وجه في الظلام
بقلم الأديب الشهيد الأستاذ/ سيد قطب
(أطفئ النور.. أطفئ النور.. تلك كانت صيحتها الخافتة فيما يشبه الاستغاثة حينما انفرد في مسكنه المنعزل!)
كان قد خرج من "الديوان" فوصل إلى منزله حوالي الساعة الثالثة، ووجد طباخه وهو خادمه الوحيد، قد أعد له طعام الغداء، صينية في الفرن قد أكثر فيها من البصل والتوابل، فتناوله في لذة ونهم، رغم أنه منهك من القيظ والهجير ـ وما كاد ينتهي حتى وجد جسمه كله يتراخى ويهمد فانكفأ إلى سريره فنام.
وحوالي الساعة السابعة كان قد استيقظ، فوجد في رأسه صُداعًا ووخمًا وفي بطنه كظة وتخمة، وفي جسده نهكة وخمولاً، فذهب إلى "الدش" وقضى في الحمام نحو ربع ساعة، يتلقى الماء البارد على جسمه ورأسه، ويجد في تلقيه لذة وانتعاشًا؛ حتى إذا أحس بشيء من النشاط نشف جسمه في بطء وتمطى ورفع يديه إلى أعلى مرات، ولبس ملابسه، وخرج من الحمام!
ولكنه كان لا يزال يحس بقية الصداع، عزاها إلى جو المنزل المكتوم فخرج إلى ردهة المنزل، وفتح الباب، فتدفق الهواء الخارجي، وكان نسيمًا شديدًا بعض الشيء، فأعزاه هذا بالخروج إلى الشارع، فأسرع يرتدي ملابسه كأنه على موعد.
وخرج مندفعًا حتى صار أمام الباب، وحينما وجد نفسه في الطريق بدا عليه شيئًا من الحيرة إلى أين يتجه، وخطر له أن يقصد إلى قهوة "سان سوسي" بالجيزة، ولا يدري لم التمع في ذهنه هذا الخاطر؟. ولم يكن ذاك مجلسه المعتاد، ولكنه كان يجلس هناك مرة، مع بعض أصدقائه، وكان يقابلهم في المائدة القريبة وجه جميل، ولأول لحظة استرعى نظره ذلك الوجه، فجلس يخالسه النظر، خفية من أصحابه، بل من صاحبة الوجه ذاته.. ولقد كان يكفي أن تلتقي عيناه بعيني امرأة، لكي يغضي ويخجل.
هذا كل ما كان يربطه "بسان سوسي" كأنما ليخرج من نفسه ومن جوه لو ذهب إلى هناك.
ونزل أمام المقهى ودخل فنفض المكان بنظره حتى استقر على مائدة متطرفة قصد إليها وهو يُوهم نفسه أنه في حاجة إلى جو طليق بعيدًا عن الزحام في وسط المقهى، ولكنه وجد نفسه وجهًا لوجه أمام امرأة في المائدة المقابلة لمائدته المنعزلة..
وجه تفيض فيه الحيوية الجاهرة، ويشع منه الأنوار المتوهجة، وقال لنفسه وهو يواجه ذلك الوجه المشع في الركن الضيق المنعزل. لا داعي لأن تعود نافرًا تبحث عن مائدة جديدة فإنها مصادفة ولا عليك من الجلوس هنا فأنت حر في اختيار المائدة التي تريد!
جلس وكأنما مسته عصا سحرية فنفض عنه خموله وكآبته وعزلته، وشعر كأنما يريد أن يغني أو يرقص، أو يضم الهواء إلى صدره، أو يصنع شيئًا ما. وطلب زجاجة من "الغزوزة نول"، فقد كانت شرابه المفضل. ومضت فترة طويلة، لم يختلس فيها النظر إلا مرات معدودات.
ولكنه كان يشعر بنشوة حالمة تغمره، ويسبح فيها في هدوء. كانت النظرة الواحدة زادًا كاملاً، ولقد كانت المرأة عنده هي الإشعاع البعيد، الذي يبعث الدفء والحرارة والانتعاش. ولكنه في هذه الليلة كان في حاجة إلى أشياء. وإن لم يدر هو نفسه بالضبط ماذا يريد! كان قد ضاق بحياته الرتيبة المنعزلة المكظومة التي لا متنفس فيها ولا ترويح.
وقبل أن يستسلم لهذه الخواطر، وقبل أن يسأل نفسه ماذا يريد. نظر فإذا هي تنظر في ساعتها في قلق، وتتهيأ للخروج. وأحس قلبه بمفاجأة واستغراب.
وحينما وقفت وهمت بمغادرة المكان ارتبك واحتار ومرت به وهي خارجة، فاختلجت كل ذرة في كيانه، لكنه بقى مكانه مسمرًا، حتى غابت عن نظره، وهنا أحس بوحشة غريبة وهمود كئيب.
ومرت الدقائق صامتة ودفع بكرسيه قليلاً إلى الوراء بعيدًا عن المائدة، وألقى يديه بجانبيه في استرخاء، ومد قدميه مباعدًا بينهما، وأَمَال رأسه قليلاً إلى الوراء. وبدا عليه الجهد الشديد والإعياء.
ومضت فترة وهو على هذه الحال، ثم اعتدل فتناول ساعة من جيبه ونظر فيها فإذا هي الثامنة والربع، ولا يدري كيف قفز إلى رأسه المكدود خاطر سريع، يذهب إلى السينما في حفلة المساء!
ولقد كان من عادته أن يختار حفلة السادسة والنصف؛ لأنه لم يعتد السهر الطويل، رغبة في الاستيقاظ المبكر ليصل إلى الديوان في الميعاد!
ولكنه هكذا وجد نفسه ينساق مع هذا الخاطر السريع الملح، فصفق في عجلة للجرسون ونقده الثمن، وأسرع يركب الترام فلما وصل إلى مقعده عاوده الهمود، وأحس بالجهد من الخطوات السريعة التي خطاها إلى الترام، فاستلقى ومد رجليه في استرخاء!
وقصد إلى سينما "ديانا" وكانت الساعة بعد التاسعة، فوجد العرض على وشك. ونظر إلى اللوحات فرأى بطلة "الشريط" في أوضاع جسدية مثيرة، وقد لون جسدها العاري باللون النحاسي المتوهج.
وحينما وصل إلى مقعده كان العرض قد ابتدأ، وما هي إلا لحظة حتى وجد الكرسي الخالي بجانبه يمتلئ، وتبين في الظلام وجه امرأة!!! وعرضت "الجريدة" والمناظر والصور الملونة. وقبل أن يُضاء النور وكان قد أحس بالرغبة الشديدة في أن يتطلع إلى الوجه الذي يجاوره، كانت صاحبته قد انسلت إلى الخارج، قبل ابتداء الاستراحة، فلم يتبين شيئًا.
وأُضيئت الأنوار وكان قد أحس بالإنهاك والجهد، فألقى نظرة هنا ونظرة هناك على الوجوه، ولكنه شعر بأنه في حاجة إلى استنشاق هواء نقي، فخرج يقصد المقصف، وتناول القهوة حتى دق الجرس، فسار إلى القاعة في بطء، وتلفت فوجد الكرسي المجاور لا يزال خاليًا، فذهب في تثاقل إلى كرسيه وجلس ريثما تغلق النوافذ وتسدل الستائر وتُطفأ الأنوار.
وبعد أن أعيد العرض بدقائق وجد شبحًا يتعثر في المقاعد، وامتلئ المقعد بجانبه وابتدأ عرض الرواية!.
وسمع بعد دقائق ضحكة خاصة تعليقًا على موقف في الشريط، وأحس كأنما هذه الضحكة نداء له واستثارة، وكان هو بدأ يحاول في داخل نفسه أن يأتي بحركة ما، يبدأ بها الاتصال، فلما جاءته هذه الاستثارة، وجم وأدركه خجله، وتردده، فجمد في مكانه، ولكنه وجد نفسه بعد برهة يتحرك مرة أخرى ليحاول من جديد، فقال وكأنما يحدث نفسه، فيلم مدهش، ثم أدركه خجله فكاد يتراجع لولا أن استدارت بوجهها إليه، فرأى عينيها تلتمعان، وخيل إليه أنها تبتسم له فتشجع! ذايله خجله وتردده، وأحس في جسده بقشعريرة يتبعها توهج، ثم انطلق يحرك ذراعه ويحرك رجله.. حتى إذا مالت برأسها إليها، لم يبق حاجز دون البقية المستطاعة في هذا المجال، وقبيل انتهاء الفصل الأخير همست في أذنه: عن أذنك.. أنا خارجة! وتلكأت قليلاً وهي تقف تنظم هندامها من الخلف في مكان الجلوس. وكاد يدركه تردده وجموده، ولكنها حين انتهت من الصف إلى فراغ الصالة كان هو الآخر قد غادر مقعده!
ونزلا إلى الشارع فوجداه مظلمًا ـ اتقاء للغارات الجوية ـ وأمسك بيدها في يده وقلبه يخفق ويرتعد من الوجل وسارا خطوات، ومرت عربة، فوجد نفسه ينادي السائق دون تفكير ويدعوها إلى الركوب فتلبيه في يسر بلا تردد! وقالت وهما في العربة: البيت بعيد؟! قال: لا. بعد دقائق.
وأدار المفتاح من الباب في تلصص وبطء، حتى لا يوقظ "الأوسطى علي" طباخه، وخادمه، وابن بلده أيضًا. ولقد كانت هذه المرة الأولى التي يعود فيها إلى داره بصحبة امرأة منذ أن استخدم "الأوسطى علي" منذ عشرة أعوام! واجتازا ردهة المنزل على نور المصباح "السهاري" الضئيل في المطبخ، فلما صارا وحدهما في الحجرة أوقد النور، وهنا سمع منها صيحتها الخافتة التي تشبه الاستغاثة: أطفئ النور. أطفئ النور!
وأصبح الصباح فنهض مبكرًا، وقد نسى أن بجواره شيئًا، فتلقى وجود جسد إلى جواره بدهشة كأنها المفاجأة. ثم تذكر في لحظة كل شيء، فلم يفق ليوقظ خادمه الذي كان يغط في النوم.
وألقى ببصره على الوجه الملقى على الوسادة! فأدركه شعور غريب.
لقد راعته الغضون والأخاديد في ذلك الوجه الباهت المكدود، وحينما وقعت عينه في نفس اللحظة على الجيد المعروق، والذراع الجافة الجلد، وعلى الشفتين الذابلتين الباهتتين الباردتين اللتين كان يحس فيهما بالأمس حرارة ووهجًا ونضرة.. عندئذ أدركته رعدة مصحوبة بتقزز.
مصحوبين مع ذلك بالإشفاق!
قطة ضالة.. يا للمسكينة!
وخيل إليه في هذه اللحظة أن هاتين الشفتين لم تتبلغا بالطعام منذ أيام، فخالجته رحمة عميقة، وتواري من نفسه شعور الاشمئزاز.
ولمس كفها برفق فاستيقظت. وكأنما ذعرت لأشعة النور التي تغمر الحجرة، فغطت وجهها بيديها، وكأنما عشيت عيناها من النور! وقال في رفق وخجل: يحسن لو تخرجين قبل أن يستيقظ "الأوسطى علي"، فإنه لم يتعود رؤية نساء في هذه الدار، وكانت يده في هذه اللحظة تتناول حافظة نقوده وتخرج منها ورقة من ذات الجنيه، وراح يبثها في حافظة نقودها.. وقد حرص ـ مع حذره وسرعته ـ على أن ينظر ما بداخلها، فإذا هي ثمانية مليمات!
وقامت ترتدي "فستانها" بسرعة وهي تتوارى خلف الصوان في الحجرة، وقد غض "حسان" نظره وكان بجوار الباب! وسار أمامها على أطراف أصابعه في الردهة، فقلدته في مشيته الخفيفة وفتح الباب الخارجي برفق، فمدت إليه يدها، فسلم عليها بيد باردة.. وأغلق الباب.!
المصدر
- مقال: وجه في الظلام موقع اخوان اون لاين