمة لا بد أن تكف عدوانها ولا بد أن يعد المسلمون أنفسهم ويعملوا متساندين على التخلص من نيرها.." رسالة المؤتمر الخامس صـ155).

ولقد تصدى الإمام الشهيد لجرائم الإنجليز ليس في مصر وحدها وإنما في كل أنحاء العالم الإسلامي، وكذلك لغيره من قوى الاستعمار: ".. ولنا حساب بعد ذلك مع إنجلترا في الأقاليم الإسلامية التي تحتلها بغير حق، والتي يفرض الإسلام على أهلها وعلينا معهم: أن نعمل لإنقاذها وخلاصها". (رسالة المؤتمر الخامس ).

"أريد أن أستخلص من هذا أن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزأ، وأن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله، هذه واحدة، والثانية أن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمة في ديارهم، سادة في أوطانهم".

"وإن قال البعض بأن علاقة مصر بالإنجليز كانت علاقة تحالف بناء على معاهدة 1936، فقد رفض الإخوان هذه المعاهدة الظالمة التي لم تعط مصر استقلالها الحقيقي، كما أن الإنجليز لا يزالون يحتلون معظم العالم الإسلامي دون معاهدات أو تحالفات ويديرون المؤامرات لتمكين اليهود من أرض فلسطين.." (رسالة المؤتمر الخامس ).

كان الإمام الشهيد حريصًا أن تكون بداية تأسيس مشروعه من القاعدة الشعبية، وليس من الشريحة العليا في المجتمع، وأن يبعد بها عن إحداث أي ضجيج حول هذا التأسيس حتى لا يلفت الانتباه لذلك.

فكان الرعيل الأول من أصحاب الحرف البسيطة، ومن حملة الشهادات المتوسطة، لكن من ذوي الهمة العالية، والاستعداد الكامل للتضحية والفهم الصحيح، ولم يحدث مع التأسيس احتفالات ومهرجانات وإعلانات، بل كانت كالنبتة الوليدة، بعيدًا عن القاهرة وبعيدًا عن الأضواء.

واستطاع الإمام ببراعة استيعاب بعض الأحداث التي حاول بعض الأفراد في الإسماعيلية إثارة الأمن ضدها والإبلاغ عن أهدافها.

ومع انتقال الدعوة للقاهرة، كانت مرحلة التعريف بها وإيجاد المنافذ والركائز لها، تمضي بهدوء حثيث، واكتسبت منفذًا لها من طلبة الجامعة، سرعان ما انتشر وتحرك بالدعوة.

كانت المقرات التي اتخذتها الجماعة (المركز العام) في الأحياء الشعبية وكان مظهرها بسيطًا. وابتعدت في هذه السنوات القليلة عن طبقة الأعيان، وعن الصدام مع أي جهة.

كان الإمام الشهيد كأنه يسابق الزمن في مرحلة التأسيس تلك في حركته، وسفرياته لنشر الدعوة وفتح الشُعب والفروع وإيجاد الركائز لها.

وعندما أحسّ الإنجليز بأن الساحة بها متغير (حوالي عام 1938)، كانت الدعوة قد انتشرت وامتدت جذورها بالمجتمع.

كان الإمام حريصًا أن يكون مظهر الجماعة أقل من حقيقة قوتها وانتشارها وكان يسبق الرصد من العيون المتربصة، والتقارير المرفوعة، فلا يعرفون مدى النمو الحقيقي.

ظن الإنجليز في البداية أنها جمعية مثل باقي الجمعيات وحركة مثل الباقين وتعاملوا معها مثل ما تعاملوا مع الآخرين من حركات وجمعيات تموج بها الساحة.

حاولوا أولاً أسلوب الاستيعاب، وذلك عن طريق المال، فأرسلوا من طرفهم من يعرض المال على الإمام الشهيد كدعم للنشاط الاجتماعي الجيد الذي تقوم به، ووصل الأمر في العرض إلى أرقام كبيرة في هذا الوقت، بل قالوا له الشيك أمامك على بياض اكتب فيه الرقم الذي تريد، ورفض الإمام الشهيد ذلك بحسم وهدوء. وعندما علق أحد الإخوان على ذلك للإمام بأنه لماذا لم يأخذ هذا المال ويحاربهم به ذكرّهم بالمبدأ الرئيسي بأن الجماعة لا تأخذ مالاً من أحد وستعتمد على جيوب أفرادها ومحبيها، وأوضح لهم أسلوب الإنجليز في الاستيعاب والاحتواء وأن اليد التي تمتد للأخذ ستبقى هي اليد السفلى .

(راجع حقائق وأسرار أ. محمود العدوي- وكتاب أحداث صنعت التاريخ ).

ويشير الإمام إلى هذه الناحية في رسالة المؤتمر الخامس ص 132 فيقول: "ودأب المكتب (أي يقصد مكتب الإرشاد ) على ذلك يقتطع أعضاؤه من قوتهم وجهودهم ما يستعينون به على خدمة عقيدتهم في عفة الأسد، وفي طهارة ماء الغمام، لا يمدون لأحد يدًا ولا يسألون كبيرًا ولا هيئة شيئًا ولا يأخذون من مال حكومة ولا يطلبون معونة أحد إلا الله" إ. هـ.

وعندما فشل الإنجليز في محاولة الاستيعاب، حاولوا المزايدة والمنافسة على حركة الجماعة، لقطع الطريق على انتشارها، فأوعزوا لأعوان لهم بتشكيل جمعية "إخوان الحرية 1942 " تتحرك بدعم مالي وضجيج إعلامي وتنشط عند كل مناشط وفعاليات واحتفالات الإخوان ، في نفس التوقيت وبنفس العنوان، وذلك لعرقلة حركة الإخوان والتشويش عليها وسحب البساط من تحت أقدامها، ولم ينزلق الإمام في هذه المكيدة الجديدة، بل ومنع الإخوان أن يلتفتوا إلى ذلك أو يشتبكوا معهم، وأن يركزوا على عملهم والاستمرار فيه، وأن النفس الطويل سيحسم الأمر، وعندما كانت جمعية إخوان الحرية توزع إعلانًا بأحد الاحتفالات في نفس موعد احتفال الإخوان بإحدى المناسبات الدينية، أمرهم الإمام الشهيد أن يرفقوا ورقة إعلان هذه الجمعية بإعلان الإخوان عن احتفالهم ويوزعونهما معًا، وبالتالي أدرك الشعب أن هذه الجمعية تسعى للمنافسة والمضايقة وأن الإخوان لا يهمهم ذلك ولا يلتفتون إليه، وانتهى موضوع إخوان الحرية إلى فشل ذريع.

كان الإمام الشهيد حريصًا منذ البداية على البعد عن كل مظاهر استعراض القوة، ففي الوقت الذي أسست فيه الأحزاب والتيارات ما يشبه الميليشيات المسلحة وكانت تسمى القمصان الخضر والحمر.. الخ، رفض الإمام هذا الأسلوب واهتم بتشكيل الكشافة، والجوالة، والاستفادة من مجال العمل والنشاط في هذا الميدان.

ومع استمرار الجماعة، أخذ الإنجليز الخطوة التالية وهو إبعاد هذا القائد العنيد الذي استعصى على الاحتواء وأفلت من المكائد المختلفة إلى الصعيد، وطالبوا ذلك من حسين سري باشا رئيس الوزراء (وكان الإمام يعمل مدرسًا ابتدائيًّا).

ودهش رئيس الوزراء أن يهتم الإنجليز بجمعية دينية صغيرة وبمدرس ابتدائي ويعتبرونه خطرًا عليهم وكان هذا في عام 40- 1941 ، ونفذ الإمام الشهيد النقل، وإذا بالدعوة تنتشر بقوة في الصعيد بحركته الدءوبة وأسلوبه المؤثر، مما أزعج بعض التيارات هناك فأرسلوا منزعجين يطلبون إعادته وإبعاده عن الصعيد وهكذا عاد الإمام للقاهرة ثم قدم استقالته من الوظيفة ليتفرغ لقيادة الدعوة، فقامت الحكومة تحت ضغط الإنجليز فاعتقلت الإمام ونائبه وسكرتير الجماعة في معتقل الزيتون ثم أفرج عنهم أواخر 1941 (نوفمبر) تحت ضغط أفراد في البرلمان والسخط الشعبي العام.

ومنذ بداية الأربعينيات أخذ اهتمام الإنجليز ورصدهم لحركة الجماعة يزداد، وتحريض كثير من الصحف على الهجوم عليها، وقد أحسوا بالخطورة منها، وصدر قرار وزارة الوفد بإغلاق جميع الشُعب ما عدا المركز العام عام 1942 ، وفرضوا حالة الطوارئ على البلد، وشجعوا عددًا من محاولات اغتيال الإمام كمحاولة للتخلص منه على يد بعض التيارات والقوى المنافسة وفكروا عام 1943 بنفي الإمام خارج مصر وأشاعوا ذلك حتى إن الإمام كتب رسالة بين الأمس واليوم يودع فيها الإخوان ثم عدلوا عن ذلك خوفًا من رد الفعل الشعبي في ظروف الحرب العالمية.

كان انشغال الإنجليز بالحرب العالمية الثانية بدءًا من عام 1939 ، وتطوراتها فرصة قوية للإمام الشهيد الذي انطلق بالدعوة والتركيز على التكوين واكتساب الأنصار والركائز وتطوير أجهزة الجماعة ومن ضمنها النظام الخاص عام 1940 في نقل الجماعة من مستوى إلى مستوى قوي لم يتصوره الإنجليز وغيرهم أو يتوقعونه، وانتهت الحرب العالمية وقد أصبح الإخوان أحد أهم القوى الشعبية والسياسية بالمجتمع إن لم يكن أقواها وأن الخريطة السياسية في مصر قد تغيرت وأن الجماعة تتحرك بفاعليات جماهيرية مؤثرة وتحشد الأمة وراءها وتضغط بالمطالب الوطنية.

حاول الإمام الشهيد دخول البرلمان فقام بالترشيح مرتين في دائرة الإسماعيلية عام 42، وأواخر عام 1944 ، ففي المرة الأولى ضغط الإنجليز على رئيس الحكومة النحاس باشا ليضغط على الإمام الشهيد للتنازل عن الترشيح، وتنازل الإمام لتقديم مصلحة الدعوة على موقفه الشخصي، ثم في عام 44 قام الإنجليز بتزوير الانتخابات بصورة فجة مباشرة، ومما قاله الإمام ليهدئ الجماهير المحتشدة "إن عجز أمة عن أن تدفع أحد أبنائها إلى البرلمان ليقول كلمة الحق والإسلام لدليل على أن الحرية رياء وهباء، وأن الاستعمار هو سر البلاء، إنني أحسب أن مراجلكم تغلي بالثورة وعلى شفا الانفجار ولكن في هذا الموقف لا بد من صمام الأمان، فاكظموا غيظم وادخروا دماءكم ليوم الفصل وهو آتٍ لا ريب فيه ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله" ....أ. هـ (حسن البنا مواقف في الدعوة - عباس السيسي صـ 202).

وكان الإمام الشهيد يرفض العنف والتخريب وإسالة الدماء في أي مظاهرات صاخبة حتى ولو كانت لمطالب مشروعة، وكان ينادي بأن تحافظ الأمة على كل قطرة دم استعدادًا للمواجهة الفاصلة مع الإنجليز وسماه يوم "الدم". وكانت الدعوة حاضرة بقوة في أغلب الفعاليات والأحداث والمناسبات الوطنية، مع البعد عن الاشتباك الجانبي أو الرد على المهاترات والشتائم التي توجه لها وسمى الانشغال بذلك "كفاحًا سلبيًّا"، وواصل الإمام تركيزه وإعداده وتهيئة صف الإخوان وجموع المجتمع نفسيًّا وفكريًّا وحركيًّا لتحقيق إجلاء المحتل عن أرض الوطن.

كانت المساجد تشكل منطلقًا عميقًا يخاطب فيه الأمة ويوقظ فيها الإيمان والروح ووضع الإمام دعاء يقنط به الإخوان في صلاتهم، وكذلك يعلمونه للناس في المساجد: "اللهم رب العالمين وأمان الخائفين ومذل المتكبرين وقاصم الجبارين، تقبل دعاءنا وأجب نداءنا وأنلنا حقنا وردّ علينا حريتنا واستقلالنا اللهم إن هؤلاء الغاصبين البريطانيين قد احتلوا أرضنا وجحدوا حقنا وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، اللهم فردّ عنا كيدهم، وفرق جمعهم وخذهم ومن ناصرهم وأعانهم أو هادنهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم واجعل الدائرة عليهم وسق الوبال إليهم وأذل دولتهم وأذهب عن أرضك سلطانهم ولا تدع لهم سبيلاً على أحد من المؤمنين"....(كتاب الإمام الشهيد للأستاذ فؤاد الهجرسي صـ 180).

وتعددت محاولات اغتيال الإمام الشهيد، باءت كلها بالفشل في تلك المرحلة، وكلها كانت منذ بداية الأربعينيات، فكانت هناك محاولة اغتيال في بورسعيد، وفي الجمالية- دقهلية من أنصار لحزب الوفد ، وكذلك عدة محاولات للشيوعيين بالقاهرة ، وبالمحلة الكبرى حيث رتبوا نسف المنصة التي سيلقي منها خطابه، وفي القاهرة محاولة لبعض المتعصبين لحزب مصر الفتاة أثناء أحد الاحتفالات، وحاول الإنجليز بترتيب محاولة عام 1942 بأن تدهس عربة لوري سيارة الإمام الشهيد بالقاهرة ، كما تم إطلاق الرصاص عليه في مظاهرة الأزهر عام 1946 وأصيب في يده، وفي بعثة الحج عام 1948 رتب حامد جودة محاولة سفر مجموعة لاغتياله هناك وتم إحباطها مبكرًا.

هذه نماذج مما كُشف عنه، ولم يكن فشل هذه المحاولات أنها كانت ضعيفة التخطيط، ولكن براعة الإمام في التصرف وكذلك تمكنّه من دسّ بعض عناصره ضمن هذه التنظيمات المناوئة ساعدته بعد فضل الله وعنايته في النجاة منها.

وفي أواخر الأربعينيات دخل الأمريكان الميدان أيضًا، وكانوا يتابعون ويرصدون، وكان ردّ فعلهم عن اغتيال الإمام الشهيد في أوائل عام 1949 ، أحد أسباب دخول الشهيد سيد قطب دعوة الإخوان عندما عاد من أمريكا.

حاول الأمريكان استخدام أسلوب الاستدراج عن طريق عرض قدموه لمحمود عساف بأن يتعاونوا مع الإخوان في مقاومة الشيوعية، وكان رد الإمام البنا الرفض الواضح وأنهم يتاجرون بذلك وأن موقفهم من القضية الفلسطينية ومما تفعله العصابات الصهيونية يكشف عدم مصداقيتهم ويضع حاجزًا بينهم وبين الشعوب العربية والإسلامية، وكانت هذه الصفعة للأمريكان حافزًا لديهم للإصرار على ضرب الإخوان .

كانت فعاليات مقاومة الإنجليز على شتى المحاور، تسير مع فعاليات قضية فلسطين ومع تطور الدور القتالي لكتائب الإخوان داخل أرض فلسطين ومواجهتهم للعصابات الصهيونية ، مما أزعج اليهود بشدة وجن جنونهم وضغطوا لضرب الإخوان وإبعادهم من ساحة المعركة، وكذلك حنق الإنجليز وإحساسهم بالفشل في مواجهة دعوة الإخوان وخطورة مشروعهم على تواجدهم بالمنطقة كلها، مما حفزهم إلى الإسراع بعقد اجتماع لسفراء دول أمريكا وإنجلترا وفرنسا في قاعدة فايد العسكرية واتخاذ قرار بحل الجماعة وتوجيه ضربة قوية لها واغتيال الإمام الشهيد، وأن على الحكومة المصرية أن تقوم باتخاذ الإجراءات فورًا فتم حلّ الجماعة في ديسمبر 1948 والقبض على أفرادها وقياداتها ثم اغتيال الإمام الشهيد في 12 فبراير 1949 .

لقد تخلى الإنجليز عن أسلوبهم المشهور، فقد كانوا حريصين على استيعاب أو نفي الزعماء وقادة المعارضة بدلاً من تصفيتهم الجسدية، فعلوا هذا مع أحمد عرابي وكذلك مع قادة ثورة 1919 حيث تمكنوا بعد ذلك من استيعابهم وإلهائهم بالمنظومة السياسية والصراع على السلطة، لكن مع الإمام الشهيد اختلف الأمر فقد عجزوا وفشلت كل محاولات الاستدراج أو الاحتواء أو الإبعاد وكل محاولات التأليب للقوى المحلية، وتمكن الإمام من تخطي كل العراقيل والمعوقات، فجن جنونهم وظنوا أنهم سيوقفون حركة الدعوة وسيقضون عليها بهذا الإجراء.

لقد كانت المنهجية التي وضعها الإمام الشهيد واضحةً محددةً مكافئةً للواقع الموجود، فكان عليه تأمين حركة الجماعة ونموها في ظل قوى متربصة ومعادية، وأن يمر بمهارة من المنزلقات والمكائد والفخاخ إلى نصبت في طريق الدعوة، وألا يدخل معركة فاصلة دون تهيئة وإعداد أو قبل الأوان.

كان عليه كل ذلك، وفي نفس الوقت أن يتخذ الخطوات العملية الفعَّالة لإزالة هذا الاحتلال البغيض، وتحقيق الاستقلال للأمة وفق منظومة أهداف الجماعة.

شملت خطة الإمام الشهيد في مسارها العملي أربع مراحل متداخلة مترابطة:

- المرحلة الأولى: شملت التركيز على تأصيل الفكرة ووضع الإستراتيجية، وقد سمَّاها الإمام مرحلة التعريف، ونشر الوعي الصحيح حول الواجبات والأهداف ودور أفراد الإخوان في مواجهة المحتل الغاصب، وكذلك توعية أفراد الشعب بذلك، مع العمل على اتساع مساحة التأثير والوصول إلى الجماهير في أعماق الريف وأنحاء القطر المصري كله، وقد أخذت هذه المرحلة حوالي عشر سنوات، واستمرَّت بعد ذلك تعمق هذا الجانب بفاعلية متزايدة.

- المرحلة الثانية: وهي قد بدأت من عام 1938م؛ حيث انتقل بها الإمام للخطوة الثانية من الإعداد وسماها الخطوة التكوينية، مع استمرار ما بدأ به من نشر الدعوة ومبادئها، وفي هذه المرحلة من عمق الإعداد والتدريب والتكوين اشتملت على هذه الخطوات الأساسية:

أ- إنشاء النظام الخاص عام 1940 م، وإعداده وتدريبه لمواجهة قوات الاحتلال، واستمر هذا حوالي عشر سنوات.. وصاحبه ما يستلزم ذلك من زرع الأفراد والعيون، وتجميع المعلومات الدقيقة وترتيب موارد السلاح والتدريب عليه، وكل ما يلزم لمعركة طويلة مع قوات الاحتلال الإنجليزي، ونشير هنا إلى الحكم التاريخي الذي أصدرته محكمة جنايات القاهرة في 17/3/1950 (قضية السيارة الجيب) برئاسة أحمد كامل بك بشأن النظام الخاص، فقد برَّأته المحكمة من تهمة الإرهاب وأشادت به وبدوره البطولي.

وورد في حيثيات الحكم: ".. إنه جهاز تدريب يتمشى مع الأهداف المقررة لتحرير وادي النيل وجميع البلاد الإسلامية، وإنه لم يتضمن ولم يدع إلى ارتكاب جريمة.. وأن المحكمة تدين بالتقدير لروح البذل والفداء الذي قدمه الإخوان المسلمون في فلسطين، الأمر الذي شهد به أمام المحكمة كل من اللواء أحمد بك المواوي القائد الأول لحملة فلسطين، واللواء أحمد فؤاد صادق باشا الذي خلفه، بما قام به هؤلاء المتطوعون من أعمالٍ دلت على بسالتهم وحسن مرانهن وسمو روحهم المعنوية وإلمامهم بفنون حرب العصابات... " (أ.هـ).

ب- القيام بعمليات صغيرة منذ عام 1940 م وما بعدها؛ وذلك ضد قوات الاحتلال ولكن مع صغر حجمها إلا أنها كانت مستمرة ومتعددة، ويقوم بها أفراد النظام الخاص وقد تصاعدت وتيرتها بعد عام 42، وكان ذلك لتحقيق معنى الجهاد وتركيزه عمليًا في النفوس- والتدريب والتهيئة للمواجهة الأكبر، ولتحقيق بعض الإزعاج للمحتل وحرص الإخوان ألا يعلنوا عن نسبة هذه العمليات الفردية إليهم حرصًا على استمرار التكوين والإعداد، وعدم لفت الأنظار إليه.

ت- الفعاليات الشعبية وتفعيل المساجد، وبروز فعاليات الضغط السياسي وقد حاول الإمام الترشيح للبرلمان عام 1942 ، وأواخر عام 1944 لكن حال الإنجليز دون ذلك.

- المرحلة الثالثة: وهي تبدأ من سنة 1946 م، حيث تزايدت فيها وتيرة العمليات الفدائية من الإخوان ضد قوات الاحتلال، وتزايدت فعاليات الضغط الشعبي والسياسي التي يتحرك بها الإخوان ، والتحرك بآليات جديدة لتفعيل المقاومة الشعبية السلمية، ودعم الزخم الطلابي في حركته، وكانت مظاهرة كوبري عباس الثانية عام 1946 م، والتي رتبها وقادها الإخوان نموذج من عشرات المظاهرات التي تمت وقد جُرح فيها عدد من الإخوان واعتقل البعض الآخر.

كما استخدم الإمام البنا، وسائل التحرك الإعلامي على المستوى العالمي، وخاصةً داخل الأمم المتحدة وقد أرسل أحد قادة الإخوان الطلاب إلى هناك للقيام بذلك.

- المرحلة الرابعة: وهي تشمل الانتقال للمرحلة التنفيذية في المواجهة والدخول في العمليات العسكرية بدءًا من عام 1950 م إلى أن تم جلاء هذه القوات عن أرض مصر (بعد قيام ثورة 52)، وكذلك الضغط حتى تم إلغاء معاهدة 1936م وإجماع الأمة على شرعية القتال ضد القوات الإنجليزية.

- جاءت تطورات قضية فلسطين في أواخر عام 47، وعام 1948 م، لتؤجل خطة الإمام مؤقتًا في عملية قتال الإنجليز التي كان يُعد لها على نطاق واسع؛ حيث كان التركيز في العمليات الجهاد ية كلها موجه لفلسطين، وعلى أرضها لخطورة التهديد الصهيوني هناك.

رؤية الإمام البنا في مشروع التحرير كانت تقوم على:

1- أن متانة الإعداد العسكري لا تقوم على مجرد التدريب، وإنما لا بد لها من تربية وتكوين صحيح للشخصية المجاهدة، لكي تكون قادرةً على الاستمرار، وعلى تحمل التضحيات والتجرد والإخلاص، وهذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعة لا بد أن تراعي التدرج في الخطوات والعمليات، وعدم كشف كل الأوراق، واختيار التوقيت المناسب، وتجنب التصفية.

2- أهمية بناء الوعي الشعبي الحقيقي الذي لا يقوم على مجرد شعارات أو فورات حماسية، ولكن أن تتحول العاطفة إلى إجراء عملي واقعي يقاوم المحتل، ويحقق الاستقلال معنويًّا وفكريًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، لقد حرص الإمام في خطته ووسائله أن يقاوم الاحتلال في مظاهره داخل النفوس والأفكار والعادات، وكان من مظاهر ذلك تحفيز الأمة لمقاطعة المنتجات الإنجليزية وصور الثقافة الغربية.

3- كما كان له رؤية عميقة بشأن تحقيق الاستقلال الاقتصادي ليسير هذا الهدف مع تحقيق الاستقلال من الاحتلال العسكري، ولهذا كان جهاده لتمصير الشركات وتشجيع المنتج الوطني، وإنشاء الصناعات الوطنية.

4- دعوته لتوحيد القوى الوطنية حول مشروع قومي واحد هو طرد المحتل وتحقيق الاستقلال الحقيقي، والنهوض بالأمة، وترك هذا التنازع الحزبي، واعتبر أن هذه الأحزاب قد حلَّ بها الفساد وأصبحت ألعوبةً في يد الإنجليز.

5- الاهتمام بالضغط الإعلامي والسياسي داخليًّا وخارجيًّا، واستيعاب المتغيرات العالمية وموازين القوى الجديدة والاستفادة من ذلك.

لقد كان أسلوب الإمام الشهيد يقوم على العمل المتكامل وفق إستراتيجية عميقة بعيدة المدى، احتاجت منه 20 عامًا ليصل إلى النتيجة التي استهدفها، وبهذه الرؤية؛ وذلك الإعداد كانت مسألة طرد المحتل قد حسمت وأصبحت المواجهة العسكرية ضد قواعده في القناة هي المرحلة الأخيرة والمسمار الأخير في نعشه، وقد أدرك الإنجليز ذلك وعرفوا أنهم سيرحلون قطعًا، ولكنهم كانوا يريدون أن يتفقوا مع مَن يعطيهم أكبر قدر من التنازلات.. وكان لكل هذه القوى الأجنبية هدف واحد وطلب واحد هو ضرب هذه الجماعة ومحاولة القضاء عليها.

ومن المهم الإشارة أن الإخوان قد رفضوا بحسم ووضوح الفكرة التي تحرك بها بعض الوطنيين بالترحيب بالألمان، وتقدمهم لاحتلال مصر نكاية في الاحتلال الإنجليزي، وكان منطلق رأي الإخوان نابع من عقيدتهم، وكيف نستبدل مستعمرًا بمستعمر آخر؟ وإن معنى الكفاح عندهم ينبع من تفجير طاقات الأمة لدفع غوائل الاستعمار أيًّا كان لونه إنجليزيًّا أو ألمانيًّا أو غير ذلك، ولهذا لم يشاركوا في تظاهرات بعض القوى السياسية التي كانت تهتف إلى الأمام يا روميل في 1942 م.

موجز للفعاليات والعمليات التي شملتها خطة الإخوان :

1- حملات التوعية من صحف ومجلات ونشرات وبيانات صادرة من الإخوان ، مع حرص الإخوان على ربط قضية الجلاء بالعقيدة، وأن تشمل الدعوة إلى فعاليات بكراهية الإنجليز ومقاطعتهم وعدم التعاون معهم، والضغط على المتعاونين معهم.

2- عقد المؤتمرات الشعبية والندوات الجماهيرية حول هذا الأمر، وكذلك مشاركة مؤسسات الجماعة كلها في ذلك:

أ- فكان المؤتمر العام السادس في 9/1/1941 للهيئة التأسيسية، ومسئولي شعب الإخوان ، وتناول فيه الإمام برؤية واضحة شئون مصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومشكلة احتكار الشركات الأجنبية.

ب- المؤتمر الذي دعا إليه المركز العام ثاني أيام عيد الفطر (8 سبتمبر 1945م) كل رؤساء المناطق والشعب، وأعلنوا فيه بأنه على بريطانيا الاعتراف بحق مصر في الاستقلال التام وضرورة نيلها الاستقلال ورفع القيود الاقتصادية والتجارية عنها، وألا تتدخل الحكومة البريطانية في شئون السودان، وأن تعترف الأمم المتحدة بحق مصر في ذلك (مجلة البلاغ- 11 سبتمبر 1945م).

ج- المؤتمر الشعبي في 28/8/1946 م بالقاهرة وحضره نصف مليون فرد، وطالب ببطلان معاهدة 1936م، ورفض أي معاهدة قبل الجلاء التام عن وادي النيل.

د- كانت كل احتفالات الإخوان في المناسبات الوطنية أو الدينية، يعتبر هذا الموضوع من الموضوعات الأساسية.

هـ- الندوات والدروس المسجدية وخطب الجمعة ، وكذلك جولات على المقاهي وأماكن التجمعات لشرح أبعاد القضية وواجب كل مصري تجاهها.

3- الحملات الشعبية الميدانية، ومن أمثلة ذلك:

أ- حمل تحريق مصادر الثقافة الإنجليزية (المجلات والمنشورات).

ب- حملة مقاطعة كل ما هو مكتوب باللغة الإنجليزية.

ج- حملة تحطيم اللافتات المكتوبة باللغة الإنجليزية في المؤسسات والمحلات (وذلك بأسلوب الإقناع وإثارة الروح الوطنية وليس بأسلوب التخريب أو الفوضى)؛ وذلك ضمن المقاومة الفكرية والثقافية لمظاهر الاحتلال.

د- حملة توزيع شارة الجلاء، وهي على شكل قلب ذات لون أحمر، وفي وسطها كلمة الجلاء، وقد تم توزيعها في جميع أنحاء البلاد فخرجت الأمة في يوم واحد تعلق هذه الشارة على صدرها.

4- حملات المقاطعة الاقتصادية: لكل المنتجات الإنجليزية، وكانت توجيهات الإمام الشهيد لأفراد الإخوان ولجموع الأمة: "لا تأكل ولا تلبس إلا من صنع وطنك"، وقامت بطبع قائمة بالمنتجات الإنجليزية، وكذلك مقاطعة المتعاونين مع الاحتلال.

5- الإضرابات المدنية، حيث قادها الإخوان ودعوا إليها جميع أفراد الشعب، وكان تفاعل الشعب معها، واستجابته لها أقوى من أي استجابة للقوى الأخرى، ومن هذه الإضرابات:-

أ- إضراب يوم الجلاء 21/2/1946 .

ب- الإضراب العام 10/5/1946 .

ج- الإضراب العام 8/6/1946 .

د- الإضراب العام 21/2/1947 . (وذلك كيوم وطني للجلاء).

هـ- الإضراب العام 26/8/1947 . (استنكارًا لمعاهدة 1936).

6- المظاهرات الحاشدة، للمطالبة بالجلاء التام: حيث نظًّم الإخوان وقادوا عدةَ مظاهرات كبيرة منها:

أ- مظاهرة 9/2/1946 م تحت قيادة طلبة الإخوان ، وعلى رأسهم مصطفى مؤمن ، وتوجهت إلى قصر عابدين.

ب- سلسلة مظاهرات متتالية، من ضمنها مظاهرة كوبري عباس 1946 م؛ حيث فتح البوليس الكوبري على الطلاب، وأطلق عليهم الرصاص.

ج- مظاهرات أكتوبر 1946 م بالقاهرة والأقاليم.

د- مظاهرات أغسطس 1947 م من الجامع الأزهر بقيادة الإمام البنا، وكان هذا متزامنًا مع عرض قضية مصر على مجلس الأمن في 5/8/1947 م.

وقد طلب الإمام يومها من جميع فئات الشعب أن يتوجهوا إلى المساجد في صلاة الظهر في ذلك اليوم للدعاء والمناصرة، وقد سبق هذا عشرات الفعاليات الجماهيرية الصغيرة والمتوسطة الحجم قبل هذا بسنوات.

7- الضغط على الحكومة ومطالبتها بإعلان بطلان معاهدة 36: وكانت الإضرابات والمظاهرات الحاشدة والبيانات وتعاون كل القوى السياسية في ذلك من الوسائل الأساسية للضغط على الحكومة.. وكانت المطالب التي احتشدت الأمة وراءها هي قطع المفاوضات- بطلان معاهدة 36- سحب القوات البريطانية من مصر ووادي النيل بلا قيد ولا شرط- وحدة وادي النيل.. واستمر الإخوان يقودون فعاليات ضاغطة في ذلك الأمر حتى تم إلغاء المعاهدة في حكومة الوفد في 10/10/1951 م.

الضغط الإعلامي الخارجي: ومن أمثلة ذلك:

أ- إرسال أحد زعماء الإخوان (مصطفى مؤمن ) إلى أمريكا أثناء عرض قضية مصر على مجلس الأمن في 5/8/ 1947 م، ليرد على افتراءات الإنجليز، ويطالب بالجلاء التام عن مصر، ويعقد المؤتمرات الصحفية من أجل ذلك، ويسد الضعف والتراجع الذي كان عليه الوفد المصري هناك.

ب- مخاطبة الشعب الإنجليزي بنداء وجهه الإمام بعد الحرب العالمية لشعب إنجلترا، يطلب منهم الجلاء عن مصر طواعيةً، وإن إخلاف وعدها بالجلاء سيكلفها الكثير.

ج- استخدام الإمام الشهيد الضغط النفسي على الإنجليز، بتوجيه رسائل مفتوحة للشعب الإنجليزي وبرلمانه، كما أشار إلى أن سلطانهم سيزول على يد القوة الأمريكية الصاعدة بعد الحرب العالمية، وأن الأفضل لها أن تنسحب .....(والدي الشهيد أ. سيف الإسلام صـ33).

وأعلن أكثر من مرة أن جرائمها لن ننساها، وسيأتي اليوم الذي نحاسبها عليها، وأن ما نهبته من اقتصاد مصر ، ومن أموالها دين عليها يجب أن توفيه.

8- زرع عناصر لهم داخل القواعد الإنجليزية والرصد وتجميع المعلومات عن قوات الاحتلال والشريحة المتعاونة معهم... وقد بلغ الإخوان شوطًا كبيرًا في ذلك رغم الإمكانيات القليلة وظهرت كفاءة ذلك في عمليات المقاومة.

9- إنشاء الجهاز الخاص 1940 م، الذي يُعد كنواةٍ للمقاومة الفعلية، وكان برنامج التربية والتكوين الشديد لأعضاء هذا الجهاز يؤهلهم لمستوى عالٍ من العقيدة ومن الانضباط والاستعداد للتضحية، وكان لبطولاته على أرض فلسطين ثم على ضفاف القناة ما أذهل الأعداء وأثار رعبهم.

10- تأمين منظومة السلاح وإعداد المجاهدين بها، عند مرحلة العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال.. وقد استفاد الإخوان من مخلفات معارك الحرب العالمية الثانية ، واعتمد الإخوان على جيوبهم ومواردهم في شراء المناسب من الأسلحة، وكذلك في ترتيب عمليات جريئة للحصول عليه من داخل المعسكرات الإنجليزية ومخازنها.

11- ترتيب آليات التدريب وتوظيف عناصر الجيش والشرطة التي انضمت للإخوان.

12- القيام بعمليات نوعية صغيرة بدءًا من عام 1940 ، وذلك لعمل إزعاج للمحتلين، وتدريب المجاهدين، ولكن لم يعلن الإخوان عن نسبة هذه العمليات لهم تأمينًا للإعداد، ومن أمثلة هذه العمليات:

أ- إلقاء قنابل على النادي البريطاني في أيام عيد الميلاد سنة 1942 م، وسنة 1947 م، واتهم فيها الطالبان نفيس حمدي وحسين عبد السميع، وهما من شباب الإخوان ومن أعضاء النظام الخاص.

ب- الجناية العسكرية رقم 88 لسنة 42 قسم الجمرك التي اتهم فيها جمال فكيه ومحمد عبد السلام فهمي بأنهما يعدان جيشًا لمحاربة الإنجليز.

ج- حادث القطار الذي كان يحمل جنودًا إنجليز في الشرابية، فألقيت عليه القنابل من الرصيف إلى داخل القطار أثناء تهدئته ورصدت الحكومة خمسة آلاف جنيه لمَن يتقدم لها بدليل لضبط الفاعل. لا ندعي أن كل الحوادث والعمليات كانت من عمل الإخوان ، فقد كان هناك أيضًا بعض الأفراد والمجموعات الصغيرة المتحمسة من أفراد الشعب، ولكن الفرق كان جوهريًّا، فكان هناك حرص من الإخوان على ألا يُصاب أحدٌ من المصريين، وأنها كانت ضمن إستراتيجية مستمرة ومتصاعدة.

13- مقاومة الجانب الاقتصادي للاحتلال الأجنبي: كان من وسائل المقاومة التي دعا إليها الإمام الشهيد، وانتهج بشأنها نهجًا عمليًّا، مقاومة التبعية والارتباط الاقتصادي بالاحتلال الإنجليزي، واتخذ ذلك مسارات مختلفة بجانب المقاطعة لمنتجاته:

أ- نادى الإمام باستقلال نقد الوطن، وألا يرتبط بأي عملة أخرى: "إن الإسلام يوجب استقلال نقدنا واعتماده على رصيد ثابت من مواردنا ومن ذهبنا لا على أذونات الخزانة البريطانية، ودار الضرب البريطانية، والبنك البريطاني، ومن أفظع التغرير بهذا الشعب أن يسلم جهوده ومنتجاته نظير أوراق لا قيمة لها إلا بالضمان الإنجليزي".

ب- واهتم كثيرًا بقضية تمصير الشركات وإحلال رءوس الأموال الوطنية محل رءوس الأموال الأجنبية، كلما أمكن ذلك وتخليص المرافق العامة- وهي أهم شيء للأمة- من يد غير أبنائها، فلا يصلح بحال أن تكون: الأرض والبناء، والنقل، والماء، والنور، والمواصلات الداخلية، والنقل الخارجي حتى الملح والصودا في يد شركات أجنبية تبلغ رءوس أموالها وأرباحها الملايين من الجنيهات لا يصيب الجمهور الوطني ولا العامل الوطني إلا البؤس والشقاء والحرمان" ...(رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي).

ج- وكذلك التصدي لاستغلال الشركات الأجنبية لثروات البلاد، واستغلالها للعامل المصري، والضغط لإحلال العمالة المصرية محل الأجنبية....(مجلة التعارف يونيو 1940 - وكتاب دور الإخوان المسلمين في المجتمع المصري. ج6 ص،78).

د- كما حذَّر الإمام من السيطرة الإنجليزية على الاقتصاد المصري، وكذلك من الشركات اليهودية، وكيف أن 320 شركةً أجنبيةً تسيطر سيطرة كاملة على اقتصاد الوطن.

(مجلة النذير أغسطس 1939 ، وكتاب الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ ج1 277- 278).

هـ- تقديم حلول عملية في هذا الميدان بتكوين الشركات الوطنية وتشجيع الملكيات الصغيرة، وقام بتأسيس عددٍ من الشركات الوطنية.. مثل شركة التعدين، شركة لصناعة الزجاج- شركة الصحافة- شركة الطباعة- شركة المعاملات الإسلامية.. إلخ.

و- كما طالب بسرعة استغلال منابع الثروة الطبيعية والعناية بالمشروعات الوطنية وتشجيع الصناعات المنزلية.. إلخ.....(رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي)

14- معارك القناة وتنظيمها: مع استمرار تصاعد وتيرة العمليات الفردية والصغيرة ضد قوات الاحتلال، ومع التحرك السياسي والزخم الجماهيري وتعبئة الأمة، انتقل الإخوان إلى المرحلة الأخيرة في المواجهة العسكرية مع قوات الاحتلال، ونشير باختصار إلى ملامح هذه المواجهة وبعض الأحداث المهمة فيها:

1- لقد دخل الإخوان معارك القناة بكتائب النظام الخاص، ومن جميع شُعب الإخوان على امتداد خط القناة ومحافظة الشرقية، بخلاف أعداد المتطوعين الإخوان من أنحاء القطر، وكذلك أعدوا كتيبة من طلاب الجامعة من خلال معسكرات التطوع.

2- كان الإخوان بمنطقة الإسماعيلية من أسبق الشُّعب في العمليات العسكرية ضد الإنجليز حتى قبل إلغاء المعاهدة؛ حيث كانت تقوم بـ: خطف لقادة الإنجليز- نسف لطرق قوافلهم- مهاجمة معسكراتهم- وكانوا هناك تحت قيادة الشهيد الشيخ محمد فرغلي والشهيد يوسف طلعت حتى إن الإنجليز أعلنوا عن مكافأة سخية لمَن يرشد عن أيهما.

3- وكذلك في السويس نجح الإخوان في ضرب مخازن الذخيرة وصهاريج البترول.

4- وكانت هناك مجموعة "كامل الشريف " و"محمد سليم "؛ حيث كانت تعمل في المنطقة من الإسماعيلية حتى بورسعيد.

5- ومجموعة منطقة القنطرة، اشتهر منهم "د. عصام الشربيني" و"فتحي البوز" و"فوزي فارس".

6- وكذلك مجموعة بورسعيد بقيادة "علي صديق"، وكانت تضم عددًا من طلبة الإخوان والنظام الخاص، منهم الإخوة: "يوسف علي يوسف" و"فتحي العجمي" و"إسماعيل عارف".

7- وكتيبة جامعة القاهرة (كان اسمها وقتها جامعة فؤاد)، وهي من طلبة الإخوان المسلمين بالجامعة، وقد انضمًّ إليها بعض الأفراد الوطنيين من غير الإخوان ، وكانت بقيادة "حسن دوح "، وتركزت عملياتها في منطقة القرين والتل الكبير.

8- افتتح الإخوان أيضًا معسكرات للتدريب في جامعات مصر تحت قيادتهم:

أ- معسكر جامعة الأزهر ، يشرف عليه الأخ د. أحمد العسال

ب- معسكر جامعة عين شمس، يشرف عليه الأستاذ "مهدي عاكف " والأخ د. "سعيد النجار "، و"وائل شاهين ".

ج- تولى كامل الشريف قيادة نصف خط المواجهة (من الإسماعيلية حتى بورسعيد) لمدة 6 شهور، ثم توحيد قيادة الجبهة كلها لمنطقة القناة إلى الأخ محمود عبده؛ وذلك بعد معركة التل الكبير المشهورة.

9- من نماذج العمليات المؤثرة التي قاموا بها:

أ- نسف كوبري أبو حليفة.

ب- نسف القطار الحربي الإنجليزي بالقرب من الإسماعيلية .

ج- نسف معسكر أبو سلطان ومخازن الذخيرة به، وقد استمرَّ الحريق عدة أيام.. وقد قام بهذه العملية الجريئة الشهيد يوسف طلعت .

د- ضرب المصفحات الإنجليزية والدوريات الراكبة.

هـ- نسف القطار الحربي بمنطقة الكاب.

و- نسف الخطوط الحديدية وإعاقة حركة المواصلات التي يستخدمها الإنجليز.

ز- معركة التل الكبير؛ حيث نسف الإخوان الخط الحديدي، وقتلوا نجدة سلاح المهندسين الإنجليز بالكامل، ثم اشتبكوا في نطاق واسع مع القوات الإنجليزية هناك عند ترعة الإسماعيلية ، وكسروا الحصار الذي حاول الإنجليز فرضه، واستشهد فيها من الإخوان "عمر شاهين"، و"أحمد المنيسي"، في 11 يناير 1952 م. وأحدثت هذه المعركة دويًّا سياسيًّا وشعبيًّا كبيرًا.

ح- كان للشيخ محمد فرغلي دور معروف في فك حصار القوات الإنجليزية على مبنى محافظة الإسماعيلية في 25 يناير 1952 م، وأرغمهم على الانسحاب في نهاية الاشتباكات التي استشهد فيها عدد كبير من جنود الشرطة المصرية.

10- كانت هناك عشرات بل ومئات العمليات، وكانت جميع شعب الإخوان على امتداد منطقة القناة في حالة استنفار وعمليات قتالية مستمرة، وساعد الإخوان فيها أيضًا الإخوان الضباط الذين كانوا بالجيش المصري وقتها مثل اليوزباشي عبد المنعم عبد الرءوف ، واليوزباشي عبد الفتاح غنيم ، وعدد من الضباط الأحرار الذين كانوا أعضاء قبل ذلك في الإخوان ، وكذلك المرحوم اللواء صلاح شادي (من ضباط الشرطة).. وأحال الإخوان حياة الإنجليز بالقناة إلى جحيم لا يطاق.

11- لقد سار الإمام حسن الهضيبي على نفس السياسة وعلى نفس المراحل التي رسمها الإمام البنا، وكان في عزمته في كفاح الإنجليز أقوى عزيمة وأشدّ صلابة من كل من حوله من الشباب الذين كلفهم ووجههم لقيادة وخوض معارك القناة.

ومضى ركب المجاهدين والشهداء إلى غايته، وأبى المرشد أن ينسب فخار هذا الجهد للإخوان المسلمين وحدهم، وإنما أعلن للناس كافة وللإنجليز خاصةً، أن الأمة كلها قامت لتجاهد الاحتلال حتى لقد رفض أن يكون تشييع جنازة الشهيد عمر شاهين وأحمد المنيسي من المركز العام للإخوان المسلمين ، وإنما أصرَّ أن تخرج من ساحة جامعة فؤاد (جامعة القاهرة حاليًّا) في الجيزة لتكون رمزًا لجهاد الشعب كله وليس للإخوان المسلمين خاصة.

وكل ذلك كان بفضل الله نتيجة هذا الجهد؛ وذلك الإعداد طوال تلك السنين..

والله أكبر ولله الحمد،،


الإخوان المسلمون ونصرة قضايا العالم العربي والإسلامي

اهتم الأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين مبكرًا بأحوال وقضايا العالم الإسلامي، ومن أمثلة ذلك الواضحة:-

أنه بمجرد تأسيس جماعة الإخوان في عام 1928 أرسل إلى مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني رسالةً خاصةً يبشِّره فيها، ويعلن فيها تأييدَه ومناصرتَه للقضيةِ الفلسطينية.

ومن نماذج الاهتمام والمشاركة المبكرة في قضايا البلاد العربية والإسلامية:

- حين وقع الخلاف بين ملك السعودية وإمام اليمن عام 1934 م: أرسل الأستاذ البنا فضيلة الشيخ طنطاوي جوهري إلى الحجاز في موسم الحج، وهناك قابل الملك عبد العزيز، وخطب في حضوره خطبةً قويةً، داعيًا لنبذ الخلافِ وحل المشكلة سلميًّا والحفاظ على الأخوة والوحدة الإسلامية، وقد تأثَّر الملك عبد العزيز بها وأثنى على صاحبها....( جريدة الإخوان الأسبوعية- سنة 2- عدد 9).

الإخوان ومساعدة فقراء المدينة المنورة (1935 )

وقام الإخوان بتأليف لجانٍ لجمع التبرعات من المساجد والمصالح الحكومية لأهل المدينة المنورة بمجرد معرفة الإخوان بحاجتهم إلى المال....(جريدة الإخوان - س 2- عدد 43- 1 محرم 1354- 4-4-1935 )

جوانب من دور الإخوان في دعم ومناصرة العالم الإسلامي:

تأسس قسم الاتصال بالعالم الإسلامي عام 1944 ، فأصبح للإخوان المسلمين عملٌ منظمٌ ودورٌ كبيرٌ في دعم قضايا العالم العربي والإسلامي، واتخذ هذا الدعم صورًا متعددة:

1- استضافة قادة حركات الجهاد في العالم الإسلامي بالمركز العام للإخوان المسلمين :

"ولم يكن يمر أسبوعٌ حتى تظهر في المركز العام شخصيةٌ مرموقةٌ أو أكثر من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكان القسم يهتم بوفادتهم والترفيه عنهم والإنفاق عليهم"....(محمود عبد الحليم - أحداث صنعت التاريخ – 1/ ).

وكان منهم: الحبيب بورقيبة والشاذلي المكي من تونس ، وأحمد سوكارنو وآجوس سالم من إندونيسيا ، وإسماعيل الأزهري وأحمد خير من السودان، وعبد الكريم الخطابي وعلال الفاسي من المغرب ، والفضيل الورتلاني من الجزائر ، و[[أمين الحسيني ]] وصبري عابدين من فلسطين.

2- رعاية طلاب العالم الإسلامي وتبني قضايا بلادهم:

كان قسم الاتصال بالعالم الإسلامي ملجأ الطلبة المسلمين الوافدين المنتسبين إلى الأزهر وغيره، وقد حدث أن منعت (سفارة إندونيسيا تحت الاحتلال الهولندي) الإعاناتِ التي يرسلها أهالي طلاب البعوث إليهم، واشترطت لصرفها أن يقوم هؤلاء الطلاب باستنكارِ الأعمال الوطنيةِ التي يقوم بها أهلوهم في بلادهم، فامتنعوا ولجئوا إلى قسم الاتصال، الذي شجَّعهم على موقفهم، وقرَّر صرف الإعاناتِ اللازمةِ لهم حتى تزول تلك الحالة الشاذة".....(الإخوان والمجتمع المصري- محمد شوقي زكي- ص 155).

3- تقديم المذكرات والاحتجاجات وإرسال البرقيات مناصرة لقضايا المسلمين

في وثائقَ رسميةٍ فرنسية نُشِرت رسالتان من السفارة الفرنسية بالقاهرة يقال فيهما لقد أرهقنا الإخوان المسلمون من كثرة ما أرسلوا إلينا من العرائض التي تندِّد ببقائنا في الجزائر وسائر دول شمال إفريقيا، وتطالب بجلائنا عنها والعديد من العرائض والاحتجاجات المتعلقة بفلسطين"....(الحركة الإسلامية وقضية فلسطين- زياد أبو غنيمة- ص 150).

4- المظاهرات والمسيرات تأييدًا ودعمًا لقضايا العالم الإسلامي:

نظَّم الإخوان المسلمون الكثيرَ من المسيراتِ والمظاهراتِ في سبيلِ نصرةِ قضايا البلادِ العربيةِ والإسلامية (فلسطين- سوريا ولبنان- المغرب العربي- ليبيا- باكستان وإندونيسيا ).

5- إقامة المؤتمرات لدعم قضايا العالم الإسلامي:

أقام الإخوان عدة مؤتمراتٍ لنصرةِ قضيةِ فلسطين، كان من أهمها مؤتمرُ الأزهر الشريف في 14-12-1947 . كما أقام الإخوان مؤتمرًا في المركز العام عام 1954 لنصرة قضية مراكش....(مجلة الدعوة- عدد 133، جريدة الإخوان - 15-7-54).

6- صحافة الإخوان وقضايا العالم الإسلامي:

حين صدر العدد الأول من جريدة الإخوان الأسبوعية عام 1933 كان بها بابٌ ثابتٌ ومنتظمٌ بعنوان "العالم الإسلامي"، واستمرَّ اهتمام صحف الجماعة بأخبار العالم الإسلامي وقضاياه المختلفة.

وخصَّصت صحافة الإخوان أعدادًا كاملةً منها لنصرةِ قضايا المسلمين:

- عدد خاص من مجلة النذير عن فلسطين، وعدد خاص عن قضية المغرب (1938).

- عدد خاص من مجلة الإخوان عن فلسطين (1945)، وعددان عن المغرب عام 1944 .


الإخوان المسلمون وقيام الجامعة العربية

اجتهد الإخوان المسلمون - رغم علمهم بملابسات إنشاء الجامعة العربية - في الاستفادة من إنشاء الجامعة ومحاولة توجيهها الوجهة التي تخدم العرب والمسلمين.

وحين دُعِي رؤساء وزارات الدول العربية المستقلة إلى الأسكندرية لوضع ميثاق للجامعة قام الإخوان بالخطوات التالية:

- استقبال شعب الإخوان للوفود العربية القادمة استقبالاً شعبيًّا وجماهيريًّا حافلاً.

- إرسال برقيات التأييد والتشجيع للوفود المشاركة في اللجنة التحضيرية لوضع ميثاق الجامعة.

- أعد الأستاذ البنا مذكرةً تفصيليةً تضع تصورًا عمليًّا مُقتَرحًا لميثاقِ الجامعةِ وأهم الخطوط التي يجب أن يتضمنها الميثاق وأهم القضايا التي يجب أن يعالجها، وقًدِّمت إلى اللجنة، وصدر ميثاقُ الجامعة الأول ويكاد يكون نسخة من مذكرة الإخوان المسلمين "....(محمود عبد الحليم - أحداث صنعت التاريخ - 1/320).

نماذج من أدوار الجماعة في دعم الجهاد والمجاهدين

- الإخوان المسلمون وإنقاذ المجاهد الكبير عبد الكريم الخطابي :

ذكر الخطابي في مجلة الدعوة أن الأستاذ البنا اتصل به وهو في المنفى، ورتَّب معه طريقةَ تهريبِه، وأعد السفنَ والإمكاناتِ اللازمةَ لتهريبِه، وكان للإخوان المسلمين دورٌ مهمٌّ في إنزاله من السفينةِ التي كانت تقله إلى فرنسا ليقضيَ بقيةَ حياتِه سجينًا هناك، ومنحه حقَّ اللجوءِ السياسي والإقامةِ بالقاهرة ".

- الإخوان المسلمون وإنقاذ مفتي فلسطين:

"كان سماحته لاجئًا سياسيًّا بعد الحرب في فرنسا، وخشي الإخوان من أن يسلمه الفرنسيون إلى الإنجليز، فاتصلوا به وعرضوا عليه فكرةَ الهروبِ إلى مصر فوافق، ودبَّر الإخوان كلَّ الترتيباتِ ومتطلباتِ الموضوع، وبالفعل نزل المفتي إلى مصر، وقَبِل الملك فاروق منحَ سماحته حقَّ اللجوء السياسي مع إنزاله ضيفًا عليه"....(صالح أبو رقيق- تعليق على الإخوان المسلمين - ريتشارد ميتشيل- ص 143).

- الإخوان المسلمون ودورهم في استقلال إندونيسيا وباكستان:

"تبنَّى الإخوان الدعوةَ إلى استقلالِ إندونيسيا وباكستان.. وكان هناك اتصالٌ دائمٌ بين قادةِ الجهاد في إندونيسيا والهند والإخوان المسلمين ، وقَدِمت منها وفودٌ استقبلها الإخوان أحسن استقبال، حتى قدم السيد محمد علي جناح زعيم المسلمين في الهند والمطالب بتكوين دولة باكستان وقد استقبله الأستاذ المرشد وأحسن وفادته، وعرَّفه بعبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية .. ولما أثمر جهاد الإندونيسيين والهنود عن إقامة دولتين مستقلتين تخاذل الغرب عن الاعتراف بهما.. تقدَّم الأستاذ البنا بمذكرةٍ للجامعةِ العربيةِ يستثر في رجالها النخوةَ العربيةَ والغيرةَ الإسلامية، طالبًا منهم الاعترافَ بالدولتين الناشئتين، ثمَّ كان لعبد الرحمن عزام الفضل في استصدار قرار باعتراف جامعة الدول العربية بالدولتين".


حسن البنا.. شهيد فلسطين

إنه شهيد هذه القضية، وقد كانت عنده- وما زالت عند جميع الإخوان في العالم- قضيةَ الإسلام الكبرى، وهي كما قال: “قلب أوطاننا، وفلذة كبد أرضنا، وخلاصة رأسمالنا، وحجر الزاوية في جامعتنا ووحدتنا، وعليها يتوقَّف عز الإسلام أو خذلانه” بهذا الفهم العميق، كأنه يخاطبنا اليوم، ويعيش معنا رحمه الله؛ فالعصابات الصهيونية - ومن ورائها أمريكا- حوَّلت قضية فلسطين مع عصابات يهود إلى معركةٍ كبرى، وقد تجسَّد الصراع بين قوى الشر والظلم من ناحية، وأهل فلسطين العزَّل من جانب أخرى.

ولم يكن الإمام غافلاً عن حجم المتاعب التي ستأتي من التصدي لهذه القضية، وكان يقول: “ريح الجنة تهب من فلسطين” ويقول: “إن الإخوان المسلمين ليعلمون أن دعوتهم عدوة للاستعمار؛ فهو لها بالمرصاد، وعدوة للحكومات الجائرة الظالمة؛ فهي لن تسكت على القائمين بها، وعدوة للمستهزئين والمترفين والأدعياء من كل قبيل؛ فهم سيناهضونها”.

ولقد اهتم الإمام وإخوانه بقضية فلسطين، فدفعوا بشبابهم لمواجهة الصهيونية ، ونازلوهم في كل مكان، وقدَّموا الشهداء الأبرار، وهم دائمًا على استعداد- لو أتيح لهم- أن يواجهوا الصهاينة في فلسطين، ما تخلَّفوا عن هذا الواجب وتلك الفريضة.

فلسطين في فكر الإمام البنا

كانت قضية فلسطين محورية عند الإمام الشهيد حسن البنا؛ لأنها في المقام الأول قضية الإسلام وأهله، فهي قلب أوطاننا وفلذة كبد أرضنا، وخلاصة رأس مالنا، وحجر الزاوية في جامعتنا ووحدتنا، وعليها يتوقف عز المسلمين أو خذلانهم؛ ولذا كان الإمام الشهيد يدرك أنها ليست قضيةً سهلةً أو بسيطةً، ذلك لأن العدو فيها ليس عصابات الإجرام والاغتصاب الصهيونية فحسب، بل هي في حقيقتها معركة كبرى سوف تجسِّد الصراع بين قوى الشر والكفر والظلم والاستعمار من ناحية، وقوى الخير والعدل والرحمة من ناحية أخرى، فهي قضية وجود يدركها كل مسلم واعٍ.

ولم يكن الكلام هو صناعة البنا إزاء الأخطار المحدقة بفلسطين كما هو شأن الكثيرين، فكان كل اهتمامه ينصبُّ على صناعة الجهاد والموت في سبيل الله؛ فالموت هو ثمن الحياة، والأمة التي لا تدفع ثمن استقلالها وكرامتها من دمائها لا حياة لها، وتلك هي اللغة الوحيدة التي أيقن الإمام الشهيد أن الإنجليز واليهود لن يفهموا لغةً غيرها، فهي لغة الإيمان والقوة والثقة في نصر الله.

كيفية تعامل الإمام البنا مع القضية الفلسطينية

بدأ اهتمام الإمام حسن البنا بقضية فلسطين بصورة شخصية مبكِّرًا ومنذ أن كان طالبًا؛ ففي مطلع العشرينيات وهو لم يزَل شابًّا صغيرًا في كلية دار العلوم نشر في مجلة (مجلة الفتح)، التي كان يصدرها الشيخ محب الدين الخطيب ، مقالاً ينبِّه فيه إلى الخطر الصهيوني على فلسطين.

وفي السنة التي تخرج فيها في كلية دار العلوم بالقاهرة ، وقبل عام من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين بعث برسالة إلى مفتي القدس الحاج أمين الحسيني يُبدي فيها رغبتَه في مساندته ودعم الجهاد ، ولم يكتفِ بالكتابة والتنبيه فحسب، بل مع استمراره على ذلك بدأ ينسِّق ويتعاون مع المجاهدين، وذكر هذا كله الحاج أمين الحسيني في رثائه للبنا بعد استشهاده، قائلاً: لقد عرفته للمرة الأولى يوم أن أرسل لي برسالة رقيقة يُبدي فيها اهتمامه بقضية فلسطين سنة 1927 م.

ولقد اهتم الإمام الشهيد بقضايا العالم الإسلامي بعد تأسيس جماعة الإخوان المسلمين ، وجعل لذلك قسمًا في الجماعة هو قسم “الاتصال بالعالم الإسلامي”، وتبنَّى بل ساعد وساند جميع حركات التحرر ضد الاستعمار في الأمة الإسلامية كلها، وكانت قضية فلسطين منذ شبابه المبكر في بؤرة تفكيره، ومن ضمن اهتماماته؛ ولذلك حين أسس جماعة الإخوان كان من الطبيعي أن يكونوا هم أول من نبَّهوا إلى خطورة القضية وأبعادها المستقبلية، فضلاً عن مشاركتهم الفعلية والعملية فيها، بل إن أول شهيد سقط على أرض فلسطين كان من الإخوان المسلمين .

وكان الإمام الشهيد يتابع كل ما يحدث في فلسطين بدقَّة؛ فعندما أعلن سماحة السيد أمين الحسيني مفتي فلسطين عن عقد المؤتمر الإسلامي الأول في بيت المقدس في الفترة من 27 رجب إلى 7 شعبان 1350هـ، الموافق 8/12 إلى 18/12/1931 م أرسل الإمام الشهيد رسالةً إليه تتضمَّن تصور الإخوان المسلمين لحل القضية ليعرضها على المؤتمر.

رسالة المرشد العام إلى مفتي فلسطين عام 1931 م

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب السماحة السيد محمد محمد أمين الحسيني - مفتي فلسطين الأكبر..

نحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، الذين جاهدوا في الله حق جهاده ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.

وبعد.. فإن العالم الإسلامي كله يقدِّر لكم حسن جهادكم وسديد رأيكم في الدعوة إلى هذا المؤتمر المبارك، وجمعية الإخوان المسلمين بالقاهرة والمحمودية وشبراخيت وبورسعيد والإسماعيلية بالديار المصرية تقدِّم لسيادتكم جزيل شكرها وجميل تقديرها، ونرجو التكرم بعرض هذا البيان على هيئة المؤتمر الموقرة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

حسن البنا

مقترحات جمعية الإخوان المسلمين

أولاً: الدفاع عن فلسطين

أمر الدفاع عن فلسطين والمقدسات الإسلامية عامة، أمرٌ يهمُّ المسلمين جميعًا، ولسنا بصدد استعراض أدوار قضية العدوان والدفاع.. لقد علمنا أن الخطب والاحتجاجات لا تُجدي ولا تسمع، وترى الجمعية أن من واجب المؤتمرين أن يعالجوا:

1- مسألة شراء الأرض بفلسطين:

إن اليهود يحاربون الفكرة الإسلامية بذهبهم، وإذا تمكَّنوا من شراء أرض فلسطين صار لهم حق الملكية، فقوي مركزهم، وزاد عددهم، وبتوالي الأيام تأخذ المسألة شكلاً آخر، وقد نظَّم اليهود هذه الحركة وجعلوا لها صندوقًا خاصًّا يجمعون فيه الاكتتابات لهذه الغاية... فحبَّذا لو وُفِّقَ المؤتمر إلى إيجاد نواة لصندوق مالي إسلامي، أو شركة لشراء أرض فلسطين المستغنى عنها، وتنظيم رأس المال وطريق جمع الاكتتابات وسهوم هذه الشركة.. إلخ.

والجمعية تكتتب مبدئيًّا في هذه الفكرة بخمسة جنيهات مصرية، ترسلها- إذا قرر المؤتمر ذلك- على أن تتوالى بعدها الاكتتابات، ولا يُضحك حضراتكم هذا التبرع الضئيل؛ فالجمعية تقدِّر الفكرة، وتعلم أنها تحتاج إلى الآلاف من الجنيهات، ولكنها جرؤت على ذلك إظهارًا لشدة الرغبة في إبراز الفكرة من حيز القول إلى حيز العمل.

2- تأليف اللجان في كل البلاد الإسلامية للدفاع عن المقدسات:

كذلك تقترح الجمعية أن يعالج المؤتمر موضوع تأسيس لجان فرعية لجمعية رئيسية مركزها القدس أو مكة، وغايتها الدفاع عن المقدسات الإسلامية في كل أنحاء الأرض، وتكون هذه اللجان الفرعية كلها مرتبطة تمام الارتباط بالمركز العام.

ثانيًا: لنشر الثقافة الإسلامية

1- إنشاء جامعة فلسطين على نحو كلية عليكرة بالهند تجمع بين العلوم العصرية والعلوم الدينية، وترفرف عليها روح الإسلام، وتصطبغ بصبغته؛ من احتوائها على الكليات العلمانية والآداب والسياسة والقانون والتجارة والاقتصاد والطب والفلسفة وغير ذلك.

2- إنشاء جامعة أخرى بمكة على هذا النحو؛ حتى ينجح مشروع جامعة القدس إن شاء الله تعالى.

3- نداء علماء المسلمين أن يؤلِّفوا لجانًا فنيةً لتهذيب الكتب الإسلامية القديمة وتصنيف كتب جديدة تفي بحالة العصر الجديد مع التفكير في مناهج التعليم بأنواعه.

4- نداء أغنياء المسلمين للاكتتاب في صحيفة عامة يومية إسلامية تصدر في القاهرة ، ويكون لها مثيلات في الحواضر الإسلامية، تحمل فكرة القادة الإسلامية إلى الشعوب؛ فإن الصحافة الشرقية تقف من الشئون الإسلامية موقفًا لا يرتاح إليه الضمير.

ومن واجب المؤتمر التفكير في أنجع الوسائل لدفع عدوانهم ودرء خطرهم.

وترى الجمعية أن من الوسائل الناجعة لذلك:

1- أن ينشر أعضاء المؤتمر فكرة تأليف اللجان التي تتولى تحذير الناس من دسائسهم والردّ عليهم بما يكفُّهم.

2- أن تشجّع الجمعيات الإسلامية التي أرصدت نفسها لهذه الغاية.

3- أن يُعنَى الوعَّاظ بدراسة هذه الناحية ويحذِّروا الناس منها.

قد رد سماحة مفتي فلسطين على الإخوان برسالة قال فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرات السادة الكرام: رئيس وأعضاء جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية المحترمين..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..

فقد تُلي بيانُكم في مكتب المؤتمر الإسلامي العام، فكان موضع التقدير والاعتبار، وستهتمّ اللجنة التنفيذية بما جاء فيه كلَّ الاهتمام، وبهذه المناسبة فإنا نشكر لكم ما تبذلون من جهود لإعلاء كلمة الإسلام، ونأمل أن يكون منكم ومن فروع جمعيتكم الموقرة في الديار المصرية أكبر مساعد على تنفيذ مقررات المؤتمر ومشروعاته الطيبة.

وفي الختام نرجو الله أن يوفقنا وإياكم لخير الإسلام والمسلمين.

رئيس المؤتمر

أمين الحسيني  


الإمام البنا وثورة 1936م

حرص الإخوان قبل قيام ثورة فلسطين عام 1936م، على التذكير بالقضية وأخبارها في مجلتهم الأسبوعية، ومن ذلك فضح مؤامرة اليهود لشراء أراضي فلسطين من المسلمين بأسعار باهظة، خاصةً وقد زهد فيها الفلسطينيون بسبب الجفاف الذي حلَّ بالبلاد عام 1933 م، ومن ذلك مقال بعنوان: “فلسطين الدامية” للأستاذ أحمد السكري كان مطلعه: “هل أتاك حديث فلسطين؟ وهل أتاك ما فعلت بها اليد الطاغية؟ وهل علمت ما قام به العربي الكريم دفاعًا عن حقه الهضيم ووطنه العظيم؟!!”.

واستمرت المقالات على مدار سنة 1933 ، 1935 م واستمرَّ تشجيع كل من يقف من أجل فلسطين، فنشرت الجريدة البيان الأول للحزب العربي الفلسطيني بقيادة جمال الحسيني ، بعنوان “بيان الحزب العربي إلى العالمين العربي والإسلامي”.

وفي 3 من أغسطس 1935 م أرسل الإمام الشهيد وفدًا يمثِّل الإخوان إلى فلسطين وبعض الدول العربية، مكوَّنًا من شقيقه عبد الرحمن البنا “الساعاتي” ومحمد أسعد الحكيم ، وبرفقة الزعيم التونسي الأستاذ الثعالبي، فزار فلسطين ومكث بها من 3 إلى 6 أغسطس 1935 م، ليعضد المجاهدين ويُشعر أهل فلسطين أنهم ليسوا وحدهم في هذه المعركة.

وفي مساء يوم السبت 25 من صفر 1355هـ الموافق 16 مايو 1936م كَوَّن الإخوان المسلمون لجنة لمساعدة فلسطين برئاسة فضيلة المرشد العام .

ولم يغفل الإخوان التضرع لله من أجل فلسطين، فقد اقترح مكتب الإرشاد القنوت في الركعة الأخيرة لفلسطين وأهلها، ومما جاء في الدعاء: “اللهم غياث المستغيثين وظهر اللاجئين ونصير المستضعفين، انصر إخواننا أهل فلسطين، اللهم فرِّج كربتهم، وأيِّد قضيتهم، واخذل أعداءهم، واشدُد الوطأة على من ناوأهم، واجعلها عليهم سنينَ كسنيَّ يوسف، وارفع مقتك وغضبك عنا يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم”.

وكان الإخوان المسلمون أول هيئة تنادي بفكرة المقاطعة للبضائع الصهيونية في مصر، وقد وجهت نداءً بذلك إلى التجار العرب الذين يتعاملون تجاريًّا مع اليهود، كما أرسل مكتب الإرشاد وفودًا على هيئة بعثات تطوف البلاد من أقصاها إلى أقصاها للتعريف بالقضية وجمع التبرعات لها، وقد كانت جريدة الإخوان تنشر أخبار هذه البعثات، وعندما ضغط الملوك العرب على الثوار عام 1936م لوقف ثورتهم، حذَّر الإخوان من ذلك، وأنه ملعوب وخداع من الإنجليز، وأن التقرير الذي رفعوه ليس في صالح فلسطين، ومما جاء فيه:

حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس الوزراء..

العالم العربي ينتظر من حكومة مصر عملاً جديًّا لحل قضية فلسطين، وإيقاف الظلم والعدوان الواقع على أهل فلسطين المجاهدين، والمركز العام للإخوان المسلمين بمناسبة ذكرى وعد بلفور الجائر يرجو أن يكون الوقت قد آن فاعملوا والله معكم.

المرشد العام - حسن البنا

كما نشط الإمام البنا وإخوانه في مساندة التحركات السياسية الإيجابية لنصرة فلسطين، والتفاعل مع التطورات السياسية للقضية، وقام بحملات للدعاية لقضية فلسطين: مثل حملة توزيع كتاب: “النار والدمار في فلسطين الشهيدة”، يوليو 1938، والتي اعتُقل فيها الإمام البنا وكثير من إخوانه، كما أصدر الإخوان عددًا خاصًّا من المجلة بمناسبة أسبوع فلسطين في سبتمبر 1938... كما عمدت الجماعة إلى التنسيق مع الهيئات الإسلامية لدعم قضية فلسطين، وذلك من خلال اللجنة العليا لقرش فلسطين- فبراير 1939 م.

كذلك كانت المظاهرات والمسيرات إحدى صور النشاط السياسي التي قام بها الإخوان دعمًا لقضية فلسطين المسلمة؛ مثل مظاهرات الإخوان في 14/6/1938م، ومظاهرات الإخوان في جميع أنحاء البلاد الجمعة 29/7/1938م، كما عقدوا المؤتمرات، وكان المؤتمر العربي الأول لأجل فلسطين أول مؤتمر عربي يُعقد من أجل فلسطين، وقد عُقد في دار المركز العام بالعتبة، كما أرسل المركز العام وشُعب الإخوان برقيات احتجاج على الكتاب الأبيض، كما أرسل الإخوان برقية احتجاج على تصريحات وزير بريطاني عن مفتي فلسطين يونيو 1939 م، كما شنَّ الإخوان حملات صحفية شديدة على اليهود عبر صحفهم.

وفي عام 1946 م وتحت قيادة الإمام البنا التي تندِّد بالمخطط الصهيوني في فلسطين، وسفره خلف الجنود الذين أرسلهم للاطمئنان على سير الأمر في غزة، كما جهَّز الإمام البنا كثيرًا من الإخوان وسفَّرهم كجنود للدفاع عن فلسطين؛ حيث خرجت كتيبتان الأولى إلى قطنة والثانية في معسكر البريج عام 1947 م، ولقد كان دور الإخوان في حرب فلسطين لا ينكره أحد، وانتهت الحرب بالخيانة العظمى من الحكام العرب، وبيع فلسطين لليهود على دائرة المفاوضات، وانتهى الأمر باغتيال الإمام البنا في 12 فبراير 1949 م.


القسم الثالث: دروس وعبر من حياة الإمام حسن البنا

لقد جاء الإمام البنا إلى الدنيا على قدرٍ مقدور؛ فإن العصر الذي ولد فيه كان عصرًا مليئًا بالتيارات الهدَّامة والإلحاد، والتحديات المعادية، وكان العالم الإسلامي يتعرَّض لأبشع أنواع المخطَّطات الاستعمارية؛ نتيجةً لسيطرة الاستعمار الغربي الصليبي، وغارته الفكرية والحضارية على كثيرٍ من البلدان الإسلامية، وظهر جليًّا الضياع في العالم الإسلامي بعد أن كان المسلمون يقودون العالم فكريًّا وحضاريًّا لعدة قرون.

ويصوِّر الإمام البنا مدى التأثير الذي وقع على المسلمين بقوله: نجح هذا الغزو الاجتماعي المنظَّم العنيف أعظم النجاح؛ فهو غزو محبَّب إلى النفوس، لاصق بالقلوب، طويل العمر، قوي الأثر؛ ولذلك فهو أخطر من الغزو السياسي العسكري بأضعاف الأضعاف (رسالة بين الأمس واليوم).

لقد كان المسلمون كالشاة في الليلة المطيرة؛ قُلبت المفاهيم، واستشرى الانحلال، وفشا الإلحاد، وأمجاد الإسلام العظيم شُوِّهت، وعُزلت الشريعة عن حياة المجتمع، ولم يبقَ لهذه الأمة ملجأٌ ولا نصيرٌ وإلا رحمة الله تعالى، ثم نجدة العقيدة، وقوة الإيمان.

وجاء دور القائد الذي رفع الراية من جديد، وكان الإمام البنا- رحمه الله- الذي تحرَّك بالإسلام العظيم زادًا للقلوب، وعملاً صالحًا في الواقع، وحركةً رشيدةً في مواجهة الطوفان المندفع، وكانت جماعة الإخوان المسلمين كضرورة بعث وإحياء وإنقاذ، وكان قيامها رحمةً من الله عز وجل، ومن تمام فضله عليها وعلى هذه الأمة، بل على العالم كله، قيام جماعة عالمية كالإخوان ؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتربِّي شباب الأمة على الإسلام وتجمع المسلمين حول رايته، وتردُّ كيد الأعداء فريضةً دينيةً، وحتميةً تاريخيةً، وحاجةً بشريةً لصيانة الأمة وإعدادها للجهاد في سبيل الله؛ جماعة الإخوان التي تؤمن بوسطية الإسلام والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

المشروع الحضاري

إن المشروع الحضاري الإسلامي الشامل الذي وضعه الإمام البنا هو الطريق الوحيد لإنقاذ الأمة اليوم مما نزل بها؛ فالإسلام وحده هو الذي يصون هويتها، ويحفظ شخصيتها، ويعمل على استقلالها السياسي والاقتصادي.

وهو المشروع الإسلامي المعتدل الذي يقوم على التوازن بين المادة الروح، قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا﴾ (القصص: من الآية 77)، كما يوازن بين حيازة أسباب السيادة في الدنيا والعمل بأوامر الدين.

إن نظرات الإمام الشهيد يتضح عمقُها وأصالتها في أنه عمل طوال عمره على قيام وبناء هذا المشروع؛ باعتباره سبيلاً لا بديل عنه لنهضة الأمة وإنقاذها، فقد اتجه إلى بناء الأمة بناءً حقيقيًّا كما شيَّدها وأقامها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ لقد أعاد الفقه السياسي الإسلامي بعد أن وُضع تحت التراب، وقالوا: “لا سياسةَ في الدين”، وأعاد الاقتصاد الإسلامي البعيد عن لوثة الربا، فأنشأ الشركات والمؤسسات الإسلامية التي نجحت أيَّما نجاح، وكان تلاميذ الاستعمار وضحايا الغزو الفكري- وما زالوا- يقولون: ما للدين والسياسة؟! ما للدين والاقتصاد؟! ما للدين والحياة؟!

فردَّ عليهم عمليًّا، وفنَّد أقوالهم، وكشف عن جهلهم.

إن المشروع الإسلامي في منهج الإمام مشروع شامل كامل، وهو الوحيد الذي ينقذ الأمة من القعود والجمود والتقليد والتخلف.

لقد تعلَّمت منه الأجيال استحالةَ الفصل بين العقيدة الراسخة في قلب المؤمن، العقيدة التي تعبَّدَنا اللهُ بها، والشريعة التي تحكم حياتنا، وتنظِّم تصرفاتها في الحياة، كما تعلَّمت منه الأجيال أنه كان يضع عقيدته دائمًا أمامه؛ يستلهمها وينزل على حكمها، وبعد ذلك يأخذ في التفكير وإعمال عقله، مع الطاعة الكاملة لشرع الله، والالتزام بأوامره؛ عقيدته أولاً، ثم عقله ثانيًا، فالحَسَنُ عنده ما حسَّنه الشرع، والقبيح ما قبَّحه الشرع.

شمولية الإسلام

وقد حرص أن تكون دروسه وتوجيهاته ومحاضراته مزيجًا دقيقًا متناسقًا بين العبادة والسياسة، والاقتصاد والتربية والجهاد ، يقول عنه الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين- يرحمه الله-: “لقد اشتعل رأسي شيبًا، وتحت كل شعرة خبرة وتجارب سنين عديدة، ولكني حين التقيت حسن البنا علمت أنني انتهيت من حيث بدأ هو”.

وما أحوجَ المسلمين اليوم وغدًا- وقد أحيط بهم- أن يراجعوا مواقفهم من الإسلام، وأن يقبلوا عليه كما عرضه الإمام البنا!!؛ لقد استطاع أن يكشف عن الداء الأصيل في الأمة، وهو قضية الفهم للإسلام بنظامه وشموله وضعف الإيمان والصلة بالله، فأنشأ محاضن التربية، واهتم بالناحية الإيمانية، وأعاد سيرة دار الأرقم من جديد، يقول- رحمه الله-: “هذه المحاضن التربوية تقوم على كتاب الله والمنهج النبوي في إعداد الأفراد..” فكانت اللبنة الأولى هي الأسرة، وحدَّد أركانها: التعارف، والتفاهم، والتكافل، يقول: “فإذا أدَّيتم هذه الواجبات الفردية والاجتماعية والمالية، فإن أركان هذا النظام ستتحقق ولا شك”، ويقول رافعًا راية التربية ومقدِّمها على ما سواها: “سنربِّي أنفسنا ليكون منا الرجل المسلم، وسنربي بيوتنا ليكون منا البيت المسلم، وسنربي شعبنا ليكون منا الشعب المسلم”، أما العُدَّة في هذا الأمر “فقد أعددنا لذلك إيمانًا لا يتزعزع، وعملاً لا يتوقف، وأرواحًا خير أيامها يوم أن تلقى الله شهيدةً في سبيله”.

لقد استشهد الإمام البنا والدنيا كلها- بمن عليها- أهون شيء عنده؛ إمامٌ قد أضنته العبادة الخاشعة وقيام الليل الطويل والأسفار المتلاحقة في سبيل الله، لقد عرفتْه المنابر في جميع مدن مصر وقراها وهو يسوق الأمة بصوته الرحيم إلى لله، ويجمعها في ساحة الإسلام، ويؤلِّف بين القلوب.

لقد واجه المادية والإلحاد والاستعمار بكل ألوانها، وحوله الأبناء من شباب الصحوة واليقظة الإسلامية الذين ملأ قلوبَهم حبُّ الإسلام والاستمساك به؛ ولذلك خرج من الدنيا تشيِّعه الملائكة، خرج محمولاً على أكتاف بناته؛ لم يستطع أحدٌ من شدة الإرهاب أن يبكيَ عليه، ولم يترك تراثًا ماديًّا وهو في الثانية والأربعين من عمره، رحمه الله وأرضاه.


الإصلاح والتغيير في فكر الإمام البنا

أحدث الإمام البنا رحمه الله تغييرًا فكريًّا في المجتمع الذي يعيش فيه؛ حيث تأمَّل حالَ المسلمين في زمانه بوجه عام، وحالَ قومه ووطنه بوجه خاص، فوجد أن هناك تعددًا في المفاهيم حتى كاد الناس يحسبونها من الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا التبديل ولا إعمال العقل، حتى صارت كالعقائد عندهم، وإن كانت باطلة أصلاً، ومنها: أن التمسك بالدين نوعٌ من التعصب، بل وزاد البعض بأنه تجاهلٌ لغير المسلمين، وأن هذا الدين ناسب عصره وليس عامًّا للناس كافة، وأن التديُّن من الأعمال الشخصية الفردية؛ أي لا صلةَ له بالحياة بنواحيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من نواحي الحياة.

مشروع الإمام البنا

الواقع أن الإمام البنا كان لديه مشروعٌ واضحٌ في ذهنه، راسخٌ في وجدانه، مستقرٌّ في أعماقه، اتضحت له أهدافه ووسائله ومناهجه، واتضحت له عقباته ومعوقاته، وجنَّد لتحقيقه عقله وقلبه، ولسانه وقلمه، ووقته وجهده، ونفسه وجماعته، فكان يعرف ماذا يريد؟ وكيف يصل إلى ما يريد؟ وبمن يصل إلى ما يريد؟ من هذا المنطلق حدَّد الإمام البنا عناصر الإصلاح؛ فبدأ بالفرد الذي هو النواة الأولى والأساسية في بناء الأسرة التي هي نواة المجتمع الصالح؛ فقال رحمه الله في رسالة (إلى الشباب): “إن منهاج الإخوان المسلمين محدود المراحل، واضح الخطوات، فنحن نعلم تمامًا ماذا نريد ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة:

نريد أولاً الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته وفي عمله وتصرفه، فهذا هو تكويننا الفردي.

ونريد بعد ذلك البيت المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته وفي عمله وتصرفه، ونحن لهذا نُعنَى بالمرأة عنايتنا بالرجل، ونُعنَى بالطفولة عنايتنا بالشباب، وهذا هو تكويننا الأسري.

ونريد بعد ذلك الشعب المسلم في ذلك كله أيضًا، ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت، وأن يُسمَع صوتُنا في كل مكان، وأن تتيسَّر فكرتنا وتتغلغل في القرى والنجوع والمدن والمراكز والحواضر والأمصار، لا نألوا في ذلك جهدًا ولا نترك وسيلةً”.

وحدَّد الإمام البنا في رسالة (التعاليم) صفات الفرد المسلم؛ الذي يريده بأن يكون قوي الجسم، متين الخلق، مثقف الفكر، قادرًا على الكسب، سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدًا لنفسه، حريصًا على وقته، منظمًا في شئونه، نافعًا لغيره.

الإصلاح في فكر الإمام البنا

اعتمد المشروع الإصلاحي للإمام “البنا” على الكثير من الأمور أهمها، وعلى رأسها مبدأ حاكمية الدين، والشريعة الإسلامية في كافة مناحي الحياة باعتبار أن الإسلام دين، ودولة، وأن ثوابت المشروع النهضوي السياسي، والاجتماعي، والدعوي للإخوان إنما هي أوليات الشريعة الإسلامية، ومبادئها، ومقاصدها.

وبناءً على ذلك رسم الإخوان عبر مسيرتهم التي حملت ظل الإمام البنا في كافة مراحلها حتى بعد استشهاده مواقفهم من كافة القضايا التي تعرض عليهم أو يتصدوا لها سواء في مصر أو في العالم العربي، والإسلامي بناءً على المرجعية الدينية التي لا تعيبهم في شيء بقدر ما تعيب رافضيها عليهم.

وقد حدد الإمام البنا ثوابت مشروعه في الآتي:

1- شمولية الإسلام للدين، والدنيا، وكافة مناحيهما مع وجوب عدم الفصل بينهما.

2- الرجوع بالإسلام إلى أصوله الأولى النقية بعد ما شابه طيلة القرون الماضية من التباسات ودسائس. 3- تدعيم فكرة الرابطة، والجامعة الإسلامية بحيث ينبغي على كل مسلم أن يجاهد لاستعادة أرض الإسلام من بين أيدي الاستعمار توطئة لإقامة الدولة الإسلامية الكبرى.

4- التمسك بالأسس التنظيمية للحكومة كما وضعها الإسلام، أو وضعت الشريعة الإسلامية أسسها، وكانت فكرة الخلافة محورية في هذا المستوى من فكر الإمام البنا، ومشروعه.

وبناءً على فكر سليم رأى البنا أنه بدون السياسة التي يحكمها الدين، ويوجهها لن يكون هناك نهضة، أو إصلاح في الأمة، وعلى ذلك كان الجانب التطبيقي في العمل السياسي غالبًا على حركة، وفعل الإمام حسن البنا -رحمه الله تعالى-، ومع قوة المشروع الذي طرحه “البنا”، وإخوانه من الرعيل الأول وصلت دعوة الإخوان إلى نحو 50 دولة في العام 1933 م أي بعد خمس سنوات فقط من تأسيسها.

كما وضع الإمام البنا الهيكل الأساسي لنظام الحكم؛ فهو يقوم على مسئولية الحاكم، ووحدة الأمة، واحترام إرادتها، ولا عبرة بعد ذلك بالأسماء والأشكال.

فالحاكم مسئولٌ بين يدي الله ثم بين الناس، وهو أَجيرٌ لهم وعامل لديهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”، وأبو بكر رضي الله عنه يقول: عندما ولي الأمر وصعد المنبر: “أيها الناس، كنت أحترف لعيالي فأكتسب قوتهم؛ فأنا الآن أحترف لكم، فافرضوا لي من بيت مالكم”، وهو بهذا قد فسَّر نظرية العقد الاجتماعي أفضل وأعدل تفسير، بل إنه وضع أساسه، فما هو إلا تعاقد بين الأمة والحاكم على رعاية المصالح العامة، فإذا أحسن فله أجره، وإن أساء فعليه عقابه.

والأمة الإسلامية واحدة؛ لأن الأخوَّة التي جمع الإسلام عليها القلوب أصلٌ من أصول الإيمان، لا يتم إلا بها، ولا يتحقق إلا بوجودها، ولا يمنع ذلك حرية الرأي وبذل النصح من الصغير إلى الكبير، ومن الكبير إلى الصغير، وذلك هو المعبَّر عنه في عرف الإسلام ببذل النصيحة والأمر المعروف والنهي عن المنكر؛

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة”،

قالوا: لمن يا رسول الله؟

قال: “لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”

وقال: “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها”،

وفي رواية: “وبطن الأرض خير لهم من ظهرها”،

وقال: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”.

ومن حق الأمة أن تراقب الحاكم أدقَّ مراقبة، وأن تُشير عليه بما ترى فيه الخير، وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ بالصالح من آرائها، وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، وأثنى به على المؤمنين خيرًا فقال: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: من 38)،

ونصت على ذاك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين من بعدهم؛ إذا جاءهم أمر جمعوا أهل الرأي من المسلمين واستشاروهم ونزلوا عند الصواب من آرائهم، بل إنهم ليندبونهم إلى ذلك ويحثُّونهم عليه؛ فيقول أبو بكر رضي الله عنه: “فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني أو قوِّموني”، ويقول عمر بن الخطاب: “من رأى فيَّ اعوجاجًا فليقوِّمه”.

والنظام الإسلامي في هذا لا تعنيه الأشكال ولا الأسماء متى تحقَّقت هذه القواعد الأساسية، التي لا يكون الحكم صالحًا بدونها، ومتى طُبِّقت تطبيقًا يحفظ التوازن ولا يجعل بعضها يطغى على بعض، ولا يمكن أن يُحفظ هذا التوازن بغير الوجدان الحي والشعور الحقيقي بقدسية هذه التعاليم، وإن في المحافظة عليها وصيانتها الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة، وهو ما يعبرون عنه في الاصطلاح الحديث (بالوعي القومي) أو (النضج السياسي) أو (التربية الوطنية) أو نحو هذه الألفاظ، ومردُّها جميعًا إلى حقيقة واحدة هي اعتقاد صلاحية النظام، والشعور بفائدة المحافظة عليه؛ إذ إن النصوص وحدها لا تنهض بأمة كاملة، كما لا ينفع القانون إذا لم يطبِّقه قاضٍ عادل نزيه.

وقد حدَّد الإمام البنا في أكثر من موضع معالم الإصلاح السياسي والاقتصادي من خلال:

- وضع قائمة من الصفات التي يجب أن تتوافر في المرشحين، سواءٌ أكانوا ممثلين لهيئات أم لم يكونوا.

- وضع حدود للدعاية الانتخابية.

- الدعوة إلى إصلاح الجداول الانتخابية وطرق التصويت؛ لتكون في منأى عن التلاعب من ذوي المصالح الشخصية وعن التصويت الإجباري.

- فرض عقوبات رادعة على التزوير والرشوة في الانتخابات.

وفي ميدان الإصلاح الحكومي والجهاز الإداري، تحدث الإمام البنا عن ذلك في نقاط من خلال:

- نشر الروح الإسلامية في جميع المصالح الحكومية.

- مراقبة السلوك الشخصي للموظف حتى لا توجد ثلمة في سلوكه تميِّز بينه كموظف حكومي وكإنسان.

- إعادة تنظيم أوقات العمل لتسهيل أدائه، وحتى يمتنع العامل من السهر ليلاً.

- مراقبة جميع الأعمال الحكومية بحيث تتفق مع روح التعاليم الدينية.

- استخدام عدد أكبر من خرِّيجي الأزهر في الوظائف العسكرية والمدنية.

كانت هذه الإصلاحات السمة الغالبة في موقف الإمام البنا من مشكلة الإصلاح في عمومها، كما تعرض لما يمس الفرد في الوظيفة العامة، وتضمنت آراؤه في الإصلاح بالنسبة لهذه المشاكل الإجراءات التالية:

- اختيار الموظفين الحكوميين على أساس الكفاءة دون القرابة.

- استقرار ظروف العمل وتبسيط إجراءاته عن طريق تحديد المسئولية وإلغاء المركزية.

- تحسين أحوال صغار موظفي الدولة برفع رواتبهم وعلاواتهم؛ وذلك لسدِّ الهوَّة بينهم وبين كبار الموظفين، وإيجاد تأمين قانوني ومالي مضمون لهم لحماية المرؤوسين من عسف ونزعات الرؤساء.

- تقليل عدد الوظائف الحكومية وتوزيع العمل على من يبقى توزيعًا أعدل وأقوم.

- إلغاء ما هو جارٍ من استثناءات من القوانين التي يتمتع بها المقربون والأصدقاء والأقرباء.

أما عن قواعد النظام الاقتصادي فيتلخص في الآتي:

1- اعتبار المال الصالح قوام الحياة، ووجوب الحرص عليه، وحسن تدبيره وتثميره.

2- إيجاب العمل والكسب على قادر.

3- الكشف عن منابع الثروات الطبيعية، ووجوب الاستفادة من كل ما في الوجود من قوى ومواد.

4- تحريم موارد الكسب الخبيث.

5- تقريب الشقَّة بين مختلف الطبقات تقريبًا يقضي على الثراء الفاحش والفقر المدقع.

6- الضمان الاجتماعي لكل مواطن، وتأمين حياته، والعمل على راحته وإسعاده.

7- الحث على الإنفاق في وجوه الخير، وافتراض التكافل بين المواطنين، ووجوب التعاون على البر والتقوى.

8- تقرير حرمة المال، واحترام الملكية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة.

9- تنظيم المعاملات المالية؛ بتشريع عادل رحيم، والتدقيق في شئون النقد.

10- تقرير مسئولية الدولة في حماية هذا النظام الاقتصادي.


الإخوان المسلمون رواد علم الاقتصاد الإسلامي

كان طلعت حرب من أوائل من طرحوا فكرة الاقتصاد الوطني.. ثم طرح الاقتصاديون المسلمون الفكرةَ من منظورٍ إسلامي خالصٍ، وكان من أوائلهم: طاهر عبد المحسن ، و صالح عشماوي ، و سيد عاشور ، وهم من دفعة كلية التجارة (مدرسة التجارة العليا) عام 1937م.

وفي ديسمبر 1938 تكوَّنت رابطةُ البحوثِ الاقتصاديةِ والسياسية الإسلامية بكلية التجارة؛ حيث "اجتمع فريقٌ من شبابِ الكليةِ وتبادلوا الرأي بينهم، فقرَّ رأيهم بالإجماع على ضرورةِ بعث النظم الاقتصادية والسياسية الإسلامية السليمة من جديد".

وقد أثمرت هذه الرابطة ثمراتٍ طيبة، وتطوَّرت حتى أصبحت جمعية الدراسات الإسلامية للاقتصاد والسياسة والمال بكلية التجارة، وشارك فيها مجموعةٌ من أساتذة الكلية من أبرزهم أ. د محمد عبد الله العربي صاحب المؤلفات الرائدة في الاقتصاد الإسلامي.

وحين كتب د. محمود أبو السعود كتابَه حول (معالم الاقتصاد الإسلامي) لم يستوعب الكثيرون إمكانيةَ ترجمة تعاليم الإسلام إلى نظمٍ تحكم الحياةَ الاقتصاديةَ والتجارية، حتى أبرز د. محمد عبد الله العربي الفكرةَ في تصور عملي من خلال كتابه: (المعاملات المصرفية المعاصرة والنظرية الإسلامية ) عام 1966 ، وعزَّز ذلك د. عيسى عبده في كتابه: (بنوك بلا فوائد)، وكانت الصحافة الناصرية تستهزئ بالأستاذ الدكتور عيسى عبده رحمه الله لمَّا أراد إنشاء مصارف على أساس إسلامي.

وانتُدِب د. عيسى عبده كمستشار لبنك دبي الإسلامي؛ حيث استغرق الإعداد والتحضير طوال عام 1974 م، حتى قام بنك دبي الإسلامي عام 1975 م، فكان أولَ بنك في الساحةِ الإسلامية بمنطقة الخليج.

ومضى الدكتور عيسى عبده يعمل على إنشاء كليةٍ للاقتصاد الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تكون نموذجًا للعالم الإسلامي كله، وقد وفقه الله لذلك، وكان من ثمرة هذا أن أصبح علمُ الاقتصاد الإسلامي المعاصر- الذي أرسى قواعدَه د. عيسى عبده ، ود. محمود أبو السعود ، ود. محمد عبد الله العربي ، ود. يوسف القرضاوي ، ود. أحمد النجار ، وغيرهم ممن ساروا على نهجهم- مادةً تدرَّس في كثيرٍ من الجامعات، داخل الوطن العربي والإسلامي وخارجه أيضًا، بل إن الكثير من الباحثين قدموا رسائل في الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي وفروعه المختلفة، ومنها أعمال البنوك الإسلامية المعاصرة.

ووصل اليوم عدد المؤسسات المالية الإسلامية على امتداد العالم إلى170 مصرفًا ومؤسسة، وتبلغ الاستثمارات التي تديرها إلى أكثر من 150 مليار دولار، وصارت المصارف الإسلامية واقعًا جديدًا يحظى بالقبول العالمي.


الإخوان المسلمون والنشاط الاقتصادي

أنشأ الإخوان مجموعةً من الشركات كانت أسهُمُها جميعًا موزَّعةً على مجموعةٍ كبيرةٍ جدًّا من المساهمين، بعكس ما ألِفَ الناس في الشركاتِ الكبيرةِ في مصر التي يتحكَّم فيها ويملك غالبيةَ أسهمها قلةٌ من الرأسماليين؛ ولعلَّ أوضح مثال لذلك هو شركة الإخوان المسلمين للغزل والنسيج، فرأس المال الفعلي لها كان 6500 جنيه، وكان عدد المساهمين 550 مساهمًا، ومعظمهم من العمال، ومن هذه الشركات:

1- شركة المعاملات الإسلامية: وقد تكوَّنت سنة 1939 م برأسمال أساسيٍّ قدره 4000 جنيه، زيد إلى عشرين ألف جنيه مصري سنة 1945م، وقامت الشركة بإنشاء خطوط نقل، وأقامت مصنعًا كبيرًا للنحاس، ينتج (وابور غاز) كاملاً، وقطع غياره المختلفة راجت في الأسواق المحلية والخارجية.

2- الشركة العربية للمناجم والمحاجر: وقد تكوَّنت في سنة 1947 برأسمال قدره ستون ألف جنيه.

3- شركة الإخوان المسلمين للغزل والنسيج: تأسست هذه الشركة سنة 1948 برأسمال أساسي قدره ثمانية آلاف جنيه، وكان عدد عمالها حوالي 60 عاملاً، جميعهم من المساهمين في الشركة، وفي عشرة أشهر بلغ صافي أرباحها 1400 جنيه.

4- شركة المطبعة الإسلامية والجريدة اليومية.

5- شركة التجارة والأشغال الهندسية بالأسكندرية : وقد تكوَّنت برأسمالٍ قدره 14.000 جنيه، موزعٍ على 3500 سهم؛ للقيام بأعمال التجارة والهندسة.

6- شركة التوكيلات التجارية

7- شركة الإعلانات العربية

معالم التجديد لدى الإمام البنا في مشروعه الحضاري:

1- التميُّز عن المؤسسات الدينية التقليدية؛ حيث لم يقف عند المتون والحواشي والعقل وفقط، بل كان الدين شموليًّا.

2- الجمع بين النظر العقلي والنظر الشرعي.

3- مرونة الشريعة، والانفتاح على الحكمة الإنسانية.

4- إسلامية النظام النيابي الدستوري.

5- رفض التغريب، ونقد الحضارة المادية الغربية.

6- تكافل دوائر الانتماء الوطني والقومي والإسلامي والإنساني.

7- سنة التدريج في الإصلاح.


البنا والتربية السياسية

كما كتب الدكتور يوسف القرضاوي تحت عنوان “التربية السياسية عند الإمام البنا”؛ وضَّح فيه جوانب هذه التربية، مثل:

1- الربط بين الإسلام والسياسة.

2- إيقاظ الوعي بوجوب تحرير الوطن الإسلامي.

3- إيقاظ الوعي بوجوب إقامة الحكم الإسلامي.

4- إقامة الأمة المسلمة.

5- إيقاظ الوعي بوجوب الوحدة الإسلامية.

6- الترحيب بالنظام الدستوري.

7- حماية الأقليات والأجانب.

وكان من ثمرات هذه التربية:

(أ) مطاردة عوامل اليأس والإحباط في الأمة خلال المحن والشدائد.

(ب) إرشاد المجتمع بنشر دعوة الخير ومحاربة الرذائل والمنكرات.

(ج) تحرير الوطن من الاستعمار الأجنبي.

ثم وضح منهج الإمام البنا في عملية التغيير، وأنه لا يعتمد أسلوبَ الانقلاب العسكري للوصول إلى الحكم، ولا يلجأ لفرض المشروع الإسلامي بقوة الحديد والنار؛ لأن ذلك يؤدى بالساحة الإسلامية إلى فتن عمياء.

كما أنه لا يعتمد أسلوب الثورة الشعبية التي تجر إلى حروب أهلية وصراعات داخلية، وفي ذات الوقت لا يكفي بالوعظ والإرشاد دونما تفكير ببلوغ الحكم.

ولقد اعتمدت منهجية البنا القاعدةَ الربانية في التغيير، والتي تحقق البعد الحقيقي والمضمون الجوهري للرسالة الإسلامية، ومن ثم حرص الإمام البنا على إنضاج الخطوات وعدم الاستعجال، وأن السلطة وسيلة لإقامة شرع الله، وليست غايةً بذاتها أو بديلاً عن شرع الله.

ثمَّ تحدَّث عن مقومات رجل التغيير لدى الإمام البنا فقال: هذه المقومات تتمثل في:

1- امتلاك روح المبادرة والإقدام في الفكر والعمل.

2- الحزم وعدم التردد.

3- حسن التخاطب والاتصال مع الآخرين.

4- القدرة على الإقناع.

5- سرعة البديهة والتصرف بحكمة.

6- المرونة الفكرية وسط الأفق.

وعن مبادئ التغيير لدى الإمام البنا، فوضَّح ذلك على النحو التالي:

1- الأخذ بمبدأ التخطيط في العمل.

2- التدرُّج في تغيير الواقع.

3- تقدير دور المرأة وإشراكها في التغيير.

4- التزام أسلوب الحوار والتشاور مع الآخرين.

5- التجديد والتطوير في البرامج والوسائل.

ولقد حدد الإمام البنا مراحل التغيير بثلاث:

1- مرحلة التعريف.

2- مرحلة التكوين.

3- مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج.


البنا والحركات التحررية والأقباط والمرأة والشباب والفن

وكتب المستشار عبد الله العقيل حول الإمام البنا وقضايا العالم الإسلامي.

كما كتب الدكتور محمد مورو عن علاقة الإمام البنا بالأقباط، وأوضح أن الإسلام دين غير طائفي، وأن حركة الإخوان حركة غير طائفية.

ولم يهمل الإمام البنا المرأة؛ فقد أعتبرها نصف المجتمع الفعال، وحول هذا المعنى كتب الدكتور مكارم الديري “المرأة في أدبيات الإمام حسن البنا”.

وحول التقريب بين المذاهب الإسلامية والتي عمل الإمام على تقريبها، كتب الأستاذ حسان عبد الله حسان أن الإمام البنا عمل على وحدة الأمة لا فرقتها، وأوضح أن الإجماع على أمر فرعي به صعوبة.

وكذلك كان الإمام رحمه الله صريحًا في اختياره للوسائل التغييرية، فرفض الثورة، ووضع شروطًا لاستعمال القوة، واعتمد النضال الدستوري السلمي في التغيير والإصلاح.

ولذلك جاءت خلاصة ما قدَّمه البنا من المنهج ممثلة في التالي:

- الإسلام منهج تغييري يشمل كل جوانب الحياة.

- كل خطى الإصلاح المؤدية للتغيير معتمدة شريطة موافقة الشرع.

- منهج البنا موافق للإسلام ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم.

ووفق هذا المنهج:

فالساحة الإسلامية ليست بديلاً عن الأمة الإسلامية، والدولة المدنية ليست بديلاً عن دولة الإسلام، والمطالبة بالحرية والعدالة والمساواة ليست بديلاً عن شرع الله، والجماعات الإسلامية ليست بديلاً عن الدولة الإسلامية، والديمقراطية ليست بديلاً عن الشورى.

في مجال التربية ونهضة الأمة

لم يكن ما قدَّمه البنا هو تربية أفراد الإخوان فقط، أو تربية المجتمع ليكون أفراده من الإخوان المسلمين ، بل ما قدَّمه هو تربية الأمة ونهضتها.

ومن ثَمَّ غرس في الأمةِ معاني جديدة هي لُبُّ الإسلام مثل:

- المسئولية والغيرة على الإسلام والمسلمين، والعمل المتواصل والفناء في خدمةِ الآخرين، والدعوة لوحدة الأمة، والاستقامة بالتوازن والاعتدال والوسطية بعيدًا عن التعصب والتطرف والعنف.

ومبينًا أن هذه المعاني لا تتحقق إلا:

- بصفاء النفوس والبذل والعطاء والإيمان العميق والتكوين الدقيق؛ ولذلك لم يكن التنظيم سوى وسيلة لتطبيق هذه المعاني وليس هدفًا، فقد أطلق الإمام عليها دقة التنظيم وليس سرية التنظيم، فشتان بين الاثنين فكرًا وسلوكًا.

وضع وتقديم أول مشروع للمقاومة

حيث كان الإمام أول مَن وضع للأمة مشروعًا للمقاومة وتحرير الأوطان، فحول الفكر الإسلامي إلى حركة فاعلة، وحول مفهوم الجهاد من الاعتقاد إلى الممارسة، ثم وضع هذه الأفكار في إطار عملي تنفيذي متجدد ومتطور.

وكانت الأسس التي اعتمدها الأمام في مشروع المقاومة أربعة أسس:

الأول: استنهاض الأمة

الثاني: تحديد المقاومة كفكر

الثالث: غرس المفاهيم الجهادية

الرابع: بيان الدور العملي للأفراد والمجتمع

وقد استطاع الإمام البنا قبل الدعوة لتحرير الأوطان من صورِ الاحتلال أن يغرس فكر المقاومة قبل المقاومة العملية، ومن ثَمَّ كان هذا التنافس الغير مسبوق بين أفراد المجتمع، للانضمام في صفوف المقاومة سواء كان في حرب القنال ضد الإنجليز، أو حرب فلسطين 48 ضد الصهاينة .

فقدَّم مشروع المقاومة الذي أراه اليوم الضامن الوحيد، لمقاومة المحتل في أفغانستان والعراق وفلسطين، والذي يقوم على عشر خطوات:

أولاً: معركة مفاهيم والتي أجملها في أركان البيعة العشرة

ثانيًا: رؤية شاملة في إطار ما قدمه من الأصول العشرين

ثالثًا: مواجهة فكرية وعلمية وواقعية للشبهات والتحديات

رابعًا: الوعي بالمؤامرات المستترة وغرس الإرادة القوية

خامسًا: الحركة بهذا المفهوم والعمل على نشره في الأمة

سادسًا: بناء روح المقاومة وحب التضحية والعمل المتواصل

سابعًا: اعتماد لغة خطاب جديدة تدفع إلى الهمة والحركة

ثامنًا: بعث الأمل وغرس بشريات النصر والثقة في الله

تاسعًا: اعتماد المقاومة الشاملة بكل أشكالها وأنواعها

عاشرًا: الحرية أولاً والتحرر من كل سلطان أجنبي واقتصادي

وشهد شاهد من أهلها

لقد جاءت شهادة باحثة ألمانية في محاضرةٍ لها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة تأكيدًا لدور الإمام البنا في تقديم المشروع الإسلامي للأمة؛ حيث تقول: إن الإخوان المسلمين يمثلون قوةً سياسيةً واجتماعيةً مهمةً في المنطقة العربية، وتقول: حسن البنا هو مؤسس أول حركة اجتماعية عربية حديثة، وأكدت أن جماعة الإخوان ومؤسسها لها تأثيرات حاسمة على الخطاب الإسلامي وعلى التطورات الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية في العالم الإسلامي أجمع.

إن هذا المشروع هو بعينه السبب الرئيس في قوة وثبات حماس اليوم حركةً وحكومةً، وأزعم أن هذا المشروع هو ما تسبب في الأزمة الدماغية التي أصابت شارون، وهي كذلك سر التحديات التي تواجه اليوم حماس، وأعظم هذه التحديات خوف الأنظمة من تصدير هذا النموذج العملي الواقعي إلى شعوبها الملتهبة والتي تقترب من الخط الأحمر الذي وضعته الأنظمة، بسبب هشاشتها وتآكلها وشيخوختها، أو بالأحرى انتهاء صلاحيتها!.


نموذج مواجهة الإمام البنا للضغوط والأزمات

إن الراصد لأسلوب الإمام البنا، وطريقته في مواجهة الصعاب، والضغوط، وفي التعامل مع الحكومات، أو مختلف الأعداء، ليدرك مدي عمق رؤيته، ومدي براعته وحكمته، كان الإمام الشهيد يدرك تمامًا أن الأنظمة، والحكومات في عدائها للدعوة، والجماعة لا تتحرك من دوافع ذاتية فقط، وإنما تخضع للتأثير والتوجيه الأجنبي الذي يستهدف السيطرة علي هذه البلاد، وإنفاذ مشروعها ومخططها، وأهدافها الحالية والمستقبلية.

وأن هذه القوي عندما تضغط، أو تدفع، وتحفز هذه الأنظمة التي تحولت إلي أدوات رخيصة في يد الأجنبي- لضرب الجماعة- فإنها لا تبالي برد فعل الشعب تجاهها، أو بالأثر السلبي الذي يعود عليها، أو علي الوطن ككل.

ولهذا كان الإمام الشهيد يحرص علي ألا يستعجل الصدام، والمواجهة، أو يلجأ إلي الاستفزاز، بل وعند المواجهة لا يوسع من مساحتها، ولا يصعّد من مراحلها، ولا يمكنهم من تصفية الجماعة بردود أفعال غير متزنة، أو مدروسة، بشرط ألا يؤثر ذلك علي جوهر العمل، والحركة.

وإذا فُرضت علي الجماعة هذه المواجهة، أو ذلك الصدام، واجهه الإمام بصبر وثبات، وحرص علي استمرار العمل بوسائل شتي، وتحقيق تماسك الجماعة، والثبات علي الأهداف والمبادئ مهما حدث.

عندما خرجت المظاهرات من الأزهر بقيادة الإمام الشهيد تجاوبًا مع القضية الفلسطينية ارتفعت بعض الشعارات التي تندد بالملك، وتهتف بسقوطه، فوجههم الإمام أن يهتف بعضهم بعدها بـ"يحيا الملك"، وتمت المظاهرة، وحققت أهدافها، وبذلك استطاع أن يلطف من جو الاستفزاز الذي قد سببته بعض الشعارات، ليواصل بعدها العمل الجماهيري، وحشد الشعب لتأييد القضية الفلسطينية.

كما كان الإمام يحرص علي أن يبقي هناك باب مفتوح، مع القوة المعارضة والمنافسة، ومع الحكام، حتي مع ألد أعداء الدعوة ممن ينتسبون إلي الوطن؛ وذلك ليتمكن من إرسال الرسائل التي تحقق مصلحة الدعوة، وتقلل من حدة العداء، والاستعداء، كما يمكن عن طريقها نزع فتيل بعض الأزمات، أو تأجيل حدوثها، أو حتي تخفيفها إذا حدثت؛ مما يحقق مساحة أوسع للدعوة وتهدئة للأجواء حولها، فالدعوة تنمو تنطلق في الجو الهادئ المستقر، وجهود الإصلاح تكون ثمرتها أسرع في تلك الأحوال الهادئة.

كان الإمام حريصًا علي فتح قنوات اتصال عن طريق عناصر متعاطفة، أو وسيطة تحب التفاهم مع الجماعة، أو قادرة علي حمل رسالة محددة، لجميع القوي التي حكمت البلاد في هذه المرحلة.

وعندما ازداد الضغط علي الجماعة في محنة 1948 م، وكان يعلم جيدًا الضغط الخارجي، وأن النظام والملك يستهدف الجماعة ويستهدف قتله؛ استمر يحاول فتح قنوات الاتصال، وتهدئة الأحوال، وإرسال الرسائل حتي آخر لحظة؛ وذلك لتهدئة الضغط، والرد علي الأسباب الواهية التي افتعلوها لضرب الجماعة، وليس ذلك خوفًا، أو جزعًا، وإنما لصالح الدعوة، والتفافًا حول المعوقات والضغوط.

والإخوان مع ذلك لا يهابون المعتقلات والسجون، أو يساومون بها علي دعوتهم، أو يجعلهم ذلك يحجمون ويتأخرون، وإنما ميزان الفصل في هذا هو متطلبات الخطة ومستهدفاتها، والحرص علي مصلحة الدعوة، ومراعاة الضوابط الحاكمة في تلك المرحلة، ويحتملون كل أذي في سبيل دعوتهم.

والإمام الشهيد في حركته، ودعوته لا ينطلق من مجرد رؤية محدودة، أو رد فعل لأحداث، وإنما كانت له رؤيته الإستراتيجية، وتخطيطه بعيد المدي، وضوابطه، وتوجهاته الحاكمة لخطواته، وحركته، ووسائله.

ففي الوقت الذي كانت الأحزاب والقوي الوطنية مفتونة بتشكيلاتها العسكرية المسماة بالقمصان الخضراء، والزرقاء، والحمراء، إلخ، وتقوم باستعراضاتها، وفرد عضلاتها، وسطوتها، وتفرح بتهليل فئات من الشعب لها، والحديث عن قوتها؛ رفض الإمام الشهيد أن يجاريها في ذلك رغم المغريات وحماس الأفراد، وكان أن أصر علي تشكيل فرق الكشافة، والجوالة بالشورت، والقميص الكاكي، وبالشارات المتعارف عليها في نظام الكشافة.

وقد كان رحمه الله موفقًا في ذلك، فبعد عدة سنوات تم حل تلك التشكيلات العسكرية بقرار نهائي، وبقيت جوالة، وكشافة الإخوان في الميدان؛ لأنه لم يكن ينطبق عليها ذلك، وهي أيضًا تشكيل رسمي معترف به دوليًّا.

وعندما ضغطت عليه مجموعة من الأفراد بالجماعة بشأن اتخاذ مواقف عنيفة، واللجوء إلي بعض مظاهر القوة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومجاراة بعض الأفعال التي صدرت من تجمعات، وقوي أخري مثل مصر الفتاة، رفض هذا النهج لأنه خروج علي الإستراتيجية، والضوابط الحاكمة؛ مما تسبب في خروج وانشقاق تلك المجموعة من الشباب التي عُرفت بشباب محمد، ثم ما لبثت الأحداث أن احتوتها، واستوعبتها، وأثبتت الأيام مدي عمق رؤية الإمام الشهيد. وفي مذكرات الدعوة، والداعية يذكر الإمام الشهيد أول معركة مواجهة مع الإدارة الأجنبية بشأن المسجد الذي تم إنشاؤه في شركة الجباسات بالإسماعيلية ، وانتداب الشيخ محمد فرغلي رحمه الله لإدارة المسجد، والتدريس فيه، فقامت تلك الإدارة بمحاولة إقصاء الشيخ فرغلي، واستبداله بآخر من عندها حتي لو تطلب الأمر غلق المسجد، وذلك لمواجهة تأثيره الدعوي والإصلاحي علي عمال الشركة.

ونري في هذه الوقعة كيف أدار الإمام هذه المواجهة ببراعة واقتدار، فقد تمسك الشيخ فرغلي، والإخوان معه بمكانه، وعمله بالمسجد، وتصاعد الأمر حتي وصل إلي محافظ القنال الأجنبي ومأمور الإسماعيلية ، وهددوا باستخدام القوة، فلم يتراجع الشيخ فرغلي وتجمهر عدد كبير من العمال، وأمسك الإمام الشهيد بجميع الخيوط، مع التأكيد علي صلابة الموقف فاتصل بالعضو المصري الوحيد في مجلس إدارة الشركة حيث سافر له الإمام لمقابلته بالقاهرة ، وناقشه في الأمر رغم عدم تجاوبه معه، وكذلك قابل مدير الشركة الأجنبي، وأوضح له بأسلوب هادئ نواحي خطأه، وأن المشكلة ليست في المسجد، وإنما في أسلوب معاملتهم للعمال.

وتعامل كذلك مع المأمور فأوضح له خطورة تصعيد الأمر، وأن العواقب قد تسوء إذا حدث رد فعل من العمال الغاضبين، ثم طرح الإمام الشهيد حلاًّ للأزمة تفاوض معهم عليه، وبعد أخذ ورد تم الاتفاق علي أن يبقي الشيخ فرغلي شهرين حيث هو، وتقوم الشركة بتكريمه عند انتهاء هذه المدة، وأن تطلب رسميًّا من الإخوان أن يحل محله واحد من المشايخ، وأن تضاعف للشيخ الجديد راتبه.. إلخ.

وبذلك نجح الإمام في إدارة هذا الصراع، وحقق كل أهدافه كاملة، مع بعض التنازلات البسيطة الشكلية التي لا تؤثر، وأخذ مقابلها مكاسب كثيرة، وهذا مجرد نموذج، فحياة الإمام وجهاده مليئة بالكثير من تلك المواقف.

كما كان الإمام الشهيد يراعي في حركته ونشاطه أن يكون مظهر الجماعة أقل من حقيقتها، وأن يكون تقدير الأعداء لمدي قوتها أقل من الحقيقة والواقع، وألا تنخدع الجماعة بالظواهر عن حقائق الأحداث، فللدعوة ميزان غير ميزان الآخرين ورؤيتهم، ليس ذلك تهوينًا لشأن الدعوة وهيبتها، وإنما في هذه المرحلة من تربص الأعداء بها، يستهدف الإمام من ذلك أن يقلل من تحفز الأعداء ضدها، ومسارعتهم إلي ضربها، أو يهدئ من شدة الضربات الموجهة إليها. لقد وافق الإمام علي التنازل عن الدخول في الانتخابات عام 1942 م، وركز علي الحركة بهدوء، والانتشار العملي بين الجماهير رغم توتر الإنجليز، وتشديد قبضتهم علي البلد، وإعلان الأحكام العرفية، ولم يتراجع الإمام في ذلك الجو عن مبادئ دعوته، أو أن يفصل بين الدعوة والسياسة، وليراجع من شاء رسالة المؤتمر السادس عام 1941 م، وهي تؤكد علي نفس المبادئ والأهداف.

وما أن وضعت الحرب أوزارها حتي كانت الجماعة قد وصلت لمرحلة جديدة من القوة، والانتشار لم يكن يتصورها الآخرون.

لكن يحدث في بعض الأحيان والمواقف، أن يظهر للآخرين مدي قوة الجماعة مثلما أدرك الأعداء في معارك فلسطين، ورأوا من بطولات الإخوان ، والنماذج العالية التي قدموها في الثبات والإقدام، وحسن التخطيط ما أزعجهم بشدة، ورغم هذا لم يستخدم الإمام هذه القوة في مواجهة السعديين عندما حاربوا الجماعة، وسجنوا الكثيرين من أفرادها. وهذا الأمر لا يجعل الإخوان يغترون بفضل الله عليهم أو يسارعون للتحدي قبل الأوان، أو يكون هذا مبررًا للتخاذل والقعود، بل يحرص الإخوان أن يطمئنوا المنزعجين، والمتخوفين، ولا يخرجهم الإنجاز، وأقوال الناس، عن إستراتيجيتهم، وضوابط حركتهم، وخطتهم الحكيمة. وإذا استحكم شيء في مواجهة الدعوة، أو أظلمت الدنيا من حولهم لم يفقد الإخوان ثقتهم، ولم تهتز خطواتهم، بل أحسنوا التوكل علي الله، ولجئوا إلي الدعاء والاستغفار، وطلب العون من الله، وحرصوا علي دعاء السحر وقيام الليل، فهذا هو باب النجاة والفلاح بعد استفراغ الجهد من الأخذ بالأسباب ﴿...... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ....... (3)﴾ (الطلاق).

القسم الرابع: البنا ... والأدب والفــن

- الملامح والطوابع الفنية في أدبيات الشهيد

- الإمام الشهيد مع الشعر والشعراء

- الإمام البنا ورؤية جديدة في المسرح والسينما

دراسة للدكتور: جابر قميحة


الملامح والطوابع الفنية في أدبيات الشهيد

لو أردنا أن نرسم صورةً نفسيةً للإمام الشهيد حسن البنا (1906 - 1949 م) لاستغرق ذلك بحوثًا ومقالاتٍ لا يتسع لها المقام. ولكننا لا نغلو إذا قلنا- في إلماعة- إنه كان يُمثل في حياةِ العالم الإسلامي”الرجلَ الأمة”: فقد عاش ثقيل الميزان، عالمًا، خطيبًا، قوي البيان، مؤمنًا بالله إلى أقصى حدودِ الإيمان، ذكيًّا، خارقَ الذكاء، بعيدَ النظر في أعماق النفوس، وآماد الأحداث، يتمتع بأعظم الحظوظ من روح الأبوة والسماحة، والقدرة على تطويع النفوس، وتوجيهها وتربيتها، وساعده على كل أولئك قوة الذاكرة بصورة لم يسمع بمثلها أحد.

كتب الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله- في كتابه عنه: “... كانت هذه الذاكرة تواتيه بالوقائع على وجهها الصحيح، إذا أراد مجادلٌ أن يحاور أو يكابر، فيرده إلى الواقعة بزمانها ومكانها وأفرادها وملابساتها، كأنما يقرأ من كتاب بلا تحدٍّ أو محاولة إحراج، ولكنه الإقناع المترفق حتى ليظن العائد إلى الحق أنه هو الحق.

كما كانت هذه الذاكرة المتوقدة سببًا في إزالة الكثير من المشاكل بين الإخوان إذا ما رجعوا إليه، وإذا ما دعا الأمر إلى سرد أحداثٍ معينةٍ سردها كأنما تسمعها من شريط مسجل”.

مفهوم الأدبيات والملامح

وأدبيات الإمام الشهيد تعني العطاء الفكري والعقدي الذي قدَّمه للمسلمين شفاهةً، أو كتابةً، من خُطَب، ومحاضرات، ومحاورات، ومقالات، وكتب، ورسائل عامة، وخاصة.

ويصعب على مثلي استقراء كل ما كتب من مقالات، والنظر في كل ما قدَّمه من خطب، ولكن قد يكون المكتوب ترجمةً “للمنطوق”، كما نجد في بعض الرسائل؛ وهي خطب صِيغَت كتابةً كرسالةٍ إلى الشباب، ورسالة المؤتمر الخامس ، ورسالة المؤتمر السادس ، وغيرها.

ونقصد بالملامح والطوابع الفنية: السماتِ الأسلوبيةَ والتصويريةَ والوجدانيةَ، وطبيعة الأداء التعبيري في هذا العطاء الغني الثراء.

وسيكون تركيزنا- على سبيل الإيجاز- على كتابه مذكرات الدعوة والداعية، وعلى سبيل التفصيل والإسهاب على رسائله العامة.

ومن قبيل استيفاء الأبعاد الفنية نعرض بعد ذلك لعلاقة الإمام الشهيد بالشِّعرِ وموقفه منه.

مذكرات الدعوة والداعية

تتقسم التراجم إلى نوعين: ذاتية أو شخصية، وغيرية، والترجمة الذاتية تعني كتابة الشخص تاريخه بقلمه، أما الترجمة الغيرية فهي تاريخ الشخصية مكتوبًا بقلمٍ آخر.

وكتاب الإمام الشهيد أقرب إلى أن يكون “ترجمةً ذاتيةً”، والأدق من ذلك أن نقول إنه معرض لشرائح متعددة من الحياة الشخصية، ووضعيات السياسة والمجتمع والنشاط الإخوان ي ومبادئ الدعوة والتوجيهات التربوية والخلقية والتنظيمية.

أما الأداء التعبيري فقد جاء بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ، بأسلوبٍ وسطي، أي علمي أدبي يجمع بين صدقية الشعور، وروح الإيمان، والفكر العلمي المنتظم؛ وهو كذلك أسلوب مرسل عضوي لا أثرَ فيه للافتعال والتعسُّف، والتجميل المصطنع. ونجتزئ بالمثال التالي من الكتاب:

“يجب أن تكون دعامةَ النهضة التربيةُ؛ فتُربَّى الأمة أولاً وتفهم حقوقها تمامًا وتتعلم الوسائل التي تَنَال بها هذه الحقوق، وتُربَّى على الإيمان بها، ويبث فيها هذا الإيمان بقوة، أو بعبارةٍ أخرى تدرس منهاج نهضتها درسًا نظريًّا وعمليًّا وروحيًّا، وذلك يستدعي وقتًا طويلاً؛ لأنه منهج دراسة يدرس لأمة، فلا بد أن تتدرَّع الأمة بالصبر والأناة والكفاح الطويل، وكل أمة تحاول تخطي حواجز الطبيعة يكون نصيبها الحرمان.

ومن أجل ذلك يجب أن تُعدُّ البلادُ التي تود النهضةَ مدرسةً، طلبتها كل المواطنين وأساتذتها الزعماء وأعوانهم وعلومها الحقوق والواجبات العامة أو الغاية والوسيلة. ومن أجل ذلك يجب أن يُنَظَّم أمران مهمان هما: المنهج والزعامة.

فأما المنهج فيجب أن تكون مواده قليلةً بقدرِ الإمكان، عملية البحث ملموسة النتائج مهما قلَّتْ. وأما الزعامة فيجب أن تختار وتنتقد حتى إذا وصلت إلى درجةِ الثقة أُطيعت وأُوزرتْ، ويجب أن يكون الزعيم زعيمًا تَربَّى ليكون كذلك لا زعيمًا خلقته الضرورةُ وزعمته الحوادث فحسب أو زعيمًا حيث لا زعيم”.

في رحاب الرسائل

في مقام التقييم الموضوعي لرسائل الإمام البنا التي وجهها إلى الملوك والوزراء وبعض الشخصيات العامة وباستقراء هذه الرسائل نكتشف بسهولةٍ ما اتسمت به هذه من صدق تمثيلها لفكر الإمام الشهيد، وخطوط دعوته، وكذلك طابعها الشمولي الذي اتسع لكل القضايا الشاغلة آنذاك، وكذلك خطها التدرجي في التناسول والعلاج وما تمتعت به من رؤى مستقبلية في مجالاتِ السياسة والمجتمع والتربية والسلم والحرب. وقد أثبتت التجارب ألمعية الإمام البنا ودقة تقديراته ودقة فراسته الإيمانية.

وفي هذه الصفات نحاول أن نستخلص ما في هذه الرسائل من ملامح فنية وشعورية وتعبيرية.

أدب الحديث

عُرِفَ الإمام حسن البنا- رحمه الله- بأدبه الجمَّ وعفَّة لسانه وبعده عن فحش القول، وذلك اقتداءً برسول الله- صلى الله عليه على آله وصحبه وسلم- الذي أدبه ربه، فأحسن تأديبه ووصفه بأنه على خلق عظيم كما وصفه ابن أبي هالة بقوله: كان دائم البِشْر، سهلَ الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحاش، ولاعياب، ولامداح”.

فلا عجبَ أن يلتزم الإمام أدب الحديث في رسائله ويرعى مقام من أرسل إليهم هذه الرسائل مستخدمًا الألقاب الخاصة بكل شخصية: - فهو يخاطب الملك فؤاد بـ”صاحب الجلالة الملكية حامي حمى الدين مليك مصر المفدي..”.

- ويخاطب “علي ماهر” بـ”صاحبِ المقام الرفيع علي ماهر باشا، رئيس مجلس الوزراء..”.

- ويخاطب مصطفى النحاس رئيس الحكومة بقوله “وبعد: فَدوْلتكم أكبر زعيم شرقي عَرَفَ الجميعُ فيه سلامة الدين وصدق اليقين..”.

- ويخاطب الأنبا يونس بطريرك الأرثوذكس بمصر بـ”صاحب الغبطة... ما نعهده في غبطتكم من أسمى عواطف الرحمة النبيلة، والبر بالإنسانية المعذبة...”.

في صحبة صراحة ناطقة

ولكن هذا الأدب الجم في مخاطبة الملوك والرؤساء والقادة لم يكن من قبيل المداهنة والنفاق؛ إذ لم يكن وراءه طلب انتفاع شخصي ونشدان مصلحة ذاتية، إنما كان الباعث الوحيد مصلحة الدين والعروبة والوطن، وقد كانت هذه هي سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حفظ مقامِ مَن يُخاطبه أو يُراسله. وهذا الأدب الجم لم يكن على حساب الصراحة، والكشف عن الحقيقة، والتوجيه إلى ما يجب أن يكون، وأُحيل القارئ على الرسالة الأولى الموجهة إلى مصطفى النحاس ورسالتيه إلى الملك فاروق ورسالته الثانية إلى إسماعيل صدقي .

تيَّار الشعور

أغلب هذه الرسائل- كما رأينا- يرتبط بموضوعاتٍ ذات صلةٍ قويةٍ بالدين والمجتمع، والقضايا العربية والمصرية. ومن ناحيةٍ أخرى يرتبط أغلبها بمناسباتٍ تاريخيةٍ محددةٍ كواقعة، أو وقائع تشغل شريحة زمانية معينة، وإن استطاع الإمام البنا أن يخرج بالعلاج الخاص إلى حدود أوسع حتى يصبح العلاج علاجًا نوعيًا في أقطار النفس والمجتمع والسياسة.

وهذه المقولة تقودنا إلى حقيقة مؤكدة وهي أنَّ وراء هذه الرسائل نوعين من الدوافع:

النوع الأول: دوافع عقلية متزنة اعتمدت على دراسةِ الواقع وما فيه من استقامة أو سقوط وانحراف، فهي دراسة تقوم على الحي المشهود، ومقارنته بالمطلوب المنشود، وهذا “المطلوب”- مهما قيل في مثاليته- لا يخرج عن “دائرةِ الممكن”، فهو- وما دار في فلكه- ثابت الوقوع في عهدِ النبوة والخلافة الراشدة.

والنوع الثاني: دوافع نفسية عاطفية يمكن إجمالها في الغيرةِ على الإسلام والقيم والوطن والأرض العربية والإسلامية والخوف من انحراف الأمة وخصوصًا شبابها والغضب لانتهاك حقوقها.

وكلها عواطف لا يتخلى عنها شعور التفاؤل والتفتح والطموح إلى تحقيقِ أملٍ يُداعب النفوس والقلوب والعقول.

هذا هو الخط الشعوري الذي يسري في أعطاف هذه الرسائل، ولكن هذا الخط- في رسمه البياني- لا يأخذ اتجاهًا مستقيمًا دائمًا بل نراه يتمتع بحظٍ من الارتفاع والاتخفاض الانفعالي بنسبٍ مختلفة، وهو في كل الحالاتِ محكوم المصداقية مع مقتضى الحال بلا إفراطٍ أو تفريط.

العقل والفكر أولاً..

ففي مجال عرض المبادئ والقضايا وشرح المفاهيم وتشخيص الأدواء وتقديم العلاج والحلول من نافذةِ الإسلام، كما نرى في رسالة “نحو النور” الموجهة إلى الملوك والرؤساء وذوي المكانات تدعوهم إلى أخذ نفوسهم وشعوبهم بالقيم والأخلاقيات الإسلامية وتحكيم الإسلام في كل مجالاتِ الحياة نعيش مع أسلوبٍ تغلبُ عليه طوابع الأسلوب العلمي بما فيه من مباشريةٍ ووضوحٍ وتقسيمٍ وتصنيفٍ، وترقيمٍ واستخداماتِ المصطلحات العلمية والشرعية والسياسية بلا انحرافٍ في هذا المجال تتنحى العاطفة من السياق ليهيمن الطابع العقلاني معتمدًا على ركيزتين:

الركيزة الأولى: الاستقراء النصَّي، وذلك بحشد النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لتدعيم المقولات والأحكام التي يسوقها الكاتب.

الركيزة الثانية: الاستقراء التاريخي للوقائع والأحداث السياسية والاجتماعية والسنن الكونية واستخلاص النتائج والدروس والعبر منها دون تعسفٍ أو افتعال.

فالإقناع هنا هو المطلب الأساسي في مثل هذه الرسالة ومخاطبة العقل هنا أجدى من مخاطبة العاطفة، ويرجع ذلك إلى طبيعةِ الموضوع من ناحية وطبيعة المخاطبين به من ناحيةٍ أخرى فهم في بسطةٍ من العقلِ والثقافةِ والحنكة والدربة والمكانة الاجتماعية والسياسية، فلا عجبَ إذن أن يأتي توهج العقل والفكر أقوى من حرارة العاطفة والشعور.

وهذا الطابع واضحٌ في رسالةِ “نحو النور”- كما ذكرنا- ورسالة المرشد إلى الملك فؤاد لصد تيار التبشير، ورسالته إلى رئيس الوزراء محمد نسيم ووزير أشغاله من أجل بناء مسجد البرلمان، ورسالته إلى عمر طوسون والأنبا يونس من أجلِ فلسطين، ورسالته إلى علي ماهر في كيفيةِ توجيه المعونة للمحتاجين، ورسالته إليه عند قيام الحرب العالمية الثانية.

بصمات الرضاء والأسى والغضب..

وقد يسري في أعطاف بعض الرسائل شعور بالتقدير والتوقير والتبجيل والتعظيم ينعكس في عباراتٍ مع الثناءِ والتقريظ مع تبرير هذا الشعور وتقديم مسوغاته، كما نرى في بعضِ عباراتِ الرسائل الموجهة إلى كلٍّ من الأمير عمر طوسون والأنبا يونس لحرصهما على العملِ الإنساني المقدم إلى ضحايا العدوان الأجنبي من الأحباش، ومصطفى النحاس حين أشاد النحاس بالصراحةِ والتعاون والإخلاص ودعوته الأمة إلى التعاون الجاد والصادق مع الحكومة.

وقد تتداعى المشاعر فترد معللةً بلا تناقض، ففي مقام الثناء والإشادة بجهود الأنبا يونس وعمله الإنساني وشعوره الأبوي تفيض رسالة الإمام بالأسى والنقمة على الصهاينة الذين صبوا عدوانهم على أهلِ فلسطين “فخربَتْ ديارُهم وعُطِّلت مصالحهم وقُضي على مواردِ رزقهم”، ويُحاول اليهود بعملهم هذا أن يستولوا على بيتِ المقدس وعلى غيره من الأماكن المقدسة التي أجمع المسلمون والمسيحيون على تقديسها وإكبارها والذود عنها.

وفي بعض الرسائل تعلو نبرة الغضب فتكتسي ثوب التهديد، كما نرى في رسالة المرشد الشهيد إلى السفير البريطاني في 2 من نوفمبر عام 1937م فيقول: “إنَّ الإخوان مضطرون إلى أن يُسجلوا احتجاجهم الصارخ على هذه السياسة الجائرة..”، وتبلغ هذه النبرة القومية أعلى درجاتها حين يقول الإمام ضمن ختام الرسالة: “لا بد من الانفجار يومًا للشعور المكبوت..”.

وتتوهج عاطفة الغضب ممزوجة بالحزن والأسى في رسالةِ التصوير المأساوي الواقعي لمجتمعنا، تلك الرسالة التي وجهها الإمام الشهيد إلى الملك فاروق ، وقد انعكست هذه الرسالة في جملٍ قصيرةٍ حادة جاءت كأنها أحكام إدانة حاسمة للحكام والمسئولين الكبار عن المجتمعِ المصري: “حدود الله معطلة.. أحكامه مهملة.. بُؤر الخمر ودور الفجور، وصالات الرقص ومظاهر المجون تغْشى كلَّ مكان”.

ثم تنتهي الرسالة بهذا الأمر القارع الصاخِّ: “قُلْها كلمةً مُنَفَّذةً وأصدرْهُ أمرًا ملكيًّا ألا يكون في مصر المسلمة إلا ما يتفق مع الإسلام”.

وفي فلك هذا الشعور تدور الرسالة الثانية الموجهة إلى صدقي باشا- رئيس الحكومة- في 8 من أكتوبر سنة 1946 م بعد أن غدر بالشعب ومالأَ المستعمر ولم يَفِ بما وعد.

ويتضح هذا الشعور الدافق الغاضب في مثل العبارات الآتية:

“... ولكنَّ حكومة دولتكم أصرَّتْ إصرارًا عجيبًا على موقفها الضعيف المتخاذل، وأخذت تكبت شعور الهيئات والجماعات والأفراد وتُصادر الحريات..”.

“... قد تضامَنْتم بقصدٍ أو بغير قصدٍ مع الغاصبين في الاعتداءِ على استقلال الوطن وحريته..”.

“... وعليكم أن تَدَعُوا أعباءَ الحكمِ لِمَن هو أقدر منكم على سلوكِ المنهج القويم”.

عاطفة الأبوة في الوصية الأخيرة

وكان آخر ما كتب الإمام الشهيد بإطلاق أو على الأقل آخر ما كتب من الرسائل رسالته التي وجهها إلى الإخوان جميعًا بصفتهم لا بأسمائهم وهي رسالة تتدفق بشعورِ الأب الذي ابتعد عن الدنيا واقترب من الرفيق إلا على فعانقته أيام الاحتضار أو ساعاته، ولكن لم تأخذه سكرة أو ذهول، بل غمرته موجات من الإيمان والثقة والطمأنينة ففاضت مشاعر الأبوة الحانية التي تجيش في نفسه بالتعبير عن حبه وتقديره لهم وثقته في عزيمتهم وقدرتهم، فهو لا يُحدثهم- وهم جميعًا أبناؤه- إلا بالإخوة الفضلاء:

“أيها الإخوة الفضلاء.. أتقدم إليكم جميعًا مهنئًا بما كَتَبَ الله لكم من توفيقٍ، وما أجراه الله على أيديكم من خيرٍ، وما اختصكم به من ثباتٍ على كلمةِ الحقِّ..”.

“.. فاذكروا- أيها الإخوان - أنكم الكتيبة المؤمنة التي انتهى إليها في هذا العصر المادي المظلم بالشهواتِ والأهواء والمطامع واجب الدفاع عن كلماتِ الله ورسالته..”

إنها وصية مودِّع؛ لذا جاءت زاخرةٌ بأنبلِ التوجيهات: “... فإنَّ عليكم أنتم... أن تتداركوا ما فات، وأن تُصلحوا ما أفسد الباشوات والخواجات.. ومهزوم مَن يحارب الله ويغالب القدر...”.

“.... أصلحوا سرائركم- أحسنوا أعمالكم- استقيموا على أمر الله، استعدوا للبذل والعطاء والجهاد بالنفس والمال، اعملوا لوجه الله مخلصين له الدين... “.

ويختم وصيته بأن يجعل الإخوان شعارهم النظافة:

“النظافة في الضمير والتفكير، وفي اللسان وفي السير، وفي الثوب وفي البدن، وفي المطعم والمشرب، والمظهر والمسكن، والتعامل والمسلك، والقول والعمل، وإن مما أوصى به الرسول- عليه الصلاة والسلام- أمته: “تنظفوا حتى تكونوا كالشامةِ بين الأمم”.

بين العقل والعاطفة

ونخلص مما عرضنا من مشاعر الإمام في رسائله حتى وهي في حالةِ التوهج:

1- أنها لم يكن وراءها- رضاء وغضبًا- مثيرٌ شخصي أو مصلحة خاصة، بل كان الرضا والغضب والحب والبغض لله والأمة والوطن ومصلحة الدعوة.

2- أنها- في أي حالٍ من الحالاتِ- لم تدفع الإمام البنا إلى قولِ الفحش والبذاء، فتعفف لسانه عن مجاراةِ أعدائه وأعداء دعوته في طريقتهم الفاحشة في حملاتهم، وخصوصًا صحيفة (صوت الأمة) لسان حال الوفد.

3- أنها لم تُفقد الإمام أثارةً من وقاره العقلي، وقدرته على مناقشةِ الأمور وإقناع الآخرين. فكثيرًا ما كان يُخاطب في الآخرين عقولهم وعواطفهم؛ حرصًا على الإقناعِ والاستمالة وكثيرًا ما يتلبس الفكر بالعاطفة، فيأتي الكلام مخاطبًا العقل والشعور في آنٍ واحدٍ ويتحقق الهدف من الرسالةِ إذا تنوعت العبارات ما بين خبرٍ وإنشاءٍ وحقيقةٍ ومجازٍ، وهذا الامتزاج يخفف ولا شكَّ من جفافِ الحقائق المسوقة كما يجعل الشعور أكثر ارتباطًا، كما ترى في العبارةِ التالية من رسالةِ الإمام البنا إلى النحاس باشا بعد أن أبدى إعجابه المفرط- في تصريح له- بمصطفى كمال أتاتورك:

“.... ولقد أخذ الكثيرون ممن طالعوا هذا التصريح يتساءلون: هل يُفهم من هذا أن دولة النحاس باشا- وهو الزعيم المسلم الرشيد- يُوافق على أن يكون لأمته بعد الانتهاء من القضيةِ السياسية برنامج كالبرنامج الكمالي يتولى كل الأوضاع فيها ويفصلها عن الشرق والشرقيين، ويسقط من يدها لواء الزعامة وإنا نعيذ دولة الرئيس من هذا المقصد الذي نعتقد أنه أبعد الناس عنه”.

القدرة التصويرية..

هذا النوع من الرسائل العامة الموجهة وما يشبهها تجنح إلى استخدام الأسلوب المباشر في عرضِ القضايا وتشخيص الأدواء، وتقديم الحلول، ومن ثَمَّ يقل في هذه الرسائل الجانب التصويري الخيالي.. بيْد أن توهج الشعور الديني والوطني كان يُملي على الإمام في بعض جوانب الرسالة ألوانًا من البيان والتصوير الجزئي من تشبيهٍ واستعارةٍ وكنايةٍ، وتوظيف ألفاظ آسرة قويةِ الإيحاء.. كما ترى في الفقرة التالية من رسالته إلى رئيس الحكومة مصطفى النحاس الذي صرَّح بإعجابه المفرط بمصطفى كمال أتاتورك:

“.... يا دولة الرئيس: مصر الحديثة المجيدة تجتاز دورًا من أخطرِ الأدوار على حياتها المستقبلة، إنها تجتاز دور الانتقال، والأهواء والفتن والغايات والشهوات تتجارى بالناس كما يتجارى الكلب بصاحبه، والشكوى صارخة مريرة من انحدار الأخلاق، وتدمير الفضائل”.

ومن رسالته إلى الإخوان ، وهي آخر وصاياه المكتوبة إليهم: “.... اذكروا أيها الإخوان أنكم الكتيبة المؤمنة التي انتهى إليها فى هذا العصر المادي المظلم بالشهوات والأهواء والمطامع واجب الدفاع عن كلمات الله ورسالاته.. ودعوة الإنسانية التائهة في بيداء الحيرة إلى الصراط المستقيم.. وفي أيديكم أنتم قارورة الدواء، من وحي السماء، فمن الواجب علينا أن نعلن هذه الحقيقة في وضوح..”.

وهذا التصوير البياني في المثالين المذكورين آنفًا يُمثل خيالاً قريبًا جدًّا من الواقع، فلا يبتعد- على براعته- عن الأسلوب الواقعي كثيرًا فهو يصدر عن صاحبه في عفوية بعيدًا عن الافتعال والتكلف.

الأداء التعبيري

ويتسم أسلوب الرسائل بالسهولة والوضوح، وهي سمة يتميز بها أسلوب الإمام الشهيد في كل ما كَتَبَ، وكذلك خطبه ومحاضراته، فلا غريبَ ولا مهجورَ من الكلمات، ويستطيع العلم العادي أن يفهمه في سهولةٍ ويسر، ولكنه على سهولته ووضوحه لا تجد فيه لفظة مبتذلة أو معنى مستهجنًا.

وإذا كان الوضوح هو السمة المعنوية للأسلوب فإنَّ الترسلَ هو الصفة الشكلية العامة للأداء التعبيري، فهو يصدرُ من القلبِ إلى القلم مباشرةً، دون مرورٍ بمحطة التزيين اللفظي، والتنميق التعبيري، فنادرًا ما نجد للسجع مكانًا في هذه الرسائل.من هذا القليل النادر ما جاء في رسالة الإمام البنا للسفير البريطاني:

“.. هذه السياسة الجائرة، راجين أن تعدل عنها الحكومةُ البريطانية، فتطلق سراح المسجونين وتُعيدُ الزعماء المنفيين وتؤمن الأبرياء المشردين..”.

ومثال آخر: ما جاءَ في رسالة الإمام البنا للملك فاروق سنة 1358 متحدثًا عن سقوط الأوضاع الاجتماعية، والأخلاقية في مصر: “بؤر الخمور، ودور الفجور.. تفشى الناس في كل مكان.. الصور السافرة التي لا تتفق مع آدابِ الإسلام، وما فرضه الله على المرأةِ من التسترِ والاحتشام..”.

وقد يكون مع السجعِ ازدواجٌ مع حُسنِ تقسيم الجمل، كقوله في الرسالة نفسها: “تظهر في كبريات الصحف وصغرياتها، وتصبح ملهاة العيون الحائرة، والقلوب الفاجرة، وتتناول أعرق الأسر، وأكبر البيوت، وأطهر الأعراض..”.

الترسل، والجمل الطويلة

ولكنَّ السجع والمحسنات البديعية قليلة بل نادرة في أسلوبِ الرسائل، فهو أسلوب مرسل- كما ذكرنا- لا تُقيده دواعي الصنعة والتنميق التعبيري، وبالنظرِ إلى الجمل نجد الإمام البنا يغلب في تعبيره الجمل الطويلة؛ لأنها أقدر من الجملِ الموجزة القصيرة على حمْل المعنى، والتعبير عن المراد.

ومن ناحيةٍ أخرى تبقى هذه الجمل الطويلة أكثر وضوحًا وأسهل تناولاً من الجمل القصيرة المكثفة المقطرة التي قد تحتمل التأويل، ويخرج بها المتلقي عن مسارها الطبيعي.

ومن أمثلة الجمل الطويلة من رسالةِ الإمام إلى علي ماهر رئيس الحكومة سنة 1939 م: “... وأنتم في هذه الظروفِ أحوج ما تكونون إلى أن تكون الأمة جميعًا إلى جانبكم، تستمدون منها القوة في الرأي والتأييد في مواقف العنت.. ولقد وقف الإخوان المسلمون من كل وزارة سابقة- ومنها وزارتكم الماضية- موقف الحياد التام، ولم يتقدموا إلى واحدةٍ منها بالمساعدة، كما أنهم لم ولن يطلبوا، ولم ولن يتقبلوا من واحدةٍ منها مساعدة....”.

وإذا كانت الجملة في الفقرة السابقة لا تتجاوز السطر وبعض السطر، فإنَّ الإمام البنا قد يطول نفسه في الجملة الواحدة حتى تبلغ عدة أسطر، كما ترى في الجملة الآتية من الرسالة السابقة: “والإخوان المسلمون - وهم يرون في المعاهدة المصرية الإنجليزية إجحافًا كبيرًا بحقوقِ مصر واستقلالها الكامل- يُريدون من حكومةِ مصر ألا تتجاوز الحدود المرسومة- على ما فيها من إجحافٍ- بأيةِ حال”.

فالجملة طويلة يبتعد خبرها (يريدون) عن مبتدئها (الإخوان ) بقرابةِ سطرين، وقد يكون التباعد أوسع كما نرى بين الشرط (إذا جليتم) وجواب الشرط (كان ذلك سببًا)، وذلك في الجملةِ الآتية من رسالةِ الإمام لعلي ماهر رئيس الحكومة:

“.... ونعتقد كذلك أنكم إذا جليتم للساسة البريطانيين حقيقة شعور الشعب المصري، وهو بلا شك صورة من شعور غيره من الشعوب الإسلامية، وأقنعتموهم بأن بريطانيا حين تفعل هذا تظفر إلى أبعد حدٍّ بالتأييد القلبي والعملي من الشعوبِ الإسلامية والعربية كلها، وتسد الباب على الطاعنين عليها، وتقدم بذلك دليلاً على أنها تُقدِّر العدالةَ والإنصاف- كان ذلك سببًا للعمل من جديدٍ على إنصافِ فلسطين الباسلة...”.

فالجملة الأم- في المثالين السابقين- في سبيل استيفاء المعنى- تضم بين دفتيها جملاً أُخرى تابعة كالجمل الاعتراضية والجمل الاحتراسية.

التكرار المعنوي..

ومن لوازم هذه السمة الأسلوبية، ومظاهر الإطناب في أغلب هذه الرسائل الإكثار من الترادف والتكرار المعنوي والإلحاح على الفكرةِ الواحدة بأساليب متعددة متساوية فى المعنى أو متقاربة فيه. والهدف من ذلك ترسيب الفكرة في نفس القارئ وتأكيدها في نظره، وحتى لا يكون هناك وجه للتأويل، وإخراج المعن عن مساره المقصود.

والأمثلة أكثر من أن تُحصى نكتفي منها بجملٍ من رسالةِ الإمام للملك فؤاد سنة 1352 بسبب ظهور شرور التبشير في مصر:

“... راجين حماية شعبكم المخلص الأمين من عدوان المبشرين الصارخ على عقائده وأبنائه وفلذات كبده.. وقد جعلكم الله تبارك وتعالى حماة دينه، والقائمين بحراسة شريعته، والذائدين عن حياض سنة نبيه...”.

وتأتي الجمل المتساوية، والجمل القصيرة في المرتبةِ الثانية بعد الجمل الطويلة، والرسالة الواحدة تجمع هذه الأنواع الثلاثة بالترتيب الكمي المذكور.. كما نرى رسالة المرشد إلى صدقي باشا في 8 من أكتوبر 1946 م”... ولكن المفاوضة طالت حتى أسامتْ وأملَّتْ، فتوقف، واسُتؤنِفتْ، ثم انقطعتْ، وُوِصلتْ، ثم يتجنى علينا المفاوضون الإنجليز، فهزوا أكتافهم، وجمعوا أوراقهم، وانصرفوا عنَّا إلى بلادهم، هازئين ساخرين”، وكذلك في ختام رسالته إلى النقراشي باشا في الأول من مايو سنة 1947 م: “يا دولة الباشا- لقد تقدمتُ لدولتك بمثل هذه النصيحة منذ عام مضى، وهأنذا أتقدم بها اليوم، وأعتقد أني بذلك قد أبرأتُ ذمتي، وأديتُ أمانتي، والوقتُ من ذهب، فسر على بركةِ الله، والله معك، ولا تتردد..”.

من روضة القرآن والسنة..

ويستطيع القارئ أن يُدرك في سهولةٍ بعد العرضِ الذي قدمناه لرسائل الإمام البنا أنه يؤيد أفكاره بالشواهد المتعددة من أوعية الأحداث التاريخية، والسياسية والاجتماعية القريبة والبعيدة، مما ينم على سعة اطلاعه.

ولكن أغلب شواهد الإمام شواهد نصيَّة من القرآنِ الكريمِ والسنة النبوية، ونلمس ذلك بوضوح في رسالة “نحو النور”، فالشواهد القرآنية فيها قرابة أربعين آية، وما لا يقل عن عشرة أحاديث، وقد جاءت كلها في مواضعها من السياق لتأكيد عظمة التشريع الإسلامي في مجالاتِ السياسة والحكم والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والدولية.

أما شواهد التراث العربي القديم- من حكمٍ وأمثالٍ وشعر، فلا يُوظفها الإمام البنا إلا نادرًا على سبيل التلميح، كما نرى في ختام رسالة المرشد إلى رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي في 1/5/1947 م: “وأقدم، ولا تتردد، فتفلت الفرصة السانحة، ونعود من جديد إلى التجارب القاسية، ونستبين النصح ضحى الغد..”

فالجملة الأخيرة تلميح إلى قول الشاعر دريد بن الصمة:

أمْرتهُمُ أَمْرِي بمنْعَرجِ اللوى

فلم يَسْتبيُنوا النصْحَ إلا ضُحَى الغَدِ

منهج الرسالة وبناؤها

وكل رسالة من هذه الرسائل تمثل وحدة بنائية موضوعية متماسكة الجوانب والعناصر بحيث يؤدي كل جزء إلى ما يليه في نسق طبيعي دون افتعال:

يستهل الإمام الرسالة بالبسملة والحمد والصلاة والتسليم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم تحية المرسل إليه بالسلام، وبعض عبارات التبجيل والتوقير للمرسل إليه أو الدعاء له، وكل ذلك في إيجاز ووضوح.

وبعد هذا التقديم الذي يُهيئ نفس المتلقي يَرِدُ صلب الموضوع الذي يُمثل أطول أجزاء الرسالة وأهمها، حيث يعرض المطلوب في إسهاب مقبول وحجة ظاهرة، مع تدعيم كل مطلوب بما يعلله ويقويه من براهين وشواهد، فإذا ما طالت الرسالة وتعددت المطلوبات جاءت منسقة مرقمة في أرقامٍ محددةٍ في السياق المتتابع، حتى لا يتيه بعضها في تتابع هذا السياق.

وتختم الرسالة- غالبًا- بالاستنهاض والحث- في أدبٍ- على تحقيقِ المطلوب والمأمول، ثم الدعاء للمتلقى، كما نرى في ختام رسالة الإمام الشهيد لعلي ماهر في 20 من شعبان 1358م: “اعملوا على هذا يا رفعة الرئيس، وجاهدوا في سبيله، فهو خير ما تستقبلون به هذه المواسم الفاضلة، وتتقربون به إلى الله.. هذا يا صاحب الرفعة بعض ما أردنا أن نتقدم إليكم به في هذا الوقت العصيب.. والله نسأل أن يتدارك العالم برحمته، وأن يتولى مصر الناهضة بالخير، والتوفيق.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.

إنَّ الطوابعَ والملامح الفنية والأدبية لرسائل الإمام الشهيد تحتاج إلى مبحثٍ مستقلٍ على نحو أوفى وأشمل لا يتسع له المقام، ولعل الأقرب إلى الموضوعية والمنهجية العلمية أن تكون مادة هذه الدراسة الفنية كل إبداعات حسن البنا وعطاءاته الفكرية من رسائل وخطب ومحاضرات عن الكثير المأمول المنشود، تطلعًا إلى دراسة كاملة عن “أدبيات الإمام الشهيد”.

وعودًا على بدء، نذكر القارئ بأن وقفتنا الأولى كانت مع كتاب الإمام الشهيد حسن البنامذكرات الدعوة والداعية”، وكانت وقفة لم تطل، وكانت وقفتنا الثانية مع الرسائل العامة للإمام الشهيد رحمه الله.

وها نحن أولاء نحاول أن نكتشف في الصفحات الآتية موقف الإمام الشهيد من الشعب، وطبيعة العلاقة التي تربطهم به.


حسن البنا والشعر والشعراء

اتَخذت جماعة الإخوان المسلمين - من أول نشأتها- الخطابة أهم الآليات في نشر الدعوة والدفاع عنها، يستوي في ذلك الخطب الجماهيرية العامة، والمحاضرات الدعوية والأكاديمية، والحوار، والمناقشة والمجادلة.

واختيار هذه الآلية إنما هو إتباع لمنهج النبى (ص) واستصحاب لهذا الأصل الكريم من ناحية، واعتراف بالواقع الاجتماعي والسياسي والديني بالنسبة لمصلحة الدعوة من ناحية أخرى، وهو واقع يتأثر بالكلمةِ المسموعة، أكثر من الكلمة المكتوبة، ولأمر ما كان فعل الأمر “قلْ” هو أكثر الأفعال ورودًا في القرآن الكريم.

كما أنَّ الخطابةَ أيسر تناولاً واستخدامًا من الشعر، فهي تنطلق بلا قيودٍ صارمة، وضوابط حادة من وزنٍ وقافية.

وفي حقل الدعوة الإخوانية آلاف الخطباء من العلماء والطلاب والأكاديميين، وكثيرًا منهم تمرسوا بالخطابة وتدربوا عليها من أيام أن كانوا في حقل الدعوة أشبالاً، وكذلك منخرطين في الأسر. على أن رائد الدعوة الإمام الشهيد حسن البنا المرشد الإول للإخوان لم يكن شاعرًا، وكان له بعض المحاولات الشعرية وعمره ثلاثة عشر عامًا سنة (1919 )، وهو تلميذ في مدرسة المعلمين، يقول عنها في مذكراته: “ولا زلتُ أذكر يوم دخل علينا أستاذنا الشيخ محمد خلف نوح، والدموع تترقرق في عينيه، فسألناه الخبر، فقال: مات اليوم “فريد بك” وأخذ يحدثنا عن سيرته، وكفاحه وجهاده في سبيل الوطن حتى أبكانا جميعًا، وأوحت إليَّ هذه الذكرى ببضعة أبياتٍ لا زلتُ أحفظ مطلعها، وشطرًا آخر:

أفريدُ نم بالأمن والإيمان

أفريدُ لا تجزع على الأوطان

أفريد تفديك البلاد بأسْرها

كما نظَّم التلميذ حسن البنا حول “لجنة ملنر” التي قاطعها المصريون قصيدةً طويلةً، لا يذكر منها إلا البيتين التاليين:

يا ملنر ارجعْ ثم سلْ وفدًا بباريسٍ أقام

وارجع لقومك قُلْ لهم لا تخدعوهم يا لئام

ولم يُعرف عن حسن البنا أنه نظَّم شعرًا بعدها: لا في سني الطلب، ولا بعد أن تخرج في دار العلوم، ولكنه كان يحب الشعر، ويملك ذائقة رفيعة دفعته إلى أن يستشهد بأبيات من الشعر- وخصوصًا القديم- في كثيرٍ من المواقف والمناسبات، مما يدل على سعة اطلاعه، وحضور بديهته، وقوة حافظته من سنوات دراسته الإعدادية، ومن ذلك ما جاء في مذكراته: “ومن الطرائف أنَّ بعضَ المفتشين زارنا في حصةٍ من حصصِ اللغة العربية بالسنة الثالثة الإعدادية ولم أكن أحفظ حين ذاك “مُلْحة الإعراب” للحريرى، فسأل عن علامة الاسم، وعلامة الفعل في القواعد، ثم سأل عن علامة الحرف، فانتدبني الأستاذ للإجابة، فكان الجواب بيتًا من” المُلحة” وهو قول الحريرى:

والحرفُ ما ليس له علامَهْ

فقسْ على قولي تكنْ علاَّمَهْ

فابتسم الرجل (المفتش)، وقال: حاضر يا سيدي، سأقيس على قولك لأكون علاَّمة”، وشكر الأستاذ وانصرف. وكان معجبًا بأستاذه الشاعر البدوي محمد عبد المطلب، ويشيد بعلمه الفياض، وقدرته النقدية إذا كان أول لقائه به الحصة الأولى يوم افتتاح الدراسة “بدار العلوم” وهو يلقي بحماسة بيتين كتبهما على السبورة، وهما لعبيد بن الأبرص، ونصهما:

لنا دارٌ ورثنا مجدَها الـ

أقدمَ القدموسَ عن عمٍّ وخالِ

منزل منه آباؤنا الـ

ـمورثونا المجدَ في أولى الليالى

وطلب من الطلاب إعرابهما، واستطرد إلى ذكر أنواع الأسلحة وخصوصًا السهام، من مريش وغير مريش، واستشهد بقول الشاعر:

رمتْني بسهمٍ ريشه الكحل لم يُضِرْ

ظواهر جلْدي وهْو للقلب جارحُ

ويورد في كتاباته من الشواهد الشعرية ما يدلُّ على حبِّ الوطن والاعتزاز به، فظل عالقًا بحافظته ما كانت الجماهير تردده- في قوةٍ وحماسة- من أناشيد في ثورة 1919 م، وكان هو في الثالثة عشرة من عمره ومنها: حب الأوطان من الإيمان

وروح الله تنادينا

إنْ لم يجمعنا الاستقلال

ففي الفردوسِ تلاقينا

ويردّ هذا الشعور النبيل إلى أصلٍ تُراثي إسلامي: “فحب المدينة لم يمنع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة- من أن يحنَّ إلى مكةَ، وأن يقول لأصيل- أحد الصحابة- وقد أخذ يصفها-: “يا أصيل، دع القلوب تقرُّ”، وأن يجعل بلالاً يهتف من قرارة نفسه:

ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً

بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ

وهلَ أردنْ يومًا مياه مجنةٍ

وهل يبدوْن لي شامة وطفيل

ولكن يأتي الإسلام في المرتبة الأولى قبل الوطن، وإن شئت فقل إن الإسلام وطن وقومية وجنسية، ومن هذا المعتقد يولد الاعتزاز بالدين والتمسك به تمسك اعتزاز وعمل، ويوظف الإمام الشهيد من الشواهد الشعرية ما يؤيد ذلك ويدعو اليه.. “.. فقد فضل السلف الصالح أن يرفعوا نسبتهم إلى الله تبارك وتعالى، ويجعلوا أساس صلاتهم، ومحور أعمالهم تحقيق لهذه النسبة الشريفة، فينادي أحدهم صاحبه:

لا تدْعني إلا بيا عبدَها

فإنه أشرفُ أسمائي

فى حين يجيب الآخر من سأله عن أبيه أتميمي هو أم قيسي؟

أبي الإسلام لا أبَ لي سواهُ

إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم

والظلم ظلمات، والرضاء بالظلم والتسليم له جريمة لا تقل بشاعة عن جنايةِ الظالم، ويستشهد الإمام بهذا البيت القديم:

نفلِّق هامًا من رجالٍ أعزةٍ

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فإذا عجز المظلوم عن دفع الظلم، فعليه أن يُهاجر إلى حيث يجد العدل والأمن في كرامة وعزة نفس، وفي ذلك يقول الشاعر القديم:

إذا أكرتْني بلدةٌ أو نكرتُها

خرجتُ مع البازي عليَّ سوادُ

ويرى الإمام الشهيد أنَّ المرأة يجب أن تُهذَّب وتعد وتُهيأ لتكون زوجةً وأُمًّا قبل كل شيء، ويسوق وصية أبي العلاء المعري في هذا المقام:

علموهنَّ الغزلَ والنسج والرُّدْ

ن وخلوا كتابة وقراءةْ

فصلاة الفتاة بالحمدِ والإخلا

صِ تُجزي عن يوسف وبراءةْ

ويُعلِّق الإمامُ على هذين البيتين بقوله: “ونحن لا نريد أن نقفَ عن هذا الحدِّ ولا نريد ما يريد أولئك المغالون المفرطون في تحميلِ المرأة ما لا حاجةَ لها بها من أنواع الدراسات، ولكنا نقول علموا المرأة ما هي في حاجةٍ إليها بحكمِ مهمتها، ووظيفتها التي خلقها الله لها: تدبير المنزل، ورعاية الطفل”.

فالحد المعقول في شأنِ المراة هو حد الوسط- بلا تفريطٍ أو إفراط- أو هو- بتعبيرٍ آخر- ترتيب أولويات.

ويُكثر الإمام الشهيد من شواهد الشعر القديم والحديث ما يستبطن أخلاق الناس وطباعهم ومنها:

- لعمرك ما ضاقتْ بلادٌ بأهلها

ولكنَّ أخلاقَ الرجالِ تضيقُ

- وشافِي الناس من نزعاتِ شر

كشافٍ من طبائعها الذئابا

- وزهَّدني في الناس معرفتي بهم

وطول اختباري صاحبًا بعد صاحب

- فلم تُرني الأيامُ خلاًّ تسرني

مباديه إلا ساءني في العواقبِ

من فضول القول أن ننبه إلى أنَّ الإمامَ المرشد لم يرد هذه الشواهد مجردة ولكن ساقها مرتبطة بوقائع ومناسبات ومواقف، فجاءت في السياق متوافقة دون تعمُّل أو تعسُّف وتكلُّف، وذلك لتأكيد المضمون وتقويته والإقناع به، وقد تضيف إلى المضمون أفكارًا جديدة لم ترد في السياق، وتبقى دلالتها الذاتية واضحة، وهي قوة حافظة الإمام الشهيد، وسعة اطلاعه، وحضور بديهته وحماسته لموضوعاته، واعتزازه بالتراث الأدبي.

وإذا كان الإمام الشهيد لم يكتب له أن يكون شاعرًا فإنَّ كثيرًا من نثره حظى بقدرٍ كبيرٍ من (الشعرية) مثل جمال التصوير، وقوة الإيحاء، وبراعة الخيال والإيقاع الموسيقي مع توهج العاطفة، وتدفق الشعور، ومنه ما لا يحتاج إلا للوزن والقافية حتى يصدق عليه وصف الشعر ونجتزئ بالأمثلة التالية:

1- من رسالةٍ إلى الشبابِ (وإلى الطلبة خاصة):

“يا شباب: لقد آمنا إيمانًا لا جدالَ فيه ولا شكَّ معه واعتقدنا عقيدةً أثبت من الرواسي، وأعمق من خفايا الضمائر، بأنه ليس هناك إلا فكرة واحدة هي التي تنقذ الدنيا المعذبة، وترشد الإنسانية الحائرة وتهدي الناس سواء السبيل.. هذه الفكرة هي الإسلام الحنيف الذي لا عوجَ فيه ولا شرَّ معه ولا ضلال لمَن اتبعه..”.

2 - من رسالة “الإخوان المسلمون تحت راية القرآن”:

أيها الإخوان المسلمون .. أيها الناس أجمعون: في هذا الصخب الداوي من صدى الحوادث الكثيرة المريرة، التي تلدها الليالي الحبالى في هذا الزمان، وفي هذا التيار المتدفق الفياض من الدعوات التي تهتف بها أرجاء الكون، وتسرى بها أمواج الأثير في أنحاء المعمورة، مجهزة بكل ما يغري ويخدع من الآمال والوعود والمظاهر: نتقدم بدعوتنا- نحن الإخوان المسلمين - هادئة ولكن أقوى من الزوابع العاصفة، متواضعة لكنها أعز من الشم الرواسي، محدودة ولكنها أوسع من حدودِ هذه الأقطار الأرضية جميعًا، خالية من المظاهر الزائفة، والبهرج الكاذب، ولكنها محفوفة بجلال الحقِّ، وروعة الوحي ورعاية الله.

3- من رسالته إلى الملك فاروق عن الفساد والسقوط:

“يا صاحب الجلالة: حدود الله معطلة لا تُقام، وأحكامه مهملة لا يُعمَل بها في بلدٍ ينص دستوره على أن دينه هو الإسلام.. بؤر الخمور ودور الفجور وصالات الرقص ومظاهر المجون: تغشى الناس في كل مكان.. أندية السباق والقمار تستنفد الأوقات والأموال ويعمرها كبار القوم، ويتردد عليها ثراة الأمة حتى أصبحت أندية الموظفين في العواصم والحواضر عنوان الفساد، ومتلفة الأخلاق في البلاد..”.

وقدَّم الإمام الشهيد في بدايات عمله الوظيفي ديوان “صريع الغواني: مسلم بن الوليد” تحت عنوان الغلاف “نقحه، وصححه، وعلَّق عليه الأستاذ الجليل حسن أفندي أحمد حسن أفندي أحمد البنا المدرس بالمدارس الأميرية”. فكان مجهود الإمام البنا محصورًا في التنقيح والتصحيح، والتعليق، مع معارضته على النسخةِ المطبوعة في الهند في مدينة بمبيء سنة 1303 (وهي أصح من النسخة المطبوعة في لندن).

ومنهج الإمام الشهيد في التعامل مع هذا الديوان يتلخص فيما يلي:

1- تصديره بترجمة للشاعر ملخصة من كتاب الأغاني.

2- ترتيب القصائد ترتيبًا مرسلاً، لا على أساس حرف الروي، ولا أساس الغرض الشعرى، مع ذكر بحر كل قصيدة.

3- الإيجاز الشديد جدًّا في الشرح، والتعليق على القصائد.

والشرح لا يتعدى- غالبًا- الشرح اللغوي للكلمات، فالديوان لا يخضع “للتحقيق” بالمفهوم العلمي المنهجي.

4 - يُفهم من كلام الإمام البنا أنه حذف قدرًا كبيرًا من أخبارِ الشاعر وشعره، أو على حدِّ قوله: “ولصريع الغواني أشعار رقيقة، وأخبار كثيرة لطيفة، أضربنا عن ذكرها خوف الإطالة”.

ولكن تبقى فضيلة هذا الديوان أنه يشد القرَّاء، وخصوصًا الناشئة، والشباب إلى لونٍ من الشعر الجيد الراقي مما يرقى بذوقهم الأدبي وينمي حاستهم الجمالية.

وهذا العمل الأدبي النقدي من الإمام البنا يدلُّ على حبه للشعر واهتمامه به مع أنه لم يُرزق موهبة نظمه.

وبعد ذلك يمكن تلخيص العلائق النفسية، والفنية التي تربط الإمام البنا بالشعر فيما يأتي:

1- محاولاته التي مكنته من نظمِ أبيات قلائل من الشعر سرعان ما توقفت لأنه لم يُقدَّر له أن يكون شاعرًا.

2- إقباله على الشعر- القديم بخاصة- فهمًا وحفظًا.

3- إعجابه الشديد بأساتذته الشعراء، من أمثال الشاعر البدوي محمد عبد المطلب.

4- توظيفه الشواهد الشعرية، وخصوصًا القديمة في كتبه ورسائله وخطبه.

5- تميز كثير من نثره بغير قليلٍ من الملامح الشعرية تعبيرًا وتصويرًا وعاطفة.

6 - تقديمه ونشره ديوان “صريع الغواني” بعد تنقيحه وشرحه والتعليق عليه.

وكل هذه المظاهر تدفع الإمام البنا إلى توظيف الشعر كآليةٍ من آلياتِ الدعوة، ولو آلية مساعدة تفسح المجال للآلية الأولى وهي الخطابة، وإن كان لتلاميذه الدعاة في الشعر باع طويل، ومكان فسيح رحيب.


الإمام الشهيد مع الشعر والشعراء

من الجوانب التي ثار التساؤل حولها في الفترة الأخيرة نظرة الإخوان المسلمين للإبداع في شتى مجالاته، وتصورهم للأدب والفن والثقافة وسائر الفنون والآداب، وفي هذا المقال نُلقي الضوءَ على نظرة الإمام المؤسس حسن البنا للشعر والشعراء، وموقفه من الإبداع الأدبي.

مهمة الشاعر في رأي الإمام الشهيد

في تقديمه لديوان “حكمة الرجز” للشاعر محمد خليل الخطيب، وضَّح الإمام الشهيد تصوُّرَه لمهمة الشاعر ودوره في الحياة والمجتمع، وخلاصتُه أن الشعر رسالةٌ، وأن للشاعر دورًا إيجابيًّا في مجتمعه وأمته يضعه في مقام الهداية والقيادة والريادة، فقال:

“إن الشاعر في الأمة مصوِّرٌ ماهرٌ، يصوِّر عواطفَها وآمالها، ويرسم مكنونات ضمائرها ونفوسها، وقلبٌ نابضٌ بأفراحها، وأحزانها، يخفق لها خفقة الفرح والسرور إن أصابت مغنمًا أو لقيت خيرًا، ويتأوَّه آهةَ الحزين إن مسَّها الضرُّ أو نابها شرٌّ، يصوِّر ذلك في أبيات رشيقة تحمل رسالته إلى أمته بلغة الشعر والقصيدة، وهو مع هذا هادٍ يدل أمتَه على طريق النجاح، ويحذرها التردي في مهاوي الفساد، ويخلع على الفضيلة أجمل حلة تلفت إليها النفوس وتستهوي الأنظار، ويضع الرذيلة في صورة بشعة مروِّعة، لو اطلَعَت عليها الأمة لولَّت منها فرارًا ولمُلِئت منها رعبًا.. ذلك هو الشاعر في ثوب العاطفة والحس، وهذا هو الشاعر في ثوب الوعظ والتذكير، وهو في كليهما يقوم بأجل الخدمات للإنسانية البائسة الغافلة”.

وفي مقدمةٍ وضَعَها لديوان (من وحي الدعوة الإسلامية) لشاعر الإخوان إبراهيم عبد الفتاح قال فضيلته: “مِن قبل أيَّد اللهُ هذه الدعوة بألسُن المقال، من مصاف الخطباء وفحول الشعراء، من كل واضح الحجة، ناصح البيان، صادق اللهجة، ذرب اللسان:

تزين معانيه ألفاظه

وألفاظه زائنات بالمعاني

سمعنا أسماء: حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير -رضي الله عنهم أجمعين-، ممن كانوا ينافحون عن دعوة الله ونبيه بالقول الفصل والمنطق الجزل، يؤيدهم روح القدس، ويمدُّهم الله في الشعر والحكمة ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوْتِيَ خَيْرًا كَثِيْرًا﴾ (البقرة: 269).

ولا زالت هذه الدعوة الربانية الكريمة تجد- في كل عصر من العلماء والعاملين والخطباء والقائلين والشعراء والمجاهدين- مَن يجلو على الناس أنوارها، ويطلع في سماء البيان شموسها، وأقمارها، ويراهن على ما فيها للإنسانية من خير وبرّ وسعادة ومحبة وجمال وجلال، وفضل وكمال.. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ﴾ (الأنبياء: 107).

وحين برزت دعوة الإخوان المسلمين لتستمد من الدعوة الأولى وتسير في أثرها وتمشي في ركاب الداعية الأول أفضل خلق الله على الإطلاق سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.. أيَّدها الله بنخبة من القلوب الخافقة بحبها والإيمان العميق بها ومجموعة من الألسن الصادقة في الإبانة عنها والتعبير عن أهدافها وغاياتها”.

الشعر في حياة الإمام ومذكراته

كتب الإمام البنا الشعرَ في صباه، وحفِظ من عيون الشعر العربي قديمِه وحديثِه ما لا يقل عن ثمانية عشر ألف بيت، وحفلت مذكراتُه بمواقف وأحداث له مع الشعر والشعراء.

تحت عنوان “ذكريات وشعر” كتب في مذكراته يقول: “ولا زلتُ أذكر يوم دخل علينا أستاذنا الشيخ محمد خلف نوح، والدموع ترقرق في عينيه، فسألناه ما الخبر؟ فقال: مات اليوم فريد بك، وأخذ يحدثنا عن سيرته وكفاحه وجهاده في سبيل الوطن حتى أبكانا جميعًا، وأوحت إليَّ هذه الذكرى ببضعة أبيات لا زِلْتُ أحفظ مطلَعَها وشطرًا آخر:

أفريدُ نَمْ بالأمن والإيمان

أفريدُ لا تجزع على الأوطان

أفريدُ تفديك البلاد بأسرِها

..........................

ولا زلتُ أذكر أحاديث الناس حول لجنة “ملنر” وإجماع الأمة على مقاطعتها وكيف كان هذا الشعور فياضًا غامرًا، حتى إنه يدفع بتلميذ في الثالثة عشرة أن يقول:

يا ملنر ارجع ثم سل

وفدًا بباريس أقام

وارجع لقومك قل لهم

لا تخدعوهم يا لئام

وفي نفس المذكرات وتحت عنوان “أسبوع في الأزهر” يقول: “ظهرت نتيجة الكشف وقد كانت في الحقيقة مفاجأةً لي أن كنتُ من الناجحين؛ ولذلك واجهت مهمة الامتحان في جد لا هزل معه.. إلى أن يقول: “وجاءت أيام الامتحان ومرت بسلام، ولا زلت أذكر بيت العروض الذى امتُحنا فيه، وأذكر أنه طُلب إلينا أن نقطِّعه ونذكر ما فيه من عِلَل وزِحَاف ومن أي بحرٍ هو:

لو كنت من شيء سوى بشر

كنت المنور ليلة البدر

وفيها تحت عنوان “الدبلوم” يقول: “ولا أنسى الامتحان الشفوي وقد تقدمتُ فيه إلى اللجنة- وقد كانت مؤلَّفةً من الأستاذ أبو الفتح الفقي رحمه الله والأستاذ نجاتي- بمجموعة من المحفوظات بلغت ثمانية عشر ألف بيت ومثلها من المنثور، ومنها معلقة طرفة، فلم أُسأل إلا في بيت من المعلَّقة وأربعة أبيات من قصيدة شوقي في نابليون ومناقشة حول عمر الخيام وقُضي الأمر”.

أما تفصيل ما دار بالامتحان فهو كما يلي: “حين تقدم إلى لجنة الامتحان في مدرسة دار العلوم، ولما جلس أمام اللجنة سأله الممتحن:

- ماذا تحفظ من الشعر القديم؟

- فأجاب: أحفظ المعلقات السبع.

- قال: أسمعني معلقة طرفة بن العبد.

فأخذ البنا يقرأها في فصاحة وثبات، ولما تأكَّد الأستاذ الممتحِن من جَودة حِفظه قال له: على رسلك، أريد أن تختار بيتًا أعجبك من هذه القصيدة.

فأطرق حسن البنا هُنيهة ثم قال:

إذا القوم قالوا من فتى؟ خلت أنني

عُنيت فلم أقعد ولم أتبلَّد

فما كان من الممتحن إلا أن رفع عمامته من فوق رأسه وهو يردِّد: “الله.. الله”!! فالتفت إليه الممتحن الآخر وقال له: ماذا جرى يا مولانا؟! فأجابه بأن هذا الفتى سوف يكون له شأنٌ كبيرٌ وأسمعه هذا البيت فشاركه إعجابه وتفاؤله”.

الشعر في خطبه ومقالاته

وهذه الثروة الشعرية والرصيد الوافر منها لدى الإمام كان لها أثرٌ ظاهرٌ في خطبه وأحاديثه ومقالاته وكتاباته، فحفلت بالاستشهاد بالمشهور والمجهول من عيون الشعر على امتداد تاريخ الأدب العربي، وهذه نماذج منها ممَّا ورد في خطبه ورسائله:

كتب تحت عنوان “في سبيل النهوض” فقال: “إذا فحصت الأمة هذه الحقائق واكتفت بالتجارب الماضية وعادت إلى النهضة الصحيحة وعُنِيَت بالجديات والحقائق واحتقرت الأوهام وأعدت صبرًا طويلاً للكفاح والنضال فإنها كاسبةٌ إن شاء الله تعالى، أما إذا ظلت معلَّقةً بالأماني غارقةً في بحر الشهوات والأهواء مستنيمةً إلى الكسل والخمول فستخسر ما بقي لها من صبابة قوة أو غِيرة أو مال تباعًا ويكون مثلها مثل قول القائل:

بعت بيتي وحماري معا

وجلست لا تحتي ولا فوقيا

وفي معرض حديثه عن هجر المسلمين للقرآن وهو بين أيديهم:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما  :::والماء فوق ظهورها محمول

- ما رأيت كلامًا أعمق في فلسفة الاجتماع من قول ذلك الشاعر:

لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها

ولكنَّ أخلاقَ الرجال تضيق

وكنت بالإسماعيلية أذكر قول القائل:

بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا

بالرقمتين وبالفسطاط جيرانني

وما أروع ما قال في هذا المعنى شاعر من شعراء الإخوان :

ولست أرى سوى الإسلام لي وطنًا

الشام فيه ووادي النيل سيان

وكلما ذُكر اسم الله في بلد

عددت أرجاءَه من لُبِّ أوطاني

وكان الإمام البنا أول من استَشهد بأبيات عبد الله بن المبارك الرائعة المحلقة التي دُفنت بين طيات الكتب طويلاً طوال عهود الرقود والركود، حتى عادت تنبض حياةً وقوةً وحماسةً، ينطقها لسان الإمام الشهيد في خطبه وأحاديثه حتى حفظها الشباب وعاشوا في أجوائها العاليات:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

لعلمت أنك بالعبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه

فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل

فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا

وهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقال نبينا

قول صحيح صادق لا يكذب

لا يستوي غبار خيل الله في

أنف امرئ ودخان نار تلهب

هذا كتاب الله ينطق بيننا

ليس الشهيد بميت لا يكذب

وقبل استشهاده: “كان في أيامه الأخيرة يحس بالموت، وكان الكثير من محبيه ينصحونه بالهجرة أو الفرار، أو اللياذ بتقية أو خفية، فكان يبتسم للذين يقصون عليه هذه القصة، وينشد لهم شعرًا قديمًا:

أي يوم من الموت أفرّ

يوم لا يقدَّر أم يوم قُدِّر؟

يوم لا يقدّر لا أرهبه

ومن المقدور لا ينجو الحذر

رعايته للشعراء وتشجيعهم

كتب فضيلة الأستاذ المرشد مقالاً في جريدة الإخوان الأسبوعية عن “شاعرا الإسلام: عرنوس والنجمي” قال فيه: “عرفت الأخ الكريم محمد صادق عرنوس شابًّا ملأت الغيرةُ على الإسلام فؤادَه وتملَّكت نفسه وأخذت عليه كل نواحي حسه، فإذا قال فللإسلام، وإذا بكى فعلى الإسلام، وإذا فرح فلخير يصيبه الإسلام، وإذا تمنى فأمنيته النصرة للإسلام، وإذا تحدث تدفَّق كما يتدفق السيل قويًّا منهمرًا في حدة وفي مضاء وفي غيرة وفي حماس يتجلى خلالها صدق الإيمان وقوة الشعور والإحساس، فإذا أصغيت إليه لم ترَ كل حديثه الذي أهاج كوامن نفسه إلا عن الإسلام ونبي الإسلام، وإذا قرأت شِعرَه رأيتَ فيه هذه المعاني واضحةً جليةً غير متكلَّفة.

عرفت ذلك للأخ صادق أفندي عرنوس بقراءة شعره والاستماع لحديثه والجلوس معه في فترات السعادة التي نختلسها من ساعات الزمن نتساقى فيها الود والإخاء... وعرفت الأخ الكريم محمد حسن النجمي في قصائده العامرة ومقطوعاته المؤثرة، فعرفتُ منه نفسًا جيَّاشةً بالمعاني السامية، فيَّاضةً بالشعور الشريف، موهوبةً في الشعر والقصيد، قد وقفت كل مواهبها للإسلام ونبي الإسلام.

وكنت أحمد الله كثيرًا إذ أجد في شباب الإسلام مثل هاتين النفسين الطاهرتين الغيورتين وأجد في ذكراهما لذةً وفي الأمل فيهما سعادة”.

وكتَب مقدمةً لديوان الشاعر إبراهيم عبد الفتاح قال فيها مادحًا ومشجعًا: “وممن وفقهم الله إلى سلوك هذه السبيل، سبيل دعوة الله الحق، والمناضلة عنها بموهبة من الشعر الحكيم، ومشاعر من قيود الخوف وخشية غير الله طليقة، وعاطفة رابطتها بالملأ الأعلى وبروح القدس قوية وثيقة أخونا في الله تبارك وتعالى الأستاذ: إبراهيم عبد الفتاح، الذى فتح الله عليه بفيض المعاني في دُرَرٍ من الألفاظ صاغها قصائد عصماء معبِّرًا بها عن دعوة الإخوان - وإن شئتَ فدعوة الإسلام- تعبيرًا صادقًا، أصاب به المحزّ وطبق به المفصل، وكان فيه على حد قول القائل:

إذا قال لم يترك مقالاً لقائل

بملتقطات لا ترى بينها فصلا

كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي لُسُنٍ في القول جدًّا ولا هزلا

وقد ضمن هذا الديوان الجميل الشعر الجليل ليكون النفع به عامًّا للقراء بعد أن كان خاصًّا بالمستمعين، وإنا لنشكر له هذا الصنيع، ونسأل الله أن يكافئه على ذلك بعظيم النفع به في الدنيا وجزيل الثواب في الآخرة آمين”، وهذا التكريم والتشجيع كان له أثره في نفس الشاعر الكريم، صرَّح عنه بقوله في مقدمة ديوانه: ومعظم ما فيه من الشعر هو صدى صادق وصورةٌ حيةٌ للأحاديث الشائقة والخطب البليغة التي كان يُمتعنا بها إمامُنا الشهيد الأستاذ حسن البنا، والتي كانت تفعل في أرواحنا وقلوبنا فعلَ السحر، ولهذا سميته “من وحي الدعوة الإسلامية”.

ومِن تعريفه للأستاذ الشاعر محمود أبو النجاه بـ(مجلة الشهاب): “واشتهر عند كلِّ مَن عرفه بصفاء الروح وملكة البيان والغيرة على الدين، ومن مؤلفاته “رواية مسعود”، “يوسف الصديق” وهما تمثيليتان شعريتان، وتحت الطبع ديوان “النجويات” وهو شاعر مجيد.

وبنفس العدد من المجلة قدَّم للشاعر المجيد الشيخ أحمد حسن الباقوري فقال: “.. وفضيلته داعية إسلامي موفق، وأديب موهوب، وله آثار رائعة لم تُجمع بعد..”.

وبنفس الصفحة أيضًا قدم شاعر الشام الكبير عمر بهاء الدين الأميري فقال: “.. واشتغل بالحركة الإسلامية منذ نعومة أظفاره، وأسَّس مركزًا للدعوة الإسلامية في باريس، وهو شاعرٌ مطبوعٌ، ومجاهدٌ موفَّق..”.

وكتَب فضيلته مقدمةً لشاعر شاب موهوب من أبناء الدعوة يُدعى ممتاز السيد سلطان لم يتجاوز عمره السنة السادسة عشرة، ولكنه كتب مسرحيةً شعريةً جيدةً بعنوان “زهرة بين أشواك”، وبلغ من إعجاب النقاد والأدباء بها أن كتب مقدمةً لها كلٌّ من الشاعر الكبير محمود غنيم والشاعر المشهور أحمد رامي، وفي مقدمته للمسرحية يقول الإمام:

“هذا شعر ممتاز، أرجو أن يكون النفع به ممتازًا كذلك؛ إذ يهدف به صاحبه إلى غاية كريمة وهدف سامٍ نبيل هو خير ما تتعلق به نفس المؤمن الصادق، ولا غرو فالأخ ممتاز من صفوة شباب الدعوة الذين تذوَّقوا حلاوة الإيمان بها ووهبوا حياتَهم لها وأصبح أمل الآمال في أنفسهم أن يشهدوا نجاحها وسعادة العالم في ظلها، وقد استطاع أن يفرِّغ هذه المشاعر والآمال في مسرحيته الشعرية الممتعة فصوَّر مراحل النجاح المأمول للدعوة كأنها حقيقةٌ واقعةٌ ومشاهد ملموسة تغري الناس بالتعلق بها والإقبال عليها وتُثير حماستَهم لتعجُّل ثمراتها المباركة، ولم يصرفه جلال الأهداف وسيطرتها على نفسه وروحه من أن يُولي ناحية الفن الشعري حقَّها من الرعاية والإبداع؛ حتى لا يكاد القارئ يتصور أن هذا الشعر في دياجته المصقولة ومعانيه المبتكَرة وخياله المشرق هو أول محاولة لشاب لم يتخطَّ بعدُ مرحلة الدراسة الثانوية.. فبارك الله في هذا المجهود وجعله ميمون الثمرات، وجزى الأخ ممتازًا ما هو أهله من الخير والمثوبة”.

وهكذا كانت الرعاية والاهتمام بالشعراء، وتقديمهم بما يتناسب مع أهمية دورهم وخطورته، ومع ما ينعقد عليهم من آمال في إيجاد الأدب الإسلامي الناضج، والفن الإسلامي الرفيع.


الإمام البنا ورؤية جديدة في المسرح والسينما

في أربعينيات القرن الماضي كتب الناقد الفني المعروف عبد الله أحمد عبد الله المشهور بلقب “ميكي ماوس” رسالةً طريفةً تُعدُّ في حد ذاتها وثيقةً تاريخيةً مهمةً، يتساءل فيها عن موقف الإخوان المسلمين من الفن؟!

وهذا نص الرسالة:

“سيدي صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل مرشد الإخوان المسلمين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد!!

فإن مجلة (دنيا الفن) ترجو أن تعلم من فضيلتكم وجهة نظر الإخوان المسلمين في شئون (المسرح- السينما- الإذاعة) وترجو أن يتسع وقت فضيلتكم كذلك للإجابة عما تعدونه من المشروعات للإفادة من هذه الأدوات الثلاث فيما لو تقلَّد الإخوان المسلمون حكم البلاد؟!

هذان سؤالان لمجلة فنية يسرها أن تنقل إلى قرائها في شتى البلاد العربية آراءَ الإخوان الأكرمين، وهم الهيئة القوية التي يرنو إليها الملايين بالإعجاب والإكبار.

وفي انتظار رد فضيلتكم، نسأل الله أن يهبكم العون والتوفيق في جهودكم المباركة.

والسلام عليكم ورحمة الله

عبد الله أحمد عبد الله - سكرتير تحرير مجلة (دنيا الفن) بمصر

وللأسف لم نعثر على ردِّ الإمام البنا على تلك الرسالة الطريفة، ولكنه رحمه الله ردَّ عليها وعلى كثير من التساؤلات المشابهة لها نظريًّا وعمليًّا، وكان الرد العملي أقوى وأبلغ.

حسن البنا والسينما حلال أم حرام!!

وقبلها بسنوات كان الإمام البنا يُلقي محاضرةً بجامعة القاهرة بمناسبة المولد النبوي الشريف، وأثناء المحاضرة قاطعه طالب ظريف وسأله: هل السينما حلال أم حرام؟ فرد فضيلته سريعًا وموجزًا: السينما الحلال حلال والسينما الحرام حرام، وعاد إلى استئناف محاضرته.

بين حسن البنا وأنور وجدي

ومن طرائف المواقف التي تعرَّض لها الإمام البنا مقابلته مع الممثل المشهور أنور وجدي، يروي د. محمود عساف تفاصيل ذلك الموقف فيقول: “في يوم من أيام صيف عام 1945 ذهبت إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم، فقال لي: “قم بنا نذهب إلى البنك العربي لنفتح حسابًا للإخوان هناك”.

توجهنا إلى مكتب الرئيس، وكان يتبع سياسة الباب المفتوح للعملاء، ويستطيع أي عميل أن يدخل إليه بغير استئذان، دخلنا وألقينا السلام، وجلسنا على أريكة مواجهة للمكتب، وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره نحونا، وكان يتحدث مع شومان بك، فاجأنا شومان بك بقوله: “أهلاً وسهلاً” بصوت عالٍ جعل الجالس إلى مكتبه ينظر نحونا، وإذ بذلك الجالس ينتفض واقفًا ويهتف: “حسن بك؟ أهلاً وسهلاً يا حسن بك” ثم تقدَّم نحونا مصافحًا الإمام ثم إياي، ثم جلس على مقعد مجاور للإمام وقال: “أنا أنور وجدي.. المشخصاتي.. يعني الممثل، طبعًا أنتم تنظرون إلينا ككفرة نرتكب المعاصي كل يوم، في حين أنِّي والله أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعًا”.

قال له الإمام: “يا أخ أنور، لستم كفرة ولاعصاة بحكم عملكم، فالتمثيل ليس حرامًا في حد ذاته، ولكنه حرامٌ إذا كان موضوعه حرامًا، وأنت وإخوانك الممثلون تستطيعون أن تقدموا خدمةً عُظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام ومسرحيات تدعو إلى مكارم الأخلاق، بل أنتم تكونون أكثر قدرةً على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من الوعَّاظ وأئمة المساجد، إني أرحِّب بك، وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنتبادل الرأي حول ما يمكن أن تسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله”.

وهكذا كان الإمام ثاقب النظر بعيد التفكير، ولست أعلم ما إذا كان قد زاره أنور وجدي كما وعد أم شغلته شئون الحياة”.

دار الأوبرا تشهد الرد العملي من الإخوان

ففي مايو 1948 وعلى مسرح دار الأوبرا كانت تُعرض مسرحية (صلاح الدين الأيوبي) تمثلها فرقة الإخوان المسلمين المسرحية، وكان إهداء المسرحية “إلى شهداء فلسطين الأبرار، وأبطال الجهاد المقدَّس لإنقاذ الوطن الإسلامي وتحرير الأرض.. إليكم هذه المسرحية التي أُعدت لتعمل عملَها مع قصف المدافع وأزيز الطائرات؛ لإدراك الغاية ورفع الراية وإصابة الأهداف”.

وكان ثلاثةٌ من أعضاء الفرقة قد اعتذَروا عن عدم المشاركة في العمل لذهابهم إلى ميدان القتال، وهو ما نصَّ عليه إعلان المسرحية حين كتب في هامشه: “من أعضاء الفريق في ميدان الحرب الآن إبراهيم الشامي، فطين عبد الحميد، إبراهيم القرش”.

وكتب عنها الناقد الأستاذ صلاح ذهني في مجلة (آخر ساعة) يقول: “قدمت جمعية الإخوان المسلمين مسرحيةً مِن وضع أحد أعضائها الأستاذ عبد الرحمن البنا على مسرح الأوبرا، وليس الجديد أن تقدِّم إحدى فرق الهواة مسرحية، ولا أن يؤلف أحد الهواة مسرحيةً، ولكنَّ الجديد أن المسرحية تتناول موضوعًا مطروقًا جدًّا، فهي عن صلاح الدين الأيوبي، وليس هناك مَن لم يرَ رواية صلاح الدين ومملكة أورشليم، والتي مثلها كل مسرح وكل فرقة منذ عشرات الأعوام.. هذا هو الجديد، ولقد جلست أشاهد المسرحية وأنا حذر يقظ، فحياة صلاح الدين وفتحُه لفلسطين واحدة وحتى ما يحيط بقصة هذه الحياة من أساطير أصبح بالتكرار جزءًا من هذه الحياة، ومن أصعب الأمور على مؤلف أن يتناول موضوعًا مطروقًا.. إنه إذ ذاك يسير على صراط دقيق تحته هاويتان: التقليد من ناحية والخروج على الواقع من ناحية أخرى.

لكن عبد الرحمن البنا نجا من الهاويتين معًا وابتعد عن التقليد، فحين انصبَّتْ رواياتٌ أخرى على صلاح الدين وحده وأحداثه مع الفرنجة تناولت رواية البنا عصر صلاح الدين في مصر والنزاع بين السنة والشيعة وجوّ المؤامرات الذي كان يعمل وسطه.

إنك تحس أن المؤلف هنا حرص على تاريخ العصر أكثر مما حرص على تاريخ البطل، وتحسُّ أيضًا أنه حرص على الواقع أكثر مما حرص على مواقف البطولة الجوفاء حتى الفصل الأخير حين يلتقي قلب الأسد بصلاح الدين.. إنك ترى الصورة العربية للملك المسلم والصورة الإفرنجية للملك الفارس دون إغراق في البطولة أو الإسراف في الشجاعة، كم كنت أتمنى لو مُثِّلت هذه الرواية أكثر من مرة أو أن الذين مثَّلوها كانوا غير الهواة- وليس ذلك طعنًا- إنها روايةٌ تلائم الموقف والظرف، وفيها مع ذلك شيءٌ جديد”.

حسن البنا يضع النقاط على الحروف

وبعدها كان الإمام البنا في كتيبة تربوية مع شباب الإخوان ، وكان مما قاله فيها: “إن الإخوان المسلمين لا يحاربون المسرح ولا المذياع؛ لأنهم ليسوا من الجمود بحيث يقفون هذا الموقف، وإنما يريدون أن يطهروهما من الشر والإثم، ويزيلوا أثرها السيّئ المنصبّ على نفوس الشباب والفتيات؛ ولذلك فهم قد أعدوا للمسرح قصصًا كريمًا وأدبًا رائعًا ومثلاً عاليةً وتوجيهًا صادقًا.

“لك الله يا يوم الأوبرا، لقد دوَّى فيك القرآن، ورددت جنباتك أصداء الحكمة القرآنية، وعرضت فيك صور العزة الإسلامية والفتح والجهاد ، وذُكر فيك اسم الله، وخرج الناس وقد عرفوا أن لهذه الدعوة في قلب كل مسلم مكانًا، وأن أهدافها وأغراضها أجلُّ من أن تُنال بالتُّهَم، وأن الإنسانية ستسعد بها وتصل ذروة الكمال”.


الإخوان المسلمون والمسرح الإسلامي

بدأ الأستاذ عبد الرحمن البنا- شقيق الأستاذ حسن البنا- التأليفَ المسرحيَّ "حين قرأ في مجلة الصباح الأسبوعية أن فرقةً أوروبيةً عرضت على مسرح الأوبرا المصرية، تناولت ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- بما ينقص من قدرِه الشريف، فحاول كتابة مسرحية ردًّا على هذه الفرية، وإمعانًا في التحدي أراد لها أن تمثَّل على نفس خشبة هذا المسرح".

فكتب أولى مسرحياته (جميل بثينة)، ورغم أن القصة الأساسية عاطفية فإن الدافع الأساسي لاختيار هذه القصة كان الغيرة على الإسلام والعروبة!! فتساءل عبد الرحمن البنا في مقدمة المسرحية: "لماذا نستجدي من الغرب قصصَه وحوادثَه فنذكر (روميو وجولييت) ونحتفي بـ(غادة الكاميليا)، ولا نعود إلى شرقنا فنقتبس النور من إشراق سمائه ونعرف الحب من طهارة أبنائه؟!

ونالت تلك المسرحية "تقدير لجنة تشجيع التمثيل الحكومية بوزارة المعارف العمومية، وقررت لإخراجها مبلغًا من إعانة التمثيل لسنة 1934 م، وتمثلها لأول مرة السيدة عزيزة أمير بالإشتراك مع فرقة اتحاد الممثلين تحت إشراف وزارة المعارف العمومية على مسرح دار الأوبرا الملكية في يونيو سنة 1934 "... وضمت قائمة النجوم التي شاركت في هذا العمل جورج أبيض- أحمد علام- عباس فارس- حسن البارودي- فتوح نشاطي- محمود المليجي، ومن العناصر النسائية: فاطمة رشدي، وعزيزة أمير.

ويقرر شوقي قاسم- صاحب رسالة دكتوراه (الإسلام والمسرح المصري)- أن "جميل بثينة" قد صارت موضعَ المقارنة مع درَّة أمير الشعراء (مجنون ليلى).

وحين تأسست الفرقة القومية المصرية عام 1935 بقيادة خليل مطران أوفدت البعثة الأولى من الطلاب إلى أوروبا لتعلم الفن هناك، واللافت للانتباه أن البعثةَ تكونت أساسًا من عدد ممن عملوا في مسرحيات عبد الرحمن البنا، مثل: فتوح نشاطي، محمد متولي، سراج منير، حسن حلمي، ومحمد السبع.

الإخوان والمسرح الإسلامي في بداية الأربعينيات

بدأ عبد الرحمن البنا يسعى نحو تأسيس فرقةٍ خاصة للإخوان المسلمين ، وبدأت الفرقة بدايةً متواضعةً وبذل أفرادها جهدًا كبيرًا، ويقول عن ذلك: "لقد رحلنا بفريقنا عدة رحلات في عواصم الجمهورية، وكنا أحيانًا نبيت بالمساجد" .. ثم تطورت الفرقة، وعُرضت مسرحياتُها التي بلغت ثماني مسرحيات على أكبر المسارح المصرية كـ"دار الأوبرا" ، ونقلتها الإذاعة على الهواء مباشرةً، ومن أمثلة العروض التي قدمها الفريق:

- مسرحية (عامان في شِعب) عن اضطهاد المسلمين الأوائل في شعب مكة.

- (المعز لدين الله الفاطمي) وهي مسرحية تاريخية من فصل واحد تُصوِّر دخول المعز لمصر بعد أن فتحها جوهر الصقلي (مُثِّلت على مسرح حديقة الأزبكية يوم الخميس 6 نوفمبر 1952 ).

- مسرحية (بنت الإخشيد) التي أُلِّفت عام 1939 م، ودعا فيها إلى التقريب بين طوائف المسلمين، وحذَّر من استغلال الخلافات المذهبية في إضعاف شوكة الأمة وتفريق كلمتها"، وعنها يقول البنا: "وفي رحلة من رحلات الأستاذ سعد أردش إلى الجزائر تفضَّل باصطحاب بعض مسرحياتي معه، وأخرَج منها للجزائر مسرحية (بنت الإخشيد) في 15 حلقةً مذاعةً واستُقبلت بحماس شديد وأحدثت أثرًا مدويًا".

- المسرحية النثرية (أبطال المنصورية).

- مسرحية (غزوة بدر): وقد مثلت على مسرح حديقة الأزبكية يوم الجمعة 19 رمضان سنة 1365 الموافق 16 أغسطس سنة 1946 ، وكان يمثل فيها عبد المنعم مدبولي، ويقوم بدور كوميدي هو دور "ضمضم الغفاري".

- "الهجرة": ويقول البنا عنها في ذكرياته "وأذكر أن مسرحية (الهجرة) التي عُرضت على مسرح الأزبكية يوم الأربعاء 26 نوفمبر 1947 وأذاعتها محطة الإذاعة المصرية قد توافد علينا كثيرٌ من رجال السينما للتفاوض في إخراجها سينمائيًّا".

- (صلاح الدين الأيوبي): وكان إهداء المسرحية "إلى شهداء فلسطين الأبرار، وأبطال الجهاد المقدس لإنقاذ الوطن الإسلامي وتحرير الأرض.. إليكم هذه المسرحية التي أُعدت لتعمل عملها مع قصف المدافع وأزيز الطائرات؛ لإدراك الغاية ورفع الراية وإصابة الأهداف".

وكان ثلاثة من أعضاء الفرقة قد اعتذروا عن المشاركة في العمل؛ لذهابهم إلى ميدان القتال، وهو ما نصَّ عليه إعلان المسرحية حين كُتب في هامشه: "من أعضاء الفريق في ميدان الحرب الآن: إبراهيم الشامي- فطين عبد الحميد- إبراهيم القرش"، وكتب عنها الناقد الأستاذ صلاح ذهني في مجلة (آخر ساعة)- عدد 709 بتاريخ 26 مايو 1948 يقول: "كم كنت أتمنى لو مُثِّلت هذه الرواية أكثر من مرة، أو أن الذين مثَّلوها كانوا غير الهواة، وليس ذلك طعنًا، إنها رواية تلائم الموقف والظرف، وفيها مع ذلك شيءٌ جديد".

من أعضاء فرقة الإخوان المسرحية

وكان من أعضاء فرقة الإخوان المسرحية: د. إبراهيم سكر: الأستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية... - د. حسين جمعة المخرج المعروف ... - إبراهيم الشامي- محمد السبع- عبد البديع العربي- عبد الرحمن بدوي- عبد المنعم إبراهيم- نظير عبد الجابر- محروس عبد الوهاب- أحمد راضي- إبراهيم الديب- محمد عبد اللطيف.

وكان البنا حريصًا على تنمية قدرات فريقه، فوجَّه شباب الفريق الذين أتموا دراستهم الثانوية للالتحاق بمعهد التمثيل العالي واستجابوا، وكان منهم محمد السبع وعبد البديع العربي وإبراهيم الشامي، وهم من الممثلين المشهورين بعد ذلك.

النشاط المسرحي لشعب الإخوان في الأقاليم

ولم يقتصر النشاط على المركز الرئيسي للجماعة بل امتد إلى شُعب الجماعة في أنحاء مصر، فتكونت فرقٌ تمثيلية بكثير من شعب الإخوان تُقدم مسرحياتٍ هادفةً، ومن أمثلتها: - "أقامت شعبة حلوان حفلتَها التمثيلية بتمثيل الرواية الإسلامية (المروءة المقنعة) في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الجمعة الماضي، وقام بالتمثيل فريق الإخوان شعبة ميت غمر، وكان الحفل رائعًا ناجحًا، أمَّه الكثيرون من شباب الإخوان والطلاب، وعلى رأسهم فضيلة الأستاذ المرشد العام ".

- قام إخوان شعبة ششتا مركز زفتى غربية بتمثيل رواية (عاقبة الفساد)... - "قدم فريق التمثيل بشعبة الحوامدية تمثيليةً رائعةً هي (التوبة النصوح أو المخلفون الثلاثة)... - "أقام قسم الطلاب بكوم أمبو حفلاً تمثيليًّا مُثِّلت فيه قصة إسلام عمر، والاستعمار، والهجرة، واستمر الحفل ليلتين بسينما مصنع السكر بكوم أمبو".

- "قام قسم الطلاب والأشبال بالمنطقة (الفيوم) بتمثيل (رواية الطاغية) على مسرح دار الإخوان ، وقد كان التمثيل دقيقًا رائعًا، تتجلى فيه عظمة المسلمين الأولين".

- "أقام قسم مدارس الجمعة بمكتب إداري البحيرة حفلاً تمثيليًّا خاصًّا لحضرات الأخوات المسلمات، ثم أعيد الحفل مرةً ثانيةً وشاهده جمع من الإخوان المسلمين ".

رسالة إلى الإمام الشهيد حسن البنا

• بقلم: د. جابر قميحة

نظَّمها الشاعر بمناسبة ذكرى استشهاده في 12/2/1949 م، وألقاها في حفل إفطار الإخوان المسلمين بالقاهرة مساء الأربعاء 11 من رمضان 1427هـ الموافق 4 من أكتوبر 2006م.

يـا إمامي الشهيدَ هـاكَ بياني عـاجزَ الخطوِ، نازفَ الوجدانِ

صاغ من مهجتي رسالةَ صدقٍ ووجـودي ذَوَى وعمـْرِيَ فاني

قلمي مـن أسًى، وقلبي مدادي نـاطـقٌ بـالإبـاءِ والإيمـان

وحـروفي أُلْهِمْتُها من رُؤاكم زاكـيـاتٍ عـطريـةَ الأردان

ورأيـنا التاريخ يتلو الخفايـا فـي سفـورٍ كـأنـه القمران

فـرأيناك يـا إمامـي شموخًا مشرقَ الوجهِ مـن وراء الزمان

تـرفع الراية الطَّمـوحَ عليها مصحـفُ الحـق حـوله سيفان

فكتابُ السماء يسـري ضياءً فـي حمـى قـوةٍ مـن الديّان

مـرَّ قرنٌ مـن الزمان تجلتْ فيه- يا سيدي- جليلُ المعاني

كـلُّ أيامه انتصار عـظـيمٌ مثلُ بـدرٍ يـوم التقى الجمعـان

وتـَربَّى عـلى يديك شبابٌ وشيـوخٌ فـي عزمـةِ الشبـان

كلهم في النهار فرسانُ حـقٍّ ومـع الليل مثلمـا الـرهبـانِ

فيفيض المحرابُ نورًا وتقوى إذْ يـخـرون فـيـه للأذقـان

كنتَ فـي الفيلقِ الهَصـور إمـامًا إذ تـقـود الإخوان كـالرّبـان

تَمْخُرُ الصَّخْـر فـي يقيـنٍ وعـزْمٍ واعـتـدادٍ بـقــوةِ الإيـمـان

لا تهـابُ الإعصـارَ فالحق أقـوى مـن جيـوش الطغـاة والطغيـان

من صدى الزحفِ قد صحا المشرقان فاستجابـا وزُلزِل المغرب ـان

وسمعنـاك كنـتَ فينـا تـنـادي صـادقَ العـزم رائـعَ العُنفـوان

بقلـوب تفـتَّحـتْ.. مُصْغيـاتٍ وعيـونٍ إلـيــك كُـنَّ رَوَانـي

“أيُّهـا الإخوان استجيبوا تعالَـوْا ولْيـكـنْ كـلٌّ منكُـمو قـرآنـي

ولْتعيشوا الأنفـالَ والنـورَ والإسـْ ـراءَ والفجرَ والضحى والمثانـي

ولْتنادُوا “القـرآنُ دستورُنا الـحـقُّ ونـورٌ سـَري بـلا نُـقـصـان

ولتعـيشـوا محـمـدًا وهـداه فـهْـو فـينا الزعيمُ في كلِّ آن

ولتنادوا “الجهاد خيـرُ سبيـلٍ لانكسـارِ الطغيـان والكفـران”

واعلموا أن الموتَ في اللهِ أسْمَى غـايـةٍ حـرَّةٍ، وأرقى الأماني”

“سيقـول الحـاقدون أنـتم دعـاةٌ لـدمـار السـلام والأوطـان

ويثور الحكامُ حرصًا على الحكـ ـم ومـا يملكون مـن سلطان

فاصـبروا للعـذاب صبـرَ بلالٍ ولتكونـوا أقـوى من الصَّوَّان

لا تـَميـدوا وإن مــادت الأرْ ضُ، وشُـمُّ الجبـالِ والأركانِ”

ثـم سالتْ دمـاكَ مـن أجل دينٍ صُنْتَه مـن تـآمرِ الشيطـان

يـا إمـامي لـو صـحَّ فيكَ فداءٌ لفَدَيْنا بالـروح والـولـدان

يـومهـا مصر يُتِّمَتْ وتجلَّـتْ شمسُها فـي الحِداد والأحزان

وحُكِمْنَا بالبغـي والظلـم والنـا ر وقانـونِ الغابِ والغيـلان

وتـولى قيـادَهـا عصبـة مـن عسكرٍ منْسرٍ ومـن ذُؤبـان

وبهـا استأسد الـكـلابُ وصارت مرتعـًا هانئًا لكل جـبـان

وتــوالـتْ هــزائـمٌ ورزايـا وضَربْنا فـي التيه كالعُميان

فعَـوالي العـروشِ ليس عليـهـا غيـرُ لصٍّ وداعـرٍ شيطان

والسجـون السوداء للحُـرِّ سُكْنـى والقصورُ الغنَّاء للقرصـان

والنفـاق الخسـيس خــيرُ سبيل لقلوب السلطـان والأعـوان

ولْيعشْ شعبُنـا ضـياعًا وجـوعًا وهـوانًا مـا بعده من هوان

فـي جحيم التزوير والبؤس يمضي وانتهـاك الحقـوق بالإذعان

ثـم قالـوا “التوريث حـقٌّ أكيـدً لأميـرٍ مـن خـِيرة الشبان”

فهـل الشعـب كالـعبيد ليُشْرَى أو عقـارٍ يهـون أو حيوان؟

يـا أمـيرَ القصـورِ إنـا خُلقنا أمـةً حـرةً عـلى الأزمان

ديـنُنـا عـزةٌ وحـقٌّ وعــزم وإباءٌ يعلـو عـلى التيجـان

لا نُـبـالـي بمحنـة وكـروب أو بجـوع وحُرقة الحرمان

قـد تهـون الـدماءُ لكـنْ لتبقَى طيلةَ العمـر عـزةُ الإنسان

فهْي مـن عزة الإله، استُمـدَّتْ والرسولِ العظيـم والقرآن

يـا إمامي الشهيد بعدك صارت مصر نهبًا لعُصبة الشيطان

وغـدا الدينُ في الكنانة عِرْضًا مستباحًا لجاهـل عُـدواني

غيـرَ أن العـزاء أنَّا رأيـنـا فـي عهود التسليم والخِذْلان

في شمالٍ وفي جنوبٍ، وفي شر قٍ وغربٍ “وجودَنا الإخوان ي”

حيـث ذكـراك فـي كل قلب كضيـاء معطَّرٍ رحمـانـي

أنـت إِسْـمٌ على مسمًّى جليلٍ فهمـا فـي الجـلال يلتقيان

“حسنٌ” أنـت في الحياة عظيمٌ إذْ عطفتَ القلـوبَ بالإحسان

وبنيتَ النفـوسَ حصنًا حصينًا شامـخَ العـزِّ راسخَ البنيان

إن تكـن قد صنعتَ جيلاً أبيًّا وبنيـتَ النفـوسَ بالقـرآن

فلقـد كنتَ فـي شموخِك جيلاً أمـةً فـوق قـدرةِ النسيان

فسلامًـا وأنت في جنة الخلـ ـدِ سعيدٌ بالروْح والريحان

حيث تحيـا حياة طُهر ونُعْمَى وخـلودٍ في العالم النوراني


حسن البنا.. والنقد الذاتي

كان الإمام حسن البنا دائم النقد لذاته، يراجعها وتراجعه، ولو لم يكن يجري مراجعة ذاتية، بينه وبين نفسه، وبينه وبين إخوانه، ليري الخلل أين هو؟ وماذا تحتاج في المرحلة المقبلة .

كل هذه المراجعات يلاحظها بجلاء من وقف علي حياة الإمام حسن البنا موقف الراصد المحلل لكل مواقفه الفكرية والدعوية والسياسية علي حد سواء.

النقد الذاتي عمل دعوي مؤسسي عند البنا:

لم يقف البنا بالنقد للذات أو للآخرين، عند حد الوعظ والإرشاد، بل دعا لذلك وجعل له منظومة عملية تسير فيه، فقد وضع البنا وسيلة للتربية لها مكانتها وبرامجها في جماعة الإخوان المسلمين ، وهي (الأسرة) وجعل من الأمور التي من حقوق الأفراد علي بعضهم بعضا: النصح والتسديد، والنقد البناء، وقد جعل لهذا البناء التربوي أركانا ثلاثة: التعارف، والتفاهم، والتكافل، فقال عن الركن الثاني منها: التفاهم:

(وهو الركن الثاني من أركان هذا النظام، فاستقيموا علي منهج الحق، وافعلوا ما أمركم الله به، واتركوا ما نهاكم عنه، وحاسبوا أنفسكم حسابا دقيقا علي الطاعة والمعصية، ثم بعد ذلك لينصح كل منكم أخاه متي رأي فيه عيبا، وليقبل الأخ نصح أخيه بسرور وفرح، وليشكر له ذلك، وليحذر الناصح أن يتغير قلبه علي أخيه المنصوح بمقدار شعرة، وليحذر أن يشعر بانتقاصه، أو بتفضيل نفسه عليه، ولكنه يتستر عليه شهرا كاملا، ولا يخبر بما لاحظه أحدا إلا رئيس الأسرة وحده إذا عجز عن الإصلاح، ثم لا يزال بعد ذلك علي حبه لأخيه وتقديره إياه مودته له، حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا.

وليحذر المنصوح من العناد والتصلب، وتغير القلب علي أخيه الناصح قيد شعرة، فإن مرتبة الحب في الله هي أعلي المراتب، والنصيحة ركن الدين: (الدين النصيحة) والله يعصمكم من بعض، ويعزكم بطاعته، ويصرف عنا وعنكم كيد الشيطان).

صور من نقد البنا ذاته

كان الأستاذ البنا كثير الوقوف بين نفسه وربه، يحاسب نفسه علي ما قصرت، فقد كان له ورد محاسبة يحاسب فيه نفسه علي ما قصرت فيه في جنب الله، بل وحث أفراد جماعته علي ذلك، ولم يقف به الأمر عند حدود محاسبة نفسه ونقده لها، عند أمر العبادات الفردية التي يؤديها مع نفسه، أو العبادات الجماعية التي يؤديها أمام الناس، بل يشمل ذلك أيضا: نقده لحركته ومسيرته العلمية والدعوية بما ذلك مسيرة جماعته.

فكثيرا ما كان يكتب الإمام البنا رحمه الله مقالات يحاسب فيها نفسه وجماعته، ماذا قدمت؟ وفيم نجحت؟ وفيم أخفقت؟ وما المطلوب منها؟ وكل هذه وقفات لمحاسبة النفس،

ففي مجلة النذير كتب الإمام البنا مقالا بعنوان (كشف الحساب.. ما علينا، ما لنا، ما يجب أن نفعله) فبين ما عليهم كجماعة وكأمة أن يفعلوه ولم ينجحوا بعد في أداء هذه المهمة، من ذلك: وجود المستعمر في بلاد المسلمين،

ومن ذلك: وجود العصاة بينهم بكثرة، وبخاصة الشهوانيين منهم والإباحيين من المسلمين، والذين ذهبوا إلي نشر الإلحاد في مصر وفي كثير من الدول العربية والإسلامية.

ومن ذلك: وجود المبشرين والمنصرين في البلاد الإسلامية، وبين الإمام البنا تقصيرهم في أداء واجبهم نحو هذه الأمور. وبين في بقية مقاله ما يجب عليهم عمله تجاه هذا التقصير في هذه الواجبات.

وكتب كذلك بعدها بعام في مجلة (التعارف) بمناسبة حلول شهر المحرم، وبداية عام هجري جديد، كتب مقالا بعنوان: (عامان في الميزان.. عام مضي، وعام في ضمير الغيب)

وقد خاطب فيها نفسه والإخوان المؤمنين معه بدعوته، بهذه الأسئلة ليوجهوها لأنفسهم في نهاية هذا العام الهجري، فقال:

(أيها الإخوان : إن الخطوة الأولي من خطواتنا: صلاح النفس، فهل اطمأننا علي صلاح أنفسنا؟ أنفسكم أولا أيها الإخوان ، إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا.

فحاسبوا أنفسكم لتعلموا أين هي من التمس بمبادئ الحق والقوة والإسلام.

هل أنت مؤد للفرائض كاملة؟ هل أنت بعيد عن المعصية؟

هل تحب الخير وتعمله؟ ماذا قمت من أنواع الخير لنفسك أو للناس؟ هل أنت مستعد للعمل في سبيل فكرتك فجسمك صحيح، وفكرك صحيح، ووجدانك طاهر سليم؟ هل حاولت أن تبث فكرتك في المحيط الذي يتصل بك؟ وهل آمن بدعوتك إليها أحد أو أكثر من أصدقائك؟

بمثل هذه الأسئلة يجب أن يحاسب الأخ المسلم نفسه أولا، حتي يتأكد أين هو من طريق الإخوان .

ثم المجتمع بعد ذلك، وهذه ليست مهمتكم وحدكم، ولكنها مهمة المكتب العام ومهمة الهيئات الإدارية للإخوان قبل أن تكون مهمة الأفراد.

ماذا قدمت هيئة الإخوان من الخير لمن يحيط بها من الناس؟ وكم فردا أقنعتهم بالدعوة، وثقفتهم بمبادئها وتعاليمها؟ وكم مشروعا من مشروعات الخير نجح علي يديها؟ وبمثل هذه الأسئلة نريد أن تزن هيئات الإخوان وسائل جهادها ونواحي عملها.

ثم النظام العام بعد ذلك كله، وهذه مهمتنا مجتمعين، ومعنا كل مسلم يؤمن بالله ورسوله فعلينا أن نسأل أنفسنا دائما في التغيرات الجديدة التي حدثت في نظام حياتنا العام فقربنا بها أو بعدنا عما رسمه الإسلام، فإن رأينا أننا نقترب ولو قربا ضئيلا فهو النجاح بعينه، وإن رأينا أننا نحرف انحرافا يسيرا فهو الإخفاق بعينه.

وعلينا إذن ألا يبعث النجاح في أنفسنا القناعة والخمود فإن الطريق طويلة والمسالك متشعبة، وألا يبعث الإخفاق في أنفسنا اليأس والقنوط فإن رحمة الله قريب من المحسنين، بل واجبنا دائما أن نستمد من النجاح قوة تدفعنا إلي الأمام، ومن الإخفاق درسا يدعونا إلي مضاعفة الجهود، هذا هو المقياس الذي أحببت أن أضعه بين أيديكم أيها الإخوان في عامكم الجديد لتظلوا دائما إلي الأمام).

نقده الضعف العلمي في الإخوان

فقد لاحظ الأستاذ البنا الضعف العلمي الذي أصاب الجماعة في نهاية الأربعينيات، ومن باب نقده الذاتي للجماعة، وبعد كثير من الشكاوي من بعض العاملين في الصف الإخوان ي، راح يعالج هذا الخلل عمليا، فأنشأ مجلة (الشهاب) الذي وضع لها الأستاذ البنا منهجية للكتابة يبرز منها: أنه قصد إلي علاج هذا النقص العلمي، فقد جعل لها أبوابا علمية ثابتة، كباب التفسير، وبدأ بمقدمة في علوم القرآن، ثم بتفسير سورة الفاتحة، ثم بدأ يفسر سورة البقرة، ثم يلي باب التفسير باب الحديث، وقد عهد به إلي والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا (الساعاتي) الذي بدأ بأحاديث في باب الجهاد ، ثم يليه باب مصطلح الحديث، ويليه باب عن النظام الاجتماعي الإسلامي، وهكذا كانت تسير المجلة علي هذه الخطي. فهو بذلك ينقد ثقافة الإخوان ، ويعالج ما يراه من ضعف علمي في الجوانب الشرعية والثقافية.

كتابات نقدية للإخوان

في عهد البنا، أفسح البنا المجال الواسع للنقد الذاتي للجماعة، فقام الدكتور عبد العزيز كامل، مسؤول قسم الأسر آنذاك، بالطواف علي شعب الإخوان ، ومناطقهم في أغلب محافظات مصر، أو مديريات مصر ـ حسب تسميتها آنذاك ـ ورصد الخلل التربوي لديها، والعيوب التي لاحظها، وراح يكتب سلسلة مقالات وصلت إلي أكثر من ثلاثين مقالا، بعنوان: حديث إلي الإخوان العاملين، وهي سلسلة منشورة في مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، ولعل الله يقيض لها باحثا يقوم بجمعها وتحقيقها ونشرها لأهميتها.

بل قام د. محمد فتحي عثمان حفظه الله، بكتابة مقالات نقدية ذاتية، وقد كان أوكل إليه الأستاذ البنا مسؤولية صفحة من صفحات مجلة الإخوان النصف شهرية، فكتب مقالا ينقد فيه بعض عيوب في قسم الطلبة، وقد كان مسؤولا عنه آنذاك الأستاذ فريد عبد الخالق (الدكتور الآن)، وكتب المقال بعنوان (إلي الطلبة) وكتب تحته: بعد إذن الأستاذ فريد عبد الخالق .

وعندما كتب الدكتور عبد العزيز كامل مقالا بعنوان: (مهندسو السطوح ومهندسو القاع) يمجد فيه رجال التنظيم الخاص بأنهم مهندسو القاع، والعمق، ولهم أهمية كبيرة، تفوق أهمية مهندسي السطوح، ويشير بمهندسي السطوح إلي عموم الإخوان في الدعوة، فقام ورد عليه محمد فتحي عثمان، بمقال مطول في مجلة الإخوان أيضا.

إذن تاريخ حسن البنا، وأدبياته العامة والخاصة، ومجلاته وصحفه، مملوءة بصفحات من النقد الذاتي لا حصر لها، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه: أن النقد الذاتي عند حسن البنا كان عملا مؤسسيا، وكان عملا رسميا معلنا معترفا به، ومرحبا بمن يقوم به.

هل كان يضيق بنقد الآخرين له؟

لقد كان حسن البنا من أرحب الناس صدرا بالنقد والنصح، وفي كثير من الأحيان يأتيه النقد من العلماء والدعاة، وهذا هو الغالب في النقد بصفة عامة، غير أن الإمام البنا لجأ إلي أسلوب جديد في النقد، فدعا قراء مجلاته إلي نقده، وإلي نقد المواد التي تقدم في المجلة، فعندما تولي رئاسة تحرير مجلة (المنار) خلفا للعلامة الشيخ محمد رشيد رضا، كتب يقول:

الدعوة إلي انتقاد المنار

إننا ندعو جميع من يطلع علي المنار من أهل العلم والرأي: أن يكتبوا إلينا بما يرون فيه من الخطأ في المسائل العلمية أو ما ينافي مصلحة الأمة، ونَعِد المنتقدين بنشر كل ما يرسل إلينا من نقد مع بيان رأينا فيه، بشرط: أن يكون النقد مختصرًا، مؤيدًا بالدليل، نزيه العبارة.

ونرجو عامة القراء: أن يطالبوا كل من يسمعون منه انتقادًا للمنار بكتابته وإرساله إلينا لنشره، وإلا أضاع الفائدة علي نفسه وعلي الناس، وكان نقده عقيما لا نتيجة له، وهو ما لا يرضاه لنفسه محبٌّ للمصلحة العامة، ونسأل الله أن يوفقنا جميعًا لخير ما يحب ويرضي.[1]

ولم يكن حسن البنا رحمه الله ممن يدعون للنقد، أو يدَّعون سعة الأفق، ورحابة الصدر، ثم عند نقدهم يضيقون ذرعا بما قيل عنهم، أو بمن نقدهم، بل كان رحمه الله نموذجا في تقبل النقد، مرحبا بكل درجات النقد، سواء كان نقدا بناءا أو غير بناء، مشتملا علي أدب الخلاف، أم عار عنها.

وعند تتبعي لكَمِّ الكتابات النقدية التي وجهت للبنا في حياته، أراها تنقسم إلي ثلاثة أقسام: نقد علمي رقيق، ونقد لاذع حاد، ونقد ساخر متهكم، وسوف أتناول كل هذه الألوان من النقد، مع ذكر نماذج منها، وموقف البنا من هذه الألوان من النقد جميعا.

1ـ النقد العلمي الرقيق:

أول هذه الألوان: هو النقد العلمي الرقيق، الذي يعتمد في الأساس علي لغة لا تجريح فيها ولا سباب، بل عمادها: النصح في الله، والأدب في أداء النصح، وقد كان هذا هو غالب النقد الموجه للبنا إلا القليل مما يندرج تحت القسمين الآخرين، وقد كانت شخصية البنا بطبيعتها تجبر كل مخالف علي احترامه وإن بدأ ناقده بعنف وحدة سرعان ما انقلب نقده إلي نقد علمي رقيق، نظرا لأن البنا لم يكن يقابل إساءة الناقدين بالإساءة، بل كان يأسرهم بلطفه وخلقه وأدبه، ومن هذا اللون أذكر اثنين من نقاده من العلماء، وهما: الشيخ محمد الحامد الحموي العالم السوري المعروف رحمه الله، والآخر: الشيخ محمود عبد الوهاب فايد رحمه الله.

الشيخ محمد الحامد الحموي ونقده للبنا:

كتب الشيخ محمد الحامد الحموي عدة مقالات ينقد فيها كُتَّاب (مجلة الإخوان المسلمون ) النصف شهرية، ثم الأسبوعية فيما بعد، ونشر الأستاذ البنا نقد الشيخ محمد الحامد الحموي، وقدم نقده بهذه التقدمة: (للأخ الشيخ محمد الحامد الحموي نظرات شرعية في بعض ما نشر وينشر في أعداد مجلة الإخوان ، أحببنا أن نطالع بها القراء في هذه الصفحة تباعًا، تجلية للحقيقة، وعرضا لمختلف النظرات، والحقيقة بنت البحث كما يقولون).

إلي أن وصل الأمر بالشيخ الحامد أن أرسل في إحدي المرات بورقة فيها بضع عشر نقدا لأشياء علمية أخذها علي الأستاذ البنا، وبكل شجاعة أدبية وحرص علي الاعتراف بالخطأ وقف الإمام البنا في (حديث الثلاثاء) يعترف بما أخطأ فيه، ويرد ما لم يقتنع به، بل يرد بأسلوبه المشتمل علي النكتة والطرفة المعهود في حسن البنا، فكان من ذلك:

أن الشيخ الحامد أخذ علي الأستاذ البنا أنه وهو في جلسة التشهد في الصلاة يهتز، وهو شيء لا إرادي اعتاد عليه المصريون الذين حفظوا القرآن في الكتاتيب، واعتاد عليه الأزهريون كذلك، فهو شيء لا إرادي، وقد فعله البنا سجية وهو لا يدري،

فقال البنا مازحا: والله يا شيخ محمد (أي الحامد) أنت حيرتني معك، فأنا حاولت ألا أهتز كما نصحتني، فحدث لي شيء من اللخبطة وعدم الخشوع والتركيز، وإن خشعت اهتززت بلا إرادة مني، وإن مَثَلي ومثلك: كمن قال لرجل طويل اللحية: يا عم الشيخ وأنت نائم أين تضع لحيتك؟ أسفل اللحاف (الغطاء) أم فوقه؟! والرجل كان ينام ولا يفكر في ذلك، فلما نبهه صديقه بالسؤال، ظل الرجل لفترة قبل نومه يفكر، أين لحيته: هل هي تحت الغطاء أم فوقه؟ مما ضيع النوم من عينه!!

وظل الإمام البنا يفسح صدره لنقد الشيخ الحامد، حتي وصلت سلسلة نقد الحامد (لمجلة الإخوان ) والبنا إلي ست مقالات متتابعات، مما حدا بالبنا أن يجعل عنوان هذه الصفحة بـ (صفحة النقد)، وبعد بضع شهور فوجئ قراء (مجلة الإخوان المسلمون ) بآخر مقال للشيخ الحامد في (صفحة النقد)، وقد صدرها البنا بهذه التقدمة التوديعية الرائعة، فكتب البنا يقول:

(كنا نود لو بقي صاحبها (أي صفحة النقد) الفاضل بيننا يسعدنا بروحه الزكية، وينقلنا بسمته الهادئ، وآرائه المحافظة إلي عصر السلف الصالح من العلماء العاملين، ولكنه آثر السفر إلي سوريا ، وغادر أهلا لا يقلون حبًّا له، وإجلالا عن أهله الأقربين، الذين سافر إليهم، جمعنا الله وإياه علي خير ما يرضيه).

نقد الشيخ محمود عبد الوهاب فايد للإمام البنا:

وممن نقدوا الأستاذ البنا وكان من طلبة الأزهر آنذاك: الشيخ محمود عبد الوهاب فايد رحمه الله، وهو من علماء الأزهر والجمعية الشرعية، وكان دائم الحضور للإمام البنا في حديث الثلاثاء، إلا أن الإمام البنا تحدث عن الملائكة فقال:

(الملائكة خلق من خلق الله تعالي يتشكلون بأشكال شريفة كالإنس ونحوهم، ولا يخرجون عن طاعة الله تعالي، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وقال بعض العلماء: إنهم خلق من نور، وهو قول يعوزه الدليل).[3]

وقد كتب الشيخ فايد ردا علي ما ذكره الأستاذ البنا، فقال: (قديما قال أرسطو: أفلاطون صديقي والحق صديقي، ولكن الحق أصدق منه. طالعت محاضرة فضيلة الشيخ حسن البنا في العدد السابع من المجلة فلاحظت عليها ملاحظات عابرة:

أولا:عقب فضيلة المرشد علي قول بعض العلماء في الملائكة أنهم خلق من نور بقوله: "وهو قول يعوزه الدليل".

ثانيا: تحدث عن علم الملائكة فقال: "وأما علم الملك فبالتلقي من لدن الحكيم الخبير".

ثالثا: استشهد علي خاصية الإنسان وخاصية الملائكة فقال: (وعلم آدم الأسماء كلها) البقرة: 31 فيها خاصية العلم للإنسان، وقوله تعالي: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) البقرة: 32 فيها خاصية الملائكة وهي التلقي.

ونبدي رأينا فيما ذكره فضيلة المرشد موجزين فنقول بصدد ملاحظتنا الأولي:

قام الدليل علي أن الملائكة خلقت من نور، فقد ورد في صحيح مسلم رضي الله عنه قال: عن عائشة قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" أ هـ ص 451 ج 10 هامش القسطلاني.

وبمقابلة الأنواع الثلاثة بعضها لبعض يتضح أنه أراد أصل خلقة الملائكة. وحديث مسلم حديث صحيح لا يدفعه ما ورد في بعض الآثار، إما لعدم المساواة وإما لعدم المنافاة. وقد شرح العراقي هذا الحديث بما يتمشي معنا كما في (طرح التثريب) ص 277 ج 8. ونص ابن حزم في (المحلي) علي هذا فقال ـ ص 13 ج1 بصدد الملائكة ـ: "خلقوا كلهم من نور، وخلق آدم من ماء وتراب، وخلق الجان من نار". ثم ذكر حديث مسلم بسنده إليه.

وقد رد الأستاذ البنا علي نقد الشيخ محمود عبد الوهاب فايد فقال:

"إلي حضرة الأخ في الله تبارك وتعالي فضيلة الشيخ أحمد عاشور حفظه الله تعالي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:

فقد اطلعت علي ملاحظة الأخ العزيز السيد محمود عبد الوهاب فايد التي بعث بها إليكم حول محاضرتي الملخصة في (الاعتصام) الغراء، وإني أبادر بشكر الأخ علي أدبه وأسلوبه الكريم، وأشكر لكم حسن ظنكم بأخيكم، وإسعاده بعرض هذه الملاحظات عليه.

ثم أقف بعد ذلك بالثناء علي فضل الأخ وعلمه، وحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم علي العين والرأس (فالملائكة من نور) ونفوض حقيقة النور الذي أشار إليه الحديث الشريف إلي الله تبارك وتعالي، وهو به أعلم، وجزي الله تعالي الأخ عنا خير الجزاء.

ولم أُرِدْ بما قررت من أن خاصية الملائكة التلقي نفي الاختيار، ولكن نفي التوهم والخيال الذي هو للإنسان أساس الابتكار، والذي كثيرا ما يؤدي إلي الخطأ والعثار، فإن يكن هذا القصد صحيحا فمن الله تعالي وله الفضل والمنة، وإن يكن غير ذلك فمن نفسي، وما أبرئ نفسي، ونحن ـ فيما أري ـ بعد ذلك الإيضاح متفقان.

وأسأل الله تعالي لي ولكم وللأخ العزيز تمام التوفيق والسداد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في غرة ذي الحجة سنة 1366هـ).

وقد كان الشيخ فايد رحمه الله يحكي هذا الموقف للعلماء وطلبة العلم، ويباهي به وبسعة صدر الإمام البنا رحمه الله، ويحكي هذا الموقف ومواقف أخري خالف فيها الأستاذ البنا ونقده علميا، حتي أصبح هناك تعارف بينه وبين البنا، فكان إذا أتي الشيخ فايد مجالس البنا يداعبه قائلا بين الإخوان والحضور: إذا جاء الشيخ فايد جاء بالفوايد.

2ـ نقد الآخرين المشتمل علي الحِدَّة:

ومن النقد المشتمل علي الحدة والطعن في البنا ومنهجه: نقد (جماعة شباب محمد)، وقد كانوا من الإخوان ثم انشقوا عليها، يحكي الأستاذ عمر التلمساني عن رد فعل البنا تجاه هذا النقد الحاد، بل الانشقاق العنيف، فيقول:

ويوم أن انشق بعض الإخوان ، وخرجوا من الجماعة، وسموا أنفسهم شباب محمد، لم يثر عليهم، ولم يقاطعهم، ولم يوزع عليهم الشبهات، ولم يؤلب أحدا عليهم، ولكن تصرف معهم التصرف الذي لا يتصرفه سواه في مثل هذا الموقف.

اتخذ شباب محمد له مقرا، وأعد دفاتر للاشتراك في صفوفه. فكان الإيصال الأول (نمرة 1) باسم حسن البنا، ليؤكد لهم أن موقفهم هذا لم يزعجه، وأنه يتمني لكل عامل في حقل الدعوة الإسلامية أن يوفقه الله لكل ما يحب ويرضي. وما دام هو واثق من نفسه، فلماذا لا يتصرف وهو علي بينة من نتائج هذا التصرف؟؟ إنه التصرف المناسب، تعالي علي الصغائر والمهاترات. واكتسب احترام الذين انشقوا عليه، لأنه لم يبدأهم بهجوم ولا ملام.]

3ـ النقد الساخر المتهكم:

واللون الثالث من ألوان النقد الذي وجه للبنا، هو النقد المشتمل علي السخرية والتهكم، ومع ذلك كان يتقبله البنا بصدر رحب، ويرد علي صاحبه بخلق حسن، فمن ذلك علي سبيل المثال:

أن البنا كتب يفسر قوله تعالي: (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوي علي العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) الرعد:2.

فاستدل علي تفسير الآية والتأمل فيها، بعبارات من كتاب نهج البلاغة.

رغم أن البنا كتب هامشا يعقب فيه علي نقله من نهج البلاغة، وحول نسبة الكتاب للإمام علي أم للشريف الرضي فقال: (في نسبة ما جاء في نهج البلاغة لعلي رضي الله عنه الخلاف المعروف بين الأدباء وسواء أكان القول من كلام علي رضي الله عنه أم من كلام الشريف فمعناه من حيث تعظيم الله وحسن الثناء عليه رائع بديع).

فكتب أحد القراء معقبا بسخرية وتهكم علي الأستاذ البنا:

(وملاحظة أخري في العدد الأخير نحب أن تبينوا لنا حقيقتها وهو ما نسبتموه لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في باب التفسير، ذلك الكلام العجيب الذي لا يشبه في أسلوبه ولا معانيه ما تواتر إلينا من كلامه رضي الله تعالي عنه ففي أي ديوان من داوين السنة المعتبرة عند المسلمين وجدتم هذا الخبر؟ أفيدونا رحمكم الله، وإن لم يوجد في شيء منها، فهل ترون أن أمثال هذه (الحواديت) التي ملئت بها بعض الكتب المجهولة الأصل مثل (نهج البلاغة) وغيره تصلح للاحتجاج ولتقرير عقيدة إسلامية؟! وإني وإن كانت بيني وبين فضيلتكم معرفة، إلا أني أحب أن أكون إلي حين مستترا ... والسلام عليكم ورحمة الله).

فأجاب البنا علي هذا النقد المتهكم قائلا:

(وثالثهما: استنكار ما نسبناه لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في باب التفسير والتهكم عليه بهذا الأسلوب اللاذع، فغفر الله للكاتب سَوْرَةَ قلمه وعفا عنا وعنه، ونحب له أن يروض قلمه دائما علي غير هذا الأسلوب فهو أعف وأبر، ولو أن حضرته التفت إلي أننا إنما سقنا هذا الكلام للبيان والاستئناس لا للاحتجاج والاستدلال وهذه واحدة، ونسبناه إلي نهج البلاغة ولم ننسبه إلي الإمام كرم الله وجهه وهذه الثانية، وعلقنا في حاشية المقال بما يستفاد منه أن نسبة هذا الكتاب موضع خلاف بين الأدباء وهذه الثالثة، لو أن حضرته ألتفت إلي هذه النواحي الثلاث لأعفي نفسه وأعفانا من هذا التعليق القاسي الذي لا مبرر له).

هذه حالات ثلاث للنقد الموجه لحسن البنا، وكيف كان تقبله للنقد فيها، مؤثرا الاستفادة منها، علي اتهام الناقدين، أو البحث عن نياتهم، أو عن تصنيفهم، بل تقبل النقد بأريحية وسعة صدر كبير، وهو كما نري حالات نقد علنية، منشورة في صحف ومجالات سيارة.

القسم الخامس: الإمام حسن البنا ولأواء الطريق

نصبر على الاعتقالات ونثبت في المحاكمات

- تثبيت

﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) ﴾ (إبراهيم).

آيتان من كتاب الله تبارك وتعالى في سورتَين منه: في الأنعام وفي هود، ظلَلْتُ أذكرهما منذ الحديث السابق إلى اليوم، فأحببتُ أن يشركني الإخوان الكرام في تذوُّق حلاوتهما وتدبُّر معانيهما، والعظة الكاملة بما فيهما، و﴿ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ (الأنفال: من الآية 7).

ذكرت الأولى في سورة الأنعام ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ (35)﴾ (الأنعام).

لقي الأخنس بن شريك أبا جهل في بدر في خلوة، فقال له: “يا أبا الحكم ليس ها هنا أحدٌ إلا أنا وأنت تسمع ما يقول.. أفتظن أن محمدًا كاذب وما عهدنا عليه كذبًا؟!”، فقال أبو جهل: “يا هذا إن محمدًا لصادق، ولكن إذا ذهبت قُصَيّ بالحجابة والسقاية والندوة والنبوة.. فما لسائر قريش؟!” فأنزل الله الآية الكريمة: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾.

وكذلك الناس في كل زمان ومكان، هل يظن أحد في هذا الوادي أن دعوة الإخوان التي ترتكز على أصول الإسلام الحنيف، وهو دين الدولة والأمة دعوة باطلة أو كاذبة؟! لا، ولكن الأحزاب المستفيدة، والحكومات المتعاقبة، وأهل الجاه والسلطة يكرهون أن تقوم في الناس دعوةٌ تعلِّم الجاهلين، وتنبِّه الغافلين، وتأخذ بحقِّ المظلومين من الظالمين، وتقرّ العدالة باسم الله رب العالمين، ولو عقلوا لعلموا أنهم ناصروا دعوة الحق واعتنقوا فكرة الحق، قام سلطانهم على دعائم لا تزول ولا تحول، ولكن هكذا كان، ولله في خلقه شئون.

وذكرت الآية الثانية في ختام سورة هود قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾ (هود).

فقلت ما أشبه الليلة بالبارحة..!! ﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وهل خرجت دعوة الإخوان عن أنها الحق والموعظة والذكرى للمؤمنين؟!

فيا أيها الذين لا تؤمنون بها.. اعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون..

ويا أيها الإخوان المسلمون من المؤمنين بدعوة الإسلام والمجاهدين في سبيلها.. اعبدوا الله حقَّ عبادته، وتوكَّلوا عليه في كل شئونكم، وما ربكم بغافل عما تعملون ويعملون، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، واثبتوا على هذا الخبر اقتداءً بنبيكم والمرسلين من قبله، صلوات الله عليهم أجمعين.

ولا أحب أن أُطيل عليكم القول، فتذهب الإطالة بحلاوة الآيات الغنية عن الشرح والبيان لمن كان له قلب أو ألقَى السمع وهو شهيد.

(هذا المقال ورد بجريدة (الإخوان المسلمون ) اليومية- السنة الثانية- العدد 597- ص 1 بتاريخ 29 جمادى الأولى 1367هـ= 9 أبريل 1948 م).

- محنة أو منحة

﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33)﴾ (يوسف).

كذلك مضت سنةُ ربك من قبل ومن بعد.. ما صدع أحدٌ بالحق وجهر به، ودعا الناس إليه إلا أوذي، والعاقبة للمتقين والنصر للصابرين.

﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)﴾ (البقرة).. ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾ (الحج)، ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)﴾ (العنكبوت)، وسبحان من قسَّم الحظوظ، فلا عتابَ ولا ملامةَ، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ (الشورى: من الآية 7).

تلوت هذه الآيات جميعًا، واسترسل بي التفكير، وتداعت إلى نفسي المعاني، يأخذ بعضها بعجز بعض، وانتقل الخاطر من الآيات إلى العظات، ومن الحاضر إلى الغابر، وتكشَّفت صحائفُ التاريخ، فلمحتُ في ثناياها المشرقة أئمة الفقه الإسلامي الأربعة: أبا حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل الشيباني، رضي الله عنهم جميعًا، أولئك الذين مهَّدوا للناس سبُل الفقه، وعبَّدوا طرائقَه للسالكين، وكانوا في الناس كالشمس للدنيا والعافية للبدن، ومع هذا لم ينجُ أحدهم من محنة في سبيل الحق، كانت له منحةً ولا شكّ.

عُرض القضاء على أبي حنيفة مرتين، وهو يعلم أن استقلال القاضي حينذاك قد يهدِّد بتدخُّل الولاة ورأي الخلفاء، مع أن القاعدة العامة يومئذ أن منزلة القاضي من السموّ بحيث لا تنال منها رهبةٌ ولا تؤثر فيها رغبةٌ، وكان لأبي حنيفة في الدولة رأيُه فلم يشأ أن يقبل، وألحَّ أبو جعفر وأصرَّ أبو حنيفة، وأقسم الخليفة فأقسم الإمام، وانتقل الأمر إلى التهديد والوعيد، فلم يفعلا شيئًا أمام عزيمةٍ أقوى من الحديد، وضُرب الإمام أكثر من مائة سوط حتى سال الدم على عقبيه وهو ثابتٌ لا يلين، وحُبس حتى مات في محبسه أو أُخرج منه واعتُقل في منزله لا يُفتي، ولا يجتمع الناس عليه، وهو على موقفه الأول، وجاءته أمه تعاتبه وتقول: “يا نعمان، إن علمًا ما أفادك غير الضرب والحبس لحقيقٌ بك أن تنفرَ عنه”، فقال: “يا أماه لو أردت الدنيا ما ضُرِبت، ولكن أردت وجه الله وصيانة العلم”.

وسئل مالك عن طلاق المكرَه- وهو يعلم ما يقصد السائل، وأنه يسأل عن يمين البيعة يُكرِه الوالي عليها الأمةَ، فلا تجد مخرجًا إلا اليمين هربًا من العذاب الأليم- فقال: “طلاق المكره لا يقع”، وغضب الوالي لفتوى الإمام، وأحضره، وحاول أن يثنيَه عن عزمه، وأنَّى له، فأمر به فضُرب مائة سوط، وجُذب جذبًا عنيفًا حتى خلعت كتفه، وطيف به في الأسواق وهو يقول مع هذا كله: “طلاق المكره لا يقع”.

واتُّهم الشافعى رضي الله عنه في اليمن بانضمامه إلى حزب الطالبيين وشغبه على حكومة الرشيد وإمامته، فأُحضر من صنعاء إلى بغداد بالسيف والنطع، وأُعدم قبله تسعة وكان هو العاشر، ومع هذا لم تهُن عزيمتُه، ولم تلن قناته، ولم يذهب الخوف بلبّه، وأثبت الحق لنفسه حتى فاز بإعجاب الخليفة به، وتقريبه إياه، وسلم العلم والفضل بسلامته.

وحاول المعتصم أن يظفر من الإمام أحمد بن حنبل الشيباني بكلمة تُوافق رأي الخلافة ومذهبها حين ذاك، والإمام حيث هو وقَّاف عند كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- منكِر لكل ما يسمع عداهما لا يتحوَّل ولا يتردَّد، وضُرب حتى غُشي عليه، وسُجن في بيته لا يتصل بأحد، ولا يتصل أحد به، حتى فرَّج الله عنه، فلم يكن خصومه معه إلا على حد قول القائل:

كناطح صخرة يومًا ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

ومن قبل ومن بعد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مضت وتمضي سنة الله العلي الكبير ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)﴾ (محمد).

فاللهم إن كان بلاءً في مرضاتك وفي سبيلك فمرحبًا به وأهلاً، ولك العتبى حتى ترضى، وما لم يكن بك غضبٌ علينا فلا نبالي، وعافيتك بعد ذلك أوسع لنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وأنتم أيها المجاهدون العاملون لدعوات الحق اليوم وغدًا.. هذا نبأٌ من الأمس ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 90).

(هذا المقال ورد بجريدة (الإخوان المسلمون ) اليومية- السنة الأولى- العدد 192- ص 1 بتاريخ 25 محرم 1366هـ= 19 ديسمبر 1946 ).


من أخر ما تحدث به الإمام البنا في جموع الإخوان

بمناسبة مرور عشرين عامًا على تأسيس الجماعة

بسم الله الرحمن الرحيم...

(الْحَمْدُ للهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) "الأعراف: 43".

أيها الإخوة الفضلاء الأعزة الأحبة:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله مباركة طيبة

وبعد،

فإنى أنتهز فرصة هذه الذكرى العزيزة الغالية فأتقدم إليكم جميعًا مهنئًا بما كتب الله لكم من توفيق، وما أجراه على أيديكم من خير، وما اختصكم به من ثبات على كلمة الحق مهما تقلبت الحوادث وطالت الأعوام" يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ" "إبراهيم: 27".

كما أتقدم إليكم بعد ذلك مذكرًا بخصائص دعوتكم بين الدعوات، وعظيم تبعتكم فى هذه الأوقات لعل فى هذه التذكرة توجيهًا وتبصرة، والذكرى تنفع المؤمنين.

فاذكروا -أيها الإخوان - دائمًا أنكم الكتيبة المؤمنة التى انتهى إليها فى هذا العصر المادى المظلم بالشهوات والأهواء والمطامع واجب الدفاع عن كلمات الله ورسالاته، والمحافظة على أحكام شريعته وآياته، ودعوة الإنسانية التائهة فى بيداء الحيرة إلى الصراط المستقيم من هدى الله وكلماته، فأنتم بذلك تهتفون بأكرم دعوة، وتنادون بأقدس منهاج، وصدق الله العظيم : "وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*صِرَاطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُور" "الشورى: 52-53".

أيها الإخوة الفضلاء الأعزة:

لقد تحدثت فى البيان الصحفى عن كثير من الحوادث والمواقف والآراء فارجعوا إلى ذلك إن شئتم، ففيه إيضاح لرأى الإخوان فى كثير مما يشغل الأذهان الآن.

وفى ختام هذه الكلمة أذكركم بأن الله ميزكم بالانتساب إلى الدعوة، فاحرصوا على التميز بآدابها وشعائرها بين الناس، وأصلحوا سرائركم، وأحسنوا أعمالكم، وكونوا مثال التآخى والتعاون والتآزر فيما بينكم، واستقيموا على أمر الله تبارك وتعالى، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وتوجهوا بالنصيحة فى رفق ولين إلى الناس أجمعين، واستعدوا للبذل والاحتمال والجهاد بالنفس والمال، وأكثروا من تلاوة القرآن الكريم، وحافظوا على الصلوات فى الجماعات، واعرضوا عمن تولى عن ذكر الله ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ولا تشغلوا أنفسكم بالجدل والمراء مع الخصوم أو الأصدقاء، ولكن حاولوا أن تصلوا بهم إلى الحقيقة فى تلطف وهدوء، واعملوا لوجه الله تبارك وتعالى مخلصين له الدين حنفاء، وانتظروا بعد ذلك تأييد الله وتوفيقه ونصره " وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيز" " الحج: 40".

وإن أخص ما أوصيكم به بهذه المناسبة أن يكون شعارنا دائمًا: "النظافة" النظافة فى: الضمير، والتفكير، وفى اللسان، وفى اليد، وفى الثوب، وفى البدن، وفى المطعم، والمشرب، والمظهر، والمسكن، والتعامل، والمسلك، والقول، والعمل. وإن مما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته: " تنظفوا حتى تكونوا كالشامة بين الأمم"، و"بنى الدين على النظافة".

وما أجملها إشارة وأرقها عبارة أن يكون أول فقهنا فى العبادات الطهارة، وفى الحديث الصحيح: "مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور"، وصدق الله العظيم : " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " .. "البقرة 222 "

أيها الإخوة الفضلاء الأعزة:

على رأس عشرين عامًا كاملة نقف لنحيى الماضى ونطالع المستقبل، ثم نتابع خطوات الجهاد فى سبيل الغاية المقدسة حتى يأتى أمر الله فإلى الأمام دائمًا، مرحلة بعد مرحلة فى توفيق وسداد بإذن الله، والله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا، والله أكبر والله الحمد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



الإخوان المصريون .. بقلم الإمام حسن البنا

طلب إلينا كبير أن نقترح على فضيلة الأستاذ حسن البنا أن يغير اسم جماعته من "الإخوان المسلمين " إلى "الإخوان المصريين" حتى يبعد بهذا عن جماعته شبهة الطائفية والتفريق بين أبناء الوطن الواحد..

وقد نقلنا هذا الاقتراح إلى فضيلته.

فكتب إلينا ما يلى:

يعتقد الإخوان المسلمون أن الحياة الإنسانية السعيدة لن تقوم بغير المعانى الروحية، وأن أية نهضة تخلو من هذه المشاعر تكون نهضة ناقصة؛ ذلك لأنه لا الفكرة القومية وحدها، ولا الوطنية المجردة، ولا الأفكار الاقتصادية البحتة بقادرة على أن تدفع الحياة الإنسانية إلى الكمال المنشود.

كما أن الإخوان المسلمين يودون أن تكون فكرتهم أوسع من أن تظل إقليمية عنصرية، ولهذه الأسباب استندوا فى حركتهم إلى تعاليم الإسلام وروحه وأطلقوا على هيئتهم اسم "الإخوان المسلمين ".

أما شبهة الطائفية ونحوها فهى مدفوعة بالإسلام نفسه الذى جاء شريعة إنسانية، توصى بالرحمة والعدل بين الناس جميعا، وفى هذا يقول القرآن الكريم ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة:8].

وما كان التمسك بالإسلام فى يوم من الأيام مصدر خصومة بين أبناء الوطن الواحد. ولعل من العوامل التى تجعل الإخوان يحرصون كل الحرص على التمسك بهذه التسمية أن يظهروا للناس هذه الحقيقة فى شريعة الإسلام.


الإمام البنا .. حصاد السنين

بين عقد وآخر أو ربما بين جيل وآخر تتنزل من السماء رحمات إلهية تجدِّد للمسلمين حياتهم، وتضعهم على الطريق المستقيم، وتقيهم زلل الدنيا وغواية الشيطان، ومن بين الرحمات التي يهبنا الله تعالى إياها أناس يمنحوننا الهداية ويضعوننا على الطريق دعاة للحرية ولخير البشرية جمعاء.

ومن بين هؤلاء هذه الشخصية الفريدة من نوعها والتي نتحدث عنها في هذا المقام؛ الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس دعوة الإخوان المسلمين ، إحدى أهم الظواهر السياسية والإنسانية في المائة عام الأخيرة.

فرغم كل المحن فقد واصل الإمام البنا أداء رسالته حتى لحظة وفاته، وإننا يمكن أن نقول بكل اطمئنان: “إن لفكر “البنا” وطبيعة شخصيته وسماته الخاصة والسمات العامة لخطابه- على تنوع اهتماماته- دورًا كبيرًا في رسم مسيرة الإخوان المسلمين ، ودعوتهم حتى في مرحلة ما بعد استشهاده- رحمه الله- لذلك يمكن القول: إنَّ ميراث البنا وحصاده السياسي بالذات أكبر بمراحل من سنوات عمره التي قضاها في خدمة الدين والدعوة.

إنَّ فكرَ هذا الرجل وميراثه كان محل اهتمامٍ كبيرٍ من جانب العديدين داخل مراكز الأبحاث، وصناعة القرار في البلدان الغربية، ولذلك فإنَّ مراكز الأبحاث- وبشكل خاص في الولايات المتحدة وفرنسا- عندما أرادت أن تضع تقريرًا بأهم مائة شخصية أثَّرت في العالم في القرن العشرين كان “البنا” أحدَ اثنين ضمتهما هذه التقارير.

البنا.. مسيرة صعبة

لم تكن مسيرة حياة الإمام البنا بالسهلة أو باليسيرة سواء على المستوى الشخصي الخاص، أو على المستوى العام المتصل بالعمل السياسي، والدعوي في فترة من أصعب الفترات في التاريخ المصري الحديث.

وفي هذا الصدد فإنَّ هناك عواملَ عدة ساهمت في رسم مسار حياة الإمام البنا شخصيًّا وسياسيًّا، وهذه العوامل ذات أبعاد متعددة يمكن رصدها من خلال بعض محطات حياته في الصغر والكبر.

مراحله الأولى

هو حسن أحمد عبد الرحمن البنا المولود في يوم الأحد 25 من شعبان سنة 1324هـ الموافق 14 من أكتوبر سنة 1906 م، ومسقط رأسه هي بلدة المحمودية إحدى بلدات محافظة البحيرة، ويعود أصله إلى أسرة ريفية متوسطة الحال كانت تشتغل بالزراعة بإحدى قرى الدلتا، وهي قرية “شمشيرة” وتقع بالقرب من مدينة رشيد المطلة على ساحل البحر المتوسط في شمال مصر، وتطل في الوقت ذاته على النيل وتتبع مركز فوة- محافظ كفر الشيخ.

كان جد الإمام البنا- عبد الرحمن- فلاحًا من طبقة صغار الملاك الزراعيين، أما والده الشيخ أحمد البنا- أصغر أبناء السيد عبد الرحمن البنا- فقد نشأ نشأةً دينيةً، حيث التحق بكتاب القرية فحفظ القرآن الكريم، وتعلَّم أحكام التجويد، وتعلم بعد ذلك علوم الشريعة في جامع إبراهيم باشا بمحافظة الأسكندرية .

ومن هنا يمكن أن نرصد في المراحل الأولى لحياة الإمام البنا عاملين أساسيين ساهما في رسم شخصيته، العامل الأول يتعلق بطبيعة النشأة البسيطة التي نشأها، والتي رسخت لديه أمرًا مهمًّا كان له أبرز الأثر في توجيه فكره وحركته فيما بعد، ألا هو الإحساس بمعاناة الطبقات الدنيا للمجتمع المصري والتي تمثل الأغلبية الساحقة من المجتمع المصري مع التطلع في الوقت ذاته إلى التخلص من الأسباب والعوامل التي أدَّت إلى تردِّي أحوال المجتمع على هذا النحو،

وكان على رأس هذه العوامل الاستعمار البريطاني في مصر، وسيطرة رأس المال الأجنبي، ونظام الإقطاع الزراعي على النظام الاقتصادي المصري- مع ما كان لهذا القطاع- الزراعة- من أهمية اقتصادية، واجتماعية كبيرة- مع ما كان موجودًا في مصر في ذلك الحين من سلطة فاسدة وضعيفة، يقودها نظام ملكي فاسد ومستبد موالٍ للاستعمار البريطاني، الذي كان موجودًا في مصر في ذلك الحين .

إضافةً إلى حالة الجهل والفقر التي كانت سائدةً في عموم القطر المصري، وهو ما كان له أبلغ الأثر في صدد رسم فكر الإمام البنا، وهو يتحدث عن مشروعه الكبير؛ الإخوان المسلمين دعوة وجماعة.

العامل الثاني الذي رسم فكر الإمام البنا وشخصيته في هذا المجال، كان النشأة الدينية والاجتماعية المحافظة التي نشأ عليها الفتى حسن البنا، حيث كان والده أحد دارسي الحديث الشريف بجانب كون حسن البنا ذاته ذا تربية تعليمية دينية من الأصل؛ حيث بدأ تعليمه في مكتب تحفيظ القرآن في مسقط رأسه؛ المحمودية، وتنقَّل بين أكثر من كُتَّاب.

كل هذه الأمور أدَّت إلى أن يتطبع فكر الإمام البنا الإصلاحي ومشروعه بعددٍ من السمات الرئيسة، كان على رأسها أولاً: الاهتمام بالبعد الاجتماعي والتربوي،

وثانيًا: مع اتساع نطاق الأزمات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية وضخامتها في مصر، والعالم العربي، والإسلامي تبنَّى الإمام البنا المنطق “التدريجي” للإصلاح مع قوة وعنف ضغط عوامل الضعف الموجودة، وثالثًا: اتساع المساحة الجغرافية المطلوب العمل فيه، وقوة العدو الذي تحاربه الدعوة من استعمار، ونظم سياسية فاسدة.

كذلك كانت الحياة السياسية المصرية في ذلك الحين مؤهلةً تمامًا لتلقي دعوة الإخوان في ظل فشل الأحزاب السياسية الليبرالية والعلمانية ، والشيوعية كالوفد، والوطني، ومصر الفتاة ، والأحرار الدستوريين لا سيما بعد وفاة قيادات الجيل الأول من الزعماء الوطنيين في مصر مثل مصطفى كامل، ومحمد فريد، وأخيرًا سعد زغلول، وكان فساد الأحزاب والفقر- حيث ساد مجتمع النصف في المائة- والأمية، وسيطرة الاستعمار البريطاني على القرار السياسي المصري، كما سبق القول كلها كانت عوامل إضافية ساهمت في تشكيل فكر وحركة الإمام حسن البنا رحمه الله.

هذه الخلفيات وجَّهت الإمام البنا في تفكيره في كيفية صياغة شكل أو صورة تنظيمية للعمل على علاج مشكلات المجتمع المصري، والتي لم يكن العالم العربي والإسلامي استثناءً منها، مما أوجد بعُدًا عالميًّا مهمًّا في فكر وحركة الإمام الراحل.

المرحلة الوسيطة في حياة الإمام البنا

كان لدراسة الإمام البنا في مدرسة المعلمين الأولية في دمنهور ثم التحاقه بكلية دار العلوم بالقاهرة في سنة 1923م- تخرج فيها في سنة 1927 م- دورٌ كبير في صدد تطوير الإمام البنا على المستوى الفكري والثقافي؛ فكان لديه مكتبة خاصة يزيد عدد كتبها على عدة آلاف من الكتب، كما كان لديه عدد كبير من المجلات والدوريات المهمة التي كانت تصدر في ذلك الحين مثل “المقتطف”، و”الفتح”، و”المنار”.

المهم أن البنا في ذلك الوقت كان مهتمًّا بتيار الصحوة الإسلامية، والنهضة المفترض أن يتمَّ دعمها لدى الأمة العربية والإسلامية، فكان أن تعارف على عدد من الجمعيات والجماعات ، مثل “جمعية الأخلاق الأدبية”؛ و”جمعية منع المحرمات” في المحمودية، و”الطريقة الحصافية” الصوفية في دمنهور، ثم شارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين في العام 1927 م، وكان أحد أعضائها قبل نحو عام من تأسيسه للإخوان المسلمين .

هذه المرحلة أكملت ما بدأته المرحلة الأولى من حياة الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله- حيث تبلورت فيها فكرة الإخوان في ذهن الإمام البنا، وهي الفكرة التي ظل نحو عشرة أعوام يطور فيها على المستويين التنظيمي والفكري حتى أعلنها رسميًّا في الإسماعيلية ؛ حيث كان يعمل معلمًا ثم أتبعه بقسم الأخوات المسلمات في السادس والعشرين من أبريل من العام 1933 م.

وقد ساهمت مجموعة من الشخصيات الأخرى في رسم شخصية الإمام البنا- رحمه الله- ومن بينهم الشيخ محمد زهران صاحب مجلة “الإسعاد” التي كانت تصدر في عشرينيات القرن الماضي، وصاحب مدرسة الرشاد التي التحق بها الإمام البنا لفترة، وإن كانت وجيزةً إلا أنها كانت مهمةً في حياة الإمام البنا في بلدة المحمودية بالبحيرة، ثم كان هناك أيضًا الشيخ طنطاوي جوهري صاحب التفسير القرآني المعروف باسم “الجواهر”، وترأس تحرير أول جريدة أصدرها الإخوان المسلمون في العام 1933 م طبقًا لما ذكره الكاتب، والباحث الدكتور إبراهيم غانم.

على النحو سالف الذكر فإن كل هذه الأطر كانت شديدةَ التأثير على أولاً شخصية وثانيًا فكر الإمام البنا، وأخيرًا مسيرة حياته، وحصاد السنين الذي تلاه.

ميراث أكبر من سنوات حياته..

على القصر النسبي لعمر الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله- حيث استشهد عن عمر لم يزد على الثلاثة، والأربعين من الأعوام إلا أن ميراثه لم يكن أبدًا وقفًا أو محدودًا بهذا المدى العمري البسيط حيث إنه ومن خلال مراجعة حصاد العقود الثمانية المنصرمة من عمر دعوة الإخوان المسلمين يمكننا أن نجد ميراثًا واسعًا لم يقف عند حدود بلد النشأة، والنمو، مصر، أو عند حدود العالم العربي؛ بل إنه تجاوز كثيرًا هذه الحدود والتخوم ليمتد ليشمل أثره العالم الإسلامي كله ونطاقات عريضة في الغرب المسيحي.

وفي هذا السياق، وعند البحث، والدرس في هذا الأمر أو محاولتنا الإجابة عن هذا السؤال؛ ماهية حصاد العقود الماضية؛ فإننا يمكننا أن نلمس العديد من الجوانب التي تستحق الدرس، والتأمل، والتي يتسع نطاقها بحيث لا يتضمن الجوانب السياسية، والدعوية فحسب بل المناحي الاجتماعية، والتربوية، والثقافية وكذلك الفكرية سواء في مجتمع الإخوان ، أو المجتمعات التي وجد فيها الإخوان ، وأثروا فيها وبها.

وعلى ذلك فإنه من الصعوبة بمكان الحديث عن حصاد الإخوان المسلمين ، أو حصاد الإمام البنا في هذه العجالة البسيطة حيث يحتاج الأمر إلى المزيد من الدراسات المعمقة، والواسعة المدى للإلمام فقط ببعض، وليس كل جوانب الصورة التي نبحث عنها، وفي هذا الإطار فإن حديثًا واجبًا عن ميراث الإمام البنا لن يكون وافيًا حتى على مستوى الإشارة، ولو قصرناه على الجانب السياسي فقط من حصاد العقود الماضية.

وحتى في الدراسات الغربية السياسية، والاستشراقية مثل ما كتبته المفكرة، والباحثة البريطانية “كارين آرمسترونج”، والباحث، والدبلوماسي الألماني المسلم “مراد هوفمان”، وحتى المستشرق، والمفكر المسيحي المتطرف “برنارد لويس” نجد أن الإخوان المسلمين ، وتراث الإمام المؤسس “البنا” لم يكن هذا الأمر ليؤخذ على محمل الريح في التناول بل كان له وضعه في الدراسات المعمقة في ظل عدد من العوامل أولها عميق التأثير الذي تركته الحركة الإخوان ية على مسار السياسة، والحكم في العديد من بقاع العالم العربي، والإسلامي انطلاقًا من مصر ووصولاً إلى أقصى الحدود الغربية للأمة في المغرب ، وموريتانيا، وأيضا حتى إندونيسيا في الجانب الآخر من العالم الإسلامي.

السياسة كمشروع لدى الإمام البنا

في السياق السابق، وبالرجوع أيضا إلى الوقائع، والمعلومات التي تذكرها وثائق أجهزة المخابرات، ودوائر الدبلوماسية في بريطانيا، والولايات المتحدة، وكذلك الكيان الصهيوني حتى من قبل انتصار العصابات الصهيونية الإرهابية في فلسطين في العام 1948 م فإننا نلحظ عدداً من الأمور المهمة في ذات الصدد الذي نتحدث عنه،

وأول هذه الأمور هي أن الإخوان المسلمين ، وخصوصا في سنوات الإمام البنا هي إحدى أهم الحركات السياسية- على أنها أكبر كثيرًا من مجرد حركة سياسية- التي ظهرت في العالم في القرن العشرين، وزاد تأثيرها كثيرًا على الحركة القومية، والتيار الشيوعي في العالم العربي، والإسلامي.

كذلك اعتبر الإمام البنا ذاته أولاً العدو الأول للمشروع الاستعماري الغربي المسيحي- اليهودي في مصر، ومنطقة شرق السويس بأكملها، ولذلك كان هدف تصفيته، وتصفية جماعته، التي كانت وليدة في تلك الفترة على رأس أولويات أجندة الوجود السياسي، والأمني للولايات المتحدة، وبريطانيا، وكذلك قادة المشروع الصهيوني في فلسطين مثل ديفيد بن جوريون.

أما في الداخل السياسي على مستوى البلدان التي انتشرت فيها دعوة الإخوان سواء على المستوى الفكري أو على المستوى العملي، والسياسي في العالم العربي، والإسلامي فقد ارتأت الحكومات الموجودة في ذلك الحين فيها سواء الفاسدة منها، أو العميلة للاستعمار الغربي في مختلف بقاع الأمة أن مشروع الإخوان ، الذي أسسه البنا- يمثل الكثير من المخاطر على وجودها، وقواعدها التنظيمية، والسلطوية، وبالطبع مكتسباتها البيروقراطية، والاقتصادية إضافة إلى أمنها الشخصي بالطبع وبخاصة على مستوى شخصيات قمم الأنظمة الحاكمة.

ميراث وحصاد السنين

بناءً على عقيدة راسخة، وانطلاقاً من تراث الشهادة لدى كل مسلم انطلقت دعوة الإخوان منذ العام 1928 م، وحتى الآن محققة بقيادة “البنا” حتى بعد استشهاده معجزات سياسية على أي مقياس بما في ذلك المقاييس الرصينة للعلوم السياسية.

وكانت البداية في مصر أولاً حيث ظهر الإخوان كدعوة إسلامية شاملة في ظل أزمة سياسية، واستعمار خانق، وأحزاب إما ضعيفة، ومدجنة، أو فاسدة، وحاول الإخوان ، رغم العنف الأمني والسياسي المنظم الذي مورس ضدهم، أن يتموا أداء رسالتهم فكان النجاح العظيم في مصر في ثورة 23 يوليو من العام 1952 م قبل أن يستولي عليها جمال عبد الناصر لنفسه، ومن قبل كانت تجربة الإخوان في محاولة تأسيس كيان إسلامي في اليمن في الفترة ما بين عامي 1938م و1948 م حتى استشهاد الإمام البنا.

وعبر العقود الماضية استطاع الإخوان في ظل استراتيجية الإمام البنا أن يكونوا الرقم السياسي الصعب في البلدان التي يوجدون فيها رغم الحرب الإعلامية، والسياسية، وكذلك الأمنية التي واجهتهم عبر مسيرتهم.

ويعتبر الإخوان الآن بشهادة المنصفين، وغير المنصفين من رجال السياسة في الغرب هم الرقم الصعب في العملية السياسية في البلاد التي يتواجدون فيها.

وبخلاف العملية السياسية في العالم العربي، والإسلامي ربما تعتبر دعوة الإخوان صمام الأمان الوحيد الآن أمام التيارات المتشددة ومعبرًا أساسيًا عن الإسلام الصحيح الوسطي، وهو ما دعا الإدارة الأمريكية الحالية ذاتها - وهي المعبر الرئيس عن التطرف البروتستانتي المسيحي اليهودي- إلى البدء، ومنذ العام الماضي 2005م، ومن خلال مؤتمر الدوحة الثاني للحوار الإسلامي الأمريكي المنعقد في أبريل من ذلك العام في إعادة إنتاج خطابها السياسي إزاء الجماعات الإسلامية، التي توصف بالمعتدلة وبدء جهد دبلوماسي وإعلامي للتعاطي معها، وكان الإخوان ، ولا يزالون على رأس هذه القائمة.

في القضية الفلسطينية لا تزال الأسس التي وضعها “البنا”- رحمه الله- فاعلة، وثوابتها قائمة منذ أن كان “البنا”، وإخوانه يدورون على بيوت البسطاء المصريين، والعرب ليجمعوا ثمن الرصاصة، والبندقية لخدمة القضية الفلسطينية، ومنذ أن استطاع الإخوان تحقيق الإنجاز العسكري الكبير في القدس، والنقب في حرب فلسطين من العام 1948 م حيث كانوا هم القوة الوحيدة التي استطاعت هزيمة قوات العصابات الصهيونية ، وقد بذل الإخوان جهدهم الكبير بقيادة “البنا” في ذلك الحين لدرجة أن كثيرًا منهم ذهب سيرًا على الأقدام من القاهرة إلى فلسطين، وجبهة النقب بالذات كانت شاهدة على هؤلاء بعد أن قامت حكومة رئيس الوزراء الأسبق محمود فهمي النقراشي في مصر آنذاك بالتضييق على سفر متطوعي الإخوان إلى فلسطين.

كذلك حقق مجاهدو الإخوان هذا النصر على العصابات الصهيونية التي كانت مسلحة بالعتاد الأحدث، والرجال المدربين في أوروبا على أرفع مستوى من مستويات الحرب، والقتال رغم صدور قرار حل الجماعة ثم استشهاد الإمام البنا في مطلع العام 1949 م.

واستمر ميراث “البنا” في صدد قضية العرب، والمسلمين الأولى- قضية فلسطين، وفي القلب منها القدس- في مرحلة ما بعد “البنا”- رحمه الله- حيث ظهرت حركة فتح- كبرى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من بين جيل الوسط في إخوان فلسطين في أواخر الخمسينيات الماضية، والتي قادت العمل الوطني الفلسطيني طيلة عقود طويلة من الصراع، وكان من بين هؤلاء: صلاح خلف (أبو إياد)، وخليل الوزير (أبو جهاد) وغيرهما الكثيرون ثم، وفي عام 1987 كانت البشارات الأولى لمولد حركة المقاومة الإسلامية “حماس” التي واصلت بشهدائها مسيرة العمل الفلسطيني النضالي المسلح ضد الكيان الصهيوني الغاضب، ودفعت من دم أبنائها، وأعصابهم، وأموالهم الكثير، ولنا في الشهداء يحيي عياش، والأخوين عقل، والرنتيسي، ودرة الشهداء الشيخ أحمد ياسين، ذلك الرجل القعيد الذي هز عرش الأمن الصهيوني من فوق فراش العجز، وكرسي الحركة المعدني البسيط.

من يريد الحديث عن ميراث “البنا”، وأفكاره، ومبادئه، ينظر للشارع المصري، والعربي، والإسلامي، ولير كم فتاة هداها الله تعالى، وارتدت الحجاب، وكم شابًا راعى دينه، وربه تأثرًا بشخص “البنا”، ومبادئ “البنا”، وكم قيادة نقابية، وحزبية وإعلامية درست فكر “البنا”، وعملت به فأحسنت من مسيرتها.

القسم السادس: قالوا عن الإمام البنا

توطئة

طيف من النور لاح في الأفق ألمَّ بهذه الدنيا إلمام الغريب الطارئ، أو الضيف العابر، ثم تركها ومضى، هذه هي قصة حسن البنا.

ماذا يأخذ الطيف النورانى من الدنيا ؟ وماذا يترك منها؟

لا يأخذ شيئاً منها، ويترك كل شيء، يترك للضمائر نورها، والنفوس قدسها وطهرها.

وهكذا كان حسن البنا، لم يأخذ لنفسه شيئًا، وقد ترك للناس كل شيء.

لم يكن الإمام الشهيد حسن البنا شخصيةً عاديةً، بل كان شخصية جاذبة لكل مَن يتعامل معه، وسواء أحبَّه أو كرهه إلا أنه في النهاية لا بد أن يعجب به، وفي هذه السطور نستعرض مقتطفات مما قاله القادة والمسئولون الذين عاصروا أو التقوا الإمام البنا:

حقيقة داعية

وصفه أحد محبيه بقوله:

سمعت عنه كثيرًا، ورأيت له في قلوب محبيه صورًا لامعة رائعة، فتراءى لعقلي عملاق هُدى ورأي وحكمة، وتخيلته أمام عيني عملاقًا في جسمه أيضًا، جبارًا في قسماته، وسماته.

ولما رأيته بين صحبه، أول ما رأيته، ما ظننت أنه هو، ثم قدمت إليه فتلقاني في بشاشة، لا تكلف فيها، ورحب بي، منساقًا مع فطرة رحبة.

لم أجد له في مشاهدتي، صورته في مخيلتي... كان أقرب إلى القصر منه إلى الطول، وأدنى إلى الوداعة منه إلى الجبروت، في صراحته إباء، وفي جرأته إغضاء.

زرته في بيته، فوجدته زاهدًا بسيطًا، وأكلت على مائدته، فوجدته فقيرًا كريمًا، وصحبته في أسفار، فلم أر أكثر منه أنسًا وإيناسًا في مواطن الراحة، ولا أكثر منه فناء في العمل وقت العمل.

شاهدته يتكلم بين أفراد، فلم أجد صوته يتطاول على الأصوات، ولاح لي أميل إلى الإصغاء منه إلى إبداء الآراء، فإذا دخل الحديث طور المراء، صمت في إعراض، أو أقبل فىابتسام، وهو بين الإشفاق والشفقة ؛ حتى إذا انتهى الأمر إلى زبدته، كانت كلمته هي الفاصلة.

وأصغيت إليه، وهو يخاطب ملأه فخيل إلىَّ أنه يحاول أن يسكت لسانه، وينطق قلبه بل وكل جوارحه، وإذ ذاك كان يمعن النظر فيمن أمامه وكأنه يحدق في أفق بعيد فينبعث من عيونه شبه نور وهَّاج، يتصل شعاعًا تجلب، فقلب.

وسمعته يخاطب الجماهير، فوجدته الطبيب الخبير، يعالج في ثنايا حديثه شئونًا من صميم حياة المستمعين ؛ حتى ليظن أحدهم أنه كوشف بخويصه مشكلته، وأخذ يصفه له الرواد. فإذا آنس أن القوم قد ركنوا إليه، اشتد عليهم في موعظته وجلجل بصيحات الحق، تتخلل حديثه الدفاق، المرصع بآي القرآن، فيضعون أنفسهم منه - دون اختيار - موضع الرعية من الراعي.

وهكذا يبلغ منهم لدعوته ما يريد، وينتهي غير مملول، محبوبًا ومرهوبًا.


حسن البنا.. الرجل القرآني

مات حسن البنا في عمر الزهر النضير، وهو نفس السنِّ الذي مات فيه كثيرٌ من العباقرة وأهل الفكر، مات وهو يسطَع ويتألق، ذهب الرجل مبكرًا.. هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذي بين يديه”..

هذا ما سطره روبير جاكسون الكاتب الأمريكي في مقاله (حسن البنا.. الرجل القرآني) بعد اغتيال الإمام حسن البنا.

كان جاكسون قد زار البنا في القاهرة عام 1946 وكتب حينها في “النيويورك كرونيكل”: “زرت هذا الأسبوع رجلاً قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه.. ذلك الرجل هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين ”، وقد صدق حدس الرجل، فقد اغتِيل حسن البنا سريعًا وبطريقةٍ غير مألوفة، بعدها خرج الكاتب بمقاله الشهير: (حسن البنا.. الرجل القرآني).

دقيق العبارة

عندما زار جاكسون مصر حصل على تقرير وافٍ عن حسن البنا وأهدافه وحياته، وهذا ما ذكره عن الرجل في كتابة الشهير (حسن البنا.. الرجل القرآني)؛ حيث قال: “كان هذا الرجل خلاَّب المظهر، دقيق العبارة، رغم أنه لا يعرف اللغة الأجنبية.. لقد حاول أتباعُه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوِّروا دعوتَه وأفاضوا في الحديث على صورة لم تقنعني، وظل الرجل صامتًا، فلمَّا بدت الحيرة على وجهي قال لهم: قولوا له شيئًا واحدًا.. هل قرأت عن محمد؟!

قلت: نعم،

قال: هل عرفت ما يدعو إليه؟

قلت: نعم، قال: هذا هو ما نريده، فأغناني جوابُه عن كثيرٍ مما حاولوا أن يقولوه لي”.

“.. لقد كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية، وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين معًا، ووصل إلى ما لم يصلا إليه”.

ثم سافر الكاتب إلى مصر وأخذ يتتبع خطوات البنا، وخاصةً في مرحلة كان من الضروري أن يمر بها؛ حيث يقول الكاتب: “وبالرغم من أنني كنت أسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئًا حتى الآن سوى أنه جمع مجموعاتٍ ضخمةً حوله من الشباب غير أن معركة فلسطين ومعركة التحرير الأخيرة في القناة أثبتتا أن الرجل صنع بطولاتٍ خارقةً قلما أن تجد لها مثيلاً إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية.. كل ما أستطيع أن أقوله هنا إنَّ الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه، وهي المغريات الثلاث التي سلطها المستعمر على المجاهدين.

لقد فشلت كل المحاولات التي بُذلت في سبيل إغرائه، وأعانه على ذلك صوفيتُه الصادقة وزهدُه الطبيعي، فقد تزوَّج مبكرًا وعاش فقيرًا، وجعل جُلَّ همه في ثقةِ أولئك الذين التفوا حوله وأمضى حياتَه مجانبًا لميادين الشهرة الكاذبة والترف الرخيص.

ويتعجب جاكسون “لقد شاءت الأقدار أن يرتبط تاريخ ميلاده وتاريخ وفاته بحادثين من أضخم الأحداث في الشرق، فقد ولد عام 1906 وهو عام دنشواي، ومات عام 1949 وهو عام قيام دولة “إسرائيل” واقعيًّا، وكان الرجل عجيبًا في معاملة خصومه وأنصاره على السواء، كان لا يهاجم خصومه بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم إلى صفه، كان يؤمن بالخصومة الفكرية ولا يحولها إلى خصومة شخصية، لكنه مع ذلك لم يسلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه.

يقول جاكسون: أستطيع بناءً على دراساتي الواسعة أن أقول إن حياة الرجل وتصرفاته كانت تطبيقًا صادقًا للمبادئ التي آمن بها.. لقد منحه الإسلام- كما كان يفهمه- حلةً متألقةً قويةَ الأثر في النفوس لم تُتَح لزعماء السياسة ولا لرجال الدين.

كما لم يكن من الذين يشترون نجاحهم بثمن بخس، ولم يجعل الوسيلة مبرِّرةً للغايةِ كما يفعل رجال السياسة؛ لذلك كان طريقه مليئًا بالأشواك، كان يريد أن يصل إلى الحلِّ الأمثل مهما طال الطريق، فرفض المساومات وألغى من برنامجه أنصاف الحلول، كان مذهبه السياسي أن يردَّ مادةَ الأخلاق إلى السياسة بعد أن نُزعت منها وبعد أن قيل إن الأخلاق والسياسة لا تجتمعان.

جولاته

ويتعجَّب الكاتب من صبر الإمام البنا على الرحلات في الصعيد فيقول:

“هذه الرحلات لا تبدأ إلا في فصل الصيف؛ حيث يكون الوجه القبلي في حالة الغليان وفي أحشائه ينتقل الرجل على قدميه أو بالسيارة أو على الدواب، وهناك تراه غايةً في القوة واعتدال المزاج. لقد أمدَّته هذه الرحلات في خمسةَ عشرَ عامًا زار خلالها أكثر من ثلاثة آلاف قرية- بل زار كل قرية أكثر من مرة- بفيضٍ غزيرٍ من العلم والفهم للتاريخ القريب والبعيد وللأسر والعائلات، وما بين البلاد والأفراد والأحزاب والهيئات من توافق أو خلافات.

ثقافته

يتوقف الكاتب عند ثقافة البنا قائلاً: “ولم تكن هناك دعوةٌ ولا نزعةٌ ولا رسالةٌ مما عرَف الشرق والغرب في القديم وفي الحديث لم يبحثها أو يقرأها أو يدرسها!! كان يقول كل شيء، ولا تحس أنه جرَّح أو أساء، كان يوجِّه النقدَ في ثوب الرواية، كان يعرف لغات الأزهريين والأطباء والجامعيين والصوفية وأهل السنة، ويعرف لهجات أهل الدلتا وأهل الصحراء، وأهل مصر العليا والوُسطى، بل كان يعرف لهجات الفتوَّات والجزَّارين وغيرهم.

لقد حمل البنا المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث الذين كانوا يسخَرون من ثلاث كلمات (الشرق، والإسلام، والقرآن) كان الرجل يريد أن يقول إن للشرق أن يمحِّص أفكار الغرب قبل أن يعتنقها، كان يقول: علينا أن نزِنَ هذه القيم، وأن نعتقد أن ما عندنا لا يقل عما عند الغرب، أو على الأقل لا يستحق الإهمال، وأنَّ على الشرق أن ينشئ للدنيا حضارةً جديدةً أصلح من حضارة الغرب، قوامها امتزاج الروح بالمادة واتصال السماء بالأرض.

إغراؤه

وفي عام 1936 شغلت الحربُ الدنيا كلها، حاول الإنجليز أن يقدموا عروضًا سخيةً فرفضها الرجل في إباء، نامت الأحزاب في انتظار الهدنة، لكن الرجل لم ينَم، ظلَّ الرجل الحديدي الأعصاب يعمل أكثر من عشرين ساعةً في اليوم ولا يكل، كأنما صيغت أعصابُه من فولاذ، كان يسعى ويطوف، يحدِّث الشيوخ ويتصل بالشباب، ويومها بهَر الوزراء وأعلن بعضُهم الانضمام إلى لوائه وجيشه الجرار.. لقد كان يحب فكرتَه حبًّا يفوق الوصف لا يجهده السَّهَر ولا يتعبه العمل، يتصرف في يُسْرٍ ويقضي المشاكل في بساطةٍ ويُذهب عنها التعقيد. ويروي جاكسون بعض ما دار بينه وبين الرجل القرآني فيقول:

حدَّثني الرجل عندما أخذت أراجعه رأيَه في صبغة الإسلام للشرق

فقال: أضرب لك مثلاً تركيا.. إنها ستعود للإسلام وإن عوامل ذلك قد بدأت منذ الآن.

ويضيف جاكسون: كان هذا الحوار بيني وبينه عام 1946 وقد لاحظت في السنوات التالية ما يحقق قول البنا في مايو عام 1950 بعد أن مضى الرجل إلى ربه، هُزِم حزب كمال أتاتورك وانتصر الحزب الذي كان يقال عنه إنه رجعي.

ولما سألته عن الإسلام والسياسة، وكنت أرى أنهما لا يجتمعان ولا يتصلان بأي حال قال لي الرجل: أترى أن الإسلام بغير سياسة لا يكون إلا ركعاتٍ وألفاظًا؟ إنَّ الإسلام في الحق عقيدةٌ ووطنٌ وقانونٌ وجنسٌ وثقافةٌ وسياسةٌ، ولو انفصل الإسلام عن السياسة لحصر نفسه في دائرة ضيقة، ولما ترك للمسلمين سوى القشور والأشكال،

ومضى يقول إنَّ ما تراه في الشرق ليس هو الإسلام، لكنهم المسلمون اسمًا ووراثةً، هؤلاء الذين لو فهموا حقيقته لوقف الغرب لنا بالمرصاد.

ويستطرد جاكسون قائلاً: وأعجب العجب أن تسمع إلى الكلمات التي يلقيها الرجل إلى أتباعه وفيها تتمثل التضحية الخالصة والإيمان، ومما يقول البنا إن الشرق يتهيَّأ لنهضة كبرى ووثبة عظمى، وإن الغرب يقف له بالمرصاد، ولا بد لنا من تسلُّم راية الحضارة الإنسانية لنُسعد الناس ونحررهم بعد أن فشل الغرب وتخبط، وأضاف إننا قد عرفنا الطريق إلى أوطاننا الإسلامية.. إنَّ الجهاد والموت والفداء إنما هو الطريق الوحيد الذي سلكه المؤمنون في كل زمان ومكان.

ويواصل جاكسون قوله: “لو ذهبنا نتعرف على حقيقة الإسلام كما يفهمه البنا فقد كان يرى قاعدةَ الإسلام الأساسية هي “لا ضرر ولا ضرار”، ويؤمن بسد الذرائع وإعطاء الوسائل أحكام الغايات، وجملة القول إن الرجل القرآني يفهم الإسلام فهمًا واضحًا سهلاً كما جاء في حديثه معي”... وهو على هذه الأسس من المفاهيم الإسلامية العميقة كان ينشئ جيلَه ويبني كتيبته ويرسم المدينة الفاضلة utopia التي إذا طُبِّقت حقَّق الإسلام دورَه في الشرق وزَحَف إلى مكان الزعامة العالمية والصدارة الإنسانية.

لا يهاب الموت

يقول جاكسون: كنت قد التقيت بالرجل في القاهرة عام 1946 ثم عدت إلى القاهرة مرةً أخرى عام 1949 بعد أن مضى إلى ربه، وحاولت أن أتصل ببعض الدوائر التي عرفتُ، فعلمت أنه كان في أيامه الأخيرة يحس بالموت، وكان الكثير من محبيه ينصحونه بالهجرة أو بالفرار أو اللياذ بالتقية، فكان يبتسم وينشد شعرًا قديمًا:

أي يومي من الموت أفر

يوم لا قدِّر أو يوم قدِّر

يوم لا قدِّر لا أرهبه

ومن المقدور لا ينجو الحذر

وكان لا يني لحظةً من محاولة استخلاص أصحابه من الأَسْر، وبلغ الأمر مبلغَه، فيستيقظ بالليل ويضع يديه على أذنيه ويقول: “إني لأسمع صياح الأطفال الذين غاب آباؤهم في المعتقلات”!!

كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل علي الزعامة الشعبية لا في مصر وحدها بل في الشرق كله .

من خصائص شخصية البنا :

لقد كانت شخصية حسن البنا جديدة علي الناس عجب لها من رآها واتصل بها .. كان فيه من الساسة دهاؤهم ومن القادة قوتهم ومن العلماء حججهم ومن الصوفية إيمانهم ومن الرياضيين حماسهم ومن الفلاسفة مقاييسهم

منهج البنا : أما عن منهج البنا فيقول :

1- لقد كان الرجل عجيبا في معاملة خصومه وأنصاره علي السواء كان لا يهاجم خصومه ولا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم تالي صفه وكان يري أن الصراع بين هيئتين لا يأتي بالنتائج المرجوة

2- كان البنا يؤمن بالخصومة الفكرية ولا يحولها إلي خصومة شخصية ولكنه مع ذلك لم يسلم من إيذاء منافسيه فقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة ... كان الرجل يقتفي خطوات عمر وعلي ويصارعه في مثل بيئة الحسين فمات مثلهم شهيدا

3- لقد أخذ من عمر خصلة من ابرز خصاله تلك هي إبعاد الأهل عن مغانم الدعوة ولطالما كان يحاسب أهله كما كان عمر يحاسب أهله ويضاعف لهم العقوبة إذا قصروا

4- يقول جاكسون إن والده الشيخ عبد الرحمن كان يتمني لو أن ابنه – الإمام – وضع الكتب في أمر الإسلام واكتفي لكن الأستاذ رد عليه بأنه منشرح الصدر لمعالجة الإسلام عن طريق تآلف الرجال وفي هذا يقول البنا في رسالة ( بين الأمس و اليوم ) إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات كل ذلك لا يجدي نفعا ولا يحقق غاية ولا يصل بالداعين إلي هدف من الأهداف ولكن للدعوات وسائل لا بد من الأخذ بها والعمل لها والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاث :

أ – الإيمان العميق

ب – التكوين الدقيق

جـ العمل المتواصل

5- كان البنا قديرا علي فهم الأشخاص لا يفاجئك بالرأي المعارض ولا يصدمك بما يخالف مذهبك وإنما يحتال عليك حتي يصل إلي قلبك ويتصل بك فيما يتفق معك عليه ويعذرك فيما تختلفان فيه

6- وكان يعتقد إن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه وضرورة لا بد منها وقد قال الإمام مالك للخليفة أبي جعفر المنصور حين طلب إليه أن يوطأ للناس كتابا يجمعهم عليه قال : إن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم فإذا حملتهم علي رأي واحد تكون فتنة فضلا عن أن التطبيق يختلف باختلاف البيئات .....

ولذلك فان الاجتماع في الفروع مطلب مستحيل وهو يتنافي مع طبيعة الإسلام ونحن نلتمس العذر لمن يخالفوننا في الفروع ونري ان هذا الخلاف ليس حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والإخوان أوسع الناس صدرا مع مخالفيهم .

وكان فرق من أتباعه يهرعون إليه يحدثونه عما يقول بعض المتشددين فيقول : لا توحيد بغير حب .. لا توحيد بغير حب .

ولكن البنا يري في خصومته للعلمانيين أنها أيضا لا تكون خصومة شخصية ولكنها خصومة فكرة ونظام : هم يريدون لهذه الأمة نظاما اجتماعيا ممسوخا من تقليد الغرب في الحكم والسياسة والقضاء والتعليم والاقتصاد والثقافة ونحن نريد لها وضعا ربانيا سليما من تعاليم الإسلام وهديه وإرشاده البنا والسياسة : لقد جعل البنا حب الوطن جزءا من العاطفة الروحية فاعلي قدر الوطن وأعز قيمة الحرية .

يقول جاكسون : ولما سألته عن الإسلام والسياسة وأنا أري إنهما لا يتصلان بحال قال لي : أتري أن السلام بغير السياسة لا يكون إلا هذه الركعات وتلك الألفاظ وان الإسلام في الحق عقيدة ووطن وجنس وسياسة وثقافة وقانون ولو انفصل الإسلام عن السياسة لحصر نفسه في دائرة ضيقة ولما ترك للمسلمين إلا القشور والمظهريات والأشكال

كان مذهب البنا السياسي هو رد مادة الأخلاق إلي صميم السياسة بعد ان نزعت منه وبعد أن قيل : أن السياسة والأخلاق لا يجتمعان وأعلن بوضوح كذب قول ( تلران )( أن اللغة لا تستخدم إلا لإخفاء آراءنا الحقيقية ) كان البنا ينكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه او أمته وكان يعمل علي أن يسمو بالجماهير ورجل الشارع فوق خداع السياسة وتضليل رجال الأحزاب ونحن نضيف : السياسة من صميم الدين الإسلامي وهذا اعتقاد البنا والإخوان فيقول : المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعني بكل شئون أمته " ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم "

ثم يزيد الأمر وضوحا فيقول " قلما تجد إنسانا يتحدث عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلا ويضع كل واحد من المعنيين في جانب فهما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان ومن هنا سميت هذه " جمعية إسلامية لا سياسية وذلك اجتماع ديني لا سياسة فيه " ورأيت في صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومنهاجها ( لا تتعرض للشئون السياسية ) فحدثوني بربكم اذا كان الإسلام شيئا غير السياسة وغير الاجتماع وغي الاقتصاد وغير الثقافة .....فما هو إذا ؟ ألهذا أيها الإخوان نزل القرآن نظاما كاملا محكما مفصلا " تبيانا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين ".

البنا والغرب :

لم يكن الغرب ليقف مكتوف اليدين إمام مثل هذا الرجل الذي اعلي كلمة الإسلام علي نحو جديد وجمع الناس علي كلمة الله وخفت بدعوته ريح للتغريب والجنس ونزعات القومية الضيقة واعتدلت لهجات الكتاب وبدا بعضهم يجري في ركب الريح الإسلامية ، لقد حمل البنا المصحف ووقف في طريق رجال الفكر الحديث الذين كانوا يسخرون من ثلاث كلمات ( شرق وإسلام وقرآن ) كان البنا يريد أن يقول آن للشرق أن يمحص أفكار الغرب قيل أن يعتنقها بعد أن غدت الحضارة الغربية في نظر أصحابها لا تفي بما يطلب منها : أن علي الشرق أن يتهيأ لنهضة كبري ووثبة عظمي وان الغرب يقف له بالمرصاد ولا بد لنا من أن نتسلم راية الحضارة الإنسانية لنسعد الناس ونحررهم بعد أن فشل الغرب وتخبط

وأخيرا .......

يقول جاكسون إنني علي ثقة من أن البنا رجل لا نظير له في هذا العصر وانه قد مر في تاريخ مصر مرور الطيف العابر الذي لا يتكرر .

وعن مقتل البنا يقول الكاتب:

لقد كان البنا غريبًا عن طبيعة المجتمع، يبدو وكأنه الكلمة التي سبقت أوانَها أو لم يأتِ وقتُها بعد.. كان الناس يرونه غريبًا في محيط الزعماء بطابعه وطبيعته، ولم يكن الغرب ليقفَ مكتوفَ الأيدي أمام مثل هذا الرجل الذي أعلى كلمةَ الإسلام على نحو جديد.

قُتل الرجل، وكان مقتله شبيهًا بمقتل الحسين، لم يصلِّ عليه في المسجد غير والده وحملت جثمانَه النساء ولم يمشِ خلف موكبه أحدٌ من أتباعه لسبب بسيط، هو أنهم كانوا جميعًا وراء الأسوار.. خيَّم على القاهرة تلك الليلة كابوسٌ مزعجٌ كئيبٌ!!

لقد نُقل الرجل بعد أن أسلم الروح إلى بيته في جوف الليل ومُنِع أهل البيت من إعلان الفجيعة، كان الرجل يدهش الناس في حياته، فلا بد أن يدهش الأجيال بختام حياته.

يبدو الكاتب في حيرة من أمره؛ إذ يقول: “والذي أسأل عنه ولا أجد له جوابًا.. هل هناك علاقة ما بين الإسلام كما يفهمه البنا ويدعو إليه وبين نهايته؟!

إن كثيرين يدعون إلى الإسلام ويحملون اسمه، فهل هناك خلافٌ جوهريٌّ بين ما كان يدعو إليه البنا وما يدعو إليه هؤلاء؟!

ولأني لا أعرف الإجابة الصحيحة لذلك أدعو التاريخ للإجابة عنه.

أم الإجابة كما قال جاكسون توقعت ان يختفي البنا اذ كانت الحوادث اكبر منه ... وفعلا ذهب الرجل مبكرا كما توقعت وكان هو أمل الشرق في صراعه مع المستعمر .

وهكذا الشرق لا يستطيع ان يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده ................................


شهادات مصرية

المرشد الملهم

تحت هذا العنوان كتب عنه المستشار حسن الهضيبي (المرشد العام الثاني للإخوان) قوله: عرفتُه أول ما عرفتُه من غرس يده، كنت أدخل المدن والقرى، فأجد إعلانات عن: الإخوان المسلمين دعوة الحق والقوة والحرية، فخلتُ أنها إحدى الجمعيات التي تُعنَى بتحفيظ القرآن، والإحسان إلى الفقراء، ودفن الموتى، والحثّ على العبادات؛ من صوم وصلاة.. إلخ، وأن هذا قصاراها من معرفة الحق والقوة والحرية، فلم أحفل بها؛ فكثيرٌ هم الذين يقرأون القرآن دون أن يفقهوه، ودون أن يعملوا به، وأكثر منهم الذين يصلّون ويصومون ويحجُّون دون أن يكون لذلك أثرٌ في نفوسهم، والإحسان إلى الفقراء كثيرًا ما يوضع في غير موضعه، ويكون مخالفًا للدين، لم أحاول- كما هي العادة- أن أعرف شيئًا عن دعوة الإخوان المسلمين .

ثم التقيت يومًا بفتية من الريف أقبلوا عليَّ- على غير عادة الأحداث مع من هم أكبر منهم سنًّا ومركزًا- يحدثونني، فوجدت عجبًا؛ فتية من الريف، لا يكاد الواحد منهم يتجاوز في معارفه القراءة والكتابة، يحسنون جلوسهم مع من هم أكبر منهم في أدبٍ لا تكلُّف فيه، ولا يحسُّون بأن أحدًا أعلى من أحد، ويتكلمون في المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيها شاب متعلم مثقف؛ يعرفون من الأخطاء التي ارتُكبَت في عرضها وفي المفاوضات التي جرت فيها وطريقة حلها ما لا يدركه إلا القليل من الناس، ويتكلَّمون في المسائل الدينية كلامَ الفاهم المتحرِّر من رقِّ التقليد، ويبسطون الكلام في ذلك إلى مسائل مما يحسبه الناس من صرف المسائل الدنيوية، ويعرفون من تاريخ الرسول- وتاريخه هو تاريخ الرسالة- ما لا يعرفه طلبة الجامعات، فعجبت لشأنهم، وسألتهم أين تعلموا كل ذلك؟! فأخبروني أنهم من الإخوان المسلمين ، وأن دعوتهم تشمل كل شيء، وتُعنى بالتربية والأخلاق، والسياسية والاقتصاد، والغنى والفقر، وإصلاح الأسرة، وغير ذلك من الشئون؛ صغيرها وجليلها.

من ذلك الوقت تتبعت حركة الإخوان ، وصِرت أقرأ مطبوعاتهم، وأتصل بهم دون أن أعرف الداعية إلى ذلك، ولكنني عرفته من غرس يده، قبل أن أعرف شخصه.


قال الشهيد سيد قطب رحمه الله، تحت عنوان : حسن البنا وعبقرية البناء:

"في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة قدرًا وحكمة مدبرة في كتاب مسطور ـ حسن البنا ـ إنها مصادفة أن يكون هذا لقبه. ولكن من يقول : إنها مصادفة ؟! والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء وإحسان البناء بل عبقرية البناء ؟!.. وإن استشهاده عملية جديدة من عمليات البناء، وعملية تعميق للأساس وتقوية للجدران. وما كان ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان كما ألهبتها قطراتُ الدم الزكي المهراق.. إنّ كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا مُتنا في سبيلها دَبَّت فيها الروح، وكتبت لها الحياة. وعندما سلًّط الطغاة الحديد والنار على بناء حسن البنا والعاملين فيه , استطال عليهم الهدم، لأن الحديد والنار لا يمكن أن يهدما فكرة في يوم من الأيام".


وقال عبد الحكيم عابدين - رحمه الله - أمين سر الإخوان في عهد البنا:

أقام الداعية المؤمن مدرسته الفاضلة في توجيه الفكر الإسلامي على عشر دعائم:

دوام استهداف الوحدة، وهي الحرص على رابطة القلوب واجتماع الكلمة.

كلّ من قال : "لا إله إلا الله" يلتقي معك في ظل التوحيد.

اتهام النفس، وإحسان الظن بالمخالف.

أدب الإنكار والاختصام، فإذا أنكر على إنسان أو خاصم، التزم الخلق الرفيع في ذلك.

ذم الجدال والمكابرة.

جواز تعدد الصواب.

التعاون في المتفق عليه، وتبادل العذر في المختلف فيه.

استحضار خطر العدو المشترك الذي لا يميز بين مسلم وآخر.

فتح آفاق العمل والإنتاج، فعلى كلّ أخ - فوق أعماله الخاصّة - أن يقرأ كل يوم وِرْدًا من القرآن، ويحاسب نفسه قبل النوم.

الرثاء للضال المنحرف، لا الشماتة فيه ولا التشهير به.


إنه عصبة مجتمعة من الرجال الأقوياء .. اللواء محمد صالح حرب

في مقال تحت عنوان "الداعية الموفق" للسيد اللواء محمد صالح حرب باشا الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين صديق عمر ورفيق حياة الإمام الشهيد ، قال:

لقد كانت الآلاف تعجب فلا ينقضي عجبها من هذا الفيض الغزير من العلم الذي وهبه الله لحسن البنا، والذي كان يظهر كالبحر الزاخر والسيل المنهمر حينما يتناول قلمه ليكتب وحينما يقف ليخطب، فلقد كان يظل الساعات وهو يخطب الجماهير وفيهم الخاصة وفيهم العامة، ومن هم بين الخاصة والعامة فيرضي هؤلاء وهؤلاء وأولئك يرتفع بأسلوبه وتفكيره حينا حتى تعز منافسته على الخاصة من الخطباء والمفكرين، وينبسط في عبارته ومعناه حينا حتى يأتي بالسهل اليسير الممتنع الذي يفهمه الجميع ويفقهه سائر الناس، وإن كان لا يستطيع أن يجاريه فيه كثير من الناس.

يبعد أن يكون هذا الفيض أثرا من آثار المطالعة والقراءة، فكم من أناس يسرفون في المطالعة والقراءة ولا يستطيعون أن يجيدوا الكتابة أو الخطابة، ولكني أعتقد أنه قد تعاونت على إيجاد هذه الخاصة في حسن البنا أسباب كثيرة منها: النفس الصافية .. والعقل الذكي .. والقلب النقي .. والإقبال على الله .. والتعبد في حماه .. والتأمل الموصول في آيات الله الكونية، وفي آياته القرآنية .. والعناية الفائقة بتطبيق ما يقرأ وما يفهم على حياته الفردية وفي مجال حياته العامة.

واستطاع- عليه الرحمة- أن يوقد جذوة الفكرة الإسلامية في صدور الآلاف من الشباب، فأقبلوا على الدين وعكفوا على القرآن وتعلقوا بأسباب الثقافة الإسلامية، وكان لهم في ميدانها جهود وجولات استطاع أن يرد غربة الإسلام بين هؤلاء الجاهلين به إلى معرفة وأنس، وبذل في سبيل ذلك من علمه وجهاده ووقته ونفسه وأعصابه وراحته ما لا تستطيعه إلا العصبة المجتمعة من أقوياء الرجال..".


كان يملأ بيته بالقرآن .. الأستاذ أحمد عبد الرحمن البنا

غاب عن الناس من خلقه ما جعله بين نفسه وربه، يستره عن الناس فلا يطلع عليه إلا خاصة أهله، فهو في بيته شهد الله لا يفتر عن مصحفه ولا يغيب عن قراءته، ولا يغفل عن ذكره، يتلو القرآن على الحافظ منا فيسمع له، ويلقي بالمصحف إذا لم يجد حافظا إلى الصغير فيراجع عليه، ويملأ البيت بالقرآن والتلاوة سابحا في آيات، غارقا في ذكريات، صاعدا إلى سموات.

كان أملك الناس لزمام نفسه، أحلم الناس إذا خاطبه جاهل حتى يغضب من لا يعرفه من حلمه. أشد الناس عفوا وصفحا عمن أساء إليه حتى لم يعرف له عدو .. وكان يقول من عيوبي أنني لا أعرف كيف أخاصم أو أعادي.

لا يذكر أحد عنده بسوء إلا زجر الذاكر ومدح المذكور، فيخجل الواشي ويقلع المسيء، وتصح نفس هذا وذاك.


جهاز لا يخضع لمؤثرات المادة وقوانينها في الطاقة والمواعيد ..الأستاذ محمد عبد الحميد أحمد - من الرعيل الأول للإخوان المسلمون

لقد كان لروحه الكبير سلطان ساحر، لا يجلس إليه أحد حتى يدير روحه العظيم وجهته في مدار الإسلام، وتجذبه شخصيته السماوية القاهرة إلى أفق النور والسماء، وتدفعه طبيعته (الإمامية) الفذة إلى محراب الخير والصلاح .. كان لروحه العالية على سلاسته سيال قاهر يؤثر ولا يتأثر، ويدفع ولا يندفع، ويخفي ضرورة كل شارق، وكان له تيار على رقته جارف لا يقف دونه سد ولا حجاب، يتسلل إلى الأرواح في رفق ولطف وأناة، كما يتسلل الجدول الهادئ بين الجبال والأودية فيكسوها خصبا وظلا ورواء وسناء .. إن من أبرز سمات شخصية الإمام الشهيد روح (الحركة) في طبيعته، وطاقة العمل الضخمة في أعصابه ودمه .. كان شخصية عجيبة فذة حقا: هي روح وعقل وجسد ..

روح: هي شعلة سماوية تتوهج بالحرارة والضياء.

وعقل: هو ميزان محكم لا يميل ولا يضطرب على كثرة الأحداث وهول المشاكل.

وجسد: هو أداة طيعة لهذه القوى الكبيرة المعاني القدسية العالية.

كان شخصية متحركة لا تقف ولا تسكن، كأنه فلك إنساني يدور مع الكواكب يعمل ويوجه ويعد وينظم، وينتج في لحظات ما يقصر عنه غيره في شهور وسنوات.

كان يركض إلى الله حين يمشي العاملون، ويثب إليه حين يركض المخلصون، ويطير إليه حين يثب الصالحون، كان يتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم في جهاده الدائم، حتى كان من أوصافه: (ليست له راحة) ..

تبهرك أعصاب فذة كأنها جهازكهربائي نسيج وحده، لا يخضع لمؤثرات المادة وقوانينها في الطاقات والمواقيت، سهر دائم وفكر عامل ثاقب، وسلسة لا تنقطع حلقاتها في الفكر والعمل والإعداد والتوجيه، وأسفار تلو أسفار حتى تغلغل في أعماق الكفور والنجوع بين العشائر والقبائل، فكان الزعيم الحق الذي جلس على التراب، وخالط لأول مرة طبقات الشعب في حياتهم، وأحس آلامهم ومشاكلهم.


قلب علي وعقل معاوية .. العلامة طنطاوي جوهري

إن حسن البنا في نظري مزيج عجيب من التقوى والدهاء السياسي، إنه قلب علي وعقل معاوية، وأنه علا دعوة اليقظة عنصر الجندية ورد على الحركة الوطنية عنصر (الإسلامية) ... وبذلك يعد الجيل هذا الجيل الإسلامي الحاضر النسخة الثانية الكاملة المعالم بعد الجيل الأول في عهد الرسول.


وفي ذكرى استشهاده كتب المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، يقول:

"إن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام وقد اتصل بالناس اتصالاً وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي، على الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة".


وتحدث الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية في الأربعينيات عن حسن البنا، وأشاد به وبمكانته بين الدعاة، فقال:

"الشيخ حسن البنا أنزله الله منازل الأبرار، من أعظم الشخصيات الإسلامية في هذا العصر، بل هو الزعيم الإسلامي الذي جاهد في الله حق الجهاد ، واتخذ لدعوة الحق منهاجًا صالحًا وسبيلاً واضحًا استمده من القرآن والسنة النبوية ومن روح التشريع الإسلامي، وقام بتنفيذه بحكمةٍ وسدادٍ وصبرٍ وعزمٍ، حتى انتشرت الدعوة الإسلامية في آفاق مصر وغيرها من بلاد الإسلام، واستظل برايتها خلق كثير".


الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام السابع للإخوان المسلمين

لقد جاء الإمامُ "البنا" إلى الدنيا على قدَرٍ مقدورٍ، فإن العصرَ الذي وُلدَ فيه كان عصرًا مليئًا بالتيارات الهدَّامةِ والإلحادِ، والتحدياتِ المعاديةِ، وكان العالمُ الإسلامي يتعرضُ لأبشعِ أنواعِ المخططاتِ الاستعماريةِ؛ نتيجةً لسيطرةِ الاستعمارِ الغربي الصليبي وغارتِه الفكريةِ والحضارية على كثيرٍ من البلدان الإسلامية، ولعل أبشعَ وأشنعَ ما نزل بالمسلمين في تلك الفترة كان إلغاءَ الخلافة الإسلامية عام 1924م، حيث تحولت دار الخلافة من رمزٍ لاتحاد المسلمين وقوتِهم، إلى دولة علمانية أُلغيت فيها الشريعة الإسلامية، لتَحِلَّ مكانها القوانينُ الوضعيةُ، وأصبح المسلمون كالشاة في الليلة المطيرة.. قُلبت المفاهيم.. واستَشرى الانحلال.. وفشا الإلحاد.. وشُوِّهت أمجادُ الإسلام العظيم.. وعُزلت الشريعةُ عن حياة المجتمع.. واستحالت دولة الخلافة إلى دويلات متنافرة.. ولم يبقَ لهذه الأمة من ملجأٍ ولا نصير إلا رحمةُ الله تعالى، ثم نجدةُ العقيدة وقوة الإيمان.

ومن هنا يكتسب التوقيت- الذي ظهر فيه الإمام "حسن البنا" (رحمه الله)- أهميتَه، فقد أيقنَ الرجلُ أن جهود الدعاة إلى الله لن تؤتِيَ ثمارَها المرجوَّة طالما ظلت جهودًا فرديةً متفرقةً، وأدرَكَ أنه لابد من تجميع هذه القوى في جماعةٍ واحدةٍ تأخذ الإسلام كلَّه دينًا شاملاً ينظِّم نواحيَ الحياةِ جميعَها، ويُعيد تقديم الإسلام من جديد في صفائه وجلاله وكماله، فكان هو ذلك الإمام المجدد، كما ورد في الحديث الشريف: "‏إنَّ اللهَ يبعثُ لهذهِ الأمةِ على رأسِ كلِّ مائةٍ من يجددُ لها دينَها‏"‏ (رواه أبو داود مرفوعًا، وقد اعتمده الحُفَّاظ، وقد أخرجه الطبراني ورجاله ثقات، وصححه الحاكم).

وكان في تكوينه العلمي والعبادي، وفي صلته بالله تعالى وعميقِ فهمه للإسلام ولواقعِ مجتمعِه ومتطلباتِ النهضةِ التي لابد منها.. كان في ذلك كلِّهِ قدَرًا رحِيمًا من الله تعالى قيَّضَهُ لهذه الأمة، فأسَّس جماعتَه سنة 1928 م بعد سقوط الخلافةِ بنحو أربعِ سنين؛ ليحاول وضع مشروعِ النهضة الإسلامية الشاملة موضعَ التنفيذ، ونذَرَ لهذا المشروعِ- والدعوةِ إليهِ والتربيةِ عليهِ والجهاد في سبيلهِ- عُمُرَه كلَّه، وقد كان وقت أن أسس جماعته في العشرينيات من عمره.

وكانت نفسُه المتوثِّبة تَتُوق إلى تحقيق أعظمِ الآمال لهذه الأمة، وإنْ رآها بعضُ البعيدينَ عنه ضَربًا من جُموحِ الخيال تنوءُ به القُوى الأرضيةُ الراسخةُ، وقد أجمل أهدافَ جماعتِه في أمرين، فقال لإخوانه: "واذكروا دائمًا أن أمامَكم هدفين أساسيين:

الأول: أن يتحررَ الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي.

الثاني: أن تقوم في هذا الوطنِ الحرِّ دولةٌ إسلاميةٌ حرةٌ، تعمل بأحكام الإسلام، وتطبِّق نظامَه الاجتماعي، وتبلِّغ دعوتَه للناس.

أما وسائل تحقيق هذه الأهداف فترتكز في مجموعها على تكوين الفرد المسلم؛ تكوينًا حقيقيًا يشمل جميع جوانبه العقَدية والفكرية والنفسية والجسدية والعبادية، وعلى كتِفِ ذلك الفردِ تؤسَّس الأسرةُ المسلمةُ، ومن مجموع ذلك يتحقق إصلاحُ المجتمعِ والدولةِ، بإذن الله..".

ولم يغفُل الإمامُ "البنا" عن دورِ المرأة المسلمةِ، فجعل من أهم أقسام جماعته قسم (الأخوات المسلمات)، يزكِّي نفوسَهن، ويستهدف تربيتَهن؛ لتتحققَ المرأةُ المسلمةُ بصحيح إسلامِها، وتكونَ أمًا صالحةً تُؤتَمن على تربية جيل النصر المنشود، وعُنصُرًا فاعلاً ومؤثرًا في مجتمعها، وهو الذي أسس مدارسَ (حراء) لتعليم الفتيات- في وقت كان تعليمهن في مصر أمرًا يُثير الاستغراب- ولتعلُّمهِن حِرَفًا يكتسبْن منها، وبنى دارًا للتائبات- منذ بداية تأسيسه الجماعة في الإسماعيلية - لتصحيح مسار النسوة اللائي انحرفَتْ أخلاقهن، وساءت سيرتُهن.. وأمضى الإمام "حسن البنا"- رحمه الله- حياتَه مدافعًا عن حق الأمة في الحرية السياسية، وحقِّها في التعبير عن نفسها، واختيار قادتها وأولي الأمر فيها، وأنَّ النظام النيابي هو أقربُ النظم إلى الإسلام.. أما الاستقلال عن الاستعمار بكافة أشكاله- السياسي والاقتصادي والعسكري والفكري- فكان حجر الزاوية في رؤيته السياسية، وقد مرَّ بنا أنه جعل تحرير الوطن الإسلامي كلِّه من كل سلطان أجنبي أولَ أهدافه العامة.

ولقد حدد الإمام الغاية والهدف والوسيلة، والغايةُ دائمًا هي الأصل (الله غايتنا)، فهذا أصل الأعمال، وهي القوة التي تدفع إلى الطريق، يقول الإمام: "مصدر تحديد هذه الغاية هو الإسلام، فهي تتجلَّى في كتاب الله وسنةِ رسولهِ، والتزامُنا بها هو انتسابٌ لأسمى مهمةٍ، فهو- سبحانَه- غايتنا الأصيلة، وأساسُ ومحورُ صلاتنا وأعمالنا، وهذا مصدر عزتِنا وقوتِنا، وليس بعد ذلك عزةٌ ولا قوةٌ" (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).

وعن المهمة يقول: (أيها المسلمون، عبادة ربكم، والجهاد في سبيل التمكين لدينكم، وإعزاز شريعتكم هي مهمتكم في الحياة، فإن أدَّيتموها حق الأداء فأنتم الفائزون، ومن أوصاف أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- أنهم رهبان بالليل، فرسان النهار) (المرجع السابق)، ثم يتحدث عن ضرورة إيقاظ الأمة من الغفلة التي سيطرت عليها، فيقول: "علينا أن نوقِظ الأمةَ من غفلتها، وأن نقفَ أمام هذه الموجةِ الماديةِ الطاغيةِ، ونستعيدَ مجدَ الإسلام.

إنه شهيدُ هذه القضية، وقد كانت عنده- ومازالت عند جميع (الإخوان ) في العالم- قضية الإسلام الكبرى، وهي- كما قال-: "قلب أوطاننا، وفلذة كبد أرضنا، وخلاصة رأسمالنا، وحجر الزاوية في جامعتنا ووحدتنا، وعليها يتوقف عزُّ الإسلام أو خذلانُه"، وكأنه يخاطبنا اليوم، ويعيش معنا، رضى الله عنه.

فالعصابات الصهيونية - ومن ورائها أمريكا- حوَّلت قضية فلسطين مع عصابات يهودية إلى معركةٍ كبرى، وقد تجسَّد الصراع بين قُوى الشرِّ والظُلم من ناحية وأهل فلسطين العزَّل من ناحيةٍ أخرى، ولم يكن الإمام غافِلاً عن حجم المتاعِب التي ستأتِي من التصدِّي لهذه القضيةِ، وكان يقولُ: "ريحُ الجنةِ تهبُّ من فلسطين"، ويقول: "إن (الإخوان المسلمين ) لَيعلمون أن دعوتَهم عدوةٌ للاستعمار؛ فهو لها بالمرصاد.. وعدوةٌ للحكومات الجائرة الظالمة؛ فهي لن تسكت على القائمين بها.. وعدوةٌ للمستهزئين والمترفين والأدعياء، من كل قبيل؛ فهم سيناهضونها".

ولقد اهتم الإمام وإخوانه بقضية فلسطين؛ فدفعوا بشبابهم لمواجهة الصهيونية ، ونازَلوهم في كل مكان، وقدموا الشهداءَ الأبرارَ، وهم دائمًا على استعداد لو أتيح لهم أن يواجهوا الصهاينة في فلسطين، وما كانوا ليتخلَّفوا عن هذا الواجب وتلك الفريضة.

لقد استُشهد الإمام "البنا" والدنيا كلها أهونُ شيء عندَه.. إمام قد أضنته العبادة الخاشعة، وقيامُ الليل الطويل، والأسفارُ المتلاحقة في سبيل الله.. لقد عرفتْه المنابر في جميع مدنِ مصر وقُراها، وهو يُرشد الأمة إلى الله بصوته الرَّخيم، ويجمعُها في ساحة الإسلام، ويؤلِّف بين القلوب.. لقد واجَهَ المادِّية والإلحاد والاستعمار بكل ألوانه، وحولَه الأبناءُ من شبابِ الصحوةِ واليقظةِ الإسلامية، الذين ملأَ قلوبَهم حبُّ الإسلام والاستمساك به؛ ولذلك خرجَ من الدنيا تُشيِّعه الملائكةُ.. خرَج محمولاً على أكتاف بناتِه.. لم يستطع أحد- من شدة الإرهاب- أن يبكي عليه، ولم يترك تراثًا ماديًا، وهو في الثالثة والأربعين من عمره، رضي الله عنه وأرضاه.

إن دعوة الإسلام في القرن العشرين رفع لواءَها "حسن البنا"- المدرس الفقير- تحت قيادة الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- (الرسول قدوتنا)، وأقام جماعة (الإخوان المسلمين )، التي استطاعت أن تقاوم العواصف وأن تثبت أقدام رجالها- بإذن الله- رغم المحن والابتلاءات..

رحم الله الإمام الشهيد "حسن البنا"- مؤسسَ هذه الجماعة، وواضعَ نظريات العمل الإسلامي- رحمةً واسعةً، وجزاه عن المسلمين خيرَ الجزاءِ، وتقبلَه في الصالحين هناك.. في ظلِّ العرش.. في مقعد صدقٍ.. عند مليكٍ مقتدرٍ..


الداعية الواعي

كتب الفريق عزيز المصري، وكان قائد الجيش المصري في عهد الملك، يقول:

عرفت الشهيد حسن البنا أول مرة بعد عودتي من لندن 1937 حينما كنت في معيَّة سمو ولي العهد؛ وذلك حينما وجدت في انتظاري ثلاثةً قالوا لي إنهم من الإخوان المسلمين ، ونظرًا لأن ملابسهم كانت من المتعارف على أنها إسلامية إلا أنها في نظري بعيدة عن الإسلام، قلت لهم: إنني لا أريد مقابلتهم؛ لأنني أريد أن أرى الإخوان المسلمين يمثلون فكرة التجديد والبعث حتى في أزيائهم، فتكون مبسَّطة ولو جاكتة مقفّلة وبنطلون، وبدلاً من “المسابح” يضع كلٌّ منهم في يده كتابًا يناقشني فيه.

ولشدَّة ما كانت دهشتي حينما جاءني في الغد أحد هؤلاء الثلاثة وقال لي إنه حسن البنا، وإنه مؤمن بكل ما قلت، ولكنَّ الرجعية التي تردَّى فيها المسلمون تجعلنا نطرق هذا الباب حتى نعيدَكم إلى الفكرة الإسلامية الصحيحة التي تجعل من المسلم شعلةً للعلم والتقدم والهداية للإنسانية، فأكبرت الرجل وعرفت فيه الداعيةَ الواعي، وقد كنت أتوقع ألا أراه بعد المقابلة الشديدة التي قابلتهم بها... ومنذ ذلك اليوم توثَّقت الصلة بيني وبينه، وكنا نتقابل بين حين وآخر، وأرى في وجهه علائم الإيمان باديةً وآيات الصدق والإخلاص مرتسمةً؛ مما زادني فيه ثقةً وإيمانًا.

وحينما كنت بسجن الأجانب إبان استشهاده جاءني أحد الضباط وعلى وجهه علامات الأسى، مخالفًا الأوامر ومبلِّغًا إياي ذلك النبأ المفجع؛ فأحسست بخنجرٍ أصابني في صدري لفقد ذلك الرجل العظيم.

رحمه الله رحمة واسعة، وألهم خلفاءه والإخوان حسنَ السير على منواله وإتمام الرسالة التي بدأها.


كتب علي ماهر رئيس مجلس وزراء مصر لمرات متعددة يقول: ما أنفع الذكرى، وما أضيق برزخ الحياة!

حين طلبت "صحيفة الدعوة" الغرَّاء أن أشترك فى إحياء ذكرى المغفور له الشيخ حسن البنا، عادت بى الذاكرة إلى عام 1935 م، حين زارنى الفقيد الكريم مع بعض أصدقائه بمناسبة انتقاله بجماعته من الإسماعيلية إلى القاهرة ، متحدثًا فى بعض الشئون العامة، وكان حديثه يشرح صدرى وأسلوبه يشهد بموفور الثقافة الإسلامية والبصر بشئون الأمم العربية، وبراعة المنطق وقوة الحجة، وكان إلى ذلك شديد الإيمان بأنه يؤدى رسالة إنسانية سامية، دعائمها الإخاء والمحبة والسلام بين سكان البلاد جميعًا.

وفى مارس سنة 1939 م، بارحت لندن بالطائرة، إثر مؤتمر فلسطين، ووصلت القاهرة فى مستهل الهزيع الأخير من ليلة لا أنساها، رأيت فيها جموع الإخوان تملأ فضاء محطة العاصمة، وتموج بهم أرصفتها، وسمعت نداءهم: "الله أكبر ولله الحمد" يدوّى عاليًا، فيأخذ طريقه إلى القلوب، ويملأ النفوس إيمانًا بالله، وتجردًا للمثل العليا.

وتتابعت الأيام والسنون، وتوالت أحداثها، وأخذت الدعوة تنتقل من وسط إلى وسط، فى هدوء حينًا، وفى كفاح حينًا آخر، حتى ذاعت فى هذه البلاد، وفى كثير من البلاد العربية.

وكان مما أعجبنى فى دعوة الإخوان أنها اتجهت فى حدود إمكانياتها إلى بعض الشئون الاجتماعية والاقتصادية.

والواقع أن ما لقيته هذه الدعوة كان مرجعه أنها قامت على أساس روحى، حين طغى سلطان المادة، واستشرت آفاتها، واستغرق الناس فى الحياة الدنيا، ومست الحاجة إلى المعانى الروحية والمبادئ.

وهذه المعانى والمبادئ يفتقدها الناس فى الشرائع ويتلمسون فيها ما يملأ قلوبهم ثقة واطمئنانا وأملا وإيمانًا، ويهديهم فى شئون دينهم ودنياهم.

رحم الله المغفور له الشيخ حسن البنا، وأجزل مثوبته، وهدانا سبل التوفيق والرشاد، وهيأ لوطننا الخالد أسياج القوة والعزة والمجد.

المصدر: مجلة الدعوة – السنة الثالثة – العدد (104) - 25جمادى الأولى 1372هـ / 10فبراير 1953 م.


وفي كلمة الرئيس محمد نجيب عن حسن البنا عقب نجاح ثورة 1952 ، قال:

"من الناس من يعيش لنفسه، لا يُفكِّر إلا فيها، ولا يعمل إلا لها، فإذا مات لم يأبه به أحد، ولم يحس بحرارة فقده مواطن، ومن الناس من يعيش لأمته واهبًا لها حياته حاضرًا فيها آماله، مضحيًا في سبيلها بكل عزيزٍ غالٍ، وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون وامتلأت بذكرهم القلوب، والإمام الشهيد حسن البنا، أحد أولئك الذين لا يدرك البلى ذكراهم، ولا يرقى النسيان إلى منازلهم لأنه- رحمه الله- لم يعش في نفسه بل عاش في الناس ولم يعمل لصوالحه الخاصة، بل عمل للصالح العام.


وقال جمال عبد الناصر في احتفال مجلس ثورة 1952 بذكرى استشهاد الإمام:

"إنني أذكر هذه السنين والآمال التي كنا نعمل من أجل تحقيقها، أذكرها وأرى بينكم مَن يستطيع أن يذكر معي هذا التاريخ وهذه الأيام، ويذكر في نفس الوقت الآمال العظام التي كنا نتوخاها أحلامًا بعيدة، نعم أذكر في هذا الوقت، وفي هذا المكان، كيف كان حسن البنا يلتقي مع الجميع ليعمل الجميع في سبيل المبادئ العالية، والأهداف السامية، لا في سبيل الأشخاص ولا الأفراد ولا الدنيا".. ثم قال في نهاية كلمته: "وأشهد الله أني أعمل- إن كنت أعمل- لتنفيذ هذه المبادئ وأفنى فيها وأجاهد في سبيلها".


وقال صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة 1952 :

"إن هذه الأخلاق العالية والصفات الحميدة قد اجتمعت وتمثلت في شخص أستاذ كبير، ورجل احترمَه وأجلَّه واعترف بفضله العالم الإسلامي كله، وقد أحبه الجميع من أجل المثل العليا التي عمل لها، والتي سنسير عليها إلى أن يتحقق لنا ما نريده من مجد وكرامة في أخوة حقيقية وإيمان أكيد، رعاكم الله ووحَّد بين قلوبكم وجمع بينكم على الخير".


المصلح الذي اصطنعه الله لدفع الفساد الذي صنعه الناس ..الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة

وجدت فيه ما لم أجد في قبيله أو أهل جيله: من إيمان بالله راسخ رسوخ الحق لا يزعزعه غرور العلم ولا شرود الفكر، وفقه في الدين صاف صفاء المزن لا يكدره ضلال العقل ولا فساد النقل، وقوة في البيان مشرقة إشراق الوحي لا تحبسها عقدة اللسان ولا ظلمة الحس، إلى حديث يتصل بالقلوب، ومحاضرة تمتزج بالأرواح، وجاذبية تدعوك إلى أن تحب، وشخصية تحملك على أن تذعن ..

فقلت في نفسي بعد أن ودعني ومضى: (عجيب) هذا الشاب نشأ كما ينشأ كل طفل في ريف مصر، وتعلم كما تعلم كل طالب في دار العلوم، وعمل كما يعمل كل مدرس في وزارة المعارف، فعمن ورث هذا الإيمان، وممن إقتبس هذا البيان، ومن أين اكتسب هذا الخلق؟

إن الشذوذ عن قواعد البيئة الجاهلية، والنشوز على أنظمة المجتمع الفاسد، والسمو على أخلاق العصر الوضيع، من خصائص الرسول أو المصلح، فإن الله الذي يعلم حيث يجعل رسالته يريد أن يصنع النبي أو المصلح على عينه ليظهره في وقته المعلوم، فيجدد ما رث من حبله، ويوضح ما أشبه من سبيله، والفطرة التي فطر عليها حسن البنا والحقبة التي ظهر فيها حسن البنا تشهد بأنه المصلح الذي اصطنعه الله لهذا الفساد الذي صنعه الناس.

ولم يكن إصلاحه رضوان الله عليه من نوع ما جاء به (ابن تيمية وابن عبد الوهاب ومحمد عبده) فإن هؤلاء قصروا إصلاحهم على ما أفسدته البدع والأباطيل من جوهر العقيدة، أما هو فقد نهج في إصلاحه منهج الرسول نفسه: دعا إلى إصلاح الدين والدنيا، وتهذيب الفرد والمجتمع، وتنظيم السياسة والحكم. فكان أول مصلح ديني فهم الإسلام على حقيقته وأمضى الإصلاح على وجهه.

لم يفهم الإسلام الذي طهر الأرض وحرر الخلق وقرر الحق، على أنه عبادات تؤدى، وأذكار تقام، وأوراد تتلى، وإنما فهمه كما فهمه محمد صلى الله عليه وسلم، وعمر وخالد: نورا للبصر والبصيرة، ودستورا للقضاء والإدارة، وجهادا للنفس والعدو.

ولقد كان النهج الذي قبسه البنا من القرآن وعززه بالعلم، ونشره بالبيان، وأيده بالمعاملة، كان من الجد والصدق والعزيمة بحيث زلزل أقدام المستعمر وأقض مضاجع الداعية وخيب آمال المستغل، فتناصرت قوى الشر على الدعوة العظمى وهي تتجدد في مصر كما تناصرت قوى الشرك عليها وهي تولد في الحجاز، ولما كان حسن البنا فكرة لا صورة، ومبدأ لا شخصا، فإن الفكرة الصالحة تنمو نماء النبت، والمبدأ الحق يبقى بقاء الحق.


وتحت عنوان "الإمام الشهيد يغزو الجامعات" كتب الأستاذ الدكتور محمد طه بدوي أستاذ القانون العام، يقول:

"لقد كان الإمام الشهيد شمسًا وغيثًا وأملاً للجامعة بل للجامعات المصرية، فأنشأ مدرسته المثالية، وعلّم ألوفًا من إخوانه الفلسفة والمبادئ الإسلامية، فغزوا بعلومهم وأفكارهم وثورتهم كليات الجامعة، وإذا بنا نشهد جيلاً آخر هو جيل المجاهدين في سبيل الفكرة الإسلامية والوطن الإسلامي، ولم يعد يجرؤ أستاذ أن يتهجم بفلسفته على تراث الإسلام الغالي، ولم يستطع جامعي أن يُلوح للبشرية بنظام خير من النظام الإسلامي الذي وجد من تلامذة الإمام الشهيد".


ويقول الشاعر المصري الكبير الأستاذ كامل الشناوي:

“كان لفضيلة الفقيد “حسن البنا” هدف واحد، هذا الهدف هو خلق جيل كامل من الشباب المثقف القوي المؤمن، وقد كان.

وكانت للفقيد غاية واحدة، هذه الغاية هي أن يموت في سبيل الله، إنه مثل من أمثلة التضحية الخالدة، والخلق الكريم، والحكمة المنشودة”.

لقد كان حسن البنا هو الزعيم الوحيد الذي آمن بالفكرة التي جاهد من أجلها، ولقد كان حسن البنا هو القائد الوحيد الذي تلمحه في صفوف الجنود.

هذا هو حسن البنا، شخصية نادرة لا يجود الزمن بمثلها إلا كل مائة عام.


وتحدث الكاتب الصحفي المعروف محمد التابعي عن حسن البنا وما دار بينهما من حوارات، استطاع من خلالها أن يتعرَّف على شخصية البنا عن قرب، فيصف البنا بقوله:

"دائم الابتسام، فاره القامة، رحب الهيكل، يبدو قويًا كشجرة السنديان، في صوته عمق وعرض وطول، وللسانه سحر إذا تكلَّم يتكلم فيه بالألباب والأحاديث وأمجاد الجهاد الإسلامي".


وأرجع علي الغاياتي كل ما بذل الإخوان من جهود إلى حسن البنا، فقال:

"إذا صح ما قاله المغفور له الملك عبد الله الهاشمي من أن الإخوان المسلمين هم معجزة القرآن في هذا الزمان، فمما لا شك فيه أن مؤسس جماعتهم وراعي نهضتهم ومرشدهم العام المرحوم الأستاذ حسن البنا هو رب هذه المعجزة، فمن علمه وهديه، ونشاطه وروحه، وإيمانه وإسلامه، استمدت هذه الجماعة ما سمت به من عظيم الصفات، وما قامت به من جليل الأعمال".


يقول إحسان عبد القدوس - رئيس تحرير روزاليوسف:

“لم أقابل في حياتى الصحفية زعيمًا سياسيًّا متمكنًا من دعوته تمكَّن الأستاذ حسن البنا، كنت أقابله دائمًا متحديًا، متعمدًا أن أحطِّم منطقه بمنطقي، وكنت أفترق عنه دائمًا مقتنعًا بإيمانه وبصدق دعوته وبقوة عزمه على الوصول إلى هدفه، وهو ما دعاني إلى أن أنشر أول تحقيق صحفي عن الإخوان المسلمين ، وهو التحقيق الذى نقلته عني وكالات الأنباء، وأصبح الإخوان من يومها حديث العالم، وكنت أعتقد أنَّ قوة حسن البنا في عقليته التنظيمية، فقد كان يجلس في مكتبه بالمركز العام بالقاهرة ، وفي ذهنه صورة صحيحة لما يجري في شعبة الإخوان في أسوان ، وكان يعرف الإخوان واحدًا واحدًا، ويكاد يعرفهم بالاسم رغم أنَّ عددهم كان يزيد على نصف مليون، وكان يعد لكل منهم دوره في الجهاد ، ولكن عقلية حسن البنا وحدها لم تكن تكفي لولا نشاطه الفذ، الذي كان يستعين به على الطواف بالقطر المصري كله كل أسبوع تقريبًا، ولولا سرعة خاطره في الردِّ على كل ما يعترضه من حالات، ولولا قدرته على تفسير القرآن بحيث تنطبق آياته على كل مشكلة من مشاكل الحديث، ولولا أنه كان صورةً صادقةً لزعيم يمثل شعب مصر في قناعته وفي زيه، وفي إيمانه، وفي لغته، وفي تواضعه، وفي أحساسه. كان حسن البنا يمتاز بكل ذلك، وقد ذهب حسن البنا، عوَّضنا الله فيه خيرًا”.

ويشير إحسان عبد القدوس إلى بعض جوانب شخصية البنا وإخوانه، ويوضح كيف أن البنا فتح باب الاجتهاد وأعاد إليه رونقه وصفاءه بعد أن ران عليه غبار الجمود، وأشار إلى تضحية الإخوان في سبيل الدعوة، وأن شخصية حسن البنا قد مُلئت قلوب جميع المصريين بحبه على اختلاف دينهم، فكان- رحمه الله- ودودًا باشًا يحب كل من يلقاه ولم يفرِّق بين مسلم ومسيحي؛ لذلك فقد كان المسيحيون يحبونه؛


ففي كلمة للزعيم الوطني المسيحي مكرم عبيد باشا، قال:

وما من شك أن فضيلة الشيخ حسن البنا هو حي لدينا جميعًا في ذكراه، بل كيف لا يحيا ويخلد في حياته رجل استوحى في الدين هدي ربه، ففي ذكره حياة له ولكم، ومن ذا الذي يقول بهذا هو مكرم عبيد صديقه المسيحي الذي عرف أخاه المسلم الكريم الصدق والصداقة معًا..".

وكتب مكرم عبيد مخاطبا الإخوان في كلمة له عن الإمام الشهيد:

وإذا ما ذكرتم اليوم الفضيلة في قبرها، فاذكروا أيضا ما كان يذكره على الدوام إذ يذكر الحرية في سجنها.


في ذكرى الإمام الشهيد .. كتب الأستاذ مريت غالي:

عرفت المغفور له الأستاذ حسن البنا منذ سنوات عدة؛ فعرفت فيه الرجولة التامة، ورأيت فيه على الدوام رجلاً فذًّا من الناحيتَين الخلقية والإنسانية، وقد كان رحمه الله على ثقافة واسعة، يتمتَّع بشخصية جذَّابة، ويأخذ بأسباب القلوب، ولا شكَّ أن رجلاً هذه طباعه وتلك كفايته كان ذخرًا قيِّمًا لبلاده، فجاء مصرعه خسارةً كبيرةً، ويزيد الخسارة فداحةً أن وقع فريسة اغتيال مدبَّر، وقد تفشَّى بيننا داء الاغتيال السياسي البغيض منذ أوائل هذا القرن.

وهؤلاء الذين يقيمون من أنفسهم مدَّعين وقضاةً ومنفِّذين وجلاَّدين بدافعٍ من هواهم أو رأيهم الشخصي، إنما هم أخطر الناس على النظام والاستقرار والمدنية، ولا بد أن يؤخذوا أخذةً رابيةً يعتبر بها الغير؛ حتى لا يتطلَّعوا إلى اغتصاب حق الدولة وحدها في مظاهرة العدالة والاقتصاص من كل من يتهجَّم عليها.


كتب المرحوم مصطفي أمين عن الإمام الشهيد قبل أن يراه:

“أشد ما أعجبني فيه إيمانه بفكرته، كان يؤمن بها بطريقة عجيبة، ويرى أن المستقبل لها، وقد انعكس ذلك على سلوكه، فكان له قدرة فائقة على إقناع الغير بذلك، كان خطيبًا مفوهًا قادرًا على التأثير في آلاف الناس، كما كان شديد التأثير على من يجلس معه أيًّا كان تفكيره، كان يقنع العامل ويحدثه بأسلوبه، وكذلك يفعل مع الطالب، والكبير والصغير، والغني والفقير، وساكن الريف والمدينة وكل طبقات الشعب.

أعجبني كذلك في حسن البنا أن إيمانه بفكرته لم يكن عاطفيًّا فقط، بل كان محسوبَ الخطوات مدروسًا.

"إيمانه بفكرته، كان يؤمن بها بطريقة عجيبة، ويرى أن المستقبل لها، وقد انعكس ذلك على سلوكه، فكان له قدرة فائقة على إقناع الغير بذلك. أعجبني كذلك في حسن البنا أن إيمانه بفكرته لم يكن عاطفيًّا فقط بل كان محسوب الخطوات مدروسًا، ولم يكن متعجلاً رغم حماسه الشديد لما يؤمن به".


ليت أعدائي كحسن البنا

ألَّف الدكتور طه حسين كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” وقد أحدث دويًّا، واختلفت الآراء بين مادح وقادح، وقد دُعِي الأستاذ المرشد حسن البنا ليُدلِي بدلوه حول الكتاب وحُدِّد الموعد، ووُزِّعت الدعوات، وقبل الموعد بخمسة أيام، قرأ الأستاذ الكتاب في التزام أثناء ذهابه وإيابه من المدرسة.

وذهب إلى دار الشبان المسلمين في الموعد المحدد، فإذا بها ممتلئةٌ برجالات العلم والأدب والتربية، ووقف الإمام على المنصة، واستفتح بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم بدأ ينتقد الكتاب بكلام من داخل الكتاب، فأخذ يأتي بفقرات ويشير إلى رقم الصفحات والحاضرون يتعجبون من هذه الذاكرة، وتلك العبقرية، وفي الختام أبلغ السكرتير العام للشبان المسلمين الأستاذَ المرشد بوجود الدكتور طه حسين في مكان خفي، وفي اليوم التالي طلب الدكتور طه مقابلة الأستاذ المرشد، فقابله، ودار حديث أكبر فيه الدكتور طه الأستاذَ المرشد، ثم قال الدكتور طه: “ليت أعدائي مثل حسن البنا، إذن لمددت لهم يدي من أول يوم، يا أستاذ حسن، لقد كنت أستمع إلى نقدك لي وأطرب. وهذا النوع من النقد لا يستطيعه غيرك”.


يقول محمد زكي عبد القادر- رئيس تحرير الأخبار:-

“لم يكن إيمان الشيخ حسن البنا بدعوته إيمانًا طارئًا، ولا هو إيمان العاطفة وحدها، ولكنه كان إيمانًا قائمًا على دراسة صحيحة عميقة للتشريع الإسلامي ولتاريخ الدول الإسلامية، وما كان لها من سلطان وعظمة ومُثل وأفكار ودعوات لخير الناس في حياتهم وبعد مماتهم.

نظر- رحمه الله- فيما أصاب الإسلام من تدهور، وأدرك أنَّ السبب فيه يرجع إلى ابتعاد المسلمين عن روحه، فجعل رسالته أن يدعوهم إلى ما ابتعدوا عنه وأن يؤكد في نفوسهم ما اهتزَّ من مثل وأخلاق، فكانت دعوته أشبهَ بالبعث، وأقرب ما تكون لنفوس الناس فأقبلوا عليها مؤمنين أنها وحدها سبيل الخلاص.

ولا شكَّ أنَّ وفاته- وهو لا يزال في سنِّ العقل الراجح والرجولة المكتملة- كانت خسارةً شديدةً، رحمه الله رحمةً واسعةً، وأجزل مثوبته على ما سلف من خير وجهاد وتضحية.


الإمام حسن البنا في رؤية الشيخ محمد الغزالي

- البنا.. العالم السائح الزاهد.. رجال في رجل ودعوات في دعوة

- ظهوره رحمة بالأمة الإسلامية والإنسانية

من فضل الله على أمة الإسلام أن جعل رسولها خاتم الرسل، وكتابها آخر الكتب، فلا نبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شرعة بعد الإسلام.

ومن رحمة الله بها بعد ذلك أنه لم يتركها هملاً، ولم يدعها سدى، إنما وعد على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعث على رأس كل مائة عام مَن يجدد لها معالم هذا الدين.

ولا يشك منصف في أن البنا كان أحد هؤلاء المجددين الذين بعثهم الله تعالى على قدر، يقول الشيخ الغزالي: “إنَّ من رحمة الله بالأمة الإسلامية، بل بالعالم الإنساني، أن يظهر بين الحين والحين رجل مثل حسن البنا، يجدد تراث محمد- صلى الله عليه وسلم- ويحشد الجموع حوله ويحل المشكلات به، وينفي عنه الأوهام والبدع، ويعيد إليه بريقه الأخَّاذ يوم كان وحيًا يُتلى، وسنةً تُتَّبع”.


رجال في رجل ودعوات في دعوة

ولأمرٍ ما استطاع البنا بإرادة الله أن يجمع ميزات دعوات ضخمة، وحسنات دعاة كبار سبقوه في هذا المجال، ويتحاشى ما وقعوا فيه من عيوب، بل كان يزيد ميزات عليهم في كثير من الأحيان.

يقول الشيخ الغزالي: “وقد لاحظت في دراستي الطويلة للرجال أن الله جمع في حسن البنا مواهب عددٍ من الزعماء الإسلاميين الكبار أمثال: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، فكان إذا تحدَّث بين الناس التقى في حديثه ما تميز به أولئك الرجال، كما تلتقي الأشعة في عدسةٍ صافيةٍ تجمع ما تفرق وتضاعف أثره، كان الأفغاني أول مَن أبصر الحقدَ التاريخيَّ في ضمير الاستعمار الغربي، ونبَّه المسلمين إلى أن أوروبا لا تزال تحمل ضغائن بطرس الناسك في تعاملها مع المسلمين، وكان محمد عبده أول مَن أحسَّ حاجة الأمة إلى تربيةٍ واعية، تتعهد سلوكها بالعقل المؤمن، وتحرس نظامها بالروح العامة، وكان محمد رشيد رضا ترجمان القرآن، وشارة السلفية الصحيحة، والمفتي العارف بأهداف الإسلام والمستوعب لآثاره، وشاء الله أن يكون حسن البنا وريث هؤلاء، فكانت محاضراته في المدن والقرى علمًا وأدبًا وثقافةً وكياسةً، وقلَّما يفلت سامعٌ له من التأثر به والانقياد له”.


الأستاذ والمعلم

يفخر الغزالي كلما تحدث عن البنا بأنه أحد تلامذته، ويشعر بالرضا عن اتصاله به وتعلمه على يديه، يقول:

“أشعر بالرضا وأنا أعترف بأني من تلامذة حسن البنا ومحبيه، وحاملي أعباء الدعوة الإسلامية معه، أعرف أن ذلك يبغضني عند كثير من الناس! ليكن، فقد تعلمت من الرجل الكبير: أن المؤمن يسترضي الله وحده، ويطلب وجهه الأعلى، ولا يبعثر محابَّه هنا وهناك فلا يظفر بشيء”.

وقال: “أنا واحد من الذين صحبوا حسن البنا، وتربوا على يديه، وأفادوا من علمه”.


وكتب تحت عنوان: “أنا تلميذ حسن البنا” يقول:

“كنت وما زلت تلميذًا لحسن البنا؛ أذكر دروسه وأترسم خطاه، وأفيد من تجاربه، وأنا مستبشر بدعائه لي ورضائه عني، ونظرتي إلى ذلك الإمام الشهيد أنه من قمم الفقه الإسلامي، ومن بناة أمتنا الفقيرة إلى الرجال، بل هو بلا ريب مجدد القرن الرابع عشر الهجري، وأشهد بأن له بعد الله الفضل الأول في توجيهي وتثقيفي”. العالم الموسوعي

عرفته الدنيا داعيةً صادقًا، وواعظًا مؤثرًا، ومصلحًا حركيًّا، كما عرفه الناس مربيًا وموجهًا ومرشدًا؛ يربي النشء على مبادئ الإسلام ليصنع منهم رجالاً يحملون راية الدعوة، وقد أعلن هو أكثر من مرة حينما سُئل: لماذا لا تؤلف الكتب؟، فأجب أنه مهموم ومشغول بتأليف الرجال، فإذا ما ألَّف الرجال حملوا الرايةَ من بعده، وقاموا بالتأليف والتصنيف، وملئوا الدنيا علمًا وعملاً.

بيد أن الناس لم يعرفوا حسن البنا العالم الكاتب، الذي ملأ الدنيا بمقالاته وشغل الناس، فكتب في كل مجالٍ من مجالات الثقافة الإسلامية والإنسانية: كتب في التفسير والحديث، والفقه والأصول، والتصوف والسلوك، والسير والأعلام، والمناسبات والأعياد، والمواعظ القلبية والخطب المنبرية، والدعوة والحركة، والتربية والإصلاح، والسياسة والاجتماع، والاقتصاد والعمران.. كل هذه المجالات كتب فيها كتابةَ العالم المتخصص، ونظر إليها نظرة الناقد البصير.

يقول الشيخ الغزالي: “لقد كان حسن البنا واحدًا من علماءٍ كثيرين ظهروا في العصر الأخير، علماء لهم فقه جيد في الإسلام ودروس رائعة.

بيد أن حسن البنا يمتاز عن أولئك بخاصةٍ أُتيحت له وحده ولم يرزق غيره منها إلا القليل، خاصة تأليف الرجال، والاستيلاء على أفئدتهم، وغرس علمه في شغاف قلوبهم وأخذهم بآداب الإسلام في تلطُّفٍ وإحسانٍ ساحرَين”.

ويقول:

“لقد كان الإمام الشهيد يبعثر العلم في خطبه كما يبعثر الزارع الحَبَّ في أرضه، وأعانته على ذلك موهبةٌ لم تُعرف في تاريخنا الثقافي إلا لأبي حامد الغزالي؛ فقد كان أبو حامد الغزالي قادرًا على أن يشرح للعامة أفكار الفلاسفة، ويجعل ما تعقَّد منها كلامًا سهلاً سائغًا، كذلك كان حسن البنا- رضي الله عنه- يلخِّص لسامعيه حقائق الدين والدنيا، ويوجِّههم بحبٍّ ورفق إلى ما يريد من خدمة الإسلام، وتجاوز المرحلة التاريخية الصعبة التي يمر بها، أو التي كبا فيها”.

وعن أسلوبه في التربية كتب يقول: “كان لدى حسن البنا ثروة طائلة من علم النفس، وفن التربية وقواعد الاجتماع، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد وميزان المواهب”.

وعن صلته بالقرآن وتفسيره، والسنة والفقه والتاريخ يقول:

“كان مدمنًا لتلاوة القرآن يتلوه بصوتٍ رخيم، وكان يُحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي، وله قدرةٌ ملحوظةٌ على فهْم أصعب المعاني ثم عرضها على الجماهير بأسلوبٍ سهلٍ قريب.

وهو لم يحمل عنوان التصوف، ومع ذلك فإن أسلوبه في التربية وتعهُّد الأتباع وإشعاع مشاعر الحب في الله، كان يُذكِّر بالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي.

وقد درس السنة المطهَّرة على والده الذي أعاد ترتيب مسند أحمد بن حنبل، كما درس الفقه المذهبي باقتضاب، فأفاده ذلك بصرًا سديدًا بمنهج السلف والخلف.

وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي، وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة، وتعمَّق تعمقًا شديدًا في حاضر العالم الإسلامي، ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضده”.

ويقول مبينًا أفق هذا العلم لديه:

“إن حسن البنا كان أنجحَ الدعاة في هذا العصر، وقد أعانه على بلوغ ذلك علمٌ غزيرٌ، واطلاعٌ واعٍ على الثقافة الإسلامية قديمها وحديثها، أذكر أنه كلَّفني مرةً مع بعض الزملاء بنقل مكتبته من حي السبتية بالقاهرة إلى مسكنٍ جديدٍ اختاره قريبًا من المركز العام بالحلمية، فقلَّبتُ ألوف الكتب في شتى علوم الدين والأدب، بل لقد رأيتُ في مكتبته رسائل في القضايا التافهة، مثل: حكم حمل المسبحة!.

ويخطئ مَن يحسب حسن البنا واعظًا يجيد التعليم والتربية وحسب، إننا بلوناه فرأينا لديه فقهَ الأئمة الكبار من علمائنا، كما رأينا لديه فكر المجددين المعاصرين العباقرة”.

المُلهَم الموهوب

إنَّ الذي ينظر إلى آثار حسن البنا في الواقع وفي قلوب الناس لا يكاد يُصدِّق أن هذا فعْل رجل واحد عاش من العمر ثلاثةً وأربعين عامًا؛ ما لم يكن مسدَّدًا من الحقِّ الأعلى، ملاحَظًا بعناية السماء.

فكم شرح الله به صدورًا للإسلام، وكم قلبٍ هدى إلى الله، وكم فكرٍ أرشده للصواب، وكم تائبٍ عشق الحق ولزم الاستقامة!!.

لقد كان للجماهير بغام مزعج: يحيى فلان ويبقى فلان، فأصبح لها هتاف يهدر بتكبير الله وتحميده وتمجيده، مثقفون كثيرون كانوا يتوارون من الإسلام، ويستحون من الانتماء إليه، فلمَّا استمعوا إلى حسن البنا أصبحوا يجأرون بالإسلام، ويطالبون بالعيش في ظلاله، وخلال عشرين عامًا تقريبًا صَنَعَ هذه الجماهير التي صدَّعت الاستعمار الثقافي والعسكري، ونفخت روح الحياة في الجسد الهامد.

ترى، هل كان ذلك كله جهدًا بشريًّا معزولاً عن السماء، بعيدًا عن التوفيق الأعلى؟!.. كلا.. كلا.

وهذا ما جعل الغزالي يقول في أول مقدمة كتابه “دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين” يشرح فيه الأصول العشرين:

“مُلهَم هذا الكتاب وصاحب موضوعه: الأستاذ الإمام حسن البنا، الذي أصفه- ويصفه معي كثيرون- بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة؛ فقد وضع جملةَ مبادئٍ تجمع الشمل المتفرِّق، وتوضِّح الهدف الغائم، وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم، وتتناول ما عراهم خلال الماضي من أسباب العِوَج والاسترخاء، بيدٍ آسيةٍ، وعينٍ لمَّاحةٍ، فلا تدع سببًا لضعف أو خمول”.

يقول الغزالي- يرحمه الله:

“كان حسن البنا موفَّقًا في انتقاء الرجال، وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلى عقولهم فتأسرها؛ وذلك أمر يرجع إلى فضل الله أكثر مما يرجع إلى المهارة الخاصة، واقتياد الكلمة من فم القائل إلى شغاف قلب السامع يمكن أن يُقال فيه: “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”، وقد سمعت بعض تلامذة الإمام الشهيد يرددون المعانيَ نفسها التي كانت تجري على لسان الرجل، ويستحيل أن تجد في كلامهم عوجًا، ومع ذلك فإن الفتح بها محدود، إن السماء وحدها التي تضع للإنسان القبول في الأرض، وقد كان حسن البنا ملاحَظًا بعناية الله من هذه الناحية المهمة”.

السائح العابد الزاهد

ومن الأمور التي تميز بها البنا عن غيره من الدعاة والمصلحين سياحته في القطر المصري كله عندما بدأ جهاده الدعوي، فكما يروي عنه تلامذته أنه كان كثيرًا ما يصلِّي الفجر في القاهرة ثم يصلي الظهر في المنيا، ومنها في اليوم نفسه إلى سوهاج، وقنا في الصعيد، ثم يكون حظه من النوم سويعات أثناء ركوبه القطار، يؤازره في هذا الجهاد زهادة في الدنيا، واستعلاء على الشهوات، وقلب معلَّق بالله.

يقول الشيخ الغزالي: “كان هذا الإمام العجيب يحسب عمره بالدقائق لا بالساعات، وفوق تراب مصر وحدها شقَّ الطريق إلى عشرات المدن وآلاف القرى، فتحدَّث إلى الناس في ثلاثة آلاف قرية على الأقل، ولا أزال أتصوره وهو يزرع الحب بالبسمة الرقيقة، ويصنع اليقين بالإقناع الهادئ، ويتجاوز الخلافات برفض الجدل، وتعليق الناس بالجوهر لا بالمظهر، وتقديم الأهم على المهم، وقبل ذلك وبعده بتقوى الله والإعداد للقائه، وبكلمته التي طالما سمعته يرددها: إن موتًا في حق هو عين البقاء”.

ويتساءل الغزالي: “أهذا ما يتميز به؟ لا.. لقد رأيت حسن البنا يعمل وينسب عمله لغيره.. كان نكران الذات خليقةً ثابتةً فيه، على حين نجد كُثْرًا من الساسة الآن يدورون حول ذواتهم ويعبدون أنفسهم”.

كانت أحوال الأمة وبُعدها عن روح الدين يؤرقه ويؤثر في نفسه حتى تعدَّى الأثر وبلغ جسده، يقول الشيخ الغزالي في هذا المعنى: “التقيتُ الأستاذ الإمام قبل يومٍ من استشهاده، وعانقته، وأفزعني أني عانقتُ عِظامًا معلَّقةً عليها ملابس! كانت الهموم قد اخترمت جسدَ الرجل فلم تُبقِ منه إلا شبحًا يحمل وجهه المغضَّن العريض”.

ولهذا كانت نفسه- رضي الله عنه- شفَّافةً مشرقةً، أو كما عبَّر الشيخ الغزالي: “الرجل الذي يشتغل بتعليم الناس لا يستطيع في أحيانه كلها أن يرسل النفع فيضًا غدقًا؛ فله ساعات يخمد فيها، وساعات يتألَّق وينير. إن الإشعاع الدائم طبيعة الكواكب وحدها، وقد كان حسن البنا في أفقه الداني البعيد من هذا الطراز الهادي بطبيعته؛ لأن جوهر نفسه لا يتوقف عن الإشعاع”.

ونختم بكلمة معبِّرة قالها الغزالي عن الداعية والدعوة:

“إن الرسالة التي حمل لواءها حسن البنا يجب أن تبقى، وهي رسالةٌ يستحيل أن يكرهها مسلم مخلص لله ورسله، ولا تزال جماعة الإخوان المسلمين بعد عشرات السنين من اغتيال حسن البنا أعدلَ الجماعات الإسلامية، ولا يزال التاريخ الإسلامي المعاصر بحاجةٍ إليها، وأحسب أن الذين يهاجمونها إما أبواق لأعداء الإسلام، وإما جهلة لا يدرون شيئًا”.

شهادة:

يقول الشيخ محمد الغزالي :

"شهدت رجلاً كان يهاجم الأستاذ البنا - رحمه الله - في الهيئة التأسيسية مهاجمة عنيفة، ويخاطبه بما لا يليق من الألفاظ. فلما ثار عليه الإخوان غضب الإمام الشهيد وثار في وجه الغاضبين، حتى لقد أخرج بعضهم، ثم أقبل مبتسمًا على هذا المهاجم المتجني، وقال له: قل ما شئت وانقدني كما ترى، فلن تُقاطَع بعد ذلك، ولعلي أجد في قولك ما أصلح به خطأ أو أقوم به معوجًا.

وكان يبدو حين تلقاه هادئًا غاية الهدوء، وفي قلبه مرجل يغلي ولهيب يضطرم، كان على عقله مرونة، وفي تفكيره تحرر، وفي روحه إشراق، وفي أعماقه إيمان قوي جارف، كان متواضعًا تواضع من يعرف قدره، متفائلاً عف اللسان، عف القلم، يجل بنفسه عن أن يجري مجرى أصحاب الألسنة الحداد، كان مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن نُزعت منها، وبعد أن قيل إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان "


يقول الشيخ أحمد عيسي عاشور :

" كان الناس يرون حسن البنا غريبا في محيط الناس .. بل وفي محيط الزعماء .. بطابعه وطبيعته .. فقد صنع تاريخا .. وحول مجري الطريق .. فلما مات كان غريبا غاية الغرابه في موته.. فلم يصل عليه في المسجد غير والده ولم يمش خلف نعشه أحد من هؤلاء الأتباع الذين كانوا يملأون الدنيا .. لسبب بسيط هو أنهم كانوا في هذا الوقت يملأون السجون "

ثم يقول الشيخ " وإذا كان الإمام الشهيد حسن البنا قد مات فإن فكره لن يموت وتأثيره باق وممتد يتمثل في أجيال صنعها علي مائدة الإسلام بإسلوب العصر ويتمثل هذا في المد العالمي للحركة الإسلامية التي وضع بذورها الاولي , وحسن البنا بعد كل هذا : هو مجدد الإسلام في القرن العشرين ".


حسن البنا.. مجدد الإسلام في القرن العشرين

كتب الداعية الشهير الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله: الإمام الشهيد حسن البنا هو الداعية الذي بعث الأمل في قلوب اليائسين، وقاد سفينة العالم الحائر في خضمِّ المحيط إلى طريق الله رب العالمين.

هو الرجل الذي كان يقول لأتباعه: “كونوا مع الناس كالشجر؛ يرمونه بالحجر فيرميهم بالثمر”!.

عرفتُه من كتاباته، وعرفتُه من مريديه ومحبِّيه، وعرفتُه من آثاره الطيبة وأعماله المجيدة، عرفتُه داعيةً يجمع ولا يفرِّق، يحمي ولا يبدِّد، يصون ولا يهدِّد، يشدُّ أزر الأصدقاء ويردُّ كيد الأعداء.

عرفته رجلاً بعيد النظر، قويَّ الحجة، فاهمًا لأحداث عصره، مجدِّدًا.

لقد كان الإمام الشهيد رجلاً يتلافى الخلاف، ويعمل على توحيد الأمة.

سئل ذات يوم من أحد عشَّاق الفُرقة: لماذا تبني الجمعية الشرعية المساجد وأنتم لا تبنون؟!

فقال: عليهم أن يبنوا المساجد، وعلينا أن نملأها.

وسأله أحدهم: ما الفرق بين الإخوان المسلمين والجمعية الشرعية؟

فقال: أما الإخوان فهم في الدرب الأحمر، وأما الجمعية الشرعية فهم في الخيامية.

عرفتُه- رحمه الله- داعيةً، اجتمعت فيه صفات الصالحين، أولها القدوة الحسنة؛ فقد استطاع أن يتخلص من أكبر عقدتَين يصاب بهما الداعية، هما: المال والنساء، كما قال المستشرق نولدكه تحت عنوان (الرجل الرباني): “مات ولم يشبع من خبز الشعير، مات ميتةً كريمةً؛ فهو الشهيد الذي وقف فقال كلمة حق في وجه سلطان جائر؛ إنه بين حمزة وجعفر”.

كان شجاعًا في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، وكان عالمًا يقرأ كثيرًا، ويكتب ويستنتج، وكان صبورًا عليمًا، وكان قبل ذلك وبعد ذلك مخلصًا.

كان رجلا قرآنيًّا؛ إذا سمعته يتحدث خُيِّل إليك أنه يمسك القرآن باليد اليمنى والسنة باليد الأخرى، كان خطيبًا فصيحًا مفوَّهًا، وكان يعمل بما يقول، واستطاع أن يربِّيَ مليونين من شعب مصر، هذا بخلاف العالم الخارجي.

لقد بدأ دعوته بلا خُطب، وإنما أمسك المصحف بيمينه وقال قولته المشهورة “الطريق من هنا”.

لقد جاءت دعوة الإخوان المسلمين لتعمَّ المشارق والمغارب بنورها، وكأن الله أراد للإسلام أن ينقذ أبناءه بهذه الدعوة، فانساح أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها انسياحَ ماء البحر الطهور الذي يغسل وجه الأرض من أرجاسها وأنجاسها وأدناسها، فرحمك الله يا إمام، وألحقنا بك على خير حال.

ونختم الكلام عن ربانية حسن البنا والرعيل الأول من جماعة الإخوان المسلمين بمقتطف من مقدمة كتاب للدكتور يوسف القرضاوي ، حفظه الله ورعاه، عن التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا بمناسبة مرور ثلاثين عاما على استشهاد الإمام.

فكان مما كتبه سلسلة جديدة عنونها بالطريق إلى الله ضمنها خلاصات تجاربه ودروسه التي تلقاها في مدرسة البنا التي قال عنها في مقدمة كتابه المذكور أعلاه:

" ولست أكتب هذه الصحائف مؤرخا لحركة الإخوان ومبلغ تأثيرها في الحياة المصرية والعربية والإسلامية، فهذا جهد ينوء به فرد مهما تكن قدرته ووسائله. وإنما هو واجب الجماعة الذي فرطت فيه حتى اليوم، وإن كانت الضربات المتلاحقة التي أصابت الجماعة في العهود، تجعل لها بعض العذر لا كله.

"إنما أكتب هنا عن جانب واحد من جوانب هذه الحركة الضخمة؛ وهو: جانب التربية، كما فهمه الإخوان من الإسلام، وكما طبقوه.

" ولست أحاول هنا الاستقصاء والإحاطة، وإنما أكتفي بإبراز المعالم وإعطاء الملامح، التي تكفي لإيضاح فكرة الجماعة عن التربية، وجهودها في ممارستها، ونقلها إلى واقع حي يتمثل في بشر أحياء.

"ولا يخفى على دارس أو مراقب أن حركة الإخوان تمثل – في الدرجة الأولى- مدرسة نموذجية ناجحة للتربية الإسلامية الحق. وأن أهم ما حققته هو تكوين جيل مسلم جديد يفهم الإسلام فهما صحيحا، ويؤمن به إيمانا عميقا، ويعمل به في نفسه وأهله، ويجاهد لإعلاء كلمته، وتحكيم شريعته، وتوحيد أمته.

وقد ساعد على هذا النجاح جملة عوامل:

1- إيمان لا يتزعزع بأن التربية هي الوسيلة الفذة لتغيير المجتمع وبناء الرجال، وتحقيق الآمال. وكان إمام الجماعة الشهيد حسن البنا يعلم أن طريق التربية بعيدة الشقة، طويلة المراحل، كثيرة المشاق، ولا يصبر على طولها ومتاعبها إلا القليل من الناس من أولي العزم.

ولكنه كان يعلم كذلك علم اليقين، أنها وحدها الطريق الموصلة لا طريق غيرها، فلا بديل لها، ولا غنى عنها. وهي الطريق التي سلكها النبي، صلى الله عليه وسلم، فكون بها الجيل الرباني النموذجي الذي لم تر عين الدنيا مثله، والذي تولى بعد ذلك تربية الشعوب وقيادتها إلى الحق والخير.

2- منهاج التربية محدد الأهداف، واضح الخطوات، معلوم المصادر، متكامل الجوانب، متنوع الأساليب، قائم على فلسفة بينة المفاهيم، مستمدة من الإسلام دون سواه.

3- جو جماعي إيجابي هيأته الجماعة، من شأنه أن يعين كل أخ مسلم على أن يحيى حياة إسلامية عن طريق الإيحاء والقدوة والمشاركة الوجدانية والعلمية. والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده، قوي بجماعته. فالجماعة قوة على الخير والطاعة، وعصمة من الشر والمعصية. "وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".

4- قائد مرب بفطرته، وبثقافته، وبخبرته. وهبه الله شحنة إيمانية نفسية غير معتادة، أثرت في قلوب من اتصل به، وأفاض من قلبه على قلوب من حوله، وكان أشبه بـ "المولد" أو "الدينامو" الذي ملأ منه الآخرون "بطاريات" قلوبهم. والكلام إذا خرج من القلب دخل القلوب بغير استئذان، وإذا خرج من اللسان لم يجاوز الآذان. فصاحب القلب الحي هو الذي يؤثر في مستمعيه ومريديه. أما صاحب القلب الميت فلا يستطيع أن يحيي قلب غيره، ففاقد الشيء لا يعطيه، وليست النائحة كالثكلى.

5- عدد من المربين المخلصين، الأقوياء الأمناء، آمنوا بطريقة القائد، ونسجوا على منواله، وأثروا في تلاميذهم، ثم أصبح هؤلاء أساتذة لمن بعدهم ... وهكذا.

" ولست أعني بالمربين هنا خريجي المعاهد العليا للتربية، أو حملة الماجستير والدكتوراه فيها. وإنما أعني أناسا ذوي "شحنة" عالية من الإيمان، وقوة الروح، وصفاء النفس، وصلابة الإرادة، وسعة العاطفة، والقدرة على التأثير في الآخرين ... وربما كان أحد هؤلاء مهندسا أو موظفا بسيطا أو تاجرا أو عاملا، ممن لا علاقة به بدراسة أصول التربية أو مناهجها.

6- وسائل مرنة متنوعة، بعضها فردي، وبعضها جماعي، بعضها نظري، وبعضها عملي، بعضها عقلي، وبعضها عاطفي، بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، من دروس إلى خطب، إلى محاضرات، إلى ندوات، إلى أحاديث فردية، ومن شعارات تحفظ، إلى هتافات تدوي، إلى أناشيد تؤثر بكلماتها ولحنها ونغمها.

ومن لقاءات دورية لمجموعات مختارة في البيوت على القراءة والثقافة والعبادة والأخوة. سميت مجموعة منها "أسرة" إيحاء بمعنى الألفة والمودة بين أبناء العائلة الواحدة، إلى لقاءات أخرى في شعبة الجماعة غالبا، موعدها الليل، تتجدد فيها العقول بالثقافة، والقلوب بالعبادة، والأجسام بالرياضة. وسميت هذه "الكتيبة" إيحاء بمعنى الجهاد ، إلى غير ذلك من الوسائل والطرائق التي تهدف إلى بناء الإنسان المسلم المتكامل." ... ( د. يوسف القرضاوي ، التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا، ص 3-6 ).


يقول الأستاذ حسان حتحوت متحدثا عن هذا المعنى عند الشهيد حسن البنا:

" وكان من الاصطلاحات الشائعة جدا على ألسنة أتباعه" المهم: الحب في الله".

وكان يردد في درسوه: "سنقاتل الناس بالحب"، بل كانت البيعة التي صاغها لهم أن يعاهدوا الله على الاستقامة والمحبة والثبات على الدعوة".


حسن البنا.. العبقرية الفذة

وتحت هذا العنوان كتب الأستاذ محمد عبد الله السمان (المفكر والكاتب) فيقول: لبثتُ أكثر من عام متردِّدًا عن الكتابة عن حسن البنا العبقري الفذّ؛ وذلك قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى؛ لأني كنت أعتبر الكتابة عن الرجل في حياته ضربًا من ضروب التزلُّف، رغم أنه كان أعفَّ زعيم عن بوادر الثناء عليه والتزلُّف إليه؛ لأن حياته لم تكن حياة زعيم عاطل مليئةً بالثرثرة الجوفاء، وإنما كانت حياته ملكَ دعوةٍ ناهضةٍ حيةٍ، لم تدَع له لحظةً من عمره يذوق فيها طعم الخلود إلى السكينة والراحة، ولحق الشهيد الأعزل بربه، وعاودتني الرغبة إلى الكتابة عنه في كتابٍ يليق بقدره، واخترت عنوان الكتاب، ومضت سنة أخرى وثالثة، ولم أستطع خلالها أن أزيد على العنوان إلا مقدَّمة الكتاب، وأعددت الصفحات البيضاء في انتظار ملئها بما سجَّلته المذكرة والذاكرة من خواطر، وكلما حاولت أن أستجديَ قلمي حنينه استعصى استعصاءَ الحجارة، وأقسم ألا يجود بأكثر مما جاد به العنوان والمقدمة.. وكفى!.

يا له من قلم عَصيٍّ عنيدٍ، تتوارد الخواطر على فكري كالسيل المنهمر في هذه الشخصية الفذَّة التي تتسع لها أضخم الأسفار، فإذا ما طُلب منك أن تسجِّل استعصيتَ وعندت، واضطررتَني إلى أن أدع صفحات الكتاب البيضاء متراكمةً حتى صارت كالجسد المُسجَّى فوق المكتب؛ كلما دخلت ألقيت عليه نظرات الأسى والحسرة.

وما كنت أدري أن السر في عناء القلم واستعصائه هو الخجل من أن يكتب عن هذه الشخصية، وهو أعجز من أن يحيط بنواحي عبقريتها الفذة، وأهون من أن يلقيَ على عاتقه القيام بهذه المهمة الشاقة التي لا طاقةَ له بها، فأدركت أني كنت الأبله لا القلم، وأني كنت العنيد المستبدّ، لا قلمي الذي كان أبرأَ ما يكون من العناد والاستبداد!!.

كانت عبقرية الشهيد الأعزل “حسن البنا” لونًا فريدًا من العبقريات التي عرفها تاريخ البشر؛ فحسن البنا لم تُلقَ إليه مقاليد السلطان يومًا، ولم يكن مشعوِذًا دجَّالاً، تنجذب إليه أفئدة السوقة والعامة والرعاع، ومع هذا فقد كان ذا سلطان لا يدانيه سلطان في الشرق، وصاحبَ قوة أقلقت جنبات الاستعمار، وصدَّعت أعمدة الحكم الإقطاعي الجائر، وانجذبت إليه أفقهُ القلوب، وأنضرُ العقول، وأخصبُ الأسماع، وليس بعد هذا دليلٌ على أن الشهيد الأعزل “حسن البنا” كان يتمتع بعبقرية فذة لم يعرف تاريخ البشرية مثيلاً لها.

كان “حسن البنا” عبقريًّا في فهمه للإسلام، وعبقريًّا في تفهيمه الإسلام، وعبقريًّا في فهمه كتابَ الله، وعبقريًّا في تفهيمه كتاب الله، وعبقريًّا في خطابته، وعبقريًّا في قيادته، وعبقريًّا في سياسته، وعبقريًّا في حياته العامة، حتى موتته لم تُحرم جانبًا من جوانب عبقريته الفذة الخالدة!.


ماذا صنع حسن البنا؟

كتب أحمد عادل كمال تحت هذا العنوان:

حينما طُلب مني أن أكتب عن حسن البنا شعرت بقصور كبير عن أن أكتب فأوفِّي؛ فقد كان حسن البنا رضي الله عنه عملاقًا، يتضاءل بجانبه كل مارد، ويعجز قلمٌ أو لسانٌ أن ينصفه بين الناس أو يوفِّيَه حسابَه، ونحن حين نذكر حسن البنا رحمه الله كإمامٍ للجيل ونذكر معه حديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه: “إن الله ليرسل لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدِّد لها أمر دينها”، نجد أن حسن البنا رحمه الله يبزّ أقرانه من أئمة القرون ويفوقهم ويرتفع فوقهم درجات من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومع تقديرنا وتوقيرنا الكامل لهم جميعًا رضي الله عنهم أجمعين.

فمَن مِن هؤلاء الأئمة جاء في ظروف مثل أيام حسن البنا وفعل مثلما فعل؟! من منهم جاء وأمة محمد صلى الله عليه وسلم ممزَّقةٌ مقطَّعةٌ إلى دول ودويلات وإمارات وأشلاء، يربض فوق كل قطعة صغيرة منها جبار عتيد من جبابرة المستعمرين وبيدهم سيف المعز وذهبه؟!

من منهم جاء إلى خير أمة أخرجت للناس فوجدها شرَّ أمة تهون في أعين الناس وفي أعين بنيها؟!

مَن منهم رضي الله عنهم جاء إلى أمة محمد وقد زال من قلوب بنيها كل معنى كريم من معاني العزة والكرامة والحرية والقوة بل والأمل؟!

مَن منهم جاء إلى هذه الأمة؛ فوجد معين الخلق القويم قد نضب في قلوب أبنائها وفي نفوسهم؟!

مَن منهم عرض الإسلام بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان غضًّا طريًّا؛ يقرأ القرآن كما أُنزل، ويفتح من الناس قلوبًا ورثت الغفلة جيلاً عن جيل، فأدركوا أن الإسلام دينُ كل عصر، ورسالةُ كل أوان، ودستور كل قطر؛ يصلح به ما لا يصلح بغيره؟!

من منهم جمع القلوب على قلب رجل واحد؛ شبَّانًا ورجالاً وشيوخًا، ذُكرانًا وإناثًا، فأعدَّهم عددًا، وصفَّهم صفوفًا، ونظَّمهم كتائب، وجيَّشهم جيوشًا، وسكب في قلوبهم من عقيدة الإسلام وقواعده إيمانًا انساب إلى شغافهم؛ فأصبحوا يحيون به ومن أجله، فخطَّ لشباب هذه الأمة خطًّا غير الذي أريد لها، ورأى أبالسة الجن والإنس وجنودهم منهم ما كانوا يحذرون؟!

ثم مَن منهم لقي الله شهيدًا في سبيل دعوته؛ اغتالته يد الظلم والبطش والطغيان والسفالة في ساعةٍ من ظلام؟!

لئن كان بعض هذا ونزْرٌ منه لغير حسن البنا، فقد اجتمع كل هذا في حسن البنا رحمه الله، ورضي الله عنه وأرضاه، وجزاه خير ما يجزي داعيةً عن دعوته.


الشهيد الحي .. الدكتور محمود جامع

كان شهيدُنا الغالي يقول لهم: أيها الإخوة، لسنا حزبًا سياسيًّا وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا، ولسنا جمعيةً خيريةً إصلاحيةً وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا، ولسنا فرقةً رياضيةً وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا، ولكننا فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحده موضع، ولا يقيده جنس، ولا يقف وراءَه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمرٍ حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأنه نظام رب العالمين ومنهاج رسوله الأمين.

ونحن أيها الناس ولا فخر أصحابُ رسول الله، وحَمَلَةُ رايتِه من بعده، ورافِعو لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافِظو قرآنه كما حفظوه، والمبشِّرون بدعوته كما بشروا، ورحمةُ الله للعالمين.

وحدَّد الإمام الشهيد منهاج الإخوان المسلمين في أهداف سبعة، وصفها في رسالته (إلى الشباب) التي ركز فيها عنايته بهم دائمًا وأبدًا؛ إيمانًا بأن الشباب عماد هذه الدعوة وقوتها وحملة رايتها الممتدة من الزمان والمكان، وأثبت تاريخ دعوة الإخوان المسلمين أن هؤلاء الشباب كانوا ولا زالوا المثالَ الصادقَ الحيَّ في نشر هذه الدعوة، وحمل أعبائها ورايتها، والجهاد الدائم المضيّ والمستمر في سبيلها بالإيمان والإخلاص والحماسة والعمل.

وكان حسن البنا لا بد أن يموت شهيدًا بمؤامرة خسيسة من أئمة الكفر والضلال عن عمر لم يتم اثنين وأربعين عامًا بظروف غاية في الغرابة، بدايةً من حل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال أفرادهم جميعًا ما عدا مرشدهم حسن البنا، الذي طلبَ من السلطات أن تعتقلَه مع إخوانه وركِبَ بالفعل مع بعضهم سيارة الترحيلات ولكنهم أنزلوه وسحَبوا منه سلاحه المرخَّص ورفضوا سفرَه إلى بنها للإقامة عند صديقه الأستاذ البنداري، وكان عنده شعورٌ خفيٌّ بأنهم يدبرون لاغتياله، وكان شعورًا صادقًا فيه إلهام المؤمن وفراسته، واغتالوه وأطلقوا عليه الرصاص وتركوه ينزف بالساعات على سريره حتى لقي ربه.

وفي جلسةِ عشاء عائلي في منزل أحد أصدقائه التقي الدكتور محمود جامع بالصحفي الشهير الأستاذ محمد حسنين هيكل، وكان بينهما حوارٌ موضوعيٌّ طويل حول الإمام حسن البنا، وفوجئت به قائلاً: إنني في غاية العجب من هذا الرجل الذي كان يعمل مدرِّسًا ابتدائيًّا وشكَّل كل هذه التنظيمات.

فسألته سؤالاً مباغتًا يا أستاذ هيكل، كم كان سنّ حسن البنا حين تم اغتياله؟

فقال إنه قد قارب الستين أو يزيد،

فقلت له: إنه لم يكن قد بلغ اثنين وأربعين عامًا،

ولم يصدق مقولتي إطلاقًا، قائلاً بكل حدة: اثنين وأربعين عامًا ويفعل كل ذلك، ويشكِّل كل هذه التنظيمات!! إنه شيءٌ مذهلٌ!!

وأيدني في قولي الوزير السابق منصور حسن والصحفي جمال بدوي وغيرهما.

وزدت على ذلك قائلاً للأستاذ هيكل: وقام بتربية كل هذه الكوادر من الشباب وغير من شكل المجتمع المصري والإسلامي، وتقدَّم الشباب المجاهد ضد الاحتلال الصهيوني في فلسطين وضد الاحتلال الإنجليزي في القنال للدفاع عن أراضينا، وكان منهم الشهداء الأبرار والبطولات الفذة في المعارك الحربية الطاحنة التي اعترف بها العدو قبل الصديق.

وقُلت للصحبة كلها التي كانت تصغي إليَّ بكل اهتمام: إنه حتى بعد استشهاده انتشرت دعوتُه فى كل بقاع الدنيا وحتى الآن، وترك من بعده تلامذةً من رجال الإخوان المسلمين دعاةً أفاضل مرموقين وعلماء نوابغ يشار إليهم بالبنان في الفلك والطب والاقتصاد والذرة والرياضيات والإلكترونيات والسياسة ومنهم رؤساء جامعات وعمداء كليات وأساتذة في جامعات أمريكا وأوروبا وجميع أنحاء العالم والمنظمات العالمية والإقليمية!!

ودعوته وتراثه وأثره العظيم لا يزال ممتدًّا في الشباب الطاهر المؤمن المتألِّق المتفوِّق المتميز علمًا وخلقًا في الجامعات والمعاهد متحابًّا متآخيًا متكافلاً.. ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ (الكهف: من الآية 13).

وأتذكَّر دائمًا رسالة حسن البنا لإخوانه منذ الأربعينيات يقول فيها: إن طريق الدعوة ليس مفروشًا بالورود والزهور، ولكنه مفروشٌ بالأشواك مضرَجٌ بدماء الشهداء الأبرار، تتنازعنا يمينه وشماله أشلاء ضحايا البطش والقهر والطغيان، كما قال الإمام ابن القيم: “يا مخنَّث العزم!! الطريق تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وتعرض للنار إبراهيم، وللذبح إسماعيل، ونُشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى”.

إن العقبات ستكون طريقنا، وسيقف جهلُ الشعب بحقيقة الإسلام عقبةً في طريقكم، وستجدون من أهل التدين- ومن بعض علماء الأزهر- مَن يستغرب فهمَكم للإسلام وينكر عليكم جهادَكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجوهكم كلُّ الحكومات على السواء، وستُحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم.

وسيتذرع الغاضبون المستعمرون بكل طريقة لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبارَ الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يُلصقوا بها كل نقيصة، وأن يُظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتمدين على أموالهم ونفوذهم ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8)﴾ (الصف)، وستدخلون بذلك لا شكّ في دور التجربة والامتحان، وتُسجنون وتُقتَّلون وتُعتقلون وتُشرَّدون وتُصادَر مصالحُكم وتُعطَّل أعمالكم وتُفتَّش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان، لكنَّ الله وعدكم من بعد ذلك كلِّه بنصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)﴾ (الصف).

هذه هي رؤية إمامنا حسن البنا منذ أكثر من ستين عامًا لدعوته ورجالها وشبابها، فهل بعد ذلك دليلٌ على بصيرته النافذة وعلى نورانية قلبه ورجاحة عقله وصفاء روحه.. كل ذلك بفضل الله ثم بأنه يتكلم بقرآنه ويهتدي بهديه.

ذا هو مرشدنا وشهيد الأمة الإسلامية كلها، الذي بدأ دعوته إلى الله- والله حافظها وراعيها وناشرها- رغم أنف الضالِّين المضلِّلين ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيْزٌ﴾ (الجح: من الآية 40).

يا إمامنا الشهيد.. إنا على الطريق سائرون، وإنا على العهد باقون، وإلى لقاء قريب في رحاب الله يا حبيبنا الغالي، مهما طال الزمن أو بَعُدت المسافات.


ماذا قلن عن حسن البنا؟

تحت هذا المعنى كتبت السيدة بهية نصار رئيسة مبرة الخدمة الإسلامية:

كان رحمه الله صاحبَ رسالة، وكان موفَّقًا كل التوفيق؛ حيث لمس حقيقة الداء وعالجه بأنجع دواء؛ رأى انهيار الأخلاق وانحراف الناس عن الطريق السوي بتركهم الدينَ وراء ظهورهم، فعمل جاهدًا على تغيير الوضع، وسلك بالإخوان وبشباب الأمة خاصةً السبيل العملي، ليخلق من كل فردٍ المسلمَ الحقَّ والمواطنَ القويَّ الصالحَ، وشقَّ طريقه قُدمًا، عُدَّته الإيمان والإخلاص والعمل، فلازمه النجاح، حتى إذا ما وافاه الأجل المحتَّم كان قد بلَّغ الآلاف المؤلَّفة، وقابل ربه بنفس راضية مطمئنة، أثابه الله بقدر نفعه للوطن الإسلامي وللمسلمين، وأسكنه فسيح جناته، ووفَّق الإخوان إلى ترسُّم خطاه، ونفع بهم وبأمثالهم الوطن المفدَّى وبنيه في ظل العهد الجديد عهد النظام والاتحاد والعمل.


كتبت السيدة زينب جبارة رئيسة جمعية السيدات المسلمات في عهد الإمام البنا، فقالت:

إن حسن البنا هو الرجل الذي فقدته مصر في مرحلةٍ من أدقِّ مراحل حياتها، كانت في مسيس الحاجة إلى دعوته التي قام بأعبائها، هذا الرجل العظيم الذي قلَّ أن تجود الأيام بمثله، أو أن نجد عوضًا عنه..

كان شخصيةً جبَّارةً قويةً، وليس أدل على قوة شخصيته الجبارة من أن أمريكا وإنجلترا وفرنسا كانت جميعها تنظر إلى الرجل بعين الحذر، وتراقب حركته من بعيد ومن قريب وأيديها على قلوبها؛ فلقد كانت تعلم وتؤمن بأن حركة الإخوان المسلمين خطرٌ على الاستعمار أينما حلَّ في رقعة إسلامية أو بين شعب مسلم، ولم تكن أمثال إنجلترا وأمريكا وفرنسا وحدها الجبهات التي تحارب وتتقي حركة الشهيد حسن البنا؛ فقد كان طاغوت الفساد المتجسّم في القصر وأعوانه جبهةً معاديةً لحركة الشهيد، وظنَّت هذه الجبهة أن الحياة لن تطيب لها، وأن العيش لن يحلوَ لها إلا إذا تخلَّصت من دعوة الإخوان وقائد الإخوان ، فراحت تعمل بكل ما أوتيت من قوة لتنفِّذ مؤامرتها، ولم يكَد يستقر بهذه الجبهة القرار حتى أخذ الله ينتقم لدماء الشهيد ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر: 14).

شهادات غير مصرية

قدوة صالحة للعاملين

يقول الشيخ أمين الحسيني - مفتي القدس-:

“بينما كان الملاحدة ودعاة الإباحية ومروجو الفكرة الشعوبية يهاجمون الإسلام وينشرون سمومهم وضلالتهم في مختلف الأقطار المصرية والعربية، برز الشيخ حسن البنا في وسط الشعب المصري المؤمن كما تبرز الشمس من بين السحب الداكنة داعيًا أمَّتَه والمسلمين جميعًا إلى العمل بالقرآن الكريم، وتطبيق أحكامه وآدابه الرفيعة والاستمساك بسُنَّة النبي- صلى الله عليه وسلم- في كل شأن من شئونهم الخاصة والعامة، وإليه يرجع الفضل في هداية الألوف الكثيرة من طلبة الجامعات والعمال والمزارعين وسواهم من طبقات الشعب الذين انتفعوا به وبنشاطه، وقد كان للشيخ حسن البنا وإخوانه جهودٌ مشكورةٌ وأعمال مبرورة، كلها مآثرُ ومفاخرُ سجَّلها لهم تاريخ الجهاد الإسلامي بحروف من نور، وقد كان اغتياله خسارةً فادحةً، وكارثةً أصابت المسلمين في كل أقطارهم وديارهم، فرحمة الله عليه، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرَ ما يجزي عباده العلماء العاملين الصالحين المصلحين، وأحسن الله نزله في دار الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء”.


في رحاب الخلود

يقول الدكتور مصطفي السباعي- المراقب العام الاسبق للجماعة في مصر ورئيس الكتائب المجاهدة في فلسطين 1948 -:

“ليس للعظمة مقياس خاص؛ فقد يكون العظيم عالمًا أو فاتحًا أو مخترعًا أو مربيًا روحيًّا أو زعيمًا سياسيًّا، ولكن أجدر العظماء بالخلود هم الذين يبنون الأمم، وينشئون الأجيال ويغيرون مجرى التاريخ.

وحسن البنا كان أحد هؤلاء الخالدين، بل هو- في رأيي- أبرز الخالدين في تاريخ الإسلام في القرن الرابع عشر- والكلام لمصطفى السباعي- ليس لأنه كان عالمًا أو خطيبًا؛ ففي معاصريه من كانوا أكثر منه علمًا، وأنصع بيانًا، ولكن لأنه الرجل الذى بنى دعوةً، وأنشأ جيلاً، وهزَّ تاريخ مصر الحديث خاصة، والشرق العربي عامة، هزًّا عنيفًا ما تزال الأحداث تتأثَّر بمجراه.

وحسن البنا لم يمت عند كل الذين خاصموه وخاصمهم في حياته، بل لم تنقطع أسباب العداوة بينه وبين كثيرين من الذين وقفت دعوته في وجههم، بل لا تزال الحرب قائمةً بين دعوته والذين لا يؤمنون بها، وبيد أكثرهم الملك والسلطان والجاه والأموال والصحف والإذاعات، فكيف يُرجى منهم أن ينصفوه، ولم يصلوا إلى لبانتهم من القضاء على دعوته.

ومازال بأعدائه نصحًا وإشفاقًا، ومازال أعداؤه به كيدًا وتآمرًا حتى قتلوه في الظلام وحيدًا أعزل، أكرم الله مثواه، وأجزل مثوبته”.

يقول محمد بن عبد الكريم الخطابي - زعيم ومجاهد مغربي-: “حينما نذكر المرشد الأستاذ حسن البنا نذكر أمجادَ الإسلام ورجاله الأبرار الذين كرَّسوا حياتهم لخدمته والذود عن حياضه، وإن العالم الإسلامي ليرقب اليوم مصر العزيزة في عهدها الجديد ونهضتها المباركة، فيرجو لها- كما نرجو- كلَّ تقدم ونهضة وسؤدد، أما الإمام المرشد فحسبه أنه قضى في سبيل أسمى فكرة وأنبل غاية، وهي الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه والموت في سبيله”.


وقال الشيخ محمد الحامد الحموي رحمه الله تعالى:

كان حسن البنا لله بكليته وروحه وجسده، بقلبه وقالبه، بتصرفاته وتقلبه. كان لله فكان الله له، واجتباه فجعله من سادات الشهداء الأبرار.

ونقل الشيخ سعيد حوى رحمه الله عن الشيخ الحامد أنه كان يعتبر البنا مُجَدَّد القرون السبعة الماضية.

وينقل الشيخ الحامد عن شيخ وعالم مصري قوله : إن الإلحاد امتد إلى مصر وغزا كثيرًا من أوساطها، ولم يستطع الأزهر الشريف ولا الجمعيات الدينية ردَّ سيله الجارف، حتى جاء حسن البنا ودرأ خطره وأنجى من شره.


وقال الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي رحمه الله:

"ويح مصر وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جزاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم وليّ من أولياء الله !! ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم، بل في غُرَّتِهم، حسن البنا الذي لم يكن في المسلمين مثله؟".

كان من لا يعرف حسن البنا تشده إليه طريقته المهذبة الرقيقة في التعامل مع الناس... كتب عنه عدد كبير من المفكرين العلمانيين، فشهدوا بحسن أخلاقه وأدبه وتواضعه رغم اختلافهم معه في الأفكار والتصورات، ولكنهم أنصفوا الرجل.

يقول: إحسان عبد القدوس في روزاليوسف 12 سبتمبر / 1945 ـ ولا يخفى على أحد طبيعة هذه المجلة واتجاه أصحابها ـ:

"لو زرت حسن البنا لاستقبلك بابتسامة واسعة، وآية من آيات القرآن الكريم، يعقبها بيتان من الشعر، يختمها بضحكة كلها بشر وحياة. والرجل ليس فيه شيء غير عادي، ولو قابلته في الطريق لما استرعى نظرك، اللهم إلا بنحافة جسمه ولحيته السوداء التي تتلاءم كثيراً مع زيه الإفرنجي وطربوشه الأحمر الغامق.." ثم تحدث عن لباقته وقدرته على الإقناع، ورزانة أسلوبه.

استطاع البنا أن يقيم جماعة بداخلها من العوامل ما يضمن بقاءعا واستمرارها وهو ما يؤكده المستشرق الامريكي ( جون كوني ) بقوله " إن جماعة الإخوان المسلمين محصنة ضد الفناء "


د. عبد الله ناصح علوان .. حسن البنا الداعية الرباني بكلمة جامعة

لقد استحق حسن البنا، رحمه الله، بما قدمه بين يدي آخرته من علم وتربية وجهاد أن يندرج في سلك الدعاة الربانيين أهل التقوى والإحسان، يقول الدكتور عبد الله صالح علوان:

" لاشك أن الداعية الرباني حين يكون على هذا المستوى العظيم من التقوى والفهم والروحانية، وحين يتحلى بهذه القيم العالية من الإخلاص والصدق وحرارة الإيمان والدعوة، فإنه ينطلق في ميادين الدعوة والتبليغ والجهاد .

ولو أردنا أن نستقصي أخبار هؤلاء الذين أثروا وأصلحوا وغيروا لرأيناهم أكثر من أن يحصوا، وأعظم من أن يستقصوا؛ بل إنهم كثير وكثير، كأمثال الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الحسن البصري، والإمام الفضيل بن عياض، والإمام معروف الكرخي، والإمام الجنيد البغدادي، والإمام سعيد النورسي، والإمام حسن البنا.

فهؤلاء الأئمة الربانيون هم الذين حملوا خلال العصور إمامة الدعوة، ورسالة الإصلاح، ومسؤولية الهداية؛ وهم الذين جمعوا بين العبادة والجهاد ، ووفقوا بين حق الله وحق العباد، وهم الذين أعلنوا صوت الهدى والحق أمام المستبدين الظالمين، ووقفوا ببسالة فائقة أمام المستعمرين الغاشمين. وهم الذين جددوا بدعوتهم وصحبتهم ميثاق الإسلام، وأدخلوا الناس في السلم فقها وعملا بعد أن دخلوا فيه وراثة وعادة، وأذاقوا مريديهم وتلامذتهم حلاوة الإسلام ولذة الإيمان. وهم الذين أخرجوا أصنافا من البشرية من سلطان الهوى ورق الشهوات، واستحواذ حب الدنيا، إلى نور الحق وهدى الإسلام، ولذة الطاعة والمناجاة."


يعلق الأستاذ عبد السلام ياسين على صفحات حياة الإمام الشهيد المشرقة وفكره وحركته التجديدية التربوية الجهاد ية بقوله:

" كان (يعني الأستاذ البنا) صوفيا صحب الرجال وبايع الشيخ وتتلمذ للذاكرين وسافر مع الذاكرين وزار أضرحة الأولياء، وجالس المؤمنين، وحظي بدعوات الصالحين، وفصل كل ذلك في مذكراته.

" وكان بعدئذ مربيا صوفيا وضع لجماعته مأثورات يتلونها وظيفة في مجالس الذكر، واتخذ لهم وردا. وألح في كل مناسبة على الرابطة الروحية بين أعضاء الجماعة. وهذا ما لا يكاد يدركه حتى أصحاب البنا أنفسهم، لأن من رفقه، رحمه الله، ومن حسن اجتهاده أنه كان يعرف جماعته بأنها جماعة إسلامية ثقافية رياضية وما يشبه هذا من ضروب النشاط، ويجعل النعت الصوفي واحدا من نعوتها من بين صفات أخرى يفهمها الناس بلغة العصر على أنها حركة وجهاد وعلم ونشاط ومشاركة في الحياة العامة.

" كان من رفقه، رحمه الله، ومن حسن اجتهاده أنه تنصل من جل المصطلحات الصوفية، ليتجنب مواطن الغلط في ذهن أصحابه ومريديه الذين لا يعرفون من الصوفية إلا تكايا الانعزال، وحرفة أصحاب الأسمال.

"ورجع، رحمه الله، للكتاب والسنة، فيما يخطب ويكتب، ليتكلم بلغة جهادية هي لغة القرآن، طاويا تاريخ الإيمان والإحسان في زمن الفتنة الذي أصبح الصوفية أثناءه –القاعدون منهم- يتحدثون بلغة المناقب، وتأمل كرامات السابقين، يكتبها اللاحقون بغير دراية، فتفوتهم العبرة في حياة الأولياء من حيث تزكيتهم لأنفسهم وطلبهم لربهم بالفرض والنفل والاستقامة على الطريقة."

ثم يقول:

"ودعا الأستاذ البنا بعد هذا لالتقاء العلماء والواعظين بالصوفية، ليبحثوا عن منهاج ليردوا الأمة إلى سواء السبيل، وتفاءل خيرا. لكن من يسميهم بعض الناظرين "صوفية الحقائق" هؤلاء الذين يتكلمون الكلام المعمي، ويدخلون الشك في عقائد المسلمين، لا تزال لهم سوق رائجة كما للمحترفين في الأدعياء، أولئك بضاعتهم الاسم والشارة والسبحة والعمامة، وكل يسبحون في فلك الكسل والجهل والمرض المزمن في هذه الأمة، مرض حب الرئاسة والظهور.

"وكأني بمن يقرأ مذكرات البنا وأخباره عن زمان إرادته وسلوكه الصوفي، يعتقد أنه يقرأ تاريخا طواه البنا يوم قام للدعوة. وإنك لتقرأ ما كتبه الإخوان المسلمون في مجلاتهم وكتبهم فلا تقرأ عن الصوفية إلا أحكاما سلبية تنبئ عن إغفال روحانية البنا ومصدرها " (الإسلام غدا، ص 451-452).

وقد أفاد الشهيد، رحمه الله، من تجربة الصوفية كثيرا من الأساليب التربوية الفعالة التي ضمنها نظامه التربوي، معبرا عنها بلفظ غير اللفظ، وهادفا إلى تحقيق معاني أسمى مرتبة وأبعد مرمى.


يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:

" كان يبدأ بمبايعة تتضمن قراءة الأوراد والوظيفة إلى جانب الشروط الجهادية العامة.

بعد نحو عشر سنوات من قيام الدعوة نشر البنا منهاجا يلخص ما كان فصله في رسالة التعاليم.

يقول: الواجبات العشر:

1. حمل شارتنا،

2. حفظ عقيدتنا،

3. قراءة وظيفتنا،

4. حضور جلستنا، 5.

إجابة دعوتنا،

6. سماع وصيتنا،

7. كتمان سريرتنا،

8. صيانة وصيتنا،

9 . صحبة إخوتنا،

10. دوام صلتنا.

وكل هذه الواجبات يجمعها مفهوم الصحبة والجماعة، وهي تفصل شروط الصحبة والجماعة. فترى كيف ذهبت مصطلحات الصوفية في التعبير عن آداب المريد من الشيخ والفقراء. وحل محلها تعليم أكثر تفتحا على الحياة العامة، وأكثر جمعا لمعاني المحبة والنصيحة والتضامن والولاء الجماعي.

" (...) لاشك أن ما بناه الشاب المجاهد وما أصابه من نجاح وتوفيق كان كفاء لصدق الروحانية، وكفاء لعمل الليل والنهار، وكفاء للمحبة التي وصلت قلب مؤمن زكي بقلوب مساكين كانوا يعملون في بحر الظلمات قبل أن يرتفع لهم نور الهداية في طلعة البنا" ..(المرجع السابق، ص 456-455).


صفات النادرين من أولي العزم .. الفضيل الورتلاني

كان لحسن البنا صفات تفرقت في الناس وقلما اجتمعت في شخص واحد اللهم إلا طائفة نادرة من أولي العزم: للرجل طاقة عالية ينفرد الناس من ناحية من نواحيها ولا تجتمع لهم .. فإذا حدثه الفقيه وجد فيه الفقيه الممتاز ويخيل إلى أن هذه صفته .. وإذا اجتمع به الأديب توهم أن هذه صفته وما له غيرها وإنما هو مكمل .. وإذا لقيه السياسي وجد فيه سياسيا من طراز فريد .. وحسب أن ما له من الصفات الأخرى إنما هو جزء يسير .. والحق: إن حسن البنا هو تلك الصورة الضخمة التي تجمع تلك الصفات جميعا. وبحظ وافر يوازي .. وإن لم يزد ما للمتخصصين فيها من حظ.


الإمام هو معاني الإسلام السامية ..السيد علي البهلوان السكرتير العام المساعد للحزب الحر الدستوري التونس ي

اقترن إسم الشهيد حسن البنا في نظر التونسيين بحركة التجديد والتطهير التي تجسمت في الإخوان المسلمين وأصبح إسمه رمزا لفكرة حية ومبدأ سام طالما تردد بين التونسيين من غير أن يجد من يسهر على تطبيقه حتى أبرزه المرشد العظيم.

وقد كان لحركة الإخوان المسلمين صدى عميق في تونس لأن التونسيين آمنوا بأن الإسلام دين عمل وتضحية وفداء، وقد تجسمت في المرشد العظيم رحمه الله، تلك المعاني الإسلامية السامية، فأمسى منار هداية لمن يريد نهضة إسلامية أساسها ثابت وصرحها عال.


حسن البنا كما عرفته .. الشاذلي المكي

لين الطباع والأخلاق .. يحسبه المرء أنه لشدة ليونته وسماحته متساهل حلو الكلام، يأخذك بحديثه فهو ما يزال بك حتى يفرغ في نفسك تلك المعاني السامية، التي ما دخلت قلبا إلا وجعلت صاحبه يؤمن بما له وما عليه في هذا المعترك.

وفي لمبادئه .. وذلك بالدفاع عنها إلى حد الاستماتة في سبيلها .. ووفي لإخوانه وأصدقائه بالنصيحة لهم وتوجيههم التوجيه السليم الصحيح .. ووفي لهذه الإنسانية التي طوحت بها الإلحادية وغزتها المادية فأنستاها الله ثم أنستاها أنفسها، فضلت الطريق فهو يحاول أن يردها، إلى ما إن تمسكت به لن تضل أبدا: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

متفان في دعوته، فهو يدرس ويقارن ثم يستنتج لينشر مبادئ القرآن وهدي نبي الإسلام، واضحة كفلق الصبح، جديدة كالنور، طاهرة كالمحجة، قوية كالحجة، ومن هنا كان الداعية المصلح والواعظ المرشد المجدد ذلك هو حسن البنا كما عرفته في سنة 1945م وفي السنوات التي تلتها حتى لقي ربه شهيدا.

وفي نظري أنه إذا كان المصلحون الذين تقدموا حسن البنا مثل عمر بن عبد العزيز والغزالي وابن تيمية وابن القيم والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الحميد بن باديس وغيرهم، قد نادوا بالإصلاح، وعملوا له، وحددوا معالمه مصداقا وفاقا لقوله صلوات الله عليه وسلامه: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) فإن حسن البنا قد وضع لهذا الإصلاح بصورة لم يسبق إليها لا المعالم للتجديد والإصلاح فحسب وإنما الأسس والأركان .. ومن ثم كان من أكبر المجددين المصلحين لأمر هذه الأمة.


الإمام الذي صرع تيار الإلحاد .. السيد محمد هارن المجددي

كان الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه وأرضاه صورة طيبة لخيرة أصحاب قائدنا الأعظم سيدنا محمد صلى الله عيه وسلم، فقد ملكت مبادئ الإسلام المثالية قلبه وفكره في كل لحظة من لحظات حياته، وكان لا يعيش لنفسه بل يعيش لهذه الأمة الإسلامية التي توالت عليها المحن ورانت عليها صروف الزمن ... كان التيار الإلحادي يجرف في لجبه الشبيبة المثقفة وهي خلاصة الأمة وقلبها النابض ... ولكن الله تعالى ألهم الشهيد الإمام حسن البنا بما ألهم به عباده الصالحين فكان أمة وحده .. وقف أمام التيار الإلحادي فصرعه وأخذ بأيدي الحيارى والضالين فأرشدهم إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم وغرس في قلوبهم تعاليم القرآن الخالدة.


دعوة لا تعبث بها الزمان .. السيد علال الفاسي - رئيس حزب الاستقلال المغربي

أعظم ما كان بارزا في شخصية حسن البنا هو إيمانه بالله وبصدق الدعوة التي يدعو لها وإيمانه بنفسه أيضا وأعظم صفاته هي قوة الملاحظة وقوة المواظبة، وبهاتين الخصلتين استطاع أن يشق الطريق لدعوته في وسط كان أبعد ما يكون عنها وأعتقد أن الدعوة التي كانت تستفيد من حياة البنا لو لم يوافه الأجل المحتوم، ولكن العشرين سنة التي قضاها دائبا ليلا ونهارا على بذر فكرته وتطعيمها والعناية بها يجعلها في مأمن من أن تطوح بها أيدي الزمان العابثة.


الإخوان المسلمون لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق .. الشيخ أبو الحسن الندوي

وقال السيّد أبو الحسن الندوي رحمه الله:

"إن كلّ من عرف حسن البنا عن كثب لا عن كتب، وعاش متصلاً به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود وفاجأت مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وجهادها وقوتها الفذّة... فقد اجتمعت فيه صفات ومواهب تعاونت في تكوين قيادة دينية اجتماعية لم يعرف العالم العربي والإسلامي وما وراءه قيادة دينية أو سياسة أقوى وأعظم تأثيرًا، أو أكثر إنتاجًا منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد حركة أوسع نظامًا، وأعظم نشاطًا، وأكبر نفوذًا منها.

وقد تجلت عبقرية حسن البنا من ناحيتين:

الأولى: شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها، وتفانيه فيها، وانقاطعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله.

وذلك هو الشرط الأساس والسمة الرئيسة للدعاة والقادة الذين يُجري الله على أيديهم الخير الكثير.

الثانية: تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج. فقد كان منشأ جيل ومربي شعب وصاحب مدرسة علمية فكرية خُلقية.

وقد أثَّر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين، في أذواقهم ومناهج تفكيرهم وأساليب بيانهم ولغتهم..

وشبّه الشيخ أبو الحسن الندوي مقتل الإمام الشهيد بعقر ناقة سيدنا صالح، فكما أن عقر الناقة جلب على ثمود عذاب الله لهم بالطاغية، فإن مقتل الإمام الشهيد حسن البنا قد جلب على المسلمين عامة وأهل مصر خاصة الويلات والمصائب والنكبات.


كنت أتابعه من شقوق الباب .. الشاعر الكبير المرحوم عمر بهاء الدين الأميري

لقد راقبته أدق المراقبة، حتى أنني كنت من شقوق الباب وهو يصلي في غرفته خاليا قبل النوم، وكنت أتفحص خشوعه فأراه أطول سجودا وأكثر إقبالا على الله منه وهو يصلي بنا.


تحية دعوة الحق

كتب الشاعر الكبير علي أحمد باكثير قصيدةً عن الإمام الشهيد قال فيها:

عشرون عامًا بالجهاد حوافل مرَّت كبين عشية وضحاها

ما كان أقصرها وأطول باعها في الصالحات إذا يقاس مداها

هي دعوة الحق التي انطلقت فلم تقوَ الموانع أن تعوق خطاها

لله “مرشدها” فلولا صدقه لم يغزُ آلافَ النفوس هداها

في قلبه وريت فشبّ ضرامها بلسانه حتى استطار سناها

بالأمس نجوى في فؤاد واحد واليوم في الدنيا يرنُّ صداها

أضحت عقيدة مؤمنين بربهم ومبلغي أوطانهم رجواها

متسابقين إلى الجهاد ليحفظوا عز البلاد ويكشفوا بلواها

ولينهضوا من طويل خمولها ويقطفوها من عميق كراها

ويطِّهروا أرض العروبة كلها من كل باغٍ يستبيح حماها

ويوحِّدوا الإسلام في أقطاره ما بين أدناها إلى أقصاها

زعموا السياسة ذنبه يا ويحهم!! ما فضل دين محمد لولاها؟!

دين الحياة تضيع أخراها على أبنائه إن ضيَّعوا دنياها!

فليمضِ عند الهادمون فإنه ”بناء” نهضة قومه وفتاها


وآخر دعوانا ... أن الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على أشرف المرساين وعلى آله وصحبه أجمعين

والله أكبر ولله الحمد

المراجع والمصادر

مقالات ودراسات بأقلام:

مواقع ومواد إلكترونية


موضوعات ذات صلة

وصلات داخلية

مقالات متعلقة