|
|
(٣٧ مراجعة متوسطة بواسطة مستخدم واحد آخر غير معروضة) |
سطر ١: |
سطر ١: |
| '''<center>الحركة الإسلامية في [[السودان]]</center>''' '''<center>( التطور .. الكسب .. المنهج )</center>''' | | '''<center><font color="blue"><font size=5>الحركة الإسلامية في [[السودان]]</font></font></center>''' |
| | '''<center>( التطور .. الكسب .. المنهج )</center>''' |
| | |
|
| |
|
| <br> '''بقلم الدكتور/ [[حسن الترابي]]'''<br> | | <br> '''بقلم الدكتور/ [[حسن الترابي]]'''<br> |
سطر ١٢٧: |
سطر ١٢٩: |
| وقد اتخذت الجماعة نذرًا يسيرًا من المواقف الإسلامية في الحياة العامة، دون أن تخرج كثيرًا عمَّا يَعينها بوجه مباشر. وذلك مثل حملة النُّصرَةِ [[للإِخوان المسلمين]] في [[مصر]] ضد الاضطهاد الواقع عليهم، وموقف التأييد لاتفاقية [[السودان]] لعام [[1953]] م التي مهدت الطريق للاستقلال، في وجه المعارضة الشيوعية لها. | | وقد اتخذت الجماعة نذرًا يسيرًا من المواقف الإسلامية في الحياة العامة، دون أن تخرج كثيرًا عمَّا يَعينها بوجه مباشر. وذلك مثل حملة النُّصرَةِ [[للإِخوان المسلمين]] في [[مصر]] ضد الاضطهاد الواقع عليهم، وموقف التأييد لاتفاقية [[السودان]] لعام [[1953]] م التي مهدت الطريق للاستقلال، في وجه المعارضة الشيوعية لها. |
|
| |
|
| === عهد الظهور الأول (الأعوام 1956م إلى [[1959]]م) === | | === عهد الظهور الأول (الأعوام [[1956]]م إلى [[1959]]م) === |
| | |
| وهو عهد ما بعد الاستقلال في [[السودان]]، حيث تَمَكَنت نُخبَةُ المتعلمين في مواقع القيادة أو الحكم الوطني، وطرحت مسائل تحرير الوطن وتقرير علاقاته، واحتدم الصراع السياسي وشاعت الحربات الديمقراطية. ومع مقدم الاستقلال بدأ التخرُّجُ- تخُّرجُ رواد الحركة من الجامعة ليقودوا نصيبًا من حركة الوطن ب[[الإسلام]]، وحينما باشر الرافد الطلابي الحياة الشعبية كان لابد من أن يَستَوعِب الرافد الشعبي، وكان ما قدمناه من توحيد الحركة الإسلامية تحت لواء التيار الطلابي. وأخذ التشكيل الفرعي يمتد في خريطة [[السودان]] وانبثّت الشُّعَب حتى غدت الحركة منظومة من محور مركزي وشبكة فرعية ذات أبعاد. وظهرت الدعوة لأول مرة بالصحف وبالخطاب العام ببروز الدعاة القادة في الساحة [[السياسة]] الحرة وخوضهم مع الخائضين في القضايا الوطنية. أما القضية الأساسية التي حملتها الدعوة في هذه المرحلة فهي قضية الدستور الإسلامي، وبالطبع لم تكن تلك حملةً دستورية قانونية، بل حملةَ اتصالٍ بالشعب وتذكيرٍ بالنظام الإسلامي وبث للفكر الإسلامي الذي كان متاحًا. واقتضت دواعي هذه الحملة أن تتصل الحركة بعناصر كثيرة من النواب والشعب والساسة، وأن تجوب البلاد تُعَبِّئ الشعب بأحزابه وطوائفه للدستور الإسلامي، وأن ترفع شعارًا عامًا وتُحدث أثرًا، وأن تصبح هيئة ذات فعالية للضغط السياسي. وأضافت الحركة في هذه المرحلة إلى وظائفها التجنيدية والتربوية الطلابية سماتِ هيئة الضغط والتعبئة، إذ اتخذت واجهةً تحالفيةً هي الجبهة الإسلامية للدستور التي وسعت أثرها وروَّجت دعوتها، وإذ صاغت جماع دعوتها في شعار سياسي يكون كلمة التداعي المشهورة للجماهير، وإذ بسطت حملة شعبية واسعة للتذكير والتبشير بالحكم الإسلامي بمنهج لا يتجاوز [[الأحزاب]] لكنه يحاصرها في [[الإسلام]] ويحرجها بقبول دعوته.
| |
|
| |
|
| | وهو عهد ما بعد الاستقلال في [[السودان]]، حيث تَمَكَنت نُخبَةُ المتعلمين في مواقع القيادة أو الحكم الوطني، وطرحت مسائل تحرير الوطن وتقرير علاقاته، واحتدم الصراع السياسي وشاعت الحربات الديمقراطية. ومع مقدم الاستقلال بدأ التخرُّجُ- تخُّرجُ رواد الحركة من الجامعة ليقودوا نصيبًا من حركة الوطن ب[[الإسلام]]، وحينما باشر الرافد الطلابي الحياة الشعبية كان لابد من أن يَستَوعِب الرافد الشعبي، وكان ما قدمناه من توحيد الحركة الإسلامية تحت لواء التيار الطلابي. وأخذ التشكيل الفرعي يمتد في خريطة [[السودان]] وانبثّت الشُّعَب حتى غدت الحركة منظومة من محور مركزي وشبكة فرعية ذات أبعاد. وظهرت الدعوة لأول مرة بالصحف وبالخطاب العام ببروز الدعاة القادة في الساحة [[السياسة]] الحرة وخوضهم مع الخائضين في القضايا الوطنية. أما القضية الأساسية التي حملتها الدعوة في هذه المرحلة فهي قضية الدستور الإسلامي، وبالطبع لم تكن تلك حملةً دستورية قانونية، بل حملةَ اتصالٍ بالشعب وتذكيرٍ بالنظام الإسلامي وبث للفكر الإسلامي الذي كان متاحًا. واقتضت دواعي هذه الحملة أن تتصل الحركة بعناصر كثيرة من النواب والشعب والساسة، وأن تجوب البلاد تُعَبِّئ الشعب بأحزابه وطوائفه للدستور الإسلامي، وأن ترفع شعارًا عامًا وتُحدث أثرًا، وأن تصبح هيئة ذات فعالية للضغط السياسي. وأضافت الحركة في هذه المرحلة إلى وظائفها التجنيدية والتربوية الطلابية سماتِ هيئة الضغط والتعبئة، إذ اتخذت واجهةً تحالفيةً هي الجبهة الإسلامية للدستور التي وسعت أثرها وروَّجت دعوتها، وإذ صاغت جماع دعوتها في شعار سياسي يكون كلمة التداعي المشهورة للجماهير، وإذ بسطت حملة شعبية واسعة للتذكير والتبشير بالحكم الإسلامي بمنهج لا يتجاوز [[الأحزاب]] لكنه يحاصرها في [[الإسلام]] ويحرجها بقبول دعوته. |
|
| |
|
| === عهد الكمون الأول (الأعوام [[1959]]م إلى [[1964]]م) === | | === عهد الكمون الأول (الأعوام [[1959]]م إلى [[1964]]م) === |
|
| |
|
| هذه فترة سلطة الفريق عبود وزمرته العسكرية التي وليت على البلاد فساستها سياسة محافظة معتدلة، فلم يُفرِطوا في القهر السياسي ولم يُعنوا بالقضية [[السياسة]]، بل ركزوا على الإدارة والتعمير بغير ادعاءٍ مذهب أو ثوري. وهي فترة كُمُون، لأن الحركة واجهت لأول مرة ما توهَّمته خَطَرَ محِنَةٍ وابتلاء. والحقيقة أن الحركة فزعت إلى حذرٍ بالغ دون أن تُلاقي ابتلاءً، وذلك من فرط اعتبارها بما حدث في مصر. فانفعلت انفعالًا شديدًا بالخوف كمونًا حادًا لأول عهد حتى كادت تجمّد نفسها. ولكن ظلت الحركة الطلابية – شذوً من هذا الانزواء- تجاهر وتعمل وتجاهد النظام، وكانت هذه مرحلة بركة ونمو الحركة الطلابية حتى أصبحت من كبريات الاتجاهات الطلابية | | هذه فترة سلطة الفريق عبود وزمرته العسكرية التي وليت على البلاد فساستها سياسة محافظة معتدلة، فلم يُفرِطوا في القهر السياسي ولم يُعنوا بالقضية [[السياسة]]، بل ركزوا على الإدارة والتعمير بغير ادعاءٍ مذهب أو ثوري. وهي فترة كُمُون، لأن الحركة واجهت لأول مرة ما توهَّمته خَطَرَ محِنَةٍ وابتلاء. والحقيقة أن الحركة فزعت إلى حذرٍ بالغ دون أن تُلاقي ابتلاءً، وذلك من فرط اعتبارها بما حدث في [[مصر]]. فانفعلت انفعالًا شديدًا بالخوف كمونًا حادًا لأول عهد حتى كادت تجمّد نفسها. ولكن ظلت الحركة الطلابية – شذوً من هذا الانزواء- تجاهر وتعمل وتجاهد النظام، وكانت هذه مرحلة بركة ونمو الحركة الطلابية حتى أصبحت من كبريات الاتجاهات الطلابية |
|
| |
|
| وأثناء هذه السنوات توالى تخرج أعداد كبيرة من القيادات الطلابية الإسلامية لتغذى الحركة خارج الطلاب وكان لذلك مردود فيما بعد. | | وأثناء هذه السنوات توالى تخرج أعداد كبيرة من القيادات الطلابية الإسلامية لتغذى الحركة خارج الطلاب وكان لذلك مردود فيما بعد. |
سطر ١٤٠: |
سطر ١٤١: |
| وفي هذا العهد كانت الدعوة العامة محدودة – تعمل من واجهة ثقافية بحجة اتقاء [[السياسة]]، ولكن العمل الثقافي المباح رَبّى للحركة بعض قيادات وعلاقات في المجتمع. | | وفي هذا العهد كانت الدعوة العامة محدودة – تعمل من واجهة ثقافية بحجة اتقاء [[السياسة]]، ولكن العمل الثقافي المباح رَبّى للحركة بعض قيادات وعلاقات في المجتمع. |
|
| |
|
| بيد أن الانغلاق فَرَّغَ الجماعة لنفسها، فثار فيها حوارٌ منهجي منظم لأول مرة طرح عددًا من القضايا. فمنها ما كان يتعلق بالقيادة، من جراء مواقف انفردت بها القيادة التي كانت قائمة دعت الجماعة إلى أن تتجه نحو القيادة الجماعية. وطرحت مسألة التربية. نوعها ومغزاها وجدوى الأسرة أداةً لها. وطُرحت مَاهِيَّة الحركة، هيئةً للضغط السياسي أم حزبًا يطلب السلطان. وطُرِحت قضية العلاقة ب[[السياسة]] وبالقوى [[السياسة]]. وانتهت هذه القضايا المختلفة إلى مراجعات دستورية فُصِّلَت فيها القضايا المختلفة. وفي آخر هذا العهد بدأ التخطيط لتوجه جَبهَوى إِسلامي في سياق التصدي الأجرأَ والمعارضة للنظام. ولعل تكاثر القيادات المتخرجة كان عامل ثقة كبير ودفعًا للحركة التي كان يقودها الطلاب. كذلك نشطت الحركة العمالية والنقابية. ولئن ظلت الجماعة على صلة بالجبهة المعارضة للنظام، فقد كان إسهامًا ضعيفًا لأول الأمر، حتى إذا قَوِيت شوكتهُا واعتزل الشيوعيون المعارضة، انبرت الحركة في أواخر عهد النظام تتخذ مبادرات في التحريض بالمنشورات والندوات وتُشجع طلابها على قيادة [[الثورة]] على النظام. | | بيد أن الانغلاق فَرَّغَ الجماعة لنفسها، فثار فيها حوارٌ منهجي منظم لأول مرة طرح عددًا من القضايا. فمنها ما كان يتعلق بالقيادة، من جراء مواقف انفردت بها القيادة التي كانت قائمة دعت الجماعة إلى أن تتجه نحو القيادة الجماعية. وطرحت مسألة التربية. نوعها ومغزاها وجدوى الأسرة أداةً لها. وطُرحت مَاهِيَّة الحركة، هيئةً للضغط السياسي أم حزبًا يطلب السلطان. وطُرِحت قضية العلاقة ب[[السياسة]] وبالقوى [[السياسة]]. وانتهت هذه القضايا المختلفة إلى مراجعات دستورية فُصِّلَت فيها القضايا المختلفة. وفي آخر هذا العهد بدأ التخطيط لتوجه جَبهَوى إِسلامي في سياق التصدي الأجرأَ والمعارضة للنظام. ولعل تكاثر القيادات المتخرجة كان عامل ثقة كبير ودفعًا للحركة التي كان يقودها الطلاب. كذلك نشطت الحركة العمالية والنقابية. ولئن ظلت الجماعة على صلة بالجبهة المعارضة للنظام، فقد كان إسهامًا ضعيفًا لأول الأمر، حتى إذا قَوِيت شوكتهُا وا |
| | |
| | |
| === عهد الخروج العام(الأعوام [[1964]]م إلى 1969م) ===
| |
| | |
| كان هذا عهد ثورة [[أكتوبر]] التي قادت مبادراتهِا الحركةُ فاستفادت منها ثقةً واندافاعًا. وكان عهدَ الحرية الواسعة التي فتحت باب الحوار والمنافسة [[السياسة]] واسعًا، وعهدَ المد الشعبي الذي زلزل [[الأحزاب]] التقليدية وأثار قضايا [[السياسة]] بأصالةٍ تجاوزت ركون الساسة القدماء للتقاليد ومحافظتهم على الموروث الاستعماري. ولئن تفجرت [[الثورة]] أساسًا بالحركة الطلابية وتجاوبت معها بالإضراب السياسي قطاعات العمال والموظفين، فقد برز دور القطاع الحديث في قيادة البلاد, وأدى ذلك إلى بروز القوة [[السياسة]] للحركة الإسلامية التي يحملها القطاع الحديث، لاسيما أن دفع المبادرة الثورية التي اتخذتها الحركة قد ضاعف من ثقتها وسمعتها وقوتها.واضطُرت الحركة في أيام [[الثورة]] إلى مجاهدات كبيرةٍ وتحالفاتٍ كثيرةٍ تَدَابير الشيوعيين الذين انقلبوا فركبوا موجة [[الثورة]] ووظَّفوا خبرتهم المجلوبة في استغلال الظرف الثوري وكادوا أن يسرقوا [[الثورة]] جميعًا، وأفلحت الحركة في حصرهم وحماية [[الثورة]] واستفادت دُرْبَةً في العمل السياسي.
| |
| | |
| وطَوَّرت الحركة ما أعدت مت خطط جبهوية، بقوة ما أورثها دفعُ [[الثورة]] وكسبُها فيها. فلم تعد الحركة ترضى بالحملات التعبوية الشعبية عفوًا في المناسبات والمواسم، بل طمحت إلى أن تصبح محورًا لولاء شعبي منتظم لأول مرة، فأقامت «جبهة الميثاق الإسلامي» المشهورة، مؤسسةً على منهاج مكتوب وضعته الجماعة وجمعت حوله الجماعات الإسلامية والأفراد في حركة سياسية موحدة. سوى أنها حفظت لنفسها احتياطًا في خاصة أمرها بالاستقلال عن الجبهة بل التحكم فيها. وفي ذات الاتجاه لتجميع الولاء، قامت«منظمة الشباب الوطني» و «والجبهة النسوية الوطنية»، وقامت حركات نقابية وطنية وتنظيمات وواجهات لأغراض إسلامية شتى. أما جبهة الميثاق الإسلامي فعلى الحذر في منهج تشكيلها وعملها أصبحت واجهةَ العمل الإسلامي وحاملة الدعوة للدستور بل لكل معاني [[الإسلام]]. وأما المنظمات الأخرى فقد كانت وطنية الواجهة، نافست التحرك الشعبي الشيوعي، وأتاحت للحركة منابرَ عملٍ غير مباشر حتى حيثما لم تكن لديها القوة لتجعلها إسلامية خالصة.
| |
| | |
| وقد شَهِدَ هذا العهد نشاطًا سياسيًا واسعًا للحركة الإسلامية من خلال الجبهة والؤسسات الشعبية والقوة العامة. وكان من أبرز الكسب السياسي [[الثورة]] الشعبية التي عبأتها الحركة لحل الحزب الشيوعي عام [[1966]]م. وفضلا عما أثمرته تلك الحملة من تجربة الاتصال السياسي وتعبئة الشعور الديني، فقد عبرت بالحركة إلى مرحلة تجاوزِ الحزب الشيوعي. فحتى ذلك العهد كان هاجسُ الحركة الأول والأساسي منافسة الشيوعيين. ومنذ تخلصت الحركة من أن تحتكرها عقدة منافسة الشيوعيين بما ألحقت بهم من هزيمة وعزلة دينية وسياسة بالغة، وخَلَّفت الحركة الشيوعيين وراءها، وأصبحوا مشغولين هم بالحركة، ولم تعد هي بالمشغولة بهم، بل أصبح همها هو تطوير علاقتها مع [[الأحزاب]] الوطنية أو منافستها على الشعب.
| |
| | |
| ولكن أكبر الحملات [[السياسة]] في عهد [[أكتوبر]] إنما هن حملة الدستور الإسلامي التي هيأت للحركة، على تواضع حجمها النيابي، أن تحمل [[الأحزاب]] على مسودة دستور 1967م ذات الملامح الإسلامية الواسعة. وكانت حملات المعارضة البرلمانية فَعَّالةً مهما كانت المعارضة محدودةً في حجمها متحفظةً في علاقتها بالحكومة. ولما كانت الحركة قد اتخذت قضية الجنوب ذريعةً للتحريض على [[الثورة]]، فقد ظلت تقود الاهتمام بالقضية سياسيًا ودستوريًا. وكان ذلك أول اتصال للحركة بشئون جنوب [[السودان]] وإن كان اتصالًا سياسيًا نظريًا.
| |
| | |
| وفي هذه المرحلة برز اهتمام الحركة بالقضايا الإسلامية العالمية. فمنها بل أكبرها قدرًا في همِّ الحركة قضيةُ الإِخوان المسلمين في مصر أيام المحنة التي ذهب فيها سيد قطب ورفاقه شهداء. ومنها قضية [[فلسطين]] التي كانت الحركة صوت التَّذكِير بها في [[السودان]]. ومنها قضايا الانقلاب في نيجيريا ومغازيه المكايدة للإسلام. أما في مجال العلاقات الحركية الإسلامية فقد عمرت صلة الحركة الدولية.
| |
| | |
| وفي أخريات هذا العهد استفحلت الثنائية في الحركة الإسلامية بين التنظيم الأم الداخلي وبعض جبهاته الخارجية، لاسيما بين ما في الإِخوان وما في الجبهة من معاني تربيةٍ وسياسةٍ متقابلة أو من قيادات مشهورة وأخرى مغمورة. وأدَّت هذه الثنائية إلى خلافات حادة اتخذت صورًا تنظيميةً وشخصيةً هَزَّت كيان الجماعة هزًا شديدًا، وانتهت بها إلى شيءٍ من الجمود في الحركة العامة في أواخر العهد، لكنها على الأقل أثارت قضايا القيادة مرة أخرى، بين قيادة داخلية خاصةٍ وأخرى خارجيةٍ وبين قيادةٍ جماعيةٍ أو فرديةٍ، وأثارت قضية التوازن بين التركيز التربوي لقاعدةِ الجماعة وكيفِها والانتشار الدعوى والسياسي لصفهِّا وولائها وكمِّها، وأثارت قضية الاجتهاد الذاتي للحركة وعلاقاتها بالحركة الإسلامية العالمية. وقد استقرت الأمور في النهاية إلى مراجعاتٍ في الدستور في آخر هذا العهد توحدت بها الجماعة وحسمت خلافاتها.
| |
| | |
| | |
| === عهد المجاهدة والنمو(الأعوام 1969م إلى 1977م) ===
| |
| | |
| وهو عهد الشطر الأول من سلطة جعفر نميري ونظام مايو الذي أجهَضَ الديمقراطية وأجهَدَ القوى الوطنية والحركة الإسلامية خاصة وجاء يدفعه أهل الولاء الشيوعي والعُصبَة العربية ليُمكّنَ الاشتراكية وليستأصل شأفة [[الإسلام]] في مظاهره الجديدة – الدعوة والحركة والتوجه التربوي والسياسي. وقد أفرغ نميري جهده كيدًا للحركة كبتًا لأصواتها وتشريدًا وحبسًا لدعاتها، وظل يحمل لها الضغن حتى بعد أن حاول الشيوعيون الغدر به فانقلب عليهم وتجاوز سائر رفاق قَومَتِه الأولى. ذلك أنه تقرب إلى الغرب من خلال تسوية مسألة الجنوب ومضى يؤسس نظامًا سياسيًا يسَتَلِبُ الولاء كله ويحتكر الدعوة والدولة.
| |
| | |
| وقد بادرت الحركة الإسلامية النظام المايوي بمقاومة ليست في شيءٍ من مواقف الحذر والانكماش والكمون التي اتخذتها مع الحكم العسكري الأول في [[السودان]]. وتوالت جولات مشهورة من المجاهدات. تستقل بها الحركة أو تسلكها في سلك المعارضة الوطنية. وكانت أولاها حملة المنشورات والمظاهرات التي استقبلت نظام مايو واستفزته لتشديد الوطأة على الإسلاميين، لاسيما أن سائر العناصر الوطنية ارتبكت مواقفها الأول الأمر. أما الذين نجوا من معتقلات مايو فقد وافوا مركز المقاومة التي نظَّمها إمام الأنصار في الجزيرة أبا، فكانوا أهل النُصحِ السياسي والتدريب والتدبير العسكري. ولما خرجت قيادات المعارضة الوطنية من الساحة [[السودان]]ية كان الإسلاميون في صفها الأول بالخارج، بينما آلت إليهم وحدهم أعباء المقاومة الداخلية. وكان الطلاب الإسلاميون قوام المعارضة تناصرهم عناصر غير طلابية، وكانت أكبر انتفاضاتهم على النظام حركة شعبان لعام 1973م واعتصامات جامعة الخرطوم الشهيرة. وشاركت الحركة بالطبع في تدابير المعارضة الخارجية في أديس أبابا وجدة وطرابلس، التي توجت بمحاولة الانقضاض العسكري على الخرطوم بقوات قوامها الأنصار والإِخوان في يوليو 1976م.
| |
| | |
| وفي هذا العهد صادمت الحركة بتوكل عظيم، وتعرضت لابتلاءاتٍ شديدة من الاضطهادات والاعتقالات والاستشهادات. وفي سبيل الاستنصار على البأس طورت بعض تجارب التحالف السياسي. وكانت التحالفات التي عهدتها في الديمقراطية محدودة- تعاونًا بين [[الأحزاب]] الوطنية الثلاثة ضد المد الشيوعي، وتحالفًا في مؤتمر القوي الجديدة بين الكتل البرلمانية لجبهة الميثاق وشقٍ من حزب الأمة والكتلة الجنوبية. أما في هذا العهد فقد مارست الحركة تجربة عميقة في التحالف الوطني لأول مرة، وتذوَّقت حُلوها ومُرَّها وتناظرت في حكمها وحكمتها كثيرًا. وفي هذه المرحلة أُضيف إلى كسب الحركة أنماط العمل السري وتجارب من [[الجهاد]] العنيف «القتال والاستشهاد». ومن جانب آخر كانت فترات ما بين المجاهدات مع انكبات العمل السياسي فرصةً سانحةً لتصريف طاقات الجماعة في ارتياد العمل الاجتماعي الذي باشرته الحركة مرة بأقدار مقدرة.
| |
| | |
| وفي هذه المرحلة وفي الفترات أيضًا فرغت الحركة لنفسها ونظامها. كما فرغت لها في عهد عبود.ففي الهدأة بعد انتفاضة شعبان وبناءً على الثقة بالذات التي استشعرتها الحركة منها، بدأت ثورةٌ تنظيمية هائلة طوَّرت التنظيم، من حيث تقسيم وظائف العمل الإسلامي وترتيب إدارات الجماعة التي تتولاها، ومن حيث تعميم الهيكل الكلي لنظام الجماعة وصياغة الخطط الكلية السنوية لحركتها. وكانت هذه هي النهضة التنظيمية الحقيقية للجماعة، لأن غالب ما سلف من تدابير مراجعة للتنظيم إنما انصب على التعديلات الدستورية. أما هذه المرة فقد طُوِّر التنظيم ليستدرك تخلفه عن استيعاب المستجدات في حركة الجماعة ونضجت النظم الإِدارية الحركية.
| |
| | |
| وهيأت ظروف الاعتقال والانكبات السياسي للجماعة أن تُركِّز وظيفتها التربوية وتُزَكى عناصرها تُمِنِّن بناءها الإِيماني والنظامي. كما هيأت للكثيرين فيها أن يتعمقوا في الإطلاع على تراث [[الإسلام]] وأن يتأملوا في فقه الدين والحركة. ومن ثم بدأت حركة للتأصيل الفكري- بمعنى رد العمل الحركي إلى أصول الاعتقاد والأحكام الدينية وتقويمه في ضوء معانيها. فبدأ تأصيل نشر الدعوة، وتأصيل التنظيم، وتأصيل قضية المرأة. فكانت هذه المرحلة التأصيلية بداية للأصالة في كسب الحركة الفكري الذي ظلت فيه من قبل عالة على ما يَرد إليها من التجارب الإسلامية الأخرى، ما عدا شيئًا قليلًا من العطاء الأصيل في مسألة الدستور الإسلامى.
| |
| | |
| | |
| === عهد المصالحة والتطور(الأعوام 1977م إلى 1984م) ===
| |
| | |
| وهو عهد نظام مايو الاخير.إذ انتهى الرَهَقُ بالنظام والمعارضة إلى المصالحة الوطنية التي واتتها ظروف دولية وتهيأ لها النظام بتصفية غالب اتجاهاته اليسارية وانشراحه بكلمة [[الإسلام]]، كما تهيأت المعارضة بيأس العناصر الوطنية من طول الكفاح وحاجة الحركة الإسلامية لظرف جديد تطبق فيه التحولات الكبيرة التي اقتضتها استراتيجيةٌ شاملة اتخذتها لمستقبل عملها وتمكنها في [[السودان]]. وكان هذا العهد عهد المصالحة والمشاركة مع السلطان ومع المجتمع، فبالرغم مما عَهِدَت الحركة من دعوةٍ عامةٍ ونشاطٍ سياسيٍ في السابق، فإنها لم تلتحم بالمجتمع كما التحمت به في هذه المرحلة، ولم تلتحم بالحكم إلا بوجه عرضي عند الدخول المحدود في الحكومة الانتقالية بعد [[أكتوبر]].
| |
| | |
| وكان هذا العهد هو عهد العمل الاقتصادي الإسلامي الذي ابتُدر قبيل المصالحة، لكنه انفتح بعدها وأصبح كسبًا مؤسسًا من مكتسبات حركة [[الإسلام]] في [[السودان]] – كسبًا لتجربتها في تطبيق [[الإسلام]] ولقوتها في سبيله. وكانت طائفة من عناصر الحركة قد فُصِلوا أو عُزِلوا عن الخدمة العامة في العهد الماضي واضُطروا إلى دخول مجال العمل الاقتصادي الحر.
| |
| | |
| وفي هذا العهد بدأ وعىُ الحركة بمكانة الجنوب من [[السودان]]، وذلك ببصيرة النظر الاستراتيجي لمِآلات [[السودان]] وبتجربة الاتصال الأوثق بالدولة والمجتمع. ولما اعتمدت الحركة استراتيجيةً إيجابيةً نحو الجنوب تقتضى استيعابه في المشروع الإسلامي السوداني لا إهماله ولا فصله، توجهت عناصر من الحركة لتأسيس «منظمة الدعوة الإسلامية » تبشيرًا منهجيًا يخاطب المناطق غير المسلمة في [[السودان]] بالدعوة والخدمة الاجتماعية ليدخلوا في ملة [[الإسلام]]. وفي هذا العهد بدأ العمل الخيري فرعًا من العمل التبشيري واستجابة لتحدى المنظمات الطوعية الغربية التي أقبلت على [[السودان]] بسبب اللاجئين والمجاعة، وتكثف العمل الاجتماعي الطوعي ليستوعب طاقات الشباب المقبلين على الحركة في ظروفٍ لا يتيسر فيها التعبير السياسي الكامل.
| |
| | |
| وفي هذا العهد انداح العمل النسوى الذي كان قد تأصل منذ حين، واُتخذت تدابيرٌ لإِدراج النساء في التنظيم العام، ودخلن مدخلًا كاملًا في الحركة الإسلامية . وكان هذا العهد هو عهد الانتشار العضوي للجماعة، حين أصبح امتداد صفِّها يتخطَّط ويتوجَّه ويندفع بأكثر مما كانت تحققه الحركة العفوية لنشر الدعوة منذ نشأتها.
| |
| | |
| ثم كان هذا هو عهد التطور التنظيمي اللامركزى. فمنذ اقتضت استراتيجية الحركة الجديدة تحويلَها إلى حركة ذات قاعدة شعبية مقدرة، اتُّخذت الخطط لبسط التنظيم وتقربيه من الواقع المحلى الشعبي عبر [[السودان]] ليستوعب قطاعات أوسع من المجتمع. وقد أُعدت النُّظُمُ اللامركزية من قَبلُ ورُتِّبت سياسة التطبيق وأولوياتها ودُرِّبت العناصر لتولِّي تبعاتها. سوى أن الخطة لم تنفَّذ إلا في هذا العهد لأنها كانت تحتاج لبعض حرية ولتهيئة القاعدة وتوسيعها لاحتمال تبعات اللامركزية.
| |
| | |
| وأخيرًا فإن هذا هو عهد الوعى التخطيطى الأوسع. فلئن عهدت الجماعة نظام أوراق العمل والموازنات المالية السنوية منذ السبعينات الأول، ولئن اعتمدت استراتيجيةً عامةً لمسيرها، فإن تفريغ القيادة من همَّ الوظائف الصغيرة الرَّاتبة ومن ضغط الرقابة على الفروع بعد اللامركزية قد أهَّلَها لأن تُطوِّر خططها وتدبر حالها. بحيث لم تقدم الحركة بعدئذ على مشروع تنظيمي أو حركي ذي بال إلا بناءً على تدبير وتخطيط مسبق.
| |
| | |
| وكان آخر هذا العهد هو عهد الشريعة في [[السودان]]. ولم يكن تطبيق الشريعة في حسبان الحركة وهي تُصالح النظام، وإنما توخت رخصة الحرية لتبنى قاعدتها وقوتها وفق المقتضيات الاستراتيجية الجديدة، لأنها لم تكن ترجو الإِصلاح الإسلامي إلا بتمكنها في [[السودان]]. لكن تعاظم الحركة – ببركة هذه الحرية وبفضل استراتيجية التطوير الجادة – وَلَّذَ تيارًا إِسلاميًا دفع النظام لتبنى الشريعة – ربما ليصادر شعبية الحركة لصالحه. ولئن كانت الشريعة في عهد مايو ليست إلا برنامج تشريع، فإن الحركة قد وجهتها بوجه أعمق وأشمل، إذ اتخذها موضوع تعبئة عامة فأحدثت انفعالات شعبية شديدة أيقظت وعى الناس الديني والتزامهم الإِيماني وعززت التزام الدولة بسياسات [[الإسلام]]. فعولت الحركة – من بعد القانون الشرعي – على التعبئة الجماهيرية وفقًا لاستراتيجيتها التي كانت تستهدف بناء الحركة الشعبية الإسلامية ، فكانت هذه التعبئة هي التمهيد للمرحلة التالية.
| |
| | |
| | |
| === عهد النضج (الأعوام 1984م إلى 1987م) ===
| |
| | |
| لئن كان هذا العهد زمن اضطرابٍ وشدةٍ – يمتد من محنة الحركة القصيرة في أواخر عهد مايو إلى انتفاضة رجب، أبريل الشعبية 1985م، ومن بدء الفترة الانتقالية ومحاصرة الحركة من قِبَل التجمع الحزبي اليساري إلى الانتخابات – فإنه في تاريخ الحركة كان عهد النضج، حيث بلغت الحركة من الوعي بذاتها وبالواقع من حولها قدرًا يُهَيئ لها أن تمتص الصدمات وتتجاوز الحصار وتُوِظِّف شتى الظروف المتقلبة لصالح نموها المضطرد. ولا أُسميه عهد النضج إلا باعتباره آخر مراحل النمو إلى اليوم يجمع ما انتهى إليه كسب الحركة المضطرد في التجريب والاستواء والتكامل، بيد أن التاريخ مستمر ويُرَجَى ألاَّ يأتي على الحركة عهدٌ إلا والذي بعده خيرٌ منه وأكمل نضجًا.
| |
| | |
| أما هذا العهد فهو عهد ثورة رجب التى بسطت الحرية من جديد ويسرت تأسيس «الجبهة الإسلامية القومية» بناءً على القاعدة الشعبية التي تعبأت منذ أيام الشريعة. والجبهة طورٌ جديد في صياغة حركة [[الإسلام]] في [[السودان]]، اندرج بها الإِخوان المسلمون في كَنَفِ تجمع إِسلامي شعبي واسع، ونقلوا إليه تجارب العمل الإسلامي الشامل ومناهج التربية وصورَ التنظيم المحكم وفنونَ الدعوة والحركة و[[الجهاد]] ، وكان تحول الحركة من تنظيم نُخَبوي إلى جبهة شعبية عريضة تطورًا ضخمًا جدًا للحركة الإسلامية في [[السودان]] ونَقلَةً هائلة تجاوزت عصبية التنظيم وطائفيَّة الجماعة نحو كيان أوعب للجمهور المسلم وأوفي لرسالة [[الإسلام]] وأوعد بتمكين الدين في الأرض.
| |
| | |
| هذا إذًا هو العهد الذي حدث فيه الانفجار العضوي الشعبى والاستيعاب للقدرات الشعبية القبلية والصوفية ومحاولة إدراج المجتمع كله في الحركة، فقد أخذت الجماعة تتحول بطبيعتها نحو أن تكون المجتمع. ولئن أخذت الواجهاتُ الحركية التي تتقسَّم مهام العمل الإسلامي ووظائفه تتسع وتتكاثر منذ حين، فقد ظلت تُدلى إلى محورٍ قيادي واحد. لكن الواجبات في هذا العهد الذي انفتحت فيه الحركة وانشرح نظامها وامتدت وظائفها، تكثفت وتعزَّزت وتطورت حتى غدا الجهد الإسلامي في [[السودان]] منظومةً كاملة من المحاور الإسلامية المتخصصة وظيفيًا في تكامل، المستقلة ذاتيًا في تداعم، المتسقة حركيًا في توجه استراتيجي موحد.
| |
| | |
| وفي هذا العهد اتسع العمل الخارجي. وقد كان من قبلُ إما همومًا وقضايا خارجية أو اتصالات إِسلاميةٍ أو دبلوماسيةٍ محدودةٍ. أما بعدُ فقد اتسع اتساعًا كبيرًا، وأصبحت دبلوماسية الحركة فَاعِلةً، وسياستها الخارجية بَالِغةً وأذرعها واصلةً لشتى الدول والقوى الإسلامية وغير الإسلامية .
| |
| | |
| وهذا هو العهد الذي تمّ فيه تأصيل العمل في الحياة العامة وبرمجةُ الأهداف [[السياسة]] العامة في [[السياسة]] الخارجية، والأمن، والاقتصاد، والقوانين. وهكذا تطورت الحركة فكريًا من الشعار والدعوة والمبدأ إلى البرنامج الفعلي والمقترحِ التطبيقي والنموذجِ المفصَّل المُنَزَّل على الواقع.
| |
| | |
| </div><noinclude> </noinclude>
| |
| | |
| | |
| | |
| == نظام الجماعة ==
| |
| | |
| <div class="reflist4" style="height: 500px; overflow: auto; padding: 3px" >
| |
| | |
| *أطوار نشر الدعوة.
| |
| *تربية الأعضاء.
| |
| *قضايا الانتشار والعضوية.
| |
| *مناهج التنظيم.
| |
| *مسائل التمويل والأنفاق.
| |
| *منهج الإمارة والشورى.
| |
| | |
| | |
| === أطوار نشر الدعوة الجماعة ===
| |
| | |
| ==== الطور الأول: التجنيد بالخطاب الخاص ====
| |
| | |
| كان نشر الدعوة هو أُولى الوظائف التي باشرتها الجماعة لأنها عامل التأسيس وكانت الدعوة من ثَمّ أول مسألة تناولها الأعضاء بالنظر والمداولة ليلتمسوا فقهًا لأساليبها وأدائها، ولم يكن لهم عندئذ من شغل فكرى بقضية تنظيمية أو حركية أخرى إلا التفكر في أُصول الدعوة الإسلامية الجديدة والجدليات التي أثارتها.
| |
| | |
| وفي عهد التكوين كانت معاني الدعوة غربيةً بمغزاها التجديدى المجانب للمفهومات التقليدية، وكانت فكرة الانتظام في ولاء الجماعة جديدة غربيةً أيضًا. فالمسلمون كانت تحتويهم طوائف تقليدية معروفة، يُنْكَرُ على من تعتزلها ويلتمس نهجًا مستقلا في حركة التدين الاجتماعي، إلا الدعوة الدينية الواعظة التي تخاطب الفرد فذًا.
| |
| | |
| وفضلاً عن تلك الغربة فقد كان الرواد الأوائل الذين تداعوا إلى الجماعة منفعلين جدًا بالمحاذير والتحفظات الأمنية – اعتبارًا بما كان يجري في مصر من محنة للحركة الإسلامية ، وتأثرًا بروح السرية التي كانت رائجة في الحركات الوطنية واليسارية أيام الاستعمار.
| |
| | |
| فمن جراء هذه الغربة والمحاذرة الحاضِرتين كانت حركة نشر الدعوة لعهد التكوين حَيِّية محدودة.
| |
| | |
| فالخطاب فيها كان خاصًا ومباشرًا للفرد المعين الذي تستهدفه الدعوة إما بنجوى خاصة أو بتقديم كتاب. والمنهج كان تحفظيًا يقتضى الانتقاء الدقيق لمن يدعى ومراقبة القادم حتى يستوثق من تزكيته، وكانت إجراءات التحوط أحيانًا تتكثف لدرجة بالغة عائقة. وكان الهدف تجنيديًا – وهو أن يُدرج القادم في الصف النظامي بمراسم تُغلِّط عليه جدية التكاليف وتبعات الانتماء والالتزام. ذلك برغم أن نظام البيعة الذي كان شائعًا في الحركات الإسلامية الصوفية والحديثة عندئذ لم يُمارس في [[السودان]]. فقد كانت البيئة الطلابية الإسلامية وثيقة تحيط القادم بمجرد الانضمام. وربما كان في فطرة أهل [[السودان]] شيء من النفور من صور الخضوع الرسمية، ولذلك درج المصطلح عل التعبير عن الانضمام لولاء الجماعة بكلمة الالتزام بدلًا من البيعة والطاعة.
| |
| | |
| ومهما كان فإن اتجاه نشر الدعوة ما كان مخططًا ولا أسلوبها منهجيًا لحداثة العهد والكسب والتجربة. سوى أن الدعوة بحكم موطن النشأة كانت محصورة في الطلاب – البيئة المباشرة التي تكيفت فنون التجنيد ومعاني الخطاب لتناسبها. ولما كان المجتمع لا يعول على غير الذكور، والحركة لم تكن عندئذ قد استقلت عن تقاليده، وكانت الإِناث قلة بين الطلاب – فقد تركز غالب التجنيد في الطلاب الذكور إلا نذرًا من الطالبات.
| |
| | |
| | |
| ==== الطور الثاني: الدعوة بالخطاب العام ====
| |
| | |
| ما اطمأنت الحركة بقاعدة مقدرة من العضوية من خلال التجنيد، حتى أدركتها حاجة للدعوة الأوسع في مناخ تنافسي مع التيارات الشيوعية التي بادرتها بالهجوم العام ونافستها بعضوية أكثر. فأخذت الحركة تُباشر الخطاب العام في محيط الطلاب بتقديم المحاضرات ونشر الصحف الحائطية والرسائل والكتب، فتباركت حركة الإِقبال على الجماعة من الطلاب. أما خارج الجامعة – لا سيما بعد تخرج الرواد الأوائل – فإن التعويل على الضم بأسلوب التجنيد الحذر، والتعود على خطاب فكري أنسب للطلاب، والوحشة الزائدة في المجتمع الشعبي، أمور عوقت اتساع انتشار الجماعة. لا سيما أن كُمون الحركة وخوفها البالغ في أوائل عهد عبود جعل انتشارها بطيئًا بل كاد يجمدها تجميدًا خارج الجماعات والمدارس.
| |
| | |
| وكان الطلاب الإسلاميون إذا وافاهم التخرج من كنف الجماعة الوثيق بمعاهد العلم إلى ساحة الحياة وأوساط الجمهور – حيث لا تجديهم تجارب التدين في الحياة الطلابية المكيفة وصداقتها الحميمة، وحيث لا يجدون أعوانًا قريبين ولا كثيرين على الخير، وحيث تصدمهم هموم المعاش والزواج التي لم يتهيأوا لها بتربية مناسبة – كانوا يعانون عُزلة كبيرة. وكان التساقط في العضوية انقطاعًا من الصف أو وقوعًا في الفتنة يحدث بينهم بنسبة ذات خطر.
| |
| | |
| ولما جاء عهد الحرية والخروج الكبير في [[أكتوبر]]، سنحت الفرصة لتحول شعبي ذي بال. ولكن الحركة أدارت غالب النشاط الشعبي السياسي تحت ولاء جبهة الميثاق الإسلامي والمنظمات الشبابية والنسائية والوطنية. وكأنها استغنت بانتشار الأثر العام للدعوة وبالحشد في الولاء العفوي لهذه الواجهات عن ضم الأعضاء ضمًا إلى صف الجماعة المرصوص. بل كانت محاولة استقطاب العناصر للمحور الصميم تسبب حرجًا بين الخاص والعام.
| |
| | |
| لذلك نشأت مفارقة هائلة بين ضآلة العضوية في متنها المنتظم الملتزم وضخامة الوظائف التي تكلّفها الحركة في المجتمع؛ تطواف وتأسيس دور بالأقاليم، وحشود وعلاقات شعبية، ومواقف وتعبئة سياسية، والتزامات بقضايا داخلية وخارجية، وحملات للدستور الإسلامي وحل الحزب الشيوعي... إلخ.
| |
| | |
| ولعل هذه المفارقة، علاوة على مشكلات انتقال أخرى، هي التي أوقعت توترًا بلغ حد الأزمة بين حق التنظيم العضوي الداخلي وحق المناشط الخارجية.
| |
| | |
| | |
| ==== الطور الثالث: تخطيط نشر العضوية ====
| |
| | |
| في هدأة عهد الكبت المايوي تهيأ للحركة أن تتأمل أوضاعها وتراجع كسبها، فأدركها من ذلك الوعي بمسائل العضوية وسياساتها وبالنقص الكبير في حجم العضوية والخلل في توازنها الاجتماعي بسبب الانتشار العفوي حسب التسيير وكيفما اتفق. وقد جرت دراسات ونشرت رسائل في شأن سياسة نشر الدعوة، وأصبحت هذه [[السياسة]] لأول مرة توصل بأهداف الحركة المرحلية.
| |
| | |
| ومن ثم اتخذت الحركة سياسة عامدة لتدارك الحاجة لتوسيع القاعدة – وفاءًا بمقتضى الأمانة العظيمة التي تحتملها الحركة فعلاً، وتمهيدًا لتطبيق النظام اللامركزي الذي توجهت نحوه الحركة والذي يستلزم توافر عناصر كافية للقيام بكل التخصصات والمسئوليات التي يراد أن تؤول إلى الفروع موازاة للنمط المركزي المتطور. ثم إن الاستراتيجية العامة التي اعتدتها الحركة بعد عام 1976م هادية لحركتها وهادفة نحو التمكن في الأرض، دعتها للسعي نحو قاعدة شعبية عريضة تكون قوة للتمكن وتأمينًا له من بعد. لكل هذه الدواعي أصبح توسيع الصف أولوية في الهموم التنظيمية، وأصبحت التوجهات لنشر الدعوة تُعزَّز بتقدير تكليف كمي في نسبة الانتشار للفروع بلغت أحيانًا استهداف المضاعفة عشر مرات.
| |
| | |
| وفي مرحلة المصالحة كانت الحركة قد نضجت بتكاملها وقد تعلمت النهج التخطيطي بكل أمورها. ومن ثم أخذت تخطط لنشر الدعوة وانتشار الجماعة محليًا وقطاعيًا لاستيعاب البلاد والمجتمع. فكانت الفروع توجه ببسط الوجود العضوي للجماعة بتخطيط يضمن تغطية المنطقة الجغرافية التي تلي الفرع المحلي المعين بشبكة من الوجود الحركي.
| |
| | |
| ولكن التطور الأوسع كان في التخطيط القطاعي الذي يُرشِّد توازن العضوية بين قطاعات المجتمع المختلفة. وما كان ما سبق من محاولات توجه بسياسة التجنيد نحو العمال بعد الطلاب عن خطة قاصدة، بل كان أثرًا من حب منافسة الشيوعيين وملاحقتهم في مواطن قوتهم فقد كانوا التحدي الأكبر للحركة. أما في هذا العهد، فبأثر من نضجها الفقهي والحركي ومراعاة لتطورات اجتماعية أخرجت المرأة إلى الحياة العامة، استقلت الحركة عن قيم العرف الاجتماعي وأدركت أن المرأة موضع لخطاب الدعوة الدينية وعامل في الإِصلاح الاجتماعي. فتواترت توجيهات القيادة للفروع أولًا أن تحتسب الأخوات اللائي كن غالبًا يُسقطن عمدًا من عداد العضوية ويُهملن في مناهج تربيتها وتعبئتها، وثانيًا أن تُنشط الدعوة للشابات والنساء في سياق تطور واسع في شأن تقدير مكانة المرأة في الجماعة.
| |
| | |
| ومن جانب آخر اكتشفت الجماعة في هذا العهد أن ظروف النشأة وسريان العادة قد حصرتها في الطبقة الشابة المثقفة. وقدرت ضرورة استكمال الصورة المثلي لها نموذجا للمجتمع بأسره وبطبقاته كافة، شأن كل جماعة دينية تعرف الدين للمتعلمين والعامة والميسورين والمستضعفين والحضريين والبدو. لكن هذا التصور لم يتحقق واقعًا رغم اعتماده توجيهًا لنشر الدعوة ذلك أن منهجيات ضم الأعضاء وأُطر الاستيعاب والمستويات المقررة لم تكن قد وطنت لاستيعاب هذه القطاعات، ولا الحركة قد وطئت نفسها لتحول حقيقي نحو طبيعة شعبية غير نخبوية.
| |
| | |
| لكن التخطيط القطاعي قد أفلح في جانب آخر. حيث كان الجنوبيون من أهل [[السودان]] يتميزون بحسبانهم قطاعًا مجانبًا بثقافته وأصوله للمجتمع المسلم التقليدي الذي استهدفته الدعوة لأول أمرها. ومن ثم خلا صف الجماعة من العناصر الجنوبية لا عن عمد عرقي بل عن غفلة تمخضت عن خلل في التوازن العرقي في العضوية. وقد بدأت حركة دائبة لاستقطاب عناصر جنوبية، لا سيما وسط الطلاب وبين المسلمين، إلى صف الجماعة. وذلك في سياق مشروع متكامل جديد لإِدراج الجنوب بكل شئونه في هم الحركة.
| |
| | |
| | |
| ==== الطور الرابع: استراتيجية استيعاب المجتمع ====
| |
| | |
| كان دفع انتشار الجماعة نحو شتى مناطق [[السودان]] ونحو مختلف قطاعات المجتمع تمهيدًا مناسبًا لعهد اتخذت فيه الحركة استراتيجية للتمكن الشامل في المجتمع ورتبت عنها ضرورة استيعاب المجتمع بكل أبعاده في ولائها ومنافسة [[الأحزاب]] التقليدية ذات الولاء الجماهيري العريض بعد تجاوز منافسة الشيوعية المحدودة. وقدرت الحركة عمومًا حكمة التحول الكامل إلى حركة شعبية. ووافي ذلك أن اتسع الإِطار العام للحركة فأصبحت جبهةً إِسلاميةً شعبيةً شاملة.
| |
| | |
| وفي سياق تحويل الجماعة النخبوية التقليدية إلى كيان شعبى يمثل مجتمعًا متكاملًا، بدَّلت لوائح العضوية توطئة لحدود المدخل إلى الجماعة وتيسيرًا لتكليفات العضو مما يناسب مختلف المستويات والثقافات سماحة في شروط العضوية وواجباتها.
| |
| | |
| وحينئذ تجاوزت الحركة تمامًا منهج الانتقاء والتجنيد الفردي، وأصبح متاحًا للناس أن يدخلوا في الجماعة أفواجًا لا أفذاذًا. فقد تدخل القبيلة والطائفة والفرقة كما يدخل الأفراد. ولا يترتب حرج عليهم حتى لو دخلوا بما يحملون من ولاءات فرعية في الطرق الصوفية أو القبائل – ما جعلوا الولاء الأعلى للحركة الإسلامية واندرجوا في التزامها أفرادًا لا كتلا مؤتلفة. بذلك أحاطت الحركة الإسلامية لأول مرة بالمجتمع التقليدي في [[السودان]] وتأهلت لأن توحده كله في إطارها وتتمكن فيه بنمطها من التدين الأتم والولاء الأرشد، في سبيل استكمال التحول الاجتماعي الإسلامي الشامل.
| |
| | |
| | |
| === تربية الأعضاء ===
| |
| | |
| أُسست الجماعة على أساس من التزام الأعضاء بتزكية أنفسهم، وبما تتعدهم به الجماعة من مناهج أو أطر لتربيتهم، ولم تكن تستغني عن ذلك بالوعظ والعفو أو الحشد الكمي للأعضاء. وقد كان نظام التربية الوثيق الذي اتخذته الحركة الإسلامية [[السودان]]ية من قدوتها في مصر هو من حيث العموم النظام الشائع في التنظيمات الصوفية والمتمكن في التقاليد الدينية. بينما كان نظام الحشد والتعبئة الإِجمالية هو نظام [[الأحزاب]] الوطنية الحديثة.
| |
| | |
| وكان منهاج التربية وإطارها لأول العهد نقليًا يُحاكي نظام الأُسر في تنظيم الإِخوان المسلمين بمصر، ولكنه في سياق تطور الحركة ونضجه تطورًا بعيدًا. ويمكن أن نحكي أطواره في ثلاث مراحل:
| |
| | |
| | |
| ====المرحلة الأولي: التزكية الفردية في الأسرة====
| |
| | |
| كانت مناهج التربية في هذه المرحلة تهدف لتزكية تدين الأعضاء الذاتي وولائهم للجماعة وحفظهم من الفتنة من حولهم. ولم يكن وراء ذلك قصد التأهيل لأي دور أو تكليف معين – إلا كون الاِلتزام في التدين يُضفي مصداقية بادية على دعوة الداعي ويكسبها قوة وقع على الآخرين.
| |
| | |
| وقد اقتصرت أغراض التربية على تعزيز التدين وحفظه وتركيز الولاء. فقد كانت المناهج تعليمية تلقينية لترسخ الأفكار الجديدة. وكانت تُمارس في أُسر صغيرة مغلقة تحيط العضو بوشيجة وثيقة تجسد له انتماءه العضوي للمجموعة. وكانت الأُسر سرية لعزل العضو الجديد من علاقاته القديمة ولملاحظة الحذر الأمني الذي كان عاملًا زائدًا في تأكيد وحدة المجموعة في وجه المجتمع الخارجي. وكان يشرف على الأُسرة نقيب يتخذ صفة الشيخ المعلم ويهيمن على الأعضاء ليرشدهم وليربيهم على الطاعة لنظام الجماعة.
| |
| | |
| ====المرحلة الثانية: التربية للدعوة المفتوحة ====
| |
| | |
| عندما انفتحت الحركة شيئًا ما على المجتمع بعد عزلتها، وتفاعلت مع تياراته بثقة واطمئنان، واتسعت وسائل الخطاب من النجوى الخاصة إلى الدعوة العامة، بدأت مناهج التربية تراعى – من وراء ترقية الدين والولاء – تأهيل الأعضاء لمهام الدعوة العامة ليخرجوا على الملأ الكلمة المبلغة الناهية عن المنكر الآمرة بالمعروف وليقوموا بين الناس بالقدوة الصالحة.
| |
| | |
| ولذا اتسعت مناهج التربية لتشتمل مادة تُبصرِّ لداعية – بعد العلم بدينه – بأحوال مجتمعه الذي يهتم بإصلاحه حسب معيار الدين. ووفاقًا لذلك انفتحت أُطر التربية بعد سريتها وخصوصيتها، فاتُخذ نظام الأسرة المفتوحة التي تدعو من شاء لحضورها والمشاركة في برامجها، حتى يكون ما يتلقى الأعضاء من علم وتربية مناسبًا لأسئلة الناس وحاجات المجتمع متقويًا بالتفاعل مع الخير والشر الشائع في المجتمع متعديًا إلى دائرة من المشاركين غير المنضوين في العضوية.
| |
| | |
| ====المرحلة الثالثة: التربية للإِصلاح الاجتماعي ====
| |
| | |
| من وراء أغراض تزكية الأفراد وتقوية ولائهم وتهيئتهم لبسط الدعوة والقدوة، تطورت للحركة أغراض في تربية أعضائها من تطور أهدافها الشاملة في المجتمع التي تعد لها الأعضاء. وحينئذ كان لزامًا تأهيل الأعضاء ليكونوا أداة تغيير اجتماعي نحو التي هي أمثل، فيكونوا صالحين مصلحين طاهرين مُطهّرين – سعيًا مباشرًا في المجتمع لترقية دينه بمحق المنكر وبسط المعروف بالأمر والأسوة والتعبئة والتنظيم، أو جهادًا كُليًا مبدلًا للأوضاع مقوضًا لأركان الباطل ممكِّنًا لسلطان الدين.
| |
| | |
| ومن ثم اتسعت أغراض التربية بعد تعليم معاني الدين وتدريب الولاء للجماعة وتقرير حال المجتمع لتشتمل تعليمًا بعلم الواقع كله المجتمع والدولة والمحيط الدولي، وتدريبًا على حركة التغيير جميعًا بالدعوة والقدوة والمجاهدة والحكم.
| |
| | |
| وما كان للوسائل التربوية والأُطر التقليدية في الجماعة أن تفي بذلك، فلزم أن يستعان على التربية بوسائل الاتصال العام وخطابها الإِجمالي البالغ، وأن تكثف المؤسسات الاجتماعية التي تحمل أمانة التغيير الصالح، وأن تجند بوجه خاص المؤسسات التربوية التقليدية في المجتمع كالمساجد والمراكز والطرق والجماعات الدينية مع تطوير وسائلها وترشيد مناشطها. بل أصبحت وسائل القانون و[[السياسة]] والسلطان بقدر ما تتمكن منها الجماعة مسخرة للتربية – إمّا بما فيها من رسالة تخاطب الفرد فتزكيه وتلهمه القيم الفاضلة، أو بما من إصلاح موضوعي يُبدل محيط المجتمع فيرفع الفتنة ويعين على الخير ويحقق المصالح العامة.
| |
| | |
| | |
| === قضايا الإنتشار والعضوية ===
| |
| | |
| من خلال تطور الحاجات وتقدم الفقه ونضج التجربة، ومن خلال الاتصال بتجارب تنظيمية إسلامية غير سودانية جرى الحوار مع رؤاها والمقارنة مع نظمها، ثم من خلال التنظير والتخطيط والتقدير والتدبير مما ألتزمته الحركة منهاجًا، من خلال ذلك كله بدت بعض المسائل التي تستدعي نظرًا وتأملًا والتي واجهتها الحركة بوعي وأعملت فيها اجتهادًا وأبرمت فيها الخيار المعتمد. وفي مواقف الحركة من هذه المسائل ونحوها ما يتيح للمراقب أن يتعرف طبيعة منهاجها فيقارنه بغيره أو يقومه برأيه ليقدر مدى استقامته وفعاليته تمثيلًا للدين وتمكينًا. وفيما يلي طائفة من المسائل المعنية:
| |
| | |
| '''العفوية والتخطيط:'''
| |
| | |
| كان انتشار الحركة الأول العهد عفويًا إن لم يكن عشوائيًا، إذ استصحب تقديرًا مبهمًا بأن الطلاب – حيث نشأت الحركة – هم رواد المستقبل، فالعمل فيهم ضمان لمستقبل إسلامي. لكن الدعوة انتشرت من وراء ذلك بتخرج روادها الطلاب وبتداعي حاجات الحركة. وظل انتشارها بغير خطة. ولما ازداد الوعي بخريطة العضوية ومغزاها وظهر النقد لحاها والتوجيه والتكليف بمدها في اتجاهات معينة، ثارت المسألة النظرية: أليس الدين خطابًا مشاعًا لمن طلبه كيفما اتفق ولو كان الأعمى والمتسضعف، كما وجه القرآن لتباح الدعوى عفوًا، وتتاح مطلقًا لا تعرض ولا تلوي بضغوط الاعتبار الاجتماعي؟ أم أن الدين خطاب أفراد وخطة مجتمع ولابد من توجيه الدعوة بوجوه عامدة، تنفتح لمختلف الناس وشتى القطاعات الاجتماعية، فتحقق المساواة في فرص التدين الأساسية والموازنة في جماعة المتدينين دون تميز أو تحيز، وتتصوب كذلك لبعض الناس وبعض القطاعات عنيًا، في سبيل تمكين قوة الدين بدخول من يعزه من الأشخاص ومن ينصره من القوى الاجتماعية كما رجا رسول اللهصلى الله عليه وسلم وتوخى دعوة أحد العمرين وشيوخ القائل ووفودها ونحو ذلك؟
| |
| | |
| إن أهداف الدعوة تتكامل تعميمًا وتخصيصًا، لكنها قد تتناسخ تنزيلًا على مقتضى حال دون حال. وبالفعل كان التقدير في [[السودان]] أن الحركة ليست دعوة هداية جديدة من حرم منها هلك. بل هي دعوة تجديد تنشد إصلاحًا معينًا بوجه معين كما يقتضى فساد المجتمع ونظامه المخصوص. وعندئذ يحسن أن توجه حركة الانتشار بالوجه الأوفق لأهداف الحركة وحاجتها. بل لابد من أن يتقن التوجيه بأن تربط اتجاهات الانتشار بالوظائف الحركية القائمة وبالمراحل الحاضرة وبالتوجيهات المقررة في استراتيجية الحركة، فتصوب إلى جهة محلية أو قطاع أو فئة اجتماعية أو أعلام أو أعيان من الناس حسبما يقتضى المشروع الحركي الإسلامي.
| |
| | |
| ولابد بعد التخطيط الواعى من مراقبة ومتابعة. فالجماعة تتحول كفاية في بعض الحاجات أو قصورًا، والحركة تتحول حجمًا ووزنًا ونضجًا، والمجتمع يتحول وتغشاه ابتلاءات متجددة من وجوه الفتنة وقوي الشر. ومع كل تحول يطرأ ابتلاء جديد يعرض حركة الدعوة للبطء أو الانحراف أو القصور، فلابد من تقويم ودفع موصول.
| |
| | |
| والحركة حينما تجاوزت العفوية الغافلة في سياسة الدعوة نحو التخطيط والإحصاء والمراجعة، وجدت منهاجها الأكمل في عبادة الله بنشر الدعوة.
| |
| | |
| '''الكم والكيف:'''
| |
| | |
| كانت الحركة لعهدها الأول محاصرة بغربتها عن أن تمتد. وكانت تتعزى بما في معاني الدين من غربة الصالحين وقلة المهتدين منسوبة إلى كثرة الذين لا يعملون، وبأن تركيز القاعدة العضوية المحدودة بالتربية العميقة كفيل بأن يبارك فعاليتها ويمدها بعون الله لتغلب فئة كثيرة.
| |
| | |
| ثم انداحت من حول الدعوة المجالات وانشرحت الصدور واتسع الإقبال. وطرح عندئذ الخبار بين الصبر على منهج التركيز الكيفي والإقبال على الناس طلبًا للانتشار الكمي الذي غدا ممكنًا وضرورة لحاجات استراتيجية الحركة. وحول هذا الخيار وقع التناظر بين أهل التركيز الذين يعوٍّلون على الكيف ويخشون مغبة التسيب النوعي والاختراق الأمني عند الانتشار والشتات الفكري عند الحشد، وأهل الانتشار الذين يريدون تجاوز مظنة الاعتزالية والطائفية نحو واجبات تبليغ الدعوة وبسط التدين وحاجات تمكينه.
| |
| | |
| ثم أَطمأنت تجربة الحركة إلى تلازم الكيف والكم واعتبروا من سيرة الرسولصلى الله عليه وسلم في الدعوة بمرحلة كيف بعد مرحلة كم – إذ قضت حكمة الله أن تحاصر الجماعة الأولى حتى يَقوى عُودها بالعبادة والمجاهدة فتكون قاعدة الأساس وإطار القيادة والقدوة، ثم انفرجت أبواب الدعوة مع مواتاة السلطان في المدينة وانفرجت صفوفها اتساعًا وخالطها في ذلك ما خالطها حتى تطهَّرت بالأسوة السابقة والتزكية النبوية والهدى المتنزل. ثم اتسع [[الإسلام]] بعد فتح الحديبية وأمنها، ثم دخل الناس في دين الله أفواجًا بعد فتح مكة يدخلون رغبةً أو رهبةً فما يلبثون حتى تَزكُو نفوسهم. ولئن كان في الردِة الواسعة عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم صورة لما قد يقع للكم الحاشد، فإنِ في استرداد الاستقامة بفضل الزاكين من الصحابة وفي قيام العرب جميعًا من بعد بقيادة فتوح الدعوة و[[الجهاد]] ما يشهد بحكمة التوازن بين التركيز والاتساع.
| |
| | |
| ومن ثم تجاوزت الحركة في عهدها الأخير فرط التحفظ الأول من اتساع بالدعوة والصف. وكانت بعد بناء القاعدة الأولى التي ضمنت استقامة التوجه أّلا ينحرف ونصبت القدوة الهادية ووضعت إِطارًا ومعيارًا للنموذج الأمثل في عضو الجماعة العالم العابد المجاهد المجتهد المبادر الملتزم التقي القوي – كانت إذا واتتها ظروف الحرية تمد صفها دون أّن تُضيِّع مستوى السابقين أّو تَحرِم القادمين المقتصدين من الدخول الذي يفتح لهم باب الترقي من بعد. وكانت الحركة أّكثر ما كانت توكلًا على الله ثم على متانة نموذجها حين دخلت بجماعة الإخوان المسلمين وهم ألوف في الجبهة الإسلامية القومية وهي مئات ألوف. وكان حظ الأَوائل مقام الإمام في نمط الفكر والعمل والتنظيم، فما ذابوا ذوبان انحلال وانطماس، بل وجدوا في حشد الجبهة بعضًا كانوا على ذات مستواهم وبعضًا اهتدوا واقتدوا. بعد اضطراب قليل لعهد الانتقال، أخذ كيف الجبهة يتزكى جانبًا بعد جانب ودرجة بعد درجة نحو صف مطهَّر في كيفه مقدَّر في كمه إِن شاء الله.
| |
| | |
| '''الصفوية والشعبية:'''
| |
| | |
| لّما توازن فقه الحركة وصفُّها بين التركيز والانتشار، جاوزت الحركة طبيعتها الأولى، وقد كانت حركة صفوية لأنها من فرط الحرص على التركيز والتزكية تُصوِّب دعوتها تصويبًا نحو الصفوة من المجتمع، ممن تؤهلهم ثقافتهم لتلقي الوعي والعلم الإسلامي المتجدد، وتعينهم حداثتهم على تجاوز أنماط التربية والتدين والولاء التقليدي نحو التدين الحركي المنظم، وتسعقهم أوضاعهم الاجتماعية ليكونوا في موقع القدوة والتأثير.
| |
| | |
| وكانت تقاليد الحركة ترهنها لحفظ هذه الطبيعة الصفوية. وكانت تمدها اعتبارات بنظام الجماعة الإسلامية ببكستان وتشددها في حصر العضوية واصطفائها، وقراءات للتجارب والتوجيهات الإخوانية الانتقائية بعد أن شاع فكر الشهيد سيد قطب. كما كانت مثل الحركات العقائدية اليسارية الصغيرة الفعَّال موثرًا.
| |
| | |
| ولما تهيأت الحركة بما قدمناه ذكره نحو التحول إلى الشعبية، تعبأ كل الفكر المولع بالصفوية ليقاوم ذلك التوجه. وتجادل أعضاء الحركة في خطر الانحلال، والاختراق الأمني، والتسيب الفكري والتربوي مع أَشتات القادمين، والارتخاء الحركي والتنظيمي مع دخول العوام القدريين القاعدين الذي لا يتدينون إلا لخويصة أنفسهم ولا يوالون إِلا اتكالًا واتباعًا أعمى ولا يتحركون إِلا عفوًا وارتباكًا. ثم اعتذر بعضهم بأَن وسائل الاستيعاب والتربية والتنظيم لن تواتى إِذا وقع التوسع انفجارًا دافعًا إِلا أَن يأتي تدرجًا وتثبتًا.
| |
| | |
| ولكن دواعي التحول نحو الشعبية كانت مُلحة وثقة الأخوان كانت مطمئنة وتوكلهم كان كبيرًا. فأحدثوا التحول فجأة، ورتبوا منهاجًا للانتقال يحفظ خير القديم في إِتمام الوعي بالتربية الفردية وإحكام التنظيم والحركة، ويجمع إليه خير الجديد من تعبئة وسائل التربية الإجمالية وقوي الجماهير المؤمنة في سبيل بسط التديَّن في المجتمع وتمكينه في الدولة.
| |
| | |
| '''النمطية والتباين :'''
| |
| | |
| لّما توازنت الحركة فالّفت بين الصفوة والعامة أًلقت أساسًا لوحدة المجتمع المسلم الذي كاد ينشق إلى مجتمعين تقليدي وعصري، ولاسيما في [[السودان]] حيث اغتربت التربية الاستعمارية بالصفوة المثقفة وعزلتها فكرًا ونمط حياة وسخرتها أداة لكبت النمط التقليدي بدينه وأَعرافه لتكون هي نموذج مجتمع المستقبل. ولعل تلك المجانبة بين الصفوة وشعبهم كانت عاملًا في تثقيل حركة الانتشار الشعبي للدعوة. وحققت الحركة وحدة الأمة من جانب آخر، إذا كانت أعراف المسلمين وتصوراتهم التقليدية المجافية لصحيح الدين قد أخرت المرأة عن مطالب التديُّن وعزلتها عن مجتمع المتدينين وكادت تحصر الدين في الذكور. ولّما همت الحركة – التي اتبعت مجتمعها أو الأمر ثم عدلت عن ذلك إلى إتباع حكم الدين وقدوة المجتمع المدني – بأن تستوعب النساء في حركة [[الإسلام]]، وقع بالطبع جدال عريض سنتعرض له في محله ولكنه انحسم بما أدخل المرأة في الدين وفي وصف الجماعة.
| |
| | |
| بيد أَن هذا الانتشار- مهما كان مغزاه في توحيد المجتمع – كان ابتلاء لوحدة الحركة. فالحجم الكبير لذاته فتنة، لا سيما لجماعة كانت تتمتع بالأخوة الوثيقة في حال القلة والتعارف الشامل، فإذا بالأعضاء يتكاثرون بأقدار تجعل غالب الأخوّة معنىٍّ بظهر الغيب. ولربما كانت الجماعة الأولى تستشعر اتساقًا بين أّعضائها بكونهم جميعًا من الذكور والمثقفين الذين توحدهم معاهد التعليم النظامي ومواقع الحداثة في المجتمع. ولّما انداحت العضوية أّصبح أّعضاء الجماعة يجدون كثيرًا من التباين في صفهم، فهم رجال ونساء، تختلف أَحيانًا معاملة العضو ووضعه وأَحيانًا موقفه ودوره بكونه ذكرًا أَو أنثى. وقامت بين الأعضاء فجوة ثقافية بين حملة ثقافية دينية تقليدية وحملة ثقافة إِسلامية عصرية، بل بين متعلمين تعليمًا عاليًا وعوام اُميين. ونشأت مفارقة في الكسب والوضع المادي. فلئن كان وضع المثقفين المادي واحدًا على التقريب، فوضع أّعضاء الحركة بشتاتهم الجديد يتفارق في الثراء والفقر والبداوة والحضر. بل دخلت أَفواج من الناس يحملون تُراثا متباينًا من أنماط التدين، لاسيما في مناهج الذكر ومذاهب الفقه. ودخلوا بكسوب من مستويات التدين والالتزام والولاء للجماعة تتباين لدى القادمين أنفسهم وبين القدامى والقدامى والقادمين.
| |
| | |
| ومن جانب آخر امتد عمر الحركة انتشارًا في الأجيال فحُرمت وحدةً كانت تنشأ من تقارب عمر أعضائها الشباب في عهد نشأتها. ولئن كان هذا التقادم قد حقق وحدة مجتمع، من حيث اشتمال الجماعة على كل الأعمار في ظروف كان تسارع التطور فيها يُهدد المجتمع بانقطاع جيله الحديث عن آبائه، بل كانت الأزمة تظهر فيه في كل أسرة بين الأبناء والآباء، لئن كان ذلك كذلك، فإن اندراج أكثر من جيل في الحركة قد أوسع فيها فرص التباين بين مواقف الشيوخ المتوقرين المتحفظين والشباب المتحفزين المجددين.
| |
| | |
| هكذا كانت الجماعة بكل وجه من انتشارها عامل توحيد لمجتمع معرض للتمزق. بينما كانت هي في ذلك معرضة لتباين كبير قياسًا بحالها الأولى ولابتلاء من ثم في وحدتها.
| |
| | |
| ولئن كانت الجماعة في نمطيتها الأولى مستغنية عن معالجة ظاهرة التباين فقد ظِّلت حتى بعد طُرئه فيها كارهةَ لأي تصنيف لائحي لأعضائها حسب الذكورة والأنوثة أو الكسب أّو السبق في الحركة. وقد راودها أَحيانًا تبني نظام كالذي اتخذه الإخوان المسلمون بمصر قديمًا بتطبيق غير صارم، أو كالذي اتخذته الجماعة الإسلامية بباكستان بصرامة لائحية. ولكن زُيَّن لأهل [[السودان]] بفطرتهم المتساوية التي تأبى التمايز أَن يروا في سنة الرسولصلى الله عليه وسلم مرونة في تصنيف المؤمنين، حيث كانت درجات السبق والعلم والصحبة و[[الجهاد]] والعطاء معروفة، وقد يُعرف بعض أَهلها كما يُعرف بعض أَهل درجات القعود والجهل والنفاق، ولكن لم يدرج الصحابة في رتب لائحية يرقى الواحد للسبق بالخيرات أو الاقتصاد أو ظلم النفس، بلك ترقى تلقاءً بسرعة سعيه ومن تثاقل أَو انقلب على عقبيه انحط حتى تدركه التوبة والنهضة. هكذا اختار أَهل [[السودان]] نظامهم فسَلِموا من الحرج، وما ضرتهم العفوية أن يقدَّروا أقدار الأعضاء النسبية لغرض الولايات أَو التكليفات أَو نحوها.
| |
| | |
| '''المنتظمون والأنصار :'''
| |
| | |
| لم يكن لأعضاء الجماعة لعهدها الأولَّ خيارًا دون التمييز القاطع بين العضو المنتظم الملتزم ومن هو خارج الصف واو كان مسلمًا صالحًا. ذلك لكثافة حُجُب الغربة والسرية وحداثة الانحياز للجماعة، وما يورثه للعضو الجديد. ثم إِن نظام الحركة كان نمطيًا مركزيًا محدودًا فكانت حدود الجماعة بيِّنة حاسمةً.
| |
| | |
| ثم أخذت الحركة تبنى حولها واجهات وتشكيلات لأغراض أَو وظائف معينة في العمل الإسلامي. واجتذبت هذه التشكيلات عناصر شتى قربتهم إِلى الجماعة تشابهًا وتعاطفًا. وكثَّفت الحركة حملاتها الإسلامية فشاركها كثيرون وانفعلوا بنهجها ونمطها حتى لا يكاد المراقب يُميزهم عن الأَعضاء المنتظمين. بل إِن اتساع الجماعة بنشر الصف بين طوائف المجتمع وطبقاته أحدث كما ذكرنا تباينًا في مستويات أعضائها ومسافة في وشائجهم الخاصة. بينما أدي نشر الدعوة فكرًا وتربية ومشاركة المجتمع والالتحام به إِلى رُقىِّ قطاعات كبيرة منه نحو نموذج الجماعة الأَمثل، فغدا التمييز غير بائنٍ بين العضو بخصائصه وسائر المسلمين.
| |
| | |
| ومن هنا أَدرك أَهلَ الحركة الوعي بقرب الصلة بين متن العضوية الملتزم من جانب والتيار المكتف المتعاطف من المسلمين، وبين من يحتمل التكليف النظامي الشامل – وفي به كاملاً أولم يف – ومن ينعطف نحو الحركة بل يوليها بعض ولائه بنية خالصة أو مشوية أو يشاركها في بعض وظائف العمل الإسلامي بفعالية عالية أو دون ذلك أَو يقاربها ويجانبها في الموقف بعد الموقف.
| |
| | |
| '''شمول التربية وانفتاحها حريتها :'''
| |
| | |
| ظلَّا قضية التربية، معناها ومادتها ووسيلتها، من القضايا التي تُثير جدلًا كثيرًا لشطر من تاريخ الحركة. والتربية الدينية في المجتمع التقليدي – كما مارستها حلقات الفقه والتصوف – على منهج نمطي من المعلومات التي تلقن وتحفظ نصًا وعدًا ومن الأَذكار الراتبة والآداب المرسومة، وكان قُصارى هدفها أَن يتعلم الفرد ويتزَّكى من حيث هو فذ ليحفظ نفسه من الفتن ويتَقي بها مواطن الخطر. فكل التوجه الديني في عالم متدارك منحط كان تحفُظًا وتوقيًا ومحاذرةً. وكان أَنسب إِطار لمثل تلك التربية في مجتمع فسد نظامه العام أن يُعزل المتربي في خلوة أَو حلقة محدودة تؤويه وتحميه وتحيطه برعاية مباشرة وثيقة.
| |
| | |
| وكان عهد الحركة الَأول، بالتربية مما يعهد في المجتمع التقليدي. بينما كانت التربية من الخصائص التي تُميزها عن [[الأحزاب]] المعبأة المحشودة بالشعار العام وبإِهاجة العاطفة وحِمية الولاء. ولهذه السمة التقليدية للتربية والمقابلة بينها وبين الحشد التعبوي العام، كانت الُمناظرة حادة في تاريخ الحركة الإسلامية ب[[السودان]] بين مدرسة التربية التي تتوخي الالتزام الصارم بمقتضاها ومنهجها المتقدم والتي كانت تتأسي بالأدب التربوي للإِخوان المسلمين بمصر وتتأثر بالتربية التقليدية في تدين أَهل [[السودان]] الذين لم يعرفوا الدين إِلا من الشيوخ المربين بالقرآن والعلم والذكر، ومدرسة [[السياسة]] التي كانت تسعى لتدريب الأَعضاء على المجاهدة العامة وتدعو لتعبئة قاعدة أَوسع تفي قاعدة أَوسع تفي بحاجات المجاهدة ونحو ذلك من التوجهات.
| |
| | |
| ولما نَضِجت الحركة تجربةً وفقهًا للدين بعد عهدها الأَوَّل، تبدَّل المذهب في معنى التربية، وفُهمت من حيث هي تقوية للإِيمان بكل عمل يُقبل عليه المرء بنية العبادة ويتوخى هدى الشرع – سواء كان قراءةً وذكرًا في خلوة، أَو تَدارسًا وتناصحًا في جماعة، أَو مُظاهرة بالدين في ملأ، أو أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، أَو حشدًا لأَولياء الدين، أَو جهادًا أو سياسةً للمجتمع بالشرع، أو تدبيرً ا وتخطيطًا لحركة [[الإسلام]]، أَو أيّما عمل صالح تَعرضَ به سانحة لعضو الجماعة في خاصة حياته أو عامها من حيث هو مسلم في ولاء صف مسلم وسياق حركة مسلمة. هكذا تجاوزت الحركة بتصورها وعملها مدى التديَّن التقليدي المحصور، فتجاوزت أيضًا بمفهوم التربية ونهجها ما كان معهودًا من قَصرها على تلقي الفقه وأَداء الشعائر. فالإِيمان مفهومًا شاملًا في الاعتقاد، و[[الإسلام]] نظامًا كاملًا في الحياة؛ يتغذيان يربوان في المؤمن والمسلم بكل كسب نفسي أو قولي أَو عملي، ويدعوان إلى ذلك كُله. فالتديُّن التوحيدي الشامل خير تربية.
| |
| | |
| وكما فارقت الحركة التديُّن التقليدي من حيثُ الشمول والحركية، فارقت التربية التقليدية من حيث الكثافة والإِيجابية. فالمنهج الصوفي مثلًا كان يربي السالك ليتدين في خاصة أَمره وخلوته ليحفظ دينه من عارضات الفتنة وفاشيات الشرَّ في المجتمع المفتون.
| |
| | |
| ولما كانت أَغراض التديُّن عند الحركة قد اتسعت في مداها وتحولت من المحافظة المدْبرة إلى المجاهدة المقبلة ومن التخوف والقنوط إِلى إِرادة الإِصلاح المتفائلة المتوكلة، فقد تحولت التربية لدى الحركة الإسلامية الحديثة لتؤهل أعضاءها ليؤموا بالتدين شئون الحياة قاطبة وليقوموا على كل مجال مقتحمين غير هيابين بروح إِصلاحية في كل نحو فعَّالة. فهم يتربون بما هو شامل من أَجل ما هو شامل؛ يتربون بالذكر والشعيرة لتعميق الإِيمان الخالص، وبالاجتماع والاتصال والتعامل الكثيف لتقوية الولاء والنظام والأَخلاق، وبالتثقيف النظري والتدريب العملي من أجل الرُشد في التوجه والإِتقان في الأَداء، وبالتعبئة [[السياسة]] والمواجهة [[الجهاد]] ية لتعزيز الصبر والاستقامة في حال الاستضعاف والتمكين. كل ذلك ونحوه حتى يكون إِيمانٌ وتدين صادق، ومجتمع متوال صالح، وحركة راشدة فعالة وسلطان شرعي متمكن. وكما انفتحت أَغراض التربية ومادتها نحو الشمول، كان لزامًا أَن تنفتح أُطرها نحو العموم. فالمنهج التقليدي كان قد ضيع نظام المجتمع العام في الحكم الراشد والشورى الواسعة والتنا صح الكفائي بالمعروف والتعاون الجماعي لجلب الصالح العام وإنفاذ السياسات الشرعية. ولذلك أوى التدين إِلى الأطر الخاصة – الأسرة والمسجد وحلقة الشيخ ونحو ذلك. ولّما باشرت الحركة الإسلامية مناهج التربية توخت أَن تَحصر إطار تنفيذها في الأسر الخاصة، وكان التقدير أَن ذلك الإِطار الوثيق أَفعل في التأثير على الفرد.
| |
| | |
| لكن ما أَن خرجت الجماعة بأمرها على الملأ والتحمت بالمجتمع، وما إن اتسع مفهوم التربية، حتى انفتحت الأسر، وأَصبحت لا تُبالي بأَن يغشاها الآخرون بل تدعوهم للمشاركة، وتنعقد في المساجد ونحوها لتعميم الفائدة من جانب ولجعل التربية مناسبة لأغراض الحركة الإِيجابية، ليكون ما يتلقى الأَعضاء من علم مناسبًا لما يثور في المجتمع من تساؤلات، فتكون ثقافتهم متفاعلة مؤثرة في تيار الثقافة العامة بالبلاد، ولتكون الشعائر في جماعات أَكبر، وذلك أفضل حُكما وأَدعى لتعريف الجماعة ولتعزيز مكانتها وإمامتها للمجتمع.
| |
| | |
| ثم وظَّفت الوسائل الإِجمالية لاستكمال التربية بالأطر الوثيقة، لأَنها أوسع أثرًا وأَنسب لبعض وجوه التربية. فوسائل الاتصال العام الحديثة بما تنقله من معلومات أَو ما تَبثه من صور للتدين أَو ما تروجه من دعوة وتعبئة ذات وقع مقدر في تربية الخير أَو الشر في الجمهور. ولذلك استكملت الجماعة أَشكال التربية ووسائلها، الخاصة والمنفتحة والعامة، مع اضطراد تطورها من جماعة خاصة إِلى جماعة منفتحة نحو أَن تكون مجتمعًا عامًا.
| |
| | |
| من جانب آخر كانت فلسفة التربية التقليدية مناسبة لحال المسلمين التاريخي محافظةً وجمودًا. فكان المتربي يتلقى حفظًا وتلقينًا متَّكلًا على شيخه، وكان المتربون على نمط واحد من التقليد. ولم تكن ممارسات الحركة لأول أمرها بعيدةً عن ذلك. فمهما كانت المادة جديدة كان المنهج نقليًا تقليديًا وكان النقيب مهيمنًا على أَعضاء الأسرة. ولربما كانت حداثة العهد أَيضًا داعية لأن يصاغ القادمون في قالب واحد ويساقوا في ذلك سوقًا لغربة الانتقال.
| |
| | |
| لكن تطور الحركة واتساعها بدَّل ذلك النهج تبديلًا. ففاضت الحرية في منهج التربية الحركي، وغدت هي فلسفة تأهيل الأَعضاء. فالفكر تطور من تلقين التراث إِلى طرح الأَقضية العصرية، ومن حفظ النصوص والنقول إِلى التفكير والاِجتهاد. والعمل تطوَّر من قائمة تكاليف نمطية معدودة ومحدودة إِلى اندفاع حيثما يكون وإبداع بكل وجه وإِشباع للحياة بالدين في كل شعابها وظروفها. فالعضو الأَمثل في الحركة لم يعد هو الأَشبه بنمط مقرر موضوع، بل هو الأَكثر عطاء لدفع الحركة بالاجتهاد و[[الجهاد]] . وقد يلزم ضرورة أَن يؤخذ بأيدي المبتدئين نحو قبلة الرشاد، ولكن مغزى التربية من بعد هو في إِلهام كل عضو حريته ومسئوليته لينافس المنافسين ويوافي وسعه ودوره الخاص فيتبارك العطاء وتتعاظم حركة الدين. ومن ثم اتسع مدى المرونة والسماحة في التربية، وتباينت أَلوان التدين بين الأَعضاء. ولربما يبدو أَعضاء الجماعة على نمط وطراز واحد حي متجدد – مقابلة ومقايسة مع التدين التاريخي المتماوت المتقادم. ولكنهم مع إشاعة الحرية في تربيتهم ومع اتساع عددهم ومع نشرهم لأَنماط التدين المتجدد فكرًا وعملًا في أَوساط المجتمع المحيط، أصبحوا على غير الصورة الواحدة الرتبية.
| |
| | |
| هذه قضايا ثلاث في التربية – شمولها وإِيجابيتها منهجًا، وانفتاحها وعمومها إِطارًا، وحريتها ومرونتها فلسفةً – كانت محاور تَناظر نشط داخل [[السودان]]. لكن المذهب فيها استقر وأطمأن بعد حين. بينما ظلت ذات القضايا تثير حوارًا يحتد أحيانًا ويبردُ أحيانًا أخرى في سياق مقارنة التجارب الحركية بين الإسلاميين[[السودان]]يين وإِخوانهم في حركات أُخرى في طَورٍ وظرفٍ آخر وعلى فقه آخر في حركة [[الإسلام]].
| |
| | |
| | |
| === مناهج التنظيم ===
| |
| | |
| ==== أصول التنظيم وتطوره ====
| |
| | |
| الحركة الإسلامية الحديثة في [[السودان]] دعوة وبناء، فما هي بحملة وعظيةَّ ولا بتيار فكرى ولا بتعبئة سياسة، ليس إلا. بل هي أيضًا – وخصوصًا عن صور أُخرى في الحركات الدينية – بناء جماعة ذات منظومة من الأُطر لعقد التوالي وتجسيد الوحدة العضوية فيها، وذات شبكة من القنوات لتحقيق الاتصال والتعاون فيها، وذات نسق في العلاقات الأُفقية لتوزيع الأُعباء الرأسية لترتيب الشورى والطاعة والقيادة.
| |
| | |
| ومهما كان دين التوحيد داعيًا بعقائده وشرائعه العملية للنظام في الجماعة، حتى تكون مقاصد الحياة راجعة إلى أصل واحد وشعابها إِلى طريق واحد، لا تتشاكس الأَغراض والأَهواء بمجتمع المؤمنين، ولا ترتبك مسالك أَعضائه بل تتكامل مساعيه وتتناصر جهوده بأَوثق نظام من محور واحد للحياة هو قصد العبادة لله الواحد – مهما كان ذلك، فإن المسلمين قد قصَّروا كثيرًا في شريعة الجماعة ونظامها. وذلك هو الجانب الأَكثر عُرضة للفتنة، حيث يبدأ نُقصان كل ملةٍ دينيةٍ من تلقائه. ولرُبما كان انفجار الدعوة الإسلامية بالفتوحات أوسع تطورًا من المعالجات الإسلامية النظامية لجماعة المسلمين. فضلًا عن أَن غياب الحُكم الراشد ضَيَّع نظام الجماعة، وغدا التدين تفقهًا وعملًا مركزًا على الحياة الخاصة للأفذاذ ومعاملاتهم المباشرة، وتضاءلت في الفقه والواقع معاني المعادلة بين الجماعة والفرد أو النظام والحرية، ونظم ولاية الأمر العام، وإِجراءات الاجتماع والشورى والإِجماع، وتراتيب التخصص الوظيفي وممارسة السلطة وعلوم الإِدارة الأَتقن والأَحسن. وتفاقم الأَمر بالتخلف المادي الذي ضرب العالم الإسلامي. فالتطور الحضري تشتجر فيه المصالح العامة وتتكثَّف، ومن ثم يدعو لترقية النظم والعلاقات بما يراعى تلك المصالح ويضاعف التراتيب الإِدارية والنظم من وضع الجاهلية، وظل المجتمع الإسلامي يتقدم بنظامه حتى أَصابته علة الانحطاط فأفقرت فيه دواعي العُمران والتنظيم الاجتماعي.
| |
| | |
| فعندما بدأت الحركة الإسلامية تؤُسس جماعتها بدأت من هذا البؤس في التراث التنظيمي للمسلمين. ولم يكن ذلك عدمًا، أن أُصول الدين المحفوظة كاملة تستتبع أَيضًا بقاء شيء من تراثٍ يمُثل مُقتضى خُلودها في الواقع. فالجماعات الفقهية الصوفية و[[الجهاد]] ية والخيرية خلَّفت بعضَ سُنّة تنظيم، فيها ما هو شرعي وما هو وضعي. بيد أَن الفضل الأَكبر على الحركة الإسلامية ب[[السودان]] في أول عهدها من حيثُ مصادر التجارب التنظيمية الإسلامية إِنما كان للجماعات الإسلامية في حاضر العالم، لاسيما في مصر التي أّخذت عنها الحركة تناقلًا للمنشورات والراويات وتبادلًا للوفود والأعضاء، وفي باكستان تسامعًا وإطلاعًا على ما هو مكتوب.
| |
| | |
| والأَصل الآخر الذي تلقت منه الجماعة في تنظيمها الأَول أَصل أُوربي عصري. وقد يستنكف المسلم – وهو يؤكد أَصالته ويجُدد هُويته في وجه الغزو الحضاري الأُوربي – أَن يُذغن لتقليد أوربا في بعض أمرها أو يعلن عن ذلك. وحقيق به ذلك إِن كان هو وسلفه قد وفوَّا حق دينهم وأّدّوا دورهم في ترقية النظام في حياتهم. سوى أ، الحركة أَيضًا نشأت في مناخ الإِذعان والتقليد للغرب، وروادها نهلوا من فكر الغرب التنظيمي وانفتحت عيونهم على النظم الإِدارية لدولة الاستعمار الحديثة، وأكثرهم عاشوا في الغرب متعلمين في مدارسه وحياته وتعرفَّوا نظام مؤسساته وجماعاته وأحزابه.
| |
| | |
| وإذ كانت الحركة تُنافس قوىً عقائدية وسياسة اغتربت عن مجتمعها وصبَّت نظمها في قوالب الغرب كما صاغت مذاهبها من مذاهبه، فقد اقتضت المنافسة أحيانًا اتخاذ مثل تلك النظم والطرائق.
| |
| | |
| لكن الحركة عندما استوت بعد نحو عقدين من الزمان استردت أصالتها فلم تعد تقليدًا للحركات الإسلامية الُأخرى، بل تجاوزتها في مصطلح التنظيم وأحكامه حتى اغتربت بذلك وغدت موضعًا للإِنكار أَو تسامت فغدت مثالًا للتقليد. وتحررت كذلك من الانفعال بالأشكال الأوربية، فإمَّا غزتها بروح دينية بدلت مغزاها، أو تجاوزت صوُرها وأنماطها. ومع التأصيل الفكري للحركة الذي وصلها بأصول الدين أخذت الحركة تطوِّر اجتهادها التنظيمي وتستنبط فقهًا في المواقف الإِيمانية والعملية في شأن التنظيم واتحد تطور فقهها مع تراكم التجارب التنظيمية العملية التي هيأت للجماعة رصيدًا من العلم يهدى العمل، والعمل يهدى العلم.
| |
| | |
| وإذا صدق أن الحركة الإسلامية ب[[السودان]] قد امتازت آخر عهدها بتنظيم أرقى، مقارنة بأَخواتها في الدين، فذلك عائد إلى بضعة أَسباب. منها ما يتعلق بسالف ما ذكرنا؛ وهو أن الحركة انتفعت كثيرًا من فكر التنظيم الأُوربي وتجاربه. والكسب الأٌوربي – على الجذر الواجب إِزاءه – منسوب للعصر وللحياة النامية حضريًا، ففيه ما هو أدعى للتقدم. ومنها أن الحركة سادتها روح الاجتهاد فهي لا تتجمد بالتقليد بل لا ترتهن حتى لتقاليدها هي في التنظيم، بل تقدر وتخطط، وتجرب وتراقب، وتنتقد وتراجع، وتعَدل وتطور دأبًا نحو الإِحسان.
| |
| | |
| بيد أن من أسباب النهضة التنظيمية للجماعة في [[السودان]] أيضًا أنها نشأت فريقًا من الرواد حتى أصبحت مؤسسة من الأجهزة. ول أَنها تمحورت حول شيخ مؤسس لربما استغنت عن كثير تنظيمٍ لأطُر الشُورى وتفريع التخصصات وتركيب للعلاقات رجوعًا إليه بالأَمر والشُورى والعلاقات جميعًا. ولربما كره القائد أن تتشعب الأجهزة وتتعقد وتتباعد فيعجز عن مباشرتها بوجهه وإحاطتها بذراعه.
| |
| | |
| ثم إِن الحركة نشأَت في حقبة سياسة مُتقلبة في [[السودان]]. فقد ظلَّت البلاد تنشغل بقضايا تنظيم الأمر العام باتصال غير من حسم منذ الاستقلال؛ قضايا الدستور الدائم، والحكم الإِقليمي والمحلي والقبلي، والخدمة والمؤسسات العامة. وكان ذلك المُناخ مُوحيًا بأَن تؤسس الحركة دستورها وإِدارتها ونظامها المركزي والفرعي. وقد ظلَّت الحياة العامة تثير للحركة تحديات شتى تستدعى ضروربًا من التكيفات التنظيمية، وحاجات متكاثرة تضطرها إِلى توسيع مدى وظائفها الإسلامية لتفي بها، ومن ثم إِلى تطوير أُطرها التنظيمية لتستوعب تلك الوظائف. ففي ظروف الحرية ضرورة لتنظيم التعبئة السياسية، وفي ظروف القهر ضرورة لتنظيم التأمين، وفي الأَزمة الاقتصادية دواع لتنظيم الاقتصاد الإسلامي والعمل الإِغاثى، وفي أزمة الجنوب بأغلبيته غير المسلمة حاجة لتنظيم التبشير والدعوة للملّة، وفي كثافة التدخلات الأجنبية ما يقتضى تنظيم نشاط الحركة الخارجي...إلخ.
| |
| | |
| وفضلًا عن تعدد التحديات وتنوعها وتواليها واستدعائها لاستجابات تنظيمية كثيفة متطورة، فإن الحركة الإسلامية ب[[السودان]]، بما أَنعم الله عليها من لطف الحرية النسبية في نظام [[السودان]] السياسي – ديمقراطية ودكتاتورية– وبما أَلهمها من تدابير ومواقف تحفظ اتصال عملها حتى حين الفتنة. الحركة بذلك ضمنت عدم الانقطاع في التجارب، فهي لا تجمد في السراء ولا في الضراء ولا تبدأ من جديد بل تبنى على تجاربها الموصولة وتنجز خططها التنظيمية فترقى بمستوى تنظيمها مقامًا بعد مقام.
| |
| | |
| أما معالم تاريخ التطور التنظيمى فهي موازية لمراحل تاريخ الحركة. سوى أَن مراحل الحرية في [[السودان]] التي تيسِّر للحركة الانطلاق غالبًا ما تكون مراحل تخلَّف نسبى للتنظيم عن مبادرات الانطلاق، فلا تسلم مع دفعها من ارتباك. ثم في مراحل القهر والكبت تفرغ الجماعة لمراجعة نظامها، فتستوعب ما كسبته من مناشط منطلقة في أُطر تنظيمية وتخطط لاتخاذ أُطر أُخرى لتوسعٍ تستقبله.
| |
| | |
| ففي عهد السرية والانكبات الذاتي الأَول أَتمت الحركة بناءها الدستوري والقيادي. وكان ذلك في المؤتمر التأسيسي عام 1954م، حيث حسمت الحركة صراعات القيادة فيها وخلاف التسمية واعتمدت نظام الأُسر للأَعضاء والشُعب للتنظيمات الفرعية المحلية وحررت دستورها الأَول بتصرف عما هو منقول من مصر. ثم في عهد الفريق عبود عام 1961م جرى تقويم نقدي لنظام العضوية والأُسر وطبيعة الحركة في المجتمع وعملها ونظام القيادة الفردية، وعبرت عن بعض ذلك التقويم تعديلات واسعة في الدستور ونظام الجماعة. وكانت الفترة بعد [[أكتوبر]] مرحلة عمل فاض عن الأُطر، ولم تتعرض تعديلات الدستور 1969م إلا لحسم ذرائع الخلاف الناشئ عن كثافة النشاط. حتى إذا فرغت الحركة لنفسها أيام النميري، وبعد جولة من المجاهدة هي انتفاضة 1973م، حدثت مراجعات وتطويرات واسعة في الجهاز القيادي؛ ترتيبًا للمكاتب المتخصصة، وإِدخالًا لنظام الخطة العملية والمالية والتقرير والمحاسبة، وتكثيفًا للوائح والبرامج المكتوبة. ولعله أُول عهد الجماعة بالإِصلاح الإِداري،سوى أَنه ترك الدستور الفوقي والنظام الفرعي المحلي على حاله، إلا ما أَضاف من تأَطير مهني للأَعضاء يصلهم بهرم تنظيمي إِلى القيادة.
| |
| | |
| أما بعد المصالحة عام 1977م، فقد حدثت نهضة تنظيمية شاملة اعتبارًا بتجارب فترة [[الجهاد]] واستيعابًا لمحصولها في امتدادات العمل الاجتماعي، والاقتصادي، والأَمني، والجنوبي، والخارجي، ونحو ذلك واستمرت هذه النهضة أَعوامًا، فأَحدثت تحولًا عن النظام المركزي الذي كانت تُدار به الجماعة؛إِذ طُبِّقَ نظام لا مركزي نقل إِلى الفروع المحلية غالب الصورة القيادية في مركزية الجماعة: المؤتمر، ومجلس الشورى، والقيادة التنفيذية ذات التخصصات. كما نقل إِلى الفروع غالب الكسب المركزي من الانضباط اللائحي والمنهجية وترقية الأَداء. ومن جانب آخر طُبِّقَ منهجٌ سمحٌ كَثَّرَ الواجهات الموكول إِليها بعض وظائف العمل الإسلامي المعينّة والمتروك لها قدرٌ من التسيير الذاتي على أَنماط متعددة. ثم أُدخل في نظام الجماعة كامل وسائل الإِدارة الحديثة من توجيهات وتدريبات وتدابير وفنون وتوثيقات ومساعدات فنية وغير ذلك.
| |
| | |
| هكذا لبست الحركة من قاعدتها إِلى قمتها ثوبًا جديدًا عبِّر عنه الدستور الجديد عام 1983م. وعندما تحولت الحركة إِلى جماعة شعبية هي الجبهة الإسلامية القومية، نُقل ذلك التنظيم بأسره وصاحبه بعض التطوير على صعيد القيادة لمراعاة سعة العمل ومواتاة الحرية [[السياسة]]، وروجع الدستور ليجيز مشروعات التحول إِلى الجبهة.
| |
| | |
| ==== سمات التنظيم المتطور ====
| |
| | |
| '''تنظيم مركب:'''
| |
| | |
| من سذاجة التراتيب التنظيمية التي أَغنت الحركة لحداثة عهدها، ظلَّ التنظيم يتطور باضطراد نحو التركيب ترتيبًا وتشعيبًا حتى بلغ صورته الراهنة.
| |
| | |
| هكذا انتهى هرم السلطات إِلى شكل نمطي يقوم في القيادة المركزية أو الفرعية أو المستقلة. وقوام ذلك ترتيبٌ من أَربع درجات. ففي أعلى سُلم السلطة يقوم المؤتمر الذي ينعقد لدورة سنة أو أكثر، يمثل القاعدة ويمارس السلطة التأسيسية ويحاسب ويوجه وينتخب بعض من يتولى سلطة الدرجات التالية.
| |
| | |
| أَما الكيان الشورى – مجلسًا أو هيئةً – فهو الجهاز القائم مقام المؤتمر في فترته، يجيز الخطط والبرامج والموازنات ويحاسب مَن دونه وينتخب ويملك عليهم سلطة في سياستهم بل في أصل ولايتهم. ثم تأَتى القيادة التنفيذية التي تسيّر دولاب الحركة وتُحضرّ مقترحات سياساتها وتأمر من دونها من المستوى الإِداري الذي يباشر الفعل والتطبيق. ومن حيث التاريخ فقد بدأت الحركة تعمل أَساسًا بالمستوى التنفيذي، فدفعتها ضرورات الشورى إلى استكمال الأَجهزة الأَعلى وتعزيز سلطة الكيان الشورى، وتطوير المؤتمر من مجال مداولة إلى سلطة تقرير، ثم دفعها طلب الإتقان والإِحسان إِلى تطوير الإِدارة التي تخدم السياسات التنفيذية.
| |
| | |
| وانتهي هيكل الوظائف والاختصاصات إِلى تشعيب نمطي يعبر عن المدى المتسع الذي بلغ كسب الحركة من مقاصد التدين. فالشعب التنظيمية كان منها ما يُعنى بنشر العضوية، أو جمع الاشتراكات، أو تربية الأَعضاء. ومع اتساع القاعدة دعت الضرورة لولاية تنظيم ترعى شئون الاتصال والتنسيق التنظيمي في مدى جغرافي معين. ومع تطور منهجية التنظيم أَصبح التخطيط التنظيمي – إحصاءًا وتقويمًا للعضوية وترقيةً للأداء بالتدريب والتحديث، ومراجعة للنظم والعلاقات – همّا يُعنى به جهاز مؤهل. وشُعب الدعوة بدأت مكاتب لتثقيف الأَعضاء ورعاية علاقاتهم الاجتماعية، ثم اتسعت الشعب الثقافية تخصصًا في البحث أو النشر أو الإِعلام أو الفنون أو التيارات الثقافية العامة. واتسعت الشعب الاجتماعية لتتخصص في متابعة أَحوال المجتمع ومراكز النشاط الاجتماعي – شعائر أو رياضة أو تعاونًا أو انتداء أو غير ذلك. أما هموم [[السياسة]] فقد تضاعفت مع ازدياد قوة الحركة [[السياسة]] واضطراد خبرتها في العمل العام، وتولتها مكاتب متخصصة في العلاقات [[السياسة]] بمختلف القوي أو في تخطيط السياسات التي تبسطها الحركة الإسلامية أو معينة بوسائل التعبئة الجماهيرية، أو بشئون الأَمن في الحركة توقيِّاً من المكائد وحفظًا للأَسرار أَو إِحاطة بما هو دائر حول الحركة في الحياة العامة أَو بالعلاقات الخارجية مع الحركات الإسلامية أو القوي [[السياسة]] أو الحكومات. أما الشعب الاقتصادية، فمنها ما يُعنى بالمؤسسات الاقتصادية الإسلامية ، أو ما يُعنى باقتصاد البلاد مذاهبه وسياساته وأوضاعه وقطاعاته.
| |
| | |
| ذلك وصف ماسح لا يرسم كامل خريطة الأجهزة المتخصصة ولا يُحصيها، بل لا يشير إلى تركيب الأجهزة الإِدارية الفرعية، ولا إلى وصف علاقات الأجهزة تداخلًا عضويًا أو تواصلًا نظاميًا يكفل التنسيق والوحدة في مجمل حركة الأجهزة.
| |
| | |
| '''تنظيم لامركزي:'''
| |
| | |
| بدأ التنظيم مركزيًا مقبوضًا بكل أَجهزته ووظائفه إِلى القيادة الأُم، لأَنه كان محدودًا في حجمه ووظائفه. بيد أَن اتساع هموم الحركة وأبعادها الإِقليمية غادر القيادة المركزية غير قادرة على مباشرة شئون الجماعة والحركة حيثما وكيفما كانت. فبدأت تطورات تبسط نظام الحركة لضروريات عملية، واتسع البسط ومن بعد ذلك أصبح البسط نظام بعد القبض، واللامركزية أو التفريع المحلي والوظيفي بعد التركيز، سياسة تنظيمية مقررة.
| |
| | |
| فمن حيث البعد المحلي كانت الشُعب في شتى أَقاليم [[السودان]] أَو في الاغتراب فروعًا تصل كلها رأسا إِلى القيادة بالخرطوم وتتلقي منها التوجيهات والمحاسبات وترفع إليها المشكلات والمقترحات. لكن ترامي الأقاليم وتباين أهلها وسوء الاتصالات ب[[السودان]] وتضاؤل قوة الحكومة المركزية – كانت عوامل ناهية لمبدأ التنظيم المركز، وكانت تدعو نظام الحكم في [[السودان]] كما تدعو الحركة إِلى اللامركزية. ثم إن الحركة بعد اعتصامها باستراتيجية التحول الشعبي والتمكن المجتمعي، أصبحت مدعوة إِلى أ، تَنزِل بفكرها ودعوتها وأَجهزتها قريبًا من الشعب في كل مواقعه، وقدرت أَن بسط السلطة في عرض البلاد وطولهها – إِن ضر بالقوي الطائفية والحزبية التقليدية ذات الزعامات الفردية القابضة – ينفع الحركة الإسلامية التي تنشد صلة مباشرة بالشعب في سبيل تحويل ولائه. فالحركة كانت تدفع اتجاه اللامركزية في حكم [[السودان]] للصالح الوطني، وكانت تتهيأ لموازاة ذلك في نُظمها الداخلية لصالح برنامجها الخاص. ولئن كانت عناصر الحركة في الأَقاليم تحترز من الاتصال الشعبي حتى تأَمن من كشف صفها وتعرضه للخطر، وكانت تُعوَّل على وجه الحركة القومي المكشوف، فقد تجاوزت الحركة عُقدة التأمين وحب الانغلاق. بل أدركت أن رسالتها في الالتحام بالشعب وأَمنها الحقيقي في اتساع قاعدتها لا في تخفيِّها. وقدرت الحركة أَخيرًا أَن التطور البعيد الذي كسبته الأَجهزة المركزية، من حيث الترتيب الرأسي لسلطة الاِئتمار والشورى والقرار والتنفيذ والإِدارة، والترتيب الأُفقي لمختلف التخصصات التي تخدم وتشمل كل أَغراض التدين وهموم الحركة – ذلك التطور ينبغي أَن يهدى للفروع الإِقليمية ليدفع قاعدة الحركة قدمًا.
| |
| | |
| هكذا من بعد المؤتمر العام ومجلس الشورى المركزي والقيادة التنفيذية المكثفة بالخرطوم، قامت مؤتمرات دورية بكل المحافظات ومجالس شورى، وقيادات تنفيذية مصنفة مشعبة، وكل ما صاحب ذلك من خبرة في الإِدارة والتنظيم.
| |
| | |
| ونزل التركيب التنظيمي نحو القواعد الإِقليمية بمقتضى مشروع مخطط فيه تدبير وتدريب وتدرَّج وتجريب وتداول وتنسيق، فاضطرب الأَمر شيئًا ما عند الانتقال ثم استقر على موازنة بين المركز والتنظيمات المحلية معدّلة للمخطط النظري وآتى أُكله المرجوة وأَكثر منها.
| |
| | |
| أَما من حيث البعد الوظيفي، فقد كانت الحركة في عهدها الأَول تُدبر شأَنها كله في محور واحد. وكان ذلك ممكنًا لضآلة وظائف الحركة ومحدودية تديُّنها الفعلي مهما ادعت الشمول. وكان ذلك أيضًا تقديرًا واجبًا لضمان وحدة الحركة ونقائها حين كانت غريبة موحشة في مجتمع فتنة. لكنها في عهود الانفتاح الدعوى والانشراح الحركي أَلفت وظائفها متكاثرة لا يسع الجهاز القيادي المركزي أَن يليها جميعًا بكفاءة أو فعالية تامة. بل قدَّرت أَنها – كما خرجت بتربية أَعضائها نحو مشاركة المجتمع لتنفع وتنتفع بالتفاعل – يجدر بها أَن تخرج ببعض هذه الوظائف المتكاثرة عن دائرتها التنظيمية والعضوية المباشرة وتتفاعل بها مع فطرة الخير والدين المنبثة في المجتمع. فمن جانب يتداعى إِلى كل عمل تعرضه الحركة للشعب جماهير لا يريدون التزامًا شموليًا بأَهداف الحركة ولا انتظامًا في صفها، ولكنهم يقبلون على التعاون معها في الشأن المعيّن لأنه أَقرب لتصورهم لخدمة ذلك الشأن بما لا تقدر عليه الحركة وحدها. وبذلك أيضًا تتاح مناسبات للتقارب والالتحام بين أَعضاء الحركة ومن حولهم، بما يكون سببًا عند الجمهور للإِقبال على الجماعة بعد تعرفها والثقة بها من قريب، وسببًا لدى أعضاء الجماعة للتربي على قيادة الجماهير. ومن جانب آخر، كثيرًا ما يكون في عزل بعض الوظائف وإِيلائها إِلى كيان مستقل متخصص – مزيدُ كفاءة في ممارستها من زيادة التفرغ لها والتخصص فيها ممن يليها. وبعض الوظائف بطبيعته يستدعى قدرًا من الحرية والاستقلال، كالنشاط الفني الذي قد يكون في قربه من محور الجماعة الدينية الشعبية المحافظة ما يحرجّ عليه أَو عليها. ومن جانب أَخير، ثبت بعد التجربة أَن كثافةَ المقبلين المتعاونين على وظيفة ما، وكونَها معزولة عن بقية مقاصد الحركة لا سيما [[السياسة]] – أَمران يكفلان التأمينَ لتلك الوظيفة في الظروف [[السياسة]] التي يُكاد فيها للحركة والتأمينَ للعاملين من أَعضائها الذين يندسون في كنف كثيف من المتعاونين غير الملتزمين.
| |
| | |
| وكانت محاور العمل الإسلامي المستقلة عن تنظيم الجماعة العام شتى. فمن حيث المصطلح التنظيمي يشار إليها بالأَقمار أَو الواجهات أَو الروافد أَو الكيانات المستقلة، وهي إشارات غير دقيقة. وتسمى منسوبة صراحة إِلى [[الإسلام]] أَو منسوبة إِلى الوطن تمييزًا لها عما ينافسها من منظمات يسارية أجنبية الأَصل، أَو مستورة باسم لا يحمل دلالة سياسية أو إِسلامية تأمينًا لها أو ترويجًا. وهي من حيث الاستقلال على درجات وأبعاد من الهيمنة المركزية. فمنها ما ينفصل بإِدارته وفق قانون البلاد وإِرادة القائمين به ولا يصله بالجماعة إِلا عناصر متمكنة في القيادة تراعى إِدراجه في استراتيجية العمل الإسلامي العام. ومنها ما يخضع لإشراف توجيهي دون تدخل في الشئون الجارية. ومنها ما هو دون ذلك.
| |
| | |
| وهي – من حيث الاختصاص الوظيفي – بين قاصرةٍ على وظائف لا تركز عليها الجماعة المتن، وموازيةٍ لمدى يضيق أو يتسع. وكل هذه الأَنماط المختلفة ذات نسبة لطبيعة الوظيفة التي يؤديها الكيان أو لظروف تأسيسه والتمكن فيه أَو لظروف الأَمن و[[السياسة]].
| |
| | |
| وفي سبيل الوحدة بين منظومة محاور العمل الإسلامي، تقوم الاستراتيجية العامة هاديًا لها جميعًا من بعد الاهتداء ب[[الإسلام]]، ويقوم كيان تنسيقي جامع لا يملك عليها إِلا التوجيه أَو أَن يتيح مجالاً لتبادل المعلومات وتنسيق الأَدوار وعلاج المشكلات، ثم يقوم العنصر الحركي منبثًا ع في قاعدة هذه الكيانات أَ, قيادتها غير غالب بعدده بل بأثره ووعيه بمقتضيات حركة [[الإسلام]]. ولا مجال لتسمية الكيانات هذه، فهي تتطور وتتكاثر أبدًا لا سيما في مجالات العمل الاقتصادي والخيري والثقافي والاجتماعي والدعوى والرياضي، بل تكاد اليوم تنتظم كل وظائف العمل الإسلامي.
| |
| | |
| وقد أَثارت هذه التنظيمات مشكلات لم تثرها لامركزيةُ التنظيمات المحلية. فالتضارب في الاختصاصات كثيرًا ما يرد، لتطابق المدى الوظيفي أَو تداخله من غير حدود فاصلة. وتنازع الولاء بين التنظيمات والجماعة الأُم يرد، لأَن الغيرة على ما يلي المسئولين تدعوهم لتقديم شأنهم على كل شأن آخر وللنزاع في مدى الاستقلال الأَمثل. والحرص على البعد من [[السياسة]] أَو الصفة الإسلامية الصارخة مما يثير خلافًا حول اختيار رموز الحركة لقيادة التنظيمات وحول نأيها عن التأييد المباشر لحركة الجماعة الأُم. ومازالت مثل هذه المشكلات غير منحسمة، وإِذ عجزت الجماعة عن تسويتها تعايشت معها وعدتها تكلفة لازمة لهذا الخيار في التنظيم المبسوط.
| |
| | |
| أَما التنظيم الفرعي للجماعة فليس فيه – بعد اللامركزية – إِلا أَنه على مراتب يوازي التقسيمات الإِدارية الرسمية في متنه الأَعلى. فعلى مستوى الإِقليم أو المحافظة أَو المنطقة الإِدارية أو المجلس المحلي أو الحي والقرية أَو الدائرة الانتخابية يقوم كيان تنظيمي، يُشَكَّل على هيئة التنظيم المركزي؛ اِئتمارًا وشورى وتنفيذًا وإِدارة، مع ما يلزم من التبسيط في الأَشكال والاقتصاد في الوظائف. وكثافة هذا الهيكل التنظيمي الفرعي من حيث ترتيب المستويات أَمر دعا إِليه الحرص على أَن توافي الجماعة مجتمعها بحركة مخصوصة تسد كل ثغر وتوازى كل طبقة في بناء المجتمع السياسي.
| |
| | |
| أَما الوحدة الأَساسية للتنظيم الفرعي فهي الأسرة بل الحلقة التي تحيط بعدد من الأَعضاء من حيث جيرتهم لتصلهم بولاء الجماعة ونظامها ولتضمن تربيتهم وفق المناهج المقررة وتعبئتهم في سياق حركة الجماعة. وقد طرأت على نظام الأُسر أو الحلقات أَطوار حسب تطور التربية، فبدأت تلمذة للنقيب الذي يعلم ويزكي ويضبط، وظلت نحو ذلك للمبتدئين، وانتهت محور تعاون وثيق لكل عضو حسب تكليفه وكسبه ليس لرئيسها إِلا الإِدارة. وبدأت سرية مغلقة، وظلت على شيء من الخصوص للمبتدئة وانتهت موسَعة مفتوحة.
| |
| | |
| بيد أَن ما تقدم وصفه إِنما هو التنظيم العام، وهو لا يشتمل على جماعة الطلاب الإسلاميينالذين غلب عليهم اسم الاتجاه الإسلامي أَخيرًا. فلهؤلاء هيكلهم الموازي عموما للحركة الطلابية أَو خصوصًا لكل معهد أَو قطر خارجي. وهذا الفصل كان فصلًا في الولاء والالتزام بل في إِدارة الحركة في بيئة مخصوصة. وقد اتسع مدى الاستقلال لحركة الطلاب فغدة كبرى منظومة التنظيمات المستقلة سابقة الذكر.
| |
| | |
| ثم امتدت الدعوة إِلى فئات أخرى وتعاظمت حاجة الحركة لتعبئة تلك الفئات بنظام مخصوص يكافئ الخطر الاجتماعي والسياسي للحركة الفئوية في [[السودان]]. وبدأ ذلك الاهتمام بتشعيب شُعبة في القيادة التنفيذية لكي فئة – كالعمال والمعلمين والمهنيين والموظفين والتجار ونحوهم. ثم تنزَّل ذلك النظام إِلى الفروع حتى أّصبح هيكلًا تنظيميًا موازيًا للهيكل العام وفي كنفه, ثم بلغت به الجماعة مستوى الأَعضاء وميزت بي الحلقة تجسيدًا للتنظيم الأَساسي العام للعضو من حيث هو مقيم في جواره، والوحدة الفئوية قاعدة للتنظيم الفئوي الذي يتولى تربية العضو حيث هو عامل في مهنة معينة. فتكامل حبلان لوصل العضو بقيادة التنظيم يستقلان ببعض الاختصاص ويتناظران على بعض الشئون العملية في الاتصال.
| |
| | |
| ولما استوت خطة الحركة لبناء تنظيمها وتوزيعه على محاور مستقلة متمايزة للتقديرات المتقدمة، أخذ التنظيم الفئوي يتشكل مستقلًا قائمًا بذاته ويقلص فرعيته المباشرة للتنظيم العام حتى أصبح التالي لكيان الطلاب في المنظومة الحركية.
| |
| | |
| وقد قام للنساء كيان شبيه. ولئن كانت الإِناث في عهد الحركة الأول ينفصلن عن أَجهزة التنظيم العم بأبعد من انفصال الطلاب، فقد أُدرجن في العضوية والأَجهزة العامة. فما نشأت من كيان عام للنساء ليس إِلا منبر عمل بهيكل رئاسي مبسط يعبئ نساء الحركة لقضايا المرأة ولا تستقل بهن عن الالتزام والمشاركة في أَجهزة الجماعة وأَعمالها. وقد نشأ من تلقاء الإِناث في الحركة بعض التنظيمات الاجتماعية المستقلة على نمط الكيانات التي تقدمّ ذكرها، وذلك بغرض الإِحاطة بالمرأة في المجتمع، دون مساس بمشاركتهن في كيانات مستقلة أُخرى فيها رجال ونساء.
| |
| | |
| '''تنظيم منهجي: '''
| |
| | |
| بدأت مناهج التنظيم كما قدمنا تقليدًا للمعهود التقليدي والعصري ثم ارتجالاً واستجابةً عفوية واجتهادًا فرعيًا عب مختلف القضايا التنظيمية، حتى تأصل التنظيم من حيث القواعد المعبرة عن الدين والشرع ومن حيث القواعد التي تجعل منه علمًا منهجيًا، وحتى غدا كسب الحركة مفارقًا لكسب كثير من الحركات الإسلامية الحديثة التي لا تعرف من التنظيم إِلا أَضأله.
| |
| | |
| فسادت – لا سيما منذ 1973م – التدابيُر التنظيمية القطعية: الدستور واللوائح والخطط والمناهج والبرامج، نصوصًا مقررة تجعل النظم والأَهداف الدائمة والمرحلية التزامات معلومة أو موقوتة، وتوضح الاختصاصات والعلاقات الرأسية والأفقية وأحكامَ العضوية وإجراءات الحركة، وتحكم كل أوضاع الجماعة وحركتها بأَحكام لائحية هي الخطة والقالب. ولربما تتطور الأَمور عفوًا وراء النصوص، ولكن ما تثبت سنة أَو تتبلور تجربة إِلا تصب في قالب لائحي قطعي. وهذه السمة القانونية في تنظيم الجماعة يردها البعض إِلى طبيعة العناصر القيادية – قانونيين وقادة خدمة عامة – أَو إِلى مناخ البحث عن الدستورية منذ استقلال [[السودان]]. ولكنها على كل حال أَجدت الحركة نظامًا والتزامًا دون أَن تجمد حركتها بأكثر مما ينبغي.
| |
| | |
| وإِذا كانت اللوائح وجه تخطيط للحركة، فإن الحركة – مع نهضة التنظيم اللائحي 1973م – تجاوزت الارتجال والتلقائية والعفوية في العمل التي كانت غالب ديدنها منذ النشأة. ولم يخل تاريخ الحركة الأَول من بعض دراسات وخطط جزئية. لكنها بعد أَوائل السبعين اتخذت منهج التخطيط لعملها السنوي في صورة أَوراق عمل توازيها تقديرات لموازنة الصرف والدخل. ثم تطور التخطيط وأَصبح راتبًا في كل تدابير الحركة، ترتّبُ وتقرر الرؤى والآمال والأَهداف والمشروعات التي تتوخاها الحركة، وتقُدّر الوسائل والإِمكانات والأَوقات المتاحة لإِنجازها، ويصاغ كل ذلك في شكل خطط أو برامج كلية أو فرعية وزمانية أو مكانية، لبلوغ أتم الأَهداف بأقصد التكاليف في أَعجل الآجال. وقد تتسع الخطة مدى موضوعيًا وزمنيًا، كما هو أَمر الاستراتيجية العامة التي اتخذها الحركة منذ عام 1977م وظلت تراجعها كل عام أو عامين أو ثلاثة وتلتزمها منهجًا يسوقها نحو التمكين في الأَرض ويوجه كل سياساتها وأعمالها. ولم يكن التخطيط كله تقريرًا، بل كان يعتمد التجريب أحيانًا، حيث يطبق نموذج من المشروع في العاصمة مثلًا أو لفترة اختبارية حتى تستبين جدواه أو علته، فيُقوّم ويُعمم من بعد. ولا تَكاد الحركة تكون قد فعلت شيئًا ذا بال منذئذ إِلا في ضوء تلك الاستراتيجية وبناءً على دراسة وخطة فرعية ومشروع يُحضّر ويقرر ويُجرّب. ولربما يكون نهج التخطيط ناشئًا عن تكامل تجارب الحركة وثقافية قيادتها التنظيمية. ولكنه لم يزدهر إِلا عقب اللامركزية التي فرَّغت القيادة العليا من الهموم الصغيرة الكثيرة، حيث أَلقت بها إِلى الفروع المحلية أَو الوظيفية، وتحررت هي للنظر الإِجمالي في مغزى حركة الجماعة ومنظومتها الشاملة وفي مراجعة كسبها وتجربتها وللتقدير الكلى لمسير الحركة ومصيرها في إِطار من ظروف الواقع وآجال الزمن ومقاصد [[الإسلام]].
| |
| | |
| ومن شأن المؤمن أن يراجع نفسه ويحاسبها وينظر ما قدمت يداه، ولكن الجماعة لم تكن واعية بهذا الواجب في شأنها العام، حتى ترجمت معاني المحاسبة والتوبة الذاتية إِلى نظام منهجي في التقدير المتجرد الناقد لأَشكالها وأَعمالها والمحاسبة الوثيقة الناصحة والاعتبار بذلك في استدراك القصور واتخاذ خطط الإِصلاح. أَما محاسبة من يلي المسئولية فذلك أَمر معهود منذ حداثة الجماعة. ولكنه بعد عهد اللائحية والتخطيط أَصبح عن بينة، لوضوح الأَهداف والمعايير المثلي للأداء.وأَصبح تحرير التقارير ممارسة مضبوطة بأَنماطها العلمية الدقيقة وأَوقاتها الدورية المقررة، على بيّنتها تُحاسب هيئاتُ الائتمار والشورى القيادةَ ويحاسب القادة من هو دونهم في سلم المسئولية.
| |
| | |
| ظلت التربية فرضًا مفروضًا على الأَعضاء تستهدف ترقية دوافعهم الدينية وتجنيدها لزيادة الكسب والفعالية في حركة الدعوة ومجاهداتها. ثم دخل التدريب في عرف الجماعة منذ نهضتها التنظيمية في السنوات السبعين. فخلافًا لمدارس الدعاة التي تعزز روح التدين وقد تؤهل العضو لأَن يكون داعية و معلمًا، أَصبحت نظم التدريب هي التي تتعهده بتربية عملية تصوّب حوافزه الدينية إِلى عمل معين يُكلف به العضو ويؤهل له وتبصره بمقتضيات المهام التي يختص بها وتسعفه بكل التجارب المكتسبة في ذلك المجال وبكل أَساليب التعبئة الإِدارية والعدة الفنية لترقية الأَداء المطلوب. وتتنوع دورات التدريب حسب الحاجات، وتحضر مقرراتها ومناهجها بإِتقان، ويتولاها أَهل كفاءة في التدريب والإِدارة العامة. بل يقوم في كنف التنظيم معهد للتدريب متخصص.
| |
| | |
| كانت الجماعة لأول عهدها تتقى الوثائق المكتوبة لئلا ينفضح سر الجماعة. ولعلها أيضًا تأثرت بتقاليد عرفية تعوّل على التلقين والرواية والنقل الشفاهي لمضمون النظم والتكليفات والمقررات والمداولات. ولكنها – مع تطور التخطيط اللائحية والنهضة الإِدارية – قدرت ضرورة التوثيق لحفظ اللوائح والتجارب بيسر وضبط ولتسجيل وقائع الاجتماعات ومقرراتها وتقارير العمل ومخططاته. فكثر التوثيق كتابةً ثم تسجيلًا مرئيًا ومسموعًا بوجه يرتقى بأّداء الجماعة التنظيمي وطوَّر أبعاد دعوتها وخطابها وحفظ تجاربها وتاريخها. أَما تقديرات التأمين الحذرة فقد استُدركت بنظام دقيق لمنهج تحرير الوثائق وتناولها وحفظهما وأَرشفتها واستردادها – بنظام لم يكن كاملًا لكنه أجدى ولم يعرض لخطر أَمنى يذكر.
| |
| | |
| لم يكن معهودًا في أَنماط التنظيم الديني في الحياة التقليدية استعمال الوسائل الفنية، لأَنها طرأت في العصر الحديث فلم تقترن بالممارسة الدينية التقليدية. بل عندما غزت عالم [[الإسلام]] الوسائل الحديثة في الإدارة والآلات الراصدة والحاسبة والمعينة على الاتصال والتسجيل، إِنما كانت محصورة في القطاع الحديث من الحياة الذي نشأ على هامش من حياة التديّن. لكن الحركة – وعناصرها القيادية في القطاع الحديث علمًا أو نمط حياة، أخذت تستعين بالوسائل الفنية والتقنية الحديثة لترقي بأدائها إِلى أَبلغ الكفاءة.
| |
| | |
| ولم تكن سمات التنظيم المنهجي العلمي – نظمًا ولوائح، وتخطيطًا وبرمجةً، ومراجعة ومتابعة، وتدريبًا وتأهيلًا، وتوثيقًا وتسجيلًا، وتقنية وفنًا – محض تدابير تعودتها الجماعة.فهما كانت المبادرات الأُولى عفوية، فقد تم الوعي بعد ذلك بأَن الرقي بمناهج التنظيم الإسلامي وظيفة تدّين لازمة. ثم وُلّيت تلك الوظيفة إِلى جهاز متخصص يقوم في كل موقع تنظيمي ويسمى غالبًا مكتب التخطيط التنظيمي ليرعى ويعلم ويطور علم التنظيم الحديث في ضوء قيم [[الإسلام]] وعلوم الإِنسان الحديثة وتجاربه وممارسة الحركة المتطورة.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| ==== قضايا التنظيم ====
| |
| | |
| لم يكن تطور نحو التعقيد والتركيب ليمر دون أَن يُحدث جدالًا يبلغ أَحيانًا حد الأَزمة في كل طور جديد. ففي النظام المبسط كان من الميسور رؤية المقاصد الدينية التي يتوخاها كل جهاز أَو إِجراء، بل كانت الصور قريبة من أَعراف الكيانات الدينية المعهودة في القيادة والإتباع والتنا صح والتعاون والتعامل والعمل. لكن كثافة الإِدارات النمطية الموضوعية بشبكتها الغليظة ومصطلحاتها الغربية عمّت على بعض مغازيهَا ومقاصدها في الدين، وبدت كأنها بيروقراطية أو مهنية تعكف على تجويد العمل بشتى الفنون والآليات وتتنطَّع في شكلياته وإجرائياته غافلة عن العبادة وقصد المجاهدة متخذةً مصطلحات خالية من أي إِيحاءات دينية غير معروفة في الأدب الديني التقليدي. لذلك أَنكر بعض أَعضاء الجماعة جدوى هذا التطور من هذا الوجه، وأحيانًا من وجه الاستمساك بالقديم الذي عُهدت فيه صورُ التدين. وكان بعضهم يعاني أَزمة كلما انتقل التنظيم من طور إِلى طور جديد.
| |
| | |
| وعندما استوت الحركة أَضحت المصطلحات الإِدارية تذكِّر بأمر الدين وانجلى لغالب أَعضائها وجه العبادة الأَتم المتقنة في إِحكام التنظيم المبلوغ به أَقصى الاستطاعة من التركيب والترتيب والتقويم والكفاية التقنية، وأدركوا بالتجربة أَن ذلك أَفعل من حيث ترقية الكفاءة بالتخصص والتوزيع والتجويد الفني، وأَنه أَوفي بتعاليم الدين في التدبّر والشورى والمحاسبة والإِحسان والإِتقان والتعاون والوحدة، وأنه أوعب للأَعضاءِ وتباينِ وسعهم وعطائهم في الرأي أَو التنفيذ أَو القيادة أَو الانضباط واختلافِ مواقعهم في أَنحاء الأَرض وأَوضاع المجتمع وتنوع استعدادهم الفطري لبعض الأعمال والمناصب دون غيرها. وعمومًا لا يكون الدين شاملًا لشئون الحياة محيطًا بأوضاع البشر وكاملًا في مقامات الترقي إِلا استتبع تنظيمًا واسعًا مستوعبًا متطورًا.
| |
| | |
| ثم إِن الجماعة التي كانت لأَول عهدها تجد حرجا كلما أَقدمت على تعديل أَو تطوير في مصطلحاتها التنظيمية أَو دستورها أَو أَشكالها وينبري فيها من يتهم في التعديل تغييرًا ومغامرةً باستقرارها واستقامتها، تلك الجماعة نضجت وأصبحت تتقبل الجديد في الفكر والمنهج والتنظيم بغير ريبة أو حرج.
| |
| | |
| هكذا أصبح التطور الدائب في أَوضاع التنظيم وأَشكاله وعلاقاته سُنّةً للحركة، في كل طور ترسم صورة مثالية لمنهاج التنظيم ويتوهم راسموها أنها النموذج التنظيمي الأَتم حسب مقتضيات الشرع والواقع، ويراها البعض مثالًا للكمال لا يرجى أن يقاربه التطبيق إِلا لمامًا. ثم ما تلبث الحركة مع الوعي والزمن أَن تتجاوز ذلك التنظيم، فيبدو أَشد بساطة عما تقتضيه رؤى وظروف جديدة، فيُراجع رسمه نحو نموذج أَشد تركيبًا وأَوفي بأَغراض التديُّن في عهد جديد. وما دامت التجارب التنظيمية يبنى بعضها على بعض وتضطرد قُدمًا مقامًا في الإِحكام بعد مقام، فليس ذلك بضائر باستقرار الحركة لأَنها مستمرة على ذات الشرعية الإسلامية لكنها ترقى في نظام سعيها مقامًا بعد مقام زلفى إِلى الإِحسان.
| |
| | |
| التنظيم هيئة من الأَشكال تُعبِّر عن معان دينية هادية لحياة الجماعة. ولئن كانت المعاني لا تنفك عن المباني بلازمًا، فإن قضية جدلية كثيرًا ما تقع بين أهل الشكل والتنظيم الذي عهدوا فيه وسيلة مثلي لبلوغ الهدف فوقروه، وأهل الرسالة الذين لا يرونه إِلا وسيلة لمقصد ولا يبالون بتجاوزه متى لاحت وسيلة أبلغ للقصد. هذا الجدال فرع عن خلاف أهل الظاهر وأهل الباطن، وأهل العصبية لهيئة الجماعة المتشبثين بالوسائل وأهل القوامية بالحق المطلق والكفاية العليا. وخير المذاهب في كل ذلك الجدال ما كان عدلًا واتزانًا يُوجد طرفي القضية ولا يشقها شقًا ليُهدر أَحدهما ويُؤثر الآخر.
| |
| | |
| ويمكن في التقويم الإجمالي المقارن أَن يُقال بأن الحركة الإسلامية في [[السودان]] كانت برسالتيها ترى الجماعة أَكبر من أَي اسم أو شكل تتخذه لبعض الأَحايين. ولذلك هان عليها أَن تكبت اسم الإِخوان المسلمين كثيرًا، وأَن تبدل نظمها الُأولى طورًا بعد طور. بل كان أعضاء الجماعة يرون جوهر الدعوة وقضية [[الإسلام]] أَكبر من الوسائط التنظيمية ووراء دائرتها بل أَولى من الهيئة الكلية لجماعتهم.
| |
| | |
| ولذلك هان عليهم أن يصرفوا وظائف من العمل الإسلامي إِلى محاور مستقلة عن أطر تنظيمهم العام، حتى دفعوا بجماعتهم كلها بأن تنخرط في هيئة أَكبر وأَقرب لتمكين الدين، ولذلك عن مبادرة جماعية، ونعنى ذلك انخراط الإِخوان المسلمين في الجبهة الإسلامية القوميّة.
| |
| | |
| ولقضية شكل التنظيم ورسالته وجه آخر، هو أَن التنظيم قواعدُ ضابطة تجسد عبرة تجربة سابقة بلورت أَعرافًا وتدابير وطرقًا حسنى لتحقيق الاتساق وبلوغ المقاصد فصُبت في نص التنظيم وصورته حتى يلتزمها العاملون فلا تقع بينهم الفوضى ولا المشاكسة والارتباك في أَداء مهام الجماعة. ولكن الحياة لا تنفد صور ابتلاءاتها وظروفها. فإِذا انضبطت الجماعة في نظامها مطلقًا أَوشكت أَن تجمد وتقعد به عن الاستجابة لمقتضيات الصروف المتجددة. ومن ثم لابد من قدر من المرونة والحرية توازن النظام وتتيح هامشًا من المبادرات والطلاقة لتتبلور مقترحات جديدة في شكل التنظيم تكون مادةً قد تعتمد رسميًا فيما بعد فتثرى نظام الجماعة. وهكذا تتكامل الحرية والنظام؛ الحرية تهتدي بسنة نظامية سابقة وتبنى عليها لتتجاوزها نحو ما هو أمثل من سنة نظامية متجددة، لتدور الدورة باتزان وتتقدم الحركة. ولذلك زُين لأَهل الحركة الإسلامية في [[السودان]] – وقد كانوا بفطرة البداوة وبغياب السلطة في تاريخهم أَميلَ للطلاقة وأَشد تفلُّتًا من الانضباط – أَن يلفوا حكمة إِيجابية في مرونة الالتزام مع محاولتهم أَن يربوا أَنفسهم ويحملوها على طاعة النظام، وأن يروا دليلًا شرعيًا على ذلك من سنة الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يطيعون في المواطن حسب خطرها، وكانوا يأخذون ويردون مع الرسول المطاع صلى الله عليه وسلم ليوازنوا بين النصيحة والإتباع والتكليف العيني والاجتماع.
| |
| | |
| بل إِن قواعد التنظيم – التي بدأت تهدف لتحقيق النمطية في الأَعضاء وفي حركتهم لتضمن الرشد والاستقامة – أخذت بعد اطمئنان الحركة تتسع لقدر من التباين، حتى يجد كل عضو فيما يليه مجالًا للتدين في الجماعة حسب ما آتاه الله، وحتى يجد كل تنظيم فرعي يقوم في إِقليم محلى أو على وظيفة خاصة في العمل الإسلامي مجالًا لتكييف حركته لخصوص ما يليه من ابتلاء وما يرجوه من كسب دون خروج عن النسق العام لمنظومة الحركة. هكذا كانت صور الحركة في الأَقاليم المختلفة تتباين شيئًا ما في أَولويات همها وخصائص نهجها، وكانت التنظيمات المستقلة تختلف كثيرًا في ظهور صبغتها الإسلامية أَو قطعية نُظمها وضوابطها، بل إِن الأَعضاء في الجماعة الإسلامية الواحدة يتباينون ويتسع لتباينهم نظامُ العضوية. كل تلك وجوه للحرية في توخي معاني التدين التامة دون تفريط في نظام الجماعة اللازمة لتمام التدين.
| |
| | |
| التنظيم ذريعة للوحدة، وكثافته تعزيز لها. فلا يحيط بمقاصد الدين التوحيدي الشاملة وبجوانب الحياة فيوحدها لوجه الله – الإِجماعة منظمة ذات شعاب وفروع تقوم على كل ثغرة بكل وظيفة يتم بها كمال الدين، وذات علاقات منتظمة تكفل الاتصال والتنسيق الناجز حتى لا تضل الشعاب. لكن التنظيم إِذا تكثَّف تشعبيه، عرضةٌ لأَن تترهل أطره فيثقل الحركة أو يربكها، وإِذا بسطت فروعه المحلية والوظيفية عرضة لأن تترامى أبعاده وينقطع بعضه عن بعض. ولذلك كانت التطورات التي بدلت التنظيمَ الأَولى البسيط المركز مثارَ جدل ومظنة خطر على وحدة الجماعة ووحدة منهجها المستقيم.
| |
| | |
| والحق أن تلك التطورات التركيبية اللامركزية كانت موازنةً بين دواعي الوحدة ودواعي البسط بوجوه تحفظهما جميعًا وتحفظ بعضها ببعض. فمن وجه كان بسط شعب التنظيم الفرعية في جملة كيانات متخصصة أَو محلية أَو مستقلة بسطًا للمشاركة والشورى. والمشاركة والشورى ضمانتان للوحدة بغيرهما يقع الشعور بالمجانبة والانفضاض، فضلاً عما فيهما من تجميع الجهد والرأي وعدم الاستغناء بكسب الجهاز المركزي القيادي.
| |
| | |
| ومن وجه آخر أدى التوزيع الجغرافي والوظيفي للمهام إِلى تفريغ القيادة العُليا لتركِّز اهتمامات بالكليات والخطط التي تُشكّل إِطار الوحدة للجماعة. فضلًا عما في التوزيع من تجويد للعمل بالتخصص أَو تقريب للدعوة إِلى من يليها من المخاطبين المعنيين بمواقعهم أَو أوضاعهم واهتماماتهم.
| |
| | |
| ومن وجه ثالث أخطر شأنا، لا يتيسرَّ لجهاز مركزي مركَّز مهما بلغت فعاليته أن يحيط بشئون الحياة جميعًا فيحقق وحدتها في عبادة الله، بل يلزمه أَن ينبسط ويفوض ويوكل بعض الأُمور في بعض الأَماكن إِلى من يليها ويباشرها بقوة. ولمَّا كانت الحركة الإسلامية نموذجًا لمجتمع مسلم موجو، وكان المجتمع المسلم الفاضل لا يعوِّل على السلطان وحده في الإِحاطة بوظائف حياته وتوحيدها بل يعمر بالمبادارت الحرة الفردية والمنظمة من قبل الدولة المركزية حتى يحقق شمول حياته ويوحدها من تلقاء العمل الخاص والعام والتدين المستقل والمتعاون، كذلك لا ينبغي لجماعة تريد أَن تتربي وتربي مجتمعها نحو هذا المثال أَن تستعمل السلطة المركزية المباشرة وحدها أَداة لكل عمل في كل مكان وتحسب في ذلك وحدتها الصارمة. بل شأنها أَن تعول أيضًا على الوجدان المؤمن الحُر وتثق في مبادراته المستقلة وتهيئ له أسباب البُعد من السلطة المركزية ليتربى على المسئولية وليوجه كسبه الخاص بما ينسج وحدة متينة مع جماعة المؤمنين. فقدٌر من الحرية للأعضاء ألا يصبوا في نمطية ضابطة وللأَجهزة أَلا تُشدَّ بتبعية آلية – ضمان لتديّن أوسع وأوقع أثرًا ولوحدةٍ قوامها الوجدان والسلطان معًا.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === مسائل التمويل والأنفاق ===
| |
| | |
| ==== الاشتراكات ====
| |
| | |
| كانت الاشتراكات الدورية التي يؤديها الأَعضاء من دخولهم أهم موارد الجماعة. لكن الوظيفة التربوية لأَداء الاشتراك كانت هي الأَخطر شأنًا, فالحاجة إلى المال في العهود الأُولى للحركة كانت جدُ محدودة، ولم تكن النفقات تُمثل عبئًا كبيرًا يجعل الفرض الأَول للاشتراكات في حصيلتها من الإِيراد. ولم تكن التكاليف التي يتكلفها الأَعضاء عندئذ كثيرةً ولا المناشط التي يُربون بها كثيفة، فكان التركيز على الاشتراك – بعد نظام الأُسر – تكليفًا تربويًا يُزكي العضو ويعلمه العطاء و[[الجهاد]] بالمال ويؤكد التزامه بالجماعة وشِركه في كسبها. فكانت نسبة الوفاء بالاشتراك المقرر معيارًا لزكاة العضو وولائه ولمستوى الشعبة التنظيمية المعينَّة.
| |
| | |
| ومع تعاظم حاجت الحركة للإِنفاق تأكد دور المال لمقابلة أَوجه الصرف وتناقص دور الاشتراكات في سداد حاجات الإِنفاق. وبعد أَن كان الاشتراك تكليفًا مكتوبًا على العضو في دستور الجماعة بنسبة من دخله يعينِّها النص، حذف النص في التعديلات الدستورية الأخيرة واستُغنى عنه بنصوص عامة في نظام التمويل. وبعد أَن كانت حسابات الاشتراكات من أَهم التقارير التي ترد على القيادة المركزية في مستوي الأَداء، حُجب الاختصاص وآل مع وظيفة التربية التي يرتبط بها إلى التنظيمات المحلية وفاقًا لنظام اللامركزية. وما انفكت الاشتراكات تسهم بشيء مقدر في التربية ومقابلة الإِنفاق – الداخلية منها – بأقدارها المتقلصة بسبب بؤس [[السودان]] – تباشرها التنظيمات الدنيا. والخارجية من المغتربين ترد للقيادة رأسًا.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| ==== الاستثمار ====
| |
| | |
| انتبهت الجماعة لجدوى الاستثمار موردًا للمال منذ عهودها الأُولى. ولكن مبادارتها باءت بالخسران. فلم تكن خبرة أَعضائها مواتية، بل لم تكن الأَمانة في شأن المال مما تزود به الأَعضاء كثيرًا في تلك الأيام التي كانت أَغراض التربية فيها منحصرة فيما يناسب الطلاب. كان هاجس الأَمن عامل تخذيل أيضًا. لكن تطور الحركة الذي أَدخل في تَديُّنها العمل الاقتصادي زاد من الخبرة والأَمانة، ونمو الوعي التخطيطي قوّي دواعي الاستثمار، فضلًا عن تنامي مصارف الحركة بما لا تُحيط به الاشتراكات. فاتخذت الحركة استثمارات لاقت رواجًا وأسهمت بنسبةً غالبة في نفقات الجماعة.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| ==== التبرع ====
| |
| | |
| لئن كانت الصدقة هي قوام المالية العامة في مجتمع السُنة لاسيما في مقابلة النفقات [[الجهاد]] ية، فإنها لم تكن معهودة في الحركة الإسلامية ب[[السودان]]، لأَن سوادها الأَعظم من الطلاب المعسرين. لكن مع ولوج أعضاء الحركة في مجال التجارة والعمل في المهاجر العربية، ومع توافر المؤسسات المالية الإسلامية التي هيأت للملتزمين بأحكام الدين مجالًا في اعتمادات التمويل كسائر رجال الأَعمال ومكنتهم من المنافسة والربح، ومع التحام الحركة بالحياة العامة وما استصحبه ذلك من تحديات تستفز المؤمن للعطاء، مع كل ذلك تباركت التبرعات بركةً عظيمة، مهما كانت بطبيعتها مما يقابل نفقات الحملات والانتخابات الطارئة ولا يمكن التخطيط والتعويل عليها في مقابلة النفقات الجارية، ومهما كانت تتصَّوب بوجوه غير مناسبة لأولويات الحركة. فبعض التنظيمات الفرعية غير السياسية تستقطب تبرعات أَكثر، لأَن المعطين يجدون في ذلك بعض الأَمن السياسي ويهشون لدعوة الإِنفاق في وجوه تناسب تصورهم للصدقة في الدين. وقد عَوَّلت الحركة على كسبها الذاتي واجتنبت الاعتماد على تبرعات من مصادر خارجية خشية التعرض للضغوط والارتهان لتقديرات الآخرين أو الاتكال عليهم. ولئن حفظت الحركة استقلاها بالعزوف عن تلقي الدعم من جهات شتى، فلقد وجدت أَن بعض الجهات الإسلامية ذاتها تتورع عن الضغوط على من يتعامل معها بطلب الدعم.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| ==== نهج الإِنفاق ====
| |
| | |
| بدأت الجماعة بالطبع تنفق عفوًا مما يرد إِليها كيفما اتفق، لا تبالي بضبط أولويات الإِنفاق أَو أَوقاته أَو حساباته. فأَصبحت تتخذ لها موازنة سنوية وتديرها بكل فنون الإِدارة المالية الحديثة. وتنبني الموازنة على برامج العمل السنوية وتعبر عن الأَولويات التي تقدِّرها الجماعة في حاجة كل قطاع أو ضرورة إيثاره أو النهضة به. ولم تكن الموازنات تقدر على قدر المنظور فعلًا من إِيراد. فالحركة ذات نهج توكلي جرئ فكانت سنتها أَن تتسع في الوفاء بحاجات الإِنفاق وأَن تعتمد المشروعات اللازمة بغير مقابل معلوم رجاء أَن يدفع ذلك للاجتهاد في التحصيل وأَن يرزق الله من حيث لا تحتسب الجماعة. وقد أُثبتت تلك [[السياسة]] جدواها.
| |
| | |
| وكانت الجماعة تحاول أَن تحفظ معادلة بين التمويل الرسمي والتعويل على الجهد الطوعي، حتى لا تضعف لدى العاملين روح العطاء و[[الجهاد]] بخاص أَموالهم، وحتى لا تحرم الحركة من إمكانات مذخورة فيها، وحتى لا تسرى روح الارتزاق والحرص على الأَجر العاجل أَو الارتهان لشرط توافر التمويل الميسور. ولكن تلك التقديرات لم تدفع بالحركة إلى أَن تظلم في الأَجر للعاملين المتفرغين لها أَو أَن تُقتِّر في إنفاقها الرسمي دون الحد اللازم – لاسيما أَن [[السودان]] بلد فقير، ولو ترك الأَعضاء لطوعهم ووسعهم لعجزوا عن الوفاء بحاجات حركة جليلة.
| |
| | |
| لكن ازدياد السعة التمويلية للجماعة – علاوة على أثره المحذور في تشجيع روح الاتكال – غدا يشكل فتنة للمقبلين الراغبين في مال كثير يتوهمونه عندها، ولبعض أَعضائها الذين يرون خير التدين في التزاهد والتجافي عن المال. وليس ذلك أَن الجماعة تنفق بذخًا، بل ما تزال المفارقة كبيرة بين حاجة العمل الممكن وتوافر الاعتمادات. ولكنها أحوال بلد محروم ومبتلى بمشكلات التمويل ضيقه وسعته. أَما ضوابط الإِنفاق، فالجماعة لأَسباب شتى لا تحفظ حسابات مراجعة، ولكنها تضبط حسابها بدرجة ما، ولا تعول على الثقة وحدها، بالرغم من أَن مستوى الأمانة تطور مع تطور التربية المناسبة، ولم تعرف أوضاعها المالية خطير شبهة.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === منهج الإمارة والشورى ===
| |
| | |
| ==== تطور نظام القيادة ====
| |
| | |
| كانت أُصول نظام القيادة في الجماعة هي أُصول نظام الجماعة كله: الدين والتراث والبيئة والعصر. وما كان للجماعة أَن تبدأ مستوية في فقه القيادة المستنبط من أصول الشرع، فإِن أُصول الثقافة الإسلامية إِنما كانت تبدأ فعلًا بالتراث سننًا فقهية وعملية ثم تتوسل به إِلى أُصول الدين. بل بدأت الحركة مقلدةً لنماذج القيادة من حولها ثم حاولت من بعد تأصيلها بالمرجع التراثي ثم الشرعي.
| |
| | |
| ولم تكن قضايا القيادة ذات خطر لأول العهد. فالحركة كانت محدودة منحصرة في ذاتها بسريِّتها وفي البيئة الطلابية بنشأتها، فاتفق للفئة الأولى من الرواد أن يُشكِّلوا قيادة جماعية لمن انظم إليهم. وكانوا في عمر ووضع واحد لا يتمايزون. لولا أن ثارت بينهم ثائرات النزاع على مقامات القيادة، فاضطرب أَمرهم قليلًا ليستقر على مبدأ الجماعية الذي كان أَشبه بما حولهم من نظام الجمعيات الطلابية والذي اعتمد في المؤتمر التأسيسي. ومع تزايد الاتصال بالحركة الإسلامية في مصر وباكستان برزت مناصب وألقاب للقيادة أقربت إلى أَنماط القيادة الدينية التقليدية كما كيفَّتها الحركة الإسلامية الحديثة، فتقلص نصيب الشورى في عهد المراقب العام، يوم خرجت قيادة الجماعة من البيئة الطلابية المتساوية وأظلَّ [[السودان]] نظام الفريق عبود غير الديمقراطي. لكن المراجعات الدستورية في أوائل السنوات الستين استعادت للجماعة أصالتها الشورية وقيادتها الجماعية. واتسعت دائرة الشورى أيام الديمقراطية ال[[أكتوبر]]ية في الستينات، لاسيما أن الجماعة اتسعت مناشطها وكثرت فيها المسائل الخلافية. وطرأ تعديل في أعقاب هذه المرحلة وأزماتها التنظيمية أدى إِلى تعزيز موقف العلَم الأَول في القيادة بانتخابه من قاعدة أوسع من رفاقه وتخويله ترشيحهم للتولية، وذلك لضمان وحدة مركز الحركة القيادي دون تمييز له بسلطة دون الشورى. وما انفكت التطورات تدرك أوضاع القيادة، لكن طبيعتها وموازناتها الأساسية ظلت ثابتة، لاسيِّما في شأن الشورى – مهما كانت الإِجراءات – والتضامن الجماعي مهما قُسّمت المسئوليات.
| |
| | |
| هكذا تميّزت الجماعة في [[السودان]] بأنها لم تنشأ عن مبادرة شيخ فرد متقدم بكسبه الديني أو التاريخي على الآخرين يقوم فيهم مرجعًا للتوجيه مُغنيًا عن توسيع القيادة وتركيب التنظيم ولو إِلى حين. بل كانوا طلبة سواء في العمر والكسب العلمي. ثم تطوَّرت الحركة وتمكَّنت فيها الشورى في نظامها المركزي، وانبسطت بنظام لا مركزي محلي ووظيفي، ثم تعاظمت أبعادها وتوطَّدت تقاليدها بما لا يحيط بها قائد فرد من بعد. ومن هم اجتنبت الجماعة مصطلحات أصيلة في التقاليد الإسلامية – مثل: (الإمارة) (والإِمامة) (والإِرشاد)، وآثرت مصطلحا أقرب إِلى التقاليد الديمقراطية، مثل الأمانة والمسئولية و(القيادة). ولربما تتفاوت كسوب الطبقة القيادية للجماعة، ولكنهم لا ينتهون إِلى شيخ واحد أَو فئة معدودة يرتهنون لها في الرأي والطاقة القيادية للجماعة، ولكنهم لا ينتهون إِلى شيخ واحد أَو فئة معدودة يرتهنون لها في الرأي والطاقة وينفعلون بمزاجها ويجمدون بجمودها ويعكفون على ذكرى الميت إذا مات أو الغائب إذا فات، وقد مات منهم أو فات البعض دون أَن يخلف ثغرة فادحة. ولقد جرى أخيرًا على المسئول الأَول مصطلح (الشيخ)، سوى أَنه بدأ رمز تسميةٍ سرية أيام القهر ثم غدا لقبًا لا يرقى لمغزى المصطلح العرفي.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| ==== تركيب الهيئات القيادية ====
| |
| | |
| الأصل في تكوين هيئات القيادة جميعًا: المؤتمر العام، ومجلس الشورى، والقيادة التنفيذية، على الصعيد المركزي للجماعة أوفي تشكيلها الفرعي، هو الانتخاب.
| |
| | |
| ونريد هنا أن نحلل من واقع التجربة تركيب الفئة القيادية من حيث العوامل التي قد تدعو لتزكية الأفراد لولاية الأمر بالانتخاب في الجماعة. ولا ريب أن الجهات التي تُزكى وتَنتخب تتحرى الأتقى والأقوى وفاق معيار الشرع، وأن الجماعة بفضل الله عليها حتى بعد أن تعاظمت أبعادها الشعبية لم تعرف التكتلات والعصبيات والأهواء في تولية الأمر هذا أمر سنعود إليه، وإِنما نتناول هنا بوجه خاص تلك التقديرات التي بدا أَن الجهات المُنتَخِبة تُقدَّرها في التحقق من قوة المرشح للولاية، والتي صاغت تركيب سمات القيادة التي كانت تتولي الأمر فعلًا في تاريخ الجماعة القريب.
| |
| | |
| '''أهل السبق والخبرة:'''
| |
| | |
| أُولئك هم السابقون الأولون الذين أسسوا الحركة وأعطوا وجاهدوا حين العسر والغربة وصبروا وثبتوا على العهد، فأصبحوا رموزًا للولاء معهودين مأمونين وكنوزًا للخبرة حُكماء ناضجين وأَعلامًا تتعلق بهم تكاليف [[الجهاد]] الإسلامي في المجتمع ووجوهًا تعبر عن الدعوة إِلى [[الإسلام]]. أولئك أَقرب دائمًا أَن يستديمهم إخوانهم في القيادة بالانتخابات تقديرا لسابقتهم أو استفادةً من خبرتهم أو وجاهتهم أو توقيرًا لتقدمهم في السن في مجتمع يحترم الكبار.
| |
| | |
| وكثيرًا ما يُستبقى أهل السابقة في قيادة الحركات لفترات متطاولة لمثل ما تقدَّم من تقديرات، فتبدأ الحركة بالشباب النزّاع للتجديد والخروج على القديم، وتمضى طبقة المؤسسين الشباب يُجسدون مكتسبات الحركة ويُكدِّسون خبراتها ويتميزون بذلك في الأهلية لقيادتها بينما يتقدمون في العمر. ثم يأتي عهد يتكاثر فيه التابعون اللاحقون وتبدو القيادات القديمة – مهما وُقّرت لما مضى – طبقة امتياز تحتكر القيادة وحملة تصورات غير مناسبة لجديد الابتلاءات. وبالفعل تتقادم القيادة عمرا وعلمًا وتجمد فتجمد بها الحركة. ومثال ذلك مشهور في حاضر العالم، لاسيما في الحركة الشيوعية الحديثة، بل مثله مشهور في تاريخ الحركات الإسلامية ، حينما يشكّل التاريخ المحترم أحيانًا ثقلًا يعوق حركة التقدم فتتراكم حاجات التطور وتنسدّ أبوابه حتى ينفجر التغيير دفعة واحدة عنيفًا غير رقيق استدركا لمقتضيات التجديد.
| |
| | |
| والحركة الإسلامية في [[السودان]] لم تحمل طائفة كبيرة من ذوي السابقة التاريخية فيها، ولم يخل صفها القيادي من بعضهم، ولكن عمرها لمَّا يتطاول حتى تتأزم فوارق الأجيال.وحركة تغيير القيادة بها كانت مرنة لا تَحَرُّج فيها من أن يرتاح المجاهد القديم أو يتأخر إذا تضاءل عطاؤه أو توافر خلفه.
| |
| | |
| '''أهل الشباب والتجديد:'''
| |
| | |
| وهم الذين تتوخى فيهم كل حركة نفحة الانبعاث الموصول ودفعة الحياة المتجددة لأنهم أقرب إلى الوعي بطوارئ الابتلاءات وأوفر طاقة لتكاليف الحركة وأسرع تحررًا من أسر التاريخ وتصوبًا على المستقبل.
| |
| | |
| والحركة الإسلامية في [[السودان]] ظلَّت حركة نامية متعاظمة سوادها الأَعظم في شبابها، وروح التجديد ونُشدان التقدم المضطرد متمكنة منها. وهي حركة فعَّالة في المجتمع تجند طاقة عظيمة للوفاء بتكاليفها. وكل ذلك يدعو إِلى تغذية القيادة بعنصر الشباب يمثل القاعدة الأكبر، ويحمل الموقف المناسب للاجتهاد والتجديد والتوكل، ويبذل الطاقة المكافئة لحاجات الحركة وأعبائها.
| |
| | |
| وتكاد هيئة القيادة في الحركة الإسلامية اليوم تمثل الأجيال المتلاحقة جميعًا من السابقين الكبار إلى ناشئة [[الإسلام]] الواعدة – هكذا لا تتمايز الأجيال فتتجانب أو تنقطع أو تتخاصم، بل تتحد ذلك اتفاقًا، لكن عن وعىٍ معتدل منبث في القاعدة الانتخابية ورشدٍ يتواصى به الذين يزكون المرشحين للولايات القيادية.
| |
| | |
| '''أهل الدعوة والخطاب:'''
| |
| | |
| هؤلاء هم الذين يباشرون نشر الدعوة بالخطاب والموقف العام كتابةً وكلامًا يتقنون لغتها وينصبون رمزها الظاهر ويمثلون الجماعة لدى الرأي العام. هؤلاء أقرب – في حركة سرية قد لا يتعارف أهلها جميعًا – أن يُعَرفوا فيُقدَّموا للولايات، وأولى – في حركة تهتم بمجتمعها وفعلها فيه – أن يقدموا استثمارًا لكسبهم الجماهيري واعتبارًا لقوتهم الخارجية، فشهرتهم في الداخل والخارج تزكِّيهم وقد تفرضهم شيئًا ما لدى الجماعة.
| |
| | |
| وإذا تأمل المرء عناصر القيادة وجد فيهم طائفة من هؤلاء قد لا يتميزون بالسابقة أو العطاء أو بحسن الإِشارة أَو الإِدارة إلا أَنهم وجوه الحركة لدى مجتمع الخطاب.
| |
| | |
| '''أهل العطاء والتنظيم الداخلي:'''
| |
| | |
| غالب هؤلاء عناصر لا تظهر على الملأـ بل هم فعاليات خفية يقومون بالمهام التنظيمية الداخلية ويرعون حياة الجماعة أ, يكونون قد أعطوا جليلًا من [[الجهاد]] بالمال والذات في غير شهرة. فإذا عُرف أَمر هؤلاء وقَدُرهم في صفوف الجماعة كان ذلك أَدعى إِلى أن يقدمهم لمواقع القيادة، تقديرًا لعطائهم لأنهم أهل للجزاء ومظنة لمزيد عطاء أو احتياجًا لأمثالهم، فلا قِوَام لجماعة بأَعلامها ودعاتها إلا أن تدعمها إدارة داخلية فعالة وعطاء تنظيمي ومدد حركي وأن يتجرد لذلك ذو إرادة ووسع وكفاءة. وقد لا يعرف هؤلاء فيتعرضون للتزكية العامة بين الجماعة، وهنا تكمن الحكمة في الانتخاب غير المباشر الذي يتولاه الفائزون في الانتخاب الأوِّلى المباشر، فالغالب أن يكون فيهم قياديون سابقون يعرفون من لا تشهره طبيعة عمله أومن تخفيه الجماعة عمدًا واستئمانًا، ويقدرون أهلياتهم والحاجة إِليهم، فيزكونهم للانتخاب المستدرك الذي يضمهم للقيادة.
| |
| | |
| وكل هذه الظواهر بادية في تجربة الحركة الإسلامية في [[السودان]] وفي خلال صفها القيادي.
| |
| | |
| '''أهل السمت الديني التقليدي:'''
| |
| | |
| مهما كانت قيادة الجماعة كافة ملتزمة بمعيار التدين الحق أعلى درجات الالتزام، فإن للمجتمع التقليدي معاييره في من يكون رجل الدين الشيخ القيادي!! ويتركب المعيار العرفي من مظهر عمر وسَمتٍ وزى، ومسلك تنسك وتورع وتزهد، وأهليَّة فقه وعلم تراثي، وربما خلفية ميراث صالح. وتحتاج الجماعة الإسلامية المجددة ألا تنقطع عن مجتمعها المتدين أو تصادمه، وأن تحفظ صورةً ومصداقية دينية لتمد دعوتها وأثرها بيسر. ويلزمها من ثم أن تُبرز في صف قيادتها بعضَ من يمثلون الشرعية الدينية التقليدية.
| |
| | |
| وفي [[السودان]] – كما يرد لاحقًا – لا تتمكن طبقة تقليدية دينية غيورة. لكن الحركة كسبت مجتمعها بمواقف شتى منها ظهور الرمز القيادي الممثل لمن هو عالم أو فكي (فقيه) أو شيخ (صوفي) أو مولى عند جمهور المتدينين.
| |
| | |
| '''أهل الثقافة الحديثة:'''
| |
| | |
| ما دامت الحركة تجديدية رائحة في القطاع الحديث تستمد قوتها في المجتمع من قوته القيادية والتأثيرية، فقد كان لزامًا أن يكون غالب قيادييها من النموذج المثقف الحديث بدرجاتهم العلمية النظامية ونسبتهم المهنية. هؤلاء قوام مراحل تأسيس الحركة ورموز قوتها في القطاع الحديث الرائد، وهم أيضًا من أسباب هيْبتها في القطاع التقليدي الذي قد لا يتوخّى قيادة شأن الدين في أمثال هؤلاء لكنه يرجوهم لشؤون دنياه ويعلم أنهم أهل بصرٍ وخبرة في ذلك لا سيمِّا حين يُلاحظ فيهم عجيب الجمع بين دعوة الدين والدنيا.
| |
| | |
| وسواء رجع الأمر إِلى طول مراحل الصفة النخبوية وتمكّن روحها في تاريخ الحركة، أم إِلى استسلام العوام لقيادة الصفوة وفتنة المجتمع بزينة الشهادات العليا، فإن قيادة الجماعة الإسلامية ب[[السودان]] قد غلب عليها عنصر الثقافة الحديثة، حتى أَلجأ الهيئات الانتخابية أن تستدرك الَأمر وتصححه بتطعيم عامد من غير هؤلاء خشية أن تعتل القيادة طبقيًا في همومها ومذاهبها وأساليبها أو تفتقد العدل والاعتدال والوسطية والتيسير.
| |
| | |
| '''أهل التمثيل المخصوص:'''
| |
| | |
| ما دامت الانتخابات الحرة هي طريقة تولية القيادة، فحرى بالقيادة أن تأتى ممثلةً للقاعدة. ومثل التقديرات السابقة التي يتخذها الناخبون الأوليون والثانويون لترشيد قرارهم الانتخابي إنما تُعزَّز صدق التمثيل لمختلف الأجيال والثقافات والكسوب في الجماعة. لكن الانتخاب العام مهما كان حراً راشداً لا يخلو من ثغرات في تمام التمثيل. فكانت إجراءات الضم بالانتخاب التكميلي غير المباشر تتيح فرصة لاستدراك ذلك، بأن يتواصى الناخبون بتفضيل من يمثل أي فئة مخصوصة في الجماعة يفوتها التمثيل بالانتخاب العفو. ذلك أن الجماعة بعد تمام وعيها بذاتها غدت حريصة على استقامة عضويتها وقيادتها من حيث التركيب، حتى لا تتشوه صورتها أو وجهتها، بل حتى لا يتشوه مغزى الدعوة والحركة الإسلامية من باب الغفلة. فالناخبون مهما اجتهدوا في اتقاء العصبية والميل لا يملكون ألا ينفعلوا بما يليهم ويعهدون،وألا يسهوا عن رعاية ما يغيب قبل التذكير. فالدعوة قد تستوعب قطاعًا معينًا من المجتمع بأسرع مما يُصَعَّد ممثلون له إلى مناصب القيادة بمراحل التزكية والترقية المتثبتة في جماعة ذات قيم صارمة. والدعوة قد تتجه نحو قطاع ذي خطر وتستدعى أن يُخاطب من تلقاء قيادة الحركة بمن يمثلونه لموافاة وعْدِه قبل أن يتمكن ويعبِّر تلقاءً عن حضوره بدفع ممثليه إلى القيادة. وتأكيدًا لهذا الحرص على الاعتدال في التركيب والتعبير، وتحقيقًا لتمثيل هذه الفئات التي قد يغيب الوعي بحجمها أو يتأخر تمثيلها، كَيفت نظمُ الجماعة الانتخابية طريقة تمثيل مخصوص بمقاعد تُعزل وتُجعل لمن يُنتخب من أي من هذه الفئات، بينما يُترك تمثيل سائر الفئات والتصنيفات التي يشتمل عليها المجتمع عفوًا، اطمئنانًا بأنه متحقق غالبًا ولا يضر كثيرًا إن فات مرة أو أخرى.
| |
| | |
| فمن الفئات ذات الحجم العظيم والعطاء الجليل في مجمل حركة التربية والدعوة و[[الجهاد]] الإسلامية : الطلاب. لكنهم باستقلال تنظيماتهم وصغر أعمارهم كثيرًا ما كان يفوت تمثيلهم في هيئات القيادة الشورية، حتى استُدرِكُ وضعهم بتخصيص نسبة ينتخبونها هم وتُعتَمد في سياق الهيئة العامة للشورى. ومن الفئات التي تكاثرت مؤخرًا ولم يكن لها قديمًا نصيب في القيادات يتكاثر بتكاثرها طبيعيًا النساء.
| |
| | |
| ثم استُدرِك تمثيلهن بضم عناصر رمزية، حتى إذا لم يعد ذلك وافيًا جُعل لهن نصيب مقدر من تمثيل مضمون. ومن الفئات القادمة إلى الحركة الإسلامية النامية في عدها ووعدها أهل جنوب [[السودان]]، حيث أُغفل [[الإسلام]] الجنوبي وكُبِت طويلًا ولم يجد مجالًا للتعبير والتأثير أو مدخلًا إلى سواد المسلمين إلا من خلال انسلاكه في الحركة الإسلامية ، وحق له أن يتمثل في قيادتها بمثل مستقبله المرجو لا حاضره المظلوم.
| |
| | |
| وعمومًا فإن الحركة الإسلامية بعد أن بسطت رواقها لتستوعب الشعب قاطبة، اتخذت نظامًا للانتخاب النسبي الذي يخصص لكل إقليم نصيبًا معلومًا بحد أدنى من القاعد لضمان عدالة التمثيل وشمول القيادة، بحيث يكون فيها من ينطق بلسان كل قوم ويبلغهم رسالة الجماعة. ذلك في مجال الهيئات الشورية، وقد تُراعي الموازنات الإِقليمية بغير أحكام قطعية في تكوينات القيادة التنفذية، كما يُراعى تمثيل الفئات المظلومة من غير ما ذكرنا من الطلاب والنساء.
| |
| | |
| | |
| ==== صلات القيادة والقاعدة ====
| |
| | |
| '''التمثيل:'''
| |
| | |
| أَوثق ما يصل القيادة بالقاعدة في الحركة الإسلامية هو التمثيل. فالجماعة كلها موصولة بوحدة العقيدة والشريعة التي يُسلّم ويلتزم بها الَأعضاء عن إيمان قوي ووعي عميق، وبوحدة رسالة الحركة التي تُميِّز الجماعة في المجتمع المسلم دعوةً وجهادًا. والقادة في الجماعة يمثلون هذه المعاني المشتركة بأكمل وجه ويقومون رموزًا لمغازى الدين وخصائص الحركة في نظر القاعدة.
| |
| | |
| ثم يأتي نظام الانتخاب مباشرًا أو غير مباشر ليغزز صلة التمثيل المتقدم وليؤكد شرعيته بتأسيسه على الرضي عن عين الذين يتولون مناصب القيادة رضاءً إجرائيًا شكليًا، على ما يرد تفصيله لاحقًا عند الكلام في شورى التولية.
| |
| | |
| ويتحقق تمام التمثيل بتكامل تركيب القيادة على النحو الذي قدمنا ذكره، مما ينفي المجانبة التي قد تنشأ من ظن احتكار القيادة لجيل دون جيل، أو صفوة مخصوصة، أو طبقة أو فئة معينة.
| |
| | |
| ولا تبدو مناصب القيادة منقطعة عن القاعدة كما يقع في بعض الأحوال حيث تتصلب المداخل إلى طبقة القيادة ويستمر الذين يتولونها بقوة التاريخ وهيبة المقام وينتهي إجراء الانتخابات إلي ظاهرٍ شبه زائف. فالصعود إلي مقام القيادة أَمر ميسور ومتاح والأهلية لذلك كسبٌ حر يتنافس فيه المتنافسون وليس بحق ميراث أو سعة مال أو ميزةٍ طبيعيةٍ، والناخبون منشرحة صدورهم لتحرى القوة والأمانة النسبية وليست منفعلة بمجاملة لذي تاريخ أو محاباة لذي صلة خاصة. وهذه المرونة في الصعود إلى مناصب القيادة أو النزول عنها ضمانةٌ أخرى لصدق التمثيل وشرعية النيابة عن القاعدة.
| |
| | |
| '''البينونة والاتصال:'''
| |
| | |
| لئن كانت وشيجة التمثيل قد بلغت في واقع الجماعة درجة معقولة مقبولة من وصل القيادة بالقاعدة، فإن عوامل أخرى قد تشكِّل عسرًا في التماثل والتفاعل والتواصل بينهما وتستدعي تدابير لمعالجتها، وتلك هموم ظلَّت الجماعة تكابد فيها وتحاول ولا تبلغ ما يشفي تمام الصلة وينفي كل قطيعة بين قادتها وعموم أعضائها.
| |
| | |
| ولعل أوسع فجوة تعانيها الجماعة بين رعاتها ورعيتها هي في التفاوت البادي للكسب العلمي. فقد تمكَّنت في القيادة طبقة مثقفة حديثة عالية لا تُماثل في ذلك متوسط القاعدة، لا سيما بعد أن غدت الجماعة حركة شعبية. والقيادة من ثم قد تتحرك بنحوٍ وتستجيب للتحديات بسرعة مما لا يسع آخر الركب، وقد يكون خطابها معقدًا وبرنامجها مستعليًا لا يدركه السواد الأعظم من أَتباعها. والمجتمع كله متطور يشكو شيئًا من التباين في المستوى يوُشك أن يقطع محدَثيه عن عوامه، وقيادة الجماعة من القطاع الحديث، فلا تسلم من مشكلة في توحيد أمرها إلى قاعدتها الشعبية.<br>
| |
| | |
| ويتعسَّر على القيادة أحيانًا أن توازن بين التفاعل الداخلي مع الأعضاء تفاهمًا وتناصحًا، والتفاعل الخارجي مع المجتمع مخاطبةً ومجاهدة. فقد ينصرف غالب القادة للهموم الخارجية وينشغلون بها عن الإِقبال على الأعضاء والدوران في دوائرهم، ويستصحبون الولاء التنظيمي استصحابًا فلا يفرغون لأَداء حقه وعمران علاقاته، ولا يلقون بالاً لتفهيم الأَعضاء وتعبئتهم ولا لاستنصاحهم وموادتهم، حتى يبلغ الأمر حد الأزمة في المجانبة والانقطاع.
| |
| | |
| وإذا كان من تمام شروط الوحدة بين الراعي والرعية تبادل المعلومات والخبرات على سواء حتى يصدروا جميعًا عن علم وحكمة واحدة، فإن أوضاع السرية التي تفرضها ضرورة الأمن الملازمة لحال الحركة الإسلامية تقتضي حجب كثير من المعلومات، بل تقتضي احتجاب بعض القيادات عن القاعدة خشية الافتضاح والتعرض للمخاطر. هكذا يحتكر كسب حركي جليل لفئة قيادية يؤهلها لأن تُستبقي في مواقعها فيضر بمرونة تطور عناصر القيادة صعودًا ونزولًا، ويفارق ما بين حيثيات [[السياسة]] القيادية وما عند القاعدة التي يُرجى أن تتلقاها بالتفهم والتجارب، فيقع شيء من التناكر والتخاذل من جراء حجاب السرية المفروض.
| |
| | |
| وقد تقع العزلة بين قمة الجماعة وقاعدتها من محض سوء وسائل الاتصال، لا سيما في بلدٍ مترامية أطرافه بائسة مرافق الاتصال وهياكل النقل فيه ك[[السودان]]، بل هو بلد تهاجر طوائف من أهله إلى بلاد أخرى فيغتربون عن قيادتهم في الوطن.
| |
| | |
| ذلك فضلًا عن أن قنوات الاتصال التنظيمية في بناء الجماعة لا تكون أبدًا على قدر الحاجة في استطلاع الأخبار والأحوال والاتجاهات في القاعدة، وفي تبليغها وقائع الأحوال وتوجهات الحركة من لدن القيادة. وقد جندت الجماعة كل فنون التنظيم والإِدارة لإِحكام دورة الاتصال والتناصح الداخلية – رسائل تغدو وتروح، ووفود تستقبل وتطوف، ومؤتمرات دورية. ولكن الشكوى من قصور الاتصال ظلَّت من أشد ما تُحاسب عليه القيادة. ومهما ارتقب الحركة بأساليب تقدير فعالية الاتصال ومداه وطوَّرتها بالخطط المنهجية، بقيت الشكوى شاهدًا على فطرة الجماعة التواقة للوحدة تنصب مثالًا من الكمال لا يُبلغ إلَّا أن يحرك أصحابها للسعي الدائب في سبيله.
| |
| | |
| '''الطاعة والإِمارة:'''
| |
| | |
| مذ تباعدت نظم القيادة [[السياسة]] والإِدارية في مجتمع المسلمين التاريخي عن معاني الدين وأحكامه، أصبحت المنظمات الدينية كيانات خاصة، الطاعة فيها والقيادة أعراف معروفة لا تناصرها أوضاع ولا تكاليف سلطانية. ومجتمع المسلمين السودانيظلَّ لغالب تاريخه عرفيًا من جراء مدخل [[الإسلام]] الطوفى إِلى [[السودان]] وطلاقة أهل [[السودان]] النسبية من تقاليد السلطة المركزية.
| |
| | |
| والحركة الإسلامية الحديثة محاولة لتأطير نظام الطاعة والقيادة في نظم قطعيَّة تُعينِّ أحكام العلاقات والتكاليف في الجماعة بوجه محدد موثق، ولا تترك الأَمر عفوًا – أن تبرز القيادة من التطور التلقائي للمقامات والكسوب حسبما يقدرها ويعترف بها المجتمع الديني، وتتجلي الطاعة من الممارسة العفوية للعلاقات المواتية وتتجسد في سنن السلوك المرعية إزاء المقدمين في المجتمع.
| |
| | |
| وما دامت الحركة لَّما تصبح سلطانًا رسميًا، فإن مغزى القيادة والطاعة ما يزال أوسع من الأشكال القطعيَّة التي تتخذها الجماعة لتأطيره. فقادة الحركة لا يطابقون بالضرورة أولئك الذين تسميهم اللوائح وتعيِّنهم إجراءات التولية. والطاعة فيها لا تقتصر على حد قائمة التكاليف اللائحية المقررة. بيد أن الحركة تسعي نحو نموذج متكامل للجماعة الإسلامية التي يتكامل فيها البعد الوجداني الفردي والعرفاني الاجتماعي والسلطاني الرسمي، وتتأيد فيها هيبة سلطة الأَمير بتوقير الأَفراد واحترام المجتمع، وتتعزَّز فيها جزاءات الطاعة في شتى الأطر الاجتماعية، صحبة ثلاث في شأن عابر أو أسرة والد وولد، أو جماعة تعاون طوعي على الصالح أو الخير أو المعروف، أو وحدة سلطة عامة لإِدارة شأن كفائي، أو دولة ذات سلطان كامل.
| |
| | |
| ولأَسباب عائدة لطبيعة أهل [[السودان]] الحرة الُمتفلِّتة على الضبط البالغ الذي لم يعهدوه في تقاليدهم [[السياسة]] والثقافية، أو إلى طبيعة الحركة الإسلامية فيه المؤسسة على قدر كبير من حرية التربية والرأي، تبدو أشكال الطاعة عند أعضاء الجماعة [[السودان]]ية مختلفة عن قريناتها. بل يشيع بينهم مصطلح (الالتزام) الذي يوحى بطوعية من تلقاء النفس لا من تلقاء الوضع. وصحيح أن الإسلاميينفي [[السودان]] لا يتنطَّعون في الطاعة الميكانيكية المطلقة، بل يقدِّرون ويتصرفون – تشددًا فيما يرونه خطيرًا وتراخيًا فيما يرونه حقيرًا. ولا يمنعهم الالتزام بالقرار العام فعلًا أن ينقدوه نظرًا ويراقبوا ما يلوح من ضرورة مراجعته. لكنهم ووجهوا بقرارات جريئة بدت غريبة مخالفة للمعهود فما نكصوا عن الطاعة بل أبدوا مرونة في التحوُّل مع مقتضي توجُّهات القيادة، مما جعل الحركة الإسلامية أسرع الحركات تجاوبًا مع حركة التاريخ في [[السودان]]. وسيأتي مثال ذلك في بعض المواقف [[السياسة]]. ثم إن الجماعة على ما هي عليه من مرونة الطاعة لم تتعرض لفتنة الشذوذ والمروق والانشقاق بدرجة كبيرة على ما سيرد. وقد راج فيها فقه لسنة طاعة الصحابة رضوان الله عليهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، زُين إليهم حب الوحدة والالتزام دون كبت لحريَّة الأخذ والرد والتعرُّف والتصرُّف، وحب التوكُّل بعد العزم أو الإِجماع بعد الشورى دون التمادي بلا محاسبة أو مراجعة..
| |
| | |
| والإِمارة في الحركة الإسلامية ب[[السودان]] مثل شأن الطاعة، فإِذ رُوعيت حرية التربية والرأي في الجماعة واستصحب فطرة التحرر التقليدية في [[السودان]]، كُيِّفت الإمارة بحيث تقتصر الأوامر القطعية على ما يلزم وتُبسط حول ذلك الشورى المؤلفة للرأي والقلب والبيان الشارح للعقل والصدر، بحيث يُعوَّل على التوجيه غير القاطع فيما وراء ذلك، حتى تُجند دواعي الطاعة الحرة وتشيع في الجماعة، وحتى تُشجع المبادرات والتصرفات المثرية للأداء والعمل. ومنذ تطورت الحركة الإسلامية لتستوعب قطاعًا كبيرًا من المجتمع وتشتمل منظومة واسعة من الكيانات المستقلة وتعني بهموم شتي تكاد تحيط بالحياة كافة، أصبحت صيغة الأمر تقتصر على هيكل من التكليف لا يتجاوز ما هو استراتيجي أو حاسم بينما أصبحت صيغة التوجيه هي الغالبة تربية وتهيئة نحو مجتمع قوامه روح التديُّن وحوافزها وآثارها الطوعية لا روح الأمر والإِجبار والسلطان الوضعي. وقد انطوت هذه [[السياسة]] المرنة في تسيير حركة الجماعة على مخاطرة في واقع غير آمن، ومفارقة لمعهود الجماعات الإسلامية ، ولكنها انتهت إلى نتائج مبددة للمحاذير مبشرة بأَن المجتمع الذي ستمكنه الحركة إن شاء الله سيأتي أَقرب لتمكين الحق والخير من دون السلطان السياسي الآمر.
| |
| | |
| | |
| ==== الشورى ====
| |
| | |
| '''دواعي الشورى:'''
| |
| | |
| لم تكن الشورى يومًا من حيث المبدأ قضية للمداولة في مغزى مشروعيتها وحُجيتَّها، فقد بدأت الحركة الإسلامية في [[السودان]] والشورى فيها حكم مستصحب وعرف معروف. وإنما كان النظر والنقاش فيها – وما انفك – من حيث تدابير بسطها وإجراءات ممارستها لتتحقق بأتقن وأفعل ما يكون في معادلة تنظيمية ترعى سائر المبادئ التي تقوم عليها الحركة، كسريّة الأَوضاع الخاصة بالجماعة وسرعة البت والتنجيز في الأمور وتقدي العطاء الفني والعلمي المتخصص.
| |
| | |
| ولعل من أدعى الأَسباب الأولي لتمكين الشورى في نظام الجماعة ما يعود إلى ظروف نشأتها. وليس دلك أنها تزودت فقهًا راشدًا في أحكام الشورى الشرعية. ولا أنها تلقَّت تجربة شورية من تلقاء الحركات الإسلامية التي كانت قُدوة لها. بل كانت الجماعات الدينية التقليدية لا تعرف من نظام الشورى إلا المشاورة والمناصحة التي لا تلزم ابتداء ولا انتهاء. ولم تكن الجماعات الإسلامية الحديثة بعيدة من أوضاع المشاورة التقليدية بعدها من التصورات الدينية التقليدية، فقد كان فقه الهدف لديها أَنضج من فقه المنهج والتنظيم.
| |
| | |
| وإِنما وردت الشورى بالضرورة من جراء استواء الشباب الذين أسسوا الجماعة ليس بينهم شيخ يتميزَّ بكسب زائد ولا فوارق مقدرة في العلم أو العمر، فلم يكن بدٌ من أن يشتركوا في الأَمر على سواء لكل شِركهُ ودوره. وقد كانوا من نبت الثقافة الحديثة المنفعلة بالديمقراطية اللبرالية وتربوا عليه في نظام الجمعيات المدرسية وعهدوها حولهم في تنظيميات القطاع الحديث, وهم وراء ذلك أبناء [[السودان]]ية التي تشرَّبت روح الطلاقة والحرية من غلبة العرف البدوي وغيبة أي تقاليد راسخة لحكم مركز ي طاغ في تاريخ [[السودان]]. ولئن تعاقبت على [[السودان]] الحديث نظم حكم مركزي فقد ظل خفيف الوطأة، ولئن طرأت نظم قهرية يخُشى أن تعدى الجماعة بطبيعتها أو أن تٌلجئها إلى تقليص الشورى توقيِّاً وتأمينًا، فإن النظم الديمقراطية كانت دائمًا تعود وتسود، والعهود القهرية ذاتها تتلطف في جبروتها وتتكيَّف بأبعاد ديمقراطية. فقيم الحرية والشورى والديمقراطية قيم ضاغطة في الحياة العامة [[السودان]]ية.
| |
| | |
| أما بعد النشأَة فقد كان من دواعي التزام الشورى أن الحركة تنامت في حجمها وهما. حيث ما فتئت وظائف الحركة تتسع حتى كادت تُحيط بأبعاد الحياة جميعًا وتحقق تمام الشمول والتوحيد في الدين، وما فتئت تنظيماتها المتخصصة تتكثَّف لتقوم على كل الثغور حتى أصبحت الحركة منظومة كبيرة من محاور العمل الإسلامي، وما فتئت تشكيلاتها الفرعية تمتد في أقاليم [[السودان]] وخارجه حتى غدت شبكة بعيدة الأطراف، وما فتئت عضويتها تتكاثر وتتباين حتى لم تعد جماعة محدودة بل مجتمعًا مركبًا ممتدًا، وما فتئت تتعاظم مهماتها وتَعْرِض لها القضايا وتجابهها التحديات وتلوح لها الخيارات، بينما تتوافر فيها الطاقات والكفاءات والتجارب والخبرات والرؤى والاجتهادات. وما كان وما يكون لزعيم فرد مهما أُوتى، ولا لفئة قيادية محدودة مهما جمعت أن تحيط بكل ما سبق ذكره، إِلا أن تبسط محاور القرار بسطًا فما يلي كل وظيفة أو فرع، وتعدد الولايات والقيادات لتستوعب كل مسؤولية أو جانب، وتجمع العطاء بالعمل والاجتهاد بالرأي كله لتُجنِّد الطاقات قاطبة وتشارك الفعاليات كافة، فتنهض الحركة بأبلغ ما يسعها للوفاء بتكاليف الدين.
| |
| | |
| ثم إن الجماعة بعد مرحلة الحجم الوثيق المتقارب والهم الدعوى والتربوي الذي لا يُثير خلافًا، تعرضت لابتلاءات التعاظم المعتادة. والبلاء على قدر الحجم والهم. فأعضاء متكاثرون لا يتعارفون بمودة وثيقة، ومتباينون لا يتحدون بثقافة أو عمر أو وضع في الحياة أولئك أَقرب لأن تقوم بينهم أَزمات الثقة ومسافات القطيعة مهما اجتهدوا في التآخي والاتصال، وقضايا سياسة شرعية، ومصالح كلية، وخيارات استراتيجية، أدعي لإِثارة وجوه الخلاف حيث أدلة الأحكام عامة وظنيَّة ووقائع الفتوى عسيرة الحصر أو الإِثبات. وبالفعل وقعت خلافات سنتعرض لحيثياتها ومغازيها فيما بعد، ولكنها أَلجأت الجماعة إلى توسيع دائرة الشورى. ذلك أَن الخلاف قد ينسف الثقة بالزعيم الفرد أ, يعصف بوحدة الفئة القيادية، إلا أن يُرد إلى مجلس أوسع تَغرق فيه اعتبارات المواجهة الشخصية وتغلب فيه إرادة الإِجماع بقوة تدحض شكوك الرأي ووساوس شيطان الشذوذ بالرأي. ويمكن للمرء أن يؤرخ مراحل تطور الشورى موازاة لفترات الخلاف. فالنمط الانفرادي لولاية المراقب العام الذي ساد فيه قيادة الجماعة لسنواتها الأولى وبعض التصرفات الخلافية حيال مسألة التحالف الانقلابي على نظام عبود – مما كان داعيًا لتوسيع الشورى بالتحوُّل إِلى نظام القيادة التنفذية الجماعية. والخلافات [[السياسة]] في عهد [[أكتوبر]] حول العلاقات والمواقف السياسية وما أَبدته من أَزمات ثقة بين القادة التنفذيين والشوريين أدت إلى أن يُدعى المؤتمر العام وتُجعل له السلطة الأَعلى في حسم ولايات الجماعة وسياساتها. ويمكن أن توازي أيضًا بين اتساع الشورى واتساع الجماعة، فالتحول نحو الجبهة الإسلامية القومية في عام 1985م وبعده شهد مدى من الشورى أَوسع مما سبق بالرغم من محاذير التعويل على رشد حركة شعبية جديدة أَو وحدتها من خلال الشورى المباحة.
| |
| | |
| هكذا يمكن أَن نخلص إِلى القول بأن الشورى في الحركة الإسلامية ب[[السودان]] كانت لأَول الأمر طبعًا وممارسةً تلقائيةً ثم نضج التأصيل الشرعي لها فأَصبحت لدى الجماعة التزامًا واعيًا بحُكم الشرع الذي يقتضي إِجراء الشورى وجوبًا بأَوسع ما يسع الجماعة دون مساس بسائر مقوماتها المعتبرة، والالتزام بنتائجها ما دامت قرار جماعة تعلو على الفرد. ومن هدى العلم والعمل تطوَّرت صور الشورى الملزمة والاستشارات الموُجَهة وإجراءاتها وآدابها. واكتشفت الجماعة حِكمة الشورى الملزمة والاستشارات المُوجَهة وإجراءاتها وآدابها. واكتشفت الجماعة حِكمة الشورى من وراء حُكمها، فازدادت بها إِيمانًا واطمئنانًا. ذلك أَنها وجدتها ضمانة استيعاب شامل لكل فعاليّات الحركة وإِحاطة بكل وظائف الدين، وأنها – ثانيًا – ضمانة الرشد في توجُه الجماعة بها يتعبأ كل العلم وكل الرأي الذي يكسبه أعضاؤها، وأنها – ثالثا – ضمانة وحدة تعصم من انعزال الجهود وارتباكها وتخاصمها كما تعصم من فتنة الشقاق والافتراق، بما تشفى كل أَحد من التعبير عن رأيه وتُؤسسه من جدوى معارضة الإِجماع، وتربيه على المشاركة والتناصح والتناصر لا على الشذوذ والتدابر والخصام. وصدق الله العظيم الذي قابل ما بين اللين والمشاورة من جانب والفظاظة وانفضاض الصف من جانب آخر، والذي وصل معاني المشاركة والوحدة في أخلاق التعامل وشعائر الاستجابة وشورى الأمر واقتسام الرزق.
| |
| | |
| '''مقومات الشورى:'''
| |
| | |
| أشرنا قبلًا وسنشير بعدًا إلى بسط الحرية في تربية الجماعة الثقافية، فلا التعليم فيها تلقين يصب العضو في قالب نمطي واحد، ولا الفكر فيها إِلزام بمذهب معينَّ أَو مصدر مخصوص أو حظر للابتداع والاجتهاد، ولا الطاعة فيها تلق سلبي وانصياع أعمى دون استيضاح أو تناصح أو تعرُّف. ومثل هذه الحرية هي الشرط لأن تكون الشورى ذات مغزى، إذ لا معنى للتشاور مهما أُبيحت فرصه وصوره إذا كان المستشارون يصدرون عن تقليد واحد لا يتصرف أو يسلمون الأمر كله لزعيم أو فئة قائدة.
| |
| | |
| وقد أشرنا إِلى مشكلات الاتصال الداخلي وضرورات السرية، ولكن الحركة تجتهد – كما ذكرنا – لتكثيف الاتصال ولا تبالغ في تقدير دواعي السريَّة، فأسباب العلاقة والثقة فيها واصلة وحياتها الداخلية عامرة، وذلك يعنى أن التشاور والتفاعل العفو يسرى فيها مهيئًا رصيدًا من التقديرات والتوجُّهات بين يدي كُل أمر أو قرار طارئ. فالشورى الرسمية التي تجري بين يدي القرار مباشرة إنما تُبنى على مادة أوَّلية غنية من ذلك الرصيد الذي صاغته حركة التناصح العامة. بل إِن الترشيحات والتزكيات لأَغراض التوليَّه والمشروعات والمقترحات لأغراض القرار لا تنشأ إِلا متوخّية للتوجُّهات السائدة في كنف الجماعة حاملة كثيرًا من أهلية التقبل والتبني. فالشورى حقيقة أوسع وأعمق من صورها المباشرة.
| |
| | |
| وكنا قبلًا قد فصَّلنا كيف تُبسط وظائف العمل الإسلامي في الحركة ويُعهد بها في توزيع واسع لمختلف التنظيمات الفرعية اللامركزية أن المتخصصة المستقلة، كما فصَّلنا كيف تُرتب علاقات مُختلف الأجهزة الائتمارية والشورية والتنفيذية والإِدارية، وكيف تتركب الهيئات القيادية من عناصر متباينة متناسبة، وإذا كان تنظيم قيادة الجماعة على ما ذكرنا من ذلك النحو، فإِنه يعنى أن السلطة موزَّعة غير مركَّزة وأن القوة متوازنة متضابطة غير مُحتكرة، ومعلوم أن التَوزُّع والتباين والتوازن والتضابط في نظام موحد للسلطة إنما هي ضمانات طبيعية للشورية الحقيقة.
| |
| | |
| وتعبيرًا واستكمالًا لروح الشورى في تربية الأعضاء وعلاقاتهم العامة ولمقتضاها في هيكل الجماعة ونظامها – تأتي الأحكام واللوائح والإِجراءات التي توجب الشورى الملزمة وتنظمها بأشكال قطعيَّة في منهج التولية والتنصب أو القرار والتوجيه، كما توجب وتنظم المشاورات غير الملزمة تبادلًا للمعلومات واستطلاعًا للتوجهات. ومن وراء هذه الأحكام القطعيَّة معنى وحجة تنشأ أعراف شوريَّة تُوسع مدى الشورى والمشاورة الفعلية، ويتكامل نظام شورى ضابط لمعايير المشروعية والبطلان في أشكال عمل الجماعة. ويمكن للمستقرئ أن يراجع نصوص المبادئ الموجهة وأحكام التنظيم في دستور الجماعة. وأن يطَّلع في لوائحها على نظم إِجراء الانتخابات واتخاذ القرارات وما يتصل بذلك من التركيب الجماعي للأجهزة والتداخل العضوي والتواصل الاستشاري بينها ومن تقديم التقارير والتعرض للمحاسبة ونحوه.
| |
| | |
| '''شورى الولاية:'''
| |
| | |
| مبدأ الانتخاب: كان أوَّل قرار شورى ذي بال في [[الإسلام]] بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي والسنَّة المحمدية، هو انتخاب الخليفة من بعده. وفي عهد الصحابة الراشد ثبتت صورة الخلافة على الولاية العامة بشورى المسلمين وثبت تكييفها الفقهي بيعةً سياسية ينعقد بها تلازم عهدين: إسناد الأمر مع الولاء والطاعة والنصح من جانب بشرط إتباع الشرع وبذل الشورى والحريِّة والنصح من جانب آخر. أما لاحق تاريخ المسلمين في بيعة التوليَّه فهو معروف فقهًا وعملًا، قديمًا وحديثًا. أما الحركات الإسلامية الحديثة فقد اجتنبت تقاليد استلاب الولاية لأنها جماعات مؤسسة على الطوع لا القوة، واجتنبت وراثة عهد الولاية، لكنها أَسست الولاية لأوَّل العهد على التراضي بالشيخ المؤسس واستدامته طويلًا ثم على الانتخاب لاستئناف الولاية أو عند الاختلاف عليها، وذلك غالبًا دون نظم موضوعة في الترشيح والتجديد والتزكية.
| |
| | |
| وأما الحركة الإسلامية في [[السودان]] فقد طرأ عليها النهج الانتخابي لأول عهدها ثم تطوَّرت نظمه وأعرافه تطورًا كبيرًا
| |
| | |
| '''الإنتخاب المباشر وغيره:'''
| |
| | |
| تتخذ الجماعة في انتخاب ولاتها الشوريين والتنفيذيين نظامين: الانتخاب المباشر من تلقاء قاعدة عضوية الجماعة لمؤتمرها العام أو من تلقاء المؤتمر لهيئتها الشورية، والانتخاب غير المباشر حيث يكون للهيئة الشورية وللهيئة التنفيذية أحيانًا أن تنتخب بعض أعضاء تضمهم إليها [بنسبة الثلث أو دونه] وتستكمل بهم هيئتها. والانتخاب غير المباشر درجة نازلة في حكم الشورى، لأَنه أبعد من اختيار القاعدة ذات السلطة الشرعية الأصل بعد نص الشريعة، ولأَنه أَقرب بانحصار عدد الناخبين إلى أن يدخله التأثير. ولكنه ضرورة اقتضتها خصوصية طبيعة الجماعة وسريَّة أوضاعها. فالقاعدة قد لا تعرف المؤهلين للقيادة ومناصبها المختلفة حق المعرفة وقد يكون من الحيطة ألا تعرفهم جميعًا، أما المُنتخبِون الأوَّليون فهم أولى أن يعرفوا أقرب المؤهلين وخصوص تزكيتهم وتجريحهم، ومن ثم رُكبت الهيئات القيادية من جانب أكبر ينتخب مباشرة وجانب أَصغر يضمه أولئك.
| |
| | |
| '''دورة الانتخاب:'''
| |
| | |
| لكل ولاية في الجماعة أجل، فدورة الولاية عام إِلى بضعة أعوام. وذلك أن الولاية – ولو كان أصلها انتخابيًا- إذا جمدت كانت أدعى لأَن تؤسس الجمود وتعيق التجديد وأن تسبب حرجًا في عزل والٍ ساء عطاؤه أو تخلَّف عن حاجة الجماعة. ولَّما كان الاستمرار في الولاية أدعي لاستبقاء التجربة واضطراد السير، فان انقضاء أجل الولاية لا يمنع تجديد البيعة لمن وَلِيها من قبل. وقد أثار التجديد لعين الشخص جدالًا في حالة الأَمين العام للجماعة خشية أن تكون دورات التوليَّة شكلًا ظاهرًا لا يُحقِّق التجديد الفعلي. ولئن رجح لدى الجماعة إلى الآن ألَّا تضع حدًا لعدد الولايات المتعاقبة، فإن في إعادة الانتخاب مغزى من حيث دلالة النتيجة على ثبات الثقة في كفاءة الأمين العام المتصلة أو تناقصها، وفي ذلك إِشارة وإِيحاء له وللناخبين.
| |
| | |
| '''الترشيح:'''
| |
| | |
| أما الترشيح للولاية فقد أَثار مسألة تعدد المرشحين ومسألة الاختصاص بالترشيح. أما تعدد المرشحين فقد أَصبح حُكمًا لازمًا، لاسيمَّا أن الترشيح يعتبر تكليفًا، وقد يؤذن للمرء أن يعبر عن تَحرّجه وتَمنعِه من الولاية، لكن الأَغلب ألا يطاوعَ على اعتذر بل يُثبت ترشيحه ويترك للناخبين أن يقدِّروا كَونه محض تورُّع أو جد عذر مانع. وقد استقر العرف على ألا ينقص عدد المرشحين للهيئات الشورية عن ثلاثة أمثال العدد المطلوب للتوليَّة، وفي ذلك ضمان لتوسيع المقارنة والخيار. كما استقر العمل على ألَّا يربك الناخبون بأَضعاف كثيرة من المرشحين. ويمضى الحكم ذاته في شأن الترشيح للأمانة العامة. وقد لاحظ البعض أن الأمر يكون صوريًا إذا كان إِعادة انتخاب الأمين العام القائم كالأمر المقضي، ولكن في المنافسة ولو كانت مرجوحة إِشارات لا ينطوي عليها الترشيح المنفرد الذي يُقبل بإِجماع أو بتزكية تلقائية.
| |
| | |
| أما ولاية الترشيح فقد تطوَّرت فيها النظم حسب الأحوال. ففي ظروف القهر والسريَّة يغلب أن يُحصر الأمر في دائرة بين القاعدة العامة وبعض هيئات القيادة القائمة، حتى يُضمن اختيار الملتزمين المأمونين للترشيح. أما في ظروف الفرج فالترشيح مباح لكلك القاعدة التي تلي أمر الانتخاب بهيئتها العامة حين يكون الانتخاب مطلقًا أو من خلال قطاعاتها المختصة إذا كان الانتخاب نسبيًا تمثيليًا لفئات أو مناطق معينَّة.
| |
| | |
| '''التزكية:'''
| |
| | |
| لعل أعسر تدابير الانتخاب في الزكيَّة أي تقويم أهلية المرشحين وتعريفهم للناخبين. أما شروط الأَهلية فأبسط ضابط لها هو ما تنص عليه اللوائح أحيانًا من قيد في العمر أو السابقة في الجماعة، لكن النصوص لا تضبط إِلا في القطعيَّات من قِبل ما ذكرنا. أما شرط القوة والكفاءة أو الأَمانة والتقوى ونحو ذلك من المعاني، فاللوائح لا تجدي فيه إِلا توجيهًا بين يدي الانتخاب أو نصًا على إجراء يتيح الفرصة للتناصح في شأن التقويم. وما وراء ذلك تقديريات لا تحكمها النصوص القطعيَّة بل تحيلها إِلى عرفان الجماعة ووجدان الناخب، أن يتذكِّر حوافز الدين وزواجره ويستشعر رقابة الله ومجازاته فلا يميل إِلى ذي قرابةٍ أو عصبيةٍ ولا يختار عن هوى أَو كيد بل يتحرى المعيار الحق عن بينة وإِخلاص، وليس للجماعة إِلا أن تُحسن تربية أبنائها وتذكرهم ثم تثق بهم وتلكهم إِلى الله وتتوكل عليه في التوفيق إِلى أَحسن التقدير والانتخاب.
| |
| | |
| أما منهج تعريف المرشحين إِلى الناخبين بما يليهم من جرح أو تعديل، فقد كان يُعيي الجماعة على غزارة تجربتها ومحاولاتها، لاسيمَّا أن ظروف السريَّة تضيف ظرفًا معسرًا. فلا مجال لأن يعرض المرشح ذاته ويزكيّها لأنه أمر مكروه في الدين. ولعل أشد ما يُثير حساسية الجماعة أن تُحس من أحد طلب الولاية أو الحرص عليها أو إطلاق الدعاية لنفسه بوجه مباشر أو بإِيماء. ولعل ذلك مما تربت عليه الجماعة وسلمت من العلة فيه حتى عندما غدت حركة شعبية حاشدة، بل ربما بلغ الأَمر أن التعذر والفرار من الولاية أصبح مفرطًا فيها. سوى أن حالات معدودة قد طرأت لأول أطوار الحركة الشعبية أبدى فيها أشخاص حرصًا على التوليَّة، وكانت العاقبة أن حُرم هؤلاء مما حرصوا عليه وعُزل من كان أقلهم حياءً وأبداهم حرصًا.
| |
| | |
| ومن المناهج المكروهة المحضورة في عرف الجماعة تشكيل كتل الضغط المنظم دعوة لصالح مرشح أو قائمة معينة. وقد لا يقوم حرج أن يصدع البعض عفوًا بمقولة جرح أو تعديل لمرشح أو بالوصاة بمراعاة فئة من المرشحين . أما التدبير المنظُم أو السعي المستخفى فهو مما تنهي عنه الجماعة ويوأد حيثما يَظهر إلا قليلًا. أما أن ينتشر في أوساط الجماعة ورأيها العام تقويم للقيادات يؤثِّر لاحقًا في حظوظهم من التزكيَّة الرسمية للترشيح والانتخاب فذلك أم معروف. ولئن كانت الحملات المركزة لتجريح الأشخاص أو الغيبة المتجاورة أٌمورًا منكرة، فإن العرف التقويمي الذي يتبلور عنه رأي عام في التزكية أَثر من آثار المناخ الشورى الطيبة.
| |
| | |
| وقد جرَّبت الجماعة إتاحة مجال للجرح والتعديل لإِشاعة تقويم يعين الناخبين على الرشد في الانتخاب. ولكنها لا تفتح ذلك مطلقًا خشية أَن يتجاوز ويؤدى إِلى فتنة، بل تحصره في مجال الانتخابات غير المباشرة حيث تشارك فئة على قدر من المسئولية والتجرد والتقوى في أَحكامها في نطاق محدود لا تشيع مقولاته فتفتن أَو تؤذى أحدًا.وقد راودت الجماعة تصورات لتطوير لجنة انتخابات لا تقتصر على عمليات حصر الترشيح وإدارة الاقتراع واستخراج النتائج بل تباشر مهمة التعريف بالمرشحين. وجرَّبت الجماعة طرفًا من ذلك، ولكن تعذر عليها أن تجد صيغة مناسبة للتعريف المتجرد من التأثير على الناخبين ومصادرة حقهم، فإن تزكيَّة المرشح بكونه ذا سابقه أو من أَهل العلم أَو الشورى أَو نحو ذلك قد تُضيِّق خيار الناخب إِلا أَن يختاره. وقد يُمكن الاقتصار الموضوعي على تحديد عمره في الجماعة أو الحياة أو أَهليته العلمية الرسمية أَو مناصبه السابقة في المجتمع أو الجماعة، ولكن ذلك قد لا يسلم من إِيحاء وقد لا يكون ذا مغزى كبير. ومن ثم لم يتبلور مشروع لهيئة نظامية للتزكيَّة والتعريف.
| |
| | |
| ومهما كان من ذلك كله فإن الجماعة ظلَّت تعتصم بمبدأ الانتخاب تحقيقًا للشورى في التولية. وهي تعلم كيف تطوَّر النظام الانتخابي في الديمقراطية الغربية لاسيما الترشيح ودور الدعاية الانتخابية والدعم المالي والضغوط والوعود في التأثير على الخيار. وهي تدرك بفطرتها وفقهها أن ذلك يجافي خلق المتديِّنين ويشوه شرعية الاختيار، ومن ثم طهَّرت ممارسة الانتخابية من تلك الشوائب. سوى أَنها لَّما تهتد إلي منهج أَصيل يوفر التناصح المخلص حول تقويم المرشحين فيسد الباب على المكائد أو الضغوط الخفيَّة، ويقدم ما يمثله المرشح وما سيترتب على انتخابه دون مزاودة في التمنيات والوعود الزائفة، ويعرض شخصية المرشح بوسائل اتصال عامة لدائرة واسعة من الناخبين دون أن يزيِّفها بالحملات الظالمة أو المدح الكاذب، ويهيئ المناخ الحر للانتخاب دون أن يكون للقوة والشهرة والهوى فيه كبير أَثر. والجماعة إِنما تجرب في نفسها نظم التزكية أو التعريف وآدابها، لأنها من وراء تولية الأصلح فيها اليوم إنما تتربى وتستعد بنموذجها الحاضر لتكون مجتمع المستقبل. فهي التجربة والقدوة لنظام انتخابي طاهر فعَّال في مجتمع ودولة مسلمة. وهذا الانتقال يبدو أشد تعقيدًا إذا قدَّرنا تجاوز سرية حياة الجماعة الحاضرة ومتانة بنائها وقوة التزامها قياسًا إِلى مجتمع الدولة المختلط المفتوح.
| |
| | |
| '''التصويت:'''
| |
| | |
| غالبًا ما يجرى اختيار من تؤول إِليه الولاية من بين المرشحين بالاقتراع السري، حتى لا يقع الحرج من تفضيل شخص معيَّن أو العدول عنه، ويكون الاختيار أقرب إلى الحرية إِلاَّ من المسئولية أمام الله. وقد يحدث في المجالات المحدودة أَن يجرى الاختيار بالتصويت السافر لارتفاع الحرج. أما وقع إِعلان النتائج فليس فيه مشاهد الفرح والاغتمام الذي يلحظه المرء في الانتخابات الوضعية. ومهما كان فارق القياس إِلى وقع الانتخاب لمناصب السلطان في الدولة فإِن الجماعة تتربى على الاستقامة والاعتدال وعلى الإِيمان بأن الولاية – شأن أَي وضع يقدره الله – مسئولية وابتلاء وتكليف لا كرامة فيها أو شرف لذاتها ولا إِهانة أو حسرة لفواتها، بل الفائز من أدى الأمانات والخاسر من ضيَّعها حيثما قدر الله وقسم.
| |
| | |
| '''المحاسبة والعزل:'''
| |
| | |
| يسمى غالب ولاة الأمر «المسئولين» كناية عن أنهم فرع السلطة الانتخابية الإِجماعية للجماعة ومن ثم خاضعون لمحاسبتها وفق شرط البيعة المنعقدة. فهم دون انقضاء أَجل ولايتهم بالدورة الانتخابية مكلفون بأَن يوفوا أمانتهم خير وفاء اجتهادًا ونصحًا، وأن يلتزموا بعد الشرع نظام الجماعة ويحترموا عهدها وقرارها وحقَّها. وقد درجت الجماعة على درجة عالية من المحاسبة، لاسيَّما أن التكاليف موثقة في نظم الجماعة وسياساتها وبرامجها المرحلية، وأن التقارير سُنَّة راتبة – يقايس الكسب الذي تحكيه إِلى التكليف الموضوع. فلا التقارير تكتب بصيغة مُبهمة أو معتذرة أو مزينة بل هي أَرقام ووقائع ونسب، ولا المحاسبة تجنح للإِغضاء عن الأَخطاء ومجاملة الأَقران أو الكبار، بل هي مناقشة حساب جادة رق لفظها أو غلظ.
| |
| | |
| ولئن كانت سلطة العزل لضعف الأَداء أو لفداحة الأَخطاء متاحة في حق كل مسئول، فقليلًا ما يقع في واقع الممارسة عزلٌ مترتب عن محاسبة. ولكن النقد المضطرد لا يذهب هدرًا. فقد تُصحَّح [[السياسة]] ويُقوَّم السلوك مراعاة أو مراقبة للنقد، وقد يعَتذر المسئول عن حمل أمانة لم يُحسن أَداها، وقد تدور الدورة فُتحوَّل الأَمانة عنه وتصرف إلى آخر. ولك هذه ظواهر متواترة في القيادة التنفيذية للجماعة.
| |
| | |
| '''التعيين:'''
| |
| | |
| يقتصر الانتخاب على الولايات التي تنشأ مباشرة عن قاعدة الأعضاء العامة أو عن المؤتمر العام أَو عن الهيئة الشورية. أَما ما دون القيادة التنفذية من مستوى إِداري فالغالب فيه التعيين، وقد يُخالطه عنصر شورى انتخابي كأن يشترط اعتماده من قاعدة أعلى، أو يوكل التعيين شورى للوحدة الإِدارية المختصَّة – أَن تنتخب رئيسها مثلًا. وتنطبق هذه الأَحكام على كل المنظومة الحركية: الشورى الانتخابية المطلقة ف القاعدة العليا هي الأساس، ثم يخالطها الانتخاب غير المباشر، ثم يقاسمها التعيين، ثم يكون للمسئولين المنتخبين أن يُعيَّنوا من يليهم من الإِداريين والموظفين لمسئوليات دنيا. ويخدر الاستدراك بأَن الذي يُوكل إِليه التعيين غالبًا ما يستشير ويستأنس عمن هو أَهل للترشيح والتزكية والنصح.
| |
| | |
| | |
| ==== شورى القرار ====
| |
| | |
| '''مبدأ الشورى والإِجماع:'''
| |
| | |
| قدَّمنا أن الشورى مضت في الجماعة منذ نشأتها عرفًا معروفًا، ثم غَدت من بعد فقهًا بالحكم فيها والحِكمة. كذلك عرفت الجماعة لأول عهدها أن الولاء أوله لسلطان الشرع قرآنًا يُوحى وسنةً يعصمها الوحي، ثم الولاء أو السلطان للجماعة وأمرها المبرم بالشورى. وقد كان فقه الإِجماع في كتب الأُصول يقرأ تراثًا غير موصول بالحاضر ولا معمول به في واقع الجماعة، لاسيَّما أنه بشرائطه القطعيَّة المتنطعة إِنما حُرر من وحي النظر العقيم ولم يُستنبط من حيِّ سنة [[الإسلام]] التطبيقية الأَولى. وربما تشكَّل العرف الإِجماعي الأَوَّل في [[السودان]] من محض منطق الالتزام الجماعي البسيط أو من قدوة المثال الديمقراطي اللبرالي السائد.
| |
| | |
| ثم تطوِّرت شورى القرار ونظم الإِجماع من حيث أَشكال المبادرة والاقتراح والمداولة والمجادلة وإبرام القرار وعقد الزم. وصاحب ذلك تطوُّر في وعى الجماعة الفكري وتأصيلها الفقهي. واتصل التطور العملي والأصول بل تساوقا وتلازما، وأثمرا عند الحركة فقهًا أُصوليًا مُفصّلًا في شأن الشورى والإِجماع ، يهدى منهجًا في ذلك ويمثله ويكيِّف الموروث الأصولي النظري بما هو أَقرب لسنة [[الإسلام]] الَأولي ولدستور جماعة أَو دولة إِسلامية معاصرة. وسنعرض فيما يلي بعض أَركان الإِجماع أَو سمات شورى القرار كما تبلورت إِلى العهد الحاضر في عمل الجماعة وعلمها.
| |
| | |
| '''المبادرة:'''
| |
| | |
| المبادرة بنت الاجتهاد الفردي وبذرة القرار الشُورىّ، وهي الفتوى أو النصيحة المقترحة التي لا تحمل بصورتها صفة الإِلزام حتى تُضفى عليها الحُجة بقبولها بيانًا لحكم الشريعة في الواقعة. فهي رأي يصدر عن علم بأدلة الشرع وبحيثيات الواقع ويُقدَّم ليعزَّزه علم الجماعة وليكتسب قوة الإِلزام بحجة من شهادة الجماعة وسلطانها: لكن العلم المنشئ للمبادرة الاجتهادية في نظام الجماعة ليس متروكًا للكسب الفردي العفو، وإنما هو وظيفة تنظيمية وتكليف لائحي: يتعيَّن على جهة ما أن تتحرى حُكم الشرع وتتحقَّق حيثيات الواقع وتقترح مشروع القرار. وهذا التدبير التحضيري قد يَستلزم تعلٌّمًا وتشاورًا أوَّليًا، سوى أَنه ينظَّم وجوه الرأي والتقدير وخيارات الإِجماع والتقدير. وقد يقع التكليف بالأَعمال التحضيرية للشورى على جهة تنفيذية مطَّلعة على الأَحوال تُهيئ في ضُوئها الخطط والمشروعات لجهة شورية، أو على جهة دنيا تُحرِّر مسوَّدات القرار لجهة عليا، أو حتى على فرد مقدَّم أو مؤمَّر ينصح الجهاز الذي يليه.
| |
| | |
| ولربَّما يرى البعض أن سبق المبادرة إنما يُحاصر الشورى ويُحرج القرار، لاسيَّما حين يلحظ أن غالب الاقتراحات تجوز في آخر الأمر. لكن البصير بالممارسات الشورية في تجارب الإِنسان يعلم أن الهيئات الشورية ضابطة أَكثر منها مُنشِّئة لمادة القرار – نعم قد ترد فيها مبادرات حرة أَو تكليفات بتحضير مشروع معيَّن لهدف معيَّن، ولكنها في الغالب إنما تتلقى مادة مقترحة تتناولها بالاعتماد أَو التعديل أَو الرفض. وذلك لا يجعل دورها سلبيًا، فالمبادرات كيفما وحيثما نشأت إِنما تُعد سلفًا بوجه يحتمل القبول في الهيئة الشورية، فالجهة المبادرة لا تُعد أمرًا غير قابل للاعتماد. وكثيرًا ما لاحظ البعض في تجربة الحركة الإسلامية ب[[السودان]] أن القيادة التنفيذية أَو بعض عناصر القيادة لا تكاد تعرض مقترحًا إِلا أُجيز في جوهره. فرتبَّوا على ذلك وهمًا أن من إجراءات الشورى ما هو محض اصطناع لتمرير أُمور مدبَّرة أو لتبرير قيادات مؤمَّرة. لكن الجماعة المتفاعلة الموحدة هي التي تنتج قيادة تُمثِّلها وتتوخى حسها العام. والقيادة الرشيدة هي التي تعبر عن وجهة الجماعة وتتقدَّم بها في منحى توجهها، ومهما اقترحت لها من جديد جاء وفاقًا لفطرتها. وذلك لا يغنى عن إجراءات الشورى الشكليَّة، بل لا يتحقق إِلا بقدر ما تتوافر تلك الإِجراءات.
| |
| | |
| '''المداولة:'''
| |
| | |
| تقتضي الشورى فسحة من الوقت حتى يتعاون أَهل الشورى على تبيُّن الحق والتثبُّت من الحقائق. فإِذا سبقت مبادرة تمهد طرق الرأي وتبسط خياراته وإذا أتقن العمل التحضيري، فإن ذلك انفي لمظنة الارتجال والضلال. وتحاول الجماعة في سبيل ذلك أن تتخذ من النظم الإِجرائية ما يتيح فرصة للإطلاع المبكر وفسحة عند المداولة، لاسيَّما في الموضوعات ذات الشأن. لكن الظروف الأمنية والعملية التي تعمل في كنفها الجماعة كثيرًا ما تُعسرِّ منهج المداولة المتثبتة.
| |
| | |
| وتقتضي الشورى حرية في تحرى الرأي وتحريره والتعبير عنه. ولقد قدَّمنا القول في حرية مناخ التفا كر والتعامل في الحركة على وجه العموم. ويمكن أن تقرر أن أهل الشورى لا تأَخذهم رغبة أو رهبة في الحق من تلقاء الجماعة. فلا يكاد وقار القيادة المبادرة يشكل حرجًا، وقليلًا ما تقع ضغوط القاعدة على أَهل الشورى كرهًا. سوى أَن آفة الحرية قد تنشأ من تلقاء النفس التي تنعقد فيها عقدة العصبية والإِصرار ولا تباشر الشورى بذهن متفتح وقلب منشرح يلتمس الحق ويستقبله أنى أتى. وهذه هي آفة التربية التي تجعل الولاء لله والقوامية بالقسط والتي تُطَّهر من الإِعجاب بالذات والاستكبار بالرأي وتحقق الموازنة بين بذل الرأي إِيجابًا واستقلالًا واستشعارًا لعينية التكليف والمسئولية والتواضع في الرأي أخذًا وعطاءً وتشاورًا وتناصحًا.
| |
| | |
| وفي الشورى يتمحَّص الرأي بكل الوجوه. وقد قدَّمنا ذكر تكامل تركيب عناصر القيادة في الجماعة، فذلك يهيئ لهم التناصر على تحرير الحجج النظرية والشرعية وتقدير الحيثيات والآثار الواقعية وتقويم المقبوليَّة العامة والخاصة لأي رأَي مقترح. ويتم كل ذلك في سياق واحد. وقد أدركت الجماعة بفطرتها وعلمها وتجربتها أَن تفريق هذه الوحدة ولو في الشكل الإِجرائي – لن يؤدي إِلا إِلى خلل في وحدة الحكم ومن ثم في كيان خاص لتسند إليهم الفتوى المبادرة أو الضابطة. فلا حكم للشرع إِلا منزلًا على واقعة أو مخاطبًا به فيها. ولن الاتصال والتمثيل؛ في وحدتهم تتجسد وحدة الجماعة ومنها تتجلى وحدانية الحق. ومن ثم كانت الشورى ضمانة وحدة الجماعة أَلا تنفض عن محورها وكان الإِجماع ضمانة عصمتها ألا تضل عن الحق.
| |
| | |
| '''عقد القرار:'''
| |
| | |
| إِذا أبرز النمط الديمقراطي الغربي صورة القرار تتخذه الأغلبية في وجه الأَقليَّة، فإن الشورى الإسلامية تجعل مثالها أَن يصدر القرار عن التراضي والإِجماع في سبيل جمع عناصر الحق كافة وتعبئة الجماعة قاطبة. وقد يقتضى ذلك تعديل القرار ليكون أكثر اعتدالًا أو تأخيره حتى تطمئن له النفوس وتنشرح. ولكنه لا يعنى ما تواضع عليه أكثر الأُصوليين التقليديين من اشتراط موافقة الجميع في غير سكون أو شذوذ. بل الإِجماع ما صادف موافقة السواد الأَعظم وقارب توجهات الجميع ولم يُتخذ على سبيل المشاقة المغالبة أو بروح الاستقطاب والتعصب.
| |
| | |
| وقد بدا مغزى الإِجماع بمفهومه الإسلامي في تجربة الجماعة الشورية، لا سيَّما في القرارات ذات الخطر. فلأمر ما في إجراءاتها المتثبتة وروحها المتسامحة وتجردها للحق. كانت قراراتها الكبرى جميعًا تصدر عن إِجماع مطلق أو شبه مطلق. وكثيرًا ما كانت الجماعة في غير ذي الشأن من القرارات تستطلع الآراء وتمضى الأَمر بأَرجحها عدًا، ولكن روح الإِجماع كانت تسود في الخطير والحقير حالما ينعقد القرار، إذ تنشرح له الصدور ويقوم به الجميع مطمئنين.
| |
| | |
| وإذا كان نهج الشورى في [[الإسلام]] كما قرره القرن هو أن يجرى مجرى الأخذ والرد عند تداول الرأي فإذا وقع القرار وانعقد العزم وجب الإقدام والتوكل دون مؤاخذة بعددها أو تردد. إذا كان ذلك هو النهج، فإن تجربة الجماعة قد مثلته أو كادت. فمهما كثر المراء واللغط بين يدى الأمور، كانت القيادة والقاعدة جميعًا تستقر بعد القرار وتجمع نفسها حول الإِجماع، قناعة بما بلغها من دواعيه أو ثقة بما احتجت لضرورات السرية أو توكلًا على الله بعد بذل الوسع في الاجتهاد. سوى أن السكون بالإِجماع لم يحمل الجماعة على السكوت عن المراجعة متى حقَّت عدولاً إلى إجماع جديد.
| |
| | |
| وسيأتي ذكر لسلامة الجماعة من الكتل الجامدة المُتشاقَّة ولحالات تعرضت فيها لتلك الآفة. ويجدر أن نذكر هنا من ذلك أن أنماط التصويت أو أخذ الرأي عند عقد القرار قليلًا ما أبرزت كتلًا جامدة تصدر عن موقف نمطي تنحاز إليه بصورة راتبة. بل كانت اتجاهات الخلاف على الرأي تتحرك بمرونة وتتشكل مذاهبها بين يدي كل موقف بصورة متباينة. ومهما كان من غير ذلك أحيانًا، فقد كان أقل منه أن تتصلب أقلية عارضت الإِجماع وتتمادى من بعده متربصة لعاقبته متسقطة لعثرات تنفيذه ملاومة فيه. وذلك لعمري من فضل الله على الجماعة ومن بركة الشورى، وما يصيبنا فيه أحيانًا فبما كسبت أيدينا من قصور في الوفاء لحق الله وحكم الشورى الأتم.
| |
| | |
| '''التفويض والاستشارة:'''
| |
| | |
| ما كل قرار في حركة الجماعة صادر عن اختصاص جماعي أو شورى ملزمة، فمن أمور الجماعة ما هو جدير لزهادة شأنه أو انحصار موضوعه أو ضيق وقته، بأن يوكل إلى من يليه من ذي إمارة أو مسئولية. سواء كان ذلك بحكم اللوائح والنظم أو بالتفويض المعين من الجهة الجماعية ذات الاختصاص. وذلك لا ينفي الشورى أصلًا. بل ربما ترد الشورى في القرارات الفردية بصورة غير إجرائية أو غير كاملة أو على سبيل الاستنصاح غير الملزم.
| |
| | |
| وكثيرًا ما تقضى اللوائح أو يمضى العمل بشورى يطلب فيها الرأي ويبذل على غير سبيل الإِلزام. ولئن أحالت التقاليد الحُكمية الإسلامية كل الشورى إلى تلك الصورة، فلعل ذلك راجعٌ إلى تضاؤل الفقه السياسي حيث ترد الشورى وجوبًا ويقع الإِجماع إلزامًا، وإلى غلبة فقه العلاقات الخاصة حيث يندب للمرء المسلم أن يستشير ويستنير قبل إمضاء أُموره ودون أن تلزمه الفتوى أو تلجئه الإِشارة. أما الجماعة فإنما تريد أن تشيع الشورى بكل صورها، وان تربى عليها من يليها من المجتمع، وأن تستكمل حكمتها ترشيدًا وتوحيدًا حيثما حقت وتيسرت على سبيل الإِلزام ابتداء وانتهاء أو ابتداء وحسب أو على سبيل الندب في هذا أو ذلك فمن ذلك ما تنص عليه النظم الرسمية أو العرفية من استطلاع القيادة لرأي القاعدة استئناسًا وتأنيسًا، أو مراجعة أهل القرار لأهل الاختصاص الفني استنارةً واستخارة، أو مشاورة ذي الاختصاص لغيره اتساعًا وتعاونًا في العلم والعمل.
| |
| | |
| ومهما كان الأصل والمغزى في الشورى واحدًا، فقد جرى مصطلح الجماعة بان تخصص (الشورى) بالهيئات والعلاقات التي يلتمس فيها القرار الإِجماعي ويتبع وجوبًا، وان يطلق تعبير (الاستشارة) على الأجهزة والإِجراءات التي لا تستصحب الالتزام الكامل. فهيئات الائتمار العام والشورى والتنفيذ كلها ( شورية) بالمعنى الخاص، والمؤتمرات الخاصة المجالس الفنية والأجهزة الإِدارية غالبها (استشارى) بالمعنى المطلق. ومن هذا المعنى الأخير أيضًا سائر الصلات التنسيقية والعفوية في الجماعة. فالعلاقات الأفقية غالبها استشارة وخيار، بينما العلاقات الرأَسية إِلى الأعلى شورى واستئمار، وإلى الأدنى استشارة أو أمر أو تخيير.
| |
| | |
| '''الوحدة والخلاف:'''
| |
| | |
| ما من ملة تأكدت فيها معاني الوحدة مثل ملة التوحيد. فأصول الدين وعقائده وشعائره وشرائعه جميعًا تمثل الوحدة وتدعو إليها. ولا غرو فملة التوحيد منهج لتوحيد الحياة والوجود الاجتماعي والطبيعي بأسره. وما كانت الحياة الدنيا مؤسسة على خطة الابتلاء، فأشد من يكون عرضة للفتنة والابتلاء أهل الملة الأبلغ توحيدًا للحياة، تصاب حياة المؤمن منهم بالتناقضات والفصام حتى تكاد تكون أقرب إلى الشرك المتشاكس منها إِلى التوحيد الخالص، وتصاب جماعة المؤمنين بالمفارقات والخصام حتى تكاد تفرق دينها شيعًا. وقد قصَّ القرآن قصصًا بالغ العبرة في مواقف الإِيمان الوحدة والخلاف ونصَّ نصوصًا بيِّنة العضة ترهيبًا من الفرقة وترغيبًا في الوحدة. واشتمل مثال السيرة النبوية على نماذج لأقدار الفتن ومواقف الاعتصام. لكن تاريخ المسلمين الخالف شهد ابتلاءات واختلافات حادة من فرط سرعة انتشار الدين ملة ودارًا، وقصور التدَّين عن مواكبة ذلك الابتلاء العظيم فقهًا وخلقًا ونظامًا عاصمًا. ولّما تُقدم حركة [[الإسلام]] الحديثة كسبًا مقدارًا في تطوير أخلاق الخلاف وضوابطه ومواقف الوحدة ووسائلها. بل ما انفك بعض المسلمين أسرى لتراث الفرقة البئيس، وما فتئت بعض جماعاتهم عرضة للتفتت إلا أن تسلم الأمر كله لقائد فرد أو تقصر حجمها ألا يمتد فيتباعد أو همها ألا يتسع فيتصدع، أو تسد باب الاجتهاد و[[الجهاد]] اتقاء الفتنة الأكبر.
| |
| | |
| فحين نشأت الحركة الإسلامية في [[السودان]] لم تنشأ بكثير من رصيد الخبرة النظرية أو العملية في معالجة مواطن الخلاف، ولم يكن وراءها تاريخ توحِّدها ذكرياته. ونشأت في البيئة [[السودان]]ية التي لم تعهد كثيرًا من تقاليد الطاعة والوحدة المركزية. بل نشأت مطبوعة على الإطلاقة والحرية والاجعاد والتجدد والإِقدام والاقتحام مما يجعلها عرضة للفتن بأكثر من كل حركة متحفظة.
| |
| | |
| ولئن لم تتحفظ الجماعة كثيرًا فقد حفظها الله وجعل كسبها من الخلاف المفرِّق محدودًا، لاسيمًا إذا قورن بكسب جماعات أخرى إسلامية وايديولوجية وسياسية في [[السودان]] وخارجه. ولربما لا يكون حظها من فطرة التوحيد التي تأمر بالإِخاء والاعتصام بالجماعة وتنهى عن الفرقة والشذوذ أكبر من مثلها من الحركات الإسلامية المقارنة. ولكنها أُسست على السعة التي تبسط مجالات العمل ليجد كل امرئ ما يشغله ويرضيه، وعلى الحرية التي تنفي الشعور بالانكبات الملجئ للانفجار، وعلى المذهبية الوسطية العريضة التي تستوعب ولا تستقطب. ويمكن أن نرد دواعي الوحدة بتعبير آخر إلى التزام الشورى التي تبسط المشاركة في الولايات فلا يشعر أحد بحرمان، وفي القرارات فيشفي كل أحد بالتعبير عن رأيه حتى إن لم يستطع إنفاذه وييأس حين يخيب إِسهامه أن يجد مبررًا للخروج أو نصيرًا. ثم إن الانفتاح أو التفاعل الخارجي يعرض الجميع للتحديات المشتركة وينصبهم إزاءها في صف متميَّز متحيِّز بينما يبرز إزاء خطرها تفاهة غالب الخلافات الداخلية وعاقبة التمادي فيها لحد الفرقة. وإذا كان بعض الناس يحاذرون من الانفتاح حتى لا تخترقهم الداخلات الإسلامية في [[السودان]] أن صحة جماعة الحق وأن وَحدَتها في التعرض للباطل ومدافعته.
| |
| | |
| بيد أن الحركة مهما لطف الله بها لم تسلم من الخلاف المفرق تمامًا. بل كانت حصانتها من فتنة شيطان الفرقة تنخرق كلما انخذلت عن تمام التدين. أما أعراض ذلك القصور المؤدى للفتنة فغالبًا ما تكون في محدودية الشورى أن تحيط بالخلاف وتجمعه، أوفي سوء ترتيب الأوضاع التنظيمية بما يقابل بين التخصصات الوظيفية أو يزدوج بالمسئوليات المتطابقة. فصاحب الاختصاص المنقطع قد يفتن من فرط تقديره لما يليه وازدهاد ما لا يليه. وفي تراث المسلمين كثير من عصبية التناظر بين النساك والمجاهدين أو أهل العلم وأهل التربية ونحو ذلك. وأما ازدواج الولاية فهو إغراء بالتنافس والتعالي والتعارض بين الأطراف التي تدعى سلطتها.
| |
| | |
| وقد ينشأُ الخلاف المفرق من تباين المذهب الفكري. ومهما كانت الحركة الإسلامية موحدة بمذهبها الإسلامي إجمالًا، فقد يبلغ بأعضائها الولع بتشقيق الفقهيات الفرعية أن ينشقوا حول قضية صغيرة أَو تأخذهم الحمية في اختيار بعض طرائق التفقه المشروع دون بعض. ولم تسلم الحركة في [[السودان]] من بعض ذلك. لكنها لم تكن ساحة للصراع الفكري. ويحيل بعض المراقبين ذلك لضآلة الاهتمام بالفكر فيها وفي غالب الحركات الإسلامية المعاصرة. لكن الحركة في [[السودان]] التزمت منهجًا حركيًا عمليًا صرفها عن فرط الإِيغال في التنطع النظري، فلا يكاد المرء يلحظ فيها أثرًا أَو خطرًا لخلافات تهدد وحدتها بين تيارات محافظة وأخرى تقدمية يسارية أو تقليدية وأخرى عصرية أو صوفية وأخرى سلفية ظاهرية. وكانت ظروف الحركة التاريخية أَدعى من المواقف الفكرية إلى أن توقع فيها التباين، لفارق الأَجيال بين أهل السبق والناشئين، أو لفارق العهد والتجربة بين القدامى والقادمين في مراحل الانفتاح، أو لفارق أنماط الثقافة والحياة بين الصفوة والجمهور حين الانفراج الشعبي في أخير عهد الحركة. سوى أَن الطبيعة الشورية المرنة المنفتحة قد أسعفت الحركة من مغبة هذا التباين جميعه.
| |
| | |
| ولن يتجرد البشر مهما زكتهم التربية الدينية من أَهواء التنافس الشخصي حتى يطوى الله بساط الابتلاء الدنيوي وينزع ما في صدورهم من غل في أُخوة الآخرة. وقد وقع في الحركة الإسلامية ب[[السودان]] ما وقع في أَخواتها وما يقع كثيرًا في سائر الجماعات من فجوة في الثقة ونزاع على السلطة. وأَهل التربية الدينية يحاولون كبت خواطر الأنانية والحسد التي تراودهم، لكن قد يخادعهم الشيطان ويُزيِّن لهم أغراض أنفسهم، أو قد يخادعون غيرهم باصطناع قضية خلافية موضوعية أو بتبرير التنافس والتجارح بدعوى إرادة المصلحة والحق. لكن الجماعة تعرف التنافس الشخصي بأمارات كثيرة ويجديها أن تسد منافذه بالتربية أو التنظيم حتى لا يفسد ذات بينها إفسادًا.
| |
| | |
| ويمكن للمرء أَن يستقرئ تاريخ الشقاق في الجماعة الإسلامية ب[[السودان]] في ضوء ما تقدم من دواعيه. فقد وقع انشقاق بائن لأول نشأة الجمعة في جامعة الخرطوم لبعد الشُقة بين بعض المؤسسين الذين حملوا جرثومة فكر يساري سالف أَو سائد عندئذ وآخرين اعتصموا بالُأصولية الإسلامية الخاصة. وخالط ذلك الشقاق تنافس المؤسسين أَيهم يبرز زعيمًا للجماعة الجديدة. ولم تكن نظم الشورى وآلياتها قد استوت عند الجماعة بما يحيط بالخلاف. وكادت تخرج كل الفئة القيادية الفعَّالة، وأسست الجماعة الإسلامية ثم الحزب الاشتراكي الإسلامي، ولكن القاعدة اعتصمت بالجماعة وحاصرت الانشقاق في نطاق محدود جدًا.
| |
| | |
| وكان الانشقاق الثاني تكلفة أدتها الجماعة مقابل الازدهار الكبير للحركة في السنوات الستين، حيث تعاظمت أقدار كسب الحركة في العمل الجماهيري العام دعما وتعبئة وضاقت عنها أُطر التنظيم المحدودة، فوقع التوتر العظيم بين العمل العام وواجهاته وقياداته من جانب والعمل الداخلي وأُطره من جانب آخر، وثارت عصبية المناظرة بين [[السياسة]] أو جبهة الميثاق الإسلامي والتربي أَو تنظيم الإِخوان المسلمين الداخلي، بالرغم من أن المتناظرين كانوا هنا وهناك جميعًا، لكنهم انتصبوا ف تعارض حاد وضربوا وظائف الدين المتكاملة بعضها ببعض. وقد لابس ذلك شيء من اتساع الخيارات والخلافات، حيث باشرت الحركة قضايا [[السياسة]] الشرعية الظنية بغير تجربة مطمئنة بعد أن كانت من قبل في شئون راتبة لا يختلف عليها. كما لابسه شيء من التحاسد والتجارح، إذ ا عظمت خطورة المواقع القيادية وفتنتها. ذلك بينما ضاقت أوعية الشورى وآلياتها عن احتواء كل هذه التوترات والابتلاءات. وقد أَعقب تلك الفتنة عهد وُسّعت فيه الشورى ووحِّدت وظائف التدُّين في وعي الجماعة وفي ولاياتها التنظيمية. ولكن ذلك ما كان ليحول دون الانشقاق، لولا أن طروء الانقلاب المايوي عام 1969م عرَّض الحركة جميعًا لفتنة ودعاها لضم الصف في وجه الخطر الشامل. ولكن الصف لم يلتئم حتى وافته المصالحة لتفتقه من جديد.
| |
| | |
| وظهر الانشقاق البائن الأخير في عهد الانفراج بعد المصالحة بعد أن ظلَّ التباين يعتمل في الجماعة بين توجهين: توجه الجماعة الغالب الذي استمر يدفع النهضة الحركية في الستينات، ولم تزِده ظروف القهر إلا مزيد توكل وإقدام، فصادم النظام الحاكم غير متهيب ثم انقلب فصالحه غير متردد، ولم تزده خلوة السجون وهدأة العمل إلا مزيد تأصيل فكرى لمواقفه الاجتهادية المتوكلة، ولم تزده علاقاته الإسلامية الخارجية إلا مزيد قناعة بفاعلية الحركة المحلية. أما التوجه الآخر فقد تشكَّل من عناصر لم تُعجبهَا هذه الراديكالية الجريئة، بل قدرت في مواقف الحركة السياسية حربًا وصلحًا مغامرات خطرة، وفي مذاهبها الفكرية مروقًا على التقاليد السلفية، وفي تقدمها المستقبل تجاوزًا لنمط الأرثوذكسية الحركية. هكذا أنكر الخارجون على الجماعة أنها عارضت النظام بتهور كاد يهلك الحركة ثم عادت فأَعطت الدنية بمحالفته لتذوب الحركة فيه، وأَنها تعدت حدود الحيطة الفكرية إذ أباحت حرية الاجتهاد والتجديد في الأصول والفروع الفقهية، وأَنها انتهكت قيود العرف الديني إذ توسعت في شأن المرأة، وأنها لم تقف عند قدوة التقليد الحركي وقيادة المحور العربي للإِخوان المسلمين.
| |
| | |
| ويمكن إجمالًا، القول بأن خطر الشقاق إنما يضرب الجماعة في عهود الانفراج السياسي العام ومراحل الانتقال والإِقبال على تطورات هامة. فكان أخطر الانشقاقات من حيث قدر الخارجين وأُصولية الخلاف هو الذي وقع والحركة تتلمسَّ وتؤسس توجهاتها الُأولى. ثم يليه من حيث قدر الخلاف والمخالفين انشقاق الستينات فهو عينه الذي انكبت بطروء القهر السياسي لينفجر بعد المصالحة ببعض أَشخاصه وغالب توجهاته حين واتاه الانفراج واستفزه إيغال الجماعة في توجهها المختار. لكن الحركة شهدت انفراجًا كبيرًا بسقوط النظام المايوي وتحولًا خطيرًا في طبيعتها بالانتقال إلى الجبهة الإسلامية القوميَّة- كل ذلك دون أن تتعرض لتوتر أو شقاق. فاتجاه تاريخ الجماعة يبدو مضطردًا نحو التوطد والتوحيد. وإذا كانت الجماعة قد عانت زلزالًا في موطنها القيادي بجامعة الخرطوم حين الانشقاق الأَوَّل، فقد سلمت سائر الشعب الطلابية والخارجية إلا أفرادًا. أما الانشقاق الأخير فلم يظفر إلا ببضع قياديين وجملة من الأعضاء لا تجاوز واحدًا في مائة من الجماعة جلهم في العاصمة. وواضح أن القاعدة في كل الأحوال كانت تعتصم بالجماعة, ولا تنساق مع دواعي الشقاق ولو كرهت في قياداتها شيئًا، بل تصابر وتنأى حتى عن الخوض في هرج الفتنة.
| |
| | |
| والآفة الأكبر في المنشقين دائمًا أنهم يتلمسون غذاءهم ووحدتهم في النيل من الجماعة وترويج التشنيع على مواقفها والتجريح لرجالاتها، فكان منحى دعوتهم عدوانيًا لا تستيغه فطرة الجماعة وكان مغزاها سلبيًا إذ تعكف على ما تزعمه خطأ ولا تهدف ما تدعيه صوابًا. وما تبرد حمية الشقاق حتى يتضاءل دفع الانشقاق وتداخله الحيرة في هُويته ورسالته وتظهر فيه ظواهر التساقط.
| |
| | |
| وقد التزمت الجماعة سنة الصبر الجميل على أذى المنشقين، والاستعانة بالله على ما يصفون، والتواصي بالسماحة معهم إلا أن يهاجروا، وبالانصراف عن مماراتهم ومجاراتهم إلى صالح العمل الموجب. ولئن أَفلحت الجماعة بسلامة فطرتها وقوة دواعي الوحدة فيها وسماحتها لدى الخلاف أن تُحاصر امتداد كل انشقاق وفرقة وتتجاوزه بخير، فقد استعصى عليها أن تراجع المنشقين، إلا ما كان تحت وطأة القهر في السبعينات. فلم يرجع إليها إلا قليل، بينما تحيَّر البعض وانزووا، وأصر الباقون وتحيزوا. وما زال في الجماعة الأم نزع الفطرة إلى شكل الوحدة الأشمل بضم الخارجين أو معاملتهم بالبر والمعروف. كما فيها من يتعزى بأن قد تحررت الجماعة من خيال التوتر الداخلي، وصفا فيها مناخ الثقة من ضباب الظنون والتبرم، وخلص منهجها الفكري من التنطع والتزمت، وخفت حركتها من التحفظ والتبطؤ.
| |
| | |
| ومهما يكن فقد تعلمت الحركة الإسلامية ب[[السودان]] شيئًا من الرضا بقدر تعدد الجماعات الإسلامية والصبر على بلائه. وسواء بدأ التعدد وطرأ، فإنه قد يستمر – قد تقوم جماعتان متضاهيتان لا يفرق بينهما إلا تباين المنشأ التاريخي ثم لا تجدى من بعدُ محاولات التقريب والتوفيق، وقد تنشق حركة لتقدير ظرفي ما يلبث أن يزول لكن المفارقة تتجمل بالتاريخ وتتذرع باصطناع شقاق متجدد. ولا ينبغي أن يُهمل المسلمون مُثل الوحدة العليا مهما هبطوا عنها، ولا أَن ييأسوا من السعي إِليها مهما بعدت الشقة.
| |
| | |
| سوى أن تراث الفتن بين النحل والطوائف و[[الأحزاب]] قديمًا وداخل بعض الحركات الإسلامية حديثًا قد يغرى بمذهب يرفض التعدد حالًا ومثالًا ويسعى لاستئصاله باللطف والعنف فيركب فتنة أكبر أو ينقلب متشددًا ينكر أصل ما فطر الله عليه البشر من تباين في الملة أو الجماعة أو الرأي. ولا ريب أن الجماعة في [[السودان]] بعد تجاربها قد عرفت التعدد وجودًا كما عرفت التوحد وجوبًا، لكنها لم تبلغ بعد أن تطبِّع الُأمور تمامًا أو تطور كل تصورات التعدد في سياق مجتمع إسلامي متمكِّن ذي سلطان سياسي متوحد.
| |
| | |
| </div><noinclude> </noinclude>
| |
| | |
| | |
| | |
| == نشاط الحركة في المجتمع ==
| |
| | |
| <div class="reflist4" style="height: 500px; overflow: auto; padding: 3px" >
| |
| | |
| *مع جمهور المجتمع
| |
| *في أوساط المجتمع
| |
| *في حياة المجتمع
| |
| | |
| === نشاط الحركة مع جمهور المجتمع ===
| |
| | |
| قد يحسن بين يدي وصف علاقة الحركة الإسلامية ب[[السودان]] بالمجتمع أن نحاول رسم نمط تاريخي لتطور علاقة حركات الإِحياء بمجتمع المسلمين التقليدي. وقد عالج هذا الكاتب في منشورات أُخرى عن التجديد سنة التاريخ الديني ودورته بين الموت والحياة والجمود والتجديد، وهنالك أورد شواهد تلك السٌّنَّة في عظات القرآن وقصصه وفي تعاقب القرون من سيرة [[الإسلام]]، وأشار إلى صلتها القياسية بالسنن الطبيعية في انتعاش الأرض الخامدة وإخراج الحي من الميت، وهنالك فصَّل فيها سائر القول تفصيلًا. فلنقتصر هنا على إجمال لمعالم الانتقال من حال الجمود في المجتمعات الدينية المتقادمة ولحركة البعث التي تطرأ عليها طورًا عليها طورًا بعد طور.
| |
| | |
| ففي طورها الأوّل تخرج الدعوة الجديدة دفعة حياة منبعثة في مجتمع موات. ولكن قد يدور عليها الزمن فتتحول من دعوة مندفعة إلى طائفة أو فرقة جامدة منحصرة أو ذابلة منحسرة، حتى تعود الحاجة لدعوة الإِحياء والانتشار من جديد، وهكذا... وإذا كان هذا النمط الدوري هو سنة التطور الديني التاريخي عمومًا،فالذي يميز طورًا عن طور: أن الدعوة أولًا، خطابٌ منفتحٌ على المجتمع بأصولٍ جاذبة تستقطب المُخَاطبين، وأُطر جامعة تستوعبهم وتوحدهم مهما كانوا في حال الجمود مذاهب مفرقة. والدعوة ثانيًا، ومن بعد كونها خطابًا، حركة حية تكسر جمود حياة المجتمع التقليدي وتطمس حدوده الداخلية المتحيزة وتنشر بساطًا واسعًا يحيط به ويضمه قاطبة، والدعوة ثالثًا، تتجه إلى الناس مقبلةً متوكلةً لا تدبر ولا تنطوي وهي تقدمية في مغزاها تتصوب إلى المستقبل ولا ترتهن للماضي، بينما الطائفة التي تسبق الدعوة – وقد تلحقها – غالبًا ما تكون اعتصامًا بحالٍ تاريخي راجع يميز أهلها ويعزلهم، واستمساكًا بعصبية تستغني بشئون الذات الطائفية وتدبر عن سائر المجتمع، وأصرارًا على الولاءات القديمة الجامدة، وتبلدًا عن الخيار الحر وعن الحركة المتجاوزة، فالطائفة انحصارٌ واقتصارٌ وتقليدٌ وافتتانٌ بالماضي وحذرٌ من كل طريف وغريب.
| |
| | |
| هذان النمطان: «الدعوة» و«الطائفة» يتداولان في سيرة التاريخ الديني بسنة راتبة، ولكنها غير لازمة حتمًا لأَنها من شأن الإِنسانية المخيَّرة لا طبيعة الأشياء المسيَّرة، فالدعوة قد تعي فتتقى سنة التقادم بأن تجدد شأنها دأبًا فتحفظ حيويتها إلى ما شاء الله.
| |
| | |
| '''الإعتزال والتفاعل:'''
| |
| | |
| إذا كانت الحركة الإسلامية هي ظاهرة الانتقال من مجتمع الجمود والطوائف والتخلف إلى مجتمع الحياة والدعوة والتقدم، فمعزى الحركة إنما يُكْمُنُ في صلتها الأوَثق بالمجتمع وفعلها الأوقع في تغييره. ويمكن أَن نلاحظ كيف كان تطور الحركة الإسلامية في [[السودان]] يتجه نحو الانفتاح على المجتمع والتفاعل معه بشتى وجوه مضطردة ومتواكبة.
| |
| | |
| فقد كانت الحركة في مراحلها الأولى تدعو إلى فكرٍ جديدٍ يبدو غريبًا مُنْكَرًا وإلى ولاءٍ يبدو اعتزالًا وشذوذًا عن الأطر المعروفة. وكان سلوك أعضائها يميزهم ويجانبهم عن النمط الديني والاجتماعي التقليدي. وكان الداعية إذا برز من قطيعة عُرْضَةً لأن يُخاصرَ وَيُحْرَج باستفتاءات دينية فرعية ليست من أولويات علمه ودعوته، أو لأن يُجَهَّل، أو يُتَهم من قِبَل أَهل التقاليد الدينية المتمكنين، إلَّا أن يرتد لاجئًا إلى جحره المستور، بل كان إظهار الدعوة حتى في سياق الأسرة مجلبة للضغط والإِرهاب، لاسيما أن الدعاة كانوا شبابًا، والشباب عندئذٍ في ضبط وضغط.
| |
| | |
| وكان حجم الجماعة المحدود يغريها بأن تلتهى بذاتها الداخلية العامرة، وكانت الوظائف الدينية التي تؤديها لا تشمل هموم المجتمع الخارجي ولا تتصل بقضاياه المباشرة. وكان ظرف الحياة السياسية حينئذ يوحى بهواجس الخوف ويدعوها إلى الخصوصية في الاِتصال. فدعوتها كانت خطاباَ مباشرًا لمن تنتقي وتعين، تربيتها كانت في حلقة مغلقة لمن ينتمي ويؤتمن. ويدعوها ذلك الظرف إلى سرية أشد في التنظيم فأشكاله خفية وعلاقاته مكتومة.
| |
| | |
| ومن جانب آخر كانت البيئة الخاصة التي نشأت وانحصرت فيها الحركة لمرحلتها الأولى بيئةً طلابيةً، وكانت سياسات التعليم وأوضاعه آنذاك تعزل الطلاب عن المجتمع سكنًا قصيًا وثقافة نظامية غريبة ونمط حياة غريب.
| |
| | |
| ثم تغير ذلك جميعًا، فصف الجماعة أخذ ينتشر وينفتح بعد أن كان منحصرًا مستغرقًا في أُخوته الداخلية، وما انفكت سياسات الانتشار تمتد به حتى تعاظم واستوعب تمثيلًا كاملًا لقطاعات المجتمع المتباينة وتهيأ له أن يتفاعل بفئاته مع ما يقابلها من حوله. وفي ذلك نشطت الدعوة وخرجت على الناس وشَهُرَتْ قلم تعد غربية، بل انبت بها الدعاة، وروجتها الدور والتنظيمات ووسائل الاتصال والعمل العام التي بسطتها الحركة. وخرجت الجماعة أيضًا بمناهج تربيتها الداخلية من الأطر المغلقة إلى المساجد ودور الانتداء وساحات الثقافة والتدين، فشاعت بذلك شعاراتها وعباراتها وأنماط سلوكها وصور حياتها الدينية بين الناس. ذلك بينما تطورت هموم الحركة من الشئون التنظيمية والتربوية الأولى إلى أن تستوعب هموم المجتمع ومصالحه ووظائف حياته العامة فاندرج شأن المجتمع غالبه في برامج الحركة.
| |
| | |
| هكذا بعد الاعتزال اقترب ما بين الحركة والمجتمع، فتعلم منها بعض ما بلغت من تقاليد الدين وتذكَّر وتزكّى من موعظتها وتربيتها بعد غفلته، فأنست هن به بعد استيحاش وتفاعلت معه نحو الاتحاد.
| |
| | |
| '''السر و العلن:'''
| |
| | |
| الوجه الآخر من توثيق صلة الحركة بالمجتمع يُرَى في تَطَوُّوِها نحو الإِعلان بعد أن سادت فيها للمراحل الأولى روح الإسرار والحذر المُفْرط. وكان ذلك اعتبارًا باضطهاد الحركة الإسلامية المصرية الذي انفعلت واتعظت به الحركة [[السودان]]ية كثيرًا، كما كان ذلك مضاهاة للتجربة السرية للحركة الشيوعية [[السودان]]ية التي كانت تؤثر على الحركة الإسلامية من باب المنافسة القريبة. وقد تأكدت السرية بالطبع حين طرأت تعاقبت النظم القهرية في حكم [[السودان]] وطرحت معضلة التأمين خوفًا ماثلًا أ, احتياطًا.
| |
| | |
| هكذا كانت الجماعة تلتزم سرية بالغة في وجودها ذاهت وحصرًا شديدًا لعضويتها واقتصادًا حذرًا في دعوتها وعملها، وكانت تراعى حجب نظمها وأشكالها وتعقد إِجراءاتها تحوطًا من انكشاف أمرها. وعندما صدمتها وطأة الأزمة الأمنية الأولي بقيام انقلاب الفريق عبود بلغ بها الخوف والإِسرار إلى شبه تجميد شامل لحركتها السنوات الأولى من ذلك العهد.
| |
| | |
| لكن عهود الحركة الأولى لم تخلُ بالطبع من ظواهر عَلَنٍ لضرورة الدعوة، فكان أول ذلك أن برزت أعلام للحركة ورموز يحملون دعوتها بِسُفور، وكان هذا البروز المبكر تجاوزًا للخوف على القيادات من أن تَطَالهم تدابير الاِعتقال والبطش السياسي أو تصوب إليهم حملات الاغتيال الدَّعائي أو الجنائي ونحو ذلك من المحاذير التي كانت شائعةً في فقه كثيرٍ من الحركات الإسلامية . لكن حقيقة الأوضاع التنظيمية لهؤلاء الدعاة كانت غالبًا ما تستر، فلا يُقَال إنَّ فلانًا هو المسئول عن هذه الولاية أو تلك في الجماعة، أمَّا غالب العاملين فربما احتجبوا بأصل انتمائهم، فلا يعترف أحدهم أو يعلن حتى لأهله أو من يليه أو للكافة أنه عضو في الجماعة.
| |
| | |
| والحق أنَّ تدابير السرِّية التي اتخذتها الجماعة لم تجد تأمينًا فعّالًا بقدر ما توهمت، إلَّا أنْ عوَّقت نشر الدعوة التي لم يُعَبِّر عنها إِلَّا أدبها المجرد المتاح في سوق المنشورات وكلمات بعض الدعاة الظاهرين، كما عوَّقت أَثر الحركة التي لم يستيقن الناس منها بعد أصل وجودها إلَّا ظنونًا وأقوالًا يتسامعونها. أمَّا أعضاء الجماعة الذين يكتمون انتماءهم فما كان عسيرًا على من يريد رصدهم أن يميزِّهم بلحن القول أو سمت المظهر. ولذلك لم تلبث الحركة أن تبيَّن لها ضآلة جدوى السرية المفرطة التي كادت تصبح عقيدة تُقْيَة مطلقة للحركة الإسلامية في الشرق الأوسط، وأن تذكَّرت واجب الصدع بالدعوة، وأن استجمعت الثَّقة والتوكل بما يقوّم معادلتها بين تقديرات السر الضروري والعلن الواجب.
| |
| | |
| وكان من سياسات الظهور الحذرة الأولى أنْ اتخذت الجماعة نظام الواجهات في سبيل أنْ تتذرع إِلى بسط الدعوة بإِخراج وجوهها وجهًا وجهًا لا بالشمول السافر الذي قد يثير فزعًا أمنيًا لدى المتربصين بصحوة [[الإسلام]] إذا لاحت لهم أبْعَادُها ومغازيها تنطلق من محور واحد. وكانت الواجهات تؤدى للجماعة وظيفة أمنية أخرى إذ كان يندس فيها الملتزمون فلا يُعْرَفُون ويَتَّقون بها مغبَّة الضربات [[السياسة]] التي تتهيب استهداف جبهة واسعة مهما اشتبهت فيها.
| |
| | |
| وتداركت سياسات الإِعلان فأصبح غالب الانتماء سافرًا للمجتمع، وغالب العمل ظاهرًا، ولم يبق في المذاهب الفكرية شيء من باطنية، ولا في المواقف الحركية كثيرٌ من سرية. ولئن كانت دواعي الأمن السياسي تجنح بالمعادلة لصالح الإِسرار حين الخطر فقد كانت الحركة أكبر من أن تستسر بكثير وأجرأ من ألّا تجاهر بغالب شأنها حتى في أيَّام كُتِبَ فيها على الجماعة بعض الانكبات بحكم المصالحة مع نظام مايو السياسي.
| |
| | |
| ومع نفحة العافية والحرية بعد مايو تهيَّأت الحركة لمرحلة العلن الأكبر، فجعلت مؤتمر تأسيس الجبهة الإسلامية على ملأٍ من الرأي العام، ثم مضت في مؤتمرها الثاني فأخرجت التنظيم كله بأهداف ووسائله ووظائفه وأشكاله وحدوده ورجاله. وبهذا الانكشاف الكامل رُفعَت أغلبُ الحُجُب بين الحركة والمجتمع وتوطدت الثقة، إذ انقشعت الرِّيَب والمخاوف التي كانت توحي بها ظلمة السرية. وكان في ذلك دفع جديد للحركة وتمكين، لأن الخصوصية – مهما جمعت أهلها على شأنهم المكنون – تجانب ما بينهم والآخرين، ولم يكن أنْ أنِسَ الناس للحركة وأمِنوها وحسب، ولكن تكامل بذلك الخروج أثرُ دعوتها، إذ تمثلت من بعد الكلمة المنشورة في قدوة مشهورة، يشهد الناس فيها كيف يكون في [[الإسلام]] التْناصُح والتَّشاوُر والاخْتلاف والاتفاق، وكيف يُحَقَّقَ تقرير الأداء ويُقوّم، وكيف يُمَحَّص مشروع القرار ويُحْسَم، وكيف تُنصب الولايات وتُدَار الاجتماعات، فضلًا عن اتَّجَاه الحركة لإِبْداء إستراتيجياتها وبرامجها الخارجية والاقتصادية والأمنية بلا تلبيس ولا إبهام.
| |
| | |
| وما كان لهذا العَلَن أنْ يتم لِيصَلَ الحركة بالرَأي العَامِ لِسَوَادِ المجْتَمَع لَوْلاَ أنْ قد تطورت وظيفة التأمين في نِظام الجماعة لِتسَوَّى توازُنَ الإِعلَان والأَمْن، وتَمَيز بتقدير منهجي معتدل لما يلزم سترُه من شئون الجماعة ليتيح إخراج سائرها بغير تحرُّج أو محاذرة مفرطة متوهمة. هكذا كفى الأداء الأمني المتطور للجماعة هَمّ وقاية ضروراتها الحيوية من أي كيد متربص، ثَمّ أمدَّها بالمعلومات التحليلية لما حولها من واقع لترتَّب حركتها عن بَيِّنة وتحفظ مقومات وجودها وجهادها في كل حال وخطب، أو فرج وأزمة.
| |
| | |
| ولكن هذه المعادلة التي حفظت ضرورة السرية بقدرها بينما فتحت منافذ عرض الدعوة والقدوة ومكنت للحركة في المجتمع ثقةً ووقعًا، هذه المعادلة لم تستقر إلَّا عبر جدل فقهي حول محاذير الانفتاح ثم حول محاذير الوظيفة التأمينية. فلما كانت ظروف الضرورة تُلْزِم ببعض التَّوقي، ثار التَّساؤل حول مدى خطر الظهور وقَدْرِه، وما اتجهت الجماعة لتكثيف التأمين من أجل إطلاق العمل الإسلامي حتى ثار التساؤُل عن جواز اتخاذ وسائل المراقبة والتحسُّس والاِستعلام والتجسس على الآخرين والنَّيْل منهم من حيث لا يعلمون ويَأَذَنُون. وهذا سؤالٌ مشروعٌ جوابُه معروفٌ حينَ تَتَسَاوَىَ سائرُ التقديرات المعتادة ولا تنشأ ضرورات تتناسخُ بها الأحْكَام، ولئِنَ تواردت وترددت الفتاوَى الفرعية لأوَّل الأمْرِ فقد تكامل الفقه الأمني لدى الحَركة من بعدُ وصدرت فِيْهَا وَرَقًةٌ مَنْشورةٌ أَصَّلَتَ أُصولَه وفصَّلت فُرُعَه.
| |
| | |
| '''النخبة والشعب:'''
| |
| | |
| الوجهُ الثالث لاقتراب الحركة الإسلامية من جمهور المجتمع بدا في تطوُّره نحو العضوية الشعبية. وقد ذكرنا كثيرًا كيف بدأت الحركة طلابية معتزلةً لسواد الشعب وظلَّت حينًا من الدهر منحصرةً عمدًا في القطاع الحديث تَنْتَقى وتَنْتخَب من تخاطب ثم تَتَعَهَّدَه بالتَّزكِية والتَّرْقِية المركزة. وكان في تلك [[السياسة]] أكثر من كونها طَبْعُ النشأة الأولى. ذلك أنَّ أقدار الحرية السياسية والوعي الفكري التي تتمتع بها وتختص النخبة الثقافية الحديثة كانت تؤهلها لاستقبال دعوة جديدة واستيعاب طرح إسلامي غريب وولاء غير عُرْفي. فلو أنَّ الحركة غالبت دواعي الحذر الأمني وحداثة السن وتوجهت إلى سواد الشعب لصد عنها وصدها. ثم أنّ القطاع الصفوى الحديث كان يعد إعدادًا لقيادة المجتمع في وجهة حياته وحركته السياسية الوطنية، وكان دور عامة الشعب في تقرير مصائره محدودًا، فحيث كانت القيادات الإِدارية والحضارية والوطنية زُين للجماعة أن تركز دعوتها وتعول لمستقبلها مستغنية عن حشد الجماهير العاطلة من التأثير.
| |
| | |
| هكذا تحاصرت الحركة في النخبة الطلابية والمتعلمة أو في القطاع الحديث، وأصبح صفها صفوة، وأصبحت موضوعات دعوتها وأطروحات فكرها ووسائل تربيتها مناسبة للنخبة المصطفاة، بل مضاهية بعض الشيء للمنهج التعليمي والتربوي الذي يقرر للصغار والطلاب بتلقيناته الضابطة ومراحله المدرجة، هكذا تكيفت الحركة بكيف باعد ما بينها وبين الشعب عامة.
| |
| | |
| لكن تكامل وجوه الانفتاح والعلن الذي ذكرنا دفع بالحركة نحو طبيعة أكثر شعبية . وأخذ القطاع الحديث المتميز نفسه ينداح في عامة المجتمع، إذا تكاثر الطلابي والمثقفون والتحموا بالشعب وتلاشت غربتهم وميزتهم الأولى، ونشطت قطاعات شعبية كانت خاملة فعادت تظهر وتفعل في الحياة العامة – مثل القوى الحضرية والقبلية، والنقابات والنساء، وأهل الأقاليم الجنوب خاصة، كل أولئك دخلوا الساحة التي تخاطبها وتسعى لتربيتها وتعبئتها الحركة الإسلامية ، وما كان للحركة إلَّا أن تكيف سياستها وطبيعتها بوجه أقرب للشعبية. وبالفعل لما اتخذت الحركة في السبعينات استراتيجية شاملة لمستقبل أمرها كان من أركان تلك الخطة أن توطد الحركة قاعدة شعبية متمكنة، وبسطة واسعة للتدين بين الناس، وقوة كافية تتعبأ لتجاوز الواقع الراهن إلى واقع إسلامي وتتهيأ إذا تمكن [[الإسلام]] أن تدعمه وتدفع عنه.
| |
| | |
| ولما حق التوجه الشعبى وصدق مضت الجماعة تستوعب الجماهير يساعدها في ذلك رخاوة الولاء التقليدي والديني والعرفي المعوق. وانفجرت أطر الجماعة لتنحشد فيها جماهير متباينة في الوضع المادي والمستوي الثقافي، اتسع الفكر ليخاطبها بشتى أفهامها الساذجة والمثقفة، وانفرجت خطط العمل لتفي بمختلف همومها المعاشية والخلقية والأمنية والسياسية، وتكثفت وسائل التربية لتناسب كل حاجات الشعب للعلم والتدين خاصته وعامته.
| |
| | |
| وقد أعان الجماعة على تجاوز محاذير الانفجار الشعبي أو استدراك مغباته أن قد توافر لها عبر التطور الطويل السابق رصيد موثوق من الفكر المركز الذي يؤمن عليه من الضلال والتبدد إذا لامس الجهات الشعبية ذات المذاهب والمشارب المختلفة، وأن قد توافرت فيها أيضًا عناصر عضوية قوية صاغتها وأنجبتها التجارب والمجاهدات يعول عليها إذا التحمت بالجماهير ألَّا تتلاشى أو تتسيب أو تتدهور بل أن تحمل الجماهير بقدوتها وقوتها إلى مستوى أعلى، وأن قد استوت لها خبرة عميقة في فنون التنظيم يرجى أن تمكنها من الإِحاطة بقطاعات الشعب دون انحلال في روابط الجماعة أو ارتباك في نسقها المحكم أو تراخ في فعاليتها العالية.
| |
| | |
| ويبدو تطور الإِطمئنان إلى عاقبة التوجه الشعبي من مقارنة تجربة جبهة الميثاق الإسلامي بتجربة الجبهة الإسلامية القومية بعد عشرين عامًا. فالمشروع الأول كان محوطًا بالحذر الشديد خشية تشوه الفكر والتوجه واختراق الصف الإسلامي، ولذلك أُسست الجبهة على ميثاق مكتوب وضع عليها وضعًا ضمانة ألَّا تضل أو ترتبك، ثم حفظ صف الإِخوان المسلمين منفصلًا عن جمهرة الجبهة، واستبقى قدر من ثنائية القرار تحكمًا في رشده. أمّا في مشروع الجبهة الإسلامية فقد ساد الفكر الإسلامي القويم دون وضع رسمي، وتوحد إطار القرار الرشيد في الجبهة، وأُدرجت عضوية الجماعة الخاصة في عموم عضوية الجبهة لتشكل قاعدة الحركة الإسلامية الجديدة الموحدة.
| |
| | |
| ومهما كانت الطمأنينة والحماية المحلية للمشروع الشعبي الأخير الكبير، فقد كان تواردت من بين يديه تحذيرات من كثير من أهل الحركات الإسلامية مشفقين من مغبته على نقاء الفكر من الغبش والاختلاط وصفاء الصف من العناصر الرخوة والانتهازيه والمشبوهة، فمذ شاع مفهوم المجتمع الجاهلي وتعاظم الهاجس الأمني في الحركات الإسلامية المحصورة المقهورة، غدت عندهم كل خطة للتوجه الشعبي العلني المنفتح خطة عقيمة محذورة. لكن تجربة الحركة الإسلامية ب[[السودان]] أيدت ظن الخير بالشعب والثقة في سلامة فطرته وقوة فعاليته، وبددت أوهام الحذر والقنوط من الجماهير.
| |
| | |
| هكذا استوت لدى الحركة الموازنة القويمة بين الكيف والكم واستقر عندها الإِيمان بأن عرض الجماعة من حيث الانتشار الشعبي وعمقها من حيث التركيز الديني لا يمثلان قيمتين متضادتين بل متلازمتين متداولتين، فالكيف الذاكي يستدعي تنظيم الكم ثم يرقيه ويزكيه، ويؤدى الكم إلى مباركة الكيف، ولو كان ذلك دورًا مرحلة بعد مرحلة.
| |
| | |
| ولعل في أطوار دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ما يشير إلى هذه السُّنَّةُ المتداولة، فقد كان الوحي يهديه صلى الله عليه وسلم إلى مرحلة تركيز تصب فيها أقدار تزكية بالغة على قاعدة المسلمين المحدودة، حتى إذا أصبحت صلبة متينة اندفعت بحوافز دينها المركوزة إلى الاتساع والاشتمال على من حولها من الناس دعوة وجهادًا. وقد يعترى الجمهرة المتكاثرة لجديد عهدها شيء من الاضطراب وتداخلها شوائب انتقالية، لكن ما تلبث قدوة الصفوة من السابقين أو دعوة الواعظ الديني أن تطهرها وتزكيها فتصبح هي المثال القويم والقاعدة الأعظم لاندياح متجدد لحركة [[الإسلام]]. ولعل المستقرئ للسيرة يلاحظ هذه الأحوال المتداولة، من عهد القلة والذلة والصبر والهجرة في مكة، إلى أيام المدينة الأولى ثم حسن إسلام الأنصار، ومن ذلك إلى فتح الحديبية وأحوال المسلمين كما تحكيها سورة التوبة، ثم فتح مكة وما أعقبه من حنين وظاهرة الردة، ثم كيف تركزت قاعدة الدين العربية لتنطلق إلى ما وراءها من الشعوب.
| |
| | |
| '''الصف والكنف الاجتماعي:'''
| |
| | |
| ظلت الحركة طوال عهودها الأولى غير معينة بما وراء حد صفها من المجتمع، إذ كانت منغلقة بسريتها وخصوصيتها معزولة ببيئتها ووحشيتها مستغنية عن الناس لضآلة ما تحمل من أمانات ومهمات. عندئذ كان حد صف الجماعة هو حد الحركة الإسلامية أو كاد أن يكون.
| |
| | |
| لكن الحركة مذ تكلفت التكاليف في نصرة قضايا [[الإسلام]] في الحياة العامة، واتخذت الوسائل الأكبر في التربية والدعوة و[[الجهاد]] ، وانفتحت على الملأ وتبدت من وراء أسرارها وأستارها، وتخلت عن انتقائيتها وصفويتها لتكون لسواد الشعب وبه ؛ منذئذ لم تعد متمحورة على ذاتها عاكفة على أمرها الداخلي وشأنها الخاص، ولا مقتصرة في التعويل على صفها المأمون، بل مدت نظرها وذراعها إلى ما وراءه من الناس.
| |
| | |
| وأول تطور بعد حال العزوف كان أن انتهجت الحركة نهج الاستعانة الطارئة بقوة الشعب في سياق حملة بعد أٌخرى لغرض من أغراض الدين. ثَمّ أخذ التعاون مع قوى الشعب الأخرى يستقر في صورة نظام أو تحالف قائم لأجل ممتد. واتُّخذ نظام الواجهات والمنظمات المستقلة التي تختص ببعض أعباء الدعوة والعمل الإسلامي اشتراكًا مع غير الملتزمين في صف الجماعة. ثم تكثفت أسباب التعاون مع الشعب ووسائل الاتحاد به.
| |
| | |
| أما حملات الاستعانة بقوة المجتمع فقد استدعاها عجز الجماعة أن تقوى على القيام ببعض المهمات في الحياة العامة إلَّا أنْ تتقوى بغيرها. وكانت أولى القضايا التي استدعت ذلك هي قضايا تركيز التوجه الإسلامي في [[السياسة]] [[السودان]]ية بعد الاستقلال ومكافحة الشيوعية، وقد كان ذلك متاحًا ولازمًا لظروف الديمقراطية التي سادت تلك الأيام. ولم تقتصر الحملات الشعبية المشتركة على أغراض [[السياسة]] بل استهدفت أحيانًا قضايا الإِصلاح الاجتماعي وغيرها، وسيأتي ذكر ذلك لاحقًا.
| |
| | |
| ولما قوى عود الحركة وتوطدت ثقتها في جدوى التعامل مع القوى الأخرى، تطور منهج التعاون الظرفي المحدود إلى تأليف الجبهات والتحالفات السياسية على ما سيأتي بيانه في موضعه.
| |
| | |
| بيد أن أكبر وجه للتعاون مع الجماهير التحامًا بين الصف والكنف بأوثق من التحالفات إنما كان في نظام الواجهات، ولربما اهتدت الجماعة لذلك الأسلوب من خلال منافسة الشيوعيين، إذ ألفتهم قليلًا ما يباشرونها بوجه سافر، بل يتخذون واجهة ينحشد فيها جمهرة من المتعاطفين، غالبهم أبرياء مستغفلون لا يدركون مرامي الشيوعيين الذين يسخرونهم من حيث لا يشعرون. وقد أسلفنا ذكر الحكمة الأمنية في اتخاذ الواجهات، وإنما يعنينا هنا أن توزيع الوظائف الإسلامية ييسر مشاركة قطاعات واسعة من غير الملتزمين ببيعة الجماعة وصفها.فالذين يقبلون على نصرة قضية إسلامية محدودة أكثر من الذين يبدون الاهتمام ويرضون الالتزام بكامل قضايا الدين ويحتملون تكاليف الانضمام لجماعة منضبطة تأخذ أعضاءها بالعزائم ومجاهدة تعرضهم للابتلاءات. وهكذا تسنى للحركة أنْ تُعبئ جملة من الأنصار لمقاصد الدين المتفرقة، وأن تستعين منهم بجمهور عظيم لن يتوافر لها إذا راودته على شمولي وتنظيمي موحد. وكان انبثاث عناصر الجماعة المحدودة في أوساط هذه الواجهات يقربهم من الناس ويعرفهم النشطين للعمل الإسلامي، وتألفهم الجماهير وتطمئن إليهم من قرب التعامل، ويكتسبون هم خبرة في قيادة الجماهير وتعبئتها والتفاعل معها بدعوة [[الإسلام]] وحركته.
| |
| | |
| ولئن كانت الواجهات لأول الأمر أقرب قياسًا إلى الواجهات الشيوعية، فإن الجماعة بفطرة الغرض المعروف ولا تلويها لسواه ولا تتخذها شعارًا التزوير والتسخير، فكانت تلزمها الغرض المعروف ولا تلويها لسواه ولا تتخذها شعارًا يلوح به لاجتذاب المغفلين ولا احتيالًا لقضاء الأوطار وانتهاز الفرص العابرة، لاسيما أن الجماهير بأصل إيمانًا لا تجد حرجًا في المغزى الإسلامي العام للأغراض التي تدعى إليها بينما يضطر الشيوعيون أن يكثفوا النفاق لإِخفاء المغازي الماركسية المنكرة عند الناس.
| |
| | |
| ولقد قدمنا عند الحديث عن اللامركزية في التنظيم أن العلاقة بين المحور المركزي للجماعة وهذه الواجهات والتنظيمات قد تطورت فلم تعد مؤسسة على الهيمنة الإِدارية، بل هي أنماط درجات مرنة من الاستقلال؛ إلَّا الالتزام ب[[الإسلام]] ومراعاة الاستراتيجية العامة لحركته. ولم يعد مصطلح الواجهة بإيحاءاته الأولى مناسبًا؛ فالتنظيمات المكثفة التي تمخض عنها نهج التوزيع الوظيفي والمشاركة الجماهيرية ليست محض واجهات للمحور الحركي المركزي، بل كلها ذات وقع متميز في المجتمع وذات مكان مقدر في جملة المنظومة الحركية الإسلامية .
| |
| | |
| وقد بلغت الجماعة أخيرًا – بعد هذا التطور المضطرد في صلتها التعاونية بالمجتمع، وبعد طول تفاعلها معه بالخطاب والحركة، وبعد استواء إدراكها لقوانين التأثير الاجتماعي – أن بدأت تستشعر اتحادًا مع شعبها كله، وألَّا قوام لها إلَّا في سياقه، ولا تقويم لكسبها إلَّا بتقدير أثرها في تحسن أحواله الخلقية المادية، وألَّا مصلحة لها إلَّا في مصلحته. وقد ذكرنا وسنفصل كيف رضيت الجماعة أن تنخرط في جبهة إسلامية شعبية عريضة تستوعب عضويتها وتحتوى أشكالها وترث حركتها.
| |
| | |
| هكذا تجاوزت الجماعة عهد طفولتها المنطوية عن المجتمع، بل برئت من الطائفية أو العصبية التي تصيب بعض الجماعات الإسلامية فتحيلها عكوفًا على أعضائها الراتبين وزهوًا بهم وعزوفًا عما وراءهم. فمما اعتمدت الجماعة في [[السودان]] على متن صفها الملتزم محورًا للمبادرات ورصيدًا مأمونًا لأشقّ التكاليف وأعسر الظروف، كانت تقدر الدور الهائل الذي يؤديه كنف يناصرها من حولها ويبارك قوتها أضعافًا كثيرة، وقد يبذل الفرج المعين فيه بحدود ولكن البذل المجتمع بكثرة العاطفين يبلغ فعلًا أضعاف ما تقدر عليه الجماعة لو انعزلت عن دعم الجماهير ذات الفطرة المتجاوبة.
| |
| | |
| فالحركة الإسلامية كسبًا وقوة أضخم بكثير من الجماعة الإسلامية المنتظمة. وبسط الدين وتمكينه لن يتأتى لطائفة طليعية إلَّا بقدر ما تلتحم بالجماهير المسلمة تستنصر بها بعد الله، بل أنّ غاية الجماعة ينبغي أن تكون في انبثاثها في المجتمع بما يحيله كله إلى مثالها، فإن ذابت عندئذ تكون قد أدت رسالتها. فالجماعة الهادية وسيلة لا غاية لذاتها. وكما الفرد في جنب مصالح الدين العليا وسيلة نُصرْةٍ داعيًا ومجاهدًا ولو أزهق روحه في سبيل الله، ينبغي أن تسعى الجماعة للتمكن في مجتمعها تدرجًا حتى تستنفد جدوى تميزها عنه بصف وصورة – وحتى تفنى فيه فناء الصوفي في العبادة والمجاهد في الشهادة وتصبح هي المجتمع الجديد القائم بالدين.<br>
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === نشاط الحركة في أوساط المجتمع ===
| |
| | |
| '''الطلاب'''
| |
| | |
| كان الطلاب أول وسط في المجتمع مسته نفحات الصحوة الإسلامية ، فكان مهد نشأتها وبيئتها الأولى، استجاب لأثرها وأثَّرَ فيها وطبعها بكثير من السمات التي لازمتها حتى مراحل النضج والشمول. فما فتئت الحركة تغلب عليها طبائع ذلك العهد الطلابي الأول وترهنها رواسبه ويتعسر عليها أن تتجاوزها.
| |
| | |
| فالمنهج التربوي النظري النظامي الذي صاغته ليناسب عضويتها الطلابية جمد بحاله وتعدى إلى م لا يناسبهم من أعضائها، وأخيرًا ما تطور ذلك المنهج الصفوي المنضبط. وكان التمكن المبكر لتقاليد القيادة الجماعية والشورى أثرًا من آثار نشأة الحركة في الوسط الطلابي الذي تسوده المساواة في العمر والعلم والحال، ولو أنها لم تنشأ هناك لربما أعداها نمط آخر من القيادة كان هو السائد في سائر المجتمع. وتأثر فكر الحركة بأثر المنشأ، فظل عهدًا طويلًا لم يتخلص من الجنوح للنظريات والجدليات المدرسية.
| |
| | |
| وكان الميلاد الأول للحركة في قمة الوسط الطلابي بالجامعة ثم نزل إلى المرحلة الثانوية من المدارس ومنها في عهد آخر إلى المعاهد الأخرى والمدارس الدنيا. وظلت الحركة متوطنة في ساحات الطلاب في المدارس والمساكن حيث يتيسر لها الإِحاطة بهم لأغراض الدعوة والتربية، ولا تعنى بهم وراء ذلك المجال. ولكن فئة الطلاب إذ تكاثرت لم تسعها الساحات النظامية فانتشرت في الأحياء وفي ثنايا المجتمع. ومن جانب آخر اكتشفت الحركة أن التربية المكيفة للمدرسة لا تكفي المرء بعد التخرج إلى ساحات الحياة العامة وطورت مجالات للعمل الإسلامي الشعبي يمكن أن يمده الطلاب بنشاطهم وأن تجرى تربيتهم في سياقه، ومن ثم خرجت الجماعة بدعوتها وتربيتها ومناشطها لتلاحق الطلاب أيضًا في فترات عطلاتهم ومواقع وجودهم حيثما كانوا داخل المعاهد وخارجها وداخل [[السودان]] أو خارجه.
| |
| | |
| أمّا نظام الحركة الطلابية فقد كان للعهد الأول يتحد مع نظام قيادة الجماعة – إذ كان الطلاب هم محور كل الحركة الإسلامية ، ولم تكن شُعَب الجماعة خارج المعاهد إلَّا فروعًا خارجية للحركة الأصل في الجامعة. ولكن مع تخرج القيادات أفواجًا أخذ الأمر ينعكس ليصبح الطلاب فرعًا من متن الحركة وتبعًا لقيادتها العامة، ولكن ظلت الحركة الطلابية – لكونها منبت الأمر وأساس القيادة – تتمتع باستقلال ذاتي مقدر. فقد حفظ لها أن تدير هي شئون عضويتها وتربيتها، وأن تتميز بعنوانها [الاتجاه الإسلامي] وأوضاعها التنظيمية وأنماطها العلمية، وأن تختص في كثير من شئونها بالمبادرة والقرار تتخذه وفق نظمها الشورية والتنفيذية الكلية أو في كل معهد معنى.
| |
| | |
| أمّا حين تكاملت التطورات اللامركزية في الحركة الإسلامية واتسع استقلال كثير من التنظيمات الفرعية والمواكبة، فقد منح الطلاب استقلالًا زائدًا. فهم يلون وظيفة العمل الإسلامي في ساحتهم كما تتولى سائر التنظيمات المستقلة وظائفها المختصة، بل يلون الإِشراف أيضًا على رعاية العضوية الطلابية للحركة الإسلامية ، وليس لجهة غير الطلاب أن تحيط إحاطة مطقلة بقطاع من العضوية بمعزل عن ولاية التنظيم العام. ومهما كانت الحركة الطلابية مضاهية للحركة الكلية في سفور انتمائها الإسلامي وصراحة انحيازها السياسي، إلَّا أن تمثل في أجهزتها القيادية وتعقد معها أسباب التنسيق وتلتزم بالتوجه الاستراتيجي الشامل. وتراعي معادلة الاتصال والاستقلال بين المحور الطلابي والعام قدرًا من الحرية للطلاب أتاحت لهم أن يسيِّروا أمرهم دون وصاية ضاغطة أو يكيفوا وسائل التنظيم والعمل بما يناسبهم، فبلغوا من إحكام التدبير وإحسان الأداء وإنجاز الفعل مستوى أرقي بكثير من سائر الحركة. بينما تراعي تلك المعادلة قدرًا من الوحدة للحركة عامة بما يوجه الطلاب في سياق التوجه العام ويدرج عطاءهم الأصيل في مجمل كسبها، دون أن تقع مجانبة أو جنوح مما قد يظن بالطلاب وميلهم للإنحشاد والاندفاع والتمرد إِن كُبِتُوا أو تُرِكُوا سدى.
| |
| | |
| أمّا عطاء الحركة الطلابية للحركة الإسلامية العامة فقد كان جليلًا، لم تقتصر على ما ذكرنا بها من التجارب الهادية الأولى في نشر الدعوة ومناهج التربية وأساليب التنظيم المحكم والقيادة الشورية بل أمتد لكل المجالات عبر كل المراحل.
| |
| | |
| فقد ظلت الحركة الطلابية حقل التجارب التظيمية والحركية لإِغناء العمل الإسلامي، لأنها كانت المشروع الرائد الذي تعرض للابتلاءات قبل أن تبلغ مراحلها الحركة العامة، ولأنها كانت الإِطار الأمتن بناء والأحكم تنظيمًا والأكثر إستعدادًا فكريًا ونفسيًا لتطوير الاستجابات المناسبة لكل ابتلاء طارئ تمحيصًا للمبادرات وتقويمًا للتدبيرات وتوثيقًا للعبرات. ولا يكاد يخلو مجال من زاد تزودته الحركة العامة من تجربة فرعها الطلابي حتى حين استوت هي وأصبحت تغذوه بالتوجيه وتمده بالهداية. فانفتاح إطار التربية من الأسر المغلقة إلى المفتوحة، واتساع مادتها وراء المحفوظات النقلية ووظيفتها نحو روح إيجابية إصلاحية، كل ذلك إنّما شرعه الطلاب بمبادراتهم الحرة ثَمّ أهدوا التجربة فيه لسائر الحركة. كذلك في نشر الدعوة ما تجاوز الطلاب المرحلة الانتقائية المحاذرة وأخذوا يرحبون بكل من يقبل عليهم مرجين أن يتكامل صلاحه بعد الانضمام، ما تمكن ذلك المنهج حتى انتقل خارج الطلاب ومهد لسياسات الانتشار الجريئة.
| |
| | |
| وقد كان الطلاب هم السابقون تعرضًا للمنافسة وتطويرًا لتدين – عبر معاناة فقهية ونفسية – ليشتمل مجاهدات العمل السياسي، وجربوا ما تستصحبه المنافسة السياسية من تقدير وتدبير وتذوقوا ما في العلاقات السياسية من اجتهادات متباينة وتوترات داخلية وخارجية. وعرف الطلاب كيف يؤجج العمل السياسي الخلافات الكامنة فكرية واجتهادية وشخصية وكيف تظهر ظاهرة الانشقاقات التنظيمية، بل عرفوا أيضًا معنى التمكن في الحكومة الطلابية أو المعارضة ومغزى المسئولية والصبر في هذا وذاك. كل ذلك ونحوه كان رصيدًا استفادت الحركة العامة من دروسه لما دخلت [[السياسة]] في كسبها بوجه فعال في مرحلة لاحقة. ومهما كيفت الحركة تلك التجارب الطلابية وطورتها لتناسب حاجات الحياة العامة وظروفها، فقد اعتبرت بالسابقات واستعانت بالسابقين كثيرًا في معالجة قضايا المنافسة والتعبئة والتحالف مع السلطة ونحو ذلك من السياسات.
| |
| | |
| وعلاوة على التجارب الهادية ظل الطلاب يقدمون في الحركة ويسهمون إسهامًا مباشرًا مقدرًا، لاسيما في مجال نشر الدعوة والثقافة وفي المجاهدات السياسية. فهم أول من حمل الدعوة الإسلامية الحديثة وأكثرُ من يحملها اليوم ساعين بها بين أهلهم والناس كافة بالقوافل والمواسم الثقافية والمحاضرات والمقابلات والاتصال العام والخاص. وقاد الطلاب حركة اجتماعية واسعة في أوساط الشعب لبسط العرف الصالح وفعل الخير وخدمة المجتمع. أمّا في تكاليف المجاهدة السياسية فقد احتمل الطلاب غالب الأمر، إذ تولوا هم أكبر التعبير السياسي لعهد الاستقلال والمعارضة [[السياسة]] لعهد عبود عندما كانت الحركة متحفظة جدًا، بل كانوا يندفعون في المقاومة تجاوزًا واستقلالًا حتى تجاوبت معهم الحركة العامة وتحركت بهم وبغيرهم في ثورة [[أكتوبر]] [[1964]]م. ولما كتب على الحركة بلاء المصابرة والمجاهدة الأشق في عهد مايو كان الطلاب في صدر حملات المظاهرات والانتفاضات وجولات [[الجهاد]] والاستشهاد، وكانوا هم صوت الحركة ووجهها السياسي الداخلي بصحافتهم ونشاطهم في حرم الجامعات وخارجها. أمّا في [[السياسة]] الديمقراطية فقد كان للطلاب أيضًا دورهم في التعبير والتعبئة والمنافسة الدعوية والانتخابية.
| |
| | |
| ولعل من أعظم فضل الحركة الطلابية الإسلامية أنّها هي التي تصدت مباشرة للغزو الثقافي الحضاري المتمثل في معاهد التعليم النظامية، فقد أسست تلك المعاهد في غالب فلسفتها لتستلب النشء من تقاليد المجتمع وتعزلهم عن نمط حياته، ولتكون محاضن تربية للالتزام العلماني والترخص الأخلاقي، وبالفعل كانت الاتجاهات الليبرالية والشيوعية رائجة في الوسط الطلابي قبل طروء الحركة الإسلامية ، كما شاعت بعض ظواهر الفساد السلوكي. ولكن الحركة الطلابية الإسلامية أبطلت هذا التدبير وعكست تيار التغريب، وإن لم تستطع إسلام التعليم أو تغير المناهج والأوضاع، فقد بدلت مضمون الحياة الطلابية وأضفت عليها صور الالتزام الإسلامي والاستقامة الخلفية، وجندت غالب قوة الحركة الطلابية لصالح [[الإسلام]]. وكان الطلاب خارج معاهدهم عوامل تزكية لفئة الشباب عمومًا. أمّا ظاهرة المتاب في الدين في أوساط النساء الشابات فإنما يعود الفضل الأكبر فيها إلى مبادرات الطلاب. ولعل أثر حركتهم التربوية عمومًا لا يضاهيه شيء من أثر الأسرة أو المجتمع أو المعاهد النظامية. وغدت الحركة كلها تُعَوِّل على فرعها الطلابي في الوفاء بحاجتها في تربية الأطُر والقيادات التي تمدها بل لصياغة عناصر المجتمع الإسلامي الجديد، لاسيما أنها تربية أوقع أثرًا مما يتهيأ بين الكبار في حركة شعبية. أمّا في مجال الفكر فقد طرحت الحركة قضايا الفكر في أوساط الطلاب فشغلتهم بالهموم المذهبية والوطنية وصرفتهم عن حياة تافهة. وكان الطلاب الإسلاميون في قيادة حركة التجديد الفكري الإسلامي، فكثيرًا ما سبقوا الآراء الطريفة وارتياد المباحث الفقهية أو أداروا منتديات الحوار الحر في منابرهم، أو قدموا في الأعمال الأدبية والفنية والثقافية عمومًا.
| |
| | |
| ذلك كله إلى جانب دور الطلاب في دفع الحركة الإسلامية من خلال المشاركة العضوية في هيئاتها القيادية الشورية والتنفيذية، أو التنسيق مع شتى تنظيماتها أو عمران مناشطها العامة.
| |
| | |
| ويمكن أن نقرر ختامًا أن الحركة الإسلامية تعتبر منشطها الطلابي أخطر مقوماتها بعد أصل وجودها، وترى ازدهار حاضرها في ما زرعت في الحقل الطلابي، وجلال وعدها المستقبل بقدر ما تعد له بين الطلاب، فهم ركنها المكين وورثة أمانتها في الأرض. ولذلك كانت توليهم اعتبارًا واهتمامًا مقدرًا وتجند لحركتهم شطرًا كبيرًا من إمكاناتها. وإن كان الطلاب في كل مكان هم رواد الصحوة الإسلامية ، فلا تكاد تجد حركة شاملة يقودها الكبار ترعاهم أكثر مما ترعاهم حركة [[السودان]]. ولا غرو مع هذا الاعتبار والرعاية أن يتمكن الاتجاه الإسلامي في أوساط الطلاب بما يجاوز العشر التزامًا تنظيميًا صارمًا والنصف ولاءً سياسيًا وتوجهًا إسلاميًا، وأكثر من ذلك مراعاة لشعائر الدين ومظاهره، ولا عجب أن تُحاصر الاتجاهات اليسارية والحزبية في بضع في المائة. وهذا تطور بعيد من أيام أولى. كان الإسلاميون فيها قلة ذليلة غربية في الجامعة ثم تكاثروا واستجاروا بالتحالفات ليصبحوا قوة مضاهية لليسار، ثم تجاوزوا وعزوا ليصبحوا وفازوا بقيادتهم في الجامعات والمدارس داخل [[السودان]] وخارجه إلَّا شذوذًا، وهكذا سدوا ثغرتهم وأمدوا إخوانهم في حركة [[الإسلام]] وجعلوا مجمل الحياة والقوة الطلابية دعامة لحاضر [[الإسلام]] وضمانة لمستقبله إن شاء الله.
| |
| | |
| '''النساء'''
| |
| | |
| تطورت للحركة الإسلامية ب[[السودان]] ثلاثة مواقف متتالية في شأن المرأة. فالموقف الأول كان يصدر عن مسايرة للمعهود التقليدي في رؤية مكانة المرأة في الدين عامة ودورها في إحيائه خاصة. فعندما بدأت الحركة لم تكن تتجاوز ذلك العرف في نظرتها للنساء. فكانت بوعي أو بلا وعي تعتبر أن الدين خطاب للرجال في المقام الأول، وأن شأن الدعوة و[[الجهاد]] في سبيله مسئولية قاصرة عليهم، ولا ينبغي ولن يجدي إن تُقحم النساء في شيء من ذلك. كذلك كانت تقدر أن إصلاح المجتمع بأي وجه إنما هو شأن الذكور، إذا صاح الرجال صلح المجتمع وإذا فسدوا فسد، والمرأة تبع في ذلك ليس لها من مكان أو دور أصيل إلَّا البيت. وكانت الجماعة غالبها من شباب، وكان من أشد الحرج في عرف المجتمع اتصال الشباب من الذكور والإِناث الأجانب. فالحركة مثل مجتمعها كانت غافلة عن أي مغزى لتدين النساء زاهدة في دور إصلاحي يقمن به حذرة من أي صلة بهن.
| |
| | |
| لكن الحركة برغم انفعالها بتلك المعاني التقليدية لم تفقد كل الحرص على بسط بعض دعوتها في أوساط النساء أيضًا، مراعاة لما تعلم بفطرتها من أصل الشمول في خطاب الدين ومنافسة لحركات أُخرى كانت تفتن الإِناث بدعوات احترام المرأة وتحريرها. فكان أن استقطبت الحركة مجموعة صغيرة من الطالبات رمزًا لشمولها، لكن ما كن يتخرجن من المعاهد حتى يتلاشين بأسرع مما يتلاشى الخريجون الذكور، فما كان لهن مثل ما لهم من فرص الثبات في تجتمع كان ينكر على الشابة أن تتدين كثيرًا أو أن تدعى موقفًا جديدًا في الحياة أو أن تتميز بسمت أو مسلك يشذ عن عرف النساء السائد. فأيّما منشط للحركة يعنى النساء ولو كان محاضرة في «وضع المرأة في [[الإسلام]]» أو مجلة نسائية، إنما كان يتولاه الذكور، ولا بأس فالجماعة قوام عضويتها ذكور ومعاملاتها مع مجتمع ذكور.
| |
| | |
| أمّا الموقف الثاني للحركة من المرأة فموقف مراجعة بدأ مع عهد الحرية من [[أكتوبر]] [[1964]]م. ولعل دواعي المراجعة كانت في استفزاز التحدي الخارجي بأكثر منها في التذكر والتفقه الذاتي. ذلك أن الحركة النسوية في أوساط الطلاب وقعت في حكر الشيوعية إلَّا قليلًا، وكان يعز على الإسلاميينأن يتركوا البنات كذلك تأثمًا من الاتصال بهن ويقلقهم أن يقارنوا كسبهم الانتخابي فيجدوا أن الذي يؤخرهم هو صوت النساء, وكان مثل ذلك في الحياة العامة فظهر «الاتحاد النسائي» الشيوعي حاشدًا وبدت اتجاهات تشبه بالغرب بين النساء. فاضَّطُرت الجماعة أن تغضي عن موقفها القديم تحت وطأة التحدي وانتدبت مجموعة من الأخوات المسلمات لتعبئة ما سمي «بالجبهة النسوية الوطنية» حذرًا من نسبة إلى [[الإسلام]] قد تستدعي إنكار التقليديين ونفور المحدثين. ولئن كانت الجبهة النسوية ردة فعل لصد المنافسة الحضارية الغربية والسياسية الشيوعية، فقد ورد داع آخر من تلقاء المجتمع لتغيير الموقف الأول، وأخذ النساء بحياء لكن بتزايد يخرجن إلى الشارع العام ويشاركن في الشئون العامة. وكانت تلك الإِشارات تنبيهًا للحركة بإن المرأة يوشك أن يكون لها مكان في المجتمع غير ما كان وأن فساد المجتمع أو صلاحه لن يكون بمعزل عنها. وبادرت الحركة من ثم فتبنت الدعوة إلى إباحة المشاركة [[السياسة]] للنساء واعتمادها حقًا مؤسسًا في القانون.
| |
| | |
| أمّا الداعي الثالث لمراجعة الموقف فقد كان ذاتيًا، إذ توافر للحركة في أواخر الستينات الوعي الاجتماعي الأتم، وإذ تيسر لها في بداية السبعنيات – مع الخلوات والقراءات في السجون وهدأة النشاط السياسي – إمعان التأمل في تقويم كسبها ومراقبة مصائرها ومطالعة أصولها، فانتشر في أوساطها فكر ناقد للفقه والموقف التقليدي عمومًا وفي شأن المرأة والدين والمجتمع والإِصلاح خاصة. كان هذا التفكر الأصولي صدمة تذكر ووعي بصرَّت الجماعة بعلل واقعها المجتمعي واتجاهات تطوره، كما كُشفت لها حقيقة واقعها الحركي الذاتي، فلاحظت الميل الفادح في توازن دعوتها بين خطاب الذكور والإِناث، وبالتالي المفارقة البعيدة في نسبة عضويتها بين الرجال والنساء. فعرفت الحركة عندئذ ما فوتت في حق الدعوة الإسلامية التي جاءت خطابًا إنسانيًا عادلًا وتكليفًا متساويًا وبشارةً شاملة للرجال والنساء. وكأن أصحاب الحركة قرأوا القرآن لأول مرة حيث يسوى دعاء المؤمنين والمؤمنات وجزاءهم لعمل الصالحات وللصبر والهجرة و[[الجهاد]] ويوجب عليهم جميعًا بيعة الالتزام الشرعي والموالاة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كأنهم شاهدوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسيرة صحابته حيث تداعي النساء والرجال عن مسئولية فردية فشاركوا في الاستجابة للدين والاستقامة على نهجه واشتركوا في بناء مجتمعه الرشيد الظاهر غير الظالم ولا العازل لأحد.
| |
| | |
| فالموقف الثالث هو الذي استوي فيه الوعي الاجتماعي والفقه الأصولي، فاندفع العمل النسوي الإسلامي الكبير. وما كان لهذا الانتقال أن يستصحب شيئًا من أزمة، أن يُتقبل التصور الفقهي الجديد ثم أن يُمارس الموقف الجديد فعلًا خروجًا على المعهود في سنة الجماعة والمعروف في عرف المجتمع. واقتضي الأمر حوارًا داخليًا وتعبئة وتهيئة لترسيخ التأصيل الديني للتغيير وتجاوز الرواسب النفسية العادات والتنظيمية المتمكنة.
| |
| | |
| فبدأت الجماعة بترتيب أوضاعها التنظيمية وفق النهج الجديد. وقد كانت تلك الأوضاع مؤسسة على الفصل والموازاة في أطر العضوية خارج الطلاب، فالعضوات تحتويهن أطر مخصوصة تابعة للأشراف المباشر لقمة القيادة، بل كن لا يحتسبن في عداد العضوية العامة ولا يصلن بأي صلة تنظيمية بشعب الجماعة الفرعية. فأول ما بدأ الإِصلاح أن دمجت العضوية ووحدت مشاركتها في التنظيم فيما سوى الحلقات الأساسية الوثيقة أو الأجهزة المتخصصة في تكييف المناهج بما يناسب العضوات وفي رعاية العمل ذي الوجه النسوي الخالص. فأصبح النساء في الجماعة يتمتعن بحقوق العضوية يحتملن تكاليفها على سواء فيما يليهن من أصعدة التنظيم.
| |
| | |
| ثم كان الإِصلاح التالي أن تهيأت الأطر والمناهج لتصويب الدعوة نحو النساء في المجتمع ولاستيعابهن بيسر في ولاء الجماعة ونظامها وحركتها. ونظرًا لحداثة التوجه وبقية حرجه فقد صدرت به التكاليف القطعية واجبًا على كل شعبة أن تستدرك من دعوة النساء ما فات. وكان التكليف غليظًا على البعض لكنهم حوسبوا عليه رضوه أو كرهوه بمتابعات صارمة.
| |
| | |
| وفي بضع سنوات آتي التوجه الجديد ثماره، وانقشعت الشكوك التي كانت تراود البعض في صحة الفقه وحكمته إذ رأوا تأويله خيرًا عظيمًا. فنهض العمل النسوي في حساب الجماعة إذ أصبح عداد النساء أو عطاؤهن يوازي شأن الذكور ويضاهيه، فشاركن في الدعوة والمجاهدة ونافسن في عمل الخير وأخذن يستدركن كثيرًا مما سبق به واجتازه الرجال. هناك اطمأنت الجماعة أن قد اعتدل خطابها وصفها وفق معايير الدين لا معايير العرف.
| |
| | |
| أما في حساب الإِصلاح الاجتماعي فقد أصبح خطاب الحركة الإسلامية للمرأة تبشيريًا تحريريًا في مغزاه، بمعنى أنه دعا وأدى إلى أن تتوب النساء إلى الدين وما كن قبلًا ذوات دين، بل أن يدخلن في نمط التدين الغريب الجديد وأن يثمن عاملات للإِصلاح الديني. ولعلها تلك أخطر ظاهرة دينية في تاريخ المرأة [[السودان]]ية القديم والجديد. ثم دعا الخطاب وأدى أيضًا إلى تحرير النساء من أسر العرف التقليدي الظالم. وصحيح أنه صادف نزعًا في تطور المجتمع نحو التحرير، ولكنه كان أفعل وقعًا لأنه تأيد بذات الشرعية الدينية التي كان ينتسب إليها العرف القديم زيفًا، فإذا الدين كما أطرحه الخطاب حجة لإِباحة المحظورات العرفية غير المشروعة – فلا حرج ولا جناح – وحافظ لقيم الفضيلة والإِحصان الجنسي المركوزة في فطرة المجتمع. وإذا خطاب التحرير النسوي الذي كانت الحركات الليبرالية واليسارية تتشدق به يبدو بالمقارنة بائرًا لأنه لا يتقوى بقوة الدين ويصادم واقع العرف وقيم الطهارة الفطرية. هكذا استطاعت الحركة أن تستعين بدفع التطور الاجتماعي الطبيعي لترقي بدين النساء، وأن تستعين بقوة التدين لتعزيز تحرير المرأة، فأحدثت بالفعل ظاهرة تحريرية موضوفية هي أيضًا من أخطر الظواهر في تاريخ الأحوال الاجتماعية للمرأة [[السودان]]ية.
| |
| | |
| ومن وراء التحرير جاء خطاب الحركة ليلهم المرأة روحًا رسالية في الحياة، ألا يكون غاية همها أن تتحرر من تعدي الرجال لحدود الله أو من أسر البيت أو ظلم الأوضاع الاجتماعية أو أن تنال حرياتها وحقوقها العادلة كما تنادى بها المذاهب الوضعية المعاصرة. بل أن تجد المرأة مغزى لحياتها ودورًا يرضى ذاتها ويشفي تطلعاتها من حيث هي إنسان لا يكتمل وجوده إلا باحتمال أمانة وأداء رسالة والوفاء بواجب بعد استيفاء الحق. وكانت هذه الرسالة هي أن تجاهد المرأة مع أخيها لإحياء الدين وتحويل المجتمع، وأن تهب نفسها لطلب المثل العليا وابتغاء وجه الله.
| |
| | |
| ولو جمدت الحركة في مرحلة الفقه ألاعتذاري «أن [[الإسلام]] لم يظلم المرأة» وراحت تدرأ الشبهات التاريخية والفقهية وتتولى الدفاع وتترك المبادرة لغيرها ليقود حركة التحرير، لما عصمت المرأة من الفتنة اللادينية أو لربما تأخر ذلك التحرير. ولو أنها اقتصرت على الفقه الناقد للتقاليد أو على دعوة التحرر، لما بلغت بحركة المرأة الاجتماعية الدينية ما بلغت، ولما دخلت النساء في الدين أفواجًا وانفعلن واشتغلن بقضاياه بأقدار ثورية تاريخية، ولما مرقن من ذل التباعة للرجال ولو في الضلال ولما خلصن من قيود الأعراف ولو منكرة، ولما خلصن من الولاء الطائفي الخرافي ليدخلن في بيعة حركة [[الإسلام]].
| |
| | |
| وقد كان هذا التحول الديني الاجتماعي أبلغ آية لأثر الدين في التحرر والنهضة لمقاصد الدنيا والآخرة. وقد افحم المراقبين الغربيين الذين لا يصدقون إلا أن يكون الدين لزيمًا لتخلف المرأة وظلمها. كما شرحت هذه الظاهرة صدورًا من التقليديين الذين كانوا في حرج لما تسامعوا بالتوجه لأول العهد، حتى اطمأنوا لما شهدوا صورته وعاقبته. فبنعمة الله وهداه رتبت الحركة الإسلامية تأسيسها الشعبي الأَخير على مشاركة الرجال والنساء في الائتمار والشورى والقيادة ثم في الدعوة والمجاهدة، فما صادفت إنكارًا أ, إدبارًا يذكر من حملة الثقافة التقليدية أو طبقة العوام. لكن لن تسكن مطلقًا هواجس الخوف من ذرائع الفتنة عند بعض المتحفظين، ولن يسكت صوت الإِنكار عند المتنطعين في [[السودان]]. وما تزال طائفة في بعض البلاد المثقلة بالرواسب تجادل في حق المنهج الإسلامي ب[[السودان]] من بعد ما ثبت حجته وتبينت قدوته. ولا تنفك تثور لأَهل [[السودان]] مسائل فرعية في ثنايا العمل. وكل ذلك بلاء لا ينقضي للعالم العامل بالدين.
| |
| | |
| '''القطاع الحديث'''
| |
| | |
| قدمنا الحديث في فئتين من فئات القطاع الحديث من المجتمع، الطلاب الذين يتلقون العلم بالمعاهد النظامية الحديثة. والنساء لا من حيث هن إناث المجتمع، بل من حيث هن ناهضات بوجه ينسبهن إلى قطاع الحياة الحديثة. فليكن حاضر الحديث عن سائر جوانب القطاع الحديث وظواهره بما يعني الحركة الإسلامية في [[السودان]].
| |
| | |
| '''الحضر'''
| |
| | |
| إذا بدأنا بالحياة الحضرية عامة، فالحركة بحكم نشأتها في الطلاب ثم امتدادها لمن يليم من الخريجين والعاملين في الدولة. توطنت لعهد طويل في إطار الحضر، وكانت تلفي أهله أسمع لخطابها وتلفي مناهجها أجدى في وسطه. ومن طول العهد تكيفت للعمل في الحضر وبلغت فيه درجة من الخبرة والكفاءة. ولكنها جمدت عليه فلم تطور لنفسها مصطلح خطاب لعقول أهل الريف وهمومهم ولا أنماط تنظيم تستوعبهم ولا منهاج تربية وتعبئة تناسبهم. ولعل مرد ذلك إلى أن أهل الحضر أقرب وعيًا لدعوة جديدة واستجابة لولاء جديد وأكثر استقلالًا من السلطة التقليدية أو السياسية. ثم إن الحركة كانت تُعوِّل كثيرًا في عملها السياسي على تعبئة حملات الضغط على السلطة العامة، وأهل المدن أيسر تحريكًا وأقدر على أن يحدثوا وقعًا برأيهم وحشدهم العام. ولذلك آثرت الحركة أن تسعى للتمكن في المدن لتجدد قوتها لدفع برأيهم وحشدهم العام. ولذلك آثرت الحركة أن تسعى للتمكن في المدن لتجند قوتها لدفع قضايا [[الإسلام]]. وأخيرًا فإن الحركة تعلم من سنن التطور الاجتماعي قوة القدوة الحضرية التي تقود حياة المجتمع وتوجه مصائره, وأن التركيز على الحضر مفتاح إستراتيجية التغير.
| |
| | |
| ولقد أثمر تركيز الحركة على الحضر، فامتدت قواعدها في المدن ويوجه خاص في عاصمة [[السودان]]. وتجلى ذلك في كسب الحركة الانتخابي في دوائر المدن، وفي قدرتها على تعبئة الشارع الحضري بما مكنها من نفوذ سياسي أضخم من حجمها العضوي أضعافًا، لاسيما لصالح النظام السياسي والقانون الإسلامي.
| |
| | |
| ولكن الحركة رأت بخطتها الاستراتيجية أبعاد أهدافها الوطنية الشاملة، ورأت بتجربتها كيف تتحول المدن سكانيًا بهجرة هائلة من الريف. فأخذت منذ حين تتجاوز الحضر وتمتد إلى الريف لتبسط رسالة التدين وتبلغها لكل إنسان حيثما كان ثم لتوسع قاعدة ولائها السياسي.
| |
| | |
| المثقفون
| |
| | |
| وفي داخل القطاع الحضري كانت الحركة أمكن ما تكون بين الفئة المثقفة العاملة بغالبها في الخدمة العامة الحديثة والمتخرجة من معاهد التعليم النظامي. وقد ظل سواد الحركة لفترة طويلة من هذه الفئة. وأثر ذلك بالضرورة على منهجها الفكري والتنظيمي والحركي الذي غدا أقرب للتعبير عن عقلية هذه الفئة وأهوائها. ولئن اتسعت من بعد قاعدة الجماعة ثم حدث الانفجار الشعبي الكبير فتلطفت تلك الصبغة الفئوية, فما تزال القيادة تنتمي بشطر كبير منها إلى علية المثقفين العاملين أو ذوى سابقة العمل في الخدمة الحديثة. وما تزال الأطر النشطة في الحركة من هذه الفئة التي كانت بدخولها وأنماط حياتها طبقة محترمة حتى ضربتها السياسي من خلال العلاقات النقابية أو الدوائر الانتخابية المخصصة لها بعض الأحيان.
| |
| | |
| وقد تطورت قوة الحركة الإسلامية في وسط الوظائف الحديثة ونقاباتها مع تطور قوتها في الطلاب أصل هذه الفئة. فلما تكاثر الخريجون من الحركة في الستينات وظفت قوة وضعهم في الخدمة العامة للإِضراب السياسي والمشاركة في ثورة [[أكتوبر]] 1946م وحققت بهم حضورًا محدودًا في ونواب الخريجين. ثم تمكنت الحركة في هذا الوسط. فرغم إبعاد كثير إلى كان كسبها كبيرًا في انتخابات الهيئات النقابية والدوائر البريمانية المخصصة للمهنيين والموظفين. وحاول الشيوعيون – وقد تقهقروا بعد مكنتهم الأولى التي كانت الحركة في وجهه تلتمس التحالفات الوطنية – أن يديروا أسلوب التحالف في وجه الحركة المتمكنة، لاسيما حين [[الثورة]] على مايو التجمع الوطني المحتشد من النقابات و[[الأحزاب]] لصد المد الإسلامي. ونظرا لتقلص الوجود الإسلامي في الخدمة العامة لما قدمنا منأسباب فإن قدرته التنافسية على النقابات في وجه التحالفات لا تبلغ ما تبلغ قدرة الطلاب الإسلاميين، ولكن الوجود الإسلامي العام في قطاع المثقفين يعكس ويضاهي الوجود بين الطلاب كما شهدت بذلك انتخابات دوائر الخريجيين الأخير التي اكتسحها الاتجاه الإسلامي جميعًا في شمال البلاد – بما يناهز نسبة النصف من القطاع، وتقدير حجم جملة الولاء الحزبي الأخر واليساري بنحو الخمسين.
| |
| | |
| '''الليبرالية'''
| |
| | |
| من تلقاء طبيعتها وبيئتها الطلابية والمثقفة تعرضت الحركة الإسلامية بوجه خاص لتيار الفكر والحضارة الحديث الوافد. وكان للمنهج اللبرالي الذي سرى إلى البلاد مع قدوم المستعمر وسياسته، وانتشار التعليم والإِعلام الحديث، أثر على الحركة أشرنا إليه من حيث مناهج تنظيمها وقيادتها ومن حيث التزام الديمقراطية واكتشاف الشورى ومن حيث اتخاذ التنظيم المحكم وأسلوب الأداء المتقن.
| |
| | |
| ولم تنكر الحركة لأول عهدها كثيرًا على البرالية، فقد كان همها مشغولاً بمنافسة الشيوعية. وقد كان وعي الحركة منقوصا بمضامين اللبرالية الكاملة، فأخذت منها عفوًا ما بسطه التعليم من عقلانية ومنهجية في طرائق التفكير ومن استصحابات ومفهومات ثقافية عامة. وإنما كان الذي أنكرته الحركة اتجاه الهيمنة على الهوية الأصلية، فتجاوبت الحركة مع روح الرفض الوطني للاستعمار الأجنبي، ثم اتجاه الترخص السلوكي تقليدًا للحضارة الغربية لاسيما إغفال الطقوس الدينية ومجانبة أعراف الزي والحياة المعتادة والجنوح لإِباحة الشهوات.
| |
| | |
| وإنما أدركت الحركة أبعاد المفارقة الأصولية بين دعوتها ومضامين الاتجاه اللبرالي حين اشتدت معاركها ضد العلمانية السياسية وحين تبلور تديلها للنظم الرأسمالية والاقتصاد المادي. وقد حاولت الاتجاهات والقوى اللبرالية أن تنظم حركة سياسية صريحة دون جدوى، فاندست في قيادة [[الأحزاب]] الوطنية المؤسسة على قاعدة من القوى الدينية والعشائرية، لاسيما أن تلك [[الأحزاب]] الفارغة من أي التزام فكري تتيح فرصًا للصعود السياسي السهل ينتهزها المثقفون اللبراليون اعتقادًا أو الذين ليس لهم من ذلك الاتجاه إلا الغفلة الدينية والعفوية السياسية والولع بالسلطة. ولما ساد التوجه الإسلامي في أوساط المثفين والحياة العامة لم يبق من المنهج اللبرالي إلا الروح المنبث في قطاع الحياة الحديث الذي تضعضعت أركانه، وعناصر مفتونة بالغرب ذات مواقف في [[السياسة]] والاقتصاد والأخلاق تتصدي بها للاتجاه الإسلامي متقوية من ومواقعها في [[الأحزاب]] الوطنية بالسند التقليدي الذي تسخره وتحتقره أو متحالفة مع الشيوعية ضد «التزمت الديني» أو معزولة.
| |
| | |
| '''الشيوعية'''
| |
| | |
| أما التنافس الأحمى في العهد الأول فقد كان مع الحركة الشيوعية، وقد لا أقول مع الفكر الشيوعي لأن الشيوعية لم تعرض مذهبًا وعقيدة إلا إشاعة للمصطلحات الماركسية والشعارات الشيوعية، ومتابعة للمعسكر الدولي الشرقي، ونمطًا من المواقف [[السياسة]] والاقتصادية، ونوعًا من السلوك الشخصي والعام.
| |
| | |
| ويكاد يكون الشطر الأول كله من عمر الحركة – نحو ربع قرن من الزمان – مشغولًا بالمنافسة مع الشيوعيين، فلا تعرف البغض في الله ولا المجاهدة إلا ضدهم، ولا تتحرك بدعوتها إلى قضية عامة أو قطاع اجتماعي إلا استجابة لاستفزازهم، ولا تكاد تعرف نفسها للرأي العام إلا مقابلة لهم. ذلك أنها فتحت أعينها لتجد الشيوعيين متمكنين في أوساط الطلاب ثم الاتحادات المهنية والعمالية يناصبونها العداء تشنيعًا عليها وإرهابًا لعناصرها وحملة متصلة لوأدها في الوسط الطلابي والنقابي.
| |
| | |
| وأصابت الحركة الإسلامية العدوى من خلال التنافس بكثير من مناهج العمل الشيوعي، كالتزام السرية المفرطة، وانتقاء الأعضاء بحذر، واتخاذ الواجهات البريئة، وتكثيف التكتيك الحركي، والتركيز على مواقع القوة الفئوية الحديثة. وقد أثرت السابقة الشيوعية في بعض رواد الحركة الأوائل، ولكن الأصالة الإسلامية طهرت الجماعة من ذلك. ولما كانت المجانبة في الأصول المذهبية واسعة، وحدة التنافس بالغة، واهتمام الحركة بالصراع الطبقي والدولي ضئيلًا، فقد كان مجال الحوار والتفاعل الإِيجابي مع الشيوعيين حسيرًا. ومهما كان في شأن بعض الحركات الإسلامية في بيئات تاريخية وسياسية مختلفة، فلا تكاد الحركة تكون قد استعارت شيئًا من المصطلحات فضلًا عن الأطروحات الشيوعية، ولم تستدرجهم إلا رهبة إلى موقف أقرب صلة بالتراث ولا تراخت يومًا معهم بسبيل التسامح السياسي.
| |
| | |
| ولم تتجاوز الحركة الإسلامية منافسة الشيوعيين أو مجاراتهم إلا منتصف الستينات بعد الحملة الكبرى التي نظمتها لحل الحزب الشيوعي. وربما كانت الحركة عندئذ قد كبرت فعلًا عن عقدة المنافسة وأخذت تنشد آفاقًا ايجابية في إسلام الحياة العامة. ولكن الحركة اكتسبت قوة من دورها في ثورة [[أكتوبر]] ودعوتها الرائجة للدستور الإسلامي، فأعملت تلك القوة ضد الشيوعيين بالإِلحاد في الدين والعمالة في ولاء الوطن ونية الغدر بالديمقراطية ، مما انتهي إلى حظر دستوري وقانوني للحزب الشيوعي وطرد لنوابه في إطار ديمقراطي بإرادة شعبية خالصة.
| |
| | |
| وكانت تلك الواقعة معلمًا في ميزان العلاقة مع الشيوعيين. فقد شفت الحركة نفسها مما نالت منهم سياسيًا، وكسبت دفعًا زائدًا للإِقبال على أهدافها في المجتمع والاتجاه لمنافسة ذات [[الأحزاب]] التقليدية التي كانت حليفتها ضد الشيوعيين. وانقلب الشيوعيون الذين كانوا مشغولين بالقوى التقليدية لأنها تمثل لهم في حكم النظرية الطبقات المستغلة، فأصبح أكبر همهم الثأر والتصدي لخطر تمثل بحكم الواقع. وكان أول كيدهم دفع الانقلاب العسكر المايوي عما 1963م يأسًا من المنافسة الديمقراطية واستهدفًا بالأولوية لضرب الحركة الإسلامية . أما الحركة الإسلامية فقد انقلبت رائدة اتجاهات القطاع الحديث، وأكبر التحديات للكيان التقليدي، وأكثر قوى المجتمع أصالة وأثرًا.
| |
| | |
| '''العمال'''
| |
| | |
| لعل أول منصرف للحركة الإسلامية عن العكوف على عالم الطلاب كان نحو فئة العمال في القطاعات الجديدة كالمصانع والمرافق الخدمية والإِدارية. وتلك فئة حديثة أيضًا من حيث أنه تنظم بنمط نقابي غير تقليدي وتقوم في علاقات الإنتاج الحديث. وإنما اندفعت الحركة نحو هذه الفئة ملاحقة للشيوعيين الذين تقدموا فيها بتوجههم النظري في شأن الطبقة العاملة. واجتهدت الحركة في أن توسع قاعدتها بين العمال أيضًا لكي توازن تركيزها الشديد في طبقة المثقفين.
| |
| | |
| ولم تفلح الحركة في تأسيس قاعدة مقدرة بين العمال. ذلك أولًا أن طرائق الدعوة والتربية والتنظيم فيها كان أنسب للصفوة منها العمال. ثم إن الطبقة العمالية الحديثة بتطور [[السودان]] لم تترق بل ازدادت بعدًا عن الصفوة، إذ كان غالبها أول الأمر أهل قراء وكتابة يمكن أن تستوعبهم حركة حديثة قوامها المثقفون، ثم أخذ هؤلاء يهجرون المهنة أو البلاد يخلفهم نازحون ريفيون. ومع ضعف القطاع الاقتصادي الحديث تدهور الوزن السياسي للفئة العاملة فيه بينما تضاءل خطر الاستغلال السياسي من قبل الشيوعيين، لاسيما أن الحركة الإسلامية قد فعلت كثيرًا لفضح تدبيرا تهم وواجهاتهم واتسع وعي [[الأحزاب]] بضرورة محاصرتهم بين العمال.
| |
| | |
| وقد كانت مبادرات الحركة بين العمال منذ نشأتها. لكن أول مظهر لوجودها بينهم إنما كان في مرحلة التعبئة لثورة [[أكتوبر]] [[1964]]م. ثم تنامت الحركة العمالية الإسلامية باسم «العمال الوطنين» منافسة لاتحاد العمال الذي سيطر عليه واستتر به الشيوعيون. وبلغت الحركة أوج نشاطها في الفئة العمالية أيام المجاهدة ضد النظام المايوي، إذ افتضح زيف الوعد الشيوعي حين تحكم, وتصدت الحركة لأمانة القيادة وتكاليفها. وقد طمعت الحركة عندئذ في صيغة إسلامية بعد الوطنية وفي أدب ومصطلح نقابي إسلامي بعد الأدب الاشتراكي الذي بار. ولكن مشروع التأصيل الإسلامي لم يكتمل.
| |
| | |
| ولا مناص في التقويم العام من الإِقرار بأن الكسب العمالي للحركة الإسلامية لا يضاهي كسبها في قطاعات الحياة الأخرى. فقوتها النقابية العمالية مقدرة لكنها متواضعة، لاسيما أن الشيوعيين بعد أن انقلبت موازين وضعهم أخذوا ينصرون ضدها التحالفات الحزبية المختلفة. وما يزال الحضور العمالي في قيادة الجماعة محدودًا، وفكرها المؤصل ضئيلًا في مجال العمل والعلاقات الصناعية والعدالة للعاملين. ومهما كان الإسلاميون لا يجعلون من طبقة العمال مفتاح صياغة التاريخ الاجتماعي، أو كان تعويلهم الأكبر في ذلك على الطلاب، أو كان حجم الفئة العاملة في واقع [[السودان]] الحاضر لا يؤهلها لمكانة توهمها الشيوعيون، مهما كان من ذلك فالإسلاميون لا يرضون بكسبهم في هذا المجال ولا بما يعدون لمرحلة قد ينهض فيها الاقتصاد ويتضاعف عدد العمال ويتعاظم شأنهم وتتعقد اقتصاديات العمل وقضاياه. ولا يكاد يخلو تقرير تقويمي أو تخطيطي من الإِشارة لما ينبغي على الحركة في استدراك هذا القصور، إقبالًا على العمال بمأرب ديني إيجابي لا ينفد بنفاد أغراض التنافس السياسي عليهم، وتمكينًا لنيات التدين وأخلاقه وعدالته في علاقات العمل، وإعدادًا لنموذج أصيل تبني عليه في هذا المجال النهضة الاقتصادية اتعاظًا من النماذج الغربية والشرقية واستقلالًا.
| |
| | |
| '''الشباب'''
| |
| | |
| يمكن أن يذكر الشباب في عداد فئات القطاع الحديث, لا من حيث حداثة العمر، بل من حيث أن الحياة الحديثة جعلتهم الأحظى كسبًا علميًا وماديًا وحررتهم من الضوابط التقليدية للصغار، فأصبح لهم من ثم نفوذ في العصر الحديث غير الذي كان قديمًا. ونظرًا لأن دعوة الحركة الإسلامية تجديدية تجريبية وأن منهجها جريء مقدام وأن مغزاها مثالي تحريري وأن قوامها نابتة الطلاب، فقد ألفت وسط الشباب استجابة كبيرة. وقد بدأ ذلك بجلاء حين اتجهت شعبيًا فكان إقبال الشباب عليها من الجمهور أضعاف إقبال الكبار المرتهنين بالتصورات العرفية والولاءات القديمة. وربما كان تمكن الحركة بين الطلاب والشباب ذا أثر بالغ على أسلوب تعبيرها وتنظيمها وتحركها من حيث الجرأة المندفعة في الطرح الفكري والوقف السياسي، ومن حيث استدعاء النشاط والفاعلية في العمل بما لا يقوى عليه إلا الشباب. فحيثما توافر الشباب كانوا هم تقريبًا متن الحركة يعمرون مناشطها ويدفعون حركتها. بل لهم وضع في مواقع الشورى ومناصب القيادة يقارب ما للشيوخ وذلك تطور ذو معنى في مجتمع كان يجعل الشباب مرحلة طلاقة من التدين وتباعه في الكسب وخضاعة في سلطة الأسرة والمجتمع.
| |
| | |
| وعلاوة على عطائهم العام ينشط الباب في تنظيمات اجتماعية شبابية مشتركة أو مخصصة للإِناث تعمل مواكبة للحركة ولكنها تختص بالخدمة الاجتماعية الطوعية وتجنيد طاقات الشباب للعمل الصالح في المجتمع. والشباب هم أيضًا قوام التنظيمات الرياضية والثقافية والفنية التي تعمر بها ساحة الحركة المحلية في كل مكان.
| |
| | |
| '''القطاع التقليدي'''
| |
| | |
| أبعد ما في القطاع التقليدي عن الحركة الإسلامية الحديثة هو جانبه العرفي المؤسس على الحياة العشائرية البدوية والقروية. ذلك أنها نشأت في الحضر، فكان هذا العالم العرفي خارج وعيها وهمها، وكان أهله خارج صفها وكنفها. لكنها بالطبع انتبهت إليه عندما اتخذت استراتيجية للتمكن في المجتمع قاطبة وعندما أصبحت حركة سياسية وشعبية واسعة. عندئذ دخلت بعض الكيانات العرفية التقليدية في ولائها، واضطرت الحركة إلى التعامل مع أهل القرى ورجالات الريف، هذا الواقع الاجتماعي الذي لم تتهيأ له بتجربة سابقة.
| |
| | |
| وقد كان المدخل إلى التقليديين العرفيين بطرائق شتى. فأحيانًا يفلح أبناء الحركة من الطلاب والخريجين والحضريين – بفضل علمهم وقرابتهم – في أن يحوزوا ثقة أهلهم فيدلوا بهم إلى الولاء للحركة. وأحيانًا تستجيب قيادة قبلية أو قروية بما أوتيت من التدين لداعي الحركة فتتداعي بأهلها إليها. وأحيانًا يواتي الحركة نمط الصراع القبلي فينحاز إليها البعض مجانبة لآخرين. وربما انجذب أهل الريف إلى الحركة رغبة في خدماتها الاجتماعية المبسوطة أو معرفة جميل. وأيًا ما كانت دواعي دخول العرفيين في ولاء الحركة العام، فإن انخراطهم في صف الجماعة الملتزم وفي طرازها التربوي يقتضي أجلًا حتى يتم التطهر من العصبية القبلية والولاء العرفي والانتقال إلى الاعتصام بمعايير الحق الإسلامية والإِخلاص بعهد الولاء الديني الأعلى. وحتى تهيئ الحركة لغة خطاب ومواعين استيعاب مناسبة لأهل القرى والبادية, أصبح عليها أن ترضى بما تستصحبه طبيعتها الشعبية الشاملة من تباين في مستويات نظامها وأدائها وأن تصبر وتتسامح مع بقية روح قبلية قد تتجاوز عاطفة التضامن الأهلي الإِيجابي.
| |
| | |
| وبعض هذه العلل الانتقالية كان في إسلام الأعراب صدر [[الإسلام]] عندما أقبل تعضهم رغبًا أو رهبًا وأندفعوا أفواجًا تنازعهم عصبية الجاهلية عن إخلاص الإِخاء والولاء في الدين وتراودهم أخلاق الجاهلية ويلاحقهم الجهل بشعائر الدين وحدوده، حتى تمحض الإِيمان وحسن [[الإسلام]] فتعلموا وزكوا. وتلك ظاهرة انتقال تتكرر كلما دخلت في الملة أفواج الشعوب، ويقع ما يقاربها كلما حدثت صحوة وتوبة واسعة إلى الدين.
| |
| | |
| وفيما تتهيأ الحركة لاستيعاب أهل الريف وتطهير عقائدهم ورفع جهالتهم وتزكية أخلاقهم وتخليصهم من حمية الشقاق وقطيعة العزلة، فإنها تعبئهم لنهضة كاملة في الدين والدنيا. وقد ألقى التخلف المادي والحضاري في [[السودان]] تبعة على الحركة الإسلامية أن تكون نهضة الريف من أمانتها ورسالتها، وقد كتب لها ذلك القدر لتكون النهضة من أول يوم مؤسسة على الفطرة السليمة ويتم البناء بقوة حوافز الدين الفعالة وعلى نور من هدى الدين.
| |
| | |
| '''الصوفية'''
| |
| | |
| تشكل الثقافة والنظم الصوفية أهم ما في المجتمع الديني التقليدي في [[السودان]]، فما كان غالب إسلام أهله بالفتح السياسي ولا بالإِحاطة التعليمية، بل بانتشار الشيوخ أهل الصوفية، عندهم شيء من ذكر وقرآن يبثون صور الشعائر والآداب ويلقنون المأثورات والذكر الراتب ويستوعبون الناس في الملة بواسطة أخوة الطريق وتباعة الشيخ. وما كان بين الحركة الإسلامية الحديثة والصوفية المحلية من نسبة مباشرة مهما كانت أصول بعض أذكارها وأشكالها مستفادة من التجارب الصوفية في مصر، فقد كان منبت الحركة في [[السودان]] بعيدًا عن عالم الصوفية.
| |
| | |
| ولكن الحركة لما خرجت إلى المجتمع صادفت ريبة لدى أهل التصوف انتابتهم غيرةً من ولاء جديد واستغرابًا لجماعة قائمة على غير سمت المشيخة والذكر الراتب تجادل بالعقل وتستهوى الشباب الحديث وتمارس [[السياسة]]. فمنهم من اشتبه في نسبتها إلى الحركة السلفية التي لا يكن لها الصوفيون ودًا، لما سمعوا من مصطلحها الفقهي والعقلي. ومنهم من خشي أن تكون بدعة كفرية قرينة للشيوعية لأنها جاءت من تلقاء الثقافية المصبوغة بغير الصبغة التقليدية. وكان أهل التصوف أعداء ما جهلوا، فالحركة لم تقدم نفسها تعرفًا وتفاعلًا مع القطاع التقليدي حتى تبدلت استراتيجيتها وطبيعتها، فعندئذ أقبلت على دعوة الشيوخ والجماهير المستغرقة في العقيدة والطريقة الصوفية، وهيأت أطرها لتسع تباين ألوان الذكر وصور التدين الخاص وتحفظ روابط الولاء الديني للطريقة والجماعات الخاصة ما ساد الالتزام بالكتاب والسنة ثم للجماعة في الحركة الإسلامية . وكانت العلاقات مع الصوفية لم تفسد بالمنافسة أو الطعن أو الكيد لتباعد الساحات والتجمل والتزام التي هي أحسن في أسلوب الحركة. فلما أقبلت الحركة ألفت باب الاستجابة لداعيتها مفتوحًا، لا سيما أن محور التداعي هو بناء جبهة شعبية جديدة لا الانخراط في جماعة قائمة وأن شعاره كان نصرة الدستور والشريعة الإسلامية . لكن قطاعًا مقدرًا من الشيوخ وأتباعهم مازالوا محجمين لأنهم مرهونون تاريخيًا لأحزاب سياسية وللرغبة والرهبة التي تبسطها تلك [[الأحزاب]] بالحكومة.
| |
| | |
| ومهما استقل منشأ الحركة الإسلامية عن عالم التصوف، فإنها لم تسلم من تأثيره غير المباشر. فروح التدين العامة في [[السودان]] قد صاغتها التقاليد الصوفية، وما كان فيها من نأى عن التنطع الفقهي والمماراة وميل للعقائدية العملية غير الجدلية قد أعدى الحركة الإسلامية ، وما أُلهمت الحركة من روح جهاد من رصيد تراث المهدية أُلهمت مثله عن الصوفية مسالمة واعتدالًا وأخذًا بالحسنى وتسامحًا وتصالحًا. ثم جاء التلاحم المباشر بين الحركة والواقع الشعبي الصوفي لينشط التأثير والتأثر. فإن لم يكن انتساب بعض عناصر الحركة إلى أسر صوفية بذي مغزى من قبل، فقد أصبح من بعد سبب اتصال تقريب. كذلك كان بعض الذين فارقوا الجماعة أيام الحرج قد لجأوا إلى الانتماء الصوفي المطمئن، فلما جاء الانفراج في الأمن وفي الحركة كانوا وسطاء خير وآبوا بعلاقاتهم الصوفية إلى الجماعة أو الحركة.
| |
| | |
| أما الصوفية فقد بادرت من تلقاء نفسها عندما اتسع القطاع الحديث لتجد مكانها فيه بين المثقفين وتتكيف مع الحياة الحضرية. وفي ذلك ما قربها إلى الحركة الإسلامية الحديثة، بل وجدت لدى الحركة ما يماثلها تدينًا ويرعى مساجدها ومؤسساتها القرآنية والخيرية. أما في [[السياسة]] فالحركة لم تقنع منهم بالتسخير الانتخابي للأتباع، بل ذكرتهم بقضية الشريعة واستكمال إقامة الدين ومقاومة داعيات الكفر وظاهرات الفساد والمجاهدة في سبيل الله.
| |
| | |
| هكذا باشرت الحركة الإسلامية ب[[السودان]] اكبر تجربة للتفاعل الأتم بين طلائع الصحوة الحديثة والمجتمع الديني الصوفي التقليدي. ومهما يؤخذ على واقع الصوفية من بدعيات وجهالة في الاعتقاد والعمل، ومن كثافة طقوس تكاد تستنفد طاقات التدين في المراسم والأشكال، ومن رخاوة شرعية تقعد بصاحبها ساكنًا عاجزًا، ومن فرط ولاء وإتباع يكاد يحجب عن الله، مهما يكن ذلك فإن في التصوف أصل زهادة وتجرد ونظام يمكن أن ينقلب استعدادًا للجهاد، جودًا بالنفس غير مفتتن بالدنيا، وقيامًا بصف منتظم وفناء في سبيل الله. وقد وقع مثل ذلك الانقلاب في الموقف الصوفي أيام جهاد المهدية ب[[السودان]] وأيام [[الجهاد]] ضد الهجمة الاستعمارية في إفريقيا وآسيا، ورأت الحركة مشاهد من مصله عند تعبئة تعض المتصوفة لنصرة الشريعة. ومن وراء الواقع الصوفي الشعبي بمراسمه وتشكيلاته، تكمن في تراث التصوف أصول ومناهج تربية لإِعمار الباطن بالإِيمان الغيبي العميق ولتطيل العلاقات بالإِخاء الوثيق، كما فيه تجارب لتنزيل هدى الدين إلى واقع الناس كافة, حتى يفي بحاجات التدين اليومي لكل مؤمن على قدر عقله ومزاجه ووسعه وحاجته بهدى في النيات والأعمال المناسبة لمواقف الحياة وصروفها فرحًا أو ترحًا ومرضًا أو عافية، وعسرًا أو يسرًا، وشغلًا أو عطلًا، وخلوة أو جلوه، وقوة في المجتمع أو ضعفًا. والحركة الإسلامية إنما تنشد الإِصلاح والإِرشاد في واقع تهدده الماديات وتمزقه الشقاقات وتتباين فيه أوضاع الحياة بالناس، ويجديها أن تنظر في التراث القديم وتبنى عليه اعتبارًا واتعاظًا، وتقويمًا وتكييفًا وتجديدًا، وسعة للتباين وتوحيدًا.
| |
| | |
| إن تباين الطرح الإسلامي بين القديم والحديث قد كاد في بعض أحوال المسلمين أن يؤدي إلى قطيعة في صميم جبهة [[الإسلام]]. إن بعض المحدثين – على استقامة نهجهم في الأصول والعقول – لا يسلمون من اعتزالية مستنكفة عن الاتصال بصور التدين الشعبي، أو من اغتراب بما عندهم من العلم والحياة الحديثة، أو من مثالية لا تتسامح تلطفًا مع الواقع ولا تصابر تدرجًا وانتقالًا به إلى مراقي الكمال. بل كثيرًا ما يثير أسلوبهم نفور الشيوخ التقليديين وغيرتهم وخوفهم من سلب مكانتهم التاريخية، أو يثير فزع العوام من استلاب ما عهدوا من التدين وانفراط ما ألفوا من روابط الأنس والإِخاء والتضامن والتعاون في الحياة. وكثيرا ما هيأ هذا الفصام في ساحة [[الإسلام]] للكائدين أن يوقعوا بين فصائله وقواه، وأن يستغفلوا ويستعملوا القديم الذي يمثل الشرعية الدينية الشعبية ضد الحديث الذي يمثل خطرًا على السلطة والمصالح المتمكنة. وإذا صدقت بشائر وحدة القوى الإسلامية الحديثة والتقليدية من خلال صيغة الجبهة الإسلامية القومية وتجربة [[السودان]]، فإن في ذلك ما يثرى الحركة الحديثة وما يقوم الحركة التقليدية وما يحشد طاقة المسلمين ويجمع صفهم، ليتناصر أهل العلم والتوجيه والإِدارة من الصفوة مع أهل العمل والقوة والإنتاج من العامة، ولتتبارك نهضة التاريخ الإسلامي. وحقيق على المحدثين أن يدركوا هم خطر الانشطار ومغزى الوحدة وأن يبادروا إقدامًا والتحامًا بالمجتمع ليتصل تاريخه قديمًا مجددًا ويتحد كيانه حرًا موحدًا.
| |
| | |
| '''العلماء'''
| |
| | |
| ومن المجتمع التقليدي فئة أخرى هم العلماء قد ينافسون الحركة الإسلامية أو يعاونونها على التعبير عن [[الإسلام]] وقيادة المسلمين. ومن قدر [[السودان]] أن هذه الفئة فيه محدودة، إذ لم يكن بالبلاد إلا معهد نظامي واحد يخرج العلماء سوى من يتقى العلم منهم على الشيوخ، وقليل ما هم. وبالرغم من أن الإسلامي الحديث مباين من حيث الملبس والمسلك والمسلك والمنطق لنمط العالم التقليدي وليس دائمًا بذي علم أو عمل بالمذهب الفقهي المالكي السائد بين العلماء، فإن الحركة الإسلامية لم تصادف أزمة في قبولها الشعبي ولا في علاقاتها بالعلماء. فأهل [[السودان]] بتسامحهم المذهبي تقبلوا من قبل قيادات شافعية وحنفية في [[الجهاد]] والطريقة الصوفية ومناصب القضاء والإِفتاء، وتجاوزوا اليوم كل عصبية مذهبية وشاع بينهم الفقه السني جميعًا، أما العلماء في [[السودان]] فلم يقعوا في فتنة التشكل طبقةً ذات مصالح وأهواء تراعيها، ولا أفلح الاستعمار أو السلطان أن يستدرجهم لدعمه بترتيب العطايا والميزات والمناصب ليكون هواهم في استقرار الأوضاع في وجه من يسعى لتغييرها بحق [[الإسلام]].
| |
| | |
| فكان بعض العلماء في طليعة من رعوا الحركة الإسلامية لمنشئها، لاسيما في شقها الشعبي الذي أخلى الساحة من بعد للرافد الطلابي. وكلما أقبلت الحركة على مرحلة انفتاح عام وانطلاق شعبي كان العلماء من خارجها إما مستجيبًا للدعوة مندرجًا في الصف متوليًا لدور في القيادة أو ناصرًا وشاهدًا للحركة ناشطًا في مواقفها الإسلامية العامة. وتكاد تتحد اليوم حركة العلماء في [[السودان]] وحركة [[الإسلام]] الحديثة على فقه موحد للدين، وموقف متشابه في التوجه للإِصلاح والفعل في المجتمع ورابطة مودة وتعاون على نصرة قضايا [[الإسلام]].
| |
| | |
| وإذا أجملنا الحديث نظريًا حول أنماط القيادة في المجتمع الديني التقليدي كما كان وكما تجدده الحركة الإسلامية ، فيمكن على سبيل التبسط أن نميز أنماطًا شتى: الشيخ الصوفي الذي يعنى بتربية الأفراد ليقوموا ذاكرين الله متآخين فيه مهما كان علمهم وعملهم بشرائع الدين، والعالم الفقيه الذي يعنى بنشر علم الأحكام وإفتاء الأفراد لتكييف شئونهم وفق حكم الدين مهما كانت تقواهم الفعلية، والداعية طليعة الإِحياء الديني الذي يجدد دور الواعظ الذي يحرك بواعث الإِيمان ليحيل معلومات الدين إلى قوى عمل ويستكمله بتعمق في فقه الدين كالعالم ومنهجية في تزكية النفوس كالصوفي وبتعبئة جماعية لبناء قوة منظمة تقيم شأن الدين الخاص والعام كالمجاهد. ويمكن القول بأن الحركة الإسلامية المتطورة بعد تقديم الدعاة قد أثمرت نمط «الإسلامي» الذي يتبنى الإِصلاح الأشمل ويسعى له في الأفراد تعليمًا وتزكية وفي الجماعة تنظيمًا وتعبئة ثم في الواقع تقويمًا ومجاهدة في سبيل نهضة دينية المغزى مادية الصور طيبة العواقب في تاريخ الدنيا وأزل الآخرة. ويمكن الادعاء بأن الحركة الإسلامية ب[[السودان]] تريد أن تصل بين ما في هذه الأنماط، وأن اتجاه كسبها المتطور أن يتزود الشيوخ علمًا ويتسعوا أفقا ويهتم العلماء بالتزكية والعمل وينشط الدعاة في مجاهدة واقع الفتنة. ومهما تنوعت الأدوار بين القيادات الدينية حسب ما أوتى كل ووسع، أو تفاوتت المستويات، ينبغي أن تتكامل في نسق واحد وتتواكب على طريق قاصد. ولقد اختلفت أحوال المجتمعات ومواقف الدعوات الحديثة في العالم الإسلامي. فمن الدعوات ما أعجزها التجديد أو غلبتها التقاليد، فألبست الصحوة الإسلامية أثواب العلماء والشيوخ التقليدين، فما أفلحت إلا في تقوية المنهج التقليدي في حدود مداه من ترشيد العقائد والأخلاق. ومنها من اتخذ أطروحات وطرائق تفكير غريبة أو يسارية، فانقطع عن المجتمع التقليدي وصادمه فحُرم من مدده، فعجز وعُزل عن قوته فغُلب. ومنها ما قارب وسدد وكان أوعى وأدعى لتوحيد أمر المجتمع وتجديد دفع الحياة الإسلامية .
| |
| | |
| '''السلفية'''
| |
| | |
| من أظهر القوى الدينية في المجتمع بعد الصوفية والعلماء الحركة السلفية الحديثة التي سرت دعوتها إلى [[السودان]] من الجزيرة العربية وتسمت «أنصار السنة المحمدية». وعندما كانت الساحة الدينية خامدة كان ظهور هذه الدعوة إنعاشًا للوعي ومثارًا لجدال كبير مع المتصوفة والعلماء في بعض الأقضية المتصلة بفقه الشعائر وصورها ومواقف الاعتقاد وسنن التدين الشعبي. وقد كسبت تلك الجماعة قليلًا من الأنصار وكثيرًا من التأثير بنشاط دعوتها وقوة حجتها. ولكن ظهور الحركة الإسلامية الحديثة في مراحلتها الشعبية حوّل القضايا المطروحة في الساحة الدينية نحو كليات أكبر وأولويات أقرب وطوّر الجدال إلى حوار أكثر مودة وأدنى وحدة مع القطاع التقليدي. وجعلت الحركة قضيتها التوحيدية الأولى مكافحة الشرك السياسي والاقتصادي – العلمانية والمادية، وقضيتها الشرعية الأولى تطبيق الحدود وأحكام المعاملات المعطلة. ثم يممت بالهم الديني نحو التصدي لمحنة الظلم والفساد السياسي والاجتماعي ولفتنة الغزو الثقافي والتخلف المادي ونحو نشر ملة [[الإسلام]] ونصر قضايا الأمة الإسلامية ودفع وحدتها.
| |
| | |
| ولم تكن بين الإسلاميينوالسلفيين مفارقة فكرية أو نفسية تذكر، فلما دعا داعي الجبهة الإسلامية العريضة لجمع الصف المسلم في وجه المتكاثر من العداء للدين عن كفر ومن أجل الكثير مما لا يختلف عليه المسلمون عن علم، لبى الدعاء جانب كبير من السلفيين وأحجم جانب. ومهما يكن فإن الحركة السلفية عالميًا ومحليًا قد اخذت تدرك عملها، ولم يكن ذلك ببعيد عما ذكّرت به الحركة الإسلامية الحديثة وما بسطته من دعوة وقدوة وما استهدفته من وحدة لمجتمع المسلمين ولنهضتهم.
| |
| | |
| وقد يجدر إن نورد في هذا السياق ذكر ظاهرة شاذة عن معهود المجتمع الديني لكنها من مثل ما شهد تاريخ النحل الإسلامية من باطنية منطوية على عقائد مجلوبة. وقد بدأ الأمر دعوة سياسية وطنية باسم «الجمهوريين»، ثم نحا بها مؤسسها منحى دينيًا وصورها رسالة جديدة لنسخ نظام القرآن المدني ولتلفيق خلط من أصول إسلامية ولبرالية اجتماعية وسياسية واشتراكية اقتصادية. وهكذا زعم الرجل الذي يسمى «محمودًا» نسخ شرائع الأسرة والمعاملات و[[الجهاد]] وأنكر صور الشعائر المسنونة، ثم طمح في نسبة إلهية بوحدة الوجود وفي مملكة موعودة في الأرض.
| |
| | |
| وإنما ذكرنا هذه الدعوى الدينية الشاذة لنذكر كيف أنها لم تستفز الحركة فتشغلها عما هو أولى. فليس بقدر الشذوذ المنكر تهتم الحركة بالظواهر الطارئة في المجتمع، بل بقدر الخطر الموضوعي. وقد كان صاحب الدعوى عدوًا كائدًا للحركة وليًا لإِسرائيل والغرب، ولكنه بمذاهبه ومواقفه لم يستخف الحركة لتنصرف إليه بالمجادلة والمجاهدة، بل صبرت على فتنته المحدودة حتى لقي حتفه بحد الردة القضائي أيام النميري الذي كان الرجل نصيره قبل تطبيق الشريعة. وما كان للنحلة من كبير خطر ولا تركت كبير أثر إلا في دعاية الغرب، وكانت كالقاديانية ونحوها ترهات وذاتيات لا تضر إلا أذى ولا تدوم إلا حينًا.
| |
| | |
| '''الجنوب'''
| |
| | |
| لا ينم الحديث عن المجتمع السودانيدون التطرق إلى القطاع السكاني في جنوبي البلاد. فالجنوب إقليم وعرق وثقافة خاصة، لم يبلغه المد العربي الإسلامي إلا قليلاً، ثم عزلته [[السياسة]] الاستعمارية عمدًا، فأورثت [[السودان]] منذ الاستقلال فصامًا وطنيًا وتوترًا سياسيًا واحترابًا أهليًا. وعندما نشأت الحركة الإسلامية كان الجنوب كالنسى المنسي في الحياة الوطنية المركزية. ولما كانت الحركة استجابة مخصوصة لأحوال المجتمع المعهود فقد غفلت عن الجنوب ولم يكن في وعيها ولا همها ولا عضوية جماعتها. ثم جاءت ثورة [[أكتوبر]] [[1964]]م – حيث كانت قضية الجنوب عاملًا في إثارتها، وحين طمحت الحركة لعمل سياسي وطني ولاحظت مغزى دعوة الدستور الإسلامي للجنوب. هنالك اهتمت الحركة للقضية وقامت بدور مبادر في المداولات العامة لعلاجها سواء في مؤتمر «المائدة المستديرة» لمسألة الجنوب الدستورية أم في الحوار الدستوري حول وضع الجنوب في سياق سياسي إسلامي. لكن اهتمام الحركة لم يتجاوز المسألة السياسية إلى المجتمع الجنوبي وصلته بحركة [[الإسلام]].
| |
| | |
| هكذا كانت الحركة على كونها ظاهرة تجديد مأسورة بحدود التعامل لمجتمعها التقليدي الشمالي، ومحاصرة بعضويتها في إطار عرقي وثقافي شبه عربي، وقاصرة بعملها على منطقة جغرافية مخصوصة في [[السودان]]. ولربما كان يراود البعض فيها – إذا تذكروا معضلة الجنوب مع [[الإسلام]] – أن يتمنوا انفصاله ليخلص الأمر لتقويم المجتمع المسلم دون خلاف في أصل الملة. ولكن الحركة قدرت مصلحة الوجود الإسلامي الباقي في الجنوب ومن ورائه في إفريقيا، وقدرت أن الأجدر بها أن تتصدى لشأن الوطن الذي هو قدر ابتلائها بتباين أعراقه وملله، لتحقق فيه مشروعًا إِسلاميًا شاهدًا على إنسانية [[الإسلام]]، فلا تركب السهل بل تتوكل لتكون للمسلمين، ولهم مع غيرهم، ولمن دونهم من العالمين عبر الوطن ووراءه.
| |
| | |
| وفي السبعينات سادت فترة سلام أدخلت الجنوب في الحياة الوطنية وهيأت فيه فرصًا لانتشار العربية وانبعاث [[الإسلام]] المكبوت. ومن جانب آخر فرغت الحركة للتأمل الكلي في أوضاع [[السودان]] ومصائره الإسلامية ، فأدركت ضرورة أن تمد نظرها للجنوب، واتخذت استراتيجية خاصة لاشتماله في تطاق حركة [[الإسلام]]. وبحكم ما هو ممكن عندئذ تحت ظل الحكم المايوي فقد دفعت الحركة بعض أبنائها لتأسيس مشروع للدعوة الإسلامية ، بما يسعف المسلمين المستضعفين، ويبشر ب[[الإسلام]] الذين تنصروا بغير عمق والذين ما انفكوا في أعماق التدين العرفي، وبما يجند لذلك إمكانات إسلامية عالمية. وتطور المشروع ليكون حركة دعوية تبسط وسائل العمل التبشيري ومرافقه – مساجد ومدارس وخدمات صحية واجتماعية وخططًا ومشروعات، ولتكون تلك الحركة من أكبر ما عهد المسامون حديثًا في الدعوة النظامية الموجهة لملة أخرى ومن أوسعها دوليًا من حيث الذين يتعاونون عليها والذين تعينهم نحو [[الإسلام]].
| |
| | |
| ومدت الحركة ذراعها التنظيمي المباشر نحو الجنوب يرودها الطلاب في اختراق حاجز العرق والإِقليم، وتواكبها هبة المسلمين في الجنوب لتأكيد هويتهم ووحدتهم. حتى إذا انفرجت الحرية بعد ثورة رجب وانفجرت المنافسات القومية والإِقليمية في الياحة الجنوبية، تهيأ للحركة عن وعي وتجربة وإمكان أن تدخل البعد الجنوبي فيها بجد وشمول.
| |
| | |
| فلما أسست الجبهة الإسلامية القومية أسست على غير طبيعة [[الأحزاب]] الوطنية القاصرة في قيادتها على العناصر الشمالية والمنحسرة في قاعدتها واهتماماتها عن الجنوب لصالح [[الأحزاب]] الجنوبية الإِقليمية التي نشطت منذ الستينات. بل أسست على غير تمط الكيانات الدينية التقليدية التي لم تبلغ الجنوب أيضًا إلا محاولات تبشيرية ضئيلة. فالجبهة من يوم مؤتمرها الأول اشتملت على قطاع جنوبي كبير ومكان مكين للعناصر الجنوبية في قيادتها واهتمام سياسي وثقافي بأمر الجنوب. وبذلك صدّقت المغزى التوحيدي لدعوة [[الإسلام]] التي جاءت مطلقة لا تحصرها حدود التاريخ والإِقليم وجامعة للناس مهما كانت أعراقهم وأوضاعهم. وحين اعتدل خطاب الجماعة اعتدل تركيبها فدخلت العناصر الجنوبية أفواجًا. بل أتاح دستورها مكانا في العضوية لغير المسلمين الذين يرضون أهدافها العملية، ذلك أنها نموذج لمجتمع مسلم يسمح بمشاركة الموالين من غير المسلمين عن بل وقسط.
| |
| | |
| ولما أقبلت الحركة على البرمجة التطبيقية لوجهاتها النظرية، كان أول برنامج وضعته هو«ميثاق [[السودان]]» الذي أصلته على فقه القرآن والسنة والتراث ونزلته على عين الواقع السوداني– اقتسامًا للسلطة على النهج الاتحادي المقيس على وثيقة دستور المدينة المنورة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدلًا في توزيع الثروة، ومساواة بين القوميات والناس وحرية في الاعتقاد والثقافة؛ كما عرف في هدى الشرع وسماحة [[الإسلام]] التاريخية, فلم تقف الحركة عند الفقهيات النظرية في وضع الذمي، بل فصلت الأمر وكيفته على مقتضى الواقع المعلوم، واتبعته بممارسة في العلاقات السياسية والشخصية نافية لفتنة الطائفية الملّية، مراعية لحقوق المواطنة وأمانات المسلم إزاء أهله وجيرانه وأوليائه، وداعية للثقة والاحترام حتى في الخلاف.
| |
| | |
| لقد بلغت الحركة الجنوب والقطاع غير المسلم لوقت متأخر في أطوار تاريخها، وفي ظروف علاقة شوهتها التوترات السياسية والقطيعة الاجتماعية والثقافية، وعقدتها تدخلات الصراع الإِقليمي والدولي الذي تدبره الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية الغربية ضد الوجود والمد الإسلامي في إفريقيا عامة وفي [[السودان]] خاصة ثغر العروبة والدعوة. وقد فتح الاهتمام بالجنوب للحركة أفقًا واسعًا من العلاقة بالمجتمعات التقليدية المسلمة والوثنية في إفريقيا ومدخلًا إلى علاقات دولية شتى. وقليلًا ما ابتليت حركة إسلامية حديثة بقطاع من وطنها يفصله العرق والدين وينزع به التاريخ والعلاقات الخارجية. ولئن مهدت الحركة في [[السودان]] أطر الاستجابة للتحدي على الصعيد السياسي العاجل والحضاري الآجل, فإن الذي يبقى عليها في استكمال شمولها الإِقليمي وتمكنها الوطني كثير ينبغي استدراكه حتى يتم مثالها القومي والعالمي.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === نشاط الحركة في حياة المجتمع ===
| |
| | |
| ==== الحياة الشعائرية ====
| |
| | |
| '''الصلاة'''
| |
| | |
| الشعائر هي أول وجوه التدين، لأنها عبادات أساسية لا تكاد تنفك عنها حياة المؤمن، لأنها عبادات أساسية لا تكاد تنفك عنها حياة المؤمن، ولأنها مسنونة الشكل تشعر صورتها بأنها من أعمال التدين وبأنها تعبير خاص عن نيات الإِيمان. وفي منهج الحياة الدينية في [[السودان]] تشتمل الشعائر على المسنونات الشرعية المعلومة – عبادات الصلاة والصيام والزكاة والحج وتلاوة القرآن والذكر المأثور – ثم على ما يختص به أهل [[السودان]] من أعراف تعبد وبدع حسنة أو سيئة ومن أنماط محلية لصور الأداء التي تتيحها خيارات فقه العبادات.
| |
| | |
| وإذا كانت الصلاة هي أظهر الشعائر لأنها تتردد بغير انقطاع في يوم المؤمن وليله ولأنها صورة بادية متميزة عن سائر أعمال الحياة فقد كان أعضاء الجماعة الإسلامية الأولى يشذون بمظهرهم فيها عن سواد المجتمع المسلم، إذ كانوا بصلتهم إلى الحركة الإسلامية في العالم ينهلون من مكتوبات مذهبية شتى ويتخذون فقهًا سنيًا مقارنًا في الصلاة يختلف ببعض فروعه عن الفقه المالكي الشائع والمقبول في [[السودان]]. وكانوا – من جانب آخر بكونهم حركة إحياء ديني – أكثر تمثلًا للإِيمان الفعلي، فصلاتهم فيما يبدو منها أكثر خشوعًا من صلاة العامة الآلية المتجوزة. وزادهم بصلاتهم غربة عن عرف الدين أنهم شباب، وما كان يُعهد في الشباب كثير التعبد، فذلك من شأن الكهول والشيوخ. وكان لهذا الشذوذ في الشعيرة فرعًا من عموم غربة الأوائل من أعضاء الجماعة بدعوتهم وحركتهم الجديدة.
| |
| | |
| بيد أن صور الصلاة الغربية ما لبثت أن أصبحت مألوفة. ذلك أن الفقه المالكي لم يكن تم ذهبًا عن وعي وعلم قد يتعصب حامله، بل كان عند غالب الناس تقليدًا لا يقوى أمام حجة الفقه السني المخالف، وعرفًا عند قليل المصلين في القطاع المجتمعي الحديث، أخذ يتقهقر أمام شيوع النموذج الشعائري الذي نشره شباب الدعوة والذي جاء أشبه بما ينبغي من الصلاة الأقوم. وقد واكب ذلك أن المتعبدين الجدد أصبحوا أقرب لإِيلاف الناس بوجوهٍ أخرى من العلاقات الاجتماعية.
| |
| | |
| '''المساجد'''
| |
| | |
| لعل أكبر آثار الحركة الإسلامية في الجانب الشعائري – بعد إشاعة الصلاة بين الشباب – إنما كان في عمران المساجد. فقد كانت المساجد في [[السودان]] قليلة العدد لاختيار الناس المذهبي في المسجد الجامع أو لإِعسارهم أو غفلتهم الدينية، وكانت المساجد القليلة تكاد تخلو إلا من كبار السن. وقد تأخرت الحركة الإسلامية في الدخول إلى المساجد، إذ كان يحتويها غالبًا من يلي كل مسجد من كيان عرفي صوفي أو وراثي ممن لا يقبل فيه أي منشط سوى الصلاة أو بعض الأذكار أو الدروس التقليدية. فكان مما ينكر ويمنع أن يرتادها الشباب ليتخذوا منابرها لدعوةٍ غير مألوفة. فالحركة السلفية التي جربت من قبل غشيان المساجد التقليدية صُدّت كثيرًا واضطرَّت إلى الاختصاص بمساجدها.
| |
| | |
| سوى أن شباب الحركة ثابر وصابر حتى تمكان من دخول المساجد العامة واتخاذها مجالًا للدعوة والتربية. فبفضل سياسة عامدة بدأت بجد في أوائل السبعينات – وقت الهدأة والكبتة السياسية – دفعت الحركة شبابها وبرامجها التربوية إلى المساجد، فغدت هذه عامرة بالمصلين وبالمناشط الدينية والثقافية يغشاها الكبار والصغار والنساء – حلقات قرآنية ودروسًا فقهية وأحاديثَ ووظائف تربوية وحفلات دينية واجتماعية – حتى استكمل المسجد وظيفته ورسالته العاملة محورًا هامًا في حياة المجتمع.
| |
| | |
| وقد نشطت حركة بناء المساجد في [[السودان]]، فلم يعد المسجد الجامع واحدًا والمصليات العامرة هي الزوايا المتفرقة في الأحياء، بل تكاثرت المساجد وعمرت في كل حي وقرية. ويعود الفضل الأكبر في بناء المساجد لشيوخ الصوفية ثم لرجال الأعمال الخيرِّين لكنِّ الحركة الإسلامية نشطت أخيرًا في تشجيع بناء المساجد، وأصبحت الأنشط في عمرانها، وحولت كثيرًا مما تولته كيانات خاصة إلى مساجد عامة للمسلمين كافة، ووظفتها لأغراض تعبئة الجمهور للقضايا الإسلامية ، وإن لم تبلغ في جعل المساجد منطلقات للتعبئة الشعبية الإسلامية ما هو ممكن وواقع في بعض بلاد إسلامية أخرى. وسعت الحركة لتأهيل إمامة المساجد، فتكاثر الأئمة الذين يتنفسون نفس [[الإسلام]] الحي المتجدد، وتقلص الأئمة الوراثيون والعاجزون ممن كانوا قبلا غالب أهل الإِمامة. بل حاولت الحركة أن تجمعه الأئمة في اتحادات ترعي اعتبارهم وتحفظ استقلالهم وتعبئهم لقضايا الدين العامة.
| |
| | |
| '''القرآن'''
| |
| | |
| الذكر الأكبر في [[الإسلام]] بعد الصلاة هو تلاوة القرآن وتدبره. وقد كان القرآن في تقاليد [[السودان]] مادة التعليم الأولى. لا يُتلى مصحفًا بل تنسخ به الألواح في الخلاوي. فلما انحسرت الخلاوي لاسيما في الحضر، انحسر حضور القرآن في حياة أهل [[السودان]]. ومن قبل كان غالبًا ما تنقطع الصلة بالقرآن بعد عهد الصبا في الخلوة، فقليل من الذين يتعلمون القرآن هناك يواظبون عليه بعدها. وكانت المساجد والبيوت – إلا قليلًا – لا تعمر بذكر القرآن إلا في مناسبات الموت ونحوها. أما المصحف من حيث هو كتاب مطوي فإنما يوجد في البيت أو في العلائق الملبوسة لأغراض التبرك والتحصين. فيمكن أن يقال إجمالًا أن القرآن كان غائبًا في حياة المجتمع. فلا يحضر إلا في الخلاوي لمرحلة الطفولة حفظًا دون وعي، وأنه كان مهجورًا في العلم لأن الفقه الشائع كان يستغنى عن الأصول الدينية بالمصنفات والشروح المذهبية. بل إن الحركة الإسلامية الحديثة ذاتها لم تهتم لأول عهدها بالقرآن في المجتمع، وإن كان من منهج أعضائها الراتب أن يُتلى ويُحفظ القرآن أو بعضه وأن يُعلم تفسيره.
| |
| | |
| ثم أخذت الحركة في السبعينات تهتم بالقرآن وتشُيعه في المجتمع، حلقات تلاوة وتجويد وتفسير. ومضت الحركة تبعث القرآن في حياة الناس حتى راج بينهم الاستشهاد بآيه في ثنايا الكلام ومراجعة المصحف والنظر فيه بوجه راتب والاهتمام بحفظه والتنافس فيه. ولما دخلت الحركة إلى المجتمع التقليدي أخذت تعنى بخلاوي القرآن تدعمها أو تحييها، لاسيما أن كانت قد خبت في كثير من المواضع التقليدية نار القرآن – كما تُسمى نسبة إلى النار التي يستضئ بها القراء ليلًا.
| |
| | |
| أما اليوم فبمبادرات من الحركة وغيرها أخذ الناس يقبلون على دُور القرآن وخلاويه يعمرونها، وعلى تجويد التلاوة وتكريم القراء وإقامة المعاهد والكليات للقرآن الكريم.
| |
| | |
| '''الأذكار'''
| |
| | |
| ما كان حظ المجتمع الديني في [[السودان]] من الأذكار المسنونة في اليوم والليلة وأحوال الحياة كبيرًا. وإنما كانت شعيرة الذكر الرائجة هي الأوراد المنهجية التي يلتزم بها بكرة وأصيلًا والمناشد والموالد التي تتلى لدورة معلومة من الأيام والمواسم والأعياد. وكان غالب التدين لا يصل بالله وذكره مباشرة واستقلالًا، ولا يكاد المرء يكون مسلمًا إلا من حيث هو سالك في إحدى طرق التصوف. وكان عهد الطريق بعد تباعة الشيخ وتوقيره التزام الأذكار الراتبة المأثورة عند أهل الطريق وسماع الأناشيد المادحة للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته أو للمشايخ الصالحين أو الداعية لمنهج «القوم» أهل الرشاد.
| |
| | |
| ولما كانت الحركة الإسلامية بأصولها في مصر تتصل بالتراث الصوفي وتحمل منه ما تحمل في اسمها وحلقاتها التربوية، فقد كانت تختص أيضا بمنهج ذكر معين هو كتاب «المأثورات» الذي صيغ غالبُه من أذكار مسنونة ورُتِّب للأعضاء ترتيبًا فكان عندهم سنة لازمة من الذكر.ولا يدري المرءُ أن كانت نشأة الحركة في القطاع الحديث المتمرد على النمطيات التقليدية عمومًا، أن غاشية السلفية التي غشيتها فزهدتها في الأذكار المرتبة الموضوعة، هي ما أدى إلى هجران المأثورات الملتزمة وإلى عفوية الاختيار من الذكر المسنون أو المشروع.
| |
| | |
| وكان خيرًا للحركة عندما اتسعت واستوعبت كياناتٍ صوفية ذات أذكارٍ شتى ألا تكون هي قائمة بمنهج أذكار مرسوم، حتى لا يتحّرج الدخلون فيها بين راتبهم المعهود وراتبٍ جديد. هكذا تيسر للحركة أن تستوعب كل أنماط الذكر وألوانه، ما كان راتبًا موضوعًا وما كان عفوًا مختارًا. وتسامحت الحركة مع أنواع الأناشيد الدينية في سعى لطيف أن يكون القول صدقًا والطرب ذكرًا. وكست بعض أنماط الذكر ثوبًا غير تقليدي مثل الاحتفال بالمناسبات الدينية بالانتداء والمعارض ونحوها. أما شعائر الذكر المتصلة بالمناسبات الاجتماعية كالنكاح والولادة والوفاة، فما أحدثت فيها الحركة كثيرًا لتأخر كسبها الاجتماعي نسبيا ولكثافة التراث السائد في هذه الجوانب من حياة المجتمع.
| |
| | |
| ويجدر أن يشار إلى أن نمط رجل الدين الذاكر كما عهده المجتمع التقليدي لم يعد يتمثل في عنصر الجماعة الإسلامية الحديثة. فهذا الأخير بفقهياته وثقافياته أقرب إلى العالم، وبمناشطه الاجتماعية والسياسية أقرب للمصلح، وبكل الوجوه أبعد ما يكون عن «الفكي» ذي المسابح والخلوت بله «الدرويش» المستغرق أو «السائح» المتزهّد الطوَّاف، وإن كان في عناصر الجماعة ذاكرون موالون في ذكرهم ونسكهم.
| |
| | |
| '''القيام'''
| |
| | |
| من الأنماط التربوية التي تعودتها الجماعة ولما تستطع تعميمها في المجتمع قيام الليل الجماعي. وإن كان القيام سنة فإنه بالنمط الجماعي المعين إنما كان من أعراف الجماعة التربوية الخاصة. ولعل أثر الجماعة هو الذي روَّج كثافة القائمين في سنة التراويح بالمساجد وأحيانًا القيام الأخير قبل الفجر في رمضان.
| |
| | |
| '''الصيام والزكاة والحج'''
| |
| | |
| التزمت الجماعة التكليف أحيانًا بصيام التطوع تربية لأعضائها. ولكنَّ رصيد المجتمع من صيام التطوع لم يكن قليلًا إلا ما استنته فيه الجماعة من إفطار جماعي يضاهي العرف العام في رمضان. أما عادات رمضان فلم تضف إليها الحركة كثيرًا، سوى إحياء لياليه بالمناشط الثقافية الدينية.
| |
| | |
| ولا يمكن أن يُدعي للحركة فضل دعوة أو قدوة في شأن الزكاة الفردية، لا سيما أن أعضاءها كانوا بالغالب شبابًا ليس لهم فضل مال للزكاة أو الصدقة. ولئن كانت الزكاة معروفة عند رجال التجارة وبعض أصحاب الزر وع والمواشي، فإن الحركة – بعد أن استوى أثرها السياسي – هي التي سعت في سبيل تسنين الزكاة بالقانون طوعًا ثم إلزامًا لتعود كما ينبغي شريعة سلطان.
| |
| | |
| كذلك لم يكن للحركة كبير أثر على سنن المجتمع حول الحج والعمرة, بل كانت تلك السنن كثيفة المضمون بما فيها من أذكار وأشعار ومراسم وداع واستقبال، لاسيما أن الحج قديمًا كان ينطوي على معنى الوداع المحزن والقدوم المفرح لطول الغيبة ومخاطر الطريق ومظنة الموت. وإذا كانت صحوة [[الإسلام]] بين الشباب قد ضاعفت عددهم بين الحجيج على غير المعهود، فإن تطورات السفر وظروف الكسب قد أثرت كثيرًا على جلال المغزى والوقع الاجتماعي لشعيرة الحج في عهد ازدهار الحركة أخيرًا.
| |
| | |
| ==== الحياة الثقافية ====
| |
| | |
| إنما نقصر الحديث هنا على الثقافة دون الفكر. وقد مضى على الحركة عهد طويل كانت أعمالها الثقافية لا تتجاوز برامج التثقيف الداخلي، وأجهزة الجماعة الثقافية لا تُعنى بما وراء ذلك. فلما انفتحت على المجتمع أصبح لها كسوب ثقافية أعم وأجهزة أوسع في مجال الفن والأدب والإِعلام والنشر.
| |
| | |
| '''الفن'''
| |
| | |
| من الفنون في المجتمع التقليدي ما كان متصلًا بالشعيرة الدينية كالرقص في حلقات الذكر والسجع والترجيع فيه والتنغيم بالصورة والآلة في إنشاد الشعر الديني والزخارف في خط القرآن وعروض الاحتفال بالمناسبات الدينية. ومنها ضرب آخر كان متصلًا بالحياة الاجتماعية منفصلًا عن نيات الدين، التزم بآدابه أو لم يُلتزم. ثم كان من الفنون ضربُ واردات حديثة من الغناء والرقص في الأوساط التي نشأت فيها الحركة وليس هو بالطبع من الدين في شيء.
| |
| | |
| نشأت الحركة متجافية عن كل تلك الضروب مت الفن، لأنها بعيدة من المجتمع التقليدي وعن فنونه العرقية بل الدينية من مدائح وأناشيد وزخارف موالد وحوليات ومراسم ذكر، ولأنها بالفقه الذي كان سائدًا في شأن الفن عامة ما كانت لتغشى الفن الحديث المتجرد عن نيات الدين وآدابه المتلبس بالغزو الثقافي الغربي. ثم إن الأولوية في عهدها الأول إنما كانت لمجاهدات توطيد الدعوة والتربية بين طائفة الاستجابة المحدودة التي كانت غنية بروحياتها المباشرة عن الفن وأشغل بمجاهداتها عن جمالياته وأصرح في مجادلاتها عن أشكاله. فما كان للفن من مكان في الحركة، ومن كان من صاحب فن لا يكاد يدخل الجماعة حتى يهجر فنه وينشغل بسائر هموم الحركة.
| |
| | |
| ثم خلف عهد تكاثرت فيه ظواهر الفنون الحديثة في المجتمع بما لا يمكن تجاهله، وتطورت للحركة نماذج حياة شعبية واجتماعية لا تستغني عن صور فنية، وبدت مغازٍ يسارية ولبرالية في بعض الأعمال الفنية مما شكل تحديًا مباشرًا للدعوة. فاضطرت الحركة أن تستجيب بمبادرات فنية تحمل رسالة إسلامية مُتَّقيةً أشكال الفن الذي ينشد الجمال وحده غير مبالٍ بالقيم الأخلاقية. ولكنها كانت مبادرات يكتنفها الحرج من مباشرة عمل مكروه بأصله في التقاليد الفقهية، فلم تبلغ كثيرًا من قيمة فنية أو جدوى دعوية. وكان التعبير التنظيمي عن منشط الفن حيية أيضًا وغالبها في عالم الطلاب والصبيان الذي لا يتعرض الفن فيه لارتياب كثير.
| |
| | |
| ولكنَّ الحركة – حين استوت فيها نظرية التنظيمات المستقلة – رأت أن تجعل للفنون والآداب منظمات قائمة بذاتها تعبئ الطاقات المتخصصة وتعنى بتطوير هذا المنشط الإسلامي فقهًا وأداء وتتولاه بمعزل عن متن الجماعة اتقاء الحرج على أهل الفن وأهل الثقافة التقليدية. ولئن أخذ هذا المشروع الفني يؤتى أُكله ويعزز المبادرات المتفرقة، فإن حركة الفن الإسلامي الحديث لم تتكثف لتُحدث تيارًا جديدًا. بيد أن سنة تطور الحركة الإسلامية الحديثة أن تبادر عفوا في كل عمل جديد ثم تؤصله فقهًا وتُؤطره تنظيمًا ليطمئن الخاطر الديني ويستقيم الأداء ويصبح العمل كسبًا حركيًا كاملًا. ومهما جرت من محاولات لتأصيل الفن تعبيرًا عن لإِيمان والتزامًا بالشريعة وعرضًا للدعوة وتحريضًا على [[الجهاد]] وتشكيلًا للحضارة الإسلامية ، مهما كان من ذلك فإن استيعاب الفن في حركة التدين لما يستكمل بل لما يبلغ ما بلغت مقاصد أخرى في الحركة – ك[[السياسة]] والاقتصاد – اُدرجت في الدين بوجه أتم. على أن الحركة تُطوِّر اهتمامها بالفن وتُشجع ممارساته القويمة، وتحاول أن تُرشد وتُزكي الفن الشعبي الديني الذي كان كسب الدعاة السالفين في توظيف المادة الفنية العرفية لنشر الدين وتعميقه بين عامة الشعب. كما تتخذ الحركة المنظمات المستقلة التي تعمل لإِخراج فن مسرحي أو غنائي أو تشكيل أو تطبيقي متقن في أدائه وصورته منضبط في مظهره وأخلاقيته ملتزم في مغزاه ورسالته.
| |
| | |
| '''الأدب'''
| |
| | |
| كان الأدب لدى الحركة من أول يوم أيسر تطويعًا لوظائف الدين، لاسيما أن تلك الوظائف لم تقتض عندئذ أدبًا يُعبر عن حياة دينية متكاملة لم تحققها بل لمَّا تتصورها الحركة تمام التصور، بل أدبًا يُراد له التعبير عن الدعوة إلى الدين. وغالبًا ما يعهد الأدب الدعوى في الشعر والنثر الجميل، فالقصة أو المسرحية ذات المغزى الدعوى لم تكن مشهورة في تقاليد [[الإسلام]] كما عُهد الشعر والوعظ والخطابة.
| |
| | |
| لكن الحركة الإسلامية ب[[السودان]] لم تُخرِّج هي أدبًا إسلاميًا يذكر, لاسيما أن الأدب في المجتمع السودانينفسه ما يزال ضئيلًا لا تسْتشْعِرُ الحركة من تلقائه تحديًا حادًا يدفعها للاستجابة بالمثل. سوى أن بعض ما كان من تنافس بالأدب بين التوجهات المذهبية قد دعا الحركة إلى بعض التعبئة الأدبية الدعوية وإلى المجاهدة في المسرح الأدبي، ألا تتمكن فيه اتجاهات يسارية أو لبرالية تتخذ منابره وصوره مطيةً لدعواتِها. ومن هذا الباب كسبت الحركة مكانًا في بعض الاتحادات والمناشط الأدبية. ومهما كان ذلك فإنه لم يبلغ أن يستوي كسبًا منهجيًا يُدَّعى لها فيه ما يُدَّعى في مجالات أخرى من تأصيل للمنهج وتطوير للممارسة وتكثيف للوقع على المجتمع. ولئن كانت محاولات تأصيل الأدب الإسلامي عالمية المدى، وقد يستغني بها عن كسب ذاتي مخصوص، فإن دور الأدب الحديث في ترويج المبادئ وتكوين الحضارات كان يقتضى على الحركة في [[السودان]] أن تكسب وتعطي بأكثر مما فعلت، والله المستعان.
| |
| | |
| '''الإعلام'''
| |
| | |
| الإِعلام – صحافة وإذاعة وإنتاجًا وإعلاميًا – مما تأخر في كسب الحركة كثيرًا. لأن وسائل الدعوة التقليدية المعهودة لدى المسلمين إنما هي الكتاب والخطاب المباشر، ولأن وسائل الإِعلام الحديثة طرأت تحمل رسالات غير إسلامية وأحيانًا مناوئة للإِسلام في المذهب والسلوك. وبالفعل ظلت الحركة عهدًا طويلًا تشتكي الظلم الإعلامي، حيث تمكن غيرها في مرافق الإِعلام ووجهها عمدًا أو عفوًا إلى ما يضر بأخلاق [[الإسلام]] وقضاياه وما يكيد لحركته. ويضاعف من الحسرة أن هذه الوسائل الحديثة التي تستعمل الصوت والصورة والكلمة الصحفية والتسجيلية الجارية يوميًا بين الناس تحدث وقعًا عظيمًا على مجتمع أميَّ يخلبه الصوت الذي يهتف به من وراء حجاب والصورة الماثلة ذات الحركة والألوان، وقارئ يؤثر تناول الصحيفة العاجلة على الكتاب.
| |
| | |
| واستفزت الحركة من حيث تقدمت الحركة اليسارية في تعض مرافق الإِعلام وأحجمت العناصر الإسلامية أو حُجبت كيدًا سياسيًا. وبأثر الوعي بهذه الأزمة في مجال الدعوة الإِعلامية دفعت الحركة بعض أبنائها للتخصص في الإِعلام واتخذت خطًا ومشروعات لتعزيز عملها الإِعلامي. وعندما انفرجت الحرية بعد ثورة رجب 1405هـ بدت بعض ثمار اهتمام الحركة بالإِعلام الحديث. هكذا أخذت الحركة تعول كثيرًا على التسجيلات الصوتية والبصرية في نشر الدعوة للجبهة الإسلامية ، وطورت وسائل الانتداء والمعارض والخطاب العام، فبسطت حضورًا إعلاميًا مؤثرًا عزرته بكسب مقدر في إصدارات الصحافة التي توافر لها من أهلتهم وأعدتهم أو انتدبتهم الحركة للوفاء بحاجات الثغر الإِعلامي في الدعوة. أما الإِعلام المذاع مسموعًا أو مرئيًا فهو إلى اليوم الحاضر حكر لمن يعمل بروح وظيفية غير منفعلة بروح رسالية إلا مجالًا محدودًا تنفذ منه وتتنافس مختلف التوجهات.
| |
| | |
| ولئن كان حظ الحركة الآن عمومًا في الإِعلام الوطني أعدل لها من ذي قبل، فإن وزن خطابها وحجم أدائها الإِعلامي قدر محدود جدًا إذا نسبناه لقوة الإِعلام العالمي الفاعل في الساحة الوطنية وورائها مهيمنًا على انتقال الأخبار وانتقاء الوقائع باسطًا للتحليلات والتعليقات والصور الظالمة للإِسلام حاملًا للرسالة الثقافية الغازية. ثم أن إعلام الحركة إنما تعاظم كمّا لأغراض المنافسة والمدافعة، ولمَّا يتأصل بعد إِيجابيًا أو يتميز كيفًا بمنهجه المخصوص عن سائر الإِعلام ليسلم لله وتتجلى خصائصه الإسلامية في صدق الإِنباء وعدل التعليق وإتقان الأداء ونفاذ الرسالة الإِعلامية. وما يزال الجدل دائرًا حول أخلاقيات التعبير وأشكاله وفعالية البلاغ وأساليبه وجماليات الأداء وآلياته ونحو ذلك من قضايا الإعلام الإسلامي.
| |
| | |
| '''النشر الثقافي'''
| |
| | |
| ما تزال حركة النشر للمكتوبات ضعيفة لدى الحركة الإسلامية ب[[السودان]]. فالكتاب لم يكن شائعًا في عهد أهل البلاد إلا المصحف المطهر أو كتاب الفقه النادر إذ كان التعويل على الخطاب دون الكتاب.
| |
| | |
| فالمتلقي من الناس يجعل ثقته فيما يسمع ويرى من وسائل نقل العلم والخبر، والمعطى لا ينشط في الكتابة كما ينشط في المخاطبة. وقد أغنى الحركة عن الاجتهاد في التأليف والنشر – من بعد عزوف المجتمع عن الكتابة وضعف حركة النشر المنافسة – أن قد لها أدب إسلامي منشور وارد عليها من الخارج. حتى إذا تطور لها المنافسة – أن قد توافر لها أدب إسلامي منشور وارد عليها من الخارج. حتى إذا تطور لها فكر ذاتي ذو خصوصيات كثيرة بما يتنزل على الوقائع المحلية ويتخير من مذاهب معينة، حينئذ أزِمت فيها قضية الكتابة والنشر.
| |
| | |
| لكن الحركة رغم الأزمة لم تنشط في مجال النشر المكتوب كما نشطت في استعمال الوسائل السمعية والبصرية، ولا نشطت في الثقافة الفكرية المحررة بالكتاب كما نشطت في مستوى الثقافة الشعبية المُرَوَّجًة بالخطاب. ويمكن الادعاء بأن أكبر حركة في الثقافة الشعبية – بعد ما تحدثه أجهزة الإِعلام الرسمية – إنما تصدر عن نشاط الحركة في الندوات والقوافل والمعارض والمواسم الثقافية. لكن المفارقة بعيدة اليوم بين حجم كسب الحركة الثقافي ووسائل النشر والإِعلام المتاحة لها. ثم إن بعض جوانب رسالة الحركة لا يمكن أن يوفيها حقها النقل بالخطاب السمعي البصري العارض مباشرًا أو مسجلًا. فالحركة اليوم أحوج ما تكون لاستدراك أمرها وتكثيف التأليف والنشر لتبليغ ما هو دقيق يستدعي وسيلة وافية مستقرة. وهي بغير ذلك في خطر من أن تبقى وسائلها مناسبة للتعبئة العامة التي تجيش العاطفة الإِيمانية وألَّا تستكمل ذلك بالإِبانة الكتابية المتثبتة المعمقة التي تبسط العلم وتضبطه وتركزه.
| |
| | |
| وفي ختام الكلام عن الثقافة ووسائلها يمكن أن نجمل ونحكم بأن كسب الحركة من الثقافة عمومًا ما يزال ضعيفا إذا قيس بكسبها السياسي، وأنها ما تزال تحتاج لمبادرات أكثر في تطوير كسبها الثقافي وتأصيله من حيث المضامين والوسائل. والغريب أن الوعي بتخلفها النسبي في هذا المجال لم يكن غائبًا لديها، لكنها لم تجهد للوفاء بالمنشود. وإن لم يكن لها ما يحفزها لذلك في التحدي المنافس داخل [[السودان]]، فقد كان ينبغي عليها أن تراعي أقدار الغازي الثقافي، وقد انفتح اليوم ما بينها وبين العالم وأصبحت في حوار كثيف مع الفكر العربي واليساري واللبرالي ومع الحضارات العالمية. ثم إن [[السودان]] بتخلفه وفراغه الثقافي النسبي يتيح لها فرص السبق والتمكن بيسر ليتناسب وقعها في [[السياسة]] وفي الثقافة ولتتواكب خطوط تمكنها بشتى وجوه الحياة في المجتمع.
| |
| | |
| ==== المناشط الاجتماعية ====
| |
| | |
| تأخر العمل الاجتماعي شيئًا ما في كسب الحركة الإسلامية ب[[السودان]]. فقد كان المجتمع غنيًا بما عهد من أعراف ونظم نشأت تعبيرًا عن الدين أو استصحابًا لما قبله من تقاليد حياة محلية أو ما وراءه من أنماط واردة. وقد كان العرف غالبًا يكاد يحجب الدين من حيث شرعية الالتزام الاجتماعي ومقاصده وحدوده. ثم إن الجماعة كما سلف القول كانت منغلقةً على نفسها أو ما يليها من قطاع حياة حديث ليس لها من شأن بالمجتمع العام، وكان أبناؤها شبابًا لا يؤهلون ولا يقبلون للقيادة في مجالات الحياة الاجتماعية. بل حينما راودت الحركة هموم إصلاح المجتمع اتخذت أولى وسائلها إلى ذلك من خلال التأثير عليه بالضغط السياسي محاولة لإِصلاحه من تلقاء رأسه لا قاعدته.
| |
| | |
| وإنما بدأ مشروع العمل الاجتماعي مقصدًا يكمل شمول الدعوة الإسلامية ووظيفة في مصطلحها الحركي واختصاصًا في مؤسساتها التنظيمية – عند طروء الكبت الشديد أوائل السبعينات حيث ضاقت سبل التعبير السياسي عن إيمانيات الجماعة فاضطرت لأن تصرفها إلى وجه آخر. وما كان في المدخل الاجتماعي من حرج سياسي، بيد أن الحركة ألفت الحرج من تلقاء ما تعودته من تَكيُّف بما يناسب القطاع الحديث المباين بأنماطه وطرائق حياته لمجتمع السواد العام. وكانت المبادرات الاجتماعية الأُولى تتمثل في – الدخول إلى المساجد، وتطوير الوعظ الدين التقليدي فيها بخطاب الدعوة الحديث، وإعمار حلقات الذكر والعلم بمنهج تربوي قوامه التلاوة والمحاضرة والدراسة، وإحياء المسجد بالشعائر المسنونة، وتكثيف وظائفه ليسع مناشط اجتماعية لفئات شتى من الرجال والنساء والشباب والأطفال. ودخلت الحركة من بعد إلى المؤسسات التعاونية والنوادي، وحاولت صياغة صور جديدة للمناسبات الاجتماعية في الأُسرة والجيرة. ومهما كان من هذه المبادرات فقد ظل عمل الحركة الاجتماعي لذلك العهد قاصرًا، ولم يكن يعتبر فيه من الوظائف التنظيمية المقررة والمسئول عنها إلا تنفيذ برامج محدودة من التكافل والتزاور الخاص والرحلات الخلوية المشتركة فضلًا عن رعاية الأداء الاجتماعي لبعض الشعائر الدينية.
| |
| | |
| أما بعد اتخاذ استراتيجية التمكن في المجتمع في أواخر السبعينات والتوجه نحو التفاعل مع المجتمع بكل وظائف الحركة، فقد اندفع عمل الجماعة الاجتماعي – إذ نهضت لسد الفجوة المتعاظمة بين القطاع الصفوي الحديث والشعبي التقليدي ولاستيعاب المجتمع في صفها وإصلاحه بمنهجها من خلال الفعل المباشر في ثنايا حياته مثل ما تصلحه من خلال السلطان. هكذا أخذت الجماعة تزهد في اعتزا ليتها الأولى التي زينت لها العكوف بعلاقاتها الاجتماعية على الداخل والاختصاص بدُورها وأنديتها ومؤسساتها الخاصة، فدفعت عناصرها للدخول إلى جميع المؤسسات الاجتماعية القائمة لتجعل تربيتها وفعلها فيها وتتخذها وسيلة للاقتراب من الشعب والتفاعل معه في سبيل تبليغ دعوتها وبسط منهجها في الحياة. ثم أخذت من بعد تقيم هي المؤسسات الاجتماعية المناسبة لاستيعاب سائر المجتمع وتعبئته وتنظيمه وتمكين سنن الصلاح وأعراف الخير في أوساطه. وجعلت تلك المؤسسات تنظيمات مستقلة بعيدة عن محور الحركة التنظيمي لتهيئ لها وضعًا يعين على ترقية عملها المتخصص وعلى حشد قاعدة واسعة متعاونة بمعزل عن الخيارات السياسية. هكذا نشطت تلك المنظمات بين الشباب ذكورًا وإناثًا وبين النساء والرجال لأغراض التعاون على التزكي والتعلم وعلى فعل الخير والخدمة الاجتماعية. ولما ضرب [[السودان]] بلاءُ اللجوء السياسي والجوع والهجرة الداخلية، شرعت الحركة سنة العمل الإِغاثي والخيري العام والمؤسسات التي تتولاه بمنهجية حديثة، وكان ذلك غريبًا في المجتمع المسلم كله الذي لم يعهد في فعل الخير إلا العمل الفردي المباشر.
| |
| | |
| وكانت تلك المؤسسات الاجتماعية أقرب إلى ما تألفه الحركة من مؤسسات القطاع الحديث منها إلى المعهود التقليدي، من حيث أنها وسائل كلية جماعية. وكان ذلك التطوير مجديًا جدًا، لأن المجتمع – إذ تحول نحو الحياة الحضرية والحديثة التي تشتجر فيها العلاقات المادية والبشرية – غدا محتاجا لنُظُم إجمالية تحيطه، ولا تناسبه النظم البسيطة الوثيقة المحدودة التي كانت معهودة في حالته الأولي. ولأن المجتمع، إذ تعرض لغاشيات شتى في ثقافته وأوضاعه، قد أزمت فيه القضايا الاجتماعية التي تستدعي منهجًا جديدًا. أما ما بقى من أنماط حياة فرعية وأعراف علاقات ومناسبات خاصة وسلوكيات أفراد مباشرة، فقد كان أثر الحركة فيه أدني، إذ مضت التقاليد بحالها إلا من حيث ساعدت التربية الدينية التي إشاعتها الحركة على انحسار ما هو منكر في الدين من مظاهر السمت والسلوك الفاحشة أو عادات الاحتفال والتعامل الجاهلية.
| |
| | |
| ولئن تيسر للحركة أن تُكوِّن مؤسسات جديدة تُعوض عن الوظائف الاجتماعية التي افتقدها المجتمع بتحوله من السذاجة إلى التركيب والريف إلى الحضر، بينما تعسر عليها أن تولِّد أعرافًا فرعية جديدة تحمل معاني الدين وروحه المتجددة في المجتمع، فذلك أن بين العرف الاجتماعي والتجديد الديني شيئًا من الجدلية التاريخية؛ يأتي التجديد بتقويض بعض الأعراف القديمة تدرجًا إما لأنها صيغت من قيم ليست من الدين أصلا بسبب الغفلة، أو لأنها صور لعلاقات كانت تُعبر تعبيرًا وافيًا عن التدين في ظروف سالفه ولم تعد كذلك في سياقٍ تاريخي جديد. ثم يحيى التجديد القيم الدينية الأصلية ويوحى برؤىً جديدة في صور التعبير عنها في السياق الجديد، فيقترح سننًا سلوكية جديدة تجسد التدين الاجتماعي وتنشر روح الدين حيث تمضي بها تقاليد سارية. وذلك حتى تدور الدورة ويأتي زمان تجمُد فيه أشكال السلوك المتقادمة وتغدو التقاليد عائقًا لنشوء تعبير متجدد عن التدين.
| |
| | |
| وقد سعت الحركة بعض سعى لأن تؤصِّل العمل الاجتماعي الإسلامي وتصوغ فيه نظريات فقهية ونماذج قدوة اجتماعية تنشر أعرافًا رشيدة في مغزاها روح الدين وفي صورها التزام الشرع وفي مادتها الفطرة والتجربة الاجتماعية الإِنسانية كما تتصل عبر التاريخ نافية لتراث الجاهلية مراعية لمقتضيات التطور. وكما تتصل أيضًا عبر الإِنسانية نافية للغازيات الحضارية المنكرة ومراعية للخصوصيات المحلية. لكن الحركة لمَّا تبلغ في ذلك أن تتمكن في المجتمع ولمَّا تستقر بها دورة التطور العرفي المنشود. ولئن قيل عنها أنها توشك أن تكون مجتمعًا ولم تعد جماعة مخصوصة، فذلك تعبير عن توجهها بدعوتها وقدوتها نحو المجتمع وعن تحقيقها لكثير في سبيل ذلك. أما المجتمع الإسلامي المتكامل فذلك هدف من وراء التمكن الشامل للدعوة والقدوة والسلطة الإسلامية .
| |
| | |
| ==== الإقتصاد ====
| |
| | |
| بدأت الحركة بعيدةَ جدًا عن الحياة الاقتصادية للمجتمع، لأنها لمبتدئها دعوة فكرية ثقافية أقرب للتجريد يحملها شباب غير كاسبين في زمان لم يكن للشباب فيه نصيب ولا سلطة من المال أو صغار موظفين ذوو دخل محدود، وتحصرها بيئة لا صلة لها بساحات الإِنتاج والسوق التقليدية أو الحديثة، وتمدها أدبيات وتجارب إسلامية تقليدية وحديثة لا تعنى كثيرًا بالعامل الاقتصادي في المجتمع ولا الداعي الاقتصادي في الدين. فلم تتجه الحركة عندئذ لأن تدخل بالدين في الحياة الاقتصادية لندخلها فيه.
| |
| | |
| وكانت الحياة الاقتصادية في المجتمع التقليدي مارقة من الدين مروق [[السياسة]]، سوى بعض الأذكار الدينية التي كانت تلابس المعاملات مثل التداعي إلى الصلاة على التي وكصرة الدعاء أن يرزق الله ويفتح والادعاء بالحلف والموثق الديني في المفاوضات. ولئن كان في فئة الزرَّاع والتجار بقية من تَديُن عام، ومن ثم شتى من نبات الدين وأذكاره في أداء أعمالهم ، فقد كانت عندهم غفلة ومخالفات كثيرة لقاصد الشرع وأحكامه. أما القطاع الاقتصادي الحديث في الصناعة وإدراة الأموال والأعمال فهو طائ على المجتمع من تلقاء التجربة الغربية الُمْعرضة تمامًا عن الدين الموغلة في المادية. هكذا ما كان للجماعة أن تتذكر الدين في الاقتصاد والناس كلهم غافلون، ولا أن تعنى به وهو خارج نطاقها وامكاناتها ووعيها. فجدالها في الدين كان بغالبه تاريخيًا أو نظريًا أو سياسيًا دائرًا حول الدين والدولة مكافحًا للعلمانية. والتوجه العقدي التوحيدي كان بغالبه مشغولا بمجاهدة الإِلحاد الكافر بالغيب أو الإِشراك السياسي دون ذلك والإِشراك المتمثل في عبادة المال والمتاع الدنيوي. والفقه الإسلامي الشائع لم يكن اقتصاديًا لأن الذين يلقونه أو يتلقونه كانوا يقتصرون فيه على أبواب فقه الشعائر ولا يتجاوزنها كثيرًا إلى المعاملات. وكانت المفهومات الإسلامية للنهضة بالأمة عقائدية أخلاقية وجهادية سياسية لا مادية اقتصادية.
| |
| | |
| صحيح أن منشورات الدعوة ومنقولاتها كانت تورد بعض المعاني الاقتصادية منافسة ومناظرة للتيار الاشتراكي الرائج آنذاك، وتتطرق من ثمَّ لموضوع العدالة الاجتماعية في [[الإسلام]] ولاستقلال [[الإسلام]] عن الرأسمالية الربوية والاشتراكية الإِلحادية. ولكن ذلك كله طرح نظري جدلي واقف عند العموميات. فالمرحلة في الدعوة كانت تقتضى تركيز الأصول دون تفصيل السياسات الدستورية أو الاقتصادية. ثم إن بعض عناصر الحركة الإسلامية ممن كانوا متأثرين بسابقة توجه اشتراكي لم يثبتوا فيها ليطوروا الاهتمام المفصل بالاقتصاد، وإنَّ الحديث المحدود داخل [[السودان]] وخارجه عن الرأسمالية أو الاشتراكية الإسلامية كان منكرًا في مرحلة نشوء الدعوة وحرصها على تأكيد الهوية الإسلامية الخالصة والتحرر من شبهة التلوث الثقافي الغربي أو الشرقي. وحين طرحت الجماعة ميثاقًا إسلاميًا متكاملًا أساسًا لجبهة الميثاق الإسلامي في الستينات، تعرضت لبعض المبادئ الاقتصادية. ولكنها وقفت عند العموم من تحريم الربا وفرض الزكاة ومن الاقتصاد الوسط بين المذهبين العالميين. وكانت تلك المبادئ نصوصًا تتم الميثاق لم يترتب عليها كثير في الممارسة العملية للجبهة أو للدولة.
| |
| | |
| ثم طرأت ظروف على الحركة طورت صلتها بالاقتصاد. ذلك أن الجماعة تعرضت للاضطهاد السياسي في السبعينات، فطُرِدَ بعض عناصرها من الخدمة العامة في إدارة الدولة، فاضطروا لأن يباشروا عملًا تجاريًا حرًا ليلتمسوا الرزق. وإذ تكاثر هؤلاء عرضت لهم وللجماعة قضايا التدين في هذا المجال غير المعهود. وكان الوجه الأولى الذي عرض من ذلك هو مدى معرفة فقه الدين والتزام آدابه في المجال الجديد، وكيفية استيعاب الإِخوة التجار في شكل تنظيمي يكفل تربيتهم وتعبئتهم لأغراض الحركة التي تليهم من حيث هم عاملون في الوسط التجاري. ولاحظت الحركة ظواهر لم ترضها في ارتباك تدين هؤلاء في عملهم الجديد مقارنًا لما بلغوا بطول العهد من التدين العام، وأخذت على بعضهم عدوى تخلق بأخلاق الكنف الاقتصادي الذي كانوا فيه غرباء يخوضون مع الخائضين يتأثرون ولا يؤثرون. ولذلك اهتمت الجماعة بتربية هؤلاء ليستقيموا على نهج التدين السوي. ومهما كانت هذه الفتنة الأولية تكاد تُزهِّد القادم إلى التجارة وترُهبه، فقد أنصلح الحال حين تكاثرت العناصر العاملة في المجال الاقتصادي الحر وأخذ الهم الفردي في كسب العيش والمجاهدة ضد الفتنة يصبح همًا تربويًا تنظيميًا، وتبدلت ضرورة مباشرة العمل الحر إلى توجه عام لولوج هذا المجال ابتغاء مصالح الدعوة والتربية والحركة أيضًا من خلاله.
| |
| | |
| هكذا أدى الكبت السياسي إلى أن تنصرف الحركة ببعض طاقاتها إلى المقاصد الاقتصادية الإسلامية حيث الحركة متاحة بغير حرج أو خوف مجالًا آمنا لأفرادها العاملين ولإِطلاق قواها المكبوته، ووسيلة لعرض الدعوة الإسلامية بوجه آخر وتمكينها بقوة جديدة. وهذا التوجه حال معروف عند كل الأقليات التي تُكبت سياسيًا فتنصرف إلى الاقتصاد؛ يُعرف ذلك في تاريخ الوجود الإسلامي المستضعف سياسيًا في تعض البلاد الإِفريقية والآسيوية، وفي حال اليهود في الغرب. فتوجه الجماعة ما كان عن تمام وعي بجدوى العمل الاقتصادي المباح أو بمغزاه عندما يتحول إلى تمكن ونفوذ مبسوط يدور على [[السياسة]] فيتحكم فيها، ولا عن استراتيجية لاستكمال شمول الدعوة والدين، بقدر ما كان عن ضرورات سياسية ثم عن أغراض تربوية وتنظيمية انفتح وعى الجماعة بعدها وانشرح صدرها للمغازي الأبعد.
| |
| | |
| فقد قُدِّر لهذا الرصيد الأولى المحدود من الإِقبال على الاقتصاد والانصراف إليه أن يواتيه اهتمام زائد بالأوضاع الاقتصادية في [[السودان]]. فالنظام المايوي الحاكم الذي بدأ اشتراكيًا تحول إلى الاهتمام بالتنمية المادية وإلى معالجة بوادر أزمة اقتصادية المَّت بالبلاد من جراء سياساته الأولى. هكذا أصبح الهم الاقتصادي أولوية في سياسة الدولة وفي هموم الناس. ففي منتصف السبعينات زلزل الاستقرار في قيمة الدخول وتفاقم العسر المعاشي للسواد الأعظم ومدت الأزمات والعلاقات العالمية أذرعها لزعزعة الاقتصاد الداخلي وغدا الشأن الاقتصادي موصولًا بالأمن السياسي و[[السياسة]] الخارجية فتعاظم خطره. وما كان للحركة إلا أن تنفعل بذلك كله. وصادف ذلك أن قد توجهت الحركة في ذلك التاريخ بهمِّها الاستراتيجي لاستيعاب المجتمع وقدَّرت أنها لن تحيط به ب[[السياسة]] وحدها أو بالعمل الثقافي والاجتماعي إلا أن تأتيه أيضًا من قبل مشكلاته وتطلعاته الاقتصادية.
| |
| | |
| ووافت عندئذ أيضًا جملة مبادرات عربية إسلامية لتأسيس مصارف ومرافق اقتصادية إسلامية. واتصل ذلك بتوجه الحركة الداخلي، فتأسست في [[السودان]] مصارف وشركات تأمين وتنمية إسلامية مشاركةً بين دفع الحركة وإقبال آخرين وأموالهم، وتأسست أخرى مثلها على سبيل المنافسة للحركة أو الإقتداء بها. ثم اتسعت رقعة الاقتصاد الإسلامي بتأثير الحركة على السلطة، فصدرت قوانين فارضة للزكاة ومانعة للربا وواضعة لأحكام المعاملات المدنية الشرعية، حتى كاد الاقتصاد الإسلامي أن يكون خيار الدولة في [[السودان]].
| |
| | |
| وإنما كان الدافع الأول لقيام مؤسسات اقتصادية إسلامية محدودًا يقتصر على عرض الدعوة من خلال الاقتصاد، إذ توخى أساسًا بناء نماذج تُبرز تميز نظم [[الإسلام]] وأصالتها تؤكد حقها في الوجود والمقبولية وتصدق إمكان إجتناب الربا وحكمة تحريمه. وقليلًا ما حفزت المؤسسين دوافع طلب الربح، فما كان الكسب مضمونًا في تجربة غريبة مجهولة, وما كانت تراودهم نية اتخاذها مراكز قوة سياسية ولا تخطر لهم آثارها التي ترتبت من بعد. بل بدأ الأمر محدودًا في مقصده ووعده ومداه في سياقٍ من نظامٍ غير موات ثم باركه الله. فتكاثرت المؤسسات خاصة وعامة. وتعاظمت عائداتها الربحية، وأدت إلى ترويج المساهمات الشعبية الواسعة في الأعمال التجارية بإقبال الناس على الكسب الحلال، واستقطبت مدخرات مالية كانت مكنوزة ورؤوس أموال عربية كانت تحجم عن [[السودان]].
| |
| | |
| ومن جانب آخر هُيئت أرضية عملية لانطلاق الاجتهاد الفقهي وإشهار المصطلحات والمفهومات والمعاملات الاقتصادية الإسلامية .
| |
| | |
| ثم بدت للمؤسسات الإسلامية – من بعد الآثار الاقتصادية والفكرية الأوسع – أبعادٌ سياسية لم تكن مقدرة. فرأى فيها أعداء الدين خطرًا كبيرًا لأنها رموز استقلال اقتصادي وروافد قوة سياسية للمسلمين توشك أن تفلت بهم من الهيمنة الغربية. وبمادية منطلقات الرأسماليين اتهموا أن الباعث عليها إنما هو استغلال المتدينين باسم تحريم الربا وأكل أموالهم بالحيل أو التوسل بها إلى السلطة السياسية، ومن ثم صوبوا نحوها كيداً دوليًا عظيمًا وحرَّضوا عليها مواليهم في الداخل. وتصدى لها كذلك آخرون ممن أخذه الحسد لثروة الإسلاميينالنامية أ, القلق من منافستهم السياسية أو الارتياب من دعوة دينية لا ترتبط بالمسكنة والتزهد كما يعهدون. ورأي أولياء الدين في المؤسسات الإسلامية من بعد تعزيز دعوة [[الإسلام]] وتقوية حركته مؤشرًا نحو نظام اقتصادي كامل يتم الدين ويمكنه في الأرض – لاسيما أنها ما تجاوزت المعاملات الرابحة دون ربا حتى أخذت تتوخى مقاصد أخرى للدين في الاقتصاد وتوسع أبعادها نحو التنمية والعدالة الاجتماعية. بل كان في نجاحها ما هيأ المناخ لقبول النظم والتشريعات الإسلامية كافة في [[السودان]]، فكسرُ عقدة الشك في أحكام الشريعة الاقتصادية أدى إلى الاطمئنان بحق الشريعة في كل شأن. ذلك كله بالرغم من أنها كانت تعمل في غربة من نظام لا يناسبها وأنها تقدمت بقوة دفعها سابقة لحركة التأصيل الفكري ، فاعترتها بعض المشكلات الانتقالية تولدت عن مضارة لها من جراء الغيرة والمكايدة المالية والسياسية أو عن ابهام في الفقه الذي يهديها أو اضطراب في الممارسة من حداثة التجربة.
| |
| | |
| مهما كان فقد دخل الاقتصاد في همِّ الحركة الفعلي، بما توافرت لها من تجارب عمل في القطاع الاقتصادي الخاص بواسطة الأفراد والمؤسسات، وبما تولت بتمكنها الحزبي في السلطة م مسئوليات تدعوها لاستنباط سياسات شرعية عامة في الاقتصاد الوطني المتفاعل مع القوى الاقتصادية الإِقليمية والدولية. وإذ جرى ذلك في سياق توجه الحركة النظري الإسلامي وحركتها السياسية لتمكين قوة الدين، فقد أدركت مغزى الاقتصاد في الدين ودوره في حركة الإِصلاح الإسلامي دفعًا أو تعويقًا. وقد تناولت الحركة قضايا سياسة الدولة الاقتصادية من موقع المعارضة للحكم أو المشاركة فيه ومن منظور إصلاح القطاع العام والمرافق والبنَي الأساسية، وترشيد التدابير الكلية في [[السياسة]] النقدية والتجارية والاستثمارية والضرائبية، وتقدير العلاقات الاقتصادية الدولية الكثيفة التي دعت إليها شدة حاجة [[السودان]] وتعويله على غيره.
| |
| | |
| وقد تمثل ذلك في الاهتمام المتزايد بالمسائل الاقتصادية فأخذت تتوارد بكثرة مداولات الأجهزة القيادية السياسية، ودعت إلى تشكيل مجلس اقتصادي استشاري عام 1981م. وتطور المجلس إلى أمانة تنفيذية مختصة وضعت شأن الاقتصاد في موازاة الشئون التنفيذية الرئيسية في الحركة. ثم أصبحت الأمانة عام 1984م قطاعًا كاملًا في القيادة يوازي القطاع السياسي أو الدعوى. فكان ذلك التطور التنظيمي بينة على تعاظم شأن الوظيفة الاقتصادية في سياق وظائف الحركة الإسلامية الشامية.
| |
| | |
| وحين اتجهت الحركة إلى تأصيل قضايا الدين وتنزيلها على الواقع مناهج وسياسات عملية, حاولت أن تصوغ برنامجًا اقتصاديًا شاملًا للسودان، بحيث يكون مشروعًا مؤصلًا فقهيًا ومستجيبًا لحاجة [[السودان]] المعينة ومُكَيّفَاً لأن يكون منهج إنقاذٍ وانتقالٍ بوضع [[السودان]] الاقتصادي المتأزم نحو نهضة رشيدة فعالة عادلة. لكنَّ المشروع لأولى صياغته لم يسلم من قصور في المنهج والنظرية الشاملة وركز على المعالجات الفرعية والتدابير الإِدارية دون أساس أصولي أو سياق جامع أو توجيه معنوي دافع. ذلك أن غالب نظريات الاقتصاد الحديثة في العام تطورت نحو الانفصال عن مبادئ الاعتقاد وكليات الحياة وصوبت نحو المعايير المادية والتدابير الفنية، وأن المعالجات النظرية في الاقتصاد الإسلامي ما انفكت تحاول استيضاح مقاصد الدين ووجوه السياسات العامة التي يتنزّل بها الدين على الواقع الاقتصادي الحدي بكثافته المادية وأبعاده العالمية. والحركة الإسلامية الحديثة تبدو اليوم مستعدة ببرنامج أوضح وأصلح لسياسة الاقتصاد السودانيوبروح أدفع وأنجع في تحقيق نهضته العادلة. ولكنها لمَّا تستكمل من الفقه الشامل ما يحيط بكل معضلات الاقتصاد النظرية ولا من القوة المتمكنة ما يجابه كل تحدياته العملية. وما هي بفعلة حتى يتناصر على هموم الاقتصاد الحديث كل الفقه والعمل الإسلامي العالمي ادراكًا تامًا لمغزى المال في الدنيا والدين وتفقهًا عميقًا في سياسات المعاش ومعاملاته ونظمه وتعاونًا وانتهاضًا بأحوال المسلمين المادية.<br>
| |
| | |
| ==== [[السياسة]] ====
| |
| | |
| لربما قدرنا كسب الحركة السياسي في [[السودان]] عظيمًا إذا قايسناه إلى كسب سائر الحركات الإسلامية المعاصرة. ولعل بعض ذلك عائدًا إلى كون الحركة نشأت منفتحة للتفاعل الفكري والعلمي مع محيطها ومرنة للتكيف مع مقتضياته، وأنها قامت في بيئة عامرة بالوعي والصراع السياسي من جراء طبيعة [[السودان]] وتطوراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بل كان قدر الحركة أن توافي لمستهل نشأتها مناسبة سياسية كبرى هي استقلال [[السودان]] وتوجهه لاتخاذ دستور ذاتي. فطرحت الحركة شعار الدستور الإسلامي ليكون هو وجه تعبيرها عن الدعوة العامة إلى [[الإسلام]]. وانطبع خروجها العم من ثم طابعًا سياسيًا. واستمرت الحركة من بعد ذلك تتعرض وتتصدى لتطورات سياسية كثيرة ضربت [[السودان]] ولقضايا هامة وأزمات طامة وانقلابات وثورات وأحوال يسر وحرية وأمان أو ضر وفتنة وطغيان.
| |
| | |
| وقد أعان الحركة على الكسب السياسي مناخ الحرية العفو في فطرة [[السودان]] وضآلة الكبت والاضطهاد في أوضاعه السياسية نسبيًا. ثم دفعها لكسب أعظم تقدمها التجديدي للتقاليد الدينية العاكفة بغالب الدين على الحياة الخاصة، ونشاطها الحركي الذي مكنها من بسط قوة فاعلة في الوسط السياسي، ونضجها المنهجي الذي هدها في طلب الإِصلاح العام إلى الاهتمام بالسلطان.
| |
| | |
| وكما كان في نشأة الحركة ومحيطها ومذهبها ما عظّم حجم كسبها السياسي. فقد كان في ذلك أيضًا ما طبع منهج عملهابسمات الشمول والكثافة والتركيب. فهي لم ترض من ترقية الدين بالتربية الخاصة والتعبئة الاجتماعية حتى تجند قوة السلطان أيضًا، ولم تستغن عن المعالجات السياسية الدؤوبة بالتربص أو الإِعداد البسيط لساعة ثورة وخروج، بل كان منهجها السياسي متكاملًا كثيفًا. ويعود بعض ذلك أيضًا للحرية السياسية النسبية والسماحة في العلاقات العامة في حياة [[السودان]] ، مما لا يلجئ المرء للإِصلاح بالوسائل الثورية وحدها ولا يدفع للمذهب السياسي الزاهد في بقية الخير في المجتمع اليائس من التعويل على تذكيره بالحسنى أو تعبئته بالدعوة السياسية. ثم إن الطبقة المثقفة في [[السودان]] وقد غلبت على قيادة الحركة كانت أقرب ميلًا إلى الوسائل السياسية منهم إلى الوسائل الاجتماعية لأنهم مغتربون شيئًا ما عن المجتمع أو إلى الوسائل الثورية لأنهم المتمكنون في القيادة السياسية بحكم الأوضاع السائدة.
| |
| | |
| ولذلك اتخذت الحركة وطورت ضروبًا كثيرة من الأساليب السياسية لتناسب تطورات خبرتها وقوتها الذاتية ولتستجيب لشتى الحاجات السياسية المنشودة وتتصدى لمختلف التحديات الطارئة في أحوال الواقع السياسي. وانتهت الحركة إلى أن تكسب رصيدًا شاملًا من المناهج السياسية مناسبًا لتتطورها العام نحو الشمول في الأهداف والوسائل ووافيًا بكل ما يلزم لحركة إسلامية تسعى لتغيير المجتمع. وسنورد فيما يلي جملة من تلك المناهج السياسية في إطار سياقها التاريخي ومغزاها للحركة.
| |
| | |
| '''الدعوة السياسية العامة'''
| |
| | |
| الدعوة المجردة أول وسائل العمل السياسي وأضعفها وقعًا. فلا عجب أن اقتصر كسب الحركة السياسي في عهد التكوين ولظهور الأول على محض الدعوة العامة. ففي العهد الطلابي – بعد مرحلة أولية من الاعتكاف التربوي والاختصاص بالشأن الداخلي – بدأت الحركة تدعو تفعلًا مع قضايا الطلاب العامة وقضايا الوطن التي عنى بها الطلاب آنذاك كالكفاح للاستقلال الوطني. ولذلك اتخذت لنفسها دعوة سياسية تصل الاستقلال بالأصالة الإسلامية منافسة للمقولات الوطنية واليسارية الغافلة عن الدين. ومن هم بدأت المناظرة بين التراث التربوي الذي كان غالب سابقه عهد الجماعة وعملها السياسي الجديد. وجرى شئ من جدل فقهي حول الجدوى والأولوية بين التربية و[[السياسة]]. وأدى الأمر إلى بعض توتر تنظيمي بسبب جنوح البعض إلى العكوف على التربية الخاصة وخروج البعض إلى العمل الطلابي السياسي. وتعززت بذلك التوتر دواع أخرى جرت إلى انشقاق في الجماعة الأُولى.
| |
| | |
| ثم جاءت مرحلة تالية نال [[السودان]] فيها استقلاله الوطني وتخرجت الحركة بقياداتها من الجامعة فخرجت بدعوتها السياسية إلى الحياة العامة مركزة على قضية اختيار دستور إسلامي يقرر مصائر [[السودان]] المستقل. ومن خلال هذه القضية الدستورية كانت الحركة تقدم دعوتها إلى سائر معاني [[الإسلام]] السياسية وتتطرق إلى ما وراء ذلك من الدعوة إلى الدين. ولم تدخل الحركة بذلك في شئ من منافسة [[الأحزاب]] انتخابيًا أو سياسيًا، فلم يكن الشأن إلا شأن دعوة إلى قضية سياسية كلية قاصرة عن أن تكون طرحًا لبرنامج حكم بديل فضلًا عن أن تتعدى إلى عمل منافس. وكما وقع في المحيط الطلابي من قبل وقع في هذه الممارسة السياسية العامة على قصورها شئ من التوتر بين الإِخوان في إطار تنظيمهم الخاص والأخوان في إطار حملة الدستور الإسلامي.
| |
| | |
| أما فيما تلا من سيرة الحركة فقد دخلت الدعوة السياسية في جملة دعوة الحركة ودينها دون توتر أو فصام، كما اتصلت بسائر الوسائل [[السياسة]] المتطورة. وقد ظلت الحركة تتخذ شعارًا سياسيًا معينًا تستوحيه من مقتضيات المرحلة وهموم الساعة لكيما تقترب بدعوتها إلى ما يعني الناس ولكيما تعزز وقعها على الرأي العام. ولكن شعارات الدعوة السياسية التي كانت تتبدل وتتنزل على الواقع حسب الظروف العارضة لم تكن إلا ذرائع للدعوة العامة تورد من خلالها كل معاني الدين وتؤكد كل مغازى حركته.
| |
| | |
| '''التعبئة السياسية'''
| |
| | |
| تطور للحركة هذا الأسلوب الثاني من أساليب العمل السياسي عندما أضافت إلى الدعوة تعبئة جماهيرية لدعم اتجاهها السياسي بقوة الجماهير الشعبية. فلم تعد تعول على إلقاء النصح العام بل أخذت تسعى بالتحريض والتعبئة لتحريك عامة الجمهور وتحمل بقوته على ولاة الأمر في سبيل تحقيق الأهداف الإسلامية . ثم تطورت أساليب التعبئة بإحكام تصويبها وترقية فعالياتها عندما اتخذت الحركة جملة من المنظمات الجماهيرية تعبئ قطاعات مخصوصة من المجتمع كالشباب والنساء ونقابات العاملين أو تتمحور حول قضية معينة كالدستور الإسلامي [عام 1957م أو 1967م] أو حماية العقيدة [حل الحزب الشيوعي السودانيعام 1967م] أو الدفاع عن الشريعة [الانتفاضة عام 1985م].
| |
| | |
| ولعل أولى حملات التعبئة السياسية الفاعلة هي تلك التي جرت في الخمسينات والستينات مركزة على قضية الدستور الإسلامي. فلئن كانت تحمل نصحًا للجمهور بمعاني الحكم الإسلامي، فقد حملت كذلك لاسيما في الستينات نقدًا للنظام السياسي ولمواقف [[الأحزاب]] في قضية الحكم والدين وتحريضا للجماهير أن تأطر قيادتها على الدين أطرًا أو يسحبوا منهم سند الولاء السياسي. ومع توافر شيء من قوة الضغط السياسي اتسعت الحملات في الستينات لتشمل قضايا سياسية وراء القضية الأصولية الدستورية. فمنها قضايا خارجية كنصرة العرب في [[فلسطين]] والمسلمين في نيجريا وكشمير، ونحوها من القضايا التي بسطت الحركة بها وعيًا سياسيًا وعبأت لأجلها حملات شعبية مشهورة. وشأن آخر كان محور تعبئة جليلة ولدت ضغطًا حرك الإِجراءات الرسمية ووعيًا كيف الاتجاهات الشعبية هو حل الحزب الشيوعي، حين عبأت الحركة حملة جسدتها حجة المداولات السياسية وقوة التظاهرات الشعبية فتمخطت عنت موقف سياسي غالب يدين الشيوعية وإجراء قانوني يحرمها.
| |
| | |
| أما في مرحلة النضج السياسي في السبعينات فقد تطورت وسائل التعبئة المتقدمة وتكاملت أهدافها الجزئية، إذا أصبح عمل الحركة السياسي وفق استراتيجية جامعة تتخذ كل الوسائل وتستعين بكل قوى الضغط السياسي وتؤم كل أهداف الدين. فغدت التعبئة السياسية حركة تنتظم قطاعات الشعب جميعًا في منظومة من التشكيلات المحكمة، وتسترفد بوسائل التعبير خطابًا جماهيريًا وإعلامًا أو العمل تدبيرًا وممارسه أو الضغط ترغيبًا ف المعروف وترهيبًا عن المنكر، وتستوعب كل قضايا التأصيل والتوبة إلى الدين في السياسات الداخلية والخارجية. ولعل من أشهر محاور التعبئة العامة في الثمانينات قضايا تحكيم الشريعة والدفاع عن أمن [[السودان]] ونصرة القضايا الإسلامية الدولية. أما المغزى الاستراتيجي الجامع الذي توخته التعبئة المتصاعدة فقد اتجه نحو تجاوز النظام السياسي التقليدي لا من حيث علمانيته وحسب بل من حيث منهج البناء والولاء والمذهب السياسي. ومن خلال وسائل التعبئة في هذه المرحلة بلغ العمل السياسي إلى الجماهير في مواقعها وأقاليمها، وقد كان قبلًا قاصرًا على المسرح الوطني المركزي للحياة العامة، بل التحم العمل السياسي بعلاقات العالم الخارجي وصراعاته.
| |
| | |
| '''البناء الحزبي السياسي'''
| |
| | |
| اتخذت الحركة هذا الأسلوب السياسي في الستينات لتضيف إلى الدعوة العفو والتعبئة الطارئة والجزئية عنصر الالتزام والولاء لكيان عضوي إسلامي منتظم. وكان ذلك بتأسيس جبهة الميثاق الإسلامي.
| |
| | |
| وإذ أقامت الحركة محور ولاء سياسي حزبي شعبي مستقبل، فذلك أنها بلغت درجة من قوة الثقة بذاتها أن تقوم مقام استقلال ومنافسة، ودرجة من ضعف الثقة بالآخرين ألا يجدي فيهم محض النصح والضغط السياسي لتمكين مقاصد الدين. هكذا شهد تطور الحركة السياسي تحولها من هيئة دعوة إلى هيئة ضغط ثم إلى هيئة عمل متميز. وهكذا حرضت الجماهير على البراء من أحزابهم والانحياز إلى ولائها ونافست على السلطة في الانتخابات. وكانت تلك أولى تجارب الحركة في المنافسة الحزبية الانتخابية فاقتضت تكثيفًا للدعوة وتصعيدًا للحملة واستغراقًا في بناء التنظيم الحزبي الموسع. وانصرفت إلى ذلك جهود كانت عاكفة على مدى من الدعوة والتعبئة محدود ودائرة من التنظيم ضيقة. وظهرت ظواهر اضطراب انتقالي في فقه المواقف الجديدة وأدبها. فأثار ذلك توترًا بل صراعًا صريحًا بين القديم والجديد وبين التربية السياسية شبيها بالصراع الذي حدث في المراحل الطلابية الأولى، إذ تطور الصراع حتى كاد أن يصبح انشقاقًا تنظيميًا.
| |
| | |
| واستصحبت هذه المرحلة وقوع جدليات حادة في التقدير السياسي الخلاقي، لأن الحركة غدت حزبًا يدعو إلى طرح مقولات واتخاذ مواقف تعنى كل قضايا الحياة العامة بمغزاها الإسلامي، وراء ما كانت تركز عليه الدعوة والتعبئة الأولى من القضايا الأُصولية ذات السمة الإسلامية بادئ الرأي. ولما كانت القضايا السياسية بشمولها وتشعبها إنما تؤسس على تقدير نسبي للمصالح عاجلها وآجلها، فهي مواطن للاختلاف البعيد. لاسيما أن مصلحة الحزب وسمعته وشعبيته وعلاقاته وتعهداته أصبحت تشكل اعتبارات ضرورة تؤثر على اتخاذ المواقف وإخراجها بغير ما عهدت الحركة في مرحلة الدعوة المحدودة التي تلقي بالرأي متجردة عن أي أثر له عليها وغافلة عن أي مغزى له في سياق شامل أو لأجل بعيد. ولقد أدت هذه الجدليات إلى زلزلة وحدة الحركة بما أثارت من شقاق ومراء حول استقامة منهج العمل السياسي أو مرونته، وحول أولويات العمل الحركة ونسبة [[السياسة]] لسائر وظائفه، وحول وجوه المصلحة والحكمة في المواقف السياسية، وخاصة مدى التحالف مع الآخرين والمعارضة للحكومة. وإذ تعرضت الحركة لأول مرة لفتنة [[السياسة]] السافرة وما يلوح فيها من شهوة السلطة والشهرة ، لم تسلم من بعض خلاف وتنافس على حظوظ الكسب الشخصي.
| |
| | |
| وقد تمثلت هذه الجدليات النظرية والشخصية بوجه آخر في مناظرات حادة حول تنظيم حركة [[الإسلام]]، لأن جماعة الإِخوان المسلمين قد انزوت تحت جبهة الميثاق الإسلامي التي كانت إطار العمل السياسي، ولم يكن مرضيا لخاطر الإِخوان جميعًا أن ينكبت اسمهم الخاص وينصرف جانب مقدر من نشاطهم إلى إطار لم يكن معهودًا. وذلك مهما استيقنوا أن عمل جبهة الميثاق ليس إلا بعدًا من أبعاد دعوتهم الشاملة. فالثنائية التنظيمية قد ألقت شيئًا من مجانبة وغيرة بين الوظائف التربوية والسياسية على تكاملها في الدين، وبين عناصر إخوانية وجبهوية على تواثقهم في [[الإسلام]]، بل بين قيادات العمل الخاص بالإِخوان والعمل العام في الجبهة ولو كان يوحدهم أنهم بالغالب جميعًا من الإِخوان وأن علوية التنظيم والقرار الإِخواني كانت مقررة فيما بين هؤلاء.
| |
| | |
| وقد أدت هذه التوترات إلى حالة مشاكسة كادت تجمد الحركة وتشلها وتستنفد طاقاتها في المجادلات والمخاصمات والتسويات، بل كادت تشقها بالعصبية الوظيفية إلى مذهبين، وبالمجانبة الشخصية إلى تنظيمين. وتطاولت الحالة نحو عامين حتي رجعت الجماعة إلى حكم الشورى فجمعت مؤتمرها العام أوائل عام [[1966]]م، بل حتى هدأت الحالة الانتقالية واهتدت النفوس إلى شيء من التوحيد الفقهي والتنظيمي. أما التوحيد الفقهي فذلك أن الذين كانوا ينكرون [[السياسة]] أول الأمر بحسبانها وظيفة غير مألوفة في تدين الجماعة السابق وبحسبان إطارها الجبهوى مجانبًا للتنظيم والولاء المعهود، وبحسبان الذين يقومون بها يؤدونها بمنهج مشبوه، وأن الذين كانوا من جانب آخر لا يقدرون في التربية إلا جمودًا عن الدعوة وقعودًا عن المجاهدة العامة ولا في تنظيم الخاص إلا عصبية لأشكال قديمة – هؤلاء وأولئك معا تطوروا فتصالحوا فقهيًا ونفسيًا على شمول أهداف الدين ووحدة وسائله التنظيمية. وجاء المؤتمر أيضًا لينهي ازدواج القيادة بعد ازدواج التصور. فالتمايز بين القيادتين في الإِخوان وفي الجبهة أجج الفتنة بين التقديرين وبين التنظيمين حتى وحدت القيادة في مسئول واحد هنا وهناك.
| |
| | |
| أما في فترة الثمانينات فإن منهج البناء الحزبي السياسي للحركة قد اختلف عن المنهج القديم – حيث أدرجت كل وظائف تنظيم الإِخوان الشاملة في حركة الجبهة الإسلامية القومية، بينما كانت تقض تلك الوظائف قد حبست في جبهة الميثاق. هكذا أهدى الإِخوان المسلمون مناهج تربيتهم وتنظيمهم وتجاربهم الحركية إلى الجبهة الإسلامية خلافًا لما كان قبلًا، بل سلكوا صفهم جميعًا داخل الإِطار الجماهيري الواسع للجبهة، فأصبح هذا الإِطار هو محور الولاء السياسي والحركة الموحد. ولئن جرى ذلك بشيء من التدرج فقد انتهي إلى تجاوز صورة الثنائية في تنظيم حركة [[الإسلام]] ب[[السودان]]، ومن ثم إلى تجاوز المناظرات الفقهية والمشاكسات التنظيمية التي كانت قد أثارتها الثنائية القديمة. ف[[السياسة]] عند الثمانينات قد تمكنت في دين الحركة ولم تعد وظيفة حديثة غريبة يمكن أن تثير ريبة فقهية.
| |
| | |
| والتجربة الماضية بما استصبحت من مشكلات الثنائية كانت عبرة واعظة ألا يكون عودٌ إليها. بل إن حدة الخلافات حول الاجتهادات السياسية تلاشت أو كادت بما تواضعت عليه الحركة من منهجيات سياسية بطول الممارسة وبما تعودت من التسامح والتجاوز عن الخلاف. فالتوتر بالخلاف السياسي إنما ضرب الجماعة قديمًا لأنها كانت قبل عاكفة في تربيتها على مناهج نمطية مسنونة وقائمة في فكرها على مسلمات عامة مقبولة, فلم يكن عجبًا أن طرأ عليها الخلاف فتوترت وتزلزلت شيئا ما لأول العهد. أما في تجربة الجبهة الإسلامية القومية المتأخرة فقد ثارت قضايا خلافية شتى, وجوه الحق فيها ذات خفاء ومغازيها ذات شأن، لكنها لم تشكل فتنة ذات خطر.
| |
| | |
| ولئن برزت في هذه المرحلة قضية منهج الإِصلاح ب[[السياسة]] أم ب[[الثورة]]، فذلك أن ممارسة أسلوب البناء والعمل الحزبي دعت إلى التساؤل عما إذا كانت الحركة تعول عليه في إصلاح المجتمع مسايسة وتدرجًا. ولا يعنى ذلك أن قيادة الحركة قد تحيزت إلى ذلك المذهب السياسي. ولكن عناصرها أصبحت مشغولة بتلك القضية ومن ثم بتقديرات جدوى العمل السياسي التنافسي في بسط قاعدة [[الإسلام]] أو في تمكين نظامه.
| |
| | |
| وفي هذه المرحلة المتقدمة من البناء الحزبي السياسي اضطرد تجاوز الحركة للدعوة القاصرة على عموم المقاصد الإسلامية إلى ما يستوعب كل قضايا الحياة العامة وما يفصل [[السياسة]] الشرعية تفصيلًا وما يترجم مقولات الدعوة إلى مشروعات عمل وتطبيق.
| |
| | |
| '''التحالف السياسي'''
| |
| | |
| هذا أسلوب من أساليب العمل السياسي قد تستغني عنه الجماعة المحدودة التي لا تطمح لأكثر من الصدع بكلمتها، بل قد لا يناسب لإِبراز معاني الدعوة وتميزها لاسيما في مرحلة الغربة. لكن الحاجة للتحالف تنشأ حالما تتجه الجماعة لأن تكون حزبًا ينافس في معترك القوى السياسية ويسعى لأن تكون كلمته ذات وقع في الحياة العامة ولأن تتوافر لها في سبيل ذلك قوة منحشدة بأكبر ما يتيسر. وبالرغم من سبق التجارب الطلابية حيث بدأت الحركة بالدعوة في تميز واعتزال ثم اضطرتها تفاعلات الحركة السياسية للطلاب إلى شيء من التحالف، فأنها عندما خرجت إلى ساحة الحياة العامة بقيت إلى حين بعيدة عن أي حاجة أو فرصة أو استعداد لتحالف سياسي. ذلك أولًا أن أهدافها المرحلية لم تكن لتستدعي أكثر من ظهورها بدعوة [[الإسلام]]. ثم إن [[الأحزاب]] في المرحلة الوطنية الأولى كانت غافلة جدًا عن الدين وليس لديها ما يقرب ما بينها وبين حركة إسلامية غير ذات خطر، فضلًا عن الحركة من جانبها كانت تتخذ موقفًا نظريًا – تلقنته من الأدب الإسلامي الذي كان شائعًا – يكره الحزبية ويرميها بالعصبية ويتهم أخلاقها. فدواعي التباعد كانت واردة لدى الطرفين إلا ما كان يتسامع به عندئذ من اتصالات ذات طابع شخصي ب[[الأحزاب]] في التجربة السياسية للحركة الإسلامية بمصر. فلا كان في فقه الحركة السياسي ولا حاجتها الفعلية ولا مقبوليتها ما يحبذ لها التحالفات أو يلجئها إليها أو يمكنها منها.
| |
| | |
| لكن ما إن تطورت الحركة من بعد هيئة ضغط سياسي نحو قوة ولاء متميزة حتى بدت لها دواعي التحالف وضرورات التوازن والتعاون في سياق القوى الفاعلة في الساحة السياسية. وقد كان أولًا الاتجاه للتحالف ضئيلًا جدًا في كنف الجبهة الوطنية، لمكافحة نظام عبود العسكري. لكن دواعيه تعاظمت بعد ثورة [[أكتوبر]] حين ازدحمت الساحة العامة بالقوى المصطرعة والقضايا الملحة وحين طمحت الحركة إلى دور سياسي أكبر. فقد كثفت الحركة أسباب التعاون السياسي مع [[الأحزاب]] الوطنية للتصدي للهجمة الشيوعية المتغولة على ثورة [[أكتوبر]]. ثم دخلت في حلف سياسي صريح مع كتل سياسة أخرى في مؤتمر القوى الجديدة من أجل استمرار الجمعية التأسيسية تأمينًا لاحتمال إجازة الدستور الإسلامي. ولكنه كان تحالفًا برلمانيًا محصورًا بغالب أبعاده في ساحة العمل النيابي والتشريعي. وحين اشتدت الضرورة في أيام الاضطهاد السياسي من عهد مايو العسكري عقدت الحركة أمتن تحالف وأدومه في الجبهة الوطنية مع الحزبين الوطنيين تعاونًا على معارضة خارجية ومقاومة داخلية ومجاهدة قتالية للنظام الحاكم. وكان تحالفًا مؤسسًا على ميثاق يهدف إلى ما بعد إسقاط النظام، لكنه انحل من تلقاء المصالحة الوطنية مع النظام.
| |
| | |
| وقد ثارت للحركة قضايا وجدليات داخل أوساطها وخارجها في فقه التحالف. لاسيما في مرحلة التحالف الأخير الذي كان شهيرًا بأخباره وعلاقاته في العالم الخارجي خطيرًا بمداه ومغزاه الداخلي، إذ بلغ درجة القتال المشترك. ولقد دار الجدل الفقهي حول مبدأ الجواز في الأصل. ذلك أن الحركة الإسلامية بأصلها حركة خروج واستمازة عن الواقع التقليدي. وأنها تنفعل دينًا بعقيدة الولاء لله والتوكل عليه والبراءة من العلائق الأخرى والاستغناء عنها الله ثم المؤمنين المخلصين، وأنها لا تسلم من الانفعال عرفًا بعصبية الجماعة المتميزة عن الآخرين.
| |
| | |
| ولقد احتد الجدل خاصة حول جواز التحالف مع جهة أخرى ليست إسلامية، وذلك أن [[الأحزاب]] الوطنية لم تكن إسلامية بسياستها كما هي بقاعدتها، وأن التحالف في مؤتمر القوى الجديدة ضم عنصرًا حزبيًا جنوبيًا غير مسلم، وأنه في حال الجبهة الوطنية المعارضة لنظام مايو جر إلى تحالف مع دول ليست إسلامية بل ليست مسلمة. وقد كان استصحاب اعتزال غير المسلم واضحًا. وإنما اختلف الناس حول تقدير الضرورات السياسية الملجئة للتعامل معه ومراجحة الشرور والمصالح المنظورة في ذلك. ودار الجدل أيضًا حول أغراض التحالف: هل يجوز التحالف للاحتماء والدفاع فقط، أن نجوز أيضًا لتحقيق مصالح إيجابية لقضايا [[الإسلام]] وحركته؟ وتناولت عناصر الحركة في جدالها موضوع المدى الزمني للعهد التحالفي: هل يقدر أجله حسب الحاجة، أم ينبغي أن يقيد بأمد مسمي يقاس على عهود السنة النبوية أو يقدر بحد أقصى لئلا يتداعى ويتطاول؟ ذلك كله علاوة على الجدال في تقديم ما يوضع مسبقًا من شروط، وما يحصل فعلًا من الكسب والخسارة بالتحالفات، وما يقع من الأثر على الدعاة (من فتور همتهم حيث لا تبدو مقاصد الحق صريحة مجردة بما يلابسها من مقاصد مشتركة لآخرين، وحيث لا يقوم صفهم خالصًا متميزًا بما يعلق به من آخرين من دونهم، وحيث يخشى على صبغتهم الخالصة من شوائب العدوى بالتقارب مع الآخرين)، أو ما يقع من الأثر على الدعوة (حيث لا تقوم لدى المخاطبين مفارقة بينة بمعالمها من جراء ما يخلطها من علاقة). وكان يثور الجدل كذلك حول ضوابط الاستقامة في العهد مع الآخرين، لاسيما أنهم يغلب ألا يرعوا العهد تمام الرعاية أو تلحظ منهم بوادر الغدر، فيقوم التساؤل هل تنزل الجماعة بمستوى استقامتها إلى قدر استقامتهم، أن تلتزم بما يليق بها من حيث هي دعوة ونموذج للالتزام والوفاء بالعهود؟
| |
| | |
| وقد كان هذا الجدال الكبير داخليًا بغالبه. لكنه ثار أيضًا في سياق العلاقة والمناظرة مع الحركات الإسلامية التي كانت جلها لذلك الوقت على حال من الوضع السياسي ومذهب من الفقه غير مناسب للإِقبال على التحالفات السياسية. لكن بعض تلك الحركات بما شاهدت من عبرة العمل الإسلامي ب[[السودان]] وغيره وبما تطورت لها من تجارب وضرورات سياسية أخذت من بعد تمارس أسلوب التحالف السياسي مع سائر الإسلاميينفي بلادها بل مع سائر القوى السياسية. وقد شملت تلك التجارب تحالفات مع قوى عقائدية غير إسلامية وتحالفات في سبيل أهداف شتى دعوية وسياسية وانتخابية بل وقتالية ضد عدو سياسي مشترك.
| |
| | |
| '''المجاهدة السياسية'''
| |
| | |
| لا ينفك العمل الإسلامي الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر عن مجاهدة يحتمل فيها الأذى ويحمل على الباطل بقوة تقاوم قوته مجادلة أو مفاعلة أو مقاتلة. وقد ظلت الدعوة والتعبئة السياسية للحركة منذ نشأتها منطوية على بعض مجاهدة. فأولى الحملات الطلابية كانت مقاومة للتسلط الشيوعي المتمكن في الوسط الطلابي. أما أولى الحملات في الحياة العامة لصالح الدستور الإسلامي، فلم تستتبع كبير مجاهدة، لأن الحركة لم تكن ذات خطر يستفز [[الأحزاب]] [[السودان]]ية الحاكمة إلى مضادتها، لا سيما أن تلك [[الأحزاب]] دينية القواعد والتاريخ.
| |
| | |
| وإنما حقت المجاهدة عندما تعاظمت الحركة وتطورت من هيئة ضغط نحو حركة حزبية وأخذ عملها العام يتخذ صورة المعارضة السياسية، أولى صور [[الجهاد]] السياسي. وكانت درجة احتداد المجاهدة والمعارضة منسوية إلى اضطراد نمو قوة الحركة وإلى طروء عهود القهر في أوضاع [[السودان]] السياسية. ففي صدر عهد الفريق عبود كانت معارضة الحركة حذرة جدًا إلا في الأوساط الطلابية، حيث كان الاتجاه الإسلامي مقدامًا جدًا في مجاهداته يقود الطلاب كافة ويتقدم الحركة الأم ويكاد يتجاوزها. ذلك أن الحركة كانت صغيرة في حجمها وهمها، وأن النظام كان لطيفًا في وقعه. لكن الحركة من بعد تنامت في السنة الأخيرة من عهد عبود واكتسبت استعدادًا جهاديًا أهلها لأن تقوم بخطة موحدة وأمر مجتمع من الانتداء والخطاب العام ولأن تتصدى لقيادة المبادرات الثورية تعبئة وتحريضًا وتظاهرًا وإضرابًا سياسيًا حتى انهار النظام في [[أكتوبر]] [[1964]]م.
| |
| | |
| وعادت تلك التجربة القيادية الثورية على الحركة بثقة في الذات وثقة في الميزان السياسي العام، فاستوت في العهد الديمقراطي اللاحق معارضة سياسية معتبرة مهما كان وقعها غير شديد بسبب الحجم النيابي والسياسي المحدود والعلاقة اللطيفة مع [[الأحزاب]] التقليدية الحاكمة. أما في عهد انقلاب مايو فقد تعاظمت بالطبع تجربة المجاهدة وتصاعدت درجة المعارضة. فبادرت الحركة بالتصدي للنظام غير محاذرة ولا هيابة وباشرت ألوانًا من المعارضة بالكلمة والحركة الفعالة. وبدأت عناصرها جرأة في الخطاب الجهير المثير ودربة في بث المنشورات السرية، وعبأوا القطاعات الطلابية والنقابية ونظموا العرائض والتظاهرات والحشود والتحركات والإِضرابات والاعتصامات. وكانت المعارضة تنبسط جولات تتري وفاقًا للمواقف والمناسبات، أو تتركز حملات شاملة في سبيل قومة كلية ضد النظام – كما حدث في شعبان 1973م حيث تجاوبت الحركة الفئوية قاطبة في تعبئة واحدة هزت أركان النظام. وحينما جرت المصالحة الوطنية في عام 1977م استمرت الحركة تمارس ضربًا مضبوطًا من المعارضة السياسية في المؤسسات الدستورية ومجالات التعبير العام وفي الأوساط الطلابية بوجه خاص. ثم عادت المعارضة السياسية بعد سقوط نظام مايو وعودة الديمقراطية تمارس من خلال العمل الشعبي والبرلماني والإِعلامي بوقع فعال يتأيد بقوة الحركة الإسلامية النامية ويتكيف بقواعد العمل الديمقراطي.
| |
| | |
| ويمكن في عموم التقدير أن نخلص إلى أن المعارضة [[السياسة]] كانت أسلوبًا في [[الجهاد]] السياسي لا يكلف الحركة حرجًا في صدقها ولا في طمأنينتها. ذلك أنها أهون ابتلاءً وأيسر أداء ولا تنطوي على كبير فتنة ولا رهق، ثم أنها أقرب لهوى الحركة، لا تثير لديها مسائل معضلة في فقه الدين. بل كان الإسلاميون أشرح ما يكونون صدرًا بالمعارضة وآلف ما يكونون صفًا حولها. وربما يعود ذلك إلى أن التقاليد الإسلامية ظلت تجافي ما بين أصحاب السلطان وأصحاب الهم الإِصلاحي الديني، لا سيما منذ تباعدت الدولة قديمًا عن روح الدين وهجرها أهل التقوى متورعين من فتنتها، واعتزلها أهل الفقه والتصوف منصرفين استقلالًا إلى المجتمع بعلمهم وفقههم وهديهم، وناهضها أهل الإِصلاح خارجين عليها باسم الشرعية الأحق. ولاسيما بعد أن كتب على غالب الحركات الإسلامية في العالم أن تلاقي صدودًا من الحكومات القائمة بغير سلطان من شرع الله وأن تتعرض منها للكيد والاضطهاد والفتنة وسوء العذاب.
| |
| | |
| وإنما وقع الحرج على الحركة الإسلامية بالمعارضة من حيث أنها باشرتها من تلقاء ما تحب بهواها وما تعهد من أساليب المعارضة الغربية ولم تؤصلها على أصول الفقه السياسي الإسلامي لتتخذ فيها آدابًا وتشرع سننًا أصلية. ولئن كان لطف المناخ السياسي في [[السودان]] عمومًا واعتدال المزاج الفقهي في الحركة قد سلماها من النزع بالمعارضة نحو الاستقطاب المبالغ الداعي إلى التكفير المطلق للحاكمين ومن اليأس من جدوى الأساليب السياسية في سياق الحكم الديقراطي الدستوري والجنوح إلى [[الثورة]] المطلقة – لئن كان ذلك كذلك فقد كانت الحركة أحيانًا تعارض كيفما اتفق، وقد تلقي نفسها مفتونة بحمية المعارضة أن تزاود في الحق وتكابر بينما تحب أن يكون ولاؤها بالحق دون عصبية وقيامها بالقسط دون ميل، أو أن تنابذ في الخطاب وتهاتر بينما تعلم أن واجبها أن تقول التي هي أحسن وتدفع بها، أو أن تنابذ في العلاقة وتهاجر وحقيق عليها أن تبشر ولا تنفر وتجمع صف الأمة ولا تفرقه، أو أن تنافق بظاهر من الموقف تزدوج بمعايير ها وأولى لها أن تصدق وتستقيم في المخبر والمظهر وأن تقيم الميزان. ولربما يلحظ المراقب أن أداء الحركة في المعارضة السياسية أقرب إجمالًا إلى التعبير عن قيمتها المرعية تجردًا واستقامةً وإحسانًا وتوفيقًا، ولكن الحركة لم تطورْ منهجًا متكاملًا في المعارضة يتميز عن أنماط المعارضة الديمقراطية الوضعية ويمثل دور الجماعة الأمثل إسلامًا وهي في موقع المراقبة والمناصحة للسلطان وللأمة ترضى وتنكر وتنهي وتأمر بالحق والمعروف وتقوم خيارًا مذهبيًا ينطق بحجة الشرع وبديلًا سياسيًا يجسد قوة [[الإسلام]].
| |
| | |
| وللمجاهدة السياسية وجه أبلغ من المعارضة وهو المصابرة على وطأة الفتنة. والصبر تبعة من تبعات المعارضة للنظم القهرية والتعرض لبلائها المبين. وكان أول ما تعرضت الحركة لذلك في عهد الفريق عبود، حيث لم يكن لها بالقهر سابق عهد. فأخذها الخوف وآثرت السلامة والانزواء ألا تغشاها غائلته، إلا طائع فرعها الطلابي فقد تعرضوا فجابهوا وتلقوا الأذى فصبروا. أما في عهد مايو 1969م فقد توكلت الحركة فتصدت، فأحاطت بها ابتلاءات القهر بكل الوجوه إذا سلطت عليها حملات الإعلام الشرسة ومورست في حق أبنائها إجراءات الحرمان من وظائف العلم والمعاش والإخراج من الدار والوطن وتعرض غالبهم للأذى والإرهاب وكثير منهم للسجن والاعتقال وبعضهم للتعذيب والقتل.
| |
| | |
| وكان وقع المحنة التي أصابت الجماعة من تلقاء النظام المايوي ألطف مما كان مخوفًا. وكان صبرها عمومًا على وطأة القهر أجمل مما كان مقدرًا. فقد توهم بعض المراقبين أن منهج التربية الحركية في [[السودان]] يورث رخاوة في وجه المحن. ومهما كان فقد كان في تلك المحنة خير كثير لم يكن كله محتسبًا. فقد كانت التجربة تمحيصًا لإيمان عناصر الجماعة ولولائهم. وتحت وطأة البلاء تزكي إيمان غالب العناصر وتعزز ولاؤها وتركزت ضوابط العضوية فبالرغم من أن الجماعة لطروء النظام القهري كانت مائلة لانشقاق من جراء توترات سابقة، قفد عصمها زمان القهر والعسر فتضامت من ضيق الضغوط الواقعة وتضامنت من فداحة المصيبة المشتركة فتوحدت بذلك توحدًا وثيقًا. وقد ألفي الكثيرون في السجن فرصة والحبس. وكان الحرمان من الوظيفة العامة لدي الكثيرين صارفًا وملجئًا إلى وظائف أخرى ومكاسب أبرك في الحياة، وبذلك نوعوا مواقع العضوية في المجتمع، وقد كسبت الجماعة سمعة طيبة بثبات أبنائها وتوكلهم وصبرهم. على الشدائد، فدفعوا الدعوة إلى الدين بما مثلوا من قوته وإلى الجماعة بما أثبتوا من صدقها. ولم يكن صبرهم محض ثبات على الحال، بل كان توكلًا وتقدمًا على طريق الدعوة واندفاعًا بحركة [[الإسلام]] في وجه المخاوف والمخاطر. هكذا استفادت الحركة خبرة جديدة في وسائل المقاومة السرية التي لم يكن لها بها دربة. فاتخذت نظمًا وأجهزة ومناهج في تحصيل المعلومات واستقرائها واستنباطها، وفي تامين الاجتماعات والعلاقات والوثائق والأشخاص، وفي التدبير الخفي المشروعات المعارضة ريثما يخرج وبث المنشورات وتحريك العناصر السرية، وفي تجاوز حدود النظام وتراتيبه حيلة أو خفية. ولئن انكبتت غالب صور التعبير والعمل العام لدي الحركة، فقد صرفت طاقاتها إلى وظائف عمل إسلامي غير سياسي مما كان مهملا في السابق. لاسيما أن الحركة على شمول أهدافها كانت مشغولة بكسبها السياسي الكثيف عن كثير من مقاصد ترجوها في مجال النشاط الاجتماعي وفي إحكام البناء التربوي والتنظيمي. وقد تردد الكلام فيما عن آثار الكبت السياسي في تطوير مدي الحركة وفعاليتها التنظيمية.
| |
| | |
| وينبغي أن نذكر ما أصاب عناصر الجماعة من زلزلة بسبب شدة الوطأة وطول الشقة عليهم وعلى أهليهم. فقد تفاوتت حظوظ بعضهم في حسن الكسب بين وقت الشدة ووقت الرخا؛ إذ صدق أناس كان الصدق مرجوًا فيهم بينما خاب الرجاء في آخريين، وبرز أناس ما كانوا مذكورين حتى أظهرت معدنهم الشدة. وتنوعت صور الاستجابة للزلزلة والفتنة. فبعض الناس اعتزلوا الجماعة أو تباعدوا عمليًا عن الحركة. وبعضهم اصطنعوا خلافًا نظريًا حتى يبرروا اعتزالهم، ولم يكن أولئك إلا قليلًا أما الذين استسلموا للفتنة وسقطوا تمامًا فما كانوا إلا شواذًا أفرادًا.
| |
| | |
| ومن صور الاستجابة للفتنة والابتلاء أن ظهرت ظواهر الهجرة خارج [[السودان]] تدفعها دوافع ابتغاء المعاش الأكرم مع تطور الأزمة الاقتصادية. وسواء من هاجر للسلامة والأمن أو لدنيا يصيبها أو الذين أخرجوا إخراجًا؛ كلهم وجد مراغما في الأرض وسعة وانفتحت لهم أبواب للرزق والعمل، وتهيأ لهم الاتصال بحركات إسلامية فنقلوا إليها تجارب العمل الإسلامي [[السودان]]ي. أما الذين كان مهجرهم للمجاهدة فقد أتيحت لهم أسباب اتصالات وتجارب دبلوماسية ودولية. هكذا كان في مكروه البلاء خير كثير وبركة على بعض أعضاء الجماعة في إيمانهم وكسبهم من العلم والعبادة والرزق، وعلى الجماعة في نظامها وعملها وعلاقاتها.
| |
| | |
| وإذا ذكرنا المعارضة والمصابرة والمهاجرة فإن المقاتلة هي الوجه الرابع والأبلغ لمجاهدات الحركة الإسلامية ، وهي جهاد اضطرت إليه ضد النظام المايوي. وقد كان رصيد الحركة الإسلامية الحديثة إلى ذلك الحين محدودًا جدًا في مجال الخروج الثوري الشامل أو حتى الأعمال القتالية المحدودة. فمهما كان من تراث [[الجهاد]] الإسلامي القديم والقريب, كانت الحركة الحديثة ما تزال بغالبها دعوة رشد وإصلاح تراودها آمال التحول الإسلامي الشامل ونياته دون أن تباشر فعلا برامج الخروج الانقلابي أو عزائمه.
| |
| | |
| لكن الحركة ب[[السودان]] لجأت للقتال لا لتكون كلمة الله هي العليا، بل دفاعًا لئلا تكون فتنة ولينخلع نظام كفر وقهر سدَّ حرية الدعوة إلى الله، واستجابةً لعنف النظام وشراسته، واستفزازًا من خطر توجهاته. وكانت الجماعة عندئذ متصلة بعض اتصال بالحركة الإسلامية الفدائية ال[[فلسطين]]ية مما أوحى لها بأمر القتال وهيأ لها أسبابه. ولقد تجاوب الاتجاه [[الجهاد]] ي الأنصاري التقليدي في [[السودان]] مع اتجاه الحركة [[الجهاد]] ي الحديث وعززه بمدد صادق. ولعل الحركة عندئذ كانت أيضًا قد تذكرت معاني [[الجهاد]] وتجاربه في تاريخ الإسلامي واتصلت بالأدب السياسي الثوري العالمي.
| |
| | |
| هكذا تداعت عناصر الحركة للتدريب [[الجهاد]] ي في المعسكرات خارج [[السودان]] في إثيوبيا لتشارك في الانتفاضة [[الجهاد]] ية بالجزيرة أبا عام 1970م. ثم تصاعد الاعداد القتالي في المعسكرات بليبيا وفي العواصم العالمية حتى ظهر محاولة احتلال الخرطوم عام 1976م. ونفر إلى القتال في سبيل الله طائفة من شباب الحركة وأبلوا بلاءًا حسنًا في الرباط والصبر والإِقدام والقتال. واستشهد أخ قيادي فاضل هو الدكتور محمد صالح عمر في الجزيرة أبا واسر آخرون. كما استشهد من بعد زمرة من شباب كرام في الخرطوم وغيرها عام 1976م وبعده. وتمكنت بذلك معاني [[الجهاد]] ووقائعه في وعي الحركة وتاريخها وتجربتها الذاتية وكسبها المحفوظ.
| |
| | |
| وقد أثار القتال قضايا فقهية وتربوية شتى اشتد وقعها واشتجر حولها جدل واسع في أوساط الجماعة. فاستفاض الكلام حول معاني القعود والانخذال والنفير إلى [[الجهاد]] وحسن البلاء فيه. ذلك أن قد دُعي إلى [[الجهاد]] في الجماعة بغير سابق عهد أو تهيؤ لتكاليفه المعينة، فاثاقل بعض الأعضاء واصطنعوا المعاذير الفقهية والعملية لقعودهم إذ تعللوا بصالح الدعوة والتحفظ لأمنها أو لظروفهم الشخصية، بينما استجاب كثير وكفاهم الاهتمام بخطر الفتنة الحاكمة والالتزام بأمر الجماعة كثرة السؤال عن حيثيات وجوب [[الجهاد]] أو مقتضياته أو الاكتراث بجلال التضحيات المطلوبة. ولئن نقص من همة بعض المجاهدين أن القتال لم يكن لإِقامة دولة إسلامية لكن لدرء فتنة عارضة، فقد كان الارتياب الأكبر فيما استصحب [[الجهاد]] من تحالفات مع قوى سياسية أخرى أو التجاء إلى دول أجنبية شتى. ولربما التبس على البعض مغزى القتال والموت أو الاستشهاد في صف مختلط النيات والعناصر. وتجادل الناس من بعد في ضوابط [[الجهاد]] : هل يجوز الإِسراف في القتل والاثخان ترهيبًا وتشريدًا، أم الجائز والأوفق الاقتصاد وتصويب القتال إلى أهداف معينة.؟
| |
| | |
| ومن جانب آخر ثارت المناظرة بين [[الجهاد]] السياسي والقتال. بين الذين يرون أن المجاهدة السياسية لها قدرها ودورها، والذين يرون أن الأفضل والأحسم للأمور هو [[الجهاد]] القتالي. ويمكن أن يلحظ المرء كيف كانت المناظرة بين [[السياسة]] والقتال وفاقًا للمناظرة قديمًا بينها وبين التربية. فما أخذه أهل [[السياسة]] الأولى على العاكفين على التربية عاد يأخذه عليهم أهل المضى إلى [[الجهاد]] . وكان ذلك التفاعل على صعيد النظر وعلى صعيد العمل، وتمثل بوجهه الأخير في بعض مجانبة بين القائمين على التنظيم السري للجماعة بالداخل المهتمين بعد شئونها التنظيمية بمهام التفاعل مع الجماهير وتعبئة المعارضة السياسية, والقائمين في الخارج على تدابير القوة [[الجهاد]] ية المهتمين في أولويات نظرهم وعملهم بالتصويب بالقوة إلى رأس الفتنة وبضرب النظام لكي تنفتح الأبواب من بعد للدعوة الحرة والعمل السياسي البارد.
| |
| | |
| مهما يكن فقد دخلت معاني القتال والاستشهاد لأول مرة في رصيد الحركة. وكان ذلك من قبل تصورًا للاعتقاد وقصصًا للاستماع والاعتبار، فأصبح تجربة فعلية واندرج في كسب الحركة منهجًا تربويًا وهمًا تنظيمًا. واستفادت الجماعة من دون ذلك تزكية لروح الانضباط والالتزام بقدوة الذين تلقوا تدريبًا جهاديًا وبمثال المجاهدين الذين بذلوا أرواحهم فأوحوا إلى من خلفهم بمعاني بذل الجهد والوقت والمال في سبيل الله. ولئن تناصرت المعلومات من الشرع والمأثورات من التاريخ مع هذه التجربة الذاتية لتعلمق روح [[الجهاد]] وتركزه في منهج الجماعة، ثم توافرت تجارب جهادية حديثة سابقة ولاحقة في كثير من بلاد [[الإسلام]]، فقد كان القتال أسلوبًا من أساليب [[الجهاد]] السياسي العام ا الحركة لم ينسخ ما جربته الحركة قللًا ولم يحجب ما طورته بعدًا من مناهج العمل ولإِصلاح.
| |
| | |
| '''التعاون مع السلطان'''
| |
| | |
| لم يكن هذا الأسلوب في العمل السياسي واردًا في العهد الأول للدعوة إلا من باب النصح، إذ كان غاية وسع الدعاة وهمهم عندئذ أن يقوموا مقام الوعاظ المذكرين الناصحين لأولى الأمر والسلطان. ثم تطور النصح اللين إلى النصح مصحوبًا بضغوط التعبئة السياسية من غير منافسة لذوى سلطة سعى لتهديد أصلهم السياسي. وقد كان التعاون بهذه الوجوه – دعوة ونصيحة المودة بين الحركة والحكومة بغير غيرة سياسية مكدرة . أما حين تعاظمت الحركة وأصبحت قوة سياسية موازية ومعارضة ومنافسة تسعى لأن ترث الآخرين، فقد أخذت أسباب التعاون تتعسر إلا في حالة التحالف السياسي، وأظهر ما كان ذلك التعارض في عهد حكومة ائتلاف [[الأحزاب]] الوطنية التلقيدية بعد سقوط نظام مايو. لكن ذلك لم يقطع كل أسباب التعاون في القضايا ذات المغزى الوطني المتجاوز للمنافسات الحزبية بين الحكومة والمعارضة، كقضية الجنوب والعلاقات الخارجية.
| |
| | |
| وأيًا ما كان وجه التعاون فإنه لا يثير كثير خلاف فقهي في عهد ديمقراطي – إلا الترجيح بين مجال أوسع للتعاون أو مدى أرحب للمعارضة – أيهما أربح للدعوة ولمقاصدها السياسية؟ لكن التعاون الذي أثار خلافًا حادًا في التقدير الفقهي السياسي إنما كان في المصالحة مع النظام المايوي عام 1977م. وذلك نظرًا لطبيعة النظام غير الديمقراطية وغير الإسلامية ولثارات الحركة من تلقائه، ظلاماتٍ في الأموال والحريات والعروض والدماء.
| |
| | |
| بيد أن صلح الحركة والنظام إنما ورج في سياق تصالح وطني شامل اشتركت فيه [[الأحزاب]] المتحالفة في الجبهة الوطنية المعارضة، بل بادر به بعضها. ولقد استدعت التصالح ضرورات وطنية لدى الجبهة والحكومة – إذ أثخنهما الصراع وجرهما إلى سفك الدماء وتبديد الطاقات الوطنية وألجأهما إلى الاستقطاب الدولي وورطهما في مجابهة لا تنحسم. ثم إن المصالحة الوطنية وافت حاجة الحركة في مرحلة استراتيجيتها الجديدة نحو تمكنها من تطوير طبيعتها ودعوتها جذريًا ومن بسط فكرها وصفها بين جماهير الشعب والتميز بأمرها الإسلامي الخالص. ذلك كله فضلًا عما واتي المصالحة من سائر الظروف الوطنية والدولية. وبالرغم من أن المصالحة لم تلق إجماعًا كاملًا، فإن الجماعة قليلًا ما انفعلت بتجربة السجون والاضطهاد أو جمدت في ذكريات الفتنة بما يدعوها إلى الإصرار على العدواة والثأر وشفاء الغيظ وتصفية الحساب، بل تجاوزت الماضي بيسر وأقبلت على المستقبل بخاطر مطمئن، مقدرة أن الخير في أن تستكمل شوطًا من الصبر الجميل والمجاهدة الصادقة بشوط من الدعوة بالحسنى والعمل الإِيجابي المباح.
| |
| | |
| '''المشاركة في السلطة'''
| |
| | |
| حظيت الجماعة بشرك محدود في الحكومة القومية الانتقالية عند ثورة [[أكتوبر]] [[1964]]م. وكانت مشاركة في وضع طارئ لم تثر جدلًا فقهيًا أو سياسيًا يذكر، لأنها لم تنطو على كبير مغزى، بل بدت مشاركة سياسية أكثر منها حكومية. ولاحت أثناء الحكم الديمقراطي بعد [[أكتوبر]] ظروف دعت الحركة لتقدير حكمة قبول المشاركة في حكومة ائتلافية.فدار جدل كبير حول التقديرات السياسية. لكن كفيت الجماعة هم القرار لأنها لم تدع فعلًا للمشاركة.
| |
| | |
| لكن المشاركة في السلطة حدثت فعلًا في عهد نظام مايو بنصيب محدود مقدر وبوجه حيي، إذ كانت مشاركة مبنية على نيات متعارضة وتدابير متكايدة أحيانًا. فالجماعة كانت من جانبها لا تبالي مع المشاركة بأن تنتقد سياسات النظام تلميحًا أو تصريحًا، بل أن تتبرأ من بعضها. والنظام من جانبه لم يرع عهد المشاركة من جراء ما بلغت من مدى التورط مع نظام عسكري منكر ومن لازمها من اضطراب العلاقات بالنظام وكدرها وما كانت تنذر به من احتمال الغدر بالحركة. وإذ كان ما بطن من الحيثيات الداعية للمصالحة أكثر مما ظهر، فقد بدت خلافية بكل وجه، في أصل مشروعيتها وفي حكمتها السياسية. فدار الخلاف حول جوازها أصلا، من حيث أن النظام لا يحكم بما أنزل الله. وقد ورد هذا الاحتجاج من داخل الجماعة نفسها ومن تلقاء حركات إسلامية أخرى كانت بموقفها تجانب السلطان أو بوزنها دون أن تقاربه.
| |
| | |
| وقد ساد الرأي بأن المشاركة الصادرة من شورى الجماعة لا من هوى الفرد المؤسسة على تقدير وتدبير يتوخى مقاصد الدين ومصالح تمكينه ليست في شيء من الإعانة على الظلم، وإنما هي وجه من المجاهدة والمنازعة للقوى اللادينية المتحكمة لتحويل النظام نحو [[الإسلام]]. فحين يشارك الأفراد في النظام يحق أن يرد التساؤل عن مدى سلامة المقاصد أو مدى الثبات والافتتان بالمنصب، لأن الفرد الواحد عرضة لأن يغرى أو يحاط به على غير ما جماعة كاملة تهدى عمل أفرادها وتثبتهم. فما من أحد في مجتمع لا يساس بشرع الله إلا قام فيه مقام ابتلاء عظيم. إن وكل إلى نفسه خسر إلا أن يعتصم بالله ثم بالجماعة ويدرج كسبه في كسبها العام ليحدث وقعًا مقدرًا في سبيل الإِصلاح. وما من أحد يتولى وظيفة عامة في الدولة دنيا أو عليا إلا كان بها أداة لخدمة الحكم بغير ما أنزل الله أو بتغيره، حسبما يصنع بوظيفته. وما من أحد يعيش في المجتمع المحكوم بغير ما أنزل الله إلا كان عاملًا مشاركًا فيه، إما ليمده في ضلاله أو ليلوي به نحو الرشد، حسبما تكون وجهة عمله ومغزى مشاركته. وقد يؤثر المرء السلامة من المسئولية والفتنة فيهاجر المجتمع أو يعتزله. سوى أن الواقع الحديث في المجتمعات لا يتيح مجالًا لمهجر أو معتزل أو خيارًا دون المشاركة. ومن كان مشاركًا بالضرورة لم كان له إلا أن يتسخر للباطل أو يجاهد فيه لإِبطاله وإحقاق الحق بكل قوة أو فرصة أو علاقة أو استعانة يهيؤها له وجوده في المجتمع. وقديمًا شارك يوسف عليه السلام في إدارة الشئون العامة لتحقيق مصلحة في رعاية تموين العباد لا تتحقق بالبقاء في السجن، بينما كان قد آثر السجن على الفتنة المحتومة. فاللبيب من عرف متى تكون مشاركته فتنة عليه بغير جدوى لحركة تغيير المجتمع نحو [[الإسلام]] فيعتزل، وكيف تكون إصلاحًا للمجتمع وتثبيتا لنفسه فيُقبل.
| |
| | |
| ولعل أخطر ما يدعو لليأس من جدوى المصالحة والمشاركة مع النظم الخوف من مغبتها والحكم من ثم بإنكارها، التقدير الشائع بأن تلك النظم الحاكمة بغير [[الإسلام]] إنما تنصب الشراك لفتنة الحركة الإسلامية بعروض المشاركة، لاسيما النظم ذات التوجه اللاديني المتمكن أن التاريخ الكائد للحركة والتي لا يرجى أن تريد إلا شرًا. ولقد شاع بين الحركات الإسلامية اعتقاد بأن الذين يحركون مثل ذلك النظم إنما يستدرجون الحركة إلى الحكم ليفسدوها به وليفسدوا عليها ويعجزوها عن الوفاء بأعبائه، فتنفضح ويخيب رجاء الجماهير فيها. وقد تعرضت الحركة الإسلامية ب[[السودان]] من قبل الإسلاميينالآخرين ، لمن حذرها من مغبة المشاركة خشية هذه العاقبة الخاسرة. ولكنها كانت – كما هو شانها في كل أمرها – حركة متوكلة جريئة، لا تبالي أن تخوض المخاطرات المخوفة ما قدرت أن فيها خيرًا لدعوتها وجهادها وشعبها. ولم يكن خافيًا على الجماعة مكر النظام الذي يريد أن يتقوى بالحركة ويعزلها من الشعب ثم ينقلب عليها ويضربها متى بدا له منها خطر. ولكنها لم تجعل من هذا التخوف رهبة تجمدها انتظار المصيبة الماثلة. بل توكلت على الله آخذة حذرها عاملة على مكانها مغتنمة كل يوم يؤخر الله بلاءها لتكسب لآجلة تمكينها، وللتقوى حتى الابتلاء متى نزل وتتجاوزه. أما الخوف من أن تُحتوى الحركة وتذوب طبيعتها وتبتلع في مؤسسات النظام، فقد كان واردًا لدى البعض من حيث أن الجماعة اضطرت إلى كتم اسمها وكبت كيانها وإلى العمل من خلال التنظيم السياسي الذي أسسه النظام «الإِتحاد الاشتراكي» وضمن له بالقانون احتكار الساحة السياسية.لكن الجماعة كانت واثقة أنها أركز من أن تنطمس معالمها في إطار النظام الرسمي وأقوى من أن يطوح بها تياره وأكبر وأنضج من أن يحيط بها مكره. وقد صدقت التجربة ثقة الحركة بشأنها، فما ازدادت إلا تميزًا ولا انقلبت إلا بخير كثير.
| |
| | |
| وكان من أشد الحرج على الحركة الإسلامية أن تضطر إلى مشاركة نظام موسوم بالطغيان والفساد. فالتلبس بمثل تلك العلاقة يؤذى سمعة الدعوة والجماعة ويتيح لأعدائها فرصة وحجة للنيل منها. لاسيما أن الناس يحاسبونها بمعايير الاستقامة أكثر مما يحاسبون أحزابًا أخرى لا تبالي أو يبالي أتباعها بما يكسبون إلا عصبية ولاء وانتهاز فرص في السلطة. ولاسيما أن الضرورة الاستراتيجية التي الجأت الحركة لأن تتغاضى على كره منها عن دكتاتورية النظام وفساده ما كانت مما يمكن التصريح به درءًا للحجة المعارضة. وقنعت الحركة – تلطيفًا لوقع الحرج واستدراكًا لبعض الخسران – بأن تنأي عن مواقع التسلط وممارسات الفساد بل كانت تجاهر بالنقد لسياسات النظام يصدر أحيانًا من الناطقين باسمها وغالبًا من المحسوبين عليها لتحفظ مسافة بينها وبين النظام ولئلا تتحد أو تختلط به في حساب الرأي العام. وأسعفها في ذلك أن النظام من جانبه كان يجد غيره شديدة من مظاهر نشاط الحركة فيحاول أن يكبته بحملات هجوم سافر عليها يتأذى به أعضاؤها ولكنهم يتعزون بأن ذلك يمايز – لدى الرأي العام- بينهم وبينه.
| |
| | |
| وأيًا ما كانت التفسيرات والتبريرات التي كانت تسوقها الجماعة لمشاركتها في نظام حكم غير شرعي ولا مرضي، فإنما دخلت في الحقيقة إلى تلك المشاركة مهتدية باستراتيجية خاصة لا تعول على الوعد الإسلامي للنظام بل ولا على الأمل في إصلاحه بقدر ما تبتغي اغتنام فرجة حرية بفضل الموادعة وتتوخى فرصة سانحة بفضل المشاركة – لبناء صفها وتطوير حركتها الإسلامية التي هي معقد الآمال في الإصلاح الإسلامي الشافي. وذلك أن العلاقة بالنظام أسست على شروط مهما اقتضت كبت اسم الجماعة ووجهها المباشر تطلق لها فرص التعبير والعمل بصور كثيرة كيفتها هي لتناسب الوضع السياسي وتحقق أهداف استراتيجية وما كفلها ذلك من تكاليف سياسية. وكانت غالب مبادارت الحركة بحكم نصيبها في السلطة وبفضل الحرية المتاحة توظف لتحقيق الهدف الأساسي ومقتضياته، هدف بناء الحركة.
| |
| | |
| وكانت الجماعة في صياغته استراتيجيتها للمصالحة قد حسبت حساب المحاذير والتكاليف. وكان أهمها أن قد تؤاخذ الحركة لدى الرأي العام المستنير بمحالفتها للنظام. سوى أن الحذر كان أكبر مما وقع فعلًا من حرج أو ضرر. فقد ظلت الحركة تنمو وتكسب الانتخابات في القطاع الحديث النقاد بطبعه للنظام. أما الثمرات الإِيجابية المقدرة في المصالحة فقد جاءت بأكثر مما كان مرجوًا. لاسيما إذا نسب كسب الحركة من اغتنام الحرية والمشاركة إلى كسب سائر المصالحين الذين تجمدوا وتبلدوا لأنهم لا يحسنون العمل في ظروف السرية والحرية المحدودة أو لأنهم طلبوا المصالحة لقسمة في السلطة ثم لم يرضوا بما جاد به النظام البخيل بحكر سلطته ولم يصبروا ويعدوا للآجله.
| |
| | |
| وقد جاء تطبيق الشريعة الإسلامية بركة ضخمة غير محتسبة وجاءت التعبئات الإسلامية احتفالًا بها دفعًا لأهم أهداف الاستراتيجية، ألا وهو البناء الشعبي للجماعة. وهكذا أحيل أمر الشريعة من قانون مسنون إلى وعي وتوجه إسلامي شعبي بقي ذخرا وقوة للحركة في العاقبة. فلما ألجئ النظام إلى الاتجاه للنكوص وإلى مصادمة الحركة بدواعي غيرته السياسية من تعاظم شانها وضغوط القوى الخارجية المفزوعة من ظهور [[الإسلام]]، كانت الجماعة على قدر احتمال الصدمة، وكان النظام أوهي من أن يبقي قائمًا دون سندها. فهي قد وظفت عهد المصالحة بهدي من استراتيجيتها لتتحول فعلًا إلى تيارر شعبي أوسع وإلى منظمة حركية إسلامية شاملة الوظائف متعددة الوجوه وإلى فكر متوجه نحو الايجابية التطبيقية لا إلى السلبية النظرية وإلى قوة اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية مقدرة. وبفضل العمل في الحياة العامة والمشاركة في السلطة على جميع الأصعدة كونت الحركة قيادات متمرسة على إدارة الحكم وقيادة الشعب. وبعائد الجهد المطمئن الذي صرف إلى البناء التنظيمي للجماعة كسبت درجة بالغة من إحكام الأداء وفعاليته ومتانة الصف وحصانته.
| |
| | |
| كانت تجربة المشاركة الأخرى في العهد الديمقراطي الثالث ب[[السودان]]، في حكومة الوفاق الوطني عام 1988م. وقد سلمت حيثيات قرار المشاركة مت توتر الجدل الأصولي الفقهي، لأنه تجوز بالتجربة الماضية ولما قام من فارق كبير في الاعتبارات. وسلم القرار أيضًا من ضرورات الخيار الضيق. إذ لم يكن للجماعة مع نظام مايو القهري دون المصالحة إلا القتال ولا بعدها إلا المشاركة بينما كانت لها في الديمقراطية مندوحة في المعارضة المباحة. وإن خف الجدل من ذلك الحيث فقد كثفه أن الخيارات كانت مفتوحة. فدارت مناظراته حول محاور شتى منها: أولًا المناظرة بين استراتيجية التمكن أو الأخذ العام واستراتيجية التدرج أو الأخذ على تخوف، أي بين الذين يرون أن منهج التحول الإسلامي الأسلم هو في قيام الحركة بديلًا موازيًا ومتميزًا عن النظام الحزبي القائم ثم مجابهته واجتثاثه جملة واحدة تولى خلافته السياسية، والذين يرون بلوغ ذات النتيجة من خلال إدخال التحولات في السياق القائم شيئًا فشيئًا بما يربي الجماعة ويؤهلها تدرجًا على احتمال المسئوليات الأكبر. وبما يهيء البلاد والعالم حولها لاستقبال صدمة التحول وبما ببعض ردة الفعل. تناظر المذهبان بوجه آخر بين الارتياب بخلط الحق والباطل أو القنوط من شعار صالح يداخله منافقون لا يزيدونه إلا خبالًا، والثقة بأن في المشاركة تدافع بين الحق والباطل يتجه حتما لإِزهاق الباطل ونفي عناصره وإظهار الحق وترقية عناصره في [[الأحزاب]] المشاركة. ولم يقم بين الرأيين أو التقديرين مفاصلة حاسمة، وإنما دار الجدل حول منطق هذا وذاك وموازنة المقتضيات.
| |
| | |
| المحور الثاني للجدل ملت حول مراعاة مصالح الوطن وضروراته السياسية والأمنية والاقتصادية وجدوى انقاذه بالمشاركة، إذ يرى البعض أن [[الأحزاب]] هي عينها التي بلغت بالبلد دركًا بعيدًا، فأنّي للعمل معها أن يعود عليه بنفع. وكأن هؤلاء يرون أن تعمل الجماعة على مكانتها في المعارضة وتذر المشكلات تتعاظم والأزمات تتفاقم حتى ينضج الوضع لتحول ذي بال. بينما يرى آخرون ألا بد من المسارعة والمشاركة في تدارك [[السودان]] وحفظ أصله ريثما يقوم فيه المشروع الإسلامي المتكامل، فإن إنهيار قوامه الأمني والاقتصادي أو فساد أهله أو تمكن القوى الأجنبية فيه عوامل قد تسد الطريق إلى [[الإسلام]] أو تعسره تعسيرًا.
| |
| | |
| والمحور الأخير لجدل المشاركة كان حول حساب مصالح الحركة. فمن الناس من يري المعارضة أدعي لانعطاف الجماهير ذات الوعي والوقع إلى الحركة يأسًا من عجز الحكومة في بلد عسير الحم ضئيل القدرات. ومنهم من يري أن السلطة برغبتها وهيبتها تجلب الناس أفواجًا إلى الحركة، حيث يتزكون من بعد بنيات [[الإسلام]]، وأن تبوأ المسئولية ولو مع [[الأحزاب]] يعلم الجماعة فقهًا وحكمة في شئون [[السياسة]] الداخلية والخارجية.
| |
| | |
| مهما يكن فقد غلب الرأي الشورى بدخول حكومة الوفاق بمشاركة الحزبين التقليديين وبعض القوى الجنوبية. لكن الهم الأهم في المشاركة كان بناء الحركة والحذر المحذور في الاجتهاد بشواغل الحكومة وإهمال الجماعة أو تعويل القادة على دورهم في السلطة واتكال القاعدة على وسيلة السلطان في بسط دعوة [[الإسلام]] وتحقيق مقاصده. هكذا جعل بناء الحركة أولوية مقررة كما كان القرار في المصالحة الأولى. وفي ذلك بدا أن توظيف السلطة في خدمة الدعوة والحركة ينطوي على مسائل دقيقة بين استعمال السلطة مباشرة لتثبيت قواعد الجماعة أو تأليف القلوب حولها والعدل في استعمال السلطة للشعب كافة لما في ذلك من نصب نموذج الاستقامة في الحكم وجلب الانعطاف نحوه. وبدا أن كيفية الدعوة مع الوفاق والمشاركة تستدعي توفيقًا عسيرًا بين التي هي أوضح وأنصح وأصرح في مفاصلة الباطل والغلظة عليه والتي هي أحسن وآلف وأقرب ودًا ووفاء للمشاركين. والحق أن حاجات الإصلاح العام الملحة وفرصة السانحة في المشاركة الديمقراطية والتهاء الناس بأهل [[السياسة]] وشئونها أمور صرفت الجماعة عن الاهتمام بشأنها الخاص، وأن الموازنة الدقيقة في توظيف السلطة وتكييف الدعوة الجماعة عن الاهتمام بشأنها الخاص، وأن الموازنة الدقيقة في توظيف السلطة وتكييف الدعوة بدت عسيرة التحقيق.
| |
| | |
| وقد كان من مقاصد المشاركة تطوير منهج المعارضة والنقد الذي ألفته الحركة إلى منهج حكم وبناء من خلال استنباط سياسات مفصلة لحفظ البلاد ورعاية مصالح الشعب ولإعلاء الدين وتمكين الشريعة في واقع أوضاع البلاد. وقد جربت الحركة كيف وقع بعض الاضطراب في ممارسة الحكم فعلًا وفي تنزيل المثالات التي كانت ترفعها الدعوة إلى المستوى سياساات عملية وأعمال تنفيذية مع حداثة الخبرة بأحوال الواقع وتعقيداته. وألفت الجماعة قاعدتها لا تنفك عن التبرم مع حداثة الخبرة بأحوال الواقع تعقيداته. وألفت الجماعة قاعدتها لا تنفك عن التبرم بالسياسات المشتركة لجنوحها بالعادة لنقد السلطان م طول مجانبته ومعارضته ولتعلقها بالمثل المجردة. وألفتها لا تصبر على أن تكون قياداتها هدفًا للنقد العام، من فرط حساسيتها لمعايير الكمال في السلطان.
| |
| | |
| وطرأ هم آخر بالاقتراب من مناصب السلطة، إذ جابهت الجماعة لأول مرة قدرًا مقدرًا من ابتلاءات الولاية السلطانية. ولربما كانت الجماعة تعلم ما في السلطة من فتنة وتعهد آدابا في ولاية المسئوليات تحول دون أن يزكي المرء نفسه أو يدعوها لها دعاية مباشرة أو غير مباشرة أو أن تتعبأ ضغوط أو تتكتل عصبيات لأغراض التنافس على ولاية المناصب التنظيمية. ولكن مناصب السلطة العامة كانت أشد ابتلاء وفتنة من مسئوليات الجماعة، ولم تسلم الجماعة إزاءها من بعض حالات طلب ملح للولاية أو ضغط في سبيلها أو تحسر على فواتها. وقد تجاوزت الجامعة الفتنة عمومًا بسلام، ولكن العبرة في كون الجماعة على نضجها وتجربتها تأُثرت لأول التعرض لهذا الامتحان.
| |
| | |
| وقد تذوقت الحركة إذ وليت السلطة بوجه جزئي بعض ما ينتظرها إذا تمكنت بأتم من ذلك. فعرفت كيف ينشط الباطل حين يستفزه ظهور الحق وكيف تداعت قوى محلية واجنبية فزعة أن تستفحل الحركة متحاملة عليها دون شركائها لتئدها في أول تمكنها. وعمومًا تواردت على الحركة ارتباكات حداثة العهد بالسلطة. وأصبحت بعد براءة المعارضة ومثالية الدعوة عرضة للخطأ والفشل في سياسة الأمور. وعانت بعد مكايدات المعارضة توترات المشاركة مع أحزاب لا تطابقها في وجهة المذهب السياسي ولا توافقها في أسلوب الحكم شورى وعزمًا ولا تحالفها بمقتضى الوفاء والاستقامة الأتم. وتقابلت تجربة الجماعة من حيث كانت داعية تحرك واعظ الوجدان وتعول على الصبر والإخلاص والطواعية ثم من حيث غدت وإليه تبسط بعض وازع السلطان بالرغبة والرهبة. فتعلمت كيف يتوازن دفعها ويتكامل وقعها في الحياة.
| |
| | |
| وما زالت تجربة السلطة الجزئية تطرح للجماعة كل حين وجهًا جديدًا من الابتلاء وتثير لها قضية اجتهاد أو جهاد في وحدتها أو خطتها أو حركتها هي وفي سياستها للأمر العام، حتى انتهي الأمر إلى إخراج الإسلاميينمن واقع الحكم من خلال إحراجهم باستبعاد البرنامج التشريعي الإسلامي ومن جراء الضغوط الخارجية المناوئة لهم وما عبأته وأمدته من ضغوط داخلية. وذلك لثاني مرة بعد سابقة الوطأة الخارجية التي حملت النظام المايوي على كفكفة تطبيق الشريعة وعزل الإسلاميينمن مناصب الحكم والانقلاب عليهم. وكانت عبرة بالغة في شأن الديمقراطية و[[الإسلام]] والعامل الخارجي. فقد بدا أن الديمقراطية لا تتجه لأن تتمخض عن [[الإسلام]] بدفع التعبير النيابي عن إرادة الجماهير المؤمنة حتى تعالجها ضغوط الإجهاض والتشويه من تلقاء أدعيائها أنفسهم الكائدين للإسلام من الخارج ثم الداخل.
| |
| | |
| </div><noinclude> </noinclude>
| |
| | |
| | |
| | |
| == تطور الكسب والمنهج الفكري ==
| |
| | |
| <div class="reflist4" style="height: 500px; overflow: auto; padding: 3px" >
| |
| | |
| *الأصل الفكري للحركة
| |
| *الخصائص الأولى لفكر الحركة
| |
| *نحو النضج الفكري
| |
| *كسب الحركة
| |
| | |
| === الأصل الفكري للحركة ===
| |
| | |
| ينصبُّ كلامنا على تطور الكسب والمنهج الفكري للحركة الإسلامية منسوبًا إلى ظروف البيئة الثقافية للمجتمع السودانيوأحوال الفكر الإسلامي عامة، ولا يقتضينا ذلك أن نبسط القضايا التي يتضمنها ذلك الفكر إِلَّا بقدر ما يحكي تطوره أو يجلى منهجه أو يشهد على سماته.
| |
| | |
| وما يكون للحركة الإسلامية إِلَّا أن تؤسس على محور فكري، بضرورة كونها تذكرًا لتعاليم [[الإسلام]] وتعاهدًا وتعاونًا على تحقيق معانيه. وهي لا تستغني عن كونها إلتزامًا فكريًا، إذ لا تتمحور على نسبة تاريخ كبعض الطوائف الدينية التي اجتمعت على وعي فكري ثم جمدت على محض عصبية للتراث، ولا على وشيجة واقع بشري أو محلي يصل الناس طبعًا أو عرفًا كالقبائل والفئات الاجتماعية، ولا على علاقة غرض أو منشط دنيوي يستدعي الاجتماع تعاونًا أو تنافسًا كالهيئات المطلبية والمصلحية وفرق العمل المشترك. وإنما يربط الجماعة كونها التقت على مذهب فكري يميزها ويحيزها، لأنها نشأت من تلقاء المفارقة الفكرية والتنظيمية للكيان التقليدي المسلم.
| |
| | |
| وكان ذلك أبرز ما كان في عهد الحركة التأسيسي. ففي ذلك العهد الأول كان الفكر الإسلامي هو العامل الأساسي في التداعي إلى صف الجماعة الإسلامية ، لأنها عندئذٍ لمّا تتجسد لها موافق ولا تطورت لها سيرة يمكن أن تّشُّد إليها الناس، فلم يكن لها من كيانٍ في التاريخ الَّا الفكرة التي تحملها الدعوة. ثم كانت الجماعة في حداثة أمرها عاطلة من أدني قوة تجذب إليها الناس رغبةً أو رهبةً. وهي من حيث نشأتها في [[السودان]] خاصة، لم تقم على محورٍ شخصي، من شيخ ذي إمامة يُغني بالتباعة والولاء لذاته عن عمق الرابطة الفكرية . ولربما تعززت رابطة الجماعة من بعدُ بمعانٍ من التاريخ والقوة والقيادة، ولكنها لعهد النشأة الأسبق عوَّلت أساسًا على وحدة الفكر الجامع، بل كانت بتلك الطبيعة الفكرية تكاد تشذ عن سائر الو لاءات السائدة في ساحة الحياة العامة. ف[[الأحزاب]] الوطنية كانت أشد توحدًا بالولاء للزعماء وبالعصبية التقليدية العشائرية والدينية، منها بما اختلفت عليه من شعار محدود لاستقلال [[السودان]] أو اتحاده مع مصر. بل إن الحركة الشيوعية – وهي ترمز أصلًا للفكرة – لم تكن تعوِّل إِلَّا على المناشط السياسية، أو تُربي أتباعها إِلَّا على التوحد بالمواقف الحركية والمنافسة الحزبية؛ ربما تقية من أن تباشر المجتمع بفكرها الغريب المنكر.
| |
| | |
| وكان المنهل الأول للفكر الذي مثل محور الحركة اجتماعًا عليه واعتزالًا به، هو الوافد من الكتب والرسائل التي نشرتها الدعوة الإسلامية في مصر[حسن البنا، محمد الغزالي، سيد قطب...إلخ]، والهند [المودودي، أبو الحسن الندوي]، وسائر المنشورات الإسلامية المعاصرة [مثل كتب عباس محمود العقاد ومالك بن نبي]. قذف هذا الأدب الإسلامي الحديث وقدة الوعي ويقظة الفكر الأولي في الجماعة، وبعثها حركة حية تتداعي وتتذاكر وتفاصل وتجادل بالفكريات الطريفة والدعوة الجديدة. بيد أن الحركة راحت بدافع العود إلى الأصول تتغذي أيضًا بكتب التراث القديم متجاوزة للمراجع المذهبية الشائعة في الثقافة الإسلامية الشعبية. فغدت تحيي اللفظ المحفوظ من القرآن والحديث أو المتلو من الموالد النبوية ونقائب السلف بالتأمل الواعي في كتب التفسير والسير [ مثل تفسير ابن كثير وسيرة ابن هشام]، وتنفذ وراء المتون والشروح الفقهية إلى كتب التفقه المؤصل على أدلة الكتاب والسنة [ مثل سبل السلام للصنعاني ونيل الأوطار للشوكاني وفقه السنة لسيد سابق]، ووراء كتب الأذكار الراتبة إلى أصول كتب التصوف والذكر[ مثل إحياء علوم الدين للغزالي وأذكار النووي].
| |
| | |
| ولئن كانت هذه المصادر الإسلامية الحديثة والقديمة تمثِّل ينابيع المدد الفكري للحركة الإسلامية ، فذلك فيما اكتسبته عناصرها اكتسابًا بجهدهم المستقل والتمسوه التماسًا بدافعهم الديني. سوى أن رواد الحركة قد نشأوا غالبًا في كنف التعليم النظامي، وما كان لهم إلا أن يستمدوا في فكرهم كثيرًا من تلقاء ذلك التعليم أو ينفعلوا خاصة بالفكر الأوربي الذي يتطمنه، بل منهم من كان يطالع في مصادر الفكر الأوروبي الأصل والمنقول ويتأمل فيما احتوى من النظريات الفلسفية والتاريخيات الاجتماعية والعمليات الطبيعية.
| |
|
| |
| | |
| === الخصائص الأولى لفكر الدعوة ===
| |
| | |
| '''فكر واعي'''
| |
| | |
| أوضح سمات فكر الحركة الإسلامي في تلك المرحلة الأولى من تطورها أنه كان ومضة وعي الغفلة ونورًا بعد الظلمة، فكان وقعه كمثل وقع القرآن على حركة الدعوة لصدر [[الإسلام]] حين تنزل فأخرج الجماعة الأولى من الظلمات إلى النور وهلة فسماه الله نورًا مبينًا. وذلك أنه جاء فجأة تبصير وصدمة تذكير بعد الغفلة والنسيان، فكان فكر وعي بشتي وجوه:
| |
| | |
| كان أولًا فكر وعي بالهوية الإسلامية . وقد كانت الحالة التقليدية السائدة بين المسلمين أن الدين إنما يستصحب بغير وعي كأنه طبع مطبوع، إلا في حال مقابلة مباشرة مع غير المسلم. فما كان المرء المسلم في [[السودان]]- فيما يتذكر عادة- يعرف نفسه إيجابًا إلا بانتماءاته التقليدية. فهو في السياق الديني مالكي بمذهبه الفقهي أو صوفي على طريقته المعينة، وهو في السياق العرفي قبلي أو إقليمي حسب نسبته، وفي السياق الاجتماعي فتوي أو نقابي بوظيفته المخصوصة، ثم هو سوداني إذ ارتقي وعيه إلى السياق السياسي الوطني، وما كان من خلال ذلك ولا وراءه وعي إيجابي مخصوص بالهوية الإسلامية ، فجاء الفكر الجديد ليدرك المرء فجأة أنه مسلم فوق كل شيء من الهويات التقليدية الدينية والعرفية والاجتماعية والوطنية، وليستشعر أنه يقف بإسلامه إزاء كل شيء من الانتماءات المذهبية العالمية، جاء هذا الإدراك والشعور الجديد لينصب [[الإسلام]] شعار توحد تنخسف معه الهويات الداخلية المفرقة، ومعيار تميز تبين إزاءة الهويات الخارجية المفارقة.
| |
| | |
| وكان أكثر الناس اقترابًا من فكر الوعي بالهوية الإسلامية هم أكثرهم تجردًا من الانفعال بالانتماءات المفرقة، وتحررًا من الانتماءات المفارقة. كان أولئك هم الطلاب الذين هم في شباب لمي شرب بالعصبيات التقليدية ولم يتلبس بالعلائق العرفية، والذين جمعتهم ساحة طلب العلم الواحدة فلا غرو أن كانوا أكثر تهيؤًا لاستقبال الفكر الجديد الذي يذكرهم بهوية [[الإسلام]] العليا الجامعة، وأشد إيمانًا به ودعوة إليه. وكان الطلاب أيضًا هم الأكثر تعرضًا لفتنة الاغتراب عن الذات- تستفزهم مقابلة الغريب الآخر فتذكرهم بذاتهم بعد حال الغفلة، وتفزعهم مخافة الاستلاب الثقافي الشيوعي أو اللبرالي فتلجئهم إلى تأكيد هويتهم بجد وإيجاب بعد حال السدي والإهمال.
| |
| | |
| ولم يكن تعرف الذات الإسلامية أو تأكيد استقلالها معزولًا عن الدعوة السياسية الوطنية التي سادت في ذلك العهد الأول، بل كان [[الإسلام]] رصيدًا يمد الروح الوطنية عامة، وكانت النزعة الاستقلالية تعزز بالاعتصام والافتخار بالأصل الإسلامي.
| |
| | |
| وتمحصت مسألة الهوية الفكرية بوجه مباشر من جراء صراعات الطلاب والمثقفين بين التيار الإسلامي والتيارات اللبرالية واليسارية التي كانت تتجاذبهم عندئذ وتتنافس في قيادتهم.
| |
| | |
| وإذ كان فكر المرحلة فكر وعي بالهوية، كانت أطروحاته تعمر بجدليات المناظرة وأساليب المقارنة تميزًا عن الهويات المنافسة وتحديًا لها.
| |
| | |
| الأثر الثاني للوعي الذي آثاره الفكر الأول للدعوة هو أن قد انكشفت به أبعاد المغزي التوحيدي للإسلام- كأن الدين يكتمل الأول وهلة. فما كان الفكر أو الذكر الديني التقليدي يتجاوز نطاق الحياة الخاصة وساحات الشعائر. وما أن خطرت خواطر الفكر الجديد حتى انداحت ساحة التدين واتسع الوعي بمغزاه ومداه ليشمل الحياة جميعًا. هكذا كان الفكر الجديد وفكر وعي بالدين في الحياة العامة يستكمل ما كان معهودًا في الحياة الخاصة، ومن هنا شاع الشعار بأن [[الإسلام]] «دين ودولة» أو عبادة وسياسة، وتم والوعي بظواهر العلمانية أو اللادينية السياسية- عدوي ممتدة من التجربة الأوربية، وداءً ساريًا في مجتمع المسلمين، ونداءً منكرًا من بعض مفكرتهم يتصدي له دعاة الأصالة والتوحيد و[[الإسلام]].
| |
| | |
| وكان فكر الدعوة- ثالثًا- حركة وعي بالتحري. فما كان المرء المسلم العادي حينئذ ينتبه لمكانه المسلمين الحاضرة في التاريخ لينسبهم إلى حاضر الأمم الأخرى أو إلى مجده الخالي، وليقدر كيف انحط كسبهم الحضاري وعزهم العالي من جراء انحطاطهم عن مثل [[الإسلام]]. ولا كان المرء يحيط وعيًا بتطور سيرة المسلمين أو بمصائر خطهم التاريخي رقيًا أو هبوطًا، ليدرك عبرة الماضي وعظة الحاضر وسبيل النهوض المستقبل، لكن الفكر الجديد أضاء آفاق التاريخ وجلي وجوه المقارنة بين الواقع والمثال الإسلامي وبين الماضي والحاضر والمستقبل المنظور. لاسيما أن أطروحات هذا الفكر كانت تصوب الإشارة كثيرًا إلى أحوال المسلمين الحاضرة وتندب حظهم العاثر، وتنبه إلى التمييز بين الحال والمثال، المسلمين ومقتضى [[الإسلام]]، وإلى المفارقة البعيدة الملحوظة بين الماضي الزاهر والحاضر الذابل، وإلى المقارنة بين كسبهم وكسب أوربا المعاصرة، وإلى الاعتبار بمحاولات الانتهاض الإسلامي المتعاقبة ونحو ذلك من عناصر الوعي بالتاريخ وبمكانه [[الإسلام]] في سياقه.
| |
| | |
| '''فكر إحياء'''
| |
| | |
| السمة الأخرى لفكر الدعوة الأولى- من بعد كونه وعيًا بالهوية وبمثال الدين وبالتاريخ- أنه كان فكرًا إحيائيًا، لأن الوعي لم يبق محض إدراك عقلي بارد، بل كان نابضًا بالحيوية متحركًا بدوافع الإيمان نحو استكمال الهوية بإنعاش جوانبها المغفول عنها، ونحو إتمام الدين بإقامة جوانبه التي أميتت، ونحو استنهاض الهمة لتغيير الحال التاريخي الجامد. هكذا لم يعد الدين حقيقة معلومة، بل غدًا غاية مطلوبة. ولم تعد الهوية كينونة متميزة بل غدت قضية وموضوع نزاع ومشروع تحقيق. ولم يعد التاريخ مدي للقصة والحلم بل غدًا أفقًا للفعل ومسارًا نحو المصير.
| |
| | |
| ذلك أن ذلك الفكر كان إيمانيًا عقديًا يحيي ركام المعلومات والممارسات الدينية الجامدة في ثقافة المسلمين التقليدية. فهو ينفذ بالمرء من مباني النصوص الملفوظ المحفوظة إلى المضامين والمعاني، ومن المدلولات الظاهرة العارضة إلى المفهوموات الباطنة والإشارات البعيدة ثم إلى المغزي القاصد والحكمة البالغة ثم هو يسوق التصورات الدينية في إطار خطابي وعظي ويشحنها بعاطفة جياشة تحيلها إلى صور حياة دينية فعلية.
| |
| | |
| ثم كان ذلك الفكر إحيائيًا- بوجه ثان- من حيث أنه يبعث روح التفقه والتعلم الديني الإيجابي والتجديدي. وتبدو آثاره التجديدية لعلم الدين في أنه يهيئ المرء باستعداد لنقد جوانب من التراث القديم وعدها مادة ميتة لا يحيا بها الدين الحاضر، ويزوده بجرأة لتجاوز ذلك نحو توليد تصور واستنباط فقه واستنبات فكر جديد على أصول الدين.
| |
| | |
| وكان أشهر وجوه التجديد والتجاوز لما كان معهودًا من التصور الإسلامي، أن قد امتد معني الدين ليشمل قطاعات من حياة الناس غفلوا فيها عن الدين وأماتوه عقيدة وفقهًا وعملًا. فبفضل التربية الفكرية الجديدة اتسع فهم الدين لينتظم جوانب الحياة كافة، لاسيما الحياة السياسية التي كان ينشغل الفكر في تلك المرحلة بإحيائها بعد الموت وردها إلى الدين بعد الفوت. لكن التجديد والتجاوز للتراث تجلي بوجه آخر في الانطلاق من التقليد ومن التعويل على المنقول إلى الاجتهاد وإعمال العقل الحي الحر لتحري المغازي المتجددة في فقه العقيدة والشريعة عودًا إلى منابع الدين الأولى وإحياء لسننه الخالدة.
| |
| | |
| أما الوجه الثالث لكون ذلك الفكر الأول إحيائيًا- من بعد أنه أحيا العلم وأحيا التعليم- فذلك أنه أحيا العمل أيضًا. فالعقيدة الدينية كانت لدي الكثيرين تقريرات ماثورة صحيحة تعبر عن معاني الحق والحقيقة، يلقنها المؤمن تلقينًا فيؤديها مضبوطة فيطمئن بذلك. والأحكام الدينية كانت مقولات منقولة مأمونة في نسبتها محكمة في عبارتها أو صورًا للأعمال والعلاقات، يتلقاها المسلم فيحفظ حرف الذكر ويلتزم صورة العمل.
| |
| | |
| فجاء الفكر الجديد ليبعث الروح في التدين بتقوية شعاب الإيمان التي تعمر أشكال الأذكار والشعائر بالنيات الحية فتحيلها إلى وجدان شعور وتجربة حياة، والتي تحرك أشكال العلاقات والأحوال الدينية بنازع أخلاقي يتجه بما هو وضعي قدري راهن نحو ما هو شرعي تكليفني مختار.
| |
| | |
| وجاء الفكر لينشط دوافع العمل عمومًا لتجاوز الواقع إلى الواجب والحال إلى المثال، فكان دعوة وحركة إيجابية نحو الإصلاح والتبديل. ولذلك كان عامرًا بقضايا التربية والأخلاق، وعاملًا لترقية خاصة النفس نحو مستوى أتم في الإيمان والعلم والعمل، ولتزكيتها في السياق الاجتماعي بمعيار أعلى في إخلاص الانتماء وإحسان المعاملة. كما كان الفكر زاخرًا بمعاني الحركة و[[الجهاد]] مما لم يكن موجودًا في الرصيد الفكري الديني المتداول في المجتمع. ففي ذلك العرف الفكري ما كان يوحي بالقعود والركون لأقدار الواقع وأوضاع التاريخ، وفي الفكر الجديد ما يحرض على القيام والاستعانة بقوة الخير لمكافحة أقدار الشر وأطر الجمود القائمة. وفي التراث التقليدي ميل لفرط التحوط والمحاذرة، وفي الجديد داع للتوكل على الله وللتجاوز في وجه الخوف والفشل. وفي القديم ما يقذف في النفس الارتياب بكل طارئ والتشاؤم بكل تطور قادم، وفي التجديد مبشرات للإقدام على المستقبل بروح الثقة والتفاؤل. وكانت معاني الجماعة قد كادت أن تموت في معهود الناس بحب العزلة والخلوة والانشغال بخويصة النفس، فأميتت أسباب التناصر لتقوية دفع الخير في الحياة ولمقاومة المنكر وتحريك أثقال التاريخ نحو مقاصد [[الإسلام]]. فجاء الفكر الجديد ليبعث معاني الالتزام الطوعي الواعي بالجماعة الحية الفاعلة ومعاني التوالي في سبيل تعبئة قوة الإصلاح.
| |
| | |
| وخلاصة القول- فيما في فكر الدعوة الأولى من سمة إحيائية- أنه كان ينفخ روح الإيمان ونياته في ألفاظ النصوص وفي أشكال الأقوال والأعمال، ويبعث دواعي التفهم والتفكر والاجتهاد، ويحرك دوافع المجاهدة وقوى التجمع في سبيل الإصلاح والنهضة.
| |
| | |
| '''فكر انتقال'''
| |
| | |
| السمة الثالثة الفكر الدعوة الأول أنه كان فكر انتقال يحمل معاني التطور والعبور من حال إلى حال. ولذا كان يتسم بالغربة، من كونه فاتحة دورة جديدة في تطور الفكر الإسلامي، وكونه يبدو شاذًا عما عهد الناس في أصوله ومناهجه وأطروحاته. والدين كله- بشتى وجوهه النظرية وأشكاله العملية- يبدأ غريبًا ويبدو شاذًا لأول مقدمة أو لأول مرحلة في دورات تجدده عبر التاريخ. وكان فكر الدعوة الأول في غربته يفارق الفكر الديني التقليدي كما يفارق الفكر العصري الذي كان سائدًا حين نشأة الدعوة ب[[السودان]].
| |
| | |
| وكان وجه الغربة عما هو تقليدي أنه ما كان في أصول يرجع إلى الكتب النقلية المألوفة في البيئة الثقافية الدينية الحالية، وإنما كان يعول على رسائل بثتها الحركة الإسلامية الحديثة ليس في مغزي مضمونها ولا في منهج تحريرها ولا صورة إخراجها ما يشابه متون الفقه ومطبوعات التراث، ثم أنه كان ينزع إلى الكتاب والسنة وأمهات كتب التراث إطلاعًا واحتجاجًا غير معهود، فما كان من المألوف كثرة ذكر النصوص القرآنية والسنية حتى في المداولات العلمية الدينية، ولا كانت كتب التراث الأولى مقروءة إلا عند ذوي الاختصاص. بل كانت الفتوى الشائعة تقضى بألا يتهجم المتعلم إلا تلقينًا على قراءة القرآن وتفهمه لئلا يلقي فيه الخطأ وألا يعالج الحديث لأنه مضلة إلا للفقهاء المتمكين. أما شذوذ فكر الدعوة عن المحيط الفكري المعاصر آنذاك، فذلك أنه كان معتصمًا بالأصالة الإسلامية ، مفارقًا لروح الاستسلام للاستلاب الثقافي. فالمفكر الإسلامي كان غريبًا ينكره كثير من المحدثين لأنه عالم ومثقف جديد غريب لم يألفه الناس الذين لا يانس هو بهم أيضًا.
| |
| | |
| وكان أصولية الفكر الجديد بذاتها دلالة على كونه فكرًا انتقاليًا. فالعود إلى الأصول الأولى هو شأن كل تطور جديد في عالم الفكر، حين يتطلع البعث للتعبير الأوفى والأقوى في مناخ الغربة غير الملائم فيلجأ إلى الينابيع لتشفيه سعة وقوة بعد ضيق الموروث الفكري وضعفه وليتأيد بحجتها في وجه الإنكار عليه من تلقاء ذلك الموروث المتقادم. والتعويل على الأصول شأن الفكر المتجدد أيضًا من حيث أنه يبحث عن الوجهة العامة والخطط الكلية التي تصلح مبتدأ للنهضة ودستورًا لإعادة تنظيم الحياة وإرساء بناها الأساسية وهياكلها العامة، وكل ذلك يستلزم تأسيسًا على الأصول العامة. وربما لا يلزم الفكر في مراحل ما بعد الانتقال أن يرجع بإلحاح إلى الأصول الأولى. إذ يكون قد أخذ منها كفايته من المبادئ الهادية، وإذ تكون قواعده قد استقرت وأصبحت مسلمات تستغني عن الاحتجاج بالأصول بل من شأن الفكر في تلك المرحلة المتأخرة أن يعكف على التشعيب والتفريغ بناء على المبادئ العامة المقررة. لكن فقه الدعوة الأول إنما كان في مرحلة النشأة والانتقال، فكان بضرورة المرحلة أصوليًا- بمعني الرجوع إلى أصول الدين الشرعية الأولى وبمعنى الوقوف عند أصول من المعاني والمبادئ.
| |
| | |
| إذا كان ذلك الفكر الانتقالي أصوليًا استدلاليًا ليثبت شرعيته، بينما انقطع الفقه التقليدي عن المصادر الشرعية واستغني دونها بالمتون والشروح والحواشي من كتب المذاهب ثقة بالتقليد الراسخ في صحة النقول واستصحابًا لموافقة الأصول واطمئنانًا بالتجربة الطويلة لسلامة العمل بمقتضى المذهب الذي كرسه العرب. وبينما أولع الفقه التقليدي بالفتاوى العينية والأحكام الفرعية ولمي بال بالنظر الإجمالي نحو المقاصد ولا بالتصور الكلي لنظم الحياة- بناء أيضًا على التسليم الإيماني بالمبادئ ووفاء بالحاجة التطبيقية لتنزيل الأحكام على مفاصل وقائع الحياة، جاء الفقه الجديد ليرسم معالم نظام للحكم أو الاقتصاد- مثلًا- دون تفصيل لأحكام البيعة والإمامة أو البيع والصدقة. ذلك لأن التعريف بالدين من جديد كان يستدعي رسم معالمه العامة لئلا تضل الرؤية أو تتشتت في الشعاب، ولأن التساؤلات المطروحة ما كانت تنصب على التفاصيل ولا تتوخي العمل بل كانت المبادئ الأساسية ذاتها هي موضوع المناظرة والجدل بين الدعاة والمخاطبين.
| |
| | |
| هكذا كانت المنشورات الإسلامية للدعوة الحديثة واقفة بغالبها عند حد العموم والإجمال، ولذا كانت عالمية تفي بحاجة الدعوة في مختلف الظروف المحلية والبيئات الثقافية للإفطار. فرسائل الشيخ حسن البنا والشيخ المودودى وسائر الكتاب الدعوة كانت على ذلك المنوال، تتناول القضايا الأولية لترسيخ أصل مقبولية التصور الديني ولتعرف بمعالمه الأساسية.
| |
| | |
| وإذ كان فكر الدعوة في مرحلة انتقال وحدة على البيئة الثقافية منكرًا محاصرًا، فلا عجب أن أتسم بشيء من الجدلية والاعتذارية في منهجه. فالفكر كله غالبًا ما يبدأ ضعيفًا مضطرًا إلى أن يدافع عن وجوده الحديث ويبرر مقولاته بنسبتها إلى المعايير السائدة حتى يتمكن فيتجاوز حاجة المدافعة وعقدة التبرير. وما كان فكر الدعوة الأولى يطرح عن مبادرة حرة، بل كانت ساحات التعليم النظامي التي نشأ فيها تطغي عليها التيارات الغربية واليسارية، وكانت تلك التيارات تحاصره وتبادره بالهجوم. بل هكذا كانت حال الفكر الإسلامي الحديث عامة. كان يقدم مفهوماته- بحكم الضرورة الانتقالية- من خلال اللغة الشائعة والمصطلحات العصرية السائدة، فيتخذ مصطلحه ويكيف وجوه طرحه بما يجعله أقرب إلى ذلك ومن ثم إلى القبول. كما كان الفكر الجدي يتعرض لإنكار كثيف، فينشغل بدرء الشبهات والاعتذار عما ينكر. هكذا كان يقدم من [[الإسلام]] ما يشهد له بأنه قد عرف الديمقراطية والحرية السياسية وبأنه يوافق مقاصد الاشتراكية في العدالة الاجتماعية. وكان يعتذر له بأنه غير مسئول عن تخلف المسلمين الواقعي، وبأنه لا يكرس الرق ولا يكبل المرأة ولا يخدر الشعب، وبأنه برئ مما يتوهمه الظانون به ظن السوء ومما يقذف عليه أعداؤه من شبهات. وهكذا كان هم المرحلة أن تدرا الريبة والشبهة ويدفع الاستنكار وأن تروج مقبولية الدعوة إلى [[الإسلام]] ليطمئن المخاطبون بالعودة إليه.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === نحو النضج الفكري ===
| |
| | |
| خلصنا في شأن حال فكر الحركة الإسلامية لمرحلة النشأة ولعهد الدعوة الأولى على أنه كان صدمة وعي أساسًا بالهوية وبأبعاد الدين الشاملة وبسيرته في التاريخ، وأنه كان دفعة إحياءٍ للعقيدة يربيها، وللفقه يجددهن وللحركة ينشطها، وأنه كان فكرًا انتقاليًا- في غربة قبل أن يأنس، وفي دفاع قبل أن يطمئن أو يبادئ، وفي أصولية قبل أن يثبت شرعيته وعموماته، وفي تجريد قبل أن يتنزل ويتفصل. لكن ذلك الفكر في تلك المرحلة الأولى لم يبلغ في أصوليته أن يستقل كثيرًا عن التراث ولا عن الفكر العصري الغازى، ولا كان متزودًا بمنهجية نظرية اجتهاديو لاستنباط فقه في الدين جديد، ولا بمنهجية علمية واقعية لاقتراح برنامج لحياة جديدة فالحوار الحكيم مع التراث والعصر لم يتحرر تمامًا، والصلة الرشيدة مع الشرع والحياة لم تتبلور كذلك. بيد أن فكر الحركة اتجه في العهود اللاحقة نحو النضج والاستواء من كل هذه الوجوه.
| |
| | |
| '''الواقعية'''
| |
| | |
| من بعد الوقوف عند المطلقات والمجردات والعموميات والعالميات في دعوة الحركة وفكرها، تطور بها الأمر نحو الواقعية، فالتطور المضطرد في وظائف الحركة نحو التحامها بشأن المجتمع تطور بها من الهموم الخاصة إلى هموم المجتمع وإلى التفاعل مع قواه الفاعلة- فتطور بخطابها من الإلقاء به مجردًا عامًا من بعيد إلى توصيبه على حاجات المجتمع وأوضاعه وقطاعاته.
| |
| | |
| ومن بعد التعويل على الفكر الوارد من الأدب الإسلامي العالمي، اضطرت الحركة إلى التفاعل الفكري مع الواقع المعين، فغدا فكرها من ثم موصولا بالمكان والزمان- أي ب[[السودان]] وبقضاياه المحلية أو بالقضايا العالمية كما تنعكس أصداؤها فيه. ومن ثم غدًا فقهها للدين علمويًا واستقرائيًا يتبصر الواقع ويرسم في ضوئه الخطط والتدابير العلمية، بل يعتمد التجريب ليتبين ما هو أوفق في سياق ذلك الواقع.
| |
| | |
| وبدأ الفقه لديها- من بعد التنطع النظري والتحكم القطعي والعموم- مما هو ميسور في طرح قواعد الدين الكلية، يتجه نحو المرونة ويتصوب نحو الأوضاع الراهنة والأقضية الحادثة ويتكيف حسب وجوه تطوراتها ووقائع تقلباتها ويتنزل على دقائقها مفصلًا تفصيلًا. وإذ لم يعد كله خطاب دعوة وجدل يورث الإقناع أو وعط يجيش عاطفة الإيمان- اكتسب صفة من الموضوعية ومن خطاب البيان الذي يشرح ليهدي العمل وليمهد لتطبيق الأحكام.
| |
| | |
| فمن القضايا العملية التي أرثها تاريخ [[السودان]] وتناولها فكر الحركة متفاعلًا بتوجهه ومنهجه مع الواقع: تصور دستور إسلامي للسودان [1956- 1965 م]، وكيفية تحرير المرأة المسلمة ونهضتها ب[[السودان]] [1974 م]، ومشروع نظام للمعاملات الاقتصادية الإسلامية [1977 م]، وسياسة تطبيق القوانين الشرعية [1983 م]، واقتراح لعلاقات الجنوب السودانيوأوضاع أهله من غير المسلمين [1986 م]، والتصور الديني لتعاطي الفن الحديث [1982 م]، وفقه [[السياسة]] الشرعية في العلاقات الخارجية وفي شئون الأمن والدفاع فيما يخص [[السودان]] [1987 م].
| |
| | |
| ولعل من آثار اتجاه فكر الحركة نحو الواقعية والفعلية أنه أصبح فكرًا حركيًا لا يعني كثيرًا بالمناظرات. فمهما ظل محتاجًا للحوار النظري مع اليساريين واللبراليين في القطاع الحديث من الحياة، وأصبح بعد أن اتصل بسواد المجتمع مواجهًا بشيء من الإنكار والجدال من التقليدين- إلا أنه عزف تمامًا عن الدفاعيات والتبريرات والاعتذاريات الأولى. حتى أن بعض المراقبين لاحظوا أن الحركة في السواد اشتطت زهدًا في الحوار النظري مع الأطروحات التي تشاركها الساحة العامة. ولئن تفهموا اجتناب المراء مع السلفيين والصوفيين والعلماء في سبيل تأليف الجبهة المسلمة الحساسة للنقد، فهم لم يفهموا كيف تكف الحركة التيارات المتجهة للمورق من الملة كالشيوعيين المنكرين للدين وبعض العلمانيين المنكرين للشريعة وأتباع محمود محمد طه المتنبئ برسالة ثانية ناسخة لشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن الحركة استخفت بهذه التحديات مهما كانت مثيرة في ذاتها- تقديرًا لكونها في الواقع لا تمثل كبير خطر ولا ضرر ولا ضرر ولا تستحق أن تنصرف إليها الحركة بالجدل وتنشغل عما يجدي من تجاوزها بالحركة العملية في واقع المجتمع.
| |
| | |
| ومن صور المنحي الواقعي في فكر الحركة أنها آثرت التفكر على التفيقه، والمشاورات على المجادلات. فهي لا تجنح للتشقيق النظري للقضايا الخلافية ولا لإلقاء الفتاوى الفقهية الحاسمة، بل تطرح أحكام الشرع كأنها خيارات موازين متراجحة ثم تبسط حقائق الواقع بتقديرات استقرائية مرنة ثم تدير الشورى حول ما هو مقتضى الدين في الموقف الراهن أو الأمر الحادث.
| |
| | |
| وقد سلمت الحركة الإسلامية ب[[السودان]] من علة التنظيرية المفرطة التي أصيبت بها بعض الحركات التي تقل مفعولاتها وتكثر مقولاتها فتكاد تعيش إسلامها كله نظرًا وفكرًا. وقد تعرضت الحركة ثم سلمت من اتجاهات كثيرة راودتها نحو الإيغال في التفيقه والولع بتعاطي الفقهيات التقليدية لأكثر مما يستدعي العمل. ومن أمثلة ذلك أنه عندما كبت النشاط السياسي والتنظيمي في عهد مايو فرغت عناصر من طلبة الحركة للتتلمذ على آخرين فرغوا للعكوف على كتب الفقه والتبحر فيه اختصاصا، حتى زين لهم أن الدين كله في احتمال الفقه المكتوب وتناقله، وأن تدبير شأن الحركة جميعًا يرجع إلى فتاوى من نصوص ذلك الفقه، وأن ما خرج من المتن والشارح ليس يرجي منه صالح، وان ما ليس في حرف النص الظاهر ليس وراءه طائل. فنشأت مدرسة فقهية تقليدية بمشيختها وتلمذتها وأنماطها وآدابها المعهودة، وبلغ بها العجب بأمرها أن تمثلت نفسها نفسها السلطة الدينية الحقة التي يمكن أن تتحدي مختلف الأطر التنظيمية في الجماعة وأن تزدهر سائر المهام الحركية الراتبة. ولكن أمرها تلاشي بعد سنوات الكبت. وقد نشأت في الجماعة بدواعي الانكبات والفراغ، تيارات شتي تتجه للغلو في الفقهيات، وتوارد عليها خريجو مدارس فقهية تقليدية أرادوا أن يبسطوا فيها توقير الفقه لذاته والمتفقهين لمحفوظاتهم بما يصرفها عن سائر همومها ويحرفها عن معتاد نظامها. ولكن متن الجماعة بفطرته المتوازنة لم يجعل لهم مكانًا، حتى تجمعت منهم عناصر لتخرج على الجماعة بحجة بؤسها الفقهي أو ضلالها بغير فقه. هكذا نفت الحركة كل اتجاه بجعلها كلها حلقة من المتفرغين للفقه، وأبت أن تجعل قيادها كله بأسلوب الفتاوى الآلية. ومن جانب آخر لم تفلح محاولات أخرى لشغل الحركة بالتنظيرات المجردة، وظلت الجماعة متوازنة بين العلم والعمل، متكاملة بأهل الفكر والقفه وأهل الحركة و[[الجهاد]] ، تؤصل تحركها بالفكر وتصوب تفكرها نحو الواقع.
| |
| | |
| '''الاجتهادية المنهجية'''
| |
| | |
| تطور فكر الحركة بعد المرحلة الأولى وبناء على ما أسست عليه من الأصالة الإسلامية المتينة وعلى ما اعتصمت به من الأصولية النازعة إلى مصادر الشرع، تطور نحو مرحلة النشاط في الاجتهاد والاستواء في منهجيته. فقد كان التفكير الإسلامي لا يعني لها أكثر من طرح مجملات النظم والتعاليم الإسلامية ، والتأصيل لا يعني أكثر من مطلق الرجوع إلى الكتاب والسنة بغير كيف محرر. لكن تفاعل الحركة النشط مع الواقع عرضها لتحدياته وحاجاته المعينة واستدعاها للاجتهاد الكثيف لاستنباط هدي في الأقضية الفرعية الحادثة. فما كان من دعوة عامة للنظام السياسي الإسلامي غدًا نظرًا دقيقًا في تطبيق أحكام الشريعة في الجنايات والمدنيات والدستوريات المطروحة فعلًا. وما كان حول النظام الاقتصادي غدًا فقهًا مفصلًا للمعاملات المالية ولأداء المؤسسات الاقتصادية الإسلامية المعينة. وما كان حول سماحة نظام [[الإسلام]] نحو أهل الذمة غدا شرحًا مفسرًا لمقتضى [[الإسلام]] إزاء أوضاع أهل جنوب [[السودان]] وحقوقهم في سياق السياسات والقوانين وحياة الوطن العامة. وما كان لكل هذا الاجتهاد في المفصلات من الأمور إلا أن يتخذ منهجًا أصوليًا يهدي الاستنباط ليثمر فقهًا كافيًا للحاجة.
| |
| | |
| ثم إن الحركة كانت مطبوعة على حرية واسعة في الرأي وشورى كثيفة لتداول الآراء. والشورى تحفز للتفكر وتحقيق القضايا وتمحيص الأدلة وتحرير الأحكام. والحركة من جانب آخر تغلب على قيادتها الثقافة العقلية العلمية المنهجية التي تعمل العقل في فهم النصوص وتستقرئ واقع طبيعة المجتمع والأشياء وتتخذ خطة لتنزيل النصوص على الواقع واستخراج الحكم بل الحكمة في كل واقعة بمنهج موحد. ولم يكن قادتها من أهل الثقافة التقليدية التي تقنع بنبش التراث للبحث عن جواب كل مسألة مستجدة وتصدر الفتاوى بغير تفهم للأحكام ولا تبين للواقع والتي تتسم بالفروعية والعفوية في النظر.
| |
| | |
| والحركة قد تعرضت لمصادر ثقافة إسلامية عالمية خارجة عن نطاق المذهب المالكي السائد في بيئتها، مما دعاها لمقارنة المذاهب ومحاكمتها إلى الأصول الشرعية ومحاولة الخلوص إلى مواقف فقهية أصلية. ويجدر أن نلاحظ أن طبيعة الحركة وتربيتها تهيؤها للجرأة والإقدام في كل الأمور. فقد ذكرنا شيئًا من توكلها الحركي العام. سواء في الانفتاح على جماهير الشعب دون حذر من التسيب، أو في اقتحامها لمجالات الحياة الجديدة التي لم تعهدها قبلًا، أو في توكلها السياسي في التحالف مع الآخرين بغير حرج والمجاهدة للقهر بغير خوف. فلا غرو أن كانت مهيأة بتلك الروح لأن تكون متوكلة جرئية في الاجتهاد بغير تحفظ مفرط وفي ارتياد المذاهب الفقهية الحديثة.
| |
| | |
| ولئن تناصرت هذه العوامل الواقعية والثقافية لتدفع الحركة نحو الاجتهاد الفقهي الكثيف، فإن حاجة تيسير ذلك الاجتهاد وتوفيره وحذر الفرقة والارتباك بين تشعب الآراء وأثر الشورى في مقارنة طرائق التفقه والاستدلال ومسالك الأخذ من الأصول ثم مقارنة الآراء وتأطيرها، كل ذلك كان داعيًا للتواضع على منهج أصولي يتيح الاجتهاد بيسر واطمئنان ثم يضبطه بمعايير محررة مقررة تعين على كشف الخطل والضلال في الرأي وعلى توحيد الآراء بما هو أدني إلى مقتضى الحكمة الشرعية. وقد نشط الاهتمام بالمباحث الأصولية في الحركة لعهدها الأخير وامتد اجتهاد إلى أحكام أصول الفقه، واستكمل حتى تبلورت منه معالم نظرية أصولية توحيدية تبني على مصادر الدين والشرع وتسلك إلى فقهها مسالك في التفسير القريب والاستنباط البعيد وتسوق من ذلك قواعد من مجملات الدين ومقاصده تستخرج منها فروع الأحكام.
| |
| | |
| '''التجديدية'''
| |
| | |
| إن تقاليد الفقه التاريخي قد جمدت بحرية الاجتهاد إما بسد أبوابه حكمًا أو حبس العقل المسلم دونها فعلًا بتغليظ الضوابط لأهلية المجتهد لدرجة التعجيز وتأكيد المحاذير من الفتنة والخلاف لدرجة الترهيب، كأن ليس لأحد أن يصدر بعد السلف عن رأي غير منقول أو أن ليس في الحرية إلا خطر الضلال والفرقة. وكان الجمود في أصول الفقه الاجتهادية أشد منه في فروعها، لأنها أخطر شأنًا. لكن الحركة الإسلامية ب[[السودان]]- بما قدمنا ذكره من استعداد للاجتهاد- اتجهت لأن تكون حقًا حركة تجديدية لشأن الدين بعثًا لإيمان القلوب وفكر العقول وحركة الحياة جميعًا. فهي تجديدية من حيث أنها تجاوزت بروح تدينها المواقف الإيمانية السلبية القاصرة التي عهدها المتدينون، وتجاوزت بفقهها الأطر المعروفة للتفقه والآثار المنقولة في الفقه، وتجاوزت بحركتها الحدود المألوفة للإسلام أو المفروضة على المسلمين. ولئن كان دفع الاجتهاد قد نحا بالحركة نحو تجاوز القديم وارتياد الجديد، فإن التجديد ما كان ليتيسر لها لولا خصيصة في بيئة [[السودان]] الدينية. ذلك أن ليس في [[السودان]] فئة محافظة متمكنة تحمل التراث كطبقة العلماء والموالي المشهورة في بعض البلاد الإسلامية ، والتاريخ الكثيف قد يكون ملهمًا للخلف ومؤسسًا للنهضة، وقد يكون معوقًا يبطئ حركة التقدم بأثقاله ويقمعها بإنكاره لكل جديد. ومعروف ما شكلته بعض الطبقات الدينية التقليدية من عائق لصحوة [[الإسلام]] ونهضة فكره وحركته بسبب جمودها وعصبيتها بل أحيانًا بسبب منافعها وأهوائها التي تزين لها الاستمساك بالقديم.
| |
| | |
| ثم إن الحركة الإسلامية ب[[السودان]] إنما عاشت في القطاع الحديث من الحياة. وهذه الحداثة تؤهلها وتضطرها إلى أن تقدم فكرًا دينيًا متجددًا. ولئن كانت حين بدأت تعد التراث قوام هويتها وتتسب إليه لئلا تفقد انتماءها للإسلام أو تستلب نحو الثقافات الغازية، فقد اطمأنت بعد حين واحتاجت لأن تتخذ التراث تجربة تفتخر بها وتعتبر ولكن لا تبالي ألا تقومه فتنقده أو تتجاوزه استمدادًا من إمكاناته التقدمية وانطلاقًا من أصول الشريعة العلوية. وقد اشتهر الفكر التجديدى بمقولات بعض علماء الحركة ومكتوباتهم ومداولات بعض منتدياتها الخاصة. وتباينت أطروحاته وتفاوتت اعتدالًا وغربة. ولم يكن إلا أن يثير بعض الخلافات وردود الفعل من الفطرة التقليدية التي تمتحن بها الأفكار الجديدة وتمحص وتهذب. وكان من أشهر محاور الجدل الفكري بين القديم والجديد، قضايا الفن في الدين، وقضايا الحرية في [[الإسلام]]، وقضايا أوضاع غير المسلمين، وقضايا تحرير المرأة. ولعل من أخطر ذلك القضايا المتعلقة بتجديد أصول الفقه وتطوير صورها الواردة في كتب الأصوليين السلف.
| |
| | |
| وتسرى الروح التجديدية في أوساط الحركة الإسلامية كافة، وإن تمثلت بوضوح في مدرسة تجديدية كأنها تنطق بها وترود في مجال التعبير الفكري. ويمكن أن يدعي للحركة أنها تحمل فكرًا عصريًا تقدميًا تعيش به عصرها وتستشرف المستقبل المتجدد. ولربما أعانها على عدم الجمود والانغلاق في الماضي وعلى الانفتاح والانشراح للحاضر الجديد، أن بيئتها الخاصة في القطاع الحديث وبيئتها [[السودان]]ية عامة منفتحة ثقافيًا وحضاريًا على التقدم العصري بخيره وشره، وأنها بذلك انفتحت للتفاعل مع العصر وبخاصة مع الثقافة والتجربة الأوربية، إطلاعًا وحوارًا وتقبلًا لما فيها من صالح يمكن تأصيله على نيات الدين وتسخيره لعبادة الله وتكييفه يهدي [[الإسلام]]، وتعرضًا لما فيها من طالح ينبغي الاستقلال عن فتنته واستغلال تحدياته لتعزيز صيغة الهوية والاطمنئان بحق الأصالة. وقد باشرت الحركة بالاطلاع والحوار تيارات غربية عصرية دينية أو لا دينية، ذاتية أو استشراقية، اشتراكية أو لبرالية، عقلانية أو طبيعية أو اجتماعية، وغير ذلك. كما طالعت وحاورت تيارات من لدن عالم العروبة والإفريقية مستقيمة أو مرتدة، أصيلة أو مفتونة. وأن لم تكن الحركة في ذلك قد انفتحت على قدر انفتحت حركات إسلامية أدني إلى أوربا، فقد كانت لا تنغلق أبدًا لا قصدًا ولا غفلة ولا تفقد أصالتها أبدًا. وأن لم تسلم من بعض أثر غير حميد، فقد استفادت لدينها وفكرها أن يكون على مستوى خطاب العصر ومجاوبة حاجات واستيعاب إمكاناته وأن تكون كما قلنا حقًا حركة عصرية.
| |
| | |
| ومن إدراك لحركة التاريخ وإحاطة بالحاضر واستشراق المستقبل، أصبح فكر الحركة ذي مغزي تقدمي في أبعاده السياسية والاجتماعية. ولا عجب من ثم أن كانت دعوتها السياسية تحريرية تخرج الناس من ولاء العصبية إلى ساحة الحرية والوعي، أو أن كان فقهها في شأن المرأة تحريريًا يعتقها من أسر الأعراف ويهيؤها للاستقلال بمسئوليتها الدينية والإسهام في نهضة الحياة بإيجاب، أو أن كان فكرها الحركي عصريًا في وسائل التنظيم المنهجي والأداء العلمي والتربية بوسائل الاتصال الحديث وتقدميًا في التخطيط للمستقبل من خلال الاستراتيجيات والبرامج الهادفة.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === كسب الحركة الفكري ===
| |
| | |
| '''الإنتاج الفكري'''
| |
| | |
| إن الأمثل في حركة [[الإسلام]] أن يتوازن فيها الفكر والفعل أو العلم والعمل، وأن يتدافعا. يمتد العلم بين يدي العمل نورًا يهدي أهدافه وينصب حوافزه ويمهد طريقه، فلا يتبلد المرء بغير دليل ولا يتخبط بغير رشد ولا يقفو ما ليس له به علم، ويرفد العمل العلم تجريبًا واستبصارًا وتعرضًا بمقدمات التقوى والفعل الصالح لنفحات العلم والهدي التي ينعم بها الله جزاء وتوفيقًا، ويتكاثر العمل فيكثف العبادة ويتعاظم العلم ليعقمها. من العلم والاجتهاد، فتعرضت في وجهتها لخطر الضلال والانحراف، وفي ولائها للطائفية والعصبية، وفي بنائها للفرقة والخلاف، وفي سيرها للجمود من بؤس الزاد الفكري المتجدد. ولربما يدعي المرء أن الصحوة الإسلامية الحاضرة عمومًا تعاني فقرًا فكريًا ملحوظًا بالقياس إلى ما تهيأ من عاطفة انتماء للإسلام وقوة انحشاد وجهاد في سبيله، وأن تأويل ذلك بعض ما يصيب الصحوة من فرط التشبث بالأعراض والأشكال، والإلتهاء بالشعارات الساذجة. أو التماري حول الفرعيات، أو التمادي في الخلافيات، أو التشرذم في شتات من الفرق والتورط في أهواء من الحزبية، أو التقوقع في بعض المسالك أو المراحل أو المقامات المحدودة.
| |
| | |
| إن النهضة الإسلامية لا تتم ألا بتطور الفكر الإسلامي. وإن التطور الصحي لمسيرة. الفكر الإسلامي أن يتجاوز من مرحلة الصحو الذاتي إلى مرحلة التفاعل والدعوة بحق [[الإسلام]]، ومن المرجع الناقل من الموروث والمجلوب إلى النظر الناقد الأصيل، ومن رد الفعل اللاحق إلى الاستجابة المبدعة، ومن الخطاب بعموم معاني الدين ومعالمه إلى البيان لمقتضياته المنزلة، ومن الفتوى العفو في المسائل والوقائع إلى المذهب الأصولي والرؤية الكلية. إن الفكر الإسلامي قليلًا ما شارف مرحلة الاستواء والنظر الأصولي الكلي. وهو حين يبلغها لا يكاد يفعل إلا في مجال أصول الفقه التكليفى- أي النظريات المحورية حول الشرعيات. أما الفقه المطلق أو الفكر الكلي حين يستوي فإنه يتوخى جماع رؤية الحياة. يطلب علم الواقع الطبيعي المشهود ويوحده إلى علم غيبيات الدين وحكمياته. وهو لا ينفصم بالعلم الأول ليحاول إتمامه بالتأملات الفلسفية والتخرصات الظنية والتحكمات الوضعية ليصوغ من ذلك إديولوجية دنيوية، بل يضم علم الشريعة إلى علم الطبيعة بعقيدة الإيمان. وهو من حيث استوائه ونضجه يستجمع الرؤية المحيطة ويستكمل فنون البيان الدقيق، من مصطلحات وتقنيات لإنعام وجوه النظر وإحكام وسائل التعبير وتنقيح أسباب المفاكرة والمناظرة مع شتى المذاهب الفكرية.
| |
| | |
| لكن فكر الإسلاميينالمعاصرين ما أنفك بغالبه قاصرًا عما ينبغي له من الاستواء النظري وعما بلغوا هم من الحركة العلمية. فهو قاصر في مقولاته النظرية- لاسيما في مجال الاجتماعيات المتصلة بتقويم المجتمع وتاريخه ومنهج إصلاح وسياسته. وهو قاصر في فنونه الجدلية- لاسيما في وجه الفلسفات الغريبة المعاصرة وفكرها في الطبيعة وفي الاجتماع والاقتصاد و[[السياسة]].
| |
| | |
| فلا عجب أننا حين نقوم الحركة الإسلامية ب[[السودان]]- لا من حيث سمات فكرها بل من حيث قدره ومستواه- نلفيها غير غنية في كسبها ولا في عطائها، وهي بوجه خاص لا تكتب من فكرها ما تكسب. وما هي في ذلك بغافلة عن حالها، ولكنها عجزت عن استدراك الأمر. وربما يعود بعض ذلك إلى بؤس الكسب والحوار والتحرير الفكري في [[السودان]] عامة. وذلك أن [[السودان]] لم يتعرض لتحديات ثقافية حادة تحفزه إلى المحاورة الفكرية الكثيفة، فتراثه الديني التقليدي مقولات محفوظة أو سلوكيات مرعية، العلماء لحي فيه قليل. وقد حظي [[السودان]] من الاستعمار بغاشية إدارية لم تستهدف هيمنة ثقافية شاملة، فلم تتغلغل فيه مذهبيات الغرب الفلسفية إلا في صورها الواقعية وبوجه غير فعال. وسلم [[السودان]] من الفكريات القومية الوطنية والعربية والإفريقية، وظهرت فيه الحركة اليسارية بمواقفها السياسية دون النظرية. ثم إن [[السودان]]يين من شدة انشغالهم بتفاعلات الحياة الاجتماعية قليلًا ما يفرغون للتأمل والكتابة. والمناخ الثقافي ب[[السودان]] تغلب عليه [[السياسة]] ولا يكاد يصفو للتداول الفكري الخالص الذي يتمخض عن الإنتاج والنشر.
| |
| | |
| فالحركة الإسلامية بأثر فيه من بيئتها تنشط نحو الفعل والتجريب أكر منها نحو التنظير والتحرير. وقادتها أهل ثقافة وإدارة وسياسة وحركة أكثر منهم أهل علم وفكر وتأمل. ولئن كسبت حظًا من الفكر سلمها من مخاطر الإفلاس الفكري وكفاها رشادًا في الهدف واتحادًا في الصف وتجردًا من الهوى وتجددًا في المسير، فإن الموازنة القويمة فيها بين الفكر والفعل اختلت بوضوح- إذ دعتها الضرورات إلى تأكيد وجودها فعلًا بأكثر من تأكيد مغزاها فكرًا، وأصبح النشاط العملي فيها هو وجه الدعوة وعامل الوحدة ومعيار الكسب الأهم. وتبدو فيها لذلك المفارقة بعيدة بين ما بلغت من كسب فكري وما بلغت من كسوب مقدرة في الأداء التنظيمي والتربية الحركية والمجاهدة [[السياسة]].
| |
| | |
| بيد أن الحركة لم تكن عاطلة من كسب فكري على صعيد التنظير الكلي فقد تطور في أوساطها مفهوم الشمول في العمل الإسلامي ليصاغ في مفهوم نظري أعلى للتوحيد، وليتم المصطلح التقليدي للتوحيد أو العبادة فلا يقتصر على الاعتقاد بصحة كلمات مضبوطة أو الالتزام بتعبدات مسنونة أو الاجتناب للشرك الشعائري، بل يحيط بكل مغازى الدين الخالص لله والحياة المسلمة إليه، وليتمكن تصةر التوحيد شفاءً لأمراض الدين والدنيا عبر التاريخ ووعاءً لجمع الشتات والشقاق في الحياة ولتوحيد تصورات الكون والزمان شهادة وغيبًا، وجوانب الحياة خاصها وعامها ومتاعها وجمالها وأوضاعها وأخلاقها. وقد تمكن من مفكريها مفهوم لوصل الدين الأزلى المطلق بالواقع الظرفي النسبي، ولارتباط مقاصد الأحكام بحركة الوقائع، ولتطور صور التدين وتجددها حسب الضرورة التاريخية ومسيرة الحياة، وللتوازن بين غائية الفقه ووظيفته أو ثباته ومرونته. وتولدت لديهم من ذلك بصيرة مثالية واقعية توحد الدين والحياة، ونظرية تجديدية اجتهادية تصرف الأحكام عبر صروف الابتلاء الدنيوي، وتكيف التراث مع تقدم الأيام، سواء كان التراث منهجًا أصوليًا لهم الدين أو مذهبًا فروعيًا لفقهه أو تجربة لممارسته. أما على صعيد الشرح والتنزيل لهذه الرؤى الكلية في الدين، فقد أخرجت الحركة جملة من المناهج العملية في شان الحياة العامة وسياستها الشرعية حكمًا واقتصادًا، وطرحت جملة من قضايا الحركة والإصلاح الإسلامي تبشيرًا وتحريرًا وتطهيرًا وتطويرًا للمسلمين.
| |
| | |
| لكن الحركة- كما قدمنا في شأن الفكر الإسلامي المتأخر كله- كانت أقل مما ينبغي تفكرًا في الوجود الحاضر الذي هو موطن الابتلاء والإصلاح الإسلامي. فلم تعمل الفكر المنهجي الوافي، في استقراء أحوال المجتمع والعالم وتقويمها بمعايير والحكم الديني، أو في دراسة واقع الظلم والصراع والفتنة في حضارة العصر الغالبة أو في خطلها وخطرها، أو في تأمل علل الانحطاط وتدبر مشروعات النهضة في مجتمع المسلمين الحاضر، أو في مناظرة المذهبيات المادية والقومية واللادينية التي تغزو المسلمين، أو نحو ذلك من وضعيات الحاضر ورؤى المستقبل.
| |
| | |
| وإذا كان لا يعتد كثيرًا بالنظر المجرد أو الكسب الفكري حتى يتمثل مادة محررة منشورة، فإن الحركة الإسلامية كما قدمنا أضأل حظًا في الكتابة منها في الإنتاج الفكري. ويؤدي عجزها عن النشر الفكري إلى محاصرة تجربتها ألا تنتقل فتتطور بفعالية عبر الأجيال والأقطار. فكان ذلك القصور موضوعًا لتبرم الشباب فيها الذين يحتاجون للتزود بعبرة ما سلف من تجريب عملي وتحصيل نظري، وسائر العاملين الذين يتطلعون لاستبانة رؤى الحركة الكلية نحو المستقبل، والإسلامييننم غير [[السودان]] الذين يتسامعون بجليل شان الحركة ويرون آثارها المقدرة ثم لا يجدون شيئًا مكتوبًا من الحكمة الفكرية التي تهديها.
| |
| | |
| ولربما يتوهم المرء أن الحركة من كثافة عملها وقلة إنتاجها ونشرها الفكري لا تتعاطى الفكر أو لا تتزود أو لا تتواضع على مذهب منه معلوم. وقد أوضحنا أن لها نهجًا فكريًا ذا خصائص وسمات معلومة، وذكرنا طرفًا من مقولات فكرية تولدت فيها. وقد تمكن فيها من هذا وذاك روح أو اتجاه متميز أصبح مدرسة فكرية سودانية يلمسها المراقب من تلقاء الإسلامي السودانيحيثما لقيه في العالم. ولئن فات الحركة أن تنشط في نشر إنتاجها الفكري، فلا يعني ذلك أن فكرها محجوب أو دعوتها مجهولة، بل إن نشاطها في إشاعة دعوتها وبسط فكرها مقدر جدًا، ورسالتها بالغة إلى جماهير الشعب محمولة بوجوه شتى من وسائل الانتداء والمحاضرة والخطاب. وتكاد حملاتها الثقافية العامة أن تكون الغالبة في أوساط الجمهور. وإنما يحق القول بأن الوسائل السمعية التي يعول عليها فكرًا الحركة تعبيرًا أو تناقلًا لا تمكنه من مستوى رفيع من إنعام النظر وإحكام الأسلوب ولا ترقي بكيفه عمقًا ودقة بما يكافئ حاجة الحركة ويناسب شأنها.
| |
| | |
| '''الوحدة الفكرية'''
| |
| | |
| مهما قصرت الحركة في تعميق فكرها نظرًا وبسطه نشرًا، فإن مزاجها الفكري واحد، لا يخطئه- كما قدمنا- من يتصل بأي عنصر فيها. وتكفل وحدته من حيث أن الجماعة ملتزمة بحرية الفكر تتيح سعة في مصادر الثقافة وتبيح سعة في وجوه التعبير. وتلك ضمانة لنفي الشعور بالانكبات ولاجتناب التوتر الذي يغرى بالتمرد والانفلات. والجماعة من جانب آخر تكثف الشورى وتدير تفاعلًا وحوارًا عفوي فيما بينها، مما يقرب مذاهب الفكر ويوحد اتجاهاته وسط الحركة. ثم إنها من بعد لم تولع بتجويد الأطروحات النظرية التي لا تنحسم ولا باقتفاء الفرضيات ولا بتشقيق الفرعيات التي لا تنحصر، لأن واقعيتها وحركيتها وفاعليتها شدتها إلا الأولويات العملية وصوبت همها إلى الفعل لا إلى التنطع النظري ونصبتها صفًا واحدًا في وجه التحديات، لا تفرط في وحدتها من أجل أغلوطة ولا ينتفض عقد الثقة بينها بسبب خلاف اجتهادي. بل صغرت عندها الخلافات في الفروع أو الرؤى النظرية لاسيما ما لا ينبني عليه عمل ذو بال. وأتاح لها العمل الكثيف تجارب تبتلي بها النظريات وتمحص الخيارات وتحسم الخلافات الطارئة.
| |
| | |
| ولقد عصم الحركة من الشقاق الفكري أن منهجها وحد العلم والعمل ومن ثم وحد العلماء والعاملين. ولعل من أخطر أمراض المجتمعات والجماعات الدينية وانفصام الفكر عن الحركة وقيام أهل العلم فئة مختصة متميزة لا تباشر العمل بينما يقوم عليه وصيًا وتحاكمه بنظرها المتجافى عن حاجات الواقع وضروراته. ومن جراء ذلك يقع التجانب بين أهل النظر وأهل الممارسة. ومن تلقاء نحو ذلك نشأت في النصرانية الهيئات الكهنوتية المحتكرة لأسرار علم الدين وأفكاره المتحكمة به من غير بينة واقعية، المنتهية إلى خصام خاسر مع أهل الواقع. وكذلك نشأت في [[الإسلام]] شرائح أهل النظر من العلماء المنعزلين عن الحياة العملية الذين يوشك بهم أن يتفرق ما بي الدين الذي يمثلونه والدنيا التي يمثلها العاملون. لكن الحركة الإسلامية ب[[السودان]] لم تقم تمييزًا بين «الشيوخ» و«القادة»، ولم يزين لها يومًا أن تتخذ هيئة مخصوصة تصدر الفتاوى للجماعة بمعزل عن مجلس الشورى العام أو تمثل الرقابة الشرعية والوصاية الفكرية عليه. ومهما تفاوت القادة فيها حظًا في العلم والعمل، فإنهم يقومون في جهاز واحد متناصحين متكاملين يجسدون وحدة النظر والممارسة ومن ثم وحدة الحركة الفكرية والعملية.
| |
| | |
| ولربما تتوحد بعض الجماعات بقيام مرشد معتمد يخط لها خطوط دستورها الفكري ويتمحور حوله توجهها المذهبي تقليدًا واتباعًا. لكن الحركة في [[السودان]]- إن عرفت رائدًا أو أكثر في المجال الفكري- فإنما عرفتهم ناطقين بتوجه فكري عام مبسوط فيها، لم يشرعه أحد إبداعًا واجتهادًا ذاتيًا، وإنما هو قطرة من روح الحركة وثمرة من حوارها الداخلي- إلا أن يقبض الله له من يطوره تأصيلًا وتفريعًا ويحرره تهذيبًا وترتيبًا. والحق أن غالب الذين سموا أئمة الفقه والفكر وذهبوا بالفضل بما قدموا إنما أمدتهم حركة المجتمع الثقافية قاطبة. وقد بدأ ذلك جليًا في الحركة الإسلامية ب[[السودان]]- إذا لا يرد الفكر إلى ذوات الذين عبروا عنه، فلم توقر كلماتهم المقبولة توقيرًا مفرطًا، ولم تستنكر الغريبة استنكارًا شططًا. ولربما يعود ذلك إلى ما في [[السودان]] من روح الحرية والموضوعية والسماحة الجافية عن فرط الولع بالقديم أو الهلع من الجديد، الداعية إلى التوكل في الاجتهاد وحسن الظن بالمجتهد، السامية إلى آفاق الرؤى الكلية وراء فروع الفتوى وحروف الكلام، البانية على أن الرأي الفذ نبت من بيئة الحركة ومدد لرصيدها، قوته في حجته وضابطه في شورى الجماعة وإجماع رأيها العام.
| |
| | |
| ومن الشواهد الأخرى لوحدة الحركة الفكرية أنها قد نشأت في أحضان التعليم النظامي اللبرالي، وسبق لبعض روادها الأوائل تلبس بالفكر اليساري، وأن قد سادت فيها حرية فكرية فيها حرية فكرية واسعة وروح اجتهادية نشطة، وأن البيئة الثقافية التي عاشت فيها لا يضبطها نفوذ كبير لطبقة من علماء الدين. ثم إن الحركة رغمًا من ذلك كله لم تعرف شذوذًا فكريًا بين أوساطها ذات اليسار أو ذات الغرب، وظل متن تيارها الفكري متأصلًا متجددًا. وقد راج في بعض الساحات الإسلامية الحديثة شيء من ظواهر الجنوح وتيارات الشذوذ الفكري. فمنها أحيانًا ما يلزم حرف الأقوال المنقولة وصور التاريخ المأثورة ويدبر عن كل جديد في الواقعات أو الظروف الحادثة أو الرؤى الاجتهادية. ومنها ما لا يأبه لنصوص القطعيات الشرعية ويزعم أن جوهر الدين في المعاني الكلية الأزلية نحو «العدالة» و«التحرر» و«كرامة الإنسان». أما في [[السودان]] فلم يتمثل ذلك إلا في شاذة فكرية محدودة جدًا [أتباع الباطني المتنبئ محمود محمد طه]، وسلمت سائر الحركة الإسلامية من التنطع أو التفلت. اللهم إلا ما يقع من تباين طبيعي بين من يركز على النصوص القطعية الفرعية ومن يركز على مقاصد النصوص وكليات القواعد. سوى أن مدرسة صغيرة من أصحاب الظاهرية النصوصية قد ظهرت في الحركة يمدها تيار نقلي محافظ من خريجي بعض المعاهد الدينية. ولم تدرج تلك المدرسة عطاءها رسلًا في السياق الفكري العام للحركة، بل شادت به وتحيزت وكانت بخلاف الفقهي رافدًا في الانشقاق عن الجماعة الذي دخلت فيه أيضًا تقديرات خلاف سياسي أو تنظيمي محض، لكن يمكن تفسير الخلاف كله بكونه بينونة التحفظ والمحاذرة عن التوكل والمبادرة في توجه الحركة العام فكرًا وسياسة وتنظيمًا.
| |
| | |
| '''الحرية والمرونة الفكرية'''
| |
| | |
| مهما اتخذت الجماعة من نظام للحلقات والأسر التربوية لتعليم أعضائها مبادئ دعوتها، فقد كانت الجدوى المقدرة لتلك الحلقات في التربية الفكرية لا تتعدي مراحل الدخول الأولى، حين يتزود القادم بأصول فكر الدعوة فتحدث لديه تحولًا فكريًا لحداثة عهده. أما غالب ما تطور إليه الكسب الفكري لأعضاء الجماعة فلم يكن من خلال الأطر التنظيمية النمطية. وقليلًا ما بلغ أحدهم قدرًا من المرتبة الفكرية بما يتعاطي من المناهج المقررة بل إن تقدم الحركة قد أدي بالمقررات المرسوم المضبوطة التي كانت تتلقي في الحلقات التنظيمية إلى أن تتسع وتتنوع لمدي متطور يناسب نضج الأعضاء، وإلى أن يكون مردودها لديهم حسب اجتهاد الواحد منهم ووفق خياره. وذلك حتى انتهي الأمر إلى أن تقتصر الحلقات التنظيمية الأساسية على التربية الحركية العامة وتتجرد عن كل دور تعليمي فكري إلا عند مرحلة التلقين الأولى للقادمين.
| |
| | |
| هكذا كان غالب الزاد الفكري في الحركة من حر كسب أفرادها، تحصيلا شخصيا بالإطلاع والنظر يتأتى عن الاستعداد الخاص وتحفزه دوافع التربية الإيمانية والفكرية النظامية، أو تعاونًا جماعيًا من خلال حركة الحوار والتداول الفكري أو أطر الانتداء والمدارسة الحرة التي تيسرها الجماعة أو يبادر إليها الأفراد عفوًا. وإذ غدا غالب التربية الفكرية موكولًا إلى الكسب الذاتي أو التفاعل الفكري الحر أو موجهًا بإطار ومنهج عفو، فقد سلمت الحركة في طبيعتها الفكرية من النمطية الرتيبة التي يلحظها المرء في فكر بعض الجماعات الإسلامية أو العقائدية التي تلقن أبناءها وتتعدهم بمنهج فكري مرسوم صارم.
| |
| | |
| فالحركة الفكرية في الجماعة تدور وتتطور بحرية. لا تلتزم مذهبًا معتمدًا، ولا ترتهن لاجتهاد شيخ مقدم، ولا تحاصر مصادرها في كتب مقررة معلومة، ولا تصادر مواردها بقيود في التعبير محكومة. هكذا تأخذ الحركة من مذاهب الفقه بلا حرج ولا حجر، وتنهل من الأدب الفكري للحركة الإسلامية الحديثة بلا التزام المدرسة معينة، بل تتناول الفكر من أي مصدر اتفق وتتيح الحرية لأي توجه انبثق- على رحابه في التباين وسماحة في التفاعل. فالالتزام إنما ينصب اعتقادًا على حد النص الشرعي وعملًا على مقتضى القرار الجماعي. أما المنهج الفكري والرأي الذي يصدر عنه الفرد والتداول الشورى الذي يدور في الجماعة بين يدي انعقاد الإجماع، فكل ذلك حر مباح، بل الواجب فيه أن يكسب كل فرد كسبه من اجتهاد الرأي بأصالة لا يكون معها إمعة غير مذكور بخصوصية، وأن يبلي بلاءه في التداول ويدلي برأيه في التشاور بإيجاب لا يكون معه عالة غير مشكور ولا مأجور بمشاركة في شأن الجماعة.
| |
| | |
| هكذا اتسعت الحركة بفضل الحرية لتستصحب في مصادر ثقافتها وفكرها خلفيات شتى ففيها جماعة يحملون ثقافة فكرية عصرية عالية، وأخرون يحملون ثقافة علمية تقليدية. بل فيها من صاغته الثقافة الشعبية المذهبية أو السلفية أو الصوفية. وفيها عناصر تائبة بفكرها إلى [[الإسلام]] من مذهبيات مادية لبرالية أو اشتراكية أو شيوعية أو قومية عربية. هؤلاء جميعًا يقومون في كنف الحركة- يتفاوتون وزنًا ويتباينون لونًا، فيثرون الحركة تكاملًا وتنوعًا.
| |
| | |
| وإذا تجوز المرء فميز طيفًا من ألوان الفكر وطائفة من مذاهبه تمثيلا لمدي المرونة في بناء الحركة الفكري، فيمكن أن يلحظ اتجاهًا فكريا أقرب إلى الذرائعية الحركية السياسية- لأنه يقدر ظروف الواقعات وحيثياتها وأسباب المصالح والمفاسد الواردة، ثم يحرر في ضوء قيم الشرع ومقاصده وأحكامه ما هو مقتضاه في الموقف المعين ولو ظنًا أو تقريبًا أو تجريبًا. وذلك هو فقه الحكمة الذي يقدر الواقع تقديرًا، ثم يقومه بالشرع تقويمًا، ثم يقضى بالتي هي أقسط وأوفق.وهو فقه ذو نسب في مسالكه الاستنباطية بالأصول الفقية التي عرفت بالاستصلاح أو الاستحسان أو «الرأي»، والتي نشطت قديمًا لتوجيه الحياة العامة بهدي [[الإسلام]] قبل أن تنحسر من بعد روح التدين والاجتهاد فتعقم تلك الأصول وتقيض منابعها الفكرية. وقد يميز المرء اتجاهًا فكيرًا أقرب إلى النصوصية النظرية، لأنه من فقه الفتاوى الباتة والأحكام القاطعة الذي يأخذ بما هو أدني إلى منطوق النص من معقولة وإلى ظاهره من باطنه وإلى مدلوله المعنوي المطلق من مغزاه العملي النسبي. وذلك فقه تفسير كان قديمًا أنسب لمسائل الشعائر والأحكام الشخصية حيث تتكثف النصوص ولا تتطور كثيرًا صور الحياة. ومن بين الاتجاهات ما هو اجتهادي تجديد نزاع إلى إعمال النظر الأصيل وتصريف الأحكام مع تصاريف الزمن وارتياد الآفاق المتطورة في مقتضى الدين. ومنها ما هو نقلي يحفظ تجارب النظر والعمل السالفة ويتبع آثارها بأوثق ما يتيسر ويحاذر من إبداع قد يرد إلى البدعة وجرأة قد تجر إلى الضلال والخلاف. ومنها ما يميل إلى السماحة والترخيص دون تسبب، أو ما يميل إلى الضبط والتزام العزائم. هكذا تتعدد الاتجاهات لتتسع بكسب الحركة، وتتناصر لتثريها. وما كان لحركة ذات هدف واسع وصف جامع أن تستوى وتتوحد إلا بهذه المرونة والاستيعاب والشمول والتركيب. فالحرية التي تطلق الطاقات الفكرية وتسعها، والوحدة التي تنظمها وتجمعها، أمران متلازمان في كسب الحركة الفكري.
| |
| | |
| </div><noinclude> </noinclude>
| |
| | |
| | |
| | |
| == روح الإصلاح الإجتماعي ومنهجه ==
| |
| | |
| <div class="reflist4" style="height: 500px; overflow: auto; padding: 3px" >
| |
| | |
| *تطور روح الإصلاح
| |
| *منهج الإصلاح
| |
| | |
| كان منشأ الحركة الإسلامية - كما ذكرنا كثيرًا- أن قد حدث وعي بالهوية الإسلامية ثم بأبعاد الدين ومغازية في التاريخ ثم بالمفارقة بين المثال الإسلامي وواقع المسلمين. وذلك مما أدي إلى أزمة في النفوس المؤمنة ودعا إلى قومة لإصلاح الحال وتوجيهه نحو الكمال. هكذا تطورت روح الإصلاح تطورًا، واستدعت تطور فقه وتجربة في كيفية الإصلاح المنشود. وكان في تجلي روح الإصلاح وتكيف منهجه لدي الحركة الإسلامية ما يتصل بحيثيات في التراث الإسلامي وفي الثقافة العصرية وفي البنية [[السودان]]ية خاصة.
| |
| | |
| === تطور روح الإصلاح ===
| |
| | |
| تمكنت في ظل ثقافة المسلمين التقليدية غفلة تامة لدي بعض المسلمين عن المفارقة بين واقع الحال وقيم المثال. وذلك أما من نقص إلمام بواقعات الأحوال الحاضرة ووعي بمدلولاتها التاريخية، أو من نقص العلم والإيمان بما يقتضيه الدين. فهؤلاء في غمرة ساهون لا تثور عندهم قضية الإصلاح أصلًا. لكن قطاعًا أكبر من المسلمين كانوا على قدر من الوعي والعلم بحقائق الزمان وحق الدين، يلحظون مغزي المقارنة ويعترفون بفساد الحال، لكنهم يعدونها فتنة كتبت عليهم جبرًا ويتخذون إزاءها موقفًا قدريًا عاجزًا. بل ربما كان يقين كثير منهم أن خط التاريخ الديني في الزمن كله إلى انحطاط يرذل كل عام بالضرورة، أو كان بعضهم يري عظيم تحديات الباطل والفساد فتلقي في نفسه رهبة وهو من قلة ثقته بقوة الحق وتوكله على الله. وأقصى ما هو ميسور في حسبان هؤلاء المؤمنين الضعاف أن يحافظ المرء على خويصة نفسه ويسلمها من الشر الغالب، أو أن يقنع إزاء المنكر بأن يقذف إليه بالإنكار والبراء وأن يعتزله ويقعد يستعيذ ويدعو ويتمنى على الله الأماني.
| |
| | |
| هذه الأوضاع التاريخية والأحوال النفسية ظاهرة من سنن الانحطاط في تاريخ الدين، فالدين كله يبدأ دعوة إلى عقيدة من الدوافع الناقلة من الركون إلى الباطل والإخلاد إلى الأرض، نحو قيم الحق العليا. وشريعة تمثل بتعاليمها صور الحياة الفاضلة، وجهاد في سبيل تحقيق مقتضى الدين وتوحيد واقع الحياة إلى مثالها. ثم تطرأ مراحل لاحقة تمر فيها على المتدينين ابتلاءات متجددة من أقدار التاريخ المتقبلة، فإذا استقام أهل الدين علمًا وإيمانًا جاءوا باستجابات متجددة للامتحان، واندفعوا بجوهر الدين مع تطورات الزمان. أما إذا توهموا أن الصور المتقادمة التي عبرت عن مقتضى الدين لزمان سالف هي بحذافيرها عين الدين الخالد، وانحجبوا بالتاريخ عن أصول الدين الموحية، أو إذا أخطأوا ملاحظة المستجدات الواقعية التي تستلزم تكييف التعبير عن الدين، أو إذا خذلهم ضعف الدافع إلى الاجتهاد والتجدد، فإنهم يصيرون من جراء ذلك إلى ركود وجمود، بل قد يتخذون موقفًا عقديًا وفقهيًا ضد الإصلاح والتغيير الاجتماعي. أما إذا فهموا الجديد وفقهوا مقتضى الدين فيه ثم قعد بهم التوكل و[[الجهاد]] ، فقد يؤثرون الانزواء والعزلة بما بقي لهم من الدين.
| |
| | |
| وقد عرفت الصحوة الإسلامية ب[[السودان]] لأول عهدها مثال الإصلاح الإسلامي المفارق للواقع، لكنها لم تتهيأ بروح دافعة نحو الإصلاح إلا بعد حين. فالجماعة الإسلامية الأولى كانت في خصوصية مفرطة، مستسرة بأمرها عاكفة على ذاتها مدبرة عن كل وظيفة اجتماعية، جاعلة غاية همها في دعوة محدودة تنتقى الأفراد ولا تحشد الجماهير، وتدابير سرية لا تتسع ولا تخرج على الملأ، ومنهج تربوي صوفي الأصل يتخذ الوسائل الخاصة المناسبة لإصلاح الفذ ورعاية المجموعة، لا لإصلاح المجتمع إجمالا، بل يعزل أعضاء الجماعة عن التفاعل مع المجتمع حذرًا من فساده وكيده. ذلك عهد كانت الدعوة فيه جماعة غرباء تكتفي بشأنها وتحتمي مما وراءها، وقد تراودها أماني الإصلاح، ولكنها لما تصبح حركة فاعلة في المجتمع ذات هم ناجز إصلاحه.
| |
| | |
| ثم تلا عهد راودت الحركة فيه هموم الإصلاح الإيجابي وغشيتها روح تفاعلية حركية منفتحة. وذلك أن قد تبينت دورها في المجتمع وأطمأنت ثقتها بأن سيجدي جهد إصلاحي منها فيحدث وقعه وأن ستسلم من مغبة الفتنة إن هي أقبلت على تلك المهمة الإصلاحية العامة. وقد قوى لديها الإيمان المتوكل ونضح الفقه المتبصر، فأقبلت بجرأة على تصورات الإصلاح المتجاوزة للتاريخ والحال الاجتماعي وعلى مشروعاته العلمية المعينة، لكنها ما انفكت تري الإصلاح رؤية جزئية، في هذا الأمر أو ذلك من أمور المجتمع.
| |
| | |
| ثم جاء عهد تكامل فيه التوجد نحو إصلاح المجتمع؛ إذ أحاطت الحركة علما وتجربة بأحوال المجتمع وحاجات الإصلاح فيه وتجاوزت ذاتيتها نحو رساليتها، واتضحت في تصوراتها الفقهية معالم النموذج المثالي المنشود، وتطورت لديها خبرات بنواميس التاريخ وسنن التحول الاجتماعي، ولاحت لها طرائق شتى لمعالجة الواقع الاجتماعي المعين بقوة وحكمة، بل تعبأت في وظائفها جملة برامج ومشروعات إصلاح، حتى تتامت توجهات الإصلاح لتشكل استراتيجية كلية لتغيير المجتمع بأسره والسعي لتوحيده إلى مثل الكمال الإسلامي. هنالك تطورت الجماعة من كونها طاهرة وصالحة في ذاتها إلى كونها أداة تطهير وإصلاح، وتصوبت همومها من الذات إلى المجتمع، وغدت تربيتها وحركتها نظمها وأشكالها موظفة لأغراض الإصلاح، فبدلت مناهج التربية والعمل فيها لتكون أفعل وأكمل بلاء في المجتمع، وتجاوزت اسمها وصفها المعهود لتتخذ إطارًا أوسع وأوقع في الإصلاح.
| |
| | |
| هكذا كان العهد الأول عهد أمل في الإصلاح، والثاني عهد عمل عفوي جزئي في الإصلاح، والثالث عهد الوعي التاريخي الشامل بأهداف الإصلاح وحاجاته والتوجه الحركي المتكامل لتغيير المجتمع. ثم أصبحت الحيثيات النظرية لمنهج الإصلاح من أهم القضايا عند الحركة- إذا طرت وجوه الاعتبار بسنن التطور الاجتماعي، وتجارب الكسب الإصلاحي في تاريخ البشر وتراث المسلمين، ووجوه الاختيار بين مذاهب الإصلاح مقومة في ضوء من حكم الشارع ومقتضى الواقع، وإذ نشطت حول إشكاليات القضية مداولات الحوار الفكري في أوساط ومشاورات القرار العملي في قيادتها.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === منهج الإصلاح ===
| |
| | |
| ==== مقدمة ====
| |
| | |
| الإصلاح عقيدة غائية تعين أهداف الصلاح المنشود وشريعة عملية أو منهج قاصد نحو الصلاح في واقع الحياة. فالمنهج- بجانب- من طبيعة غايات المذهب الاعتقادى المعين وحكم تعاليمه، وبجانب آخر من طبيعة حاجات الواقع الراهن وحكم إمكاناته. ولقد أصبحت مسألة المنهج إشكالية نظرية مشهورة تعالجها الدراسات التاريخية المقارنة وتتخذ فيها المذاهب خيارات ومواقف شتي. ويمكن على سبيل البيان المدرسي أن نميز مذهبين وضعيين في الإصلاح- كأنهما على طرفي نقيض- يستصحبان مسلمات مختلفة في استقراء السنن الاجتماعية واستيحاء القيم الاعتقادية، فيستنبطان سياسة متباينة في طرق الإصلاح. وغالبًا من يكون الخيار التاريخي في منهج الإصلاح توفيقًا أو تلفيقًا بنسب شتى بين المنهجين تقديرًا لمختلف القيم الثقافية اللازمة والظروف الواقعية الحاكمة.
| |
| | |
| فمنهج الإصلاح- الذي يمكن أن نسميه لطيفًا- يجعل دور الفرد حاسمًا، فيعول على تعبئته بالدواعي الطوعية الحرة تعليمًا وتربية، ويطلق له عنان الحركة ليباشر مهام الإصلاح فيما يليه من مجال خاص، فإذا توافرت إسهامات الأفراد وعمت آثارها المتباركة أتي الإصلاح أكله آجلا على صعيد المجتمع كافة. فمن مستصحبات هذا المذهب الثقة بصلاح الفرد الفطري وبفاعلية إرادته وغالبيتها، والإيمان بالتعاون نزعة بشرية وبالنسق التلقائي طبيعة اجتماعية. ومن مقتضيات هذا المذهب المصابرة على تطاول المدي الزمني للإصلاح ريثما تتعاظم أقداره ويتسامي درجة بعد درجة، والقناعة بمحدودية الوقع الفعلي للإصلاح والترجي ببعضه شيئًا إلى شيء حتى تتام جوانبه ويعم الحياة، والرضا بالتقدم الإصلاحي العفوي الميسور بغير خطة كلية حتى تتداعي آثاره ويتجلى نظامي.
| |
| | |
| أما المنهج الآخر- الذي يمكن أن يكون عنيفيًا- فإنه ينبني على أن العامل الأساسي في الصلاح والفساد إنما يكمن في البيئة المادية والاجتماعية، فما الفرد فيها إلا مسير لا يملك بالإرادة المختارة أن يقاوم الفتنة في نفسه، ولا بالنية والكلمة الطيبة أن يقدر أمرًا أو يغير التغيير بالقوة النافذة دون تلطف والفور الناجز دون تراخ أو تسويف، وأن يكون تصويبه على أصول الحياة وجذور المجتمع لتترتب آثاره آليًا على شعبا الحياة وكسوب الأفراد، وأن يجري بخطة كلية شاملة لئلا تنساق الإصلاحات سدي فترتد أو تضطرب أو تنعزل فيئدها السياق القديم أو تنتصب فيتعزي بها رواد الإصلاح وتغيب عنهم مطالبهم الكلية.
| |
| | |
| أما منهج إصلاح المجتمع في الإصلاح فهو منهج توحيدي يستهدف كل المقاصد ويسلك كل الطرق بشمول وتوازن يضبطه الواقع المعين. فالإنسان في الدين حر الإرادة بأصل فطرته ومكلف بأن يكيف حياته ويسخر محيطة للعمل الصالح، وهو مبتلي بذلك المحيط يستعين به أو يفتتن، بينهما تفاعل هو سر التمحيص الرباني للإنسان، فإذا ضعف إيمانه وقع تحت ضغط الظروف المحيطة وفتنتها، وإذا قوى قاوم تلك الظروف بل استخدمها لأغراض العبادة والعمل الصالح. فأضمن شروط الإصلاح ما زكي الإرادة الفردية المؤمنة وعبأها، ثم أصلح الأطر الواقعية المعينة وهيأها. لذا يتوجه الدين إلى الإنسان الفرد بالتذكير والتربية، ليؤمن ويصبر على البلاء فلا تكون فتنة، وليسخر قوة الحياة والكون فيكون الخير، ويتوجه إلى المجتمع بالتنظيم والتقويم والتعبئة ليسلم فيجاهد الفساد في الأرض بقوة ويبسط الإصلاح. والأصل في الدين أن تبذل الدعوة للإصلاح بالحسنى واللطف عفوًا وطوعًا، وأن تعد القوة تأمينًا وتمكينًا، وأن يوعظ المؤمن بالاعتصام ويوصي بالاستقامة بينما توفر له الكفاية المغنية والعدالة المرضية والأطر المعينة، وأن يصبر المؤمنون ويتربصوا عاقبة الصلاح ولو جاء تثبيتًا وتدرجًا وأن يسارعوا إليها ما تيسر دون فتنة أو إرباك ولا تبطئة ولا مطل، وأن يتكلفوا من الإصلاح وسعهم ليدركوا بعضه ثم يجتهدوا استكمالًا للصالحات ورقيًا في المقامات، وأن يبيحوا ويحرضوا المبادرات الفردية التي يوحدها الشرع، ويتولوا التخطيط الكفائى الذي ينظمه الإجماع. هكذا يتناصر في سبيل الإصلاح سلطان الدولة وعرفان الجماعة ووجدان الأفراد ثم توفيق الرحمن من حيث لا يحتسبون.
| |
| | |
| ولم يكن من دعوى [[الإسلام]] حتى حين خاطب المجتمع الجاهلي الأول أن ينسخ قيمة كافة ويقوض أركانه ومؤسساته. فما كان [[الإسلام]] بانقلاب مطلق، بل كان إصلاحا استصحب من معروف المجتمع ما كان صالحًا وصوب سائر معهوداته وأتم الأخلاق وقوم النظم وكيف الأوضاع بما يوافق الأصول الجديدة. فالدين- حين يتجدد في مجتمع مسلم تقليدي اعتراه الفساد- أبعد من أن يتجه لدعوى [[الثورة]] المطلقة المقوضة، بل هو استصحاب لبقية الخير والمعروف المحفوظة واستصلاح لما نقص من الدين أو طرأ من فساد بمنهج مقيس على السنة الأولى. فإن كان نقص الدين وفساده عظيمًا مداه ومغزاه- مثل ما غشى المجتمعات المسلمة الحاضرة- فلربما يصح الكلام مجازًا عن انقلاب وثورة، لعموم مقاصد الإصلاح المطلوبة وقوة الوسائل اللازمة. والحق أن معني الانقلاب الثوري الكامل لا يصدق حتى في المبادرات الثورية الوضعية الحديثة، إذ لم تستهدف حقيقة إلا تبديل البني الفوقية أو الأوضاع السياسية أو بعض العلاقات الاجتماعية. ومهما كان طموح المصطلح أو البرنامج في التغيير المنشود فقد استبقت الثورات من التراث قدرًا جليلًا.
| |
| | |
| أما في التاريخ الإسلامي فقد تواردت مناهج التغيير الاجتماعي وأدوار الإصلاح تخصصًا ببعض المسالك أحيانًا وتوحدًا بها جميعًا أحيانًا أخرى- حسب الحاجات والإمكانات المتصورة والمتيسرة. ذلك أن المجتمع المسلم تعرض حينا بعد حين لوجوه فساد معينة ومن ثم لحاجات إصلاح مخصوصة، فكانت حركة التجديد والإصلاح حينئذ لا تستهدف إلا كمالات [[الإسلام]] المضيعة فعلا ولا تتخذ إلا الوسائل المناسبة لاستدراك ذلك النقص المعلوم. وقد تتصدي للإصلاح حركة جامعة وافية بكل حاجاته، وقد تتظاهر عليه روافد بأدوار شتى.
| |
| | |
| هكذا كان لأئمة الفقه ومدارستهم المذهبية منهج في الإصلاح ودور من خلال التعليم والإرشاد الاجتماعي الخاص أو الفتيا العامة وتوجيه [[السياسة]] الشرعية السلطانية، وذلك لسد حاجة فقه الدين في المجتمعات الجديدة ذات الظروف والأقضية الجديدة وكان للصوفية منهج ودور من خلال تزكية النفوس وترقية الأخلاق وجمع السالكين على الطريق، وذلك لترسيخ المعاني الإيمانية بين المجتمعات المتعرضة لفتنة التقدم المادي، ولتوحيد الأمة التي تقسمتها الأقاليم والولايات. ومن الصوفية من طور الزهد والمجاهدة النفسية وأخوة الطريق وطاعة المريد إلى جهاد الكفار الغازين والزهد في الحياة والفناء في الله بالاستشهاد والالتزام في صف المجاهدين والمرابطين (مثل الطرق الصوفية العالمية والمجاهدة في إفريقيا وآٍسيا الوسطي). وكان للخلفاء الراشدين منهج دور من خلال [[السياسة]] الشرعية و[[الجهاد]] العامن ومنهم من عني بالتوجيه والإصلاح الاجتماعي (مثل عمر بن الخطاب وعمر بن العزيز). أما الخوارج والشيعة فقد التمسوا الإصلاح بالتفقه وبالخروج السياسي (مثل زيد بن علي). وأما أهل الجماعة من المصلحين فقد كانت تقاليدهم هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للأمة والأئمة- مع ضوابط من لزوم الجماعة وطاعة ولاة الأمور خشية أن يجر طلب الإصلاح بالقوة إلى الفتنة والفساد في الأرض، وذلك فقه في سياسة الإصلاح رجحته أسباب الواقع التاريخي المعين مما حفظ المبدأ النظري في جواز خلع الولاة الفساق وتحريم الطاعة في معصية الله.
| |
| | |
| أما الحركات الإسلامية الإصلاحية الأقرب تاريخًا، فمنها ما كان جهاديًا خرج على المجتمع المسلم التقليدي بسلطان دعوة مهدوية (كالمهدي في [[السودان]])، أو تجديدية (كالحركة السلفية في نجد وحركة دانفوديو في نيجيريا)، أو قاوم الكفار المتغلبين عبى دار [[الإسلام]] (كما في الهند وشمال إفريقيا وغربها وشرقها وفي آسيا الوسطي والشرقية). ومن الحركات الحديثة من اتخذ منحي ثقافيًا إرشاديًا أو فكريًا (مثل الحركات التجديدية التي نشطت لأوائل القرن في الهند ومصر والشام والشمال الإفريقي). ومنها حركات سياسية عالمية أو وطنية تنشد الإصلاح بالعمل في الحياة العامة (مثل الأفغاني و[[الأحزاب]] الإسلامية في شرقي آسيا وشمالي آسيا وشمالي إفريقيا).
| |
| | |
| لكن تراكم هذا التراث [[الجهاد]] ي والثقافي والسياسي فضلا عن الرصيد التربوي الصوفي قد أخذ يوحي بمنهج يجمع كل هذه التجارب والوسائل الإصلاحية. لاسيما أن المجتمعات الإسلامية قد تداركت فيها وجوه الانحطاط واشتدت فيها وطأة الفتنة واتسع وقعها بالغارة الاستعمارية المطبقة، فأحاطت بها الأزمة واستدعت أحوالها مشروع نهضة شامل يتوخي كل مقاصد الإصلاح ويتخذ كل وسائل اللازمة. ثم أن التطور المادي الحضري قد أدي إلى توحيد الحياة الاجتماعية واشتجار مصالحها واشتباك أسبابها، فاتصالها وثيق، وخدماتها مشتركة، ومرافقها موحدة- مما أوحي بكثير من المذاهب الاجتماعية الحديثة التي تبني على الاشتراك والشمول والرؤى الجماعية للحياة.
| |
| | |
| ولا غرو إذا أن جاء عصر حركات الإصلاح الإسلامي الشمولية، التي تنتهي إلى منهج إصلاح متكامل مهما بدأت محدودة في وعيها أو قدرتها، والتي يتكامل وقعها العام مهما تجزأت أو تخصتت روافدها التنظيمية ومراحل أولياتها. فلئن بدأت حركة الجماعة الإسلامية بالهند بادئ الرأي فكرية، وحركة الإخوان المسلمين بمصر تربوية، وحركة الخميني بإيران ثورية، وحركة أفغانستان الإسلامية جهادية، وبدأت حركات أخرى سياسية- فالحركة الإسلامية الحديثة بمغزاها ومآلها كلها حركة تجديد وإصلاح شامل تبني على تقاليد الإصلاحية الخاصة التي سنها جمهور من سلف الفقهاء والصوفية المصلحين، ولا تقف عندها، إذ استصحب ذلك السلف صلاح هيكل المجتمع العام وقنعوا بإصلاح خاصة الأفراد أو خصوص العيوب البادية، وإذ لم يتيسر لهم عندئذ من الأساليب إلا ما هو محدود. والحركة الحديثة كلها تعتبر بتراث البناء العفوي الطوعي الذي مكن أسس المجتمعة الإسلامي المتدين عبر التاريخ لكنها في سبيل الإصلاح النافذ تنطوي كلها على استعداد جهادي وتبني على قاعدة تنظيمية. والحركة كذلك ذات هم سياسي وبعد عالمي لا ينفك مشروعها الإصلاحي العاجل أو الآجل عن هدف الدولة الراشدة والأمة الواحدة والرسالة التي تملأ الأرض صلاحًا.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| ==== تطور المنهج ====
| |
| | |
| إذا استقرأنا تاريخ الحركة الإسلامية ب[[السودان]] لنتبين مقاصدها الإصلاحية، نلحظ تطورًا مضطردًا نحو ما هو أشمل. ففي أول عهد التأسيس تناصرت ظروف الغربة عن المجتمع، ودواعي التأمين والسرية، وضرورات المرحلة التي اقتضت العكوف على البناء الداخلي وإعداد عناصر الجماعة والتي لم تجعل للحركة المحدودة الحادثة مطمعًا في أي وقع إصلاحي ذي بال على المجتمع- تناصرت لتجعل غاية الإصلاح العام أو وسيلته تصور وحلمًا.
| |
| | |
| أما في أول عهد الظهور فقد تطورت الحركة من الاقتصار على بناء النموذج إلى بعض الاهتمام ببث الإصلاح، فاتخذت لها أهداف إصلاح جزئي كانت بغالبها اجتماعية المغزي هادفة لتقويم السلوك العام وتطهير المجتمع من سوء الأخلاق. وكما كانت تلك الأهداف محدودة كانت الرسائل محدودة أيضًا قاصرة على الدعوة الخاصة والعامة. وفي عهد [[أكتوبر]] اللاحق وأتت الحركة ظروف الحرية واندفعت بقوة وزنها النامي ودورها في [[الثورة]] لترتاد آفاقًا أوسع ولتتخذ ذرائع أوقع في الإصلاح. هكذا جاء نظامها الأساسي- الذي أعد قبيل ثورة [[أكتوبر]]، وظهر بعدها من خلال دستور جبهة الميثاق الإسلامي- مشتملًا على أهداف أكثف للحركة الإسلامية ، ومتضمنًا في وسائلها- بعد الدعوة والعمل الاجتماعي- استعمال سلطة الحكم والقانون لتغيير المجتمع نحو [[الإسلام]]. ولما تطمع الحركة في المشاركة المباشرة في الحكم المصلح، ولكنها أباحت ذلك في وسائلها المرسومة بعد أن كان القول السائر فيها قبلًا أنها لا تريد الحكم إلا النصيحة لأولى الأمر. ومهما كان فقد سعت الحركة لدفع الحكم نحو الإصلاح الإسلامي بالنصح والضغط السياسي، ووظفته لأجل الضغط وسائل التعبئة الشعبية والحملات العامة. سوى أن الحركة لم تقصد آنذاك بالقانون أو [[السياسة]] إلا أداة إصلاح لسلوك الأفراد وحسن تربيتهم ولما تتصوب بذلك إلى هدف الإصلاح الهيكلي لأوضاع المجتمع. ولم تستعمل الحركة في العمل السياسي الإصلاحي إلا المنافسة الانتخابية والنصيحة والضغط، فلم تبلغ مستوى [[الجهاد]] السياسي الإيجابي لإبطال أركان الفساد وإقامة دعائم الصلاح.
| |
| | |
| أما في العهد الأخير للحركة، فقد تعزز إقبال الحركة بهمها على المجتمع، وتم لها الوعي الاجتماعي وتكاملت فيها الروح الإصلاحية، وتكيفت تربيتها الداخلية لتضيف إلى إصلاح أعضاء الحركة جعلهم أداوت إصلاح فاعلة في المجتمع- نماذج قدورة ودعاة خير وفعلة صالح ومحرضين ومجاهدين في سبيل الإصلاح.وتطور تنظيم الحركة فانبثت في أشكال شتى تتصوب نحو شعاب المجتمع تعيينًا وتتولى أداء وظائف الحركة الإصلاحية تخصصًا. ونضجت مناهج التربية والتعبئة المعدة للجماهير لإصلاح حالها الخلقي والمادي ولتأهيلها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتأثير الصالح على السلطان. وتكثف أسباب التفاعل مع الحكم ضغطًا وأطرًا صالحًا ومشاركة فيه لاستعمال قوته التوجيهية والقانونية ومجاهدة له لحمله على الحق حملا. كما استوت وسائل الإصلاح وتكاملت فتتامت مقاصده وغدا مشروع الحركة الإصلاحي شاملا شمول أغراض الدين. وتمخض كمال الأهداف والوسائل عن اتخاذ استراتيجية موحدة تتبين سمات المثال الإسلامي الصالح ومعالم الطريق إليه ومقتضياته المعينة في واقع الأفراد والمجتمع والدولة، وتكيفت بها سياسات الدعوة والتربية والتنظيم لتفي بمقاصد الإصلاح الشاملة، وترتيب خطط الحركة و[[الجهاد]] لتفي بمهامه المقدرة لآجالها ومراحلها المسماة. وعبر دستور الجماعة الأخير عن شمول الأهداف التي تحيط بالحياة كافة، وعن عموم الوسائل التي بلغت تمامها واستغرقت وسائل التغيير الاجتماعي المختلفة- دعوة وتوجيهًا، وسياسة وسلطة، وقوة وجهادًا لدرء الفتنة والدفع عن الحرية والتمكن الإيجابي بالإصلاح وفق الاستراتيجية المرسومة.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| ==== فقه المنهج ====
| |
| | |
| استمد المذهب الحركي الإصلاحي من جملة مذاهب وتجارب إسلامية، وإن كانت الحركة لم تركن لأي منها تقليدًا. فقد بنت على تراث السلف في الإصلاح وتجاوزته شأن كل الحركة الإسلامية الحديثة التي قدمنا عنها ذكرًا قريبًا. لكن الأصل الأول الذي أخذت عنه الحركة في [[السودان]] إنما هو منهج الإخوان المسلمين بمصر؛ الذي كان حين العهد الأول دعوة إلى الإصلاح الفردي البطيء وسعيًا لبناء الفرد المسلم حتى يتكاثر الأفراد الصالحون فيتألف منهم مجتمع مسلم صالح تنبثق عنه حكومة إسلامية صالحة. وقد كانت تلك المدرسة تري الدين بالطبع شاملًا للسياسة والحكم، ولكنها لا تتوخي الحكم عمدًا وفعلًا في سبيل الإصلاح. وكانت تؤمن ب[[الجهاد]] ولكنها تتخذه في وجه العادين الأجانب لا في الانقلاب على النظام السائد بين مجتمع المسلمين- سوى إشارات كانت تومئ إلى إمكان توجه للجهاد واستعدادات سرية كانت تؤذن بنية مبيتة، بغير اعتماد صريح أو تخطيط ناجز للمنهج [[الجهاد]] ي. ولعل الذي زين للإخوان المسلمين أن يختاروا نظرية التطور الإصلاحي من الفرد إلى البيت إلى المجتمع فالدولة، أمور تتصل بما كان سائدًأ عندئذ بمصر من تقاليد الدعوة والتربية الدينية في المجتمع المسلم التقليدي، وبفرص الحرية المبشرة بأن سيتاح الإصلاح ويؤتى أكله، وبحاجة المجتمع المصري لإصلاح خلقي يطهره من آفات ظاهرة، وباستقرار الحكم وقوته مما لا يشجع على مراجعته كثيرًا، وبمرحلة التأسيس التي تقتضى تمتين القاعدة لحين.
| |
| | |
| وقد كانت كلمات المنهج الإخوان هي ما لقنته الحركة الإسلامية الأولى ب[[السودان]] حين كانت تعول على التجارب والأدب المصري. ولكن حداثة النظام السياسي ب[[السودان]] وانفتاحه على مصائر التطور الوطني ومراحل البناء الدستوري، وحرية [[السودان]] السياسية الواسعة، وروح المنافسة الحزبية الديمقراطية- كل ذلك مما كان معاصرًا لنشأة الحركة- أوحي لها بأن التعبئة الجماهيرية والسلطة السياسية شرط ومطلب لا غناي عنه لكل ذي مشروع إصلاحي في [[السودان]]. وواجهت الحركة القضية صريحة بعد نحو عشرة أعوام من تأسيسها، فترددت بين مقولة «إنا لا نطلب الحكم» التي تحيلها إلى حركة إصلاح اجتماعي خاص أو بالأكثر إلى هيئة ضغط سياسي أيضًا، والمقولات الطبيعية لأي حزب سياسي يسعى للسلطة ليحقق برنامجه. وبعد بضع سنوات من التردد انحسم الأمر على صعيد النظر باتخاذ السلطة مطلبًا، وإن كان القريب الميسور فيها لم يتعد رجال المشاركة، والممكن الممارس منها ليس إلا المشاركة في الانتخابات للهيئة النيابية وتعبئة الضغط السياسي على المتولين للحكم في سبيل بعض الإصلاح. بينما كان توجه الحركة الأكبر نحو ما بسطت من برنامج لتزكية الأفراد ولتحقيق بعض وجوه الإصلاح الاجتماعي الخاص.
| |
| | |
| وقد تعرضت الحركة في ذات العهد الأول النظرية الإصلاح بالعمل في الحياة العامة- ثقافة وسياسة- من خلال الإجراءات الدستورية العلنية. وقد ورد عليها ذلك من الفقه السياسي للإمام المودودي الذي كان يبني على مثل مذهب الإمام البنا في البناء المتطور لكنه يؤكد بعد العمل السياسي وينبذ السرية ويحرص على الانقلاب الإسلامي الديمقراطي. ولا ريب أن ذلك أيضًا إنما زينته ظروف نشأة الجماعة الإسلامية ، إذ اقتضى المنطق التأسيسي ضرورة التركيز أولا على بناء القاعدة وأتاحت الديمقراطية التنافسية والظروف الانتقالية فرصًا للحركة السياسية الحرة. ولما تكن الحركة الإسلامية في مصر ولا باكستان- بمستوى نموها- قد تهيأت للعمل السياسي الشمولي و[[الجهاد]] الانقلابي الكامل إلا بإشارات بعيدة.
| |
| | |
| وإذا انتفعت الحركة الإسلامية [[السودان]]ية بعبرة الاجتهادات الأولى للإخوان والجماعة، فإنها لم تقبلها تقليدًا، بل بنت على مضامينها الإيجابية وتهيأت لتجاوزها، لاسيما بعد ثورة [[أكتوبر]] عهد الحركة الجماهيرية الإجمالية و[[الثورة]] الديمقراطية والثقة المفرطة بالنظام السياسي الدستوري، ثم حين وئدت الديمقراطية عام 1969م وساد نظام الحكم العسكري اليساري الغاشم وبرزت دواعي الاستعداد بالقوة [[الجهاد]] ية. هكذا تطورت الحركة من التربية الخاصة إلى التعبئة العامة- شأن الحركة المصرية، ثم تجاوزت إلى العمل السياسي الديمقراطي السافر- شأن الحركية الباكستانية، ثم إلى العمل السياسي المطلق بما يشمل المشاركة والمحالفة والمجاهدة.
| |
| | |
| وقد وردت إلى الحركة ب[[السودان]] تيارات المدرسة الإخوانية المتجددة التي عبر عنها الشهيد سيد قطب بأثر من ظروف القهر الشديد الواقع عندئذ على الحركة الإسلامية هناك، ومن سابقة ثقافته الاشتراكية والأوربية ذات المضامين الشمولية الجماعية. فقد تبلورت عن كتاباته نظرية إصلاحية كلية ثورية. وهي تبنى على المنهج الابتدائي والفكر الذي اتخذته المدرسة الإخوانية التقليدية والمدرسة الباكستانية، لكنها تعتبر التربية الفكرية التعبدية إعدادًا لطليعة صالحة تقوم لتقوض نظام الفساد وتمكن الصلاح بالقوة، لا بالتكاثر البطيء لأن فتنة النظم الحاكمة الظالمة أشد فعلًا بالعامة من التربية الخاصة، ولا بالديمقراطية لأن القهر هو المتغلب و[[الجهاد]] هو الأمضى في تمكين الدين. ولربما تأثرت الحركة الإسلامية ب[[السودان]] بفقه سيد قطب لتكفكف تعويلها على استصحاب الحرية المأمونة. لاسيما أن الحركة قد تأثرت أيضًا بالحركة الشيوعية المنافسة في [[السودان]] بمنهجها الثوري، وأنها بعد تجربة الحرية الديمقراطية في عهد [[أكتوبر]] قد تبينت مدي زيف الأشكال الديمقراطية في تمثيل إرادة الأمة ووقوعها تحت نفوذ الإرادة الأجنبية.
| |
| | |
| لكن الحركة لم تتقبل تكييف سيد قطب للمجتمع المسلم التقليدي ورميه بالجاهلية وقلة ثقته فيه، ولم تتبع الحركة نهج النخبة الانقلابية المستغنية بصدق إيمانها وجهادها عن جماهير الشعب. وقد أنكرت الحركة قطعًا بعض التطورات اللاحقة للمدرسة القطبية التي أشاعت الاتجاهات الاعتزالية التكفيرية للمجتمع التقليدي اليائسة من كل النظم المتمكنة. ولئن تمكن [[الجهاد]] نظرًا وعملًا في كسب الحركة ب[[السودان]]، فإنها لم تتصوره كما تصورته بعض الجماعات الإسلامية التي ورثت عن الإخوان المسلمين بمصر. فالحركةلا تقتصر على التكوين الفردي لنخبة محدودة، ولا على السرية المطلقة، ولا تستهدف بجهادها ضرب أعيان المتغلبين أو مرافق المجتمع الظالم. ولا غرو أن كان هذا نهج بعض تلك الجماعات، فهي بحكم رد الفعل على القهر الوحشي متشددة عنيفة في مقولاتها ومواقفها، وبحكم السرية متشرذمة محدودة لا تدبر إلا في نطاق محدود لهدف محدود، وبحكم المحاصرة والظلم المطبق قد تتنطع فترفض الإصلاح ترقيعًا وتجزئة وتتشبت بشعار «خذوا [[الإسلام]] كله أو دعوة». ولا عجب أن كان المناخ السياسي المنفتح المتسامح في [[السودان]] لا يقبل ولا يستلزم عنفًا ثوريًا غاضبًا يخرب المرافق أو يغتال الرموز أو يستنكف عن بعض الإصلاح ويعده مساومة وتخذيلًا وخداعًا، بنحو ما أفرزته ضغوط الفتنة المشوهة في المجتمع المسلم أو الفوضوية الرعناء في المجتمع المادي الأوربي.
| |
| | |
| وقد ظهرت في الساحة الإسلامية تيارات شتي ذات مناهج خاصة في طلب الإصلاح. فمنها المنهج الانقلابي الفني البحت الذي بدا أحيانًا من حزب التحرير الإسلامي انفعالًا بالانقلابات العسكرية التي راجت فيالعالم بشهوة ولاية السلطة أو ابتغاء الإصلاح بسذاجة من طريق مباشر فعال. لكن الإصلاح و[[الجهاد]] عند الحركة مشروع أشمل بكثير من أن يحتويه تصور لانقلاب فني ينصب خليفة أو أميرًا صالحًا. ولعل [[الثورة]] الإسلامية في إيران هي الحدث الأكبر في التاريخ السياسي الإسلامي المعاصر. فقد طرحت منهجًا تجاوز كل المنطق [[الجهاد]] ي اليائس من الشعب المعول على قوة السلاح. ولقد كان للمثل الإيراني وقع أو نفوذ كاد يطغي على كل حركة [[الإسلام]] العالمية ويطبعها بطابعه، لولا أن [[الثورة]] أحيط بها من الخارج وانصرفت بالداخل إلى منحي خلافي بين المسلمين. ولئن كان دفعها العام قد عزز حركة الصحوة الإسلامية وأعز الحركة الإسلامية في العالم، فقد كان نهجها الشعبي عبرة ماضية، وبدا أثره بوجه خاص في الانتفاضة الإسلامية في [[فلسطين]] المحتلة. وقد تأكد بأثر [[الثورة]] في إيران فقه التعبئة الشعبية ب[[السودان]] دون أن يدعو ذلك الحركة إلى اتخاذ سبيل القومة الشعبية طريقًا وحيدًا للانقلاب الإسلامي- بما ثبت من أنه حتى حين ينجح في إبطال الباطل لا يفلح في المضي قدمًا وإيجابًا لإحقاق الحق وبناء النظام الصالح. وقد تولد عن المدرسة القطبية تيار غير تيار [[الجهاد]] والعزلة، طور أفكار سيد قطب الكلية عائدًا بها نحو أصول الفكر الاشتراكي. وقد سمي هذا التيار باليسار الإسلامي. وكان له بعض كسب على الصعيد الفكري النظري. إذ اتجه نحو التحرر المغالي من النصوصيات والقطعيات والزهد في الفرعيات والفقهيات وتعلق بمقاصد الدين العامة في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والنهضة الاجتماعية، ولكنه لم يبلور نظرية واضحة لمنهج الإصلاح الإسلامي من وحي التجارب الاشتراكية، ولم يكن له عمومًا في [[السودان]] كبير أثر. ونستدرك فنقول إن مدرسة الشهيد سيد قطب ثم الإمام الخميني ومن وراء ذلك مدارس اليسار من تلقاء الحزب الشيوعي القريب أو اليسار الأوربي الجديد- قد كانت تغشي شباب الحركة الإسلامية [[السودان]]ية، ففتولد تيارات تؤمن بالاستعلاء والاستمازة والمجاهدة الفاصلة أو بجدوى القوة الإيمانية الكامنة في الجماهير أو بقيمة النضال الشعبي والعنف الثوري، لكنها كانت عارضات ما تلبث أو تنطفئ حدتها وتندرج في متن المنهج الحركي العام الذي يعتبر بكل التجارب الثورية والشعبية على قدر بعدها وقربها من روح [[الإسلام]].
| |
| | |
| أما المنهج الإصلاحي للديمقراطية اللبرالية أو الاشتراكية الأوربية الذي حملته الغزوة الفكرية والحضارية، واتخذته بعض [[الأحزاب]] السياسية في سبيل أهداف وطنية أو إسلامية، فقد أثر قطعًا على الحركة الإسلامية في سياسة كيانها الداخلي وحركتها في المجتمع. ومن ثم كان تعويلها المبكر على الانتخابات والحملات السياسية ومشروعات المشاركة في الأجهزة الحاكمة، ونحو ذلك من الممارسات الديمقراطية في سبل تغيير المجتمع وفق رؤاها أو الحيلولة دون تغييره تغييرًا منكرًا في [[الإسلام]] جانحًا ب[[السودان]] نحو المضامين الحضارية للبرالية المادية اللادينية التي لازمت الديمقراطية الغريبة. لكن الحركة بالطبع ما كانت تبنى فلسفتها الإصلاحية الديمقراطية على مفهوم الحرية الإباحية الذي روجته نزعات الإيمان «بالإنسانوية المطلقة»، بل تسعى بتربيتها لتحرير الإنسان وتطهيره من شهوة الهوى وسلطة الغير ليسلم لله وحده. والحركة لا تعول على إصلاح الأوضاع العامة استصحابًا للقدرية المادية التي تؤمن بها شتي الاتجاهات الغربية على تفاوت، بل تقوى إرادة الإيمان في الإنسان ليسخر المادة لمقاصد الخير والصلاح، بينما تصلح أيضًا أوضاعه وظروفه المحيطة لرفع فتنة الباطل ودفعه إلى الحق. والحركة لا تقبل جنوح السلطة الديمقراطية إلى أن تكون مطلقة بشهوة المنفعة مهما كفكفت منها التحفظات الليبرالية، بل السلطان عندها موقوف على حكم الله في مصالح العباد ومحدود إزاء دور الضمير الفردي والعرف الاجتماعي في عمل الصالحات، وايًا ما كانت عيوب الممارسة الديمقراطية حيثما كانت بالنسبة إلى نظريتها، فالحركة تعلم أنها في [[السودان]] أشد زيفًا وأسرع تلفًا من جراء الخليل السياسي الداخلي والتدخل الإمبريالي الخارجي. فلذلك لا تتنكب الحركة للديمقراطية باستخفاف أو غدر، ولكنها لا تتوهم أن الإصلاح كله ودائمًا ديمقراطي المنهج.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| ==== مواقف في المنهج ====
| |
| | |
| من أهم القضايا التي تتناظر فيها المذاهب الإصلاحية المتباينة خيار التعويل على البناء القاعدي لتعميم الإصلاح وتأمينه، أو على البنا الفوقي لتنجيزه فورًا وإنفاذه كاملًا. وفي هذا بدأت الحركة كأنها تعمل بمذهب التركيز على القاعدة الشعبية المزكاة الملتزمة، ثم تطورت لتعتبر ذلك أولوية توازنه وتستكمله بدور حركة التعبئة السياسية العامة ثم بدور السلطان قانونًا وتوجيهًا. هكذا انتهت الحركة إلى توحيد مسالك الإصلاح. فهي تربي الفرد ليكون صالحًا في ذاته مصلحًا لغيره بالمجاهدة الفكرية والاجتماعية والسياسية. وهي تسعى لإصلاح نظم المجتمع ليتهيأ سياق معين للفرد الصالح وليتمهد إطار للسلطة الصالحة. وهي تستعمل السلطة لتبديل الأوضاع السائدة ولترقية الحياة وتوجيه المجتمع وتقوية مبادراته الخاصة لمزيد من الإصلاح.
| |
| | |
| أما في القضية التدرج والفور- حيث تتخذ مذاهب الإصلاح مواقف شتي- فقد وجهت الحركة وواجهت سياسات الإصلاح الوئيدة المتدرجة والفورية الناجزة بمرونة وحكمة. هكذا قبلت ما كان صادقًا من التوسل بالتربية التمهيدية، كما قبلت الدراسات التحضيرية المتثبتة الجادة، وقبلت التطبيقات الجزئية على طريق تطبيق الشرع. لكنها رفضت من التراخي ما هو أشبه بالترجية الكاذبة والتسويف المنافق، وسفهت دعوى تأخير الشريعة حتى تكمل الأخلاق أو تتم الكفاية والعدالة الاقتصادية أو يستتب الأمن والتوحيد الوطني، إذ الشريعة- بمعناها الأعم- نهجًا للحياة- والأخص- حدودًا وأحكامًا هي الشرط التاريخي لتمام الأخلاق والرفاهية والأمن والوحدة؟ وقد كانت بعض مقولات التدرج ضعفًا راجعًا إلى عهد الاعتذاريات والدفاعيات لأيام غربة الدعوة الأولى، وبعضها راجعًا إلى اعتذاريات المرائين الكارهين لمقدم الشريعة. وقد أيدت الحركة التطبيق الفوري لأحكام الشريعة أيام نظام النميري، لأنها رأت الحسم بالأمر الواقع أطع لدابر الضغوط التي قد تقع على الإجراءات المتراخية فتعوقها، ولأنها لم تملك خيارًا حرًا بين منهج متمهل يضمن ثباته اضطردًا نحو الكمال ومنهج فوري جاء فلته من قبل النظام، ربما لغرض سياسي، لكنه إذا فوت لا يضمن استدراكه وقد تستدرك علاته. وواضح أن الحركة تتئد في منهجها لتوطيد قاعدة مكينة، ولكنها لا تبالي بعدها أن تقفز بحركة الإصلاح قفزًا نحو الكمالات.
| |
| | |
| أما موقف الحركة بين التخطيط والعفوية فقد كان متطورًا، إذا كانت تنظر إلى مثال [[الإسلام]] أملًا إجماليًا بعيدًا، ثم نزلت منه إلى الواقع أهدافًا فرعية شتي، كانت تسلك إليها وسائل فرعية كذلك، يجمعها شعار العمل الإسلامي ولا تضمها خطة موحدة. ثم اتسعت الأهداف وترتبت في سياق من الآجال والمراجل وانتظمت في خطة غائية محيطة واجتمعت الوسائل وتكثفت حتى تبلورت مع غاياتها في استراتيجية لجملة تدابير الإصلاح الإسلامي بوجوهه وجوانبه وتراتيبه وطرائقه وآجاله وأشواطه. لكن كل ذلك التخطيط- الذي تقوم على تنفيذه منظومة من تشكيلات الحركة- لم يحولها إلى آلية جماعية صماء، بل بني على استصحاب قدر موزون من الحرية والمبادرة العفوية والاستقلال القطاعي.
| |
| | |
| يتصوب كل ذلك بموجهات العقيدة والشريعة في نفس كل مؤمن فذ أو طائفة من الحركة قائمة على ثغر ووظيفة، وبمرشدات الخطة وأطرها السمحة، فتتسق حركة الجماعة بالدين الموحد.
| |
| | |
| أما موقف الحركة بين الحرية والسلطة فهو موقف وسط، فقد رضيت الحركة بإخلاص بالنظام الديمقراطي التعددى على علاته وقبلت أن يعمل كل على شاكلته في مكانه وبحريته ليتحرر الحوار الوطني وتتقرر المواقف والمصائر في مناخ حر ملح بالسؤال والنقد والتفاعل، حتى تتكون مبادئ الحركة عن تبين واستحقاق، وتتوطد قاعدتها عن قوة وخبرة وفاعلية، في وسط المنافحة والمنافسة بين الحق والباطل وبين صفيهما. إلا أن الحركة تحفظت في السنوات الستين على حرية استغلال الحرية لوأدها. وذلك عندما سعت لحل الحزب الشيوعي السودانيالذي كان عندئذ يجهر بالكفر بالدين والديمقراطية ويسر بتدابير الغدر بها. بيد أن الحركة جهدت في ترسيخ الدستورية الديمقراطية، وأسهمت بفعالية في استرداد النظام الديمقراطي ومقاومة النظام القهري أو تخفيف غلوائه مرة بعد مرة. كما اسهمت في تأسيس المبادئ والنصوص الدستورية لاسيما في أعوام 1967 م و 1983 م. وذلك لأنها تري الديمقراطية ضمانًا لمشروعية البرنامج الإصلاحي وصدقة وفاعليته، لاسيما في بلاد ك[[السودان]] تتنازعها مؤثرات خاريجة لا تريد لها صلاحًا، وتنتظرها إصلاحات كثيرة لا تتأتي إلا بتجاوب الطاقات الشعبية الحرة الأصيلة. بيد أن الحركة تدرك أن نظام الحرية والديمقراطية ليس شرطًا لكل عبادتها وعملها الإصلاحي. فقد وظفت أيامها مع النظام المايوي القهري لصالح العمل الإصلاحي الاجتماعي وتعبئة القوى الشعبية بقضايا الإصلاح وتأسيس النظم الاقتصادية والقانونية الصالحة، سواء في ذلك أيام المعارضة والكبت الغليظ أو المصالحة والحرية المحدودة أو المشاركة الضعيفة في الحكم. هكذا اضطردت استراتيجية الحركة لتغيير المجتمع في كل الأحوال محكومة هي أو حاكمة ومطلقة أو مكبوتة. ذلك أنها تقوم بالدعوة الحرة والعمل العام الطوعي، وبالتدبير السري والمقاومة الصابرة السافرة، وبنصيحة السلطان، بونصيحة السلطان واستعمال السلطة المشروعة، وباللجوء للقوة متي لزم في أوضاع لا تستقر فيها الحرية، من أجل الدفاع عن دين الله وتمكينه في الأرض.
| |
| | |
| وخلاصة القول في منهج الإصلاح عند الحركة أنه وفاق لمنهج بنائها الداخلي وللمنهج العام الذي استوت عليه عبر تطورها. فهو منهج توحيدي لا تتمذهب الحركة بعده تعصبًا لأي منهج في الإصلاح ينزع نحو وجهة دون وجهة، كما تنزع المناهج الوضعية المحدودة بما تزينه الأهواء الخاصة أو تتيحه الظروف المعينة. بل تباشر الحركة مساعي الإصلاح بكل الوجوه حيثما واتتها الظروف وتنشد أهدافه الخاصة والعامة كلما اتفق لها. وكما وجدت الحركة شمولها في وظائف التدين والتنظيم عبر تطور مضطرد تكامل عفوًا واتفاقًا ثم أصبح وعيًا وخطة عامدة، تم منهج الحركة التوحيدي في الإصلاح عن توجه نظري أولى مجمل طورته الممارسات الفرعية المتباركة والتجارب المتنامية حتى تكامل العلم والعمل وتتامت في نظرية الحركة وتجربتها عناصر ذلك المنهج الكلي الشامل.
| |
| | |
| فالحركة تؤمن لها ولسواها بالحرية بيئة صالحة للإصلاح، ولا عبأ بالقهر أن يعوق سيرتها الإصلاحية المصرة المستمرة، وتستخدم السلطة أو القوة لوضع الإصلاح، ولا تستغلها بسوء ولا تعول عليها وحدها، وهي وسط بين عفوية المبادرات الفردية الطوعية المصلحة. لأنها حركة دين خالص، وتخطيطات النظام الملزم- لأنها حركة شريعة وجماعة وغايات إصلاح واحدة. وهي وسط بين التدرح المتثبت بغير فتنة أو إرباك والفور المسارع إلى الصالحات. وهي جمع بين تربية طاقات الوجدان النفسي، لينفعل الفرد بالصلاح ويفعله، وتحريك دفع الحوافز والضوابط الاجتماعية وتأسيس المرافق الاقتصادية والاجتماعية لإشاعة الصلاح في حياة الناس، وبسط قوة السلطان لتجنيد القانون و[[السياسة]] للمصالح العامة. وهي موكب واحد لكل مقاصد الإصلاح الخاصة معنوية أو مادية، والعامة ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، حتى تتناصر ويؤيد بعضها بعضًا ويكمل الكسب الإصلاحي.
| |
| | |
| ولربما تتميز في الحركة تيارات تتجاور- في سياق الوحدة والتوحيد- حول مهام الإصلاح وأولوياته وأساليبه، وتذهب في ذلك مذاهب تتباين ولا تتشاكس، حسب تأويل الأحكام والمبادئ الشرعية وتقويم السياسيات الاجتماعية وتقدير الحادثات والأسباب التاريخية والطبيعية. وقليلًا جدًا ما يتمخض منها اتجاه انقلابي لا يلوى على شيء أو ديمقراطي يصبر على كل شيء ولربما يحكم المرء إجمالًا على الحركة أنها- بتوجهات ثقافتها القيادية ودواعي السماحة [[السودان]]ية- تبدو اليوم في وسائلها أقرب إلى «الإصلاحية التطورية اللطيفة» وأبعد عن الثورية العنيفة. وبعض ذلك- كما سبق ذكره- لازم ديني، فالدين أساسه الحرية والطوع، لا يتأتى بوسائل الإكراه والقوة الظاهرية إلا مقاومة وصدًا للفتنة. وبعضه لازم مرحلي، حتى تتوطد قاعدة شعبية تتقبل الإصلاح وتدعمه، وحتى تتمهد معادلة قريبة مع القوى الداخلية والخارجية التي تناوئه، وحتى تستوي الحال ويحم الأجل. وإنما يحق الخروج الكامل حين تتوافر له شروطه في الشرعية والمقبولية، وأسبابه من القوة والإمكان، ثم متماته من التوكل والتوفيق. أما في غايات الإصلاح فالحركة ذات مغزى ثوري بجذريتها وشموليتها، والحركة في المقصد والمنهج ليست في شيء من التنطع والقطع الذي يعطل حيوية الاجتهاد وحرية التقدير ومرونة الحكم أو يهمل حيثيات الحاجة القائمة وطوارئ الظروف المتجددة مما يستلزمه ويستصحبه القيام برسالة الإصلاح الإسلامي في كل حال أو حين.
| |
| | |
| </div><noinclude> </noinclude>
| |
| | |
| | |
| | |
| == البعد العالمي ==
| |
| | |
| <div class="reflist4" style="height: 500px; overflow: auto; padding: 3px" >
| |
| | |
| *الدين والمكان
| |
| *العلاقات الحركية الإسلامية
| |
| *العلاقات و[[السياسة]] الخارجية
| |
| | |
| === الدين والمكان ===
| |
| | |
| إن الدِّين – بمعنى الحق – هدي رباني أزلي مطلق لا يحده الزمان ولا المكان. لكن الدين – بمعنى التحقيق – إنما هو كسب بشري وسعي للتوحيد بين مثال التكليف الأزلي وحال الِابتلاء الواقع، فهو متأثر بالضرورة بظروف الزمان والمكان. فالدين- من حيث هو تديُّن – كسب حادث تاريخي يبلي بالتقادم ويلزم تجديده كلما تقلَّبت صرُوف الزمان ليتصل أصله عبر المواقف الإِيمانية المتجددة ويدوم جوهره من خلال الصور العملية تعبيرًا عمَّا هو ثابت وتكييفًا لما هو مرن من معانيه وأشكاله. وكذلك يُحاصر التدين بالمكان إطارًا لإِقامته في الأرض مسرحِ الخلافة والتمكُّن. لكنه ما يتمكَّن بفاعليته في ناحية إلا وجب أن يمتد في سائر الأرض. فهيئة التديُّن العصرية والمحلية ضرورة تحققٍ في الواقع الظرفي. لكن جموده في تلك الهيئة عصبية تحجبه وتقطعه، حتى يتجدد في الزمان ويتمدد في الأرض ليكون أبديًا عالميًا.
| |
| | |
| وكما كانت الرسلات الأولى المتعاقبة ضرورة تحقق وتمكن بخصوصيتها، وضرورة ديمومة بتعاقبها، كانت القومية فيها تمهيدًا لعالمية في الرسالة الخاتمة. وكانت عالمية الرسالة الخاتمة ذاتها متحققة عبر مراحل: من إنذار العشيرة الأقربين، إلى خطاب أم القرى وما حولها، إلى هداية دولة التوالي والمهجر في المدينة، إلى تذكير العرب كافة ومَن حولهم، إلى الاندياح العالمي القديم والمتجدد إلى يومنا هذا، مرحلةً بعد مرحلة.
| |
| | |
| ففي دين التوحيد يلزم التوازن بين المرحلية الزمانية والاتصال الأبدي، وبين المحلية المكانية والامتداد الأرضي، أو بين النسبية حسب ظروف الزمان والمكان والمطلقية خلودًا ووجودًا. وبمصطلح آخر يمكن أن نقول: إن الدين توازن وتوحيد بين حرية تباين هيئات التدين ونظام وحدة الدين، أو بين الواقعية والمثالية، أو بين الإِمكان والإِحسان، أو بين التجدد والأصالة، أو بين التمحور المكاني والطلاقة العالمية. ويكمن الابتلاء في مراعاة هذا التوازن بوجوهه جميعًا، وفي التماس الوحده من خلال ازدواج المعاني. وكما يولد الآدمي من زوجين، يولد التدين من بين هذا المأزق والازدواج. فمن فرَّط في ربط التكليف بالابتلاء الواقع في الزمان أو المكان المعين لم يحقق دينًا فعالًا. ومن أفرط حصر تدينه بالجمود أو العصبية. ومن فرط توخى المثال التوحيدي انحط عن مقتضى الدين. ومن أفرط أرهق تدينه وعوقه. هذه هي النظرية الزمانية والمكانية للدين.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === العلاقات الحركية الإسلامية ===
| |
| | |
| '''تطور العلاقات'''
| |
| | |
| كانت العلاقات الحركية الإسلامية أُولى صور البعد المكاني الذي تجاوز المحلية إلى العالمية من حيث النظر والعمل. فقد عوَّلت الحركة لانبعاثها الأول على ورود تيار إسلامي عالمي، قدِم عليها من مصر باسم (الإِخوان المسلمين)، وطرح تصورًا للدين شاملًا وحركيًا ونموذجًا للجماعة المتدينين المؤسسة على تزكية الأعضاء وتنظيم الصف. وكان التعبير عن الدين في ذلك بمستوى من التجريد قريبٍ من الأصول الإسلامية الكلية الواحدة. ولذلك تيسر للنمط أن يعبُر الحدود والظروف الإِقليمية المصرية إلى [[السودان]]. ولكن هذا الوارد العالمي وافي وعزَّز مبادرةً محلية سودانية أصلية، انبعث بها الدين حين استفزه الباطل الليبرالي والشيوعي في الوسط الطلابي. وكانت تلك المبادرة الطلابية هي (حركة التحرير الإسلامي) التي تكونت عند آخر السنوات الأربعين. وتمثلت الصلة العالمية تجاه الحركة في مصر في العلاقة الفكرية والاعتبارية بأقوى مما تمثلت في صلة عضوية مباشرة، شأن سائر الحركات الوطنية واليسارية التي تأثرت بوارد مصري آنذاك. والبادئة الطلابية هي التي سادت وقادت في لاحق تاريخ الحركة، وامتدت تلقائيا عبر [[السودان]] فروعًا وشُعَبًا آتية على بعض الشُّعب التي أسسها قادمون من مصر فروعًا مباشرة للحركة هناك. وقد وقع من بعدُ شئ من النزاع بين الحركة الطلابية المنشأ [[السودان]]ية الأصل والحركة الشعبية المنشأ المصرية الانتماء والتلقي. ثم طُوى النزاع لتكون الأولى هي الوارثة ولتحمل اسم(الإِخوان المسلمين). ولكن بعض الرافد العالمي لحركة [[السودان]] ورد من مصادر غير مصرية. فقد استرفدت الحركة بالأدب الحركة الإسلامي للإِمام المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان وبالكتابات الإسلامية القادمة من المغرب والمشرق العربي.
| |
| | |
| ثم أخذت السمة المحلية للحركة تتوطد مع تطور تفاعل الحركة بالواقع المحلي الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي – لقدًا وحوارًا ومنافسةً وتعاونًا ومقاومًة وتقويمًا. لذلك تأصل فكرها انفعالًا مع الواقع الشعبي والسياسي والتاريخي للسودان. وتأصلت المناهج الدعوية والحركية مع بيئة [[السودان]]. وزاد مدى حرية الاجتهاد المحلي الخاص بالحركة مع زيادة فاعليتها وتفاعلها في ظرف الابتلاء السودانيالمعينَّ. واتسع مدى تباينها مع الحركة في مصر وغيرها، إذ تضاعفت السمات الخاصة المكانية وتعاظم الكسب الديني المتميز.
| |
| | |
| وخلال السنوات الخمسين والستين تجمدت الحركة الإسلامية في مصر وغالب البلاد العربية من جراء عوامل سياسية وذاتية، وتخلفت الحركة في مواقع عالمية أخرى لصالح تيارات يسارية ووطنية، بينما ظلت الحركة في [[السودان]] حية تنمو. وحينما طُرحت فيما تعد وثارت في وعي الحركة عالميًا مسائلُ التميُّء المحلي والتوحيد العالمي – أو نظريات العلاقة العالمية – انتبه الإسلاميون للمدى الواسع من التباين بين التجارب القطرية في المقولات النظرية والصور التنظيمية والمناهج الحركية. وعرضت شتى صيغ لنظام العلاقات بين التنظيمات الإسلامية المحلية. وقامت مناظرة واعية بين دعاة المحلية من أجل فاعلية تمكن الدين ودعاة العالمية من أجل وحدة الدين، وبين شبهة العصبية والتفريق للأمة بالمحلية المنغلقة وشبهة التسطيح للدين والتهميش لأهله بالعالمية المهيمنة. وكانت المناظرة – على وجه الخصوص – متوترة ومشوبة برواسب قومية بين المركزية المصرية العربية والمحلية [[السودان]]ية، ولا أضيف الإِفريقية.
| |
| | |
| مهما كان فالعلاقات – في مراحلها الأولى حوالي السنة الخمسين – تمثلت في اتصالات عفوية بين قيادات مصرية وسودانية، غالبها بغير تدبير نظامي أو صيغة مرسومة. فمن جانب تمثلت في مجموعة الأستاذ على طالب الله – رحمه الله –التي كانت تنتسب إلى الجماعة الأم في مصر، وفي طلاب سودانيين وفدوا إلى مصر والتحقوا بالإِخوان المسلمين. ومن جانب آخر تمثلت في تزاور بين الحركة الطلابية ب[[السودان]] والحركة بمصر، وفي مشاعر انفعال بالأخوة الواحدة دون أدنى وعي بالاستقلال من جانب [[السودان]] أو الاستتباع من جانب مصر. وكانت العلاقة الأوثق في اعتماد الأدب الإِخواني المصري مرجعًا والتجربة نموذجًا، فمصطلح الدعوة والتنظيم بغالبه كان على المثال المصري. وقد استمرت الاتصالات القيادية، وتسمَّى رأس الحركة ب[[السودان]] لحين (مراقبًا عامًا) على نهج تنظيم الإِخوان المسلمين الفرعي العالمي، لكن التأطير لعلاقةٍ تنظيميةٍ رئاسيةٍ لم يكن واردًا. ثم طُرحت القضية صريحةً في السنوات الستين، وتهيأ إطارٌ للعلاقة في قيام ( مكتب تنفيذي) مشترك للإِخوان المسلمين قاطبة شارك فيه [[السودان]]يون لكن على أساس أنهم لا يلتزمون ولا يُلزمون إلا تنسيقًا وتعاونًا طوعًا بين التنظيم [[السودان]] المسبق وسائر التنظيمات الإِخوانية الملتزمة. وشاطرهم في ذلك الموقف إخوة العراق. ولكن وطأة المحنة التي كانت تحيط عمومًا بالحركة الإسلامية في البلاد العربية، ودفع العلاقات الحركية الوثقية، حفظا علاقة وفاقٍ مجدية في ذلك الإِطار الجامع.
| |
| | |
| ولئن كانت المرحلة الأولى في الأولى في العلاقات عفوًا، والمرحلة الثانية وعيًا بنظام العلاقة فقد جاءت المرحلة الأولى في العلاقات عفوًا، والمرحلة الثانية وعيًا بنظام العلاقة، فقد جاءت المرحلة الثالثة للسنوات السبعين مرحلة خلاف؛ إذ خرج القادة الإِخوان المصريون وعرضوا على [[السودان]] وسواه الرجوع إلى علاقة توحيدية تضع التنظيمات في مختلف الأقطار بل الأمصار موضع الشٌّعَل التابعة رأسًا للقيادة بمصر وفقًا للأئحةٍ تنظيميةٍ متقادمةٍ. ومهما كان المرشد المرحوم الهضيبي مبديًا زهده وعجزه أن يتمكن من ولاية أمرٍ عالمي، فقد رفضت القيادة المصرية مشروع تأطيرٍ للعلاقة صدر بعد موسم الحج عام 1972م وجاء بنهجٍ توفيقي بين نظرية الإِلزام العالمي والاستقلال القطري، بما يحفظ أصل الاستقلال المحلي الواسع ويوحد وظائف مركزية محدودة ويجعل شئونًا أخرى رهن التشاور المسبق، رجاء أن يتعزز التوجه نحو معادلة أوثق توحيدًا في المستقبل. ولقد اعتُمدت فيما بعد مشروعات أخرى أحفظُ للكينونة الفطرية من اللائحة المتقادمة، ودون ما كان يتطلبه الإِخوان [[السودان]]يون. ومن أسفٍ ذلك التطور آذن بعهد من المفارقة. إذ أخذ التنظيم العالمي للإِخوان المسلمين بالقيادة المصرية يشترط البيعة والاندارج التنظيمي الكامل، ويعبَّر عن ضيق شديد جدًا بالتباين بينه وبين [[السودان]] في الأفكار والمناهج الحركية، ثم عمد – حين انشقت طائفة محدودة عن إخوان [[السودان]]- إلى ضم المنشقين. وبذلك تأسست القطيعة بل تطورت من بعدُ في الثمانين بالإِصرار على عزل [[السودان]]يين من التنظيميان المنسَّقة والموحَّدة في مواطن الاغتراب بالبلاد العربية و أوربا.
| |
| | |
| من جانب آخر تطورت العلاقة الثنائية بين الحركة الإسلامية والحركات الأخرى المنضوية تحت الإِخوان المسلمين وغيرهم في البلاد العربية والآسيوية والإِفريقية والأوربية، وأصبحت من أكثف العلاقات الإسلامية العالمية. ولعل مرد ذلك- من بعد نزعة الفطرة المؤمنة للأمة الواحدة- إلى كون الحركة في [[السودان]] ذات أفق عالمي رحيب وذات التحام وثيق مع تحديات عالمية المغزى. وربما كان ذلك أيضًا من أن [[السودان]] بطبيعته لا ينطوي على روح وحدة أو عصبية قطرية أو قومية. ثم أو نمو الحركة زاد من حاجتها وقدرتها لأن تتخذ بُعدًا عالميًا تستعين به وتبسط ذراعًا عالميًا تؤثِّر به.
| |
| | |
| وقد انساقت هذه العلاقات الثنائية العامرة عبر ثلاث وسائل: الأولى طلابية. والطلاب كانوا روادًا لأغلب كسوب الحركة الإسلامية . فكان من كسبهم لعالمية الحركة أن نشطوا في بريطانيا وأمريكا وأوربا في تأسيس جمعيات واتحادات وحركات إسلامية طلابية، وأن كان لهم دور في عقد الصلات مع شخصيات وعناصر وحركات كانت تزور أوربا وأمريكا أو توجد فيها، وأن أسهموا من خلال بسط أفكارهم وتجاربهم [[السودان]]ية في تأسيس حركات إسلامية لأول مرة بين طلاب بعض البلاد الآسيوية والإِفريقية، منهم من رجع بها إلى الوطن لتزدهر هناك. وقد كان اتصالُ الطلاب [[السودان]]يين بسائر الطلاب العرب والأفارقة والمسلمين عامة أكبرَ قناة لنشر تجربة الحركة الإسلامية [[السودان]]ية في العالم. وكان نشاطهم عاملًا مقدرًا في حركة البعث الإسلامي في أوربا وأمريكا بين المهاجرين والمغتربين الوطنيين من المسلمين.
| |
| | |
| القناة الثانية كانت في حركة اغتراب [[السودان]]يين في سبيل الأمن والعيش بالبلاد العربية البترولية وغيرها. فقد اتصل أولئك المغتربون بالعناصر الوطنية في تلك البلاد ونقلوا تجارب العمل الإسلامي السودانيوعقدوا علاقات تعارف وتعاون نفعوا بها حركة [[الإسلام]] هناك وعادت بالنفع على الحركة ب[[السودان]]. وكانت القناة الثالثة هي تنظيمات الحركة المتخصصة . وقد كانت حرية بعض هذه التنظيمات في الامتداد الخارجي أوسع، بما لوظائفها الخاصة من مغزى محدود لا يثير ريبة في التقبل أو التعامل. فالدول لا تبالي والشعوب لا تحاذر من منظمة طلابية أو نسائية أو دعوية أو خيرية أو اقتصادية تمتد وراء حدودها أو ذات بعد عالمي تتصل بنظيراتها أو تؤدي خدماتها أو تلتمس الدعم العالمي. ومثل هذا الاتصال – مهما كانت أغراضه المباشرة محدودة- سببٌ لتمهيد علاقات ذات معنى أوسع وجدوى أنفع لصالح حركة [[الإسلام]] ووظائفها العامة.
| |
| | |
| أما القناة الأساسية لعالمية الحركة، فقد كانت في الاتصال المباشر من مركزها القيادي نحو العالم الإسلامي تراسلًا وتزاورًا وائتمارًا عالميًا. وإذا رتبنا مغازي هذا الاتصال حسب القوة، فيمكن أن نذكر أولًا ما كان منه اتصالَ أخبار فالحركة الإسلامية في [[السودان]] بكسبها ووقعها العظيم تجاوزت [[السودان]] بإشعاعها، وانتشرت أخبارها وأصداؤها في الصحف الإسلامية وسائر وسائل الإِعلام العالمي، وانتقلت أنباء مواقفها من القضايا الإسلامية عامة، فغدت قريبة جدًا من الإسلاميينفي كل مكان، لأن المسموع منها كثير جدًا، ولأن في نموذجها الحركي مُتأمَّلًا ومُعتَبرًا، إذ حققت بالفعل أثرًا إسلاميًا كبيرًا بالقياس إلى أخواتها، وبسطت قضايا جديدة مثيرة في الفكر والتنظيم والعمل تستفز الإِعجاب أو الإِنكار. ثم أصبح الاتصال بالحركة اتصال اعتبار. إذ غدت قدوتها منتصبة أمام الإسلاميين، وتأثرت بها عناصر في حركات كثيرة خاصة في إفريقيا، وامتدت عبرتها وراء ذلك، لاسيما في مرحلة استوائها حين برزت تجاربُها المتميزة في مجال العمل الطلابي والنسائي وفي منهج التنظيم ووسائل التعبئة الشعبية والتحرك السياسي وفي الكسب الاقتصادي والثقافي والدبلوماسي. وقد كان من علاقات الحركة ما هو استنصار، استدعاءً للتأييد والتضامن الإسلامي أو إسداءً.
| |
| | |
| وقد استفادت الحركة من علاقاتها الإسلامية العالمية تعزيزًا لمشاعر الأخوَّة مع الأمة عامة والاتحاد بوجه خاص مع الحركة الإسلامية العالمية عبر الأقوام والأقطار، والانفعال بشتى القضايا والأحوال والتطورات التي تعني [[الإسلام]] في الساحة الدولية. وقد تلقت الحركة دعمًا من إخوان الدعوة و[[الجهاد]] لمشروعها الإسلامي المحلي يما قدموا من القدوة والتجربة، وبما أسدوا من المناصحة والمشورة، وبما أدوا من المناصرة بالدعاء المرفوع والكلمة المنشورة، وبما أعانوا بالمال المبذول والخدمة الميسورة. وقد أعطت الحركة من جانبها نصرة معنوية ومادية للمستنصِرين والمستضعَفين من الحركات الإسلامية المُمتحنة، وقدمت نصحًا وأهدت تجربًة وبذلت عونًا للدعاة والمجاهدين السالكين على طريق لانبعاث والتجدد والانتهاض الإسلامي في العالم قاطبة.
| |
| | |
| وقد تمثل أخذُ الحركة وعطاؤها بالعلاقات الإسلامية الخارجية خيرَ تمثيل في ثنايا علاقاتها التاريخية بالإِخوان المسلمين في الشرق العربي وبالجماعة الإسلامية في باكستان وبسائر الحركات الإسلامية في آسيا وإفريقيا وأوربا. فكانت لأول أمرها تأخذ ثم انقلبت تعطي أكثر أو تكافئ. ولكن أسرار توحُّدِ الأمة وتلازم الظاهر الدينية وتداعي نهضات [[الإسلام]] وتعاضدها عبر المكان تجلت بقوة حين [[الثورة]] الإسلامية في إيران ثم [[الجهاد]] الإسلامي في أفغانستان. ففي ذلك بادرت الحركة تُظاهر [[الثورة]] بتأييدها وتنصر المجاهدين وسعها باليد واللسان. ولكن ما عاد للحركة من جراء ذلك الاتصال كان أجلَّ بكثير مما أعطت. فمهما استغرقت [[الثورة]] أهلها أو [[الجهاد]] أهله أن يجاوبوا مددًا بمدد، فإن المثال والعبرة في ثورة إسلامية تتصدى لمهام التحرير والتطهير بقوة [[الإسلام]] الشعبية في وجه أعتي التحديات الطاغوتية، وفي جهاد إسلامي يتصدى بالقتال لحكومة باطشة تمدها حشود دولة عظمى ذات جبروت. إن مثال التصدي وعبرة الانتصار لمما يُلقى في نفس كل مسلم موصول ثقًة بقوة الإِيمان وتوكلًا على الله القوي العزيز. وقد نال الحركة من ذلك خير كثير تأيدت به في مجاهدتها المحلية وتبينت بركات الوحدة الإسلامية .
| |
| | |
| '''منهج العلاقات'''
| |
| | |
| لما طُرحت بوعي قضية العلاقات الحركية العالمية، اتخذت فيها الحركة موقفًا، فلما دار حوله الجدل تحررت حيثياته الفقهية. وكانت الحركة تؤصل موقفها بما سبق من سنة تدرُّج الرسالات من القومية إلى العالمية، ومن مرحلية تطور رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث للناس كافة، ولكنه لم يؤمر بالسياحة في البسيطة قاطبة لينشر الدعوة فيها رقيقه، وإنما أوصى في بسط الدعوة بخطاب الإِطار المحلي الأقرب فالأقرب، دون تجوز ولا تحيز؛ عشيرته، فأهل مكة، فالعرب، فمن حولهم. وأوصى في تطبيق نظام الدين ببناء المركز الأمكن في المدينة، تقتصر ولايته على المؤمنين المهاجرين إليه دون غيرهم، وتؤسس فيه قاعدة للدين متينة منيعة، ثم تمتد لتتوطد في جزيرة العرب قاطبة، ثم تنداح بالدعوة المرسلة سبِّاقة إلى سائر تخوم الأرض تتلوها الفتوح والدولة المتمكنة وتتابعُ تحت لوائها وولائها الأقوام والأقاليم. بل إن دار [[الإسلام]] الوسيعة الموحدة لم تؤسس عن مركزية مطلقة، وإنما روعي فيها تباعُد الأقاليم وتباينها، وتُركت الأمصار تستقل بمذاهبها الفقهية دون نمطية رسمية قاهرة وبولاتها وزكواتها مع حفظ مركز الوحدة والإِمامة. بل دعت ضرورات الواقع الإِقليمي والسياسي أحيانًا إلى الاعتراف بمشروعية تعدد الأئمة.
| |
| | |
| هكذا نجد أن الإِيمان الفاعل – وهو الهدف – مُقدم على الوحدة التامة، وهي وسيلة موقوفة عليه. وقد يلزم فبفضله يتحد ما كان قبله مفرقًا، ولأنها وسيلة وثمرة من الإِيمان كانت فرضًا وسمة للمؤمنين، فمغزاها أن تنحشد الفعاليات الإِيمانية بأوسع مدى في الإِمكان وأوقع أثر من التمكن، ثم أن تنفتح لاستيعاب سائر أهل التوبة إلى الإِيمان ، ثم أهل الفطرة القابلين للإِيمان من البشر. والحكمة كلها في التوفيق المرحلي بين التمكن الواقعي والوحدة المثالية. فتصويب الخطاب الديني أولًا إلى واقع محلي معين أبلغُ في الدعوة. وتكوين الجماعة الدينية أولًا في محيط محدود أحكمُ في التنظيم. والبدء بأساس من الدعوةِ المؤثرة والجماعةِ القوية شرطُ ضرورة للبناء الإسلامي الممتد. وقد يكون ذلك الترتيب أيضًا هو وَحده المستطاع حسب إمكانات واقع الدعاة، أو هو حدُّ المأمون في وجه ابتلاءات التعويق والكيد في الطبيعة والمجتمع. فتباينُ ألوان الخطاب الديني ولامركزيةُ الصف المسلم من ضمانات نشوء حركة إسلامية فاعلة آمنة في كل موقع محلي متميز. وقد يدرك المرء حكمة السيرة الإسلامية الأولى الاعتبار المحلي، حين يلاحظ كيف تتباين صور خطاب الدعوة وخطط الحركة اليوم حسب العلة والحالة الدينية في كل مجتمع قطري معين، وحسب ثقافته وتراثه، وحسب تركيب القوى العاملة في ساحته والأوضاع المادية أو السياسية في حياته، وكيف يتعسرِّ على الدعاة أن يبلِّغوا إلا بلسان قومهم، أو يطرحوا من القضايا إلا ما يعني واقعهم، أو يؤثروا إلا بالالتحام الوثيق بمجتمعهم، أو يجدوا أمنًا وحرية في العمل الإسلامي عبر الأقطار.
| |
| | |
| وقد راعت الحركة الإسلامية ب[[السودان]] مع وحدتها اعتبار المحلية لضمان الفاعلية في نشاطها. فهي تلاحظ محليات [[السودان]] ومناحي حياته المتميزة، وتتخذ في كل منها قملًا إسلاميًا ذا ولاية واستقلال نسبي، ليختصَّ بالثغرة التي تليه، ويكيِّفَ المقولات الدعوية والمناهج التنظيمية والحركية بما يناسبه، مع حفظ الأنماط الكلية المرعية في كل [[السودان]]. أما القوميات المغتربة في [[السودان]] من غير أثله لاجئةً لطلب العلم أو العيش أو الأمن المؤقت، فإن سياسة الحركة معها أن ترعاها حق رعايتها، على أن تحفظ لها اعتبارها القومي واستقلالها الحركي الذاتي لتتفرغ لهمومها الخاصة عاجلًا ولتتهيأ للاستجابة المخصوصة لتحديات بلادها آجلا، مما لا يتأتى ولا يؤمن بالاندماج في نظام الحركة [[السودان]]ية إلا تنسيقًا وتعاونًا وتوحيدًا لبعض المناشط مما تستدعيه الإِقامة في مواطن مشترك.
| |
| | |
| وقد لا تكون المناظرة بين المحلية والعالمية عن تقدير فقهي محض. فلعل الحركة الإسلامية ب[[السودان]] لم تبرأ في توجهها المحلي من بعض الانفعال حين منشئها بروح الاستقلال الوطني بل بتاريخ [[السودان]] المسلم المنزوي شيئًا ما عن محو النشاط الإسلامي العربي ولعل الحركة في مصر أيضًا لم تبرأ حين منشئها من الانفعال بذكري الخلافة المضيِّعة وحين ازدهارها بمحورية مصر عامة ورائديتها للصحوة الإسلامية . ولعل الحركتين لم تبرءا معا من عدوى التوتر السياسي [[السودان]] المصري الناعم.
| |
| | |
| ولكن الحركة [[السودان]]ية لا تنشغل ولا تنحصر بالوقع المحلي عن آفاق العالم، اهتمامًا بأمر المسلمين بل بأحوال العالم، وإدركًا أن العالم غدا رقعة واحدة وثيقة الاتصال. فكما عُنى المسلمون في مكة وهم في قلة وذلة بأن تغلب الروم أو الفرس، وفي المدينة باستصراخ المستضعفين في مكة،وكما مدَّ المسلمون الأوئل – وهم محصورون – نظرهم وأملهم نحو مرامي الدعوة والفتح وراء الجزيرة العربية، فإن الحركة في [[السودان]] ما كان لها – إيمانًا بعالمية الرسالة الدينية التي تنزع نحو المطلق ولا يحتويها ظرف المكان، وبوحدة الأرض التي وضُعت وسخرت للأنام وأتيحت لمسعاهم بالحق والنفع ولابتلائهم بالخير والشر – ما كان لها إلا أن تتجه نحو العالم باهتمام، رجاءً وخيفةً وأن تُقبل عليه مسلمًا وكافرًا. وليست هي في شيء من الغرور بالعصبية الوطنية أو من الجهالة بمغزى البعد العالمي. بل إن سائر بنى وطنها المركب الطبيعة قد سلموا من العطب بقومية أو الانغلاق في وطنيةٍ وأولعوا بتتبع شئون العالم والتفاعل مع ظواهره وقُواه.
| |
| | |
| هكذا ذهبت الحركة إلى مذهب التوازن بين المحلية والعالمية أو الخصوصية والعموم ، وإلى أن الوحدة المتمثلة في العالمية والعموم هدفٌ لا يٌبلغ بالقفز إليه رأسًا، بل يُقارب بالمجاهدة المتقدمة في المراحل المترقية في المقامات بدءًا من المحلية والخصوصية، على مثل ما يبدأ الدين في كل شأنه من المبتدأ القاصر ثم يتقدم ويترقى تدرجًا نحو الكمال. ولذلك لم تَقبل الحركة نظام التبعية والبيعة المركزية منهجًا أوليًا لعلاقات الحركات الإسلامية . ولئن كان في مصطلح «البيعة» بأصله سعة ونسبية، فإنه حين يُطلق في هذا السياق إنما يستعمل قياسًا على البيعة السياسية التامة لإمام متمكن السلطان، وذلك أمر غير متحقق بالطبع، إلا أن يُعدل بالقياس إلى تقاليد بيعة الهيئات الصوفية والحركات [[الجهاد]] ية غير المتمكنة. ومهما يكن فإن تاريخ المسلمين قد اكتف مصطلح البيعة بمعاني الإتباع والطاعة والتسليم لمحور شخص واحد. وغالبًا ما أوحى ذلك بأن الأمر كله إشارة من الإِمام دون شورى من جماعة الأتباع. بل غالبًا ما زُين لواحد بايعه طائفة من الناس أن يُضفى على ذاته شرعيةً مطلقة يًرمى من لا ينخرط فيها بالمروق والبغي.
| |
| | |
| وقد انتهت البيعة الكبرى ذاتها إلى وضع اختلَّت فيه عناصر الوحدة بين صور الدين الفعلي والمثالي، فأصبح الخليفة المبايَع رمزًا منصَّبًا على خواء عاطلًا من أسباب الوحدة المؤثرة، ولم يبق له إلا أن تُضرب باسمه السكة ويُدعى له على المنابر. ولقد بدأت سنة البيعة في الحركات الإسلامية الحديثة تقليدية ومحدوده، ثم تقومت من بعدُ بالشورى. لكنها حين طمحت نحو العالمية عوَّقها تباعدُ الواقع وتباينه وخذلها العجز عن التمكن, فعادت في بُعدها العالمي رمزيةً لا تُمثل محور توحيد فكري أو عملي فعال. ولرُبما يزُين اتخاذ الرمز ولو كان غير فاعل حفظًا للمثال ورجاءً وأملًا. ولكن الحركة الإسلامية ب[[السودان]] آثرت العدول إلى مصطلح (الالتزام) لا (البيعة) لاتقاء ظلال المعاني التقليدية ولحين استيفاء شروط التمكن، ورأت الالتزام المركزي الشامل اليوم اعتسافًا للمراحل وجنوحًا بالتوازن بين الوحدة والفعالية إلى ما يُوقع خللًا ويُحدث ضررًا بالتدين المحلي. فالحركة الإسلامية في العالم أًولى في هذه المرحلة بأن تبقى فكرًا واحدًا مشتركًا دون إلزامًا، وتجربة واحدة تتجاوب دون تقليد، وجبهة تتناصر دون رهق أو حرج.
| |
| | |
| لذا اقترحت الحركة منهجًا للعدل بين التركيز المحلي – تمكينًا وتأمينًا بغير تعصُّب- والامتداد نحو الوحدة الإسلامية العالمية بغير تسيُّب. وأرادته تنسيقًا وسطًا بين الانقطاع الاندماج الفوري، وأعلى من مجرد التعاون العفو الوارد بين أي جهتين، لخصوص علاقة الحركات الإسلامية . فالتعاون درجةٌ قد يلحظ فيها الطرفان شرط تكافؤ المعاوضة واستواء المنافع العائدة إليهما، ولكن ما يبذل المسلم لأخيه مبتغيًا وجه الله عملُ يُجزى عنه عاجلًا أو آجلًا من حيث لا يحتسب، وما مد المسلم أخاه بقوة إلا عادت إليه حتمًا ولو بوجه غير مباشر، من تلقاء فطرة المسلمين الذين يدعون بالخير بعضهم لبعض ويتداعون بالنصرة ويتراؤون بالقدوة، ومن تلقاء فطرة الوجود التي تتلازم فيها ظاهرات الحق وتتحد مصائره في وجه اجتماع الزاهقات من الباطل. فمن خلال المنهج التنسيقي يتحقق التعارف والتناصح الوثيق ويتم تبادل التجارب الحركية وتنعقد أسباب التعاون والتناصر. وقد طورت الحركة علاقة التنسيق من مستوى التفاهم العارض إلى الاتفاق الثنائي الموثق مع حركات كثيرة – مما يشتمل على عهد ملزم يهدف لتوثيق الصلة وتعزيز التعاون في مجالات شتى، ويتوسل إلى ذلك بالاتصالات النظامية تراسلًا أو تزاورًا وباللقاءات الدورية بين القيادات أو القطاعات المتضاهية أو اللجان المشتركة أو بتأسيس ما تيسر من الأعمال والمرافق الموحدة. وذلك كله بقنوات اتصال حر دون وحدة عضوية تنظيمية أو مبايعة مركزية. على أن الحركة تؤمن بأن ترتفع بمعادلة التنسيق الثنائي المرحلي المرن نحو مثال أقرب إلى الوحدة كلما واتت الظروف وتقدمت المراحل. دون تبطئة يثقلها التدابر بالعصبية والتخاذل عن حق الأخُوة الإِيمانية، ودون تعجل يجر إلى التوتر والشقاق والإِضرار بواقع التدين.
| |
| | |
| وحين عمرت علاقة الحركة الثنائية بالحركات الإسلامية على نحو ما تقدم، وتعاظم هم الحركة العالمي، دعت الحركة وسعت لإِقامة مؤتمر عالمي دائم للحركة الإسلامية ، وقدرت أن ذلك المشروع تجسيد وتطوير لمفهوم التنسيق، لأنه ينبني بتدبير نظامي ثابت على صعيد جامع ينتظم العالم متجاوزًا للدائرة الإِقليمية العربية وغيرها. وتصورته الحركة توفيقًا بين شتى الاعتبارات، إذ يراعي تعددَ صور الاستجابة الإسلامية في العالم اجتهاداتِ رأي وأنماطِ تنظيم وتشكيل بسبب اختلاف الرؤى أو تباين واقع البلاد، كما يحاصر دواعي الانقطاع والتباعد الإِقليمي والتجافي بعصبية الولاءات التنظيمية. ومهما كان الانتماء نظاميًا راتبًا يتيح محورًا للتعارف والتعاون والتفاعل في شتى الأطر والمجالات، فإنه غير إلزامي، لا نؤسس على علاقة رئاسية مجبرة كابتة، إلا أن يتمخض التشاور الائتماري عن إجماع والتزام. وقد اقترحت الحركة أن يضم المؤتمرُ الحركات العامة والتنظيمات الوظيفية المتخصصة والشخصيات من كل إقليم بكل لغة عالمية، ولو تعدد وتمايز المشاركون من البلد الواحد.فلا بأس بالتعددية ما دامت الأسرة المؤتمرة كلها تجديدية النزعة جهادية المسعى شمولية التصور تؤمن بالتزكية الفردية الصادقة والتنظيم والعمل الجماعي الملتزم. هذه صورة تنسيقية جماعية سمحة تتسع لرؤى الحركات الإسلامية كافة ولا تكلف أيًا منها ما لا تقبله أو تطيقه، وتنفتح نحو علاقة توحيدية مرجوة بين الأمة الإسلامية .
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === العلاقات و[[السياسة]] الخارجية ===
| |
| | |
| '''الهم العالمي الإسلامي'''
| |
| | |
| لقد استتبع الصحو الديني والانتماء الجماعي- لمنشأ الحركة الإسلامية في منتصف هذا القرن الميلادي – وعيًا بالهوية الإسلامية وبالنسبة التي توحد الملة والأمة وتميزها عن الملل والأمم الأخرى في العالم. ولئن كان لرواد الحركة – من تلقاء ثقافتهم العصرية – علمٌ وبعض اهتمام بالضرورة بأحوال العالم وأحداثه عامة، فإن همَّهم الخاص إنما صوب نحو العالم الإسلامي، بل نحو الصحوة الإسلامية فيه دون سائر شئونه، إذ شعروا إزاءها بأخوَّة ورابطة مخصوصة ورأوا لها مغزى متحدًا مع ما هم فيه. فالكتب والمنشورات التي حملت فكر الدعوة الجديدة، والأعلام الذين نطقوا بصوتها وقادوا مجاهداتها، والحركات التي مثَّلت وقعها في مجتمعات المسلمين ووعدها في مستقبلهم، تلك كانت مواضع الاهتمام الخاص التي انجذب إليها الإسلاميون الجدد. لذلك كانوا يتطلعون إلى أخبارٍ أو آثار أو زوار من تلقاء مصر أو باكستان أو سوريا أو العراق أو غيرها من مراكز البعث الإسلامي.
| |
| | |
| وكانت الحركة تُعني أيضًا بالقضايا العالمية ذات الوجه الإسلامي الصريح وبأي نزاع دولي يمس شأن المسلمين، وربما تجاوبت مع تطوراته بالتعبير عن التضامن والانتصار لجانب [[الإسلام]] فيه أو بالحملة والإِنكار على الجانب الآخر.. فمن ذلك قضايا التحرر الوطني الإسلامي الشِّعار في إفريقيا وآسيا (كأندونيسيا وباكستان والجزائر)، وقضايا الحركات الإسلامية وجهادها تحت وطأة النظم الغاشمة (في مثل مصر وإيران)، وقضايا كفاح المسلمين لتقرير مصائرهم المتميزة في وجه طوائف أخرى ( كما كان في [[فلسطين]] وكشمير ونيجريا). ولعل من أُولى القضايا التي مست الحركة مسًا مباشرًا هي قضيتا إرتريا وتشاد، إذ تمثلنا في محنة شعب مسلم جار مغلوب على أمره سياسيًا، ووردتا إلى داخل الساحة [[السودان]]ية بدخول اللاجئين السياسيين، فوجدت الحركة نفسها تلقاءً مناصِرة لأصحاب القضيتين بالدعم المباشر ومعنية من جراء ذلك بالأطر والأبعاد الدولية للقضيتين.
| |
| | |
| أما وراء ذلك فقد ظلت الحركة لنحو عشرين عامًا بعد قيامها لا تُعني إلا بكليات الوضع الامي، ولا تكاد تميِّز إلا الكتلتين الغربية والشرقية لغرض الانحياز دونهما إلى الكتلة العالمية الإسلامية بدافع الولاء والانتماء لأمة المسلمين. وكأنَّ الحركة لم تكن معنية بخريطة التكتل الدولي لذاتها أو مدركة لمغازيها في مصائر العالم، بل كانت تنفعل أصلًا بوضعها المحلي بين تحدي التيارين اليبرالي والشيوعي المحيطين بها حين نشأتها في القطاع الحديث ب[[السودان]]، فمن مقابلتها ومنافستها لهذا وذاك امتد وعيُها للكتلتين الشرقية والغربية وللعالم الإسلامي من دونهما وارتفع شعارها المشهور(لا غربية ولا شرقية إسلامية إسلامية).
| |
| | |
| فلا اهتمام ولا علاقة بغير الظواهر العالمية المتصلة ب[[الإسلام]] عن وجه صريح مباشر. ولا دراسة ولا سياسة ولا ممارسة للعلاقات الدولية. بل كانت الحركة ترهب الدول عمومًا وتنفر من الدول غير المسلمة خاصة، تعدية لمفهوم البراء من الكفار إلى صعيد العلاقات، وعقدة من شبهة الاتصال الدبلوماسي كأنه مباشرة نجس غريب أو مقاربة خطر خبيث. أما ما عهدته الحركة – بعد الاهتمام بالشئون والقضايا الإسلامية – من علاقات إسلامية مباشرة، فقد كان قاصرًا على الإسلاميينوالحركات الإسلامية . وما كان في ذلك من عمل خارجي كبير يعمر تلك العلاقات ولا تصور منهجي لنظامها، إلا انشدادًا بعاطفة الأخوة والنصرة أو التماسًا لفائدة المَثل والعبرة.<br>
| |
| | |
| '''مرحلة العمل الخارجي:'''
| |
| | |
| من بعد قدوم السبعينات تطور الاهتمام بالعالم من بعيد إلى بعض عمل في الساحة العالمية يعبِّر عن تركز التوجه الخارجي للحركة وتعزز ذارعها الممتدة خارج [[السودان]]. وقد ذكرنا صور خروج الحركة من الحدود القطرية بابتعاث الطلاب وهجرة المغتربيين، وما وصَله أولئك من علاقات إسلامية حية وما أسسوه من تنظيمات مشتركة وما عمروه من أسباب تعاون فعلى مع الحركات والهيئات الإسلامية . وقد استوى منهم نفر طوروا علاقات مع بعض الدول المسلمة كالسعودية وليبيا.
| |
| | |
| من جانب آخر نُفي جانب من عمل الحركة السياسية إلى خارج البلاد – هجرةَ أمنٍ ولجوء من قهر النظام المايوي أو هجرةَ خروج واستنصار عليه وسعى لإِحكام عزلته الخارجية. وقد باشر الخارجيون من عناصر الحركة الإسلامية بالتعاون مع حلفائهم الوطنيين اتصالات بجهات إعلامية عالمية للتشهير بالنظام وفظائعه، وبجبهات تحريرية وثورية تضامنًا وتعاونًا، وبدول مجاورة وبعيدة – كالسعودية وإثيوبيا وليبيا – ممن أتاحوا دعمًا ماديًا أ ومعنويًا أو أباحوا الاسترفاق بأرضهم أو شعبهم ضد النظام المايوي. وهيأت هذه الضرورة السياسية للحركة الإسلامية أن نعقد صلات مع تلك الدول. بدأت حيية تتشفع بوجاهة رجال [[الأحزاب]] الوطنية الحليفة، ثم تعززت بما يتجاوز حاجة الأزمة السياسية الراهنة وزمنها المحدود وبما يضع رصيدًا لتطور لاحق. وإذ توافر عدد من قادة الحركة بالخارج، وسدت منافذ الحرية واعتقل الرجال وعوقت الأعمال بالداخل، انتقل ثقل كبير من طاقة الحركة إلى العمل الخارجي؛ تنظيمًا وتعبئة للوجود المغترب المتكاثر من عناصر الحركة، وتكثيفًا للعلاقات الإسلامية المباشرة بمدها إلى كل مركز في العالم للنشاط الإسلامي، وتدبيرًا لحركة إعداد المجاهدين لمقاومة النظام السودانيأو لقتاله بالسلاح، وحشدًا لكل أسباب الدعم العالمي الإسلامي لصالح الحركة الإسلامية ب[[السودان]]، ونشرًا لشأن الحركة ونقلًا لتجاربها وعرضًا لنموذجها في الخارج.
| |
| | |
| وتأكد – من قيام جانب كبير من الحركة بالخارج وانشداد الجانب الداخلي إلى شطره الخارجي – تأكد البعد العالمي فيها واشتد الوعي والاهتمام. وتطور ذلك إلى تجارب عملية في التعرف والاتصال وإلى مشروعات فعلية من التعامل والتعاون. وقد أثمر ذلك بعثًا لفقه العلاقات العالمية. فما كان من توجه همٍّ ثم عملٍ خارجي عفوي تلقاء العالم الإسلامي تطور إلى تفقه في منهج العلاقة الإسلامية العالمية. وما كان حذرًا من الدول أو نفورًا من العلاقات الدولية، ارتفع بداعي الضرورة السياسية، واطمأن بأثر التجربة وبفضل القوة الواثقة التي اكتسبتها الحركة، وتحول إلى إدراكٍ لخطر العلاقات الدولية ومغزاها وإقبالٍ على عمرانها وتوظيفها لصالح حركة [[الإسلام]] وإلى محاولة تفهُّمٍ لمسالك تلك العلاقة وتبصُّرٍ لمآزقها ومشكلاتها وتحوطٍ لمحاذيرها ومغباتها.
| |
| | |
| '''العلاقات العالمية:'''
| |
| | |
| كانت السنواتُ الثمانون الميلادية بما تمهد من رصيد التجارب السالفة وبما واتي من ظروف المصالحة والمشاركة السياسية والنمو والاستقرار، فاتحةً عهدٍ جديد للحركة الإسلامية عامرٍ بالعلاقات الدولية والعالمية. فقد حفظت الحركةُ ورعت كل صلة خارجية تهيأت سابقًا مع أي شخصية أو هيئة أو حركة إسلامية، أو مع جهة إعلامية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو شعبية مسلمة أو غير مسلمة، أو مع دولة أو منظمة عالمية. وحيث تحولت الحركة قبيل الثمانين إلى المنهج المخطيطي الشامل في أهدافها وأعمالها كافة وأصبحت لها مصالح ومرام متعاظمة تتعدى [[السودان]]، فقد كثفت صلتها نحو الإِحاطة بالعالم تطويرًا لكلما سبق وامتدادًا شاملًا بكل نحو يتيسر. لاسيما أن تعاظم شأن الحركة وتعاظم شأن حركة [[الإسلام]] في العالم عمومًا وتواترً أخبارها وتظاهر آثارها، دعت قوى كثيرة في العالم إلى مضاعفة مبادراتها نحو الحركة الإسلامية بقصد الاستطلاع أو التعاون أو التُقية أو الكيد. ثم إن [[السودان]] موطن الحركة – وهو بلد ذو وشائج عالمية وثيقة وكثيفة بوضعه الجغرافي وتركيبه السكاني والثقافي – أخذ يعتريه وما حوله الاضطراب والضعف الاقتصادي والسياسي، وجعله عرضةً لداخلات اللجوء والاختراق والغزو والضغوط بتصريف الدعاية والإِعانة وتسليط الترهيب والترغيب. وذلك مما دعا الحركة لمزيد من الاهتمام بالعلاقات الخارجية المؤثرة على [[السودان]].
| |
| | |
| هكذا أدرات الحركة اتصالًا وحوارًا واسعًا بالدوائر العلمية والإِعلامية والسياسية في العالم، حول أحوال [[الإسلام]] الناهضة، وحول أوضاع [[السودان]] ومصائره، لاسيما قضية الشريعة ومسألة الجنوب وأزمة الديون والمعونات الاقتصادية الخارجية، وضاعفت الحركة اتصالها وتعاملها وتعاونها مع الحركات والشعوب الإسلامية بنحو ما سبقت الإِشارة، ومع الشعوب والحركات والدول الأخرى- عربية وإفريقية وآسيوية وأوربية- من أجل التعريف بالحركة ومحيطها الوطني والسعي في مصالح [[السودان]]، تبادلًا ثقافيًا وتجاربًا وتعاونًا فنيًا وسياسيًا. وفي سبيل ذلك تعددت زيارات وفود الحركة الخاصة والرسمية إلى دول عربية وآسيوية وأوربية وإفريقية، واستدعت زيارات وفود خارجية رسمية وشعبية، وتبادلت حضور المؤتمرات وتوزيع المنشورات ومقارنة الخبرات. وعقدت اتفاقات تنسيق نظامي مع حركات وهيئات إسلامية مختلفة، ونظمت مشروعات تعاون مع جهات ودول شتى قريبة وبعيدة، وأدارت حوارًا حرًا مع جهات بعضها مسيحية أو يسارية أوعلمانية ومع دول بعضها مُواد وبعضها مُعاد لها وللسودان.
| |
| | |
| وقد تجاوزت الحركة الإسلامية بمدى علاقاتها دوائر علاقات سائر [[الأحزاب]] والتيارات [[السودان]]ية. فمهما كان بعض هذه مدفوعًا للخارج بتوجهاته الشيوعية أو القومية أو علاقاته التاريخية، وكان بذلك مرتهنًا لوجهة معينة، فإن الحركة الإسلامية كانت متحررة من كل ارتهان وانحياز، فالاستقلال أصل في سياستها الخارجية وعامل اتساع لدائرة علاقاتها. وقد تجاوزت الحركة كسب غالب الحركات الإسلامية التي قعد بها الحذر والتحفظ أو ضآلة الواقع فزهدت في العالم وزهد فيها. ولقد قدمنا ما في طبيعة الحركة [[السودان]]ية من جرأة وتوكل في الفكر والعمل. كما قدمنا التحامها الوثيق بمسرحها الداخلي مما يُتوهم أنه قد يشغلها ويحصرها، لكنه في الواقع نبهها لخطر العامل الخارجي ومغزاه ونبه إليها العالم الخارجي.
| |
| | |
| ومهما بلغت الحركة في العلاقات الخارجية والعمل الدبلوماسي، فلا بد أن نذكر أن كسبها في ذلك المجال جاء متأخرًا نسبيًا. ذلك أن الموقف الفكري الذي بدأت به – مثل الأدب الإسلامي الذي كانت تتغذى به – كان قاصرًا على التوجه العالمي العاطفي المجمل، فلم يهيؤها لمباشرة العلاقات الخارجية الفعلية بقوة. ثم أن الوظيفية الخارجية للحركة إنما ترتبت عن تطور وظائفها الأخرى، إذ نمت حاجتها للعالم وقدرتها في الامتداد إليه وسما قدرها عند العالمين. ويحكى تنظيم الجماعة المعنى بالشئون الخارجية قصة تطور وظيفة الحركة الخارجية. فقد كانت قيادتها يومًا عاطلة من أي جهاز مخصص للشئون غير [[السودان]]ية التي يتولاها القادة عفوًا حين تطرأ. ثم استدعى اغتراب طائفة كبيرة من أعضاء الجماعة إنشاء مكتب للاتصال بهم ومراسلتهم ليواكبوا تطور الحركة الداخلي أو لينظموا عطاءهم فيها. وكان طبيعيًا بعد تضخم العمل الخارجي في عهد مقاومة النظام المايوي، وما ساق من علاقات خارجية واسعة، أن يعبِّر تنظيمُ الحركة عن حجم هذا الهم المتعاظم بإقامة أمانة مستقلة للشئون الخارجية، تطورت فيما بعد لتترك رعاية المغتربين لجهاز التنظيم الأساسي أو لأمانة أخرى ولتتفرغ لمهام الوظيفة الخارجية بشعابها المختلفة المعنية بالعلاقات الحركية الإسلامية أو بالعلاقات الدبلوماسية أو الشعبية العالمية عامة أو بقضايا حركات التحرير و[[الجهاد]] .
| |
| | |
| '''[[السياسة]] الخارجية:'''
| |
| | |
| لما تقدمت السنوات الثمانون بحصيلته الضخمة من العلاقات العالمية وتقدمت الحركة فيها نحو النضج والاستواء والنظر الاستراتيجي، تطور كسب الحركة من الهم والعمل والتفاعل الخارجي إلى الفقهيات والاستراتيجيات والمنهجيات والسياسات في التوجه العالمي.
| |
| | |
| ففي جانب العلاقة بالحركات الإسلامية ، كان الموقف - الذي يحبذ التعددية العالمية والتنسيق السوي ويأبى البيعة والمركزية الآلية – قد تجسد في جملة من مشروعات التعاون العفو. ثم انتظمت العلاقة في نمط اتفاقات ثنائية ترسم أهدافًا واسعة لتعاون ممكن وتثبت التزام السعي نحوها بوسائل مقررة. أما في هذه المرحلة، فقد اتجهت الحركة إلى منهجية تنسيقية كلية وخطة مؤتمر عالمي للحركة الإسلامية يجمع عناصرها المتعددة في العالم ويحيط بأغراض التعارف والتعاون التناصر بينها ويستقر بوسائل السعي التوحيدي الإسلامي، على نحو ما تقدم. وقد تمحص فقه الحركة في شأن العلاقات الحركية الإسلامية من خلال المناظرات والمشار وات مع الإخوة الآخرين ليتمخض عن مذهب متكامل بأدلته الشرعية وحيثياته الواقعية ومقتضياته العملية، على نحو ما تقدم أيضًا وما اشتملته أوراق منشورة.
| |
| | |
| أما في [[السياسة]] والعلاقات الخارجية عامة، فقد كان تحرك الحركة يندفع بدواعي الوعي والهم العالمي إجمالًا. لكنه في هذه المرحلة أصبح موجها بمقتضى الاستراتيجية الموضوعة للتمكن الإسلامي، ومصوبًا بما يقوِّم القوة العالمية تعزيزًا لما هو موال وكبتًا لما هو معاد للمشروع الإسلامي ب[[السودان]]، ومحسوبًا بما يسد ثغورًا بادية ويتم شرائط لازمة وبما يدفع عن [[السودان]] و[[الإسلام]] أو يعين.
| |
| | |
| وقد أدارت الحركة حوارًا فقهيا في الشئون العالمية والدولية، ووضعت من نتائج اجتهادها ورقة منشورة في [[السياسة]] والعلاقات الخارجية، تؤصِّل المعاني على تعاليم الدين والشرع وتصاريف الواقع المحلي والعالمي، وتعيِّن الأهداف وتوجه السياسات وتحدد الوسائل، وتنزل القول وتفصله في علاقات [[السودان]] والحركة الشعبية والرسمية مع العالم، دُوَلِه وأهله وقضاياه. وأخذت الحركة تتناول وتعالج قضايا فكرية فقهية في [[السياسة]] والعلاقات الخارجية مثل: التوحيد بين مصلحة الحركة ومصلحة [[السودان]]. والتوفيق بين قيم [[الإسلام]] ومعاييره المطلقة ومقتضيات المصلحة والضرورة الوطنية أو الحركية في التعامل الخارجي، أو التوفيق بين الاستقامة والوضوح في الموقف أو المعاملات ومراعاة أعراف الدبلوماسية وطرائقها، والجمع بين العلاقة الإسلامية الحركية الأخص والعلاقة بالشعوب المسلمة عامة ثم بالدول المسلمة لاسيما حين تتناقض المقتضيات، والتوازن بين الإِيجابية المقبلة على العلاقات الخارجية مع من اتفق والتحفظات في موالاة دول الظلم أو الكفر التي لا تنفك عن كيد للإِسلام والمسلمين. وإن لم تثر مسائل [[السياسة]] الخارجية الفقهية خلافات أو زوابع بين أعضاء الحركة – على دقة مآزقها ومحاذيرها – فذاك أنها وافت الحركة وقد نضج فقهها التطبيقي في كل مجال واستوى فيها مبدأ رفع الحرج في اجتهادات [[السياسة]] الشرعية.
| |
| | |
| ومن ضوء الاستراتيجية وهدى المنهج ونظام [[السياسة]] ورشد الفقه – مما تم للحركة الإسلامية أخيرًا- اتجه بها الأمر إلى التوازن والتوحيد بين كم عملها الخارجي المتبارك وكيفه الحكيم الرشيد، بل بين كسبها الديني الداخلي والخارجي، تكافؤًا في الواقع، وتماثلًا في النهج، وتعادلًا بين التمحور المكاني الفعال والامتداد العالمي المطلق، وتكاملًا في التدين عُمقًا وأٌفقًا.
| |
| | |
| </div><noinclude> </noinclude>
| |
| | |
|
| |
| | |
| == خواتم ==
| |
| | |
| <div class="reflist4" style="height: 500px; overflow: auto; padding: 3px" >
| |
| | |
| *سنن تطور الحركة
| |
| *خصائص منهج الحركة
| |
| *تقويم كسب الحركة
| |
| *وجهة الحركة
| |
| | |
| === سنن تطور الحركة ===
| |
| | |
| الدين- من حيث هو خطابُ للإِنسان وكسبٌ منه – واقع في الإِطار التاريخي، مهما كان من حيث هو صلة بالله متعلقًا بالأزل المطلق الثابت، فالدين بذلك عرضة لأن يُمتحن بحركة التقلُّب والتحوُّل الدائبة في التاريخ، وبهذا يلزم أن يتمثل في حركة دائبة مجاوبة ليُصحح وجهته ويقوم سيرته لئلا تنقطع به التقلبات أو تنحرف به التحولات التاريخية عن الأصول الثابتة والسنن الواجبة. وإنما التوحيد في تلك الحركة لدائبة التي تسعى لتوحيد الحال المتحول إلى المثال الثابت. فحركة الإِحياء والتجديد الديني هي الظاهرة التاريخية التي تفي بتمام الإِيمان والتوحيد عبر ظروف الواقع وصروف الدهر المتطورة، فتحيي ما مات في النفوس من معاني الدين الخالدة وما درس من سننه الثابتة، وتُجدِّد صور التعبير وتُصرِّف أشكال التطبيق بما يدور مع أوضاع التاريخ المتطورة وتحرك قوة تمكين صور التعبير وتُصرف أشكال التطبيق بما يدور مع أوضاع التاريخ المتطورة وتحرك قوة تمكين الدين في الواقع وفق حاجاته وأسبابه المتحركة. فدين التوحيد حركة فعَّالة سيَّارة متجدَّدة في التاريخ. وحركة الدين دأب يلاحق تطورات التاريخ بال قعود ولا جمود.
| |
| | |
| وحقيق على الحركة الإسلامية ب[[السودان]] أن يكون تاريخها تصديقًا لمثال الحركة الدينية الإِحيائية التجديدية، مسيرة تجددٍ وتطور مضطرد. ذلك أنها حركةٌ متفاعلةٌ مع واقعها السودانيالمضطرب بالتقلبات الذي يستفزها أن تجاوبه وتواكبه بوجوه من التقديرات والتدبيرات المتطورة. وكأي من حركة في تاريخ [[الإسلام]] استقرّ محيطها وجَمَد فاستجرها إلى الجمود. والحركة كذلك ذات طبعٍ منفتحٍ مقدام، تجتهد دومًا. فلا تتعصَّب لمواقفها الفكرية أو سياساتها المنهجية الراهنة، ولا ترتهن لأشكالها التنظيمية أو أعرافها الحركية القائمة، بل تتجاوز توخيًا لمقتضى الحقّ المتجدد في إطار الحقائق الجديدة.
| |
| | |
| وقد لا يسع المرء أن يدَّعى للحركة تقدمًا مضطردًا وتطورًا موصولًا، بوجه مطلق فقد تبلَّدت في آخر السنوات الخمسين من صدمة النظام العسكري الطارئ، وتجمَّدت في آخر الستين إذ أرهقها فرط النشاط وظهور الشقاق، وارتبكت شيئًا ما في أوائل السبعين حينما داهمها النظام المايوي. ولكن الخط العام لسيرة الحركة اتجه قُدمًا عبر ظروف الرخاء والشدَّة. فحين الحريَّة والفرج كانت الحركة تتفجَّر بالنشاط فتتَّسع وظيفتها ويتطوَّر نظامها ويثرى فكرها. وحين الكبت والحرج كانت الحركة تجمع عبرة التجربة السابقة وتضع خطة ما تستقبل. وكانت – في كل حالٍ وحسبما يتيسر لها ويتفق – تصرِّف طاقاتها وتصوّب توجهاتها وتكيِّف وسائلها للوفاء الأبلغ بالتكليف الإسلامي، استدراكًا لما فات من الفهم أو استكمالًا لما نقص من الهم واغتنامًا لما سنح من الفرص أو بناءًا على ما تمكن من الأسباب.
| |
| | |
| ويبدو تطوُّر الحركة لأوَّل مراحلها تلقائيًا عفوى. يتراكب من تلقاء الاستفادة من نضج زائدٍ في فقه الحركة وتجربتها أو الاستجابة لظرف طارئ في محيطها الواقعي، ثم يتراكم عبر مسيرتها المتقدمة. لكن واقعات التطور اتصلت وانتظمت فتجلّت عن بعض أعرافٍ وسنن. ثم أدرك الحركة الوعي بحالها ومآلها فأصبحت تحاول التحكُّم في المسير والمصير والتقدُّم والتطوُّر بتدابير مخطوطة وسياسات موضوعة.
| |
| | |
| ويمكن أن نخلص من استقراء التطورات التي فصّلنا ذكرها في الفصول السابقة سواء منها ما جرى عفوًا وما دبِّر تدبيرًا – إلى جملةٍ من السنن والتوجهات في تطوُر الحركة الإسلامية ب[[السودان]]، مما لا يبعد قياسه على نهج تطور أي حركةٍ إسلاميةٍ حيَّة، إلا من حيث الوتيرة أو الصورة المعيَّنة. ونورد فيما يلي بعض تلك السنن:
| |
| | |
| '''من التقليد إلى التجديد'''
| |
| | |
| يتجه التطَّور بالحركة لأن تبدأ من التقليد لتنتهي إلى التجديد. فهي من حداثة الكسب الأصيل وضآلته ومن ضرورة التمكٌّن الأوَّل في حال الغربة إنما تبدأ من العرف المعروف في مجتمع المسلمين التاريخي، لا يكاد يميَّزها عما هو معهود إلا وعيُها بالمفارقة بين حال تاريخ المسلمين ومثال أصل [[الإسلام]]. ثم ما تلبث بهذا الوعي وبدوافع التوبة إلى الأصول أن تتجاوز المعروف واقعًا إلى المشروع حقًا.
| |
| | |
| فقد جدّدت الحركة نيِّات كثير من العمل الديني الشعائري، كان أبناؤها يمارسونه عن التزام بالعرف الموروث، ثم ذهبوا بنيَّاتهم استقلالا وعمقًا وإخلاصًا، فغدت أعمالهم تجربًة شعوريًة إيمانية حية ذاتية. بل تبدَّلت المواقف الإِيمانية التقليدية موازاة لتطوُّر الحركة وغدت أقرب بمغزاها إلى مواقف الإِيمان لصدر [[الإسلام]] منها إلى سائر التراث الدين الخالف. كذلك التزمت الحركة غالب المفهومات والأحكام الفقهية التي كانت رائجة في الرصيد الفكري التاريخي إلا بعض وجوه من الطرح المتجدد. لكن جرأتها تباركت وحاجتها تعاظمت لإعمال الاجتهاد الحر، وإرجاع المنهج الفكري إلى أصول الشرع، ومحاكمة الفكر التقليدي يما انقطع عن المصادر المثالية والموارد الواقعية، وللتجاوز إلى فكر جديد. ولم تكن أشكال الجماعة الإسلامية الأولى إِلا قريبة من النظم التقليدية للجماعات الدينية الأقدم والأحدث، من حيث بساطة القيادة وسذاجة التركيب والعلاقات. لكن تطوُّر التنظيم باعد المفارقة للأعراف التنظيمية التاريخية وقارب المضاهاة إلى نموذج الجماعة التي تتمثُّل معاني التوحيد وتراعي نظم الشرع وتفي بحاجات العصر وتُسخِّر مكتسبات الاجتماع الحديث وإمكاناته لعبادة الله. وكانت عضوية الجماعة لأول عهدها من مثل ما كان معهودًا في الجماعات الدينية، كانت تقتصر على الذكور بحسبانهم موضع التكليف ومظنة الاحتمال الأوفى، وكانت تنحصر في المسلمين قنوطًا وزهدًا في غير أهل الملة التاريخيين. ولكن الحركة عمِّا قليل أدركت أنها لا يمكن أن تُعطِّل دعوة النساء وتربيتهن وتحريضهن للجهاد في سبيل الله، وأنها لا يمكن أن تهمل الجنوب ولو كان على هامش الملة في [[السودان]].
| |
| | |
| وقد سبق فيما تقدَّم من بيان مفصَّل لتاريخ الحركة الفكري والتنظيمي أمثلة شتى للتوجهات والأطروحات الفكرية التجديدية وللمناهج التنظيمية الطريفة بما نستغني عن تكراره. ويمكن أن نعدَّي القول في التجديد إلى سائر شئون الحركة لنرى كيف كانت وظائفها قاصرة على ما ألف المتدينِّون من وظائف التديُّن الخاص، وعلاقاتها واقفة عند حدود الحياة الخاصة كشأن الجماعات الدينية التقليدية. ولكن ذلك بوجه آخر هو موضوع السنة التالية من سنن التطور الحركي.
| |
| | |
| '''من الخصوص إلى العموم'''
| |
| | |
| إنما ألف المجتمع المسلم التقليدي من مقاصد التدُّين ووسائله ما يعني الحياة الخاصة، لأن فتنة التاريخ كثيرًا ما تنتهي إلى محاصرة الدَّين في الشئون والمجالات الخاصة من الحياة، فتضيق حُدوده وأدواره، ويتباعد عن مغزى التوحيد الذي يجمع الحياة بكل أغراضها ليصلها بعبادة الله، وكل ساحاتها ليتخذها مسرحًا وسببًا للعبادة. ولئن قامت الحركة لأول أمرها بتصور إسلامي شامل فإنها في الفعل إنما بدأت تتدين كما يتدين سواها. بيد أنها – بقوة التوجه التوحيدي – اتسعت بمدى دينها وبعلاقاته من الخصوص إلى العموم ومن المحدودية إلى الشمول ومن الجزئية إلى التوحيد.
| |
| | |
| فالصدر الأول من تاريخ الحركة كان بغالبه عكوفًا على التربية الخاصة عكوف الفقهاء والمتصوفة. ثم اتسع هم الحركة الإسلامية نحو الحياة العامة ليشمل الثقافة والمجتمع حتى بلغ من بعد شأن [[السياسة]]، دعوةً فتعبئة وانتخابًا فجهادًا. ثم شأن الاقتصاد، وشأن الأمن، وشأن العلاقات الخارجية، وسائر الوظائف التي فصلَّنا ذكرها في كسب الحركة ونزلنا مواردها تكاملًا في مراحل تاريخ الحركة. وتتجلى سنة التطور من الخاص إلى العام في كثير من أمور الحركة. فانضمام الأعضاء إلى جماعتها كان أولا كله عن دعوةٍ بخطابٍ فردي خاص، فصار في آخر الأمر بغالبه عن دعوة عامة بوسائل الاتصال الجماهيري، بل كثيرًا ما دخل الناس في الجماعة أفواجًا لا أفردًا.
| |
| | |
| ولقد كانت الحركة تفرط في مراعاة السرية ابتغاء الأمن لضرورات حقيقة أو وهمية، لكن جل أمرها غدا علنًا مفتوحًا. فحلقاتها التربوية مفتوحة لمشاركة العامة، وتدابيرها التنظيمية مشهودة لكل مراقب، وقيادتها معروفة للملأ كافة. ولئن كان أول عهد الحركة انشغالًا بخاصة شأنها واعتزالًا للمجتمع رهبةً أو قنوطًا، فقد تعدت الحركة ذلك التمحور الذاتي وصوَّبت همها من تعد نحو المجتمع تعني بشأنه وتكثِّف الاتصال به والتأثير عليه. بل أقبلت على جماهير المجتمع تستوعبها في حركة [[الإسلام]]، وعلى قواه تتعاون معها بالتحالف السياسي وسواد المؤمنين تعبئهم في حملات العمل الإسلامي العام أو في المنظمات الإسلامية المختصة بشتى أغراض حياة المجتمع أو بمختلف قطاعاته. وقد انساقت الحركة بهذا النحو المتفتح نحو المدى الأعم إلى أن توسِّع أبعادها العالمية وتمد علاقاتها، بعد أن اطمأنت على قدر من التمكن المحلي واحتاجت واستعدت لما وراء المدى الوطني الخاص.
| |
| | |
| '''من الإرتجال إلى المنهج'''
| |
| | |
| ما كان للحركة – وهي ناشئة قليلة العلم بالواقع والفقه بالدين ضئيلة التجربة الذاتية أو المقارنة – إلا أن يكون عملها عن مبادرات عفوية بما توحي فطرتها المؤمنة ووجدانها المنفعل بدوافع الدعوة إلى الله و[[الجهاد]] في سبيله. هكذا كانت تتفق لها ممارسات بوعي محدود ووجه عفوي استجابة تلقائية لحاجة أو حاطرة عارضة، وما إن تنظيم الممارسة ويتم الوعي بها طريقةً أو وظيفة جديدة في كسب الحركة وعملها الديني، إلا ينشأ التساؤل أو يثور الجدل حول مشروعية العمل الجديد أو مغزاه الديني وحول جدواه للكسب الإسلامي أو عاقبته لأمن الحركة واستقامتها وقوتَّها. وقد طرأ مثل ذلك للحركة كلما اتسع مداها تطورًا مما هو معهود إلى ما هو جديد من التدين، لمّا باشرت – لأول مرة – [[السياسة]] وما فيها من فتنة، أ, [[الجهاد]] وما فيه من خطر، أو الدبلوماسية وما فيها من محاذير. ولما أخذت تهتم بدعوة النساء ووجه الجواز والفتنة فيها، أو تنفتح على المجتمع الغريب عنها، أو تستعمل التقنيات التنظيمية الحديثة المستوردة، أو نحو ذلك. وكثيرًا ما تفاقم الجدل ليحدث هزة فكرية أو تنظيمية. أصحاب القديم ينكرون جدوى الطارئ الجديد أو يتهمون مشروعيته أو يرتابون بسولك الذين يباشرونه، وأصحاب الجديد يولعون بطرافته ويتحمسون لقيمته ويندفعون به كيفما اتفق. ثم يستقر الأمر بعد حين. إذ ينتهي البحث عن التبرير إلى تأصيل فقهي للقضية أو الوظيفة الجديدة بدخلها في سياق الدين نيةً والشرع ممارسًة، ويقع بذلك التطبيع النفسي الإِيماني بعد الأزمة والارتباك والتهذيب العملي بعد الجنوح والاضطراب، ثم يتطور الفقه فتستقيم معايير الوظيفة الجديدة وتستقر سنن أدائها ويستمر الاجتهاد لترقيتها نحو الإحسان. ولما ألفت الحركة ظاهرة الاضطراب بالارتجال ثم الطمأنينة بالتأصيل لدى مدخل كل وظيفة أو مشروع جديد، أخذت تنظم تطور الحركة بتقدير الواقعات والتطورات القادمة وتقديم الاجتهاد والتشاور في تأصيلها وتقرير المنهج الذي ينبغي أن يُتخذ فيها. بل أحيانا يشرع العمل بتجربة نموذجية محدودة تُراقب وتُقّوم ثم تُعمّم بعد الاطمئنان بها.
| |
| | |
| ولا تتجلى سنة التطور مع الارتجال إلى المنهج على صعيد التأصيل الإِيماني والفقهي فقط، بل تُلاحظ على صعيد التأطير التنظيمي. فكثيرًا ما تَرد المبادرات عن اجتهادٍ فردي متجاوز لأطر التنظيم وإجرائياته المقررة أو عن كسبٍ محلي شاذ عن المرسومات التنظيمية بنظامها الراتب فتدرجها في كيانها الشكلي وتستوعبها في شعبة أو جهاز خاص وتتخذ لها منهجًا أو إجراءً معلومًا أو تستصحبها رسميًا بأي وجه آخر. هكذا بدا العمل الاقتصادي مناشط تجارية حرة أملتها ضرورة كسب العيش، فلما استبانت المعازي الكلية للاقتصاد أصبح همّاً راتبًا لمكاتب وإدارات متطورة في تنظيم الجماعة. وهكذا بدأت [[السياسة]] ممارسات حرة في الدعوة العامة، والأمن تدابير وقائية حرة، والدبلوماسية اتصالات تلقائية شتى، ونحو ذلك من المناشط التي سبقت صورة الهيكل التنظيمي فأدت من بعد إلى تطويره، ليحيط بها ويخُصص لها إدارات ونظمًا فتُمارس في إطار نظامي عام وعن منهج مرسوم وقاعدة شاملة.
| |
| | |
| وقد تطور التأصيل الفقهي والتأطير النظامي بعد أن كان نسقًا ملحوظًا في سيرة الحركة إلى أن يكون نظامًا مقصودًا. وذلك حين اتجهت الحركة إلى مرحلة التخطيط والتدبير الشامل المدى البعيد الأجل في غالب أمورها. فمهما استقرت [[السياسة]] وظيفة راتبة يرعاها مكتب سياسي مختص، ظلت لحين ليست إلا جملة من المواقف في الحياة العامة. وكان ذلك من شأن غالب وظائف الحركة. فالدعوة هي خطاب مقبل على المجتمع يتقدم حيثما تيسر في شعابه وقطاعاته، والمال في الجماعة أنصبة اشتراك تجمع وحاجات إنفاق تقضى، والإصلاح الاجتماعي مبادرات ومشروعات أو معروفات يؤمر بها ومنكرات ينهي عنها. أما حيث نضج الوعي واستوت التجربة بالحركة فقد أصبحت دعوتها خطة مصوبة، وماليتها استثمارًا لأجلٍ وإنفاقًا بموازنة لسنة، وأصبحت سياستها وحركتها الإِصلاحية استراتيجية شاملة تبني على منهج مرسوم في الإِصلاح يوافق منهج الدين ويوافي حاجة الواقع وتقتضي برنامجًا عمليًا محيطًا يُعبئ كل جوانب الحركة في نظام موحد مفصلة تكاليفه بآجالها وأشواطها، ومنزلة خياراته حسب كل طارئ محتمل ومعينة غاياته الكلية وأهدافه الفرعية.
| |
| | |
| '''من المدافعة إلى الإيجاب'''
| |
| | |
| من طبيعة الأشياء أن تبدأ حركة التدين سلبًا ومدافعة ثم تتطور إلى الإِيجاب والإِقدام، مثل ما تبدأ كلمة الشهادة – لا إله إلا الله – بنفي المعبودات الراهنة ليخلص الشاهد ويسلم لله إثباتًا وإيجابًا. ومن طبيعة الحركة كذلك أن تبدأ متحامية متحفظة لغربتها وقلة حيلتها، ثم تأنس وتطمئن وتقوى وتجرأ وتطمع في دور موجب.
| |
| | |
| كذلك بدا فكر الحركة دفاعيًا محاصرًا بالشبهات والإِنكار عامرًا بالاعتذاريات والتبريرات والجدليات، ثم تمكن فتجاوز إلى مرحلة الإِيجاب والبيان الموضوعي. وكان غاية ما يُرجى أن تربي الحركة عناصرها لتحفظهم من الضلال والفتنة والفساد مما يغلب في المجتمع ليتطهروا ويبرئوا ذمتهم وحسب. ثم عادت الحركة ترجو من أبنائها أن يكونوا أدوات هداية وإصلاح وتؤهلهم لهذا الدور الموجب ولاحتمال الأمانة والمسئولية في تغيير المجتمع. ولما باشرت الحركة [[السياسة]] كانت تنتقد وتعارض المنكر من ظواهر الحياة العامة، ولذلك انشغلت بالحملة على الشيوعية والعلمانية. ولكنها من بعدُ احتاجت إذا نصحت بنهي عن منكر لأن تقترح المعروف، وإذا عارضت وضعًا أن تعرض البديل، بل احتاجت من بعد المجاهدة والمناصحة إلى أن تلي هي مسئولية العمل الصالح بالمشاركة في السلطة والسعي للتمكن فيها. وتكامل فيها بذلك الاستعداد بعد إبطال الباطل لإِحقاق الحق وبعد الهدم للبناء. وكثيرًا ما ورِّطت حركات وثورات في مرحلة السلب والهدم ولم تتأهل لتجاوزها نحو اقتراح الخطة الأصلح واقتحام المسئولية الأصعب وإقامة الهدف المنشود.
| |
| | |
| '''من البساطة إلى التركيب'''
| |
| | |
| كما تنشأ الكائنات العضوية ساذجة أولية ثم تنمو تشعبًا وتركبًا وتعقيدًا، كذلك تبدأ الظاهرات الاجتماعية بسيطة ثم تتجلى معالمها وتتطور عناصرها وتتعاظم أقدارها. والحركة الإسلامية كذلك بدأت بتصورات أولية عامة من بدائه [[الإسلام]] ومثالاته المنسية وبتنظيم ذي مركز واحد وهيكل أولى، وبدأت أهداف العمل الإسلامي ووسائله في إصلاح المجتمع جد محدودة. ثم اتجهت الحركة من بساطة المثال والمبتدأ إلى النزول إلى واقع الحياة. حاجاتها وأسبابها وأوضاعها وعلاقاتها. فكان لزامًا أن يتفصل العكر تنزيلًا على القضية التي تطرحها الحياة ويثور عنها التساؤل ويستلزمها الانتقال من الدعوة والتبشير إلى العمل والتطبيق. وكان لابد أن يتشعب التنظيم ليحيط بالوظائف المتزايدة وليصبح منظومة من الأجهزة تتعدد بتخصصاتها وتتكامل بشمولها. وكان لابد من أن تتركب علاقات التنظيم وأشكاله بما يفي بإجراءات الشورى الكثيفة وبتوزيع المسئوليات وتنسيق المبادرات المختلفة. ثم كان لابد للتنظيم من الاستعانة بأدق التدابير والتراتيب والإجراءات والوسائل الفنية ليرقى بأدائه. أما تكثيف وظائف العمل الإسلامي ومناهجه، فتاريخ التطور الحركي كله رواية لمهمات الحركة المتوافرة وآلياتها المتكاثرة مرحلةً بعد مرحلة.
| |
| | |
| '''من الضبط إلى الحرية'''
| |
| | |
| كان طور الحركة الأول أن ترد شتات المجتمع المسلم التقليدي إلى شيء من النظام بالدعوة إلى موقف فكريٍ، موحدٍ وإلى مسلكٍ ديني قياسي وإلى صفٍ مجتمع وإلى منهجٍ اصطلاحي في العمل العام. لكن تطورها بعد حين اتجه إلى السعة والحرية بعد الضبط وإلى السماحة والتباين بعد النمطية الصارمة اللازمة أول الأمر لتصويب المذهب وتقويم السلوك وتمتين الصف ونصب القدوة في الدعوة و[[الجهاد]] .
| |
| | |
| فقد اتجهت الحركة بعد التربية التلقينية والالتزام الحرفي بمقولات الدعوة الأولى ومنشوراتها نحو الحرية والمرونة، وتجاوزت عن العصبية في الالتزام المذهبي للمدرسة الحركية، وعن الضيق في مصادر الثقافة ومناهج الأسر التربوية، وعن الرقابة الضابطة للتعبير عن خلاف الرأي ما التزم المرء عملًا بولاء الجماعة وقرارها. أما التنظيمي فقد تناصرت دواع من تطور كثافته الوظيفية والشكلية ومن التوجه نحو الحرية لتحوله من تنظيم مركزي في سلطاته واختصاصاته إلى تنظيم تفويضي متسع يجعل للأَقاليم وللشُّعب الفئوية نصيبًا مقدرًا من الوظائف الشورية والتنفيذية ومن السلطات والاختصاصات، كما يجعل لكثير من وظائف العمل الإسلامي أطرًا مستقلة عن متن الحركة تفرغ لما يوكل غليها بقيادة قائمة بذاتها متصرفة فيما يليها إلا ما تقتضيه استراتيجية الحركة العامة. ويبدو التطور من النمطية إلى الحرية بوجه آخر في سياسة العضوية، إذ كانت الحركة تُعني بالكيف فتصطفى وتربي على نمط قياسي معلوم، فكانت من ثم صفوة متقاربة من الأعضاء. لكنها من بعد صارت إلى أن تهتم بالكم أيضًا، فاتسعت عضويتها ورضيت بالتباين بين الأعضاء في الكسوب من الأعمار والدخول والمستويات الثقافية. وبعد أن كانت تعول على الصف المنضبط ولا تتعامل وراءه إلا في جبهة خارجية تحفظ كيان النواة المنضبطة، انتهت من خلال التدرج في التعامل مع كنفها الاجتماعي بالحملات والجبهات وفي تخفيف شرائط العضوية إلى نهج جماهيري تتفاوت فيه نسب التزام الأعضاء وأنماط أدائهم وأدوار عطائهم. حتى أدركت الحركة أن الضبط التنظيمي مهما كان خيرًا بالنظر إلى أعراف الخلوة والعزلة الفردية التقليدية لا ينبغي أن يعوق بأشكاله انطلاق حركة الدين وإبداعات الفطرة واندفاعات الإِيمان، فالدين غاية ورسالة والجماعة بأشكالها وسيلة. فلما حق أن تتجاوز الحركة نظام جماعتها وشكلها واسمها لتتوخى التدين الأوقع الأوسع في جماعة أكبر أسعفتها رساليتها فأفنت نمطها القديم في سبيل هدفها ومقتضياته المتجددة، واستشرقت مجتمعًا شاملًا – لا طائفة مؤطرة – يقوم بشأن دينه عن أنماطٍ وأعراف ونظم يتخذها، والتزام سلطان يرعاه، ثم عن إخلاص وطوع واجتهاد وابتداع وطلاقة بادرة بما يضمن له صدق التدين وحرية التطور قربي إلى مُثل الإِحسان وزلفى إلى الرحمن.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === خصائص منهج الحركة ===
| |
| | |
| كان أول الكلام أن الحركة الإسلامية ب[[السودان]] ليست بدعًا بين الحركات الإسلامية التجديدية. وما يكون لها أن تكون، فإن الهدي الجوهري للإِسلام عالمي وإن الدعاة إلى [[الإسلام]] متحدون عبر العالم من حيث الفطرة الإِنسانية الواحدة، ومن حيث أنهم حملة لذات التراث التاريخي الإسلامي وعرضة لذات التحدي من تلقاء مجتمع تقليدي متخلف ومجتمعات أوربية متغلبة بقوتها طاغية بحضارتها نافذة بثقافتها، ومن حيث أنهم بغالبهم في ذات المراحل الأولى من الصحوة والدعوة والمجاهدة يتجاوبون ويتفاعلون في عالم وثيق الاتصال. لكن كل حركة فيما تنزل هدى [[الإسلام]] وتُصوب دعوته على واقعها المعين إنما تجتهد وتجرب لتستجيب لابتلاءات ذلك الواقع، وتنطبع لذلك بطابع خاص. ولربما تبدأ الحركة مقتدية مقلدة، لكنها لا تصدق التحرك بالدين إلا تميزت وتطور لها منهج يضاهي سائر الحركات؛ بما في التجديد الإسلامي المعاصر من حيثيات موحدة، ويفارقها بما في المحيط المحلي المعين من خصائص متميزة.
| |
| | |
| وقد سلف الكلام المفصول في شتى مناهج الحركة الإسلامية ب[[السودان]] ، وفي الحيثيات النظرية والواقعية التي شكلت تلك المناهج وميزتها، وفي بعض وجوه مقارنتها إلى شأن حركات إسلامية أخرى. ويمكن أن نجمع ذلك الكلم باستخلاص الخصائص التالية لمنهج الحركة:
| |
| | |
| '''حركة عقدية'''
| |
| | |
| لربما ينتسب الناس للإِسلام ثم لا تكون جماعتهم مبنية عليه. فكثيرًا ما يكون الأساس الأول لمجتمع من المسلمين هو عصبية القوم أو الوطن أو رابطة النفع والغرض الدنيوي أو وشيجة الثقافة أو التراث. لكن الجماعة في الحركة الإسلامية إنما انعقدت على أساس الإِيمان بحقائق الدين وشرائعه والتوافق والتعاون على فهمه والدعوة إليه والتولي والتناصر على تمكينه في الأرض. وليس ذلك بالطبع أنها لا تبرُّ قومها العرب والأفارقة، أو لا تدفع عن وطنها [[السودان]]، أو لا تتوخي مصلحة للجمهور، أو لا تعتز بالتقاليد. بل ليس ذلك أنها تعُدّ كلَّ قوميةٍ أو وطنيةٍ عصبية جاهلية، أو كل طلب للمصلحة هوى، أو عز بالتراث رجعية. لكنها تؤمن بعلوية الانتماء الإسلامي، مراعية ما دون ذلك بانية عليه. فلا يستغرقها دون [[الإسلام]] ولاءُ خاص كما وقع لكثيرٍ من جماعات المسلمين، ولا يستفزها عداءٌ لذوي الولاءات الأدنى كما جرى لبعض الجماعات الإسلامية التي طفقت تدعو إلى تجريد الانتماء للدين عن وشائج الأهل والأرض والمصلحة والتاريخ كأنها تريد الدين بلا حياة في وجه من ابتغوا الدنيا بلا دين.
| |
| | |
| ولربما تنتسب جماعةٌ إلى الدين لكن تتخذه شعارًا جماعيًا حاشدًا لا يستصحب صدق التدين والاهتداء والالتزام لدى أعيان أعضائها، أو تزودهم بتعليم نظري لا يتغذى بدوافع الإِيمان أو بتعبئة عاطفية لا تتزكي بالتقوى. لكن الحركة الإسلامية تُربي أبناءها ليكونوا على أتم التفقه في دينهم والتبين لدنياهم وعلى أصدق التقوى والمجاهدة، حتى تربو الجماعة كمًا وإجمالًا وتفصيلًا، وحتى تتمثل إسلاميتها في كسب كل عضو فيها، إيمانا راسخًا وهدي راشدًا وعملًا صالحًا. ولقد تميزت كثير من الحركات الإسلامية بهذه الطبيعة التربوية واختلفت عن بعض [[الأحزاب]] والقوى السياسية التي تطول فيها دعاوي المقال ويقصر العمل المخلص الفعال أو التي تخبط بغير علم أو تهجم بغير ورع. لكن التربية لدى بعض تلك الحركات اقتصرت على التعهد بفقه أحكام الدين وبالشعائر التعبدية والأذكار التي تُعزز الصلة بالله. أما الحركة الإسلامية ب[[السودان]] فإنها تُتم تعليم أبنائها في فقه الأحكام بفقه الواقع الذي يُرجى أن يُحكم بالدين، وتضيف إلى تربيتهم بالشعائر والأذكار أخذهم بكل عملٍ صالحٍ يُباشر بنية العبادة ويهدي الشريعة وتدريبهم على كل نهج قويم في الدعوة والإِصلاح و[[الجهاد]] ، حتى يتبارك دينهم وعطاؤهم وأثرهم في كل جوانب الحياة ويحققوا كمال التوحيد.
| |
| | |
| حركة شمولية مهما ادعت حركات إصلاحية ثورية أنها تنشد تغيير الحال كله، فإن هموم الإِصلاح والتغيير الاجتماعي الوضعي إنما تتوخي مدي محدودًا من الإِصلاح يقع في خاص حياة الأفراد أو في مجمل أوضاع المجتمع وفي سياسته أو اقتصاده أو نحو ذلك مما يقتضي الفكر والظرف الراهن. لكن الهم بالإِصلاح الشرعي الإسلامي يؤم أهداف التوحيد جميعًا ويشمل أغراض الحياة كافة. وقد تكون أحوال المجتمع الذي تستهدفه حركة الِإصلاح تطورها تضطرها إلى التدرج في إستكمال أهدافها. بيد أن حركة [[الإسلام]] لا تفرغ من وجه إصلاح إلا نصبت في غيره بطبيعة الشمول في [[الإسلام]]. والحركة الإسلامية في [[السودان]] بدأت بنية إصلاح شامل، ثم أخذت سيرتها الفعلية تسلك طريقها تطورًا من المحدودية إلى الشمول. وقد لا يدعي لها أنها أحاطت اليوم بكل شئون المجتمع وأتمت الدين، لكنها كسبت بفضل الله في الشمول مدى كبيرًا، وما انفكت تنفتح نحو ما هو أشمل وأكمل. وقد بلغت كثيرًا مما تبلغ الحركات الفكرية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الحضارية، وتصدت لمختلف التحديات، وتفاعلت مع شتى القوي، وتجاوبت مع كل ما عرض من الظواهر والأحداث. ذلك وهي تحاول أن تجمع تجربة ما قبلها وما حولها من حركات إسلامية محدوده، كالمذاهب الكلامية والفقهية، والمدارس الثقافية، والطرق الصوفية التربوية والدعوات الإصلاحية، والبيعات [[الجهاد]] ية، و[[الأحزاب]] السياسية. وهي تحاول أن تخاطب المجتمع بأسره شبابه وشيوخه ونسائه ورجاله وعلمائه وعوامه، وأن تتخذ الوسائل جميعها، التعليم والتنظيم والتربية والتعبئة والدعوة والمجاهدة والاقتراح والإِصلاح، وأن ترقي إلى الله بكل وجوه الوجود نيات الأفراد وخواطرهم وأخلاقهم وأعمالهم وبناء الجماعة وحريتها وشوراها ووحدتها وحسن نظامها، وبكل مقاصد الحياة العلم والفن والاجتماع والاقتصاد و[[السياسة]] وغير ذلك. وقد كان ما اكتسبه الحركة من الشمول ثمرة توجه في الأصل استفادته من سلفها من الحركات وتطور فعلي مضطرد تهيأ لها بالحرية النسبية التي تمتعت بها وبالواقع الزاخر المضطرب الذي ابتليت به والاجتهاد و[[الجهاد]] الدائب الذي أوتيته بنعمة وبتوفيق من الله.
| |
| | |
| '''حركة منهجية'''
| |
| | |
| لربما يعهد في بعض الحركات الدينية شيء من العفوية، بما خلف المسلمون من تقاليد فقيرة في شئون التنظيم والعمل الجماعي،و بما كسبوا في حاضرهم من التخلف في نظم الاجتماع ومن التعويل على الاندفاع العاطفي بغير انتظام والانحشاد الجماعي بغير إحكام. لكم الحركة الإسلامية أخذا من أصول النظام في الدين وفي التراث وفي العصر ما أتقنت به وجوه عبادها الجماعية. ففكرها منهجي لا يصدر عن شتات فتاوي، بل عن منهج أصولي في التفقه وتوجهات كلية في الدعوة وسياسات عامة في الإصلاح، وتحكم عملها استراتيجية شاملة تكفل انتظام المواقف والتصرفات في نسق يحقق المقاصد المعلومة لآجالها المرسومة كما تكفل إمكان التقويم المنهجي للسيرة والكسب. كذلك يقوم تنظيمها على نهج مستقر ترسم أوضاعه وأشكاله من خلال التخطيط النتنظيمي الحكيم، وتنضبط حركته باللوائح والقواعد الدقيقة، ويتشكل بمنطق علمي لتوزيع الاختصاصات وتولية السلطات وتنسيق العلاقات. فالحركة في شأنها كله تلتزم التخطيط المستنير والنظام المستقر والمنهج العلمي المستمر.
| |
| | |
| '''حركة شورية'''
| |
| | |
| مهما كان [[الإسلام]] بأصله داعيًا إلى الشورى، لأنه يقرر حرية الأفراد واستواءهم تحت سلطان الله، ولأنه ينصب عليهم شريعة علوية للتعاون على تحرى حكمها والاتحاد والاجتهاد في التدين بمقتضاها، فإن بعض الحركات الإسلامية قد يتحكم فيها شيخ إمام بما أوتي من علم بنص الشريعة أو سبق وفضل في الدين. لكن الحركة الإسلامية ب[[السودان]] كما قدمنا- مما اهتدت بأصول الدين واعتبرت بتجربة العصر وأسعفها استواء المؤسسين الأول وواتتها حرية البيئة [[السودان]]ية المحيطة- قامت على قاعدة من الشورى والوحدة والحرية. فهي تحفظ شروط الشورى بالحرية التي تراعيها في مصادر العلم وموارد الرأي وبالإباحة التي تتيحها للمبادرة الفردية والتباين الذي تسمح به مع التأطير والالتزام التربوي والتنظيمي. وهي حرة عزيزة بالإيمان لا تنكبت رهبة من سلطة إلا بالحق، وتؤمن بالحرية لغيرها حكمًا بما قضى الله وحبًا للتعرض للابتلاء والتمحيص. وهي بذلك تراعي الشورى في الولايات والقرارات بالنحو الكثيف الذي سبق وصفه. ثم هي بالحرية والشورى حركة موحدة، لا تنفصم قياداتها عن قاعدتها، ولا تكثر فيها ظواهر الإنشقاق، ولا يتمايز فيها أصحاب الكسوب والمواقع المتباينة، ولا تتوتر فيها نوازع التطرف ودواعي الشذوذ. ولربما يدعي الحركة إن هي قيست إلى ما يضاهيها من حركات أنها تقدمت كثيرًا في مدي الحرية الداخلية، وأنها سبقت في تأسيس الشورى الأتم وأنها اعتصمت من الوحدة بنصيب مقدر.
| |
| | |
| '''حركة تفاعلية توكيلة'''
| |
| | |
| الدين يدعو إلى الحركية بين الناس بما يحيي في النفوس بواعث الإيمان، وإلى التوكل بما يلقي فيها من الثقة بحق الدين ونصر الله، وإلى التفاعل مع واقع الابتلاء بما يفرض من تكاليف تنزيل مثل الخير والحق على حال الشر والباطل لكن قد يزين للجماعة المؤمنة أن تزهد في خير الناس أو أن تلتمس السلامة من فتنة الشر والتقية من سطوة الباطل في الانزواء والاختلاء. وكثيرًا ما أسست حركات إسلامية على مذهب العزلة والاعتكاف أو انتهت إليه بإلجاء الضرورة. لكن الحركة الإسلامية بعامل من طبيعة عضويتها وبيئتها ومن فهمها لرسالتها ظلت تتفاعل بالدين مع واقعها مقتحمة متوكلة. ففكرها نظر جريء وطرح جديد لمفهوم التوحيد في العقيدة، وللاجتهاد في الأصول والفروع الفقهية، ولقضايا وضع المرأة في المجتمع، ولمسائل الإمارة والشورى، ونحو ذلك مما قد يتورع عنه الناظر في فقه الدين أو يستغني عنه إذا لم يباشر مجاهدات العمل الديني بفعالية تفتح بصيرته لتجليات العلم الديني. وتبدو روح الإقبال على الواقع الشعبي في اقتحام الحركة لسواد الجماهير وانشراح صدرها لمستواهم العلمي والديني وانفتاح صفها لأفواجهم رغم المحاذير المقدرة ورغم تقاليد التحفظ والصفوية التي تمكنت في سياستها العضوية السابقة وفي ممارسة حركات إسلامية كثيرة. وتمثل فلسفة التنظيم وجهًا من التفاعل المتوكل مع الواقع.
| |
| | |
| فقد كانت اللامركزية المحلية تنزيلًا لنظام الجماعة ومؤسساتها إلى واقع الناس حتى تباشرهم بوظائف الدعوة والتربية والتعبئة وكان ذلك الاندياح الإقليمي للتنظيم مثل التفويض للتشكيلات المستقلة المتخصصة منطويًا على شيء من التوكل، لأنه ينشد الاقتراب بحركة الدين من الناس، ولا يبالي بتقديرات الحرص المفرط على التوجه والنموذج المركزي الموحد وقد تفاعلت الحركة مع المجتمع، فخرجت إليه بدعوتها وقدوتها وبرامجها، وعملت في العلن والملأ لا تستثني إلا ضرورة السرية بقدرها، وكثفت الخطاب والاتصال، وشاركت غيرها في العمل الإسلامي الصالح من خلال الحملات ومن خلال التحالفات السياسية والمنظمات ومن خلال ولاية السلطة الجزئية، ودافعت وجاهدت صبرًا ومعارضة ومقاومة ومقاتلة.
| |
| | |
| وكانت في غالب شأنها تبني على كبير ثقة بالله ثم بذاتها وبجماهير المسلمين، وعلى قليل رهبة للباطل الداخلي والخارجي، وعلى كثير تفاؤل بأنها طاهرة بإذن الله الذي جعل العاقبة للصالحين ولربما تفرط أحيانًا في الطمأنينة فتقارب شيئًا من الغرور، أو في التفتح فتوشك على شيء من التسبب. لكنها بعيدة جدًا مما يغشى بعض الحركات الإسلامية من ازدهاد المسلمين أو اعتزالهم ومن تعظيم قوى الباطل أو رهبتها ومن التشاؤم والقنوط والقعود.
| |
| | |
| حركة معتدلة
| |
| | |
| لا يخلو الدين من التعرض لخطر التنطح والتطرف من فرط الاندفاع بحمية الإيمان دون ضابط من علم أو تقوى، لا سيما في وجه الغيظ والاستفزاز وللدين ميزان عدل للاستقامة بين مشادة الدين واتخاذه لعبًا وقد يخطى ذلك الميزان أهل الضعف من فسقه المسلمين وحكامهم بغير ما أنزل الله، الذين يحبون الترخص في الأحكام والتفلت من الالتزام ويرون الاعتصام تزمتًا والعزيمة شدة وحرجًا. أما أهل الكفر والطاغوت الإمبريالي فالتوسط والتعقل والاعتدال عندهم أدنى التدين إليهم، وكل ما بعد عنهم نحو مثال الدين فهو إيغال في الشذوذ وغلو في التطرف ولئن قلنا إن الحركة الإسلامية في [[السودان]] معتدلة، فإنما نستعمل ميزان [[الإسلام]] عامة، ونقصد به تخصيصًا أنها سلمت من علل بعض الإسلاميين؛ من الذين جعلوا كل الدين في ظاهر النص وكل التدين في ظاهر النص وكل التدين في ظاهر السمت فغلفوا عن روح الدين ومغازيه وعن حكمته وأولوية، أو من الذين جنحوا بفهم الدين إلى كليات فطرية مبهمة فجروده من نصه وطمسوا معالمه وحدوده وخصائصه هديه، أو من الذين من الشركيات فنسوا أن التوحيد في كل شأن والإخلاص في الأفعال بعد الأقوال وأن أكبر البدع والإشراك ربما كان فيما وراء الشعائر من علمانية أو مادية، أو من الذين تسيبوا بالدين فاتخذوه نظامًا يضاهي الوضعيات وشعارًا للثقافة والحضارة فالحركة وسيطة في فكرها بين الأصولية السلفية والتجديدية العصرية، ومتوازنة في صفها بين قطاعات المجتمع وأجياله، ومعتدلة في منهجها الإصلاحي بين الدعوة والقوة والحرية والنظام، ومتناسبة في مداها بين المحلية والعالمية فمن عدل تعاليم [[الإسلام]] وقسط ميزانه ثم من تقاليد التسامح والتباين والاعتدال في بيئتها الاجتماعية، جاءت الحركة متسامحة معتدلة في حياتها الداخلية دون كثير توتر أو شقاقٍ أو أستقطاب، وفي علاقاتها الخارجية دون غلو وإفراط أو تميع وتفريط ولم يعتدل الفقه الرشيد والمزاج السليم ببعض الإسلاميينبل لم يعدل لهم المجتمع أو النظام الحاكم، فاستفزهم إلى اليأس من خيره حتى نسبوه إلى الجاهلية المطلقة، ورأوا تماديه في كفر المعصية فأضفوا عليه كفر الملة، ولاحظوا هزءه بالدين فقابلوه بالتنطع، وألفوا فيه إصرارًا واستكبارًا لا يستمع لخطاب ولا يرجع إلى متاب ولا يرعى حرمة الداعية إلى الحق إلا أن يسومه عنيف العذاب، فلم يعرفوا له من بعد إلا إعراضًا بإعراض وسيئة بسيئة وعنفًا بعنف. ولطف الله بالحركة الإسلامية ب[[السودان]] فلم يسلط عليها من يخرجها من نصاب الاعتدال.
| |
| | |
| '''حركة شعبية'''
| |
| | |
| إنما الدين رسالة للناس كافة دعوته إليهم وقوته فيهم لكن مرحلة تمكين النموذج الأول قد تدعو لحصره وتركيزه حتى يصلح لحمل رسالة [[الإسلام]] في آفاق الأرض وأوساط الناس بالدعوة البالغة والقدوة الماضية. سوى أن بعض حركات [[الإسلام]] قد تتورط في بعض ذلك الشوط الأول من مراحل التطور، فيزين لها الانقطاع عن الناس لغير أجل وقد قدمنا أن الحركة بالفعل جمدت على طبيعة صفوية حينًا من الزمان، حتى أسعفتها دواعي التفاعل والتوكل فانفجرت منفتحة على الجماهير وصحيح أن خطابها ما انفك مستعليًا عن الشعب في بعض أطروحاتها لكنه لم يوغل كثيرًا في التنظير المتجرد وأخذ يقارب هموم الشعب ويتخذ وسائل التعبير الشعبية وبسطت الحركة إلى جانب الخطاب الفكري الذي قد لا يروج شعبيًا حملات جماهيرية وخدمات اجتماعية جعلت جاذبيتها أكبر من دعوتها وقد كان تجاوزها لصفها الموضون ونظامها المضمون ولا سمها الخاص نحو اسم الجبهة القومية أو الوطنية المدى، ومنهجها المتفاعل مع الجماهير الواثق فيها بنحو ما قدمنا، وتعويلها على القاعدة الشعبية لا على القوة الانقلابية وحدها، وتحقيقها لكثير من كسبها بقوة التعبئة الشعبية، كان ذلك آية على كونها كيفما بدأت قد انتهت حركة شعبية وقد قدمنا وجوه المناظرة بين اتجاه الحركة الشعبي وعزوف بعض حركات إسلامية عن عامة الشعب، وذكرنا دواعي المحاذرة من التسيب في الفكر والتميع في الكيف والتعرض للفتنة والكيد، ولا حاجة بنا إلى أن نكرر القول فيما صدقته أو كذبته التجربة الشعبية ب[[السودان]] من مرجو أو محذور.
| |
| | |
| '''حركة تقدمية'''
| |
| | |
| [[الإسلام]] دين يدخل على المجتمعات تجديدًا للهدي السالف وتغييرًا للحال الخالف، ولذا يدخل غريبًا ينكره أهل القديم بعصبياتهم وأهوائهم وكل توبة متجددة للمسلمين هي تذكير بأصول الدين التي اغتربت بطول العهد وقسوة القلب، وهي تغيير للبدعيات الطارئة بغير أصل وللمواقف المتقادمة التي جمدت تخلفًا والخطر الكبير على حركة التجديد الإسلامي أن يئدها القديم قبل البلوغ فتجمد عنه مرحلة الإحياء العاطفي للإيمان وتستبقى الصور القديمة دون تجديد فيما ينبغي أن يتغير ويتطور مما لا يثبته الدين على صورة واحدة عبر الزمان ومن ثم تنقلب كثير من الحركات الناشئة إلى حال محافظة بل إلى رجعية تاريخية والحركة الإسلامية ب[[السودان]] تعرضت لذلك ثم انعتقت وأصبح مغزاها كله أن تتقدم بالمجتمع زلفى إلى الله وقربى إلى مثالات [[الإسلام]]، منجاوزة من التقاليد ما لم يكن أصلًا من الدين في شيء، وما كان معبرًا عن مقتضى الدين في زمن سالف ثم غدا قاصرًا بحكم تبدل الظروف، وما ليس من القطعيات الثوابت فالحركة نقادة جدًا لأمرها وعرفها ولأمر المجتمع وعرفه ولذلك ما تنفك تراجع وتطور من نظمها ومناهجها، بل تتجاوز أحيانًا وتبدل تبديلًا وما تزال تطرح للمجتمع أطروحات من دعوتها ذات مغزى تقدمي تحريري فهي تحرر العقل المسلم من عقال الجمود على القديم والتقليد للطارئ من المغرب، وتحرر سواد المجتمع من أسر الولاء للذوات وللعصبيات التاريخية، وتحرر النساء من ربقة العرف الظالم، وتحرر الرعية من طاغوت الحاكم بغير سلطان من الله وهي تقدم للمجتمع نماذج في التنظيم والعمل العام الإسلامي الأصل العصري الجدوى وهي تسعى لتعبئة القوة الإيمانية واستعمال القدرة العلمية وتسخير الطاقة الطبيعية للنمو الاجتماعي والاقتصادي بما ينمو بالتدين أيضًا ويبارك اضطراد التنمية، وبما يستقل بأمر الوطن فيسلمه لأصالته الإسلامية من الهيمنة الخارجية، وبما يؤهله لمكان ذي قدر في حياة العالم ولدور ذي بال في نهضته ولا غرو أن كان القطاع الحديث في المجتمع أسمع لدعوة الحركة لأنها أنسب إلى توجهه، أو أن كان الشباب أسرع إليها لأنها تنحو بهم نحو المستقبل، أو أن كان الذين يريدون كبت المسلمين دون النهضة بأصالتهم يكيدون لها ألا تتقدم بنور الله الهادي لأقوم مستقبل ومسيرة وبقدرة الوارث لأطيب عاقبة ومصير، والله متم نوره وغالب أمره وناصر جنده وصادق وعده.
| |
| | |
| <br>
| |
| | |
| === تقويم كسب الحركة ===
| |
| | |
| '''مدى الكسب'''
| |
| | |
| لا يقدر الكسب حق التقدير إلا الله القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب الحسيب فهو الذي يؤتي كل نفس وسعها لتعمل صالحًا فتكسب حظها من الدين لتنافس درجتها بين الصالحين، ويقدر لها ابتلاؤها المعين، ويحق عليها بذلك نصيبها من التكليف. فمهما كان حاصل كسب الحركة الإسلامية ب[[السودان]]، فإنه لا يقوم إلا منسوبًا إلى ظروف العسر واليسر التي أحاطت بها ومقارنًا بكسب المثل من الحركات وقد كان منشأ الحركة في التاريخ حين غفلة المسلمين وغربة دعاة الدين، قبل أن تتداعي الصحوة وتتناصر الدعوة الإسلامية العالمية ولئن بنت الحركة على أثارة من تراث [[الإسلام]] العام وقدوة الحركات الأولى، فقد كانت تكابد وحشة النشأة بزاد جد ضئيل من الفقه الإسلامي الإصلاحي والتجربة النتظيمية والحركية وقد كان موطن الحركة في [[السودان]] حيث لم تتمهد أرضية مواتية من تراث [[الإسلام]] العريق ولم تتمكن ملته وشعائره في كل الأقاليم ولا توطدت شرائعه وأوضاعه في الحياة العامة وأحيطت الحركة لدى مهدها في القطاع الحديث من المجتمع بتيارات لبرالية وشيوعية من أقوى ما عهدت البلاد الإسلامية المتعرضة للتغلب الإمبريالي. ولم يكن لها من موثل في القطاع التقليدى مهما كان قوامه على الدين، لأن الجماعات الدينية الرئيسية ما عادت أطر توعية أو تربية دينية بل حالت إلى طائفية عمياء تغار من كل ولاء ديني حدث، وإلى حزبية رعناء توظف الولاء الديني لأهوائها السياسية، وإلى عصبية رجعية تناصب كل حركة إسلامية تحريرية وما ظهرت الحركة الإسلامية حتى اتجهت القوة اللادينية لحديثة والدينية التقليدية للتظاهر عليها. وحينما استوت الحركة وصوبت همها لإصلاح البلاد ألفت أمنها في اضطراب واحتراب وكيانها الاجتماعي الوطني في انحلال واختلال وأوضاعها الاقتصادية في أزمة مستحكمة ونظامها السياسي في تقلب شديد، والفت الجماهير في هول وغمرة وشغل شاغل عن هموم البناء الديني الحضاري وقد بلغ الأمر بالبلاد أن غدت عرضة لغازية خارجية شديدة تدخلها من ثغور الجوار الدولي الكثيف ومن تفاريق التركيب السكاني ومن مصطرع التشعب السياسي ومن تلقاء فتنة الحاجة وضعف الحيلة وكان أخطر خطر النفوذ الخارجي أن نازع البلد بوجه خاص في هويتها الإسلامية ولغتها العربية وأن التحم من ثم مع حركة [[الإسلام]] في صراع مباشر غير متكافئ عزَّ فيه لها النصير الإسلامي ذو القوة، وتناصرت عليها مشروعات التبشير والتنصير، وحملات الإعلام العالمي، وضغوط التعاون الاقتصادي والسياسي، ومكائد الاختراق الأمني وتدابير الغزو العسكري السافر. ولا يدري المرء أعسرت تلك البلاءات العظيمة على الحركة أمرها أم أن جلال التحديات هو الذي حفزها إلى مجاهدات وكسوب جليلة؟ لكن من فضل الله على الحركة أن [[السودان]] بلد ذو سعة وحرية لم يعهد في تاريخه كثيرًا من وطأة الحكم المركزي القاهر، بل فطر أهله ودرجوا على الطلاقة والسماحة. فتمهد للحركة مجال عفو للتطور الذاتي والتفاعل مع المجتمع واضطرد فيها التجريب واتصل النمو وتكامل الكسب بأكثر مما هيئ لحركات إسلامية أخرى؛ كبت القهر نماءها فهى تحاول وتحاذر، وعوق سيرتها فهي تبدأ وتعيد، وعطل تقدمها فحراكها في حدود وصبرها في جمود.
| |
| | |
| ويمكن أن يُحاسب المرء الحركة بعمرها الممتد لنحو أربعة عقود فيحكم بأنها قصرت عن بلوغ ما كان يمكن من التمكن ويمكن أن يتعزى عما فاتها بما أدركته من كسب يقدر حين يقاس إلى مبلغ القوى المنافسة لها في الساحة الوطنية أو إلى نيل القوى الإسلامية المثيلة في الساحة الإسلامية العالمية.
| |
| | |
| فقد عمرت الحركة أصول التدين ومدتها في [[السودان]] فصوبت ونشرت المفهومات والمعلومات الدينية، وأحيت شأن القرآن والسنة، وعمرت المساجد وأقامت الشعائر، وقومت الأخلاق وأشاعت الالتزام في السمت والسلوك، ونشرت الدعوة إلى ملة [[الإسلام]] ولا يُضارع وقع الحركة في ذلك بالطبع رصيد حركات العلم والتصوف و[[الجهاد]] السالفة في المجتمع التقليدي ولكن مغزى الحركة كان كبيرًا جدًا في حفظ التدين في القطاع الحديث المتعرض للفتنة والرائد لنمط النهضة فقد ثابت الحركة بغالب طلاب العلم الحديث إلى الدين وصرفتهم عن مصير المسخ والاستلاب والفسق والالتهاء إلى الأصالة والاستقامة والجد والعطاء كما آبت بالنساء إلى الدين بعد الغفلة وعتقهن من أسر الأعراف وألهمتهن استقامة ورسالة إيجابية في الحياة بعد خطر الفتنة والضياع وقد هيأت الحركة عامة المجتمع لوجوه من حياة التدين في الإطار الحديث فقومت من أصول الولاء الديني التي أفسدتها الطائفية، ووحدت ب[[الإسلام]] شيئًا ما بين العامة والمثقفين الذين كادوا أن يغتربوا عن مجتمعهم ويغادروه شقين متجانسين وطورت الحركة صورًا جماعية منهجية حديثة تجسد التقاليد السابقة في فعل الخير وعمل الصالحات على صعيد الفرد والإطار المحدود، ووجوها حضرية متطورة لأنماط التدين وأعرافه الساذجة القديمة وقد بسطت الحركة الثقافية عامة بعلوم [[الإسلام]]، وطرحت فكرًا توحيديًا تجديديًا واجتهادات نظرية وعملية مؤصلة ولكنها ما انفكت عاجزة أن تقاوم عقابيل الموروثات الجامدة والمجلوبات الفاتنة، ولم تبلغ من آثار تعميق فكرها وتعميمه مثل شأن المذاهب الفقهية في ماضي المسلمين أو المذاهب الوضعية في حاضر العالم بل إن مستوى النظر التجريدي والتطبيقي في فكرها ما زال قاصرًا، ومدى التحرير والنشر ما زال حاسرًا، بالنسبة إلى المنافسة الفكرية والحاجة العملية القائمة وقد سبقت الحركة في الاهتمام بشئون الإقتصاد بينما انحبست غالب حركات [[الإسلام]] في الثقافة والتربية السياسية وزهدت وفرطت لغيرها من القوى في تصريف العامل المادي في التاريخ لكن الحركة لما تولد من همومها الاقتصادية فقهًا واقعيًا لمسائل التنمية والعدالة، ولاقوة كافية للاستصلاح والاستغناء والاستقلال الوطني وربما عد كسب الحركة السياسي جليلًا بما طورت من أساليب الدعوة والتعبئة والمناصحة والمنافسة والمشاركة والمعارضة والمصالحة والمجاهدة والتدبير الأمني والتخطيط السياسي بل يمكن أن يدعى لها المرء كسبت من الخبرات وبسطت من السياسيات وبلغت من النضج والنفوذ ما لم تقاربه حركة إسلامية أخرى ويمكن أن نذكر بعض ما تحقق بذلك الجهد السياسي الفعال فأول تصدياتها السياسية كانت للحركة الشيوعية واليسارية التي كانت تستشرى بقوة مخوفة أن نتمكن من قيادة [[السودان]] كما تمكنت من بلاد مثله ولكن الحركة الإسلامية إستخلصت ناشئة [[السودان]] من الشيوعية واستنقذت البلاد من غائله التسلط الشيوعي ثم تصدت الحركة للنظام اللاديني الموضوع على [[السودان]] فزلزلت أصول اللادينية السياسية التي يستصحبها وفرضت شعار [[الإسلام]] في الدستور والقانون والنظام العام مهما أعياها إلى الآن أن تجعل الشريعة الإسلامية هي فعلًا أساس السلطان والحياة العامة وقد قامت الحركة في أواخرها عهدها تحاول إرساء أساس جديد للوحدة الوطنية في وطن مزقته العصبيات العرقية والطائفية والجهوية، وتحاول حماية هويته الدينية والثقافية وحرمته الإقليمية من هجمة شرسة تستهدف ملته ولغته وقوته ووحدته واجتياح أطرافه واستلاب سيادته ولم ينحسم بعد مصير [[السودان]] توحدًا واستقلالًا، ولكن الحركة لم تكن كغيرها للغفلة والعجز، بل قدمت مشروعها لإنقاذ البلاد بمد قاعدة للولاء القومي الجامع واقتراح معادلة للتوفيق بين الوحدة التعدد واتخاذ مواقف للعز والدفاع الوطني.
| |
| | |
| ولم يحتبس أثر الحركة في أفقها المحلي، بل تعداه إلى آفاق العالم. فقد كانت تقتدي بنماذج الدعوة والتربية والتعبئة والفكر والتنظيم و[[الجهاد]] في صحوة [[الإسلام]] العالمية وتعتبر بتجاربها، فأصبحت بعد الاجتهاد مثالًا مستقلًا بين الحركات الإسلامية في العالم ينكر منها ويرضى، ثم انقلبت بعد الاستواء قدوة مقدرة صلاتها عامرة وتأثيراتها ظاهرة في كل الساحة الإسلامية ولئن لم تصبح بعد دولة كاملة تضارع الدول، فإن تفاعلاتها العالمية ميزتها عن كثير من الحركات وجعلت لها وزنًا وحسابًا محسوبًا لدى الدول.
| |
| | |
| '''تقويم الحركة'''
| |
| | |
| تراجع الحركة شأنها وتقومه بنظام راتب من خلال تقارير دروية أو خاصة تحكي واقعات كسبها وتحلل مغازيه وتنسبه إلى التكاليف المقررة والأهداف المرجوة والابتلاء المحيط. ولم تكن التقارير كلها مديحًا يروى منجزات الحركة ولا اعتذارًا يسوغ خطأها وقصورها، بل اشتملت نقدًا واستدراكًا كثيرًا، لأن الذين يعدونها ويقرونها غير الذين يسألون وقد تواتر في التقارير بيان وجوه من قصور الحركة الفكرية والثقافي والتربوي ومن ضالة تأثيرها الإصلاحي في المجتمع وينشط الرأي العام في أوساط الجماعة بتقويماته وانتقاداته، التي يغلب عليها الشكاة من أن التربية الدينية ليست وافية، وأن الصلة بين القاعدة والقمة ليست عامرة، وأن الالتزام التنظيمي ضعيف و[[الجهاد]] الحركي ضئيل وقد ظل الرأي العام الجماعي في الحركة يعبر عن فطرة تأبى القصور عن الكمال، وتميل إلى التبرم المفرط ولكن يبدو أن النفوس اطمأنت شيئًا ما في عهد الحركة الأخير إلا شوقًا ملحًا إلى تمكن [[الإسلام]] وضيقًا بالبطء والانتظار.
| |
| | |
| أما قدر الحركة في نظر المجتمع التقليدي، فهو اليوم خير منه لأول أمرها حيث كانت تبدو شذوذًا عن الدين المعروف يكاد يضاهي شذوذ الشيوعية، ثم عرفها العامة دعوة طيبة لكنهم أهملوها لشدة عصبيتهم وقلة فاعليتها، ثم راجت مفبوليتها ومشروعيتها اليوم، فيكاد الناس يجمعون على أنها تمثل الأحق دعوة وتجسد الأفضل خلقًا وتدل على الأصح سياسة مهما أخذوا عليها أو اعتزلوها أما أهل القطاع الحديث من غير أوليائها فمنهم عدو لها بالعقيدة لا يراها إلا سوءًا ولعل تعاظم الحركة في ذات الأوساط التي يعول عليها أصحاب العقديات اللادينية، واحتقارها لشأنهم وإدبارها عن الحوار والتعاون معهم مما أثار فزعًا منها وغيظًا وشوه صورتها وبخس قيمتها لدى هؤلاء أما المعتدلون والمستقلون فكثير منهم يعجب باستقامة عناصرها ووضوح طرحها وفاعلية نظامها ويرى فيها تقدمًا بالنظر إلى صور الطائفية والحزبية التقليدية ولكن منهم من يخاف من تشدد التزامها وانضباطها ويراه تنطعًا قد يحمل الناس على الشطط إذا تمكن في السلطة ومنهم من يرتاب بمرونة أطروحاتها وبسكبها الاقتصادي وقوتها السياسية ربما لأنه يرى الدين قريبًا مما يراه المتدينون الرجعيون، ويتوهم في طلب الثروة والسطلة ما لايليق بالتدين الزاهد وما ينبغي أن يصان منه الدين وما لا ينبئ إلا عن سوء طوية واستغلال للدين في أغراض الدنيا أما قيادات [[الأحزاب]] الوطنية ذات القواعد الدينية فقد كانت ترتاب بالدعوة إلى [[الإسلام]] قديمًا لكنها لا تبالي بالاستنصار بها على التحدي الشيوعي أما وقد أخذت الحركة تنتشر وتأتي على قواعدهم من تلقاء ذات الدين بوعي أتم وولاء أقوم، فقد ازدادت الغيرة والتوجس لا سيما بين العناصر الحزبية التي لاهم لها في الدين إلا أن تحوز به وحدها على العوام.
| |
| | |
| أما على الصعيد العالمي فإن الحركات الإسلامية والإسلاميينعامة مهتمون بالحركة يستطلعون أخبارها ويتابعون تطوراتها من أجل النصرة لها أو العبرة فيها ويقدر لها البعض كسبها السياسي الجليل، بينما يراه البعض على حساب تربيتها الأساسية ويقدر لها البعض بسط الشورى والتوسعة والرأى الحر، بينما يرتاب البعض بنزعتها التجديدية العصرية وعموما يعجب بها الحركيون الآسيويون والأفارقة والإسلاميون المستقلون ، بينما يتهمها بعض قيادي الحركة الإسلامية العربية ببعض الغرور والشذوذ ومهما تباينت مقولات الإسلاميينفي الحركة مادحة أو قادحة فقد تطورت أخيرًا نحو تزكية الحركة لتجلى الآثار الطيبة لمنهجها ولتطور الحركات الأخرى بنحو ما يضاهيها أما الرأى العام العربي فهو يقيسها على معهوده المحلي من الحركة الإسلامية أو يتعرفها من خلال ما ينعكس من الإعلام الغربي النافذ والحاصل من ذلك أنه يظلمها ويصورها صورة مظلمة ويستثنى من ذلك القطاع المتدين والإسلامي بالطبع، وأصحاب السلطات الذين يعاملونها على كل حال من حيث هي قوة سياسية ذات وزن أو من حيث هي قوة إسلامية من ظنون واهمة أما العالم الغربي فالحركة عندهم وجه للإسلام الأصولي بكل ما يتوهمون فيه ويحذرون فهى رجعية شأن الحركات السياسية الدينية فيما يعهدون فإذا رأوا فكرها تقدميًا ووقعها تحريريًا وقاعدتها حضرية حديثة وقيادتها مثقفة واعية وحركتها منهجية فعالة، كذبوا ظاهر الرؤية وصرفوه أو أولوه بما لا يكذب ظن السوء الذي يظنون وهي عندهم أداة عنف وإرهاب فإذا لم يروا منها إلا سماحة واعتدالًا أصروا على استصحاب وهمهم فكل حركة إسلامية جهادية في آخرة الحساب، وكل جهاد إسلامي عنف مرهوب وهي عندهم رمز التمرد والعداء للغرب، لا بما كسبت فعلًا، بل من حيث أن كل صيحة إسلامية هي خطر عليهم في اللاوعي المنفعل بالصراع التاريخي مع [[الإسلام]]، وكل أصالة مباينة لقوالب العمران ومعايير الإنسان الغربي وحشية وشذوذ وخروج على الإنسانية المتحضرة وقد راقب الغربيون تطور الحركة الإسلامية ب[[السودان]] ولا حظوا مغزاه، فتواترت تحذيراتهم المبكرة منها ومنها وما أن ظهرت آثارها بتطبيق الشريعة في [[السودان]] حتى انهالوا عليها بمكر عظيم يلونها إعلامهم بصبغة قاتمة وينالونها بالكيد المباشر ويحرضون عليها وينصرون ويمدون أعداءها سوى أن طوائف من أهل الغرب عصمتهم فطرتهم ووزعهم عقلهم من التحامل الجاهل والعصبية العدوانية، فمنهم معتدلون يسمعون ويتبينون قبل الحكم ويتجردون من الميل الشديد، ومنهم من عرفوا فعطفوا وقدروا الحركة قدرها وقومها عن إنصاف مهما حفظوا من أصل الخلاف ولم تأل الحركة جهدًا في الاتصال والحوار ومحاولة الإسماع والإقناع لأهل الفكر والصحافة و[[السياسة]] في الغرب، ولكن المرء لا يسمع الصم ولا يهدي من أحب ولا يرضي ابدًا خصيم الملة لولا أنها معذرة إلى الله ورجاء في فطرة الإنسان، فليسوا كلهم سواء.
| |
| | |
| '''وجهة الحركة'''
| |
| | |
| ما من حركة للتجديد إلا تعرضت لابتلاء الزمن، أن يتطاول العهد وتتحول الظروف فتمسى وقد بردت طاقتها الإيمانية من النسيان وتقادم الذكرى أو حولان المواقف الظرفية التي استفزت صحوة الدين، أو قد نفد أو بار زادها الفكري الذي أعدته لحاجات الدعوة الأولى قبل أن تتجدد الأسئلة والأقضية المطروحة، أو قد فترت حركتها من تخلف أساليب التنظيم والتعبئة والعمل وطروء تحديات غير مألوفة هكذا تكون الحركات عرضة لأن يؤول دفعها إلى جمود لكن الحركة تجتهد أن تحفظ وتيرة التطور المضطرد الذي ينعش الإيمان ويجدد الفكر ويقوم الحركة وقد ذكرنا قصة التطور وسنته في الحركة، وذكرنا أنه ما عاد يقع عفوًا، بل هو بتدبير مقصود من الحركة ألا تعتريها أمراض البلى والتقادم أو يتجاوزها الزمن بصروفه المتجددة التي تقتضي أن تركب الحركة في نظامها منهج تجدد موصول يقيها آفة الجمود ومهما اتخذت الحركة عن وعي بضرورة التطور والتجدد المضطرد من منهج في تربيتها وتنظيمها وتخطيطها، فإن ديدنها هو التفاعل الدؤوب مع محيط ابتلائها من ظواهر وأحداث وقوى في حياة المجتمع وفي العالم من حولها وذلك مما يحفزها دومًا إلى الاستجابة الحية والحركة النشطة إيمانًا مستمرًا واجتهادًا مثابرًا وجهادًا مصابرًا.
| |
| | |
| وقد تستمر حركة في التاريخ، ولكن يحرفها مر الزمان عن أصلها، فتتشوه شرعيتها الأولى، وتجتاحها تيارات الواقع المتغير وضرورات الوضع المتطور، أو ينبت فيها اتصال الأجيال وتستبد بها أهواء الطرافة. لكن الحركة تعتصم بأصولية متينة توطد استنادها على الكتاب والسنة واتباعها سبيل المسلمين وهي شورية تعول على حكمة الجماعة التي لا تجمع على ضلالة والتي تضبط شذوذ الاجتهاد الفردي وتبسط وجوه الرأي الحق وتتسع للاقتراح الجديد وتستوعبه في سياق سنة الدين الماضية وقد مضى على الحركة عهد طويل تأكدت فيه استقامتها من أن تميل إلى التنطح عن علم واقع الحياة فتميل فيختل فيها التوحيد اللازم بين علوم الشريعة والطبيعة والمجتمع.
| |
| | |
| وما دامت الحركة معتصمة بحبل الله متمسكة بالشورى وما تقتضيه من حرية في الرأي والتعبير وانشراح صدر في تداول الآراء ثم في التزام القرار، فإن الحركة في مأمن بأمن الله من أن تتمزق وحدتها وقد ابتليت أكثر من مرة في وحدتها، ولم تسلم في كل مرة، ولكنها اكتسبت خبرة إحسان التدين في شأن الجماعة؛ ألا تتفرق بغشيان الظنون المفسدة للثقة، أو اختلاف الآراء المغرية بالخصومة، أو ارتباك النظم الضامنة لاتساق الحركة، أو اختلال أسباب الاتصال الأفقي والرأسي في الجماعة فالحركة موحدة بعقيدة الإيمان بالله وشريعته الواحدة، ثم بميثاق التآخي والتوالي والتحيز في الجماعة، وبالتعاون وبالتعاهد على الموقف والمهام والمجاهدات والمجابهات والسيرة المشتركة، وبالحركة السمحة والشورى الوثيقة في نظام الجماعة فالمنظور في مستقبلها أن تحفظ وحدتها بإذن الله.
| |
| | |
| وقد يخشى المرء على الحركة الجمود والتخلف بأكثر مما يخشى مسخ الشرعية وفسخ الوحدة ولكن أخشى ما يُخشى على الحركة في أمنها أن تُضرب فيُقضى عليها، وفي قوتها أن تحاصرها المكايدة العالمية أو تغالبها المنافسة الداخلية أو تعجزها أقدار التحدي العظيم في [[السودان]] وقد اعتبرت الحركة بمحنة حركات إسلامية شتى وتجربتها الذاتية في الابتلاء، فاتخذت لها تدابير أمنية محكمة تحتاط بها في غائله الفتنة والعدوان وأضمن ما احتاطت به أن قد تجذرت شعبيًا وامتد وجودها العضوي في ثنايا المجتمع وأقاليم الأرض وانبثت مظاهرها وتعددت أشكالها وصورها الحركية فأصبحت بذلك أكبر من أن يحاط بها بيسر أو أن تستأصل، لا من حيث هي تدين فالدين محفوظ في كل حال، بل من حيث أنها جماعة منظمة وقد تُصيبها ضراء تنال منا بقدر، ولكن يرجى لها أن تصابر وتتجاوز لا لتحفظ أصل وجودها بل لتمضي قدمًا في مسعاها إلى الله الحافظ الرقيب.
| |
| | |
| والحق أن الحذر جله من المنافسة المحلية حيث تتجه كل القوى المنتسبة إلى الدين تاريخًا أو المغتربة عنه مذهبًا إلى أن تجمع لها لتصدها عن التمكن، ومن الكيد الدولي الوارد من جهات موالية باسمها للدين أو معادية له بملتها، يمد القوى الداخلية المناوئة لحركة [[الإسلام]] في كل حال تستدعي، بل يباشر الحركة بالمناوأة المعنوية والمادية لكن قوى المنافسة اليسارية اللبرالية تبدو منحسرة بفضل الله، وقوة الكيانات التقليدية تبدو متأخرة وقد لا يضر الحركة أن يجمع لها الناس وتبدو هي البديل للركام الموروث والطغام المستورد وتحاول الحركة أن تعد للكيد الخارجي استنصارًا بالله، ثم بالمؤمنين في [[السودان]] تتفجر الطاقات من مخبوء الإيمان الباقي في فطرتهم وتتعبأ قوات جماهيرهم وصفهم المرصوص وتتصوب جهودهم بمنهج حكيم ونظام فعال، ثم بتدابير من [[السياسة]] الخارجية يرجى أن تخذل عدوًا أو تجند وليًا أو تستجمع في علاقات العالم قوة جامعة لبأس المؤمنين أو دافعة عنهم كيد الكافرين أما تحديات الحياة في [[السودان]] فقد استعدت لها الحركة إذ نزلت معاني الدين وأحكامه قوة وهديًا في عين معضلات الواقع في سبيل العز والاستقلال الوطني والأمن والدفاع العام، والوحدة القطرية والقومية، والنماء والعدل المادي، ونشر الملة والثقافة الأصلية والبلد على أزماته ذو إمكانات أسبغها الله وسخرها لإنسانه المؤمن إذا صدقت لديه دوافع الإيمان وصحت هوادي العلم واستقرت أسباب النظام وواتاه توفيق الله من حيث يحتسب أو لا يحتسب.
| |
| | |
| فمهما رأينا من خير في تقويم كسب الحركة ولعله لا يكون وهما أو أحسانًا من ظن بمالها ولعله لا يكون غرورًا فإنما التعويل على وعد الله أن العاقبة للمتقين وأن نصره قريب وما يكون لأحد أن يأتمن النفس البشرية مطلقًا كيف تكون عاقبة تقواها، ولا أن يقدر ما يقع من الابتلاءات كيف يكون وجهه ووقعه، أو يتمنى الأماني على الله متى يأتي أمره، فلكل أجل كتاب والآخرة خير المنتهى.
| |
| | |
| | |
| </div><noinclude> </noinclude>
| |
| | |
| [[Category:تصفح_الويكيبيديا]][[Category:مكتبة_الدعوة]][[Category:حصريات]]
| |