الإخوان المسلمون في دائرة الحقيقة الغائبة
للأستاذ: إبراهيم قاعود
إهداء بقلم: الأستاذ عمر التلمساني
الى : روح الامام الشهيد المرشد والمعلم والمربى على منهاج كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم
الى :المدافعين عن كلمة الله فى أرضه : السابقين واللاحقين بالكلمة واالقلم والخلق والعمل والجهاد والسالكين فى دروب النور الإلهى والشهداء الأبرار الأطهار .
أهدي هذه الإضافة المتواضعه
تقديم بقلم: الأستاذ عمر التلمساني
قصة هذا الكتاب
طالبنى بعض من أعرف بكتابة مذكراتى باعتبارى مشتغلا بالأمور السياسية فى هذاالوطن الغالى منذ عشرات السنين ولم أجد فىصدرى راحة لكتابة مذكرات على النمط الذى قام به الكثيرون ذلك لأن كاتب المذكرات إذا كان جادا ومنصفا يتناول جانبين من حياته: الجانب الخاص والجانب العام . ولئن كانت الحضارة الحالية لا تقيم وزنا للعامل فى الميادين العامة من ناحيتهالخاصة ما دام عمله فى الناحية العامة جيدا ولكنى كمسلم لا أسلم بهذا الرأى الفضفاض لأنى أومن بأن التلاحم بين الناحية العامة للشخص وناحيته الخاصة أمر لا يمكن فصله على النحو الذى يراه المحدثون إن الناحية الخاصة للإنسان بالغة الأثر فى ناحيته العامة لأن الرأى دائما وليد العقل والعاطفة معا على السواء ولا يستطيع العقل أن يحكم فى أمر متجردا من ناحيته العاطفية وإلا كان إنسانا آليا وهذا ما لا يرضاه لنفسه من يحترم نفسه فالحب والبغض الاتفاق والاختلاف والنفور والانسجام والإقرار والانكار والقرب والبعد الرضا والازورار الاستعطاف والاستثقال كل هذه المشاعر والأحاسيس الغلابة لا يستطيع العقل ان يتخلص منها وهو يقضى فى أمر من الأمور أو يصدر حكما من الأحكام . وما من شك أن الحكم ليس هو الحق فى ذاته ولكنه مظهر من مظاهر الحق لا أكثر و لا أقل خاصة إذا كان أحد الطرفين ألحن بحجته وأذكى فى التدليل والبرهنة وما دمنا لا نستطيع أن نعرى أنفسنا أمام الناس فى خاصة شئوننا فلا يجمل بنا أن ندعى أن ما نكتبه مذكرات للتاريخ والانسان الامين إذا تحدث عن نفسه لا يقدمها مبرأة من العيوب والسيئات بل يقدمها كما هى بشرها وخيرها وعجزها وبجرها وهذاأمر نحن مطالبون ألا نشيعه بين الناس لأن الله إذا ستر على عبد فى معصيته فلا يجوز أبدا لهذا العبد أن ينشرها على الملأ فكيف إذا يباح لمسلم ما أن يخالف تعاليم دينه . من هذه الناحية رفضت وأرفض وسأرفض فكرة كتابتى لمذكرات تنسب الى على أنى كاتبها .
ولما ألح الأستاذ الفاضل ابراهيم قاعود ووجد منى الاصرار على الامتناع اقترح أن يوجه الى أسئلة أجيبه عليها وبهذا يرفع عنى الحرج ما دمت ملتزما الدقة والأمانة فى الاجابة ودارت بينه وبينى أحاديث وطالت جلسات وكثرت أسئلة من هنا وهناك وانتهى منها الى وضع كتابه هذا ولولا أن هذاالكتاب يصحح الكثير من الاتهامات والمغالطات التى وجهت للإخوان المسلمين لما رحبت بنشره فى حياتى ولكن ما دامت أجهزة الاعلام كلها موصدة أبوابها دون الكثير مما يجب أن يعرفه الناس عن المشتغلين بالمسائل العامة فلا مندوحة إذا من ولوج باب مفتوح لذكر كثير من الحقائق التى تخفى على جمهور القارئين داخل مصر وخارجها ولا أطالب القارىء أن يأخذ إجاباتى قضية مسلمة بل عليه أن يوازن بين الاتهام والدفاع حتى يخرج لنفسه بالحقيقة التى يرتاح اليها الضمير النقى المنصف العادل وإنها لأمانة ويجب أن تؤدى فى صدق الى أهلها من الحاضرين والآتين على مرالسنين .
وما من شك أن هذا الجهد الكبير والعمل المتواصل أمر مشكور للأستاذ إبراهيم قاعود لأن هدفه تجلية الحقائق وهذا دوره فى مؤلفه هذا إذ أنه لم يتحيز الى جانب من الجوانب المتخالفة من شخصيات هذا ا لكتاب واسأل الله أن يثيبه على قدر نيته كما أعتذر الى القراء عن انشغالهم وقتا ما بأمور تمسنى فى هذا المؤلف الكبير فما كان فى ذلك من بد معاونة للمؤلف على ما لمست فيه من رغبة صادقة فى تحرى الحقيقة من مصادر تعودت أن تلتزم جانب الحق ولو ضد مصلحتها أو موقفها .
والكتاب كما يرى القارىء استعان مؤلفه ببعض ما كتب الإمام الشهيد وبما نقله عنى وكم كنت أود لو أستعان بآخرين ليتسع أمامه البحث والمقارنة والتأكيد على صدق ما أخذ نفسه به فى هذا المجال ولولا أن أبواب أجهزة الاعلام أوصدت فى وجه الاخوان المسلمين إلا من بعض المقالات التى لا تفى بالغرض وحصر ما نسب الى الاخوان ولولا أن ما تفضل به بعض الكتاب أمثال الأستاذين الفاضلين : أنور الجندى ومحمود عبد الحليم فى الدفاع عن الاخوان المسلمين يحفز الأقلام على السير فى هذا الاتجاه ولولا وفاء لهذه الدعوة الشاملة النافعة ولولا وجوب الافصاح عن كلمة الحق إذا ما سئل الانسان عنها لولا ذلك كله لتحرجت عن إجابة الأستاذ المؤلف الى ما طلب أو سأل .
إن العالم كله يشهد مدى ضراوة خصوم الاسلام فى النيل من الإخوان ا لمسلمين بغير الحق فكان لزاما على كل راغب فى الحقيقة ونصرة الحق أن ينبرى لكشف الأباطيل التى قيلت عن الاخوان المسلمين ليس معنى هذا أن الاخوان المسلمين مبرؤون من الخطأ ولكن الموازين القسط توازن بين الحسنات والسيئات فإذا رجحت كفة الحسنات فى جانب الإخوان المسلمين وهذا ما أحسب ولا أزكى على الله أحد ا فقد فاز الإخوان برضاء الله عنهم هذا الى أن الأخطاء الفردية لا يجوز شرعا أن تؤخذ بها الجماعة كلها " ولا تزر وازرة وزر أخرى " . لأن الحساب يوم الحساب فردى وشخصى " يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها " حيث لا قيمة للحياة ولا للسلطان " يوم لا ينفع مال ولا بنون " .
ولما كانت المعلومات التى ذكرت فى الكتاب على لسانى مرجعها الذاكرة ولما كانت ذاكرة المتقدمين فى السن من أمثالى عرضه للنسيان فإنى أقرر صادقا أننى تحريت فيها ا لدقة الكاملة والانصاف المريح الذى لا تأثير للعاطفة عليه هذا ا لى أننى على استعداد كامل لتقبل أى تصحيح يرى ناصحه أنه هو الحق لأننا جميعا نسعى لسرد التاريخ المجرد عن الهوى المصفى من الغرض المنقى من التحريف ميلا مع أى دافع يدفع صاحبه الى التستر أو التخفى .
إن الجهد الذى بذله الأستاذ إبراهيم قاعود جهد مضن ومشكور وكل ساع الى ذكر الحقيقة خليق بأن يشكر وأن يثنى عليه ففيه إحاطة وافية عن أحداث تاريخية قريبة وفيه حفظ لهذا التاريخ أن يتبدد بين دفات المجلات والصحف وحبذا لو تبارى الكتاب فى تاريخ هذه الفترة من الزمن القريب قبل أن تضيع معالمها ما دامت الحكومات قد منعت نشر الوثائق الرسمية الخاصة بهذه الفترة فمرحبا بالمؤلف الجديد وعلى بركة الله .
المقدمة
دائرة الحقيقة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين محمد الذى بعثه الله رسولا ومبشرا ونذيرا ورحمة للعالمين .
لقد انطلقت رسالة الاسلام الى قلوب وأفئدة البشر لتخرجهم من ظلمات الجهل والجهالة الى دروب النور والايمان ولتحكم كلمة الاسلام الايمانية سائر أنحاء المعمورة ولتهوى الى الأبد امبراطوريات ظالمة جائرة على الفطرة الانسانية وتسلح اصحاب الدعوة الأوائل بسلاح الايمان فانطلقوا الى مشارق الأرض ومغاربها ( فاتحين ) ومبشرين بالنور الإلهى وبنى الإسلام دولته مستندة على عقيدة لا اله الا الله محمد رسول الله ولكن سرعان ما باعدت أهواء الدنيا وبريقها بين العقيدة وأهلها الذين تفرقوا شيعا وفرقا ولكن الله سبحانه وتعالى يقيض من يذكر هذه الأمة العريقة الأصيلة بعقيدتها الكاملة المتكاملة .
ووسط عوامل الضعف والوهن الذى أصاب جسد الأمة الاسلامية بسبب الهجمات الشرسة التى وجهت للعقيدة السمحاء فإن شابا مسلما قد عز عليه ما أصاب دينه وعقيدته وامته فتولدت فى نفسه كل عوامل الغيرة على دينه وأنه لا بد من إنقاذ هذه الأمة من عثرتها وإيقاظها من غفوتها وتخلفها .ز فانطلق حاملا روحه على كفه داعيا ومرشدا ومعلما ومربيا على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح .ز هذا الشاب هو الامام ا لشهيد حسن البنا الذى عز عليه حال الاسلام فانطلق داعيا لانشاء ( الجماعة المسلمة ) التى تقف وسط بحار المدينة وأهواء البشر ولا تغرق فيها وعلى مدى عشرين عاما قاد الامام الشهيد حركة الاخوان المسلمين وهى ا لحركة التى شهدلها الأعداء قبل الأصدقاء أنها كانت من أنضج وأقوى الحركات الاسلامية فى العصر الحديث والذى يقرأ تاريخ مصر الحديث لا بد أن يجد الاخوان المسلمين على خريطة الحياة السياسية المصرية متعاملين ومتفاعلين مع كل الأحداث والاتجاهات على مدى نصف قرن من الزمان .
ولكن هذه الجماعة المسلمة لم تسلم من الطعنات وزالسهام الجارحة المميته وحملات التشويه والتزييف ولا فى أصحابها كل ألوان المحن والتعذيب من أجل انتزاع العقيدة من قلوب أعضائها .
وهذا الكتاب محاولة لرصد جانب كبير من تاريخ مصر من خلال هذه الجماعة التى استقرت على خريطة مصر السياسية خلال نصف قرن ولكن هذه الحركة رغم تراثها فإنها لم تعن بتسجيل نشاطها ورصد تاريخها اللهم إلا كتابات الامام الشهيد حسن البنا وبعض الإخوة المسلمين ممامما أتاح لهواة ومحترفى التصنيف والتشويه أن يطعنوا ظهر هذه الدعوة ويبتدعوا الروايات الكاذبة والتصورات الوهمية وكان لا بد من رصد تاريخ هذه الحركة وهنا كان الالتقاء مع أحد الذين عاصروا جهاد هذه الجماعة على مدى 50عاما ودفع مع غيره من المجاهدين ضريبة الجهاد من ابتلاء واختبار .. إنه الأستاذ عمر التلمسانى الذى سعدت وسيسعد الكثيرون من المخلصين للعقيدة الاسلامية أن يسمعوا شهادته للتاريخ حيث عايش تاريخ الحركة وتفاعل مع أحداثها وواجه مع غيره تلك الصدمات والهجمات ا لشرسة من كل الأطراف المعادية للفكرة الاسلامية ودفع حريته ثمنا لإيمانه وإخلاصه لعقيدته وليكشف للقراء تاريخ ما أهمله التاريخ وما قصد الكثيرون طمس معالمه والكتاب محاولة مبصرة وليست عمياء ـ لكشف حقيقة علاقات الإخوان المسلمين بالأحداث وبأطراف الصراع على مدى خمسين عاما ـ ولقد حاكمت الاخوان المسلمين عشرات الدوائر القضائية ولكن دائرة واحدة لم يقدم لها الاخوان المسلمون وهى دائرة الحقيقة التى غابت سنين طويلة وآن الأوان أن يدخلها الإخوان بتاريخهم وجهادهم ليقولوا للناس جميعا : هذه رسالتنا وهذه دعوتنا وهذه حقيقتنا وتاريخ الأمم هو ضميرها ـ والتاريخ لا يعرف الرحمة والشفقة والمحاولات التى بذلت لإهالة التراب عليه حتى لا يراه الناس ـ هى محاولة لا بد أن تستمر لأن كلمة الحق لا بد أن تقال .. وهذا الكتاب محاولة متواضعة لوضع النقاط فوق الحروف حول تاريخ جماعة الاخوانا لمسلمين وتقديم الصورة الصادقة أمام دائرة الحقيقة .
ولا يسعنى إلا أن أتقدم بالشكر للأستاذ الفاضل عمر التلمسانى على مساهمته الفائقة فى هذا الكتاب .. والتى كان لها الفضل فى خروج مادة الكتاب كما أخص بالشكر زوجتى الفاضلة التى وقفت بإخلاص ودون كلل وراء إتمامى هذا العمل وأتوجه بشكرى أيضا لكل من ساهموا فى إخراج هذا الكتاب الى النور .
المؤلف: إبراهيم قاع
القاهرة فى : رجب 1403 أبريل 1983
تمهيد تاريخى: هكذا بدأ الإخوان المسلمون
قبل أن نبدأ :
هكذا بدأ الإخوان المسلمون
أخذت جماعة "الاخوان المسلمون " موقعها على خريطة الحياة السياسية فى مصر والشرق العربى والاسلامى على مدى نصف قرن من الزمان وكذا على خريطة الفكر الاسلامى كأبرز الحركات السياسية الاسلامية فى ا لعصر الحديث ـ وذلك باعتراف خصومها وأعدائها قبل مؤيديها ـ رغم ما لا قته من صنوف التعذيب والتنكيل والتشويه التى تعد ت حدود الطاقة البشرية ودائرة إنسانية الإنسان ومع هذا كله ظلت علتها متأججه وضاءة رغم أحداث السنين .
وخلف هذه الحركة العريقة التاريخ والتى تخطت الخمسين من عمرها وقف الامام الشهيد حسن البنا نموذجا فريدا على دروب المجددين للأمة الإسلامية مؤسسا ومعلما ومرشدا لهذه الحركة على امتداد حياته ـ القصيرة ـ والتى أنهتها رصاصات ا لغدر التى وجهت لصدر الشهيد الأعزل وسط شوارع القاهرة ليسقط فى ساحة الشرف ولم تسقط الراية التى تلقفتها أيدى المجاهدين .. راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " صلوات الله وسلامه عليه وحين خرجت هذه الجماعة لتأخذ موقعها على خريطة الواقع والتاريخ حاملة شعار تجديد شباب الأمة المسلمة والوطن الاسلامى والتمسك بالجذور الاسلامية وإحياء حضارة الاسلام فى عصوره الباهرة فإنها وجدت تفاعلا تلقائيا مع جماهير الشعب البسيط و المثقف منه .. أزعج أرباب السلطان سواء فى ظل النظام الملكى ثم بعد ذلك نظام الضباط الأحرار العسكرى الشمولى لأنها شهرت سلاح العقيدة الاسلامية فى وجه من يريدون إطفاء نور الله من صدور عباده المخلصين ويحولون دون وصول رسالته للعالمين .
والذى يتتبع ويرصد مسار هذه الحركة يستطيع أن يرسم خطا بيانيا لزيادة مطردة أو تناسبا طرديا بين متغيرين .
الأول : نجاح الحركة والتفاف الآلاف بل الملايين حولها وما يمثله ذلك من التفاف حول العقيدة الاسلامية .
الثانى : ازدياد وتصاعد موجة ا لاضطهاد والتنكيل بأعضاء الجماعة ـ وخاصة أقطابها ـ ليدفعوا ضريبة الجهاد الغالية .
وهذا ما تنبه له وأدركه الإمام الشهيد حسن البنا بحسه الصادق حين قال : " أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية وستجدون أمامكم كثيرا من المشاق وسيعترضكم كثير من العقبات وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان وستقف فى وجهكم كل الحكومات على السواء .
وهذا ما حدث بالفعل ..!
والطريق للتعرف على شخصية الامام الشهيد حسن البنا لا بد أن يمر بمرحلة طفولته وشبابه أو التعرف الى جذوره الأولى والتى أسهمت دون شك فى دفعه على رأس جماعة الاخوان المسلمين لخوض غمار حرب ضروس طوال حياته فى مواجهة قوى شتى وصراعات جمة .
الإمام الشهيد حسن البنا من مواليد عام 1906 بقرية " شمشيرة " مركز فوة ( التابع الآن لمحافظة كفر الشيخ ) ونزح والده وهو صغير الى بلدة المحمودية ( بمحافظة البحيرة ) حيث افتتح الوالد محلا لتصليح الساعات ومن هنا لقب " بالساعاتى ط والتحق الصغير بإحدى المدارس ألأولية وأتم حفظ لقرآن الكريم ثم التحق بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور وعين بعد حصوله على دبلومالمعلمين بمدرسة " خربتا " الأولية بمركز كوم حمادة وعلى مدى السنوات الأولى من حياة الفتى الصغير نلمح توجهاته الدينية الفطرية فى مواظبته على أداء الصلوات فى المسجد الصغير بالمحمودية وحرصه على حضور دروس الوعظ وحلقات الذكر وحبه للاستزادة من مناهل الفكر والفلسفة وتأثره بفلاسفة الاسلام وعلى رأسهم الإمام " أبو حامد الغزالى " وسعيه لتكوين جماعة صغيرة هى الجمعية الحصافية الخيرية والتى عين سكرتيرا لها وعين الاستاذ " أحمد السكرى " التاجر بالمحمودية رئيسا لها للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومحاربة موجة التبشير التى استشرت على يد الارساليات الإنجيلية فى ذلك الوقت وفى مذكراته * " كانت أيام دمنهور ومدرسة المعلمين أيام الاستغراق فى عاطفة التصوف والعبادة .. " .
ثم ججاءت فترة أحداث ثورة 1919 التى انفعل بها الامام الشهيد أيما انفعال وأصدر ديوانا شعريا كبيرا كان نصيبه الحرق الكامل . كما يذكر الامام الشهيد الصور التى تسابقت أمام مخيلته وترسخت فيها فهو يقول : * " ولا زلت أذكر منظر بعض الجنود الانجليز وقد هبطوا القرية وعسكروا فى كثير من نواحيها واحتك بعضهم ببعض الأهالى فأخذ يعدو خلفه بحزامه الجلد .. حتى انفرد الوطنى بالانجليزى فأوسعه ضربا ورده على أعقابه خاسئا وهو حسير ولا زلت أذكر الحرس الأهلى الذى أقامه أهل القرية من أنفسهم وأخذوا يتناوبون الحراسة ليالى نتعددة حتى لا يقتحم الجنود البريطانيون المنازل ويهتكوا حرمة الناس .. وكان حظنا من هذا كله كطلاب أن نضرب فى بعض الأحيان وأن نشترك فى هذه المظاهرات وأن نصغى الى أحاديث الناس حول قضية الوطن وظروفها وتطوراتها " ..
ثم فكر فى إكمال دراسته العليا وبالفعل تقدم للالتحاق بدار العلوم بالقاهرة حيث قبل بها وعمره ستة عشر عاما وأقام مع بعض أصدقائه بحى السيدة ذينب وكانت رحلته فى دار العلوم مع التفوق حيث بز أقرانه واستحق نكافآت التفوق ثم انتقلت أسرته للقاهرة وكان ينتهز فرصة اجازة الدراسة الصيفية فى العمل فى دكان أقامه لتصليح الساعات ـ وهى نفس مهنة والده ـ ليعول نفسه ويكسب من عمل يده وفىنفس الوقت كان يجد سعادة فى هذه الأجازة ليلتقى بصديقة الأستاذ أحمد السكرى ـ الذى جمعته بالامام الشهيد صداقة لم يفرقها سوى استشها د الأستاذ البنا عام 1948 ـ أما خلال فترات الدراسة بدار العلوم فكان حريصا كل الحرص على حضور المنتديات الاسلامية القليلة فى ذلك الوقت وطرأت فى ذهنه فكرة الدعوة الاسلامية خارج حدود المسجد الذى رأى تأثيره ضعيفا وسط زحف موجات الانحلال والبعد عن الاخلاق الاسلامية فدعا رفقة من إخوته فى الاسلام لارتياد القهاوى وإلقاء الخطب والمواعظ فى العقيدة والأخلاق الاسلامية ونجحت التجربة ووجدت قبولا طيبا لدى رواد القهاوى ويمكن اعتبار هذه التجربة هى الارهاصة الأولى لفكر حسن البنا والتى أثمرت فى النهاية خروجه بفكرة تشكيل جماعة الاخوان المسلمين الى حيز النور .
فقد بدأت فكرة انقاذ الأمة الاسلامية تختمر وتلح على ذهن الامام الشهيد الحريص على إسلامه وعقيدته السمحاء ورأى وطنه ممزقا بين قوى الاحتلال الإنجليزى التى تجثم على صدره وموجات الانحلال ونشاط الارساليات الانجيلية التبشيرية والذى امتد ليشمل كل أرجاء القطر المصرى وترددت تلك الصيحة المدوية الخالدة : واإسلاماه !!واإسلاماه !! ويروى الامام الشهيد حسن البنا فى مذكراته * أحداث تلك الفترة التى قضاها فى القاهرة : " وعقب الحرب الماضية ( يقصد الحرب العالمية الأولى ) وفى هذه الفترة التى قضيتها بالقاهرة اشتد تيار موجة التحلل فى النفوس والآراء والأفكار باسم التحرر العقلى ثم فى المسالك والأخلاق وألأعمال باسم التحرر الشخصى فكانت موجه إلحاد وإباحية قوية جارفة طاغية لا يثبت أمامها شىء تساعد عليها الحوادث والظروف لقد قامت تركيا بانقلابها الكمالى وأعلن " مصطفى كمال باشا " إلغاء الخلافة وفصل الدولة عن الدين فى أمة كانت الى بضع سنوات فى عرف الدنيا مقر أمير المؤمنين واندفعت الحكومة التركية فى هذاالسبيل فى كل مظاهر الحياة " .
ويستطرد الامام الشهيد " كان لهذه الموجة رد فعل قوى فى ا لأوساط الخاصة المعنية بهذه الشئون كالأزهر وبعض الدوائر الاسلامية ولكن جمهرة الشعب حينذاك كانت إما من الشباب المثقف وهو معجب بما يسمع من هذه الألوان وإما من العامة الذين انصرفوا عن التفكير فى هذه الشئون لقلة المنبهين والموجهين وكنت مـتألما أشد الألم فهأنذا أرى أن الأمة المصرية العزيزة تتأرجح حياتها الاجتماعية بين أسلامها الغالى العزيز الذى ورثته وحمته وألفته وعاشت به واعتز بها اربعة عشر قرنا كاملة وبين هذا الغزو الغربى العنيف المسلح المجهز بكل الأسلحة الماضية الفتاكة من المال والجاه والمظهر والمتعة والقوة ووسائل الدعاية " ز
وانتقل الشهيد الامام حسن البنا الى مرحلة أخرى من تفكيره فلم يجلس مستسلما لما يجد من حوادث عظام وإنما بدأ الألم الذى كان يحترق فى صدر ه يتحول الى عمل فبدأ اتصاله بكبار رجال الأزهر ومنهم الشيخ " أحمد يوسف الدجوى " وتحدث اليه فأظهر الألم والأسف وأخذ يعدد مظاهر الداء والآثار السيئة المترتبة على انتشار هذه الظاهرة فى ألأمة وخلص من ذلك الى ضعف المعسكر الاسلامى أمام هؤلاء المتآمرين عليه وكيف أن الأزهر حاول كثيرا أن يصد هذا التيار فلم يستطع .
وقد زاد حلكة هذه الفترة التى عاشها الشهيد حسن البنا فترة شبابه الحملات التبشيرية الضخمة التى أرسلها الانجليز لمصر ومهدوا لها بنشر المرض والجهل وانتشر المبشرون فى كافة أنحاء البلاد فى الوجهين البحرى والقبلى تحت سمع وبصر المسئولين والحكام واستغل المبشرون فقر الناس وحاجتهم وجهلهم وبثوا دعواتهم ووجدوا بالتحديد فى الصعيد مرتعا خصبا لدعوتهم وأفكارهم حيث الجهل والانهزال والفقر واستغل الانجليز سلطتهم فأسكتوا الصحف المعارضة لهذه الحملة المسمومة بالاغلاق والمصادرة وتكميم الأفواه .
وبفورة وحماس الشباب انطلق الشهيد البنا يعلن غضبه واعتراضه على هذا الاستسلام والاخفاق واندفع يتحدث عن السبيل لانقاذ الأمة الإسلامية وأن أسلوب التألم واجترار الماضى لم يعد يصلح لمقاومة هذه التيارات الجارفة ووجد الشهيد البنا معارضة لأقواله وتأييدا جارفا فى نفس الوقت ولم تنقض هذه الجلسة إلا واتفق على اصدار مجلة " الفتح الاسلامية " وأسندت رياسة تحريرها للكاتب الاسلامى محب الدين الخطيب ..
ولم تستطع الحملة التبشيرية أن تصمد أكثر من عام وحملت أمتعتها وغادرت مصر غير مأسوف عليها وتطهرت مصر منها .. بعد أن نجحت مجلى الفتح فى فضح المؤامرة وتواطؤ الانجليز وأذنابهم فيها كما تكونت لجنة برياسة الشيخ " محمد مصطفى المراغى " لمقاومة التبشير وتصدت له بكل قوة وعنف حتى استسلم المبشرون وسقطت حججهم ودعاواهم أمام العقيدة الاسلامية ثم تلى ذلك إنشاء جمعية " الشبان المسلمين " التى أسندت رياستها للدكتور عبد الحميد سعيد " وكان الإمام الشهيد أول من سارع بالانضمام إليها .
ومضت سنوات الدراسة بدار العلوم وتخرج الامام الشهيد وكان أول دفعته عام 1927 ولم يرشحه أحد لبعثة دراسية فى الخارج كما هو المعتاد وعين الشهيد البنا بالاسماعيلية وبعد عام من سفره للإسماعيلية تكونت أول نواه لتشكيلات الاخوان المسلمين وشعبهم . وفكر الامام الشهيد أن يعاود تنفيذ تجربته السابقة فى ا لدرس والوعظ فى القهاوى للمرة الثانية نجحت الفكرة نجاحا كبيرا فى اجتذاب رواد القهاوى نظرا لسلامة أسلوب الشهيد الامام وقدرته الفائقة على الاتصال بجمهور ورواد القهاوى وكان هو فى نفس الوقت يقوم بعملية جس نبض للمجتمع الجديد والمؤثرات التى تحكمه واتضح أنها : العلماء وشيوخ الطريق والأعيان والأندية وسعى بالفعل بالاتصال بهذه العناصر للعمل على خدمة الاسلام وإعلاء شأنه وإنقاذه من المسلمات التى لحقت به وأحاطت به .. وكانت لمدينة الاسماعيلية سماتها الخاصة التى تميزها عن باقى القطر المصرى فهناك ترامى المعسكر الانجليزى ببأسه وسلطانه و هناك مكتب شركة قناة السويس الذى كان يسيطر على كل شئون المدينة وهناك المنازل الفخمة فى حى الأفرنج يقابلها المساكن المتواضعة فى حى العرب .
وأحس الإمام الشهيد حسن البنا بأن الله قد اختار له هذه البقعة لتبدأ فيها حركته ودعوته ..وقد كان.
نحن إذن .. الإخوان المسلمون
وفى ذى القعدة سنة 1347 هـ مارس سنة 1928 زار الامام الشهيد حسن البنا ستة : من الإخوة هم : حافظ عبد الحميد ، أحمد الحصرى ، فؤاد إبراهيم ، عبد الرحمن حسب الله ، إسماعيل زكى ، زكى المغربى ، وهم من الذين تأثروا بالدروس التى ألقاها الإمام الشهيد وتحدثوا إليه قائلين * : " لقد سمعنا ووعينا " .ز وتأثرنا ولا ندرى ما ا لطريق العملية الى عزة الاسلام وخير المسلمين ؟ ولقد سئمنا هذه الحياة : حياة الذل والقيود وها أنت ترى أن ا لعرب والمسلمين فى هذا ا لبلد لا حظ لهم منزلة أو كرامة وأنهم لا يعدون مرتبة الأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب .. ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجرى حارة بالعزم فى عروقنا وهذه الأرواح تسرى مشرقة الايمان والكرامة مع أنفسنا وهذه الدراهم القليلة من قوت أبنائنا ولا نستطيع أن ندرك الطريق الى العمل كما تدرك أو نتعرف السبيل الى خدمة الوطن والدين والأمة كما تعرف وكل الذى نريده الآن أن نقدم لك ما نملك لنبرأ من التبعة بين يدى الله وتكون أنت المسئول بين يديه عنا وعما يجب أن نعمل وإن جماعة تعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه . وتموت فى سبيله لا تبغى بذلك إلا وجهه لجديرة أن تنتصر وإن قل عددها وضعفت عددها .
ويقول الامام الشهيد كان لهذا القول المخلص أثره البالغ فى نفسى ولم أستطع أن أتنصل من حمل ما حملت وهو ما أدعو إليه وماأعمل له وما أحاول جمع الناس عليه فقلت لهم فى تأثر عميق " شكر الله لكم وبارك هذه النية الصالحة ووقفنا الى عمل صالح يرضى الله وينفع الناس وعلينا العمل وعلى الله النجاح فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الاسلام جندا وفيها حياة الوطن وعزة الأمة " .
وكانت بيعة .
وكان قسما أن نحيا إخوانا نعمل للإسلام ونجاهد فى سبيله .
وقال قائلهم : بم نسمى أنفسنا ؟ وهل نكون جمعية أو ناديا أو طريقة أو نقابة حتى نأخذ الشكل الرسمى ؟ فقلت : لا هذا ولا ذاك دعونا من الشكليات ومن الرسميات وليكن أول اجتماعنا وأساسه : الفكرة والمعنويات والعمليات . نحن إخوة فى خدمة الاسلام فنحن إذن " الاخوان المسلمين " .
وجاءت بغته .. وذهبت مثلا .. وولدت أول تشكيله للإخوان المسبلمين من هؤلاء الستة حول هذه الفكرة على هذه الصورة وبهذه التسمية . وهكذا يمكن اعتبار مارس 1928 هو البداية الفعلية لانطلاق حركة جماعة " الإخوان المسلمين " بعد أن ظلت تراود ذهن الإمام الشهيد حسن البنا لفترة من الوقت حيث ازداد تفكيره فى حال الأمة الاسلامية وما وصلت اليه من ضعف إزاء التيارات الجارفة والعاتية التى تهدد كيان هذه الأمة وتكاد تعصف بمستقبل أبنائها .. وكانت البيعة بين مجموعة من المسلمين الحريصين على اسلامهم وعقيدتهم وتوحدت توجهاتهم فى :
- احتجاجهم الصارخ على ما أصاب القطر المصرى من داء الانحلال والتحلل والبعد عن الاخلاق الاسلامية .
- احتجاجهم على أسلوب الرفض السلبى والصامت من جانب علماء الدين وخاصة فى الأزهر إزاء ما يجرى من مجريات الأمور ومحاربة الاسلام والمؤمنين به .
- اتفاقهم على التسليم بالبيعة لهذا الشاب المخلص الذى توسموا فيه خيرا كبيرا وذلك من خلال دروسه وخطبه فى القهاوى والمنتديات العامة وبالاسماعيلية وما أحدثته هذه الدروس من آثار طيبة .
- اتفاق وجهات نظرهم على أن الطريق لانقاذ الأمة الاسلامية يبدأ من خلال جماعة إسلامية قوية قادرة على النهوض بأعباء هذه المهمة الصعبة مهما كانت التضحيات ومهما عظم وغلا ثمنها .
وهكذا وضع المجتمعون اللبنة الأولى فى صرح بناء جماعة الاخوان المسلمين وانطلق الشهيد البنا يدعم هذا الصرح مستعينا بأول تشكيل من الجماعة بادئا بعدة خطوات منها " مدرسة التهذيب " التى تعنى فى جانب كبير بدراسة القرآن الكريم والعقائد والعبادات والمنهاج الاسلامى القيم وفى جانب آخر كان الشهيد الامام يهدف لدعم أواصر التعارف والمودة والمحبة بين أفراد التشكيل الأول كما رنا الشهيد الى خارج حدود الإسماعيلية لنشر الدعوة وتنقل داعيا ما بين القاهرة والمحمودية والاسماعيلية لهذاالغرض .. وواجهت دعوته فى البداية صعوبات جمة ولكن إيمانه بالله هو ورفاقه جعل الصعاب هينة ما دامت فى سبيل ا لله ونجح الإمام الشهيد فى إقامة مسجد فى مدينة الاسماعيلية كان بمثابة مركز لأنطلاق الحركة ثم مدرسة حرة فوق المسجد ثم إنتقل مركز الحركة من الإسماعيلية فى عام 1932 لتبدأ مرحلة جديدة أكثر انتشارا وظهورا وتألفت فرقة الرحلات للإخوان المسلمين على نظام الكشافة وانتقلت شعب الاخوان كلها للقاهرة " ثم بدأت مرحلة " رسائل الامام الشهيد " للإخوان وكانت أولى الرسائل هى : القانون الأساسى للإخوان المسلمين واللائحة الداخلية وكانت بتاريخ 20شعبان عام 1351 الموافق 19 ديسمبر 1932 ثم ظهرت جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية بتاريخ أواخر شهر مايو 1933 برأس مال جنيهين فقط واستمرت تصدر أربع سنوات كاملة ثم أصدر الإخوان مجلة " النذير سياسية أسبو عية " لتحدد الخطوط العريضة للإخوان وصدرت فى مايو 1938 أى بعد عشر سنوات من البداية الفعلية لحركة الاخوان وحتى ذلك الوقت كان الاخوان المسلمين 15 شعبة بالقطر المصرى ثم تطورت الحركة وعقد الاجتماع الأول .. لمجلس الشورى العام أو المؤتمر الأول للإخوان المسلمين فى 22 صفر 1352 هـ ( 1932 والذى تلته عدة مؤتمرات ثم تألفت لأول مرة هيئة مكتب الارشاد العام للإخوان المسلمين بناء على قرارات مجلس الشورى وبدأت دعوة الاخوان تشق طريقها على ساحة الأحداث متفاعلة مع الواقع مستندة على مبادىء العقيدة الاسلامية السمحاء وتكونت فرقة للأخوات المسلمات فى القاهرة ولم تكتف الحركة بالركون للتحرك داخل حدود القطر المصرى وإنما تعدتها الى كل من دمشق وبيروت وفلسطين مستندة على العقيدة الاسلامية سيفا والقرآن الكريم كلمة الله لعباده صوتا وسنة رسوله صلى ا لله عليه وسلم نبراسا ودليلا علىالطريق ولاقى أصحابها من المحن والاختبارات ما يعجز عنه الكثير من البشر وزادتهم هذه المحن ثباتا على الحق غير زائغين عن طريقه ووقع بعضهم فى أخطاء لأنهم بشر وشيمة البشر الخطأ والتوبة إيمانا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " .
الباب الأول: لمــاذا أخترت الإخوان ؟
عمر التلمسانى يتحدث
على مدى نصف قرن من الزمان وأكثر هى عمر حركة الإخوان المسلمين متعاملة ومتفاعلة مع واقع الأمور ومجرياتها لا قت فيها ما لاقت وتعرضت لما تعرضت له من أهوال يشيب لها الولدان فى بطون أمهاتهم ويعجز منطق الكلام عن وصفها كان لا بد من أن نتجه الى من عايش خضم هذا البحر الهائج من الأحداث ليفتح لنا ملف ذكرياته ويكشف ما غمض من أسرار ويجلى الحقائق ويظهر ما استتر منها علنا نصل الى مكان فى دائرة الحقيقة الغائبة على مدى نصف قرن بين التضليل والتشويه والتلفيق المتعمد وقد آن الأوان لتقديم الصورة الصادقة الحقيقية بعد طول غياب للحقيقة .
لقد عايش الأستاذ عمر التلمسانى هذه الأحداث على مدى نصف قرن من الزمان عاشها عضوا فى مكتب الارشاد وأتاحت له الظروف أن يتعامل ويتفاعل مع هذه الأحداث وكان قريبا من الامام الشهيد حسن البنا وعاش كل المواجهات والصراعات التى خاضتها حركة الإخوان المسلمين مع كل القوى : سواء أحزاب ما قبل حركة يوليو 1952 والقصر أم جماعة الضباط الأحرار والانجليز ورحلة جماعة الاخوان عقب حركة 1952 وعصر السادات كما شهد الخلافات التى وقعت داخل الحركة نفسها والتى تفجرت بصفة خاصة بعد استشهاد الإمام حسن البنا عام 1948 .
لقد دخل الأستاذ عمر التلمسانى جماعة الاخوان المسلين شابا يافعا مرفها مترفا فخلع أرية الترف والرفاهية ليعيش زاهدا عابدا لربه متمسكا بعقيدته عاملا على إحياء مجد الاسلام مع رفاقه فى العقيدة وضحى بالكثير وعاش بين جدران السجون ما يقرب من 18 عاما دافعا لضريبة الجهاد فى سبيل ا لله مخلصا النية والعزم مؤثرا عقيدته على ما سواها .
وكان لا بد أن نبدأ مع قصته أو رحلته فى الحياة كما يرويها التلمسانى طفولة وشبابا ، يقول : " ولدت عام 1904 فى أحد البيوت فى حى سيدنا الحسين رضى الله عنه وكان للأسرة منزل فى قرية " نوى " بمركز شبين القناطر بمحافظة القليوبية وكان منزلنا مكونا من خمس شقق فى طابقين وكان يجمع والدى وجدى وعمى وكان جدى متزوجا من اثنين وكذا والدى وكانت اسرتنا ميسورة الحال يمتلك جدى ثلاثمائة فدان .
وتلقيت علومى الأولية فى كتاب القرية وأذكر أول من تلقيت العلم على أيديهم الشيخ عبد العزيز القلماوى والشيخ أحمد رفاعى نصار عليهم رحمة الله وكنت بحكم نشأتى ذا وضع مرموق فى كتاب القرية وبعيدا عن إساءة المدرسين فكان إصرارى علىالعلم ميسرا وما كنت أنفر من حصص اللغة كالأطفال الآخرين وكنت أجد فى نفسى رغبة للتعلم وتوفى جدى فى يناير 1918 وانتقل أبى بنا الى القاهرة وفى نفس البيت الذى ولدت فيه فى حارة " حوش قدم " وكان البيت مملوكا لنا وكانت الحارة فى شارع الغورية وهناك درست المرحلة الابتدائية فى مدرسة الجمعية الخيرية الاسلامية وكذلك الثانوى ثم أكملت الدراسة الثانوية فى مدرسة " بنبا قادن " بحى الحلمية الجديدة وكنت متفوقا فى دراستى والتحقت بمدرسة الحقوق عام 1924 وفى السنة الأولى تزوجت فكان الزواج مشغلة لى عن الدراسة خاصة بعد وفاة أبى بعد زواجى بستة أشهر وتخلفت فى الكلية سنتين وتخرجت عام 1930 واتخذت لى مكتبا فى مركز شبين القناطر ولا أستطيع القول : إننى كنت محاميا لا معا ولكننى فى الوقت ذاته لم أكن مغمورا .
وقد كان لأسرتى تأ ثير كبير فى حياتى وفى ترسيخ القيمة الدينية لدى وكان جدى رحمه الله عليه محافظا على الفروض الدينية وكان فى معاملاته مع الذين يعملون أجراء فى أرضه نموذجا طيبا فقد كان بعضهم يقصر فى دفع إيجار الأرض بالكامل فكان يبحث حالته فإذا وجده مضطرا أعفاه من باقى الايجار وإن وجده موسرا ويستطيع أن يدفع فكان يحاسبه ويأخذ منه الايجار بالكامل وكانت له حديقة موالح فى القرية وكان يبيح لكل رجال القرية أن يأكلوا من الحديقة ما يشاءون فإن خرج أحدهم ببرتقاله واحدة من الحديقة كان يحاسبه عليها حسابا عسيرا وكان يضربه لأن الشرع يعتبر هذه سرقة فكانت معاملته للفلاحين على هذا النمط وكان يصحو قبل الفجر بساعة تقريبا ويوقظ جميع رجال القرية من الفلاحين ليصلوا الفجر جماعة حاضرا " .
ويضيف الأستاذ التلمسانى : " هذا الجو الذى كنت أرى فيه رجال العائلة ونساءها جميعا يؤدون كل واجباتهم الشرعية ترك أثره فى نفسى وبالنسبة لى لا أدرى فى أى سن بدأت الصلاة ؟ ولا متى بدأت الصيام ؟ وعندما تنبهت لنفسى وجدت نفسى أصوم وأصلى تلقائيا .
وكان يزور القرية كل شهر أو شهرين بعض علماء الأزهر يقضون يوما أو بعض يوم وكانت المناقشات تدور بينهم وبين جدى حول الآراء الفقهية وكان جدى عليه رحمة الله يأخذ بمذهب " محمد بن عبد الوهاب " وكان متأثرا بابن تيمية وكانت المناقشات تدور بينه وبين المتصوفين حول أرجح الآراء الفقهية وكانت المناقشات تحتدم لدرجة كنت اتصور أنهم سوف يتشابكون بالايدى وينتهى الأمر بسلام وكأن شيئا لم يكن .
هذه الصورة جعلتنى بالفعل متأثرا بالدين وأمارس شعائره عن اقتناع لا عن تقليد وما ضاعت منى والحمد لله فريضة فى يوم من الايام منذ شببت عن الطوق وأدركت واجباتى الدينية وظللت على هذا الى التحقت بكلية الحقوق فكانت أعلى الدرجات التى أحصل عليها فى مواد الدراسة هى درجات الشريعة الاسلامية وكنت محل تقدير من هذه الناحية عند المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم عليه رحمة الله .. هذه الصور وهذاالاتجاه جعلنى أنظر الى نشوء الأحزاب وتصرفاتها فى حذر كنت حقا أعتقد أن " سعد زغلول " كان زعيما وطنيا ولكننى كنت أراه ـ بمنظورى ـ فى رمضان لا يصوم ويدخن السجائر علنا . فكان يبدو هذا فى ذهنى غريبا .ز كيف أن زعيما مسلما ومصريا مفطر فى رمضان وما كنت أظن أن حالته الصحية تتيح له هذا لأنه كان فى حالة صحية جيدة وكل رجال الأحزاب أو زعمائها كانوا تقريبا على هذه الوتيرة فكانت ثقتى فيهم مهزوزة وإن كنت أميل ما أكون الى الوفد متأثرا بالرأى العام فى البلد حتى أننى طلب منى أن أكون عضوا فى اللجنة المركزية فى مديرية القليوبية ودخلت بالفعل وظل هذا الوضع يتأرجح فى ذهنى الى أن ظهرت دعوة الاخوان فى عام 1928 ما كنت أعرف عنها شيئا ولا قرأت عنها الى أن زارنى اثنان من الاخوان وعرضوا الفكرة واقتنعت بها وصرت مع الإخوان من ذلك اليوم ولكنى لم أكن أقاطع الوفد كانت صلتى بهم سائرة الى ان تبين لى تماما أن الوفد يظن بالاخوان المسلمين أنهم ينافسونه فى الزعامة أو الشعبية وبدات مظاهر القطيعة من جانب الوفد وبدا يهاجم الإخوان فتحدد الموقف فى نظرى بصورة واضحة تماما واعتزلت جميع الأحزاب وسرت فى طريقى مع الاخوان المسلمين الى يومنا هذا .. ولقد كان التزامى جانب القرآن الكريم منذ طفولتى له بالغ الأثر فى حياتى حيث قرأت أجزاء كبيرة منه وحفظتها حتى مرحلة الدراسة الثانوية ثم انقطع التزامى وفتر حفظى له وتسرب الكثير مما حفظت ولكن منذ عام 1940 عاودت ملازمة القرآن الكريم الى أن حفظته تماما وكنت أحفظه بمفردى وما كنت أحفظ على يد أى إنسان .. ولقد دخلت مدرسة الحقوق لأن دراستى كانت أدبية حيث كنت ميالا للناحية الأدبية وكنت أحب قراءة التاريخ والجغرافيا والأدب وأثناء دراستى الثانوية كنت أتردد على المحاكم وكانت هناك قضايا سياسية تنظر فى ذلك الوقت مثل قضية نزاهة الحكم وقضية محاكمة الزعماء الوفد وقضايا أخرى كثيرة كانت دراسة الحقوق تستهوينى ولم تكن منصة القضاء أو النيابه تجذبنىوإنما كان إعجابى كله محصورا فى موقف الدفاع فتمكنت من نفسى غريزة حب موقف الدفاع وصممت على أن أكون محاميا لا أن أكون موظفا .
وقد عايشت فى هذه الفترة أحداث ومظاهرات ثورة 1919 وما بعدها ولعلى اشتركت فى جميع المظاهرات ولنم تفتنى واحدة منها فى القاهرة مناديا بشعارات الوفد لقد كانت ثورة حقيقية نابعة من أعماق الشعب لأن كل أ فراد الشعب وطبقاته كانوا متجاوبين ومتفاهمين مع الاتجاه الوطنى ومحاولة التخلص من الاستعمار وآثاره فكانت مشاركتى فى هذه الأحداث مشاركة فعلية ما كنت أكتفى بالقراءة عنها ولكنى كنت أشارك فى هذه المظاهرات وأذهب الى منزل سعد زغلول وأستمع الى خطبة وكنت فى ذلك الوقت معتقدا أن كل الأعمال تعمل خالصة لوجه الله والوطن الى أن تكشفت لى الحقيقة شيئا فشيئا فلقد أخذ على سعد زغلول أنه عين كثيرا من أقربائه فى الوظائف العليا ويوم أن كان رئيسا للوزراء صرح أنه لو استطاع أن يجعل الحكومة كلها زغلولية عظما ولحما ودما لفعل .. فتبين لى أن الغرض هو حب الزعامة واكتساب المظاهر الشعبية خاصة وأن كل المصريين يعلمون أن سعد زغلول نشأ فى صالون الاميرة " نازلى " وكان هذا الصالون يضم كل الأسماء اللامعة فى ذلمك الوقت وكان معروفا عن تلك الأميرة أن لها صلات بالسفارة أو دار الحماية البريطانية كما كانت تسمى فى ذلك الوقت وشيئا فشيئا رأيت كبار رجال الأحزاب يتنافسون علىا لحكم وقرأت ما كان يكتبه بعضهم ضد بعض من تشنيع واتهامات حتى أ نه إذا قرأت ما كتب فى تلك الفترة عن سعد زغلول وعن عدلى يكن وعبد الخالق ثروت واسماعيل صدقى والنحاس لا تكاد تصدق أن واحدا منهم كان نظيفا كل النظافة ومخلصا كل الاخلاص لأن كل واحد من هؤلاء كان يطعن فى الآخرين ويتهمهم بالعمالة ويتهمونه بعدم الاخلاص فاستقر رأيى أخيرا على أن فكرة قيام دستور وإنشاء أحزاب أصلا كانت فكرة استعمارية قصد منها الوقيعة بين أبناء الوطن الواحد وجعلهم يتشاحنون ويتقاطعون بغية ا لوصول الى ا لحكم وذلك مما أساء الى الحركة الوطنية لثورة 1919 فبعد أن كانت أسمى وأنظف الحركات الوطنية فى العالم تمزقت شيعا وذهب كل فريق وراء زعيم وأصبح كل واحد من هؤلاء لا يهمه إلا تحقيق مصلحته الشخصية وفى الحقيقة أنه لم يكن فى البداية لهذه الثورة صراعات بين فريق وآخر كان الشعب كله يكاد يكون وفديا ويأخذ بوجهة نظر سعد زغلول فى المسائل ا لسياسية ويعجب بخطبه وكلماته " الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة .. " كانت عباراته تلهب مشاعر الجماهير وكان النزاع حقيقة بين الوفد وبين السراى وأرادت ا لسراى أن تضعف من شأن هذا الاتجاه فأنشأت الأحزاب : الأحرار الدستوريين فى أول الأمر ثم بعد ذلك السعديين والكتلة وتعددت الأحزاب فى مصر وكان كل حزب يطعن فى الحزب الثانى ويتهمه حتى لوثت سمعة جميع الزعماء الذين كانوا يشتغلون بالسياسة فى هذا الوقت وكنا نرى فعلا أن بعض الوزراء يدخلون ا لوزارة لا يملكون شيئا ثم نرى بعد ذلك عزبا وأراضى باسم بعض الوزراء فكان هذا يثير الشك فى نفوس الناس قد يكون الحصول على هذه الأملاك من طريق سليم إنما البادى للناس أن غمكانيات هذا ا لشخص ما كانت تمكنه من الحصول على هذه الأملاك الواسعة وهم أنفسهم كان بعضهم يتهم بعضا فكان يقول قائل منهم الآخر : كيف حصلت على هذه العزبة وهذه العمارة .. من أين ؟ وهكذا دار الصراع وكان صراعا شخصيا محضا بعيدا كل البعد ما كان للوطن فيه دخل إلا للتأثير على نفسية الشعب فقط .. إنما حقيقة كان الصراع فيها بينهم شخصيا ثم كانوا هم أول من بدءوا بوسائل العنف لأن الوفد أنشأ تشكيلة القمصان الزرقاء تم هيئة أخرى هى : حزب مصر الفتاة أنشأت تشكيله تماثلها اسمها : القمصان الخضراء .
وهكذا كانت كل هذه المظاهر تدل على أن الرغبة المتمكنة فى نفوس الأحزاب هى الوصول الى الحكم لا أكثر ولا أقل والمرة الوحيدة التى أجتمعت فيها الأحزاب وكونت وزارة ائتلافية كان الغرض منها إعادة دستور 1923 .. وكان للطلبة دور فى هذا فشكلت لجنة من الطلبة وزارت كل رؤساء الأحزاب وألحت عليهم أن يتفقوا أو يشكلوا ائتلافا ليعملوا على زحزحة الانجليز من مصر .
وكان أصرح هؤلاء الزعماء إسماعيل صدقى لأنه كان من الذين يقولون بإنقاذ ما يمكن أنقاذه .. ما كان يرى أن الحق من الممكن الحصول عليه مرة واحدة فكان ينادى : بأننا يجب أن نأخذ من الانجليز كل ما نستطيع أن نحصل عليه شيئا فشيئا حتى نحصل على حقوقنا كاملة .. إنما الاتهامات التى كان يوجهها بعضهم الى بعض كانت اتهامات فى منتهى القسوة والشناعة ووصلت لدرجة الاتهام بالعمالة .ز فلان يقول على آخر : إن هذا عميل انجليزى وآخر عميل ألمانى وكانت السيطرة فى واقع الأمر للسراى ودار الحماية البريطانية والاثنتان كانتا مصدر التأثير والنفوذ فى مصر .
وأعود الى مسار حياتى .. فقد عملت بعد تخرجى من مدرسة الحقوق ـ كما تمنيت محاميا وظللت أشتغل محاميا حتى عام 1954 عندما حكم على بالسجن 15 سنة وعامين اعتقال فانقطعت عن المحاماه وخرجت فوجدت أن أكثر القوانين قد أصابها التغيير وأننى فى حاجة لأعادة الدراسة من جديد لأدرس كل القوانين التى صدرت إن كنت أريد أن أستأنف مزاولة مهنة المحاماة فآثرت اعتزال المهنة .
ولقد كانت مهنة المحاماة عندما مارستها فى الذروة والقمة وكان المحامون مثلا فى الالقاء باللغة العربية وفى الذكاء واستخراج الأدلة والبراهين والقرائن والوقائع التى تؤيد وجهة نظرهم وكان القضاء يأخذ نفس الوضع وكان الاحترام متبادلا بين القضاء والمحاماة وما كنت تجد محاميا من صنف معين إلا على ندرة إنما كان كل المحامين فى الذروة فى الأخلاق والعلم وكانت نقابة المحامين أولى النقابات التى كانت لقراراتها السياسية أثر بالغ فى نفوس الأمة من أسوان وحتى الاسكندرية . ولقد رفضت عرضا للعمل فى النيابة عام 1936 كما عرض على منصب فى القضاء عام 1942 فرفضت أيضا مؤثرا أن أكون محاميا مدافعا عن الحق وذلك بطبيعة نشأتى وتكوينى لقد كنت أحب الحرية فى كل شىء .. فى عملى .. فى معيشتى .. فى تفكيرى فوجدت أن المجال الوحيد الذى يستطيع أن يستمتع الانسان فيه بحريته هو مهنة ا لمحاماة ولقد علمتنى المهنة كيف يستطيع الانسان أن يعتد بكلمة الحق وبالتزام الحق وبالدفاع عن الحق فكانت كل حياتى قائمة على هذا المعنى ما كنت استطيع أبدا أن أقول كلمة غير صحيحة وكنت أشعر أنى لو حاولت تغيير حقيقة أن كل الناس يرون مكتوبا على وجهى غضب الله سبحانه وتعالى على أننى كنت صادقا مع نفسى ومع الناس ومع ا لله فى كل ما كنت أزاول من عمل والحمد لله على كل شىء “ . وهكذا نجد أن النبع الاسلامى الذى نشأ فيه الأستاذ عمر التلمسانى ونهل منه هيأه لما بعده من أمور وأحداث .. نشأة دينية ووسط مواجهات هادئة بين مسلمين متحمسين لعقيدتهم ورغبة جارفة فى ا لتزام موقف الدفاع عن الحق دفعه الى دراسة ا لحقوق ثم مشاركة فى أحداث الوطن ثم عودته لتقييمها على الوجه الصحيح وصيغة ما وصل اليه حال الوطن من تمزقات نتيجة صراعات زعماء الأحزاب غيرالمسئولة .. كل هذه العوامل هيأت وأتاحت له الفرصة بل نقول ودفعته الى دخول حركة الاخوان المسلمين عن قناعة بضرورة أن يعود للعقيدة الاسلامية دورها فى إعادة التوازن لعناصر الأمة من أخلاق ومعاملات فيما بين العباد بعضهم البعض وفيما بينهم وبين خالقهم والتى اهتزت داخل جدران الأمة المصرية بسبب العوامل التى سبق ذكرها فى تمهيد الكتاب .
وبدأت الرحلـة بالبيعــة
اعتمد الشهيد الإمام حسن البنا فى بداية التحرك الفعلى بعد البيعة التى تمت للمرة الأولى فى تاريخ الحركة والتى حددت بدايتها الفعلية عام 1928 على عدة عوامل لحركته :
أ ) سرعة نقل نشاط الحركة خارج دائرة مدينة الاسماعيلية الى سائر أنحاء القطر المصرى .
ب) عدم الدخول فى مواجهات أو صدمات من أى نوع مع قوى الضغط والنفوذ فى البلاد وأخطرها الانجليز والسراى ثم قوى الأحزاب ورجالاتها .
ج ) الانتشارالفكرى والثقافى من خلال الدروس والنشرات والمجلات التى صدرت عقب وقت غير بعيد من تاريخ بدء نشاط الجماعة .
د ) ممارسة أسلوب الدعوة وضم من يرغب عن قناعة كاملة بالجماعة وتوجهاتها وأسلوب الانتقاء والاختيار للعناصر التى تشكل تأثيرا فكريا أو سياسيا أو من يسمون فى العصر الحديث بقادة الرأى العام ولذا فقد انتشر الأعضاء المؤسسون ومن تبعهم بعد ذلك فى أنحاء القطر المصرى بحثا عمن يتوسم فيهم سلامة عقيدته الاسلامية وقوة تأثيره وصلاح خلقه للإنضمام للجماعة وأيضا من أصحاب النفوذ من الأعيان والتجار الذين يشهد لهم بالصلاح والتقوى .. وذلك لقدرة هؤلاء جميعا على التأثير فى المحيط الذين يعيشون فيه بالكلمة الحسنة والأثر الطيب .. وكان كل عضو فى الجماعة حريصا ـ حرصه على عقيدته ـ على جذب الكثيرين حوله للإنضمام للجماعة لتصحيح مسار الأمة وإعادة العقيدة الصحيحة لقلوب وعقول إخوانهم بعد أن أبعدتهم عنها قوى البغى والانحلال التى لا تريد لدولة الاسلام عودة بأى صورة من الصور ..
هـ ) المشاركة بصورة فعلية فى كافة المناسبات الاسلامية والذكريات المجيدة فى القاهرة والأقاليم .
و ) أن يكون للجماعة إطار تنظيمى محدد بدءا بمكتب الارشاد والشعب المختلفة والتشكيلات الكشفية والرياضية وقسم الطلاب وغيرها وتحديد السلم التنظيمى لأعضاء الجماعة وذلك تسهيلا للإتصال وتبادل الآراء والتوجيهات بين كافة مستويات الحركة منعا للتخبط والعشوائية بين أعضاء وتشكيلات الحركة .
وكان للأعضاء ثلاث درجات هى الأخ المساعد ، الأخ المنتسب ، الأخ العامل ثم هناك درجة رابعة هى درجة الانضمام " الجهادى " ـ اى الأخ المجاهد وهنا نعود الىا لأستاذ عمر التلمسانى ليروى لنا قصة دخوله جماعة الاخوان المسلمين يقول " فى سنة 1933 زارنى فى مكتبى اثنان من الاخوان المسلمين وسألنى أحدهما ما ذا تعمل ؟ وضايقنى السؤال وقلت لهم ساخرا : أقوم بتربية الكتاكيت ولم يضايقهما الرد وأجاب أحدهما مبتسما ولكن هناك من هم فى حاجة الى التربية أكثر من الكتاكيت .. قلت من ؟ قال المسلمون .. فقلت لهما ولكن هناك جهات حكومية وهناك الأزهر وهى كفيلة بالقيام بهذه العملية فألحا على أن التقى بالاستاذ الشهيد حسن البنا لأدير معه حوارا لعلى أقتنع بوجهة نظرهما .. وكنت فى تلك السن حريصا على المعرفة .
فلما ذهبت اليه فى بيته استقبلنى فى حجرة متواضعة ـ لم ترقنى الحجرة ـ وجلست ودار بيننا حديث عن المسلمين بعد كانوا فى صدارة العالم وكانت الدنيا تقف لهم احتراما وتقديرا .
ومضى الحديث فى قرابة الساعة واقتنعت بوجهة نظره ولكنه لم يرض أن يستغل هذا الاقتناع وقال لى أرجىء هذا لأسبوعين وأدر الموضوع فى ذهنك وحدث نفسك بما سمعت فإذا اقتنعت فلنلتق بعد أسبوعين فغذا قبلت فنحن إخوان وإذا رفضت فنحن أصدقاء ولا يضيرنا أن يرفض دعوتنا أحد ما دمنا مقتنعين بها .
وفعلا حرصت على أن أحضر فى الموعد بعد أسبوعين وذهبت إليه وتمت بينى وبينه البيعة وكان هذا نصها :
" أقسم بالله أن أكون وفيا لدعوة الإخوان المسلمين مطيعا للمرشد العام فيماأحب وفيما أكره فى المنشط والمكره وأن أنفذ كل ما يصدر الى من أوامر إلا ما كان فيه معصية لله فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " .
وبهذه المناسبة يشيع كثير من الناس أقاويل ومعانى لا حقيقة لها حول البيعة فالبيعة للمرشد أو أمير الجماعة أو أمير المؤمنين أو المسؤول معناها أنك لا تبايع إنسانا بذاته فغن الله سبحانه وتعالى يقول ك " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " . فإذا كانت البيعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم هى مع الله جل شأنه فمن باب أولى أن تكون البيعة لأى إنسان هى مع الله فالإخوان لا يقدسون ـ كما يشيع البعض من المغرضين عنهم ـ حسن البنا ولكنهم يعتقدون أنه بشر يخطىء ويصيب ولكن عليهم أن يسمعوا ويطيعوا من غير معصية الله وفيما أمر به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه انطلاقا من الحديث الشريف " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " .
وليست البيعة كما يتصورها البعض أنها نقلة بالانسان من حال الى حال يعنى أن الشخص الذى كان يبايع المرشد كان يعتقد تماما أن المرشد إنسان مثله وأنه إنسان ليس بمقدس ولا فوق مستوى الأوضاع الآدمية ولكن الناس لأغراض شوهوا معنى البيعة ويحاولون ـ وإن فشلوا فى هذا ـ أن يصوروا أن البيعة معناها الارهاب والتعصب وإغلاق الذهن وعدم الفهم وكل هذه المسائل التى أثاروها حول البيعة وحقيقة الأمر أننا مأمورون فى القرآن بأن نبايع فكان الاسلام لا يتم إلا نتيجة من يسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تلا ذلك مبايعة المسلمين لأمير المؤمنين وظل هذاالأمر على هذه الوتيرة .
ولقد اخترت جماعة الاخوان دون غيرها لأنه لم يكن فى ذلك العهد أية جماعات دينية لها أثر ولها وجود إنما كانت جماعة الاخوان هى الجماعة الوحيدة التى كانت تنشط فى سبيل الدعوة وتغشى الأندية والقهاوى والمساجد والمجتمعات وانتشرت داخل أسوار الجامعة فى وقت لم يكن هناك أى اثر وأى معنى لكلمة الاسلام فى صفوف الجامعة إنما دعوة الاخوان كان لها وجودها ونشاطها وتحركاتها وأثرها فى نفوس الناس .
ولقد كان باب الانضمام للإخوان المسلمين مفتوحا لكل من أراد أن ينضم للإخوان وجاء ليبايع الامام المرشد العام أو مندوب المرشد العام الذى يوجد فى المنطقة وكان الاخوان يتقبلون بيعته ويعد من الاخوان المسلمين وكان للإخوان درجات : فهناك الأصدقاء وهم الذين يحبون الإخوان ولا يبايعون المرشد والمنتسبون وهم الذين يأحذون بمبادىء الإخوان المسلمين ويبايعون المرشد وهذا مدى حظهم فى الاخوان المسلمين والإخوان العاملون وهم الذين يبايعون المرشد ويشاركون فى كل أعمال الدعوة من حضور لدروسها الى دفع الاشتراكات وكل ما يطلب من الأخ المسلم ويكون متوافرا عنده لأى أخ من الإخوان يعتبر من الاخوان العاملين ولم تكن هناك شروط للإنضمام للجماعة سوى أن يكون الأخ مسلما محافظا على دينه ولا يرتكب الجرائم والمنكرات أو الكبائر ويقتصر الأمر فيها على أنه مسلم نظيف .
ولقد كان الغرض الأساسى لإنشاء جماعة الإخوان المسلمين عند الامام الشهيد حسن البنا هو تربية المسلمين على تعاليم الاسلام وأنه لا يكفى أن يكون المسلم مصليا وصائما وحاجا ومزكيا هذه عبادات فردية وفروض عينية يلتزم بها كل شخص إنما كانت هناك معان أخرى فى الاسلام أوسع من هذا .. حرية المسلم وسعادتة ورقية وعزته ومكانتة وكان الامام البنا يغرس كل هذا فى نفوس الاخوان الشباب ليستعيدوا أمجاد الاسلام الماضية وتعود للمسلمين مكانتهم فى العالم بدلا من ان يكونوا مستعمرين ومستغلين ومستعبدين وحتى يصبحوا هم سادة أنفسهم خصوصا وأن هذه المنطقة من أغنى مناطق العالم بالثروات الطبيعية من زراعية ومعدنية فكان هم الدعوة الأولى إعادة المسلمين الى أوضاعهم الأولى ولما اشتد الضفط الانجليزى على مصر وخاصة بعد ثورة 1919 وأصبح الأمر فى يد السفير البريطانى الذى كان يسمى مندوب الحماية أو المندوب السامى وبعد أن بدأت مظاهر إحلال اليهود فى فلسطين مكان أهلها بدأ التفكير فى إنشاء تشكيل ليدفع عن مصر شر الاستعمار بمقاومة الانجليز مقاومة مادية ومحاربة اليهود حتى لا يكون لهم استقرار فى فلسطين .. وكان هذا هو الأساس الذى دعا الى انشاء " النظام الخاص " أو ما يسميه الناس " النظام السرى " فى الإخوان المسلمين وهو نظام أنشىء أساسا لمقاومة الاحتلال البريطانى بعد أن رأى الإخوان أن كل الأحزاب لا تفكر فى المقاومة العملية مجرد خطب رنانة وسياسات وانتخابات وإنما لا شىء أكثر من هذا ولهذا يسر الإنجليز لمصر أن تصدر دستورا وأن تقيم دستورا لأنهم يعرفون جيدا أن النتيجة أن يختلف زعماء الأحزاب بعضهم مع بعض ويتفرق المصريون شيعا كانت الفكرة فى تشكيل النظام الخاص هى تحرير مصر الاستعمار البريطانى وإنقاذ فلسطين من أيدى اليهود وانجلترا التى كانت تعمل على ان تجعل من فلسطين وطنا قوميا لليهود .. حقا حدثت بعض أخطاء من بعض أفراد هذا النظام وهذا شىء طبيعى فى كل العالم لا يوجد مجتمع أو أسرة أو أمة لا يوجد فيها من يخطىء والخطأ طبيعة البشر فكانت هناك تصرفات فردية لبعض أعضاء هذا التشكيل فكان ينكرها الأستاذ البنا ولا يرضى عنها ويعلن فى الصحف أنه يتبرأ من مثل هذه الأعمال هذا التشكيل لم ينشأ ليعتدى على المصريين أنفسهم وأنما أنشىء لمقاومة الاستعمار البريطانى ومقاومة الاستيطان اليهودى فى فلسطين .. إنما أعداء الدعوة وخاصة أجهزة الاعلام العالمية شوهت هذا الوضع وصورت الإخوان المسلمين فى صورة الارهابيين المتعصبين الرجعيين القتلة والى غيره من الاتهامات .
ولقد اختار الأستاذ البنا مدينة الاسماعيلية لبداية حركته لظروف عمله فى الاسماعيلية حيث خطر له خاطر إنشاء الجماعة ثم كانت البيعة الأولى مع مجموعة الإخوان المسلمين وتسميتهم الآخوان المسلمين باعتبار أنهما لفظان مختاران من القرآن الكريم .
والواقع أن الإخوة الذين اشتركوا مع الأستاذ البنا كانوا فى منتهى النشاط ومنتهى الوفاء لدرجة أن واحدا منهم كان يعمل سائقا فى شركة قناة السويس وكان يحضر على دراجته من الاسماعيلية لمقر الشركة فى الاسماعيلية وكان يحضر فى المواعيد بدقة ثم بدأ يتأخر عن مواعيده وسأله رؤساؤه إنك كنت نشطا وكنت تحضر فى المواعيد فما سر تأخيرك ؟ فقال لهم كان عندى دراجة وكنت أحضر عليها فى المواعيد وإنما الآن أنا عضو فى جماعة اسمها الاخوان المسلمون ونبحث عن شقة نسكنها ونفرشها ونجعلها مقرا للإخوان المسلمين ولكن فقراء وكنت ضمن المتبرعين فبعت ا لدراجة الخاصة بى وقدمت ثمنها للأستاذ المرشد لأساهم فى تكوين مركز للإخوان وشقة مفروشة وأعجب به رؤساؤه فعلا واشتروا له دراجة جديدة بدلا من دراجته القديمة التى باعها .. كانوا فى نتهى الوفاء للإخوان المسلمين وكان الأستاذ البنا يأخذ سبورة صغيرة ويذهب بها الى القهاوى فى مدينة الاسماعيلية ويجلس فى القهوة وبعد أن يطلب الشاى أو القهوة يستأذن صاحب القهوة فى أن يقول كلامه فيأذن له صاحب القهوة وكان لبقا ومؤثرا وكان الناس يحبون الاستماع اليه فبدأ رواد القهاوى يتزايدون على المكان الذى كان يوجد فيه حسن البنا فكان أصحاب القهاوى يتنافسون فى جذب الأستاذ حسن البنا الى مقاهيهم لتكثر زبائنهم ويكثر عملاؤهم وبدأ العمل بعد أن انتشرت الدعوة فى الاسماعيلية وبنوا مسجدا هناك ودارا للضيافة فى الاسماعيلية وكانت تكاليف البناء فى ذلك الوقت ميسرة وسهلة وأحس رجال شركة قناة السويس وكانت أجنبية بمدى تأثير حسن البنا على أهالى الاسماعيلية فعملوا جهدهم لدى ا لحكومة لتنقل حسن البنا من الاسماعيلية فنقل بالفعل للقاهرة فىمدرسة عباس الابتدائية بناء على رغبته فى أكتوبر عام 1932 فكانت إرادة الله سبحانه وتعالى أ ن يكون هذا النقل فاتحة خير وكان المجال فى القاهرة أوسع والانتشار أكبر فانتشرت الدعوة فى لاقاهرة وظل هو فى ا لقاهرة حتى نقلوه الى قنا ولما ذهب الى قنا أثر فى أهالى قنا فأرجعوه للقاهرة وظل على هذا الوضع حتى استقال من التدريس عام 1946 "
واقعة تبرع شركة قناة السويس
لقد ذهب الكثيرون مذاهب شتى فى تفسير هذه ا لخطوة من جانب الاخوان ومن جانب الانجليز وخاصة الكتاب الماركسيين ويقول صلاح عيسى فى دراسته فى مقدمة كتاب الاخوان المسلمين * " لكن الاخوان ـ الذين كان مؤسسهم حسن البنا من أذكى الشخصيات السياسية فى العالم العربى ـ تركوا السلطات القائمة وقتها تظن أن حركتهم تخدمها ـ وهو ما كان يتحقق موضوعيا ـ بحكم أنهم يستلبون الشبان الذين كانوا منهمكين تحت قيادة حزب الوفد فى النضال ضد دكتاتورية اسماعيل صدقى بل إن شركة قناة السويس وكانت آنذاك شركة دولية لأنجلترا الجانب الأكبر من أسهمها قد نظرت اليهم بنفس النظرة فمنحتهم تبرعا قدره خمسمائة جنيه مصرى وهو ما يعتبر دعما قويا إذا ما نظرنا الى قيمة الجنيه آنذاك وقد ثبت بعد أن ذكاء الأخوان المسلمين السياسى فوق مستوى الشبهات وهو ما تأكد من الطريقة التى تعاملوا بها مع الاحتلال الإنجليزى فى مصر إذ تعاملوا بحجمهم الحقيقى لا بأهدافهم التى أعلنوها تدريجيا وفيما بعد وكما نجحوا فى خديعة شركة قناة السويس وحصلوا منها على منحة تصل الى خمسمائة جنيه رغم أنها شركة تعمل لمصلحة الاحتلال الانجليزى وردا على هذه المقولة نقول : أية خديعة تلك التى يتصورها صلاح عيسى فعلها الاخوان ؟
وأية خدمة تلك التى قدمها الاخوان المسلمين للإنجليز والتى كانت تتحقق موضوعيا فى رأى صلاح عيسى ؟ والتى يعطى الانجليز مقابلها مبلغ خمسمائة جنيه مكافأة على خدمتهم ـ أى الإخوان ـ للإنجليز .. " والذين يقولون هذا ـ على حد تعبير الأستاذ عمر التلمسانى : " لا يفهمون حقيقة الاسلام فالرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يرهن درعه عند اليهود وعند المشركين لأجل معين على أن يدفعه لهم إذا لم يكن لديه شىء فأنا إذا أردت أن أقيم مسجدا وتبرع لى يهودى أو مسيحى أو بوذى أو ملحد بمبلغ من المال لأقيم به المسجد .. لا علي شرعا أن آخذ منه ما يريد أن يدفعه لأقيم به مسجدا لله سبحانه وتعالى .. ليس فى ذلك عيب .. إنما هم يريدون أن يستخرجوا من كل شىء شبهة تلوث سمعة حسن البنا وجماعة الاخوان المسلمين " ..
ثم ألم يأت هذاالتبرع فى إطار حملة تبرعات دعا اليها الإخوان المسلمون لبناء المسجد أم جاء التبرع منفردا وفى غير مكانه ووقته ؟
ثم هل اتجه مؤشر المعارضة لوجود الاحتلال الانجليزى لدى حسن البنا والاخوان فى اتجاه الإنجليز وتأييدهم بعد هذا التبرع أم ظل عداء تقليديا صارما على مدى سنوات وحول الاخوان ؟ إن الظواهر تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن توجيه الشبهة للجماعة فى قبولها هذاا لتبرع محض افتراء واضح ولا يقصد منه سوى التشكيك فى ذمة وأخلاق وأهداف جماعة الاخوان المسلمين .. ثم هل سعى الاخوان المسلمون .. للحصول على هذا المبلغ نظير " الخدمات الجليلة التى ألمح اليها صلاح عيسى بشكل متوارب وخبيث ؟ ! إن القصة كما يرويها الشهيد الإمام حسن البنا تقول ": وقبل أن يتم بناء المسجد بقليل وقد أوشكت النقود المجموعة أن تنفد وأمامنا بعد مشروع المسجد ومشروع المدرسة والدار وهى من تمامة بل كلها مشروع واحد تصادف أن مر البارون دى بنوا مدير شركة القنال ومعه سكرتيره المسيولوم فرأى البناء فسأل عنه وأخذ معلومات موجزة وبينما أنا فى المدرسة إذ جاءنى أحد الموظفين يدعونى لمقابلة البارون بمكتبه بالشركة فذهبت اليه فتحدث الى عن طريق مترجم بأنه رأى البناء وهو يود أن يساعدنا بتبرع مالى وهو لهذا يطلب منا رسما ومذكرة للمشروع فشكرت له ذلك وانصرفت ووافيته بعد ذلك بما طلب ومضى على ذلك شهور كدنا ننسى فيها البارون ووعده ولكنى فوجئت بعد ذلك بدعوة ثانية منه الى مكتبه فذهبت اليه فرحب ثم ذكر لى أن الشركة اعتمدت مبلغ خمسمائة جنيه مصرى للمشروع فشكرت له وأفهمته أن المبلغ قليل جدا ولم يكن منتظرا من الشركة تقديره لأنها فى الوقت الذى تبنى فيه على نفقتها كنيسة تكلفها 500000 خمسمائة ألف جنيه أى نصف مليون جنيه تعطى المسجد خمسمائة جنيه فقط فاقتنع بوجهة نظرى وأظهر مشاركتى فيها ولكنه أسف لأن هذا هو القرار ورجانى قبول المبلغ على أنه إذا استطاع أن يفعل شيئا بعد ذلك فلن يتأخر وشكرت له مرة ثانية وقلت له إن تسلم المبلغ ليس من اختصاصى ولكنه من اختصاص أمين الصندوق الشيخ محمد حسين الزملوط الذى تبرع وحده بمثل ما تبرعت الشركة وسأخبره ليحضر لتسلمه وقد كان وتسلم أمين الصندوق هذا المبلغ وطبعا لم يفكر البارون فى عمل شىء آخر ولم نفكر نحن فى أن نطلب منه شيئا كذلك " .. ثم ألم تكن هذه هى أموال مصر من دخل شركة قناة السويس التى تقع فى مصر وليس فى بحر المانش ولكن الانجليز اغتصبوها فى غفلة من الزمان ؟ ! لقد أسمى الشهيد الإمام حسن البنا ذلك فقها أعوج ..!
التمهيد فى الثلاثينات
فى مطلع الثلاثينات من هذاالقرن وبعد أن انتهى الإمام الشهيد من مرحلة وضع البذور بدأ مرحلته الثانية فى ترسيخ جذور الجماعة لتضع أقدامها على أرض صلبة وثابتة فصعب على الكثيرين من أعداء الدعوة اجتثاثها من قلوب وعقول أعضاء الجماعة فلم يجتثوها إلا بإزهاق أرواح هؤلاء الدعاة المخلصين فيما سيلى من حوادث وأمور على مدى زمن وجود الحركة .
ويرى الأستاذ التلمسانى أن " فترة الثلاثينات ـ وهى من الفترات الزاهية فى تاريخ جماعة الإخوانالمسلمين ـ كانت فترة تمهيد لما وراءها من انتشار الوعى بالاخوان المسلمين وكان الإمام الشهيد يحرص يوميا ـ تقريبا ـ وكان همه منصرفا ومركزا على المدارس الثانوية وإن كان فى تلك الفترة أيضا لم يحرم المدارس الابتدائية من لقائه بهم وإعطائهم الدروس التربوية التى تتناسب ومداركهم وأفهامهم وأذكر أننى صحبته ذات يوم من الأيام لمدرسة المحمدية الابتدائية بالعباسية واجتمع صغار الطلبة فى ا لمدرسة فطلب منى أن أتحدث إليهم قليلا فكان جوابى : إننى لا أحسن الكلام الى الصغار والأطفال لأن عملى طبعنى بطابع خاص وهو الحديث فى أوساط معينة والى أناس معينين بالذات ووقف رضوان الله عليه ليتحدث الىالطلبة حديثا فى غاية الغرابة لدرجة أن الأطفال أنفسهم كانوا مشدودين مشدوهين اليه ولم يعبث أحد منهم عبث الأطفال فى مثل هذه المناسبات وكان يعنى بالمدارس الابتدائية عناية خاصة لأنه كان يرى فيهم الجيل الزاحف على أبواب مستقبل الأيام وأنه بعد سنوات سيكون هؤلاء الأطفال هم طلبة المدارس الثانوية والجامعات فيحظون بهذه العناية المبكرة بنوع من التربية الاسلامية ما كان لهم به عهد من قبل ويصبحون فى شبابهم فتيانا على وعى طيب وعلى استعداد كامل لحمل أعباء دعوة الاخوان المسلمين فى مختلف ميادينها وما كان يقصر نشاطه علىالقاهرة ولكنه كان دائم التنقل فى محافظات القطر من الاسكندرية الى أسوان فى الوقت الذى كان فيه كبار مصر وأثرياؤها يسافرون الى الأسكندرية والى خارج البلاد ترويحا عن أنفسهم من عناء الحر وفى هذه الفترة كان هو يتجه الى جنوب الوادى فيزور مديريات الصعيد مديرية تلو مديريية من الجيزة لأسوان ولا يقتصر فى تجواله علىالمراكز أو المدن ولكنه كان يغشى القرى والكفور والنجوع وأبعد مكان يمكن الوصول اليه فى القرى التى تقع فى أحضان الجبل فى منطقة الصعيد وكان دأبه عجيبا ويكفيه أنه كان لا ينام سوى أربع أ خمس ساعات فقط من اليوم كله وكان لا يكل من العمل ولا يفتر وكان الشباب الذين يصحبونه فى هذه الرحلات يجدون من المتاعب والمشاق مالا يجده هو ولكنهم يخفون ما فى أنفسهم من تعب اقتداء بمرشدهم وإرضاء له فى مهمته الكبرى ولذلك تخرج هذا الشباب تخرجا طيبا فى الدعوة وحملوا على أكتافهم أعباءها وانتشروا هم بدورهم فى مختلف أنحاء القطر وكانت إجازاتهم الصيفية لا يقضونها كما يقضيها أقرانهم من الشباب فى اللهو واللعب ولكنهم كانوا يقومون بدور الدعاة فى كل بلد يوجدون فيه وفى كل قرية يحلون بها وكان لذلك أثره الطيب إذ أنه بعد انتهاء الاجازات كان الطلبة الذين يتخرجون من المدارس الثانوية وقصدوا القاهرة للجامعات ولم تكن هناك جامعات فى بادىء الأمر إلا فى القاهرة وبعدها بقليل الاسكندرية وكان كثير من الطلبة الذين لا يعرفون شيئا عن الاخوان المسلمين يتلقون تعاليمها فى فترة الاجازات عن طريق الشباب الذى تفهم هذه الدعوة وحملها بداءة .. وكان أول مكان لجماعة الاخوان المسلمين فى حى المغربلين بقسم ا لدرب الأحمر فى منطقة تعرف بمنطقة اليكنية فى شارع " عبد الله بك " ثم بعد ذلك انتقلت الى شارع المبتديان بالسيدة ذينب وبعد تنقلات استقرت فى لوكاندة البرلمان فى ميدان العتبة الخضراء ومن هنا عزم الأستاذ البنا على شراء دار تكون مركزا عاما للإخوان المسلمين ووقع الاختيار على قصر كبير فى حى الحلمية الجديدة واشترى هذا القصر بحوالى 8 آلاف جنيه فى مطالع الأربعينات ولم يكن لدى الإخوان المسلمين فى ذلك الوقت سوى 500 جنيه فقط ولكن ما أن علم الإخوان فى شتى أنحاء القطر المصرى بعزم المرشد علىشراء هذه الدار حتى تبرعوا كل بقدر ما يستطيع حتى السيدات كن يرسلن مساهمة منهن فى شراء الدار وفى ظرف أسبوع تم جمع المبلغ وسجل العقد الإمام الشهيد لا بصفته الشخصية ولكن سجله باسم جماعةالاخوان المسلمين باعتباره المرشد العام لهذه الجماعة ولو كان كما يقال من قبل المغرضين لكان من الميسور عليه أن يسجل هذا العقد باسمه ليصبح القصر ملكا له ولورثته ولكنه لم يفعل لأنه لا يراعى إلا جانب الله سبحانه وتعالى فى جميع تصرفاته..
التنظيمات الاخوانية
لقد بدأت حركة الاخوان المسلمين وانضم إليها عشرات الألوف ورأى ا لأستاذ البنا أنه لا بد من إقامة إدارة دقيقة منظمة لتتولى شئون الجماعة لأنه لو ربطت الجماعة بشخص حسن البنا فمعنى ذلك أنه إذا مات حسن البنا انتهت الجماعة فاراد أن يجد لها تشكيلا وتنظيما معينا تلتف حوله الجماعة سواء وجد حسن البنا أم لم يوجد .. فبدأت الفكرة عند الاخوان المسلمين فى جميع أنحاء القطر المصرى فى الشعب الاخوانية وهم يشكلون الجمعية العمومية للإخوان هذهالشعب تنتخب من بينها أعدادا معينة لينتخبوا أعضاء الهيئة التأسيسية كانت تجتمع لتنتخب أعضاء مكتب الارشاد الذين هم بمثابة الهيئة التنفيذية أو الوزارة كما يقال فى الأوضاع السياسية المتعارف عليها لإدارة شئون الإخوان المسلمين .. هذا المكتب هو الذى ينتخب هذه الهيئة التأسيسية أيضا بعد أن ينتخبوا مكتب الارشاد يقوم أعضاء المكتب بانتخاب المرشد العام للإخوان المسلمين فتم النظام على هذه الصورة .. جمعية عمومية ـ هيئة تأسيسية ـ مكتب إرشاد ـ مرشد إخوان مسلمين .. وعندما بدأ تطبيق هذا التشكيل كنت أقيم فى مديرية القليوبية فكان تكوين المكتب قاصرا على انتخاب أشخاص يقيمون بالقاهرة ليحضروا اجتماعات مجلس مكتب الارشاد أسبوعيا ولكى يمثل الوجه البحرى والقبلى ضم الى مكتب الارشاد عن الوجه البحرى عمر التلمسانى وعن الوجه القبلى السيد محمد حامد أبو النصر أحد أعيان مركز منفلوط مديرية أسيوط .. هكذا كان الترتيب وكان النظام فى المكتب وكنت فيه عندما أنشىء باعتبارى ممثلا للوجه البحرى وجاء ذلك بالتعيين من الإمام وبعد ذلك انتقلت للقاهرة وأصبح دورى فى المكتب الترشيح لا عن طريق الاختيار فانتخبت من أهالى القاهرة عن طريق الهيئة التأسيسية .
وهكذا بدأت حركة الاخوان المسلمين تواصل الاعداد لحركتها وتنظيمها بشكل دقيق استفادة من تجارب الآخرين واقتداء بسنة رسول الله صلى ا لله عليه وسلم .. ولقد كنت من أوائل الإخوة الذين عملوا فى هذا المكتب ومكتب الارشاد ..
وقد حرص الأستاذ البنا على إنشاء الشعب الاخوانية فى كل مدينة وقرية وكان يحل بهذه الشعب فى رحلاته ويخطب فى مسجد أو فى دار من دور أعيان المنطقة ويلتقى فيها بالناس الذين لديهم ميول نحو نصرة دينهم بالاستاذ البنا يكونون شعبة من عدة أعضاء يرأسها أحدهم ولها سكرتير وأمين صندوق ومجلس إدارة فكانت هذه الشعب متناثرة فى ارجاء القطر المصرى وطبعا لم تكون هذه الشعب مرة واحدة ولكنها أخذت تزداد عاما بعد عام حتى بلغت حوالى ألف شعبة .. أما ما قاله البعض عن رحلة الخمسة آلاف قرية التى قام بها الشهيد الامام ففيها شىء من المبالغة .. كانت الشعب إذا اتسعت فى منطقة تكون هيئة منها للمنطقة ذاتها تضم الشعب فيها فإذا اتسعت الجهود كان ينشأ فى تلك المنطقة ما يسمى بالمكتب الادارى لتلك المنطقة فكانت الاسكندرية مثلا لها مكتب إدارى والدقهلية وكل محافظة تنشط فى عملها نشاطا ملحوظا وتضم أعدادا وفيرة من الشعب كان ينشأ فيها مكتب إدارى ليجمع شمل هذه الشعب كلها تحت إدارته وهو الذى يتولى إدارتها وتنظيمها نيابة عن المركز العام وعن مكتب الارشاد ولأنه قطعا كان ا لمركز العام فى القاهرة لا يستطيع بمفرده أن يلم بأحوال الاخوان فى كل أنحاء القطر فكان فى كل محافظة مكتب إدارى لمثل هذه العملية وكان الاستاذ البنا رضوان الله عليه حريصا على إنشاء الشعب وما كان يحرص على أن يتولى رئاسة الشعب شخص شديد التعلق بدعوة الاخوان المسلمين ولكنه كان يتخير الشخص المستقيم الذى له وضعه الاجتماعى فى القرية أو المركز سواء أكان مؤمنا بدعوة الاخوان أو غير مؤمن بها وإنما هو شخص له وضعيته الاجتماعية فى هذه المنطقة ما دام ذا خلق ودين وبهذه الوضعية لهذا الرئيس كانت الشعبة تتسع حينا بعد حين فى ظل حمايته وفى ظل وضعه الاجتماعى والذين ينضمون فى ظل هذه المعانى منهم من كان يشرح الله صدره لتفهم مبادىء الإخوان المسلمين تفهما حقيقيا فيصبح أخا مسلما ومن كان يحب المظاهر والرياسات له ما يشاء فى جماعة الاخوان المسلمين دون غضاضة ولا حرج عليه ما دام حسن السيرة والسلوك .
ردود فعل السراى والانجليز
فى الوقت الذى وضع الامام الشهيد حسن البنا أسس الجماعة ونظامها وتشكيلاتها وبدأ فى الانضمام للجماعة العشرات بل الألوف فإن هذا الأمر لم يلفت أنظار عناصر وقوى الضغط والنفوذ وأبرزها الإنجليز والسراى وهكذا نجحت الدعوة ـ وهذا من توفيق الله وذكاء الإمام الشهيد ـ فى تثبيت أقدامها وترسيخها ثم بدأت ردود الفعل التى تفاوتت بين الشدة والهدوء .
ويقول الأستاذ عمر التلمسانى " فى بداية الأمر فإن الإنجليز والسراى لم يكونوا منتبهين لأداء حسن البنا وكانوا يظنونه شيخا من مشايخ الطرق الصوفية ولم يقيموا له وزنا أو احتياطا لما كان يهدف اليه فظلت الدعوة تنشر فى المطالبة بعودة المسلمين الى تعاليم دينهم ولما تكشفت ا لحقائق وعلمت السراى والانجليز أن الإخوان يريدون أن يكون الحكم شورى بين ا لمسلمين ـ كما ورد فى القرآن الكريم ـ شعر الطرفان أن دعوة الاخوان كانت تهدف أصلا الى تحرير الأوطان الاسلامية من الاستعمار والأجانب فأدركوا قوة وخطر الإخوان وأدركوا حقيقة أهداف الإخوان المسلمين ولذلك نجد العالم غير المسلم لا يركز على جماعة من الجماعات الاسلامية فى العالم كله إلا على جماعة الإخوان المسلمين يتهمونها بكل التهم التى يمكن أن توجه لأى إنسان .. لماذا ؟ لأنهم يعلمون حقيقة هذه الدعوة وأنها لو نجحت فآثارها خطيرة عليهم لأنهم سيحرمون من هذه الأسواق الواسعة العريضة التى يصرفون فيها منتجاتهم ويستغلونها أسوأ استغلال أما حقيقة ألمر فالإخوان المسلون ليسوا بجماعة صوفية يقتصر نشاطهم على الذكر وليسوا بجماعة يجلسون فى المساجد ليصلوا فحسب ولكنهم هيئة تعمل لإقامة الإسلام كما جاء ونزل علىا لرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره نظاما شاملا ينظم للمسلم كل حركة من حركات حياته فى كل ناحية من هذه الحياة وهذا طبعا لا يرضى أعداء الاسلام فهم لا يريدون للإسلام أن يعود لما كان عليه من أمجاد وعزة ومكانة فى العالم وهم يحاولون باستمرار ضرب هذه الجماعة للأسف الشديد بأيد مسلمة " .
وقفة عند شخصية الامام الشهيد
وهنا لا بد لنا من وقفة تأمل وتمحيص وإلقاء الأضواء على شخصية الرجل الذى أسس وقاد هذه الحركة على مدى 20 عاما ألقى بتأثيراته وروح أفكاره التى ظلت منارا ومرشدا لأعضائها بعد انتقاله الى جوار ربه مع الصديقين والشهداء وكيف استطاع أن يجمع هذه الجموع المؤلفة على الالتفاف حول مبادىء هذه الدعوة لتجديد شباب الأمة الاسلامية والوطن الاسلامى باعتبار أن ذلك هو الحل الأمثل لمشكلة مصر والعالم العربى والاسلامى وقفز بالجماعة من مجرد جمعية دينية صغيرة فى الاسماعيلية الى الانتشار على خريطة مصر السياسية والفكرية وما زالت تؤثر الى يومنا هذا فى كل الأجيال وفى كل سنى العمر دينيا وفكريا وسياسيا .
ويرى الاستاذ عمر التلمسانى " أن الاخوان المسلمين بدءوا يتبينون أهداف هذه الدعوة ومراميها والى أى شىء تقصد هذه الدعوة فى هدوء وفى بعد عن الشعارات والاعلانات وكان الامام الشهيد حسن البنا حسن الصلة بكل الناس وكل الاحزاب لا يتشاتم وإذا هوجم لا يرد الهجوم بل كان يترك الاساءات التى توجه اليه تموت من تلقاء نفسها لأنها لا تجد من يؤجج سعيرها فى الرد والأخذ والشد والجذب فسارت الدعوة فى تلك الفترة سيرا غاية فى الغرابه كان الاقبال عليها منقطع النظير ولم يعرف عن جماعة أو جماعات أو حزب من الأحزاب أن ينضم إليه فى فترة من فترات تكوينه مثل ما انضم الى جماعة الإخوان المسلمين فى الثلاثينات وفى أواخر الثلاثينات بدأ ت الأهداف تتضح وشعر اصحاب الأغراض بأن هذه الجماعة هى أخطر هيئة نبتت فى هذا ا لعهد لها خطورتها على الاستعمار والاستغلال والقصر والاقطاع والشيوعية فعادوها جميعا وتحالفوا على توجيه الاساءات اليها بمختلف وسائل الاذاعات غير الكريمة وكان من حسن سياسة الإمام الشهيد أن يترك هذه الشائعات دون أن يعنى بها أو يرد عليها حتى أنه لما أخذ الوفد بعد ذلك يهاجم الجماعة فى صحفه تحت عنوان " هذه الجماعة تهوى " ويدخل تحت هذا ا لعنوان أسماء موجودة فعلا أو غير موجودة وأنها تستقيل من جماعة الاخوان المسلمين فما كان من الامام الشهيد إلا أن أعد عمودا فى جريدة الاخوان المسلمين تحت عنوان " هذه الجماعة تهوى " نفس الحروف مع تغيير التشكيل وكان الذى يدخل تحت هذ ا العنوان لا أكثر من إخوان حقيقيين يرسلون الى مرشدهم بالتأييد وأنهم معه وهما تقول المتقولون أو أشاعوا أو أذاعوا عنه ما شتم .. .. ما هاجم ما رد بإساءة بإساءة ولكن كان حريصا دائما على أن يعلم الناس الخلق الاسلامى الواقعى كان يلقى الاساءة بالعفو والايذاء بالصبر والجهل بالتغاضى عن الجاهلين ولذلك ما كنت تجد له عدوا إلا إنسانا تحترق نفسه أن يرى معلما إلزاميا وابتدائيا يحظى من جماهير مصر بمثل هذاالتقدير والاحترام " .
ويضيف الأستاذ التلمسانى " لقد كان الامام الشهيد رجلا عاديا جدا لا يمتاز مظهره بما يمثله ويعطيه وضعية بين الناس كان أقرب الى القصر منه الى الطول ولكنه كان ذكيا ـ ما فى ذلك من شك ـ لماحا ومستوعبا لكل قواعد الشريعة الاسلامية عن قراءة ودراسة كان خطيبا مفوها ولو ظل يتحدث الساعات الطوال لما مل الناس من الاستماع اليه حتى أنهم إذا ما انتهى من خطابه يستفيقون كأنهم يستردون عقولهم وقلوبهم التى كانت معلقة بحسن البنا وهو يتحدث من هذه الناحية كان متواضعا بحيث لم تكن تشعر وأنت معه بأنه رئيسك وأنه مرشد الاخوان المسلمين يعاملك كما يتعامل إثنان عاديان بالمرة لا فرق بين كبير وصغير ولكن هذا لا يمنع أننا كنا نحبه حبا شديدا للغاية ولكن ليس بالحب الذى يرفعه فوق مرتبة القداسة أو ما فوق ما هو مرتبة الانسان .ز كان فى نظرنا أنه إنسان عادى لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " ما أنا إلا بشر مثلكم “ فلا يبقى حسن البنا أحسن من الرسول صلى الله عليه وسلم فالذين يتهمون الاخوان المسلمين بأنهم كانوا يقدسون حسن البنا أو يرتفعون بمكانته الى ما فوق البشر مغرضون وغير صادقين فيما يتهمون الاخوان فى هذه المسألة وكان تأثيرى به شديدا بدون شك ويستطيع أى إنسان أن يتعرف الى شخصية حسن البنا والى أخلاقه من خلال مذكرات الدعوة والداعية “ من خلال رسائل الامام الشهيد “ والتى تطرح مناهج الإخوان المسلمين وما هى وسائلهم وما هى الأهداف التى يرمون إليها ويكفى ما قاله الأستاذ أحمد بهاء الدين حين كتب فى عموده اليومى بالاهرام عن حسن البنا أنه استطاع أن يؤثر فى لاملايين وهو رجل غير رسمى وغير حكومى “ .
ولكن رحم الله الامام الشهيد لم يسلم من القاء الاتهامات جزافا من كل اتجاه وميل ففى عام 1930 قدمت العديد من الشكاوى حول الحركة ونواياها تجاه وزارة صدقى باشا وزعمت الاتهامات بأن الامام الشهيد كان : شيوعيا يستخدم الأموال الشيوعية فى القيام بنشاطه وأنه كان وفديا يعمل ضد صدقى وجمهوريا يعمل ضد الملك فؤاد ومجرما انتهك شروط الوظيفة التى تحظر جمع الأموال واستخدامها لأغراض غير قانونية وقد تم التحقيق مع الامام الشهيد وانتهى التحقيق بتبرئة ساحته من جميع التهم .
ويقول الاستاذ عمر التلمسانى “ الحقيقة أن هذه الاتهامات المتضاربة المتعارضة المتنافرة تثبت قطعا براءة الأستاذ البنا والاخوان المسلمين مما نسب اليهم لأن الانسان لا يمكن أن يكون ملكيا وجمهوريا ولا رأسماليا وشيوعيا ولا إقطاعيا ولا يمكن أن يجمع إنسان بين هذه الصفات المتعارضة بأية صورة من الصور فهذه الاتهامات دليل قاطع على أن الاخوان كانوا يسيرون علىا لحق وما كانوا فى أى صورة من هذه الصور التى تنسب اليهم .. اسماعيل صدقى عندما ذهب لمفاوضات صدقى ببفن عام 1946 حاول أن يكتسب صداقة الاخوان المسلمين فأرسل صهره الأستاذ ابراهيم رشيد للشهيد البنا فى المركز العام ودارت مفاوضات بين ا لاخوان وإسماعيل صدقى على أن يؤيدوه فى موقفه فى هذه ا لمفاوضات فكان الشرط الأول والأخير هو مطالبة اسماعيل صدقى ألا يفرط وأراد أن يرتكز على شعبية الاخوان المسلمين فيعطيهم وعدا بأن يطبق شرع الله فى هذا البلد فلما تجلت الحقائق وكانت المفاوضات ليست بالمعنى الذى يصبواليه الإخوان المسلمون وظهر أن اسماعيل صدقى ليس حريصا على تطبيق الشريعة الاسلامية انتهى الأمر عند هذا الحد .”
أما المقولة الثانية والتى يدفع بها الكاتب صلاح عيسى فى مقدمته لكتاب ميتشيل : “ يتمثل ذكاء حسن البنا وقدرته الفذه على عدم الدخول فى صدام مباشر قبل أن يستعد له فى نقطتين جوهريتين :
- أنه رفض إبان الحرب عرضا بانقلاب يقوم به مشتركا مع حزب مصر الفتاة بزعامة أحمد حسين ويستند على اعداد نحدودة من اتجاهين فى كل قرية ومدينة مصرية يقومون فى وقت واحد بالاستيلاء على السلطة المدنية والعسكرية فى هذه القرية أو المدينة بينما تتجه مجموعة للإستلاء على العاصمة بنفس الطريقة وقد ناقش الأمر مع أحمد حسين بشكل منطقى وانتهى منه الى أن الخطة غير عملية وأنه لا يستطيع أن يحارب أنجلترا ولها جيوش جرارة فى مصر ببنادق قديمة أو بقنابل من مخلفات الحرب العالمية الأولى ( رواية أحمد حسين الدكتور خالد ـ مطبعة مصر 1960 )
- أنه رفض أن يصوغ برنامجا تفصيليا قبل الآوان وقد ذكر أحد أقطاب الاخوان فيما بعد أنه ناقشه فى هذا الأمر فكان من رأية أن محاولة صياغة رأى الإخوان فى القضايا التفصيلية وكيفية تطبيق الشريعة الاسلامية على حياة المجتمع المعاصر هى محاولة ضررها أكثر من نفعها فإذا كانت صياغة مثل هذه قادرة على مواجهة ا لخصوم السياسيين الذين أخذوا على الاخوان دائما أنهم يطرحون شعارات عامة ولا يقدمون حلولا تفصيلية للمشاكل فإنها تفتح الباب فى نفس الوقت لشقاق كبير بين المسلمين أنفسهم لتعدد المذاهب والاجتهادات وأن أوان معارك مثل هذه لم يؤن بعد ( شهادة هنداوى دوير أمام محكمة الشعب عام 1954 ) .. بهذا الذكاء فى رسم التحالفات السياسية عاش حسن البنا وبه انتشر الإخوان المسلمون وبسببه تعرضوا لأول صدماتهم الدموية مع الحكم المصرى قبل الثورة “ .
ويرد الأستاذ التلمسانى على هذه المقولة قائلا : “ الواقع أن كل هذه الأقوال مغرضة وكتناقضة ولا تقوم على أساس من الصحة بدليل .. أن الأستاذ البنا له رسائل جمعت فى مجلدات باسم “ رسائل الإمام الشهيد “ والذى يقرأ هذه الرسائل قراءة عميقة متفحصة يعرف تماما ما هو منهاج الاخوان المسلمين وما هى رسائلهم وما هى الأهداف التى يرمون اليها .
أما أنه كان يتصل بمصر الفتاة وغير مصر الفتاة لأجل انقلاب فيكفى أن يرجع الإنسان المنصف الى رسالة المؤتمر الخامس حيث يقول فيها الامام الشهيد : أنا لا أدعو الى العنف لأن الرأى العام يجب أن يكون مقتنعا تمام الاقتناع بالفكرة التى يوجه اليها .
أما أننى أقسم الشعب قسمين : قسم الى جانب الحكومة وقسم الى جانب فكرته ويتصارع القسمان فليس فى ذلك مصلحة إلا لأعداء هذه الأمة “ .. الذين يتهمون البنا بأنه لم يضع برنامجا أو منهاجا مفصلا غير صادقين .. فليرجعوا الى رسائل الإمام الشهيد ليجدوا أنه وضع برنامجا للتربية وبرنامجا للحب وبرنامجا للإقتصاد والاجتماع لم يترك شيئا لم يضع له برنامجا .. صحيح أنه لم يضع برنامجا تفصيليا إنما وضع قواعد البرنامج نفسها وترك لمن يريد أن يتوسع أن يفصل هذه القواعد مقتديا فى هذا بكتاب الله سبحانه وتعالى حيث انزل الله جل وعلا القواعد العامة وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ببعض التفسيرات ثم قام فقهاء الاسلام بشرح القرآن وتفسير ا لأحاديث .. إنهم غير صادقين فى هذا وليس لهم من غرض سوى تشويه سمعة الأستاذ البنا وتشويه سمعة الاخوان ولو كنا تركنا ألستنا تنطلق فى النيل من الناس وفى ذكر عيوبهم وأخطائهم لقلنا فى هؤلاء الناس ما نعرفه عنهم وهو حقيقة واقعة إنما نحن لا نتحدث عن الناس بسوء .. نحن نرفع عن أنفسنا هذه الاتهامات الكاذبة التى توجه إلينا فى كل مكان “ .
ويضيف الأستاذ عمر : “ ما أساء ألأستاذ البنا لأحد وما دعا الى القطيعة أو الشحناء وما كان من خلقه ذلك بأية صورة من الصور ولقد ازدهرت الدعوة فى تلك الأيام وبدأنا نفكر فى النواحى الاقتصادية فأنشئت شركة المعاملات الاسلامية فى غرفة لوكاندة البرلمان فى العتبة الخضراء وكان كل ما فيها لا يزيد عن عشرين جنيها صابون سكر حلاوة طحينية ثم اتسع العمل وأصبحت شركة المعاملات تعمل فى الألوف من الجنيهات ولولا أن الحكومات المتعاقبة صادرت أموال الإخوان مرة بعد مرة وجمدت أموالهم لكانت هذه الشركة من أكبر الشركات الاقتصادية فى مصر وفى الشرق كله فى تلك الفترة أيضا . كما ابتدأت العناية بإنشاء المدارس الابتدائية التى تتبع فى نظمها وبرامجها برامج وزارة المعارف ويزيد عليها مواد التربية الاسلامية ومدرس اللغة العربية إذا دخل يدرس فلا يكتفى بذكر علامات النصب والرفع والخفض ولكنه كان يضيف ويدرس معانى تربوية إسلامية تلفت نظر الصغار الى حقيقة هذا الدين ومدى ارتباط كل تصرفات الحياة الانسانية بهذه العقيدة ومرت الثلاثينيات فى هدوء تقريبا لم يعكر صفوها مصادرات ولا مصادمات ولا حل وإنما الإقبال يزداد ويزداد وينتشر ولما رأى الوفد أن الآلاف من مؤيديه يتسربون من صفوفه الى جماعة الاخوان فأحسن الصلة بهم فترة وأرسل بعض زعمائه منهم من هو على قيد الحياة ومنهم من انتقل الى رحمة الله وأقيم لهم حفل طيب فى دار الاخوان المسلمين وحضروا بالدار وخطبوا فيها وزكوا دعوة الاخوان المسلمين وأثنوا عليها ولكن السياسة غير ذلك فلما رأوا أن الأمر كاد أن يفلت من أيديهم قلبوا ظهر المجن وبدأت المصادمات العنيفة تتوالى من جانب الإنجليز والقصر والاقطاع والشيوعيين وحدث من الأحداث ما هو معروف فى الصحف والجرائد والمجلات ممن عاصروا ذلك العهد أو ممن قرءوا ما كتب فى ذلك العهد أو ممن قرءوا ما كتب عنها بعد أن بلغوا السن التى تسمح لهم بالقراءة والاطلاع على التاريخ فى ذلك الوقت “ .
ثم يطرح الكاتب اليسارى صلاح عيسى مقولة أخرى يقول فيها: “ فبينما كان الأعضاء الجماهيريون ـ بالجهاز العام ـ ينضمون للإخوان فى أغلب الأحيان استجابة لمشاعرهم الدينية الفطرية التى لم يبذلوا جهدا فى تعميقها أو تنظيرها وسعيا وراء كسب مثوبة الدعوة للخير والفضيلة ومقاومة الرذائل فى النفس الانسانية الى الدرجة التى يعتبرها بعضهم أصلا حركة سياسية تجمع بين عضويتها وبين عضوية أحزاب أخرى كالوفد المصرى مثلا .. “
ويقول الأستاذ التلمسانى ردا على هذه المقولة “ هذا غير صحيح .. المسألة أن واحدا مثل الأستاذ محمد عبد الرحمن نصير ـ رحمه الله ـ كان عضوا فى حزب الأحرار الدستوريين وكان يأخذ بمبادىء الاخوان المسلمين فلم يكن هناك تناقض أبدا لأن أسلوبه وكلامه فى المجلس وفى المجتمعات خاص بدعوة الاخوان المسلمين إنما الصفة الحزبية التى عرف بها فى بادىء الأمر أنه كان “ أحرار دستوريين “ وأنا نفسى كنت فى الهيئة أو اللجنة المركزية لحزب الوفد فى القليوبية ولكن بعد أن تبينت لى فكرة الإخوان وأهدافهم ومناهجهم واقنعت بها تماما كنت لا أعمل إلا من أجل الإخوان المسلمكين رغم أن لى صفة أنى عضو فى لجنة الوفد فمع ذلك لم يكن هناك جمع بين صفتين بصورة عملية .. لقد كنت عضوا فى لجنة الوفد وعضوا فى الاخوان المسلمين ومحمد عبد الرحمن نصير كان عضوا فى الاحرار الدستوريين والاخوان ولكن هناك حقيقة لا بد أن تقرر وهى : أننا إخوان مسلمون قبل كل شىء .. “ .
ونتابع المقولات وبشكل أدق “ التقولات “ التى قيلت وتقولت فى حق الاخوان المسلمين وقال الكاتب الأمريكى ريتشارد ميتشل فى كتابه “ الاخوان المسلمون “ فى معرض حديثه عن الخلاف الذى ثار حول اختيار من يخلف الإمام الشهيد فى الاسماعيلية بعد أن قرر الانتقال للقاهرة وانشق البعض على اختيار الممثل المنتخب وطعنوا بعدم كفاءته فى الأمور الإدارية ولكن الامام الشهيد أعلن وبموافقة دائنى الجماعة على تحمله شخصيا مبلغ القروض المقدمة للجماعة بأسرها وعندما أعلن ذلك قدمت ا لتبرعات الخاصة لتمكينه من سداد الديون بالكامل .
قال ميتشل : ثم قدم المنشقون وكان من بينهم أمين صندوق الجماعة بلاغا رسميا ضد البنا متهمين إياه بإساءة استخدام أموال الجماعة وذلك بتوزيعها على الشعب الجديدة ومن بينها الشعبة التى يرأسها شقيقه فى القاهرة وقد أصدر النائب قرارا ببراءة البنا من التهمة التى أعترف المدعى بأن الأعضاء أنفسهم يؤيدون تصرف البنا .. واقتنع البنا أن هؤلاء الرجال قد فقدوا إدراكهم لطبيعة الجماعة وإيمانهم بطاعة القيادة وبأن من الواجب فصلهم إلا أنهم استقالوا قبل أن يقدم على اتخاذ هذا الاجراء ليشنوا حملة من الشائعات حول خطورة الجماعة وعملها السرى وليشددوا بالذات على وقوفها ضد “ حرية الرأى “ .. وذلك هو الخلاف الوحيد فى حياة الجماعة .. فى عهد البنا ـ الذى توجد له رواية رسمية بهذا الشمول .. ويرد الأستاذ التلمسانى على هذه المقولة قائلا : “ لا لم يكن هذا هو الخلاف الوحيد كما يقول ميتشل ففى عهد الامام الشهيد حصلت خلافات كثيرة منها استقالة الأخ أحمد السكرى وكان وكيلا للجماعة ثانيا انشق فريق من الاخوان وكونوا ما يسمى بجماعة “ شباب محمد “ كما انشق فريق آخر وكون جماعة “ الشباب المسلم “ .. هذه الخلافات أمر طبيعى فى أية جماعة من الجماعات وفى أى هيئة من الهيئات لا يمكن أن يجتمع رأى الآلاف من الناس فهو يعتقد أنه فى مجال المساواة فى فهم حسن البنا لدعوة الاخوان المسلمين ويريد أن يتجه بهم اتجاها غير الذى أنشئت من أجله جماعة الإخوان المسلمين كانت هناك خلافات وانشقاقات ولكنها كانت مسألة عادية للغاية ولو أن حسن البنا كان يستغل ـ كما ردد البعض ـ أموال الإخوان لظهرت عليه أعراض الثراء لقد كان يكتفى بمرتبه ما بين 10 جنيهات وهذا الذى كان ينفقه على نفسه وأهل بيته وكان كل الاشتراكات التى تأتى للإخوان المسلمين تودع ـ كما هو معروف فى موضعها عند أمين الخزانة وتطلع عليها اللجنة المالية ويحاسب عليها قرشا بقرش وما كانت الاشتراكات ذات قيمة حتى يقال : ان الشهيد البنا كان يستغلها أو يستعملها ونفس الوفد انشق وحدث فيه تشكيل “ الكتلة “ والدستوريين كانوا جزءا من الوفد وأصبحوا “ أحرارا دستوريين “ وانشق أيضا فى الوفد السعديون كل الهيئات لم يكن يمكن أن تتفق آراؤها مائة فى المائة مع بعضها البعض .
أما الأخطاء والانقسامات التى يبالغ فيها البعض ممن لهم غرض فى ذلك فأقول : لا .. الجماعة كانت مدرسة يتربى فيها الشباب والشباب تتفاوت مراتب ذكائه وفهمه وعلمه بعض الشباب يكون على شىء من الإحاطة بالعلوم العامة والبعض الآخر يكون عنده قدرة على الخطابة والكلام .. مثل هذا ا لشباب يحظى بمكانة فى صفوف الشباب ويقدرونه ويعطونه منزلة خاصة وأحيانا يتسرب الغرور فى نفس هذا الشخص الذى أخذ موضعا معينا فى صفوف الإخوان حتى أنهم يعرفون فى الاحتفالات على أن فلانا لا بد أن يتكلم من موقع حبهم وتقديرهم له فالغرور يعمل أثره فى نفوس هذا الشباب فيبدأ فى التفكير فى مسائل لا تتمشى مع الأسلوب الذى لعبه الأستاذ البنا والهدف الذى يتبعه الأستاذ البنا والهدف الذى يرمى اليه فيبدأ فى الكلام وإثارة أقوال ضد الفكرة وإثارة أخطاء ضد الأستاذ البنا فينتهى الأمر أن الاخوان ـ بعد أن كان له مكانة عندهم ـ ينصرفون عنه ويعتزل الاخوان ويبعد عنهم .. كما حصل بعدد من الناس الذين أنشقوا من الاخوان وكانت كل معرفة الناس لهم عن طريق الاخوان المسلمين " ..
ولقد كان من أهم دعائم تقوية الروابط بين الاخوان وتشكيلاتهم المختلفة المؤتمرات التى عقدت خلال الثلاثينات والتى أثرت الفكر الحركى والتنظيمى للجماعة وساهمت فى وضع الأطر التى حددت مسار الحركة وتقييم نشاط الحركة واندفاعهخا الى آفاق أرحب وأشمل لنشاطات الجماعة ومدارسة لأحوال الجماعة وإعداد العدة للمستقبل .. هذه كانت الفكرة الأصيلة والمبدئية لمؤتمرات الجماعة وقد عقد المؤتمر الأول للإخوان وأطلق عليه اجتماع مجلس الشورى العام ( وحضره نواب فروع الإخوان المسلمين بالقطر المصرى بمدينة الاسماعيلية يوم 22 صفر سنة 1352 هـ ( 1936 ) وكان للإخوان المسلمين فى ذلك الوقت 15 شعبة بالقطر المصرى وكانت أهم توصيات المؤتمر الأول للإخوان توصية بتشكيل مكتب الارشاد العام من عشرة أعضاء وعقد المؤتمر الثانى فى بورسعيد وكانت أهم توصياته تكوين شركة صغيرة لأنشاء مطبعة للإخوان المسلمين وعقد المؤتمر الثالث فى عطلة عيد الأضحى عام 1353 هـ وأصدر هذا المؤتمر توصيات هامة حول بعض التغييرات فى مكتب الارشاد ومواصلة الاكتتاب لتغطية حصص الشركة المساهمة الخاصة بالمطبعة وتنشيط جريدة الاخوان المسلمين وإنشاء صندوق الدعوة للإنفاق على نشر الدعوة وتعيين الوعاظ والموظفين للقيام بأعباء الدعوة وتحديد منهاج الاخوان المسلمين وتحديد مواقف الاخوان من غيرهم من الهيئات وتحديد درجات ومراتب العضو داخل الجماعة وهى الأخ المساعد الأخ المنتسب الأخ العامل الأخ المجاهد كما حدد المؤتمر الهيئات الادارية للإخوان المسلمين وهى : المرشد العام ـ مكتبق ا لارشاد ،ـ مجلس الشورى العام ـ نواب المناطق والأقسام ـ نواب الفروع ـ مجالس الشورى المركزية ـ مؤتمرات المناطق ـ مندوبو المكتب ـ فرق الرحلات ـ فرق الاخوات .
كما وضعت لائحة الزكاة والحج وتحديد الخطوط المالية للجماعة ـ ثم جاء المؤتمر الرابع عام (1356 هـ ) وبدأ من خلال موكب مهيب للإخوان بلغ أكثر من 200ألف فى أكبر حشد شهدته مصر فى تاريخهاالحديث يهتفون * ( الله أكبر ولله الحمد ) الاسلام منقذ الانسانية ، القرآن الكريم دستور الدنيا ـ ومن يتبع غير القرآن قانونا فقد ضل ـ نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وكان هذا الموكب احتفالا بحضور الملك فاروق وتسلمه مهام العرش وقد ثارت شبهات حول هذه النقطة سنرد عليها فى حينها ثم جاء المؤتمر الدورى الخامس عام 1357 هـ حيث أوصى بتشكيل لجان دستورية وقانونية وعلمية وفنية ومطالبة الحكومة المصرية بسن تشريعات لحماية الأخلاق والعقائد ورفع هذه القرارات للملك فاروق والجهات المختصة ونشرت قراراته بصحف الجماعة وخاصة " النذير " لسان حال الجماعة وكان المؤتمر الخامس من أهم مؤتمرات الدعوة حيث طرح الإخوان من خلال " النذير " وعلى لسان مؤسس الجماعة الامام ا لشهيد حسن البنا كلمة جامعة لدعوة الاخوان : تاريخها وأهدافها ومواقفها من الهيئات والأشخاص والحوادث وهكذا ساهمت المؤتمرات العامة للجماعة والتى تلتها وجاء فيما بين مواعيد انعقادها المؤتمرات الاقليمية للجماعة فى رسم الخطوط العريضة لحركة الجماعة وأهدافها ومواقعها داخليا وخارج إطار الجماعة فى مواجهة المواقف والأحداث المختلفة والمتعاقبة وأبرزت دور ونشاط الحركة علىالساحة الجماهيرية والسياسية .
ويقول الاستاذ عمر التلمسانى : المؤتمرات عادة معروفة الاهداف فكل هيئة أو جماعة أو حزب يستعرض بين حين وآخر المهام التى قام بها والوعود التى تحققت والمدى الذى وصل اليه انتشاره وشرح برامجه التى تنضح فترة بعد أخرى فكان كل مؤتمر يعقد فى ا لقاهرة يغشاه الإخوان وكذلك كان يحضره كثير من الهيئات الأخرى وما كانت هذه المؤتمرات قاصرة على الاخوان فقط ولكن كثيرا من أعضاء الأحزاب الأخرى الذين كان يدفعهم حب الاستطلاع لحضور هذه المؤتمرات ليعرفوا ما يدور داخلها وكانوا يستقبلون من جانب الاخوان بالترحاب والتقدير وكان الامام الشهيد حسن البنا يتولى الخطابة فى غالب هذه المؤتمرات وحده ليشرح بدء قيام جماعة ا لاخوان المسلمين والتطورات التى لا زمت هذه الجماعة من وقت قيامها الى وقت انعقاد المؤتمر ويشرح لهم البرامج وما تحقق منها وما لم يتحقق ويعرض عليهم آمال المستقبل وما ينتوى أن يفعله الاخوان المسلمون .. وفكرة المؤتمرات قد أصبحت مؤتمرا للأمن الغذائى ومؤتمرا اقتصاديا وغيرها من المؤتمرات كل هذه المعانى فى هذه المؤتمرات اقتبست من جماعة الاخوان المسلمين يوم أن كانوا يعقدون هذه المؤتمرات لمدارسة أحوالهم واسترجاع تاريخهم وما يعدونه للمستقبل وحتى ذلك الحين لم تكن بعد المؤتمرات فى الدول الأجنبية أخذت وضعها الصحيح الذى هى عليه الآن فكان الاخوان المسلمون أسبق من غيرهم فى إقامة تلك المؤتمرات ولقد كانت هذه المؤتمرات ضرورة من ضرورات نشر الدعوة وفى العصر الحديث الذى نعيشه نرى أن بعض الدول ذات الاتجاهات المعروفة تعقد مثل هذه المؤتمرات بين فترة وأخرى ويجتمع فيها الذين يؤمنون بمبدأ تلك الدولة من مشارق الأرض ومغاربها يتدارسون شئون مبدئهم ومدى انتشاره والمعوقات والأمور التى تساهم فى انتشار الفكرة وكانت ضرورة للإخوان ليتبين للناس حينا بعد حين مدى توفيق الجماعة فى خطواتها وما هى المعوقات التى وقفت فى طريق انتشارها .ز وإذا تتبع الانسان هذه المؤتمرات مؤتمرا بعد مؤتمر لتبين له الخطوات التى خطاها الاخوان المسلمون وما وصلوا اليه فى المؤتمر الذى يعقد وتنشر وقائع وتوصيات المؤتمر فى مجلات الاخوان المسلمين " والمباحث و" النذير وغيرها " .
ثم جاء المؤتمر السادس وهو آخر المؤتمرات العامة للدعوة وأقيم بدار المركز العام بالحلمية الجديدة فى 9 يناير سنة 1941 وحضره عدد كبير من الإخوان فى القاهرة والأقاليم وقد طرق الأستاذ البنا موضوعين جديدين هما : الشركات الاجنبية فى مصر وكانت حوالى 230 شركة تقريبا ونبه " الإخوان المسلمون " لخطورة وجود هذه الشركات وسيطرتها على اقتصاد البلاد وامتصاصها لخيرات مصر أما الموضوع الثانى فكان عن الملك فاروق الذى كان محطا لآمال الشعب بعد توليه العرش وذكر المحاولات التى تبذل لإيغار صدر الملك فاروق على الاخوان ونفى أن الاخوان أعداء للملك .. وهكذا كان المؤتمر السادس خاتمة هذه ا لمؤتمرات واستغنى عن أسلوب المؤتمرات بنظام الهيئة التأسيسية والمكاتب الادارية وتسلسل القيادة .
ثم أضيفت دعامة جديدة للحركة وهى خطوة إنشاء فرق الكشافة أو الجوالة وهى التى ضمت شباب الدعوة الاسلامية ويثير الكاتب صلاح عيسى شبهة حول هذه الفرق قائلا : " وفى استعراضه لملامح المساندة التى قدمتها أحزاب الأقليات السياسية الى الاخوان المسلمين فى حربهم للوفد وضد أحمد حسين أن حكومة السعديين قد سمحت للإخوان بإنشاء " الجوالة " التى كانت تشكيلا شبه عسكرى برغم أن القانون المصرى كان يحرم قيام تشكيلات من هذاا لنوع فقد تضخمت جوالة الإخوان المسلمين حتى وصلت الى عشرين ألفا كان باستطاعة الإخوان تعبئتهم فى أى مكان شاءت .. " .
ويرد الأستاذ التلمسانى على هذه المقولة قائلا : " هذاالكلام مسموم ومغرض لأن الكشافة نظام معروف فى العالم كله وفى مصر نفسها وقبل أن تنشىء جماعة ا لاخوان المسلمين نظام الجوالة كانت توجد فى مصر كشافة ومنشآت جوالة وكانت منتشرة فى المدارس الثانوية فأنشىء نظام الجوالة خلال الثلاثينات فى ظل الظروف ولم يسمح به أحد ولم يمن به أحد على الاخوان المسلمين لأن بعض الجمعيات الأخرى كالشبان المسلمين وغيرهم كانت لهم كشافة فنظام الكشافة ليس بنظام عجيب ولا هو بنظام ممنوح للإخوان المسلمين بصفة استثنائية ولكنه كان نظاما معروفا وليس كما يقول صلاح عيسى أو د. عبد العظيم رمضان ومن نحا نحوه ووضع السم بين ثنايا السطور التى كتبها فى مؤلفاته ليشوهوا مظاهر الإخوان المسلمين .
حقا إن جوالة الإخوان المسلمين كانت تمتاز على الجوالات الأخرى فى القطر المصرى بعدة ميزات : كانت جوالة نظيفة من حيث الأخلاق وكانت جوالة تؤدى الواجبات الدينية فى حرص حتى أنه عندما بدىء فى تنظيم الجوالة قام خلاف فقهى شديد بين أعضاء الجماعة الإخوان المسلمين فيما يختص بلبس الجوالة القصير الذى يعلو الركبة فكان كثير من الاخوان يعارضون فى هذه الملابس والبعض الآخر يؤيدونها وانتهى الأمر بالاتفاق بينهم على أن هذا الأمر ليس بمستنكر فى شرع الله سبحانه وتعالى وأن كشف الرجل لما فوق الركبة ليس فيه ما يخالف الشريعة الاسلامية وكانت الجوالة لها مظهرها المحترم الرهيب وأراد الأستاذ البنا أن يشعر الملك فاروق بقوة الجماعة كما أراد أن يفهمه من طريق خفى أن عليه أن ينصرف عن المنكرات التى يرتكبها والاستهتارات التى يقوم بها وأن فى مصر شبابا مستعدا لحماية هذا ا لدين حماية فعلية ففى أعقاب عودته من الخارج عام 1937 استقبلته جوالة الاخوان المسلمين استقبالا رائعا أدهشه هو نفسه وما كان الاستقبال احتراما للملك أو ترحيبا به وإنما كانت الفكرة من وراء هذا الاستقبال أن يبشعر الملك وعن رؤية واقعة بمدى قوة هذه الجماعة وأنها تستطيع ان تفعل الكثير .. وليست كما يقول ريتشارد ميتشل * إنها لعبت خلال الاحتفال باعتلاء فاروق العرش أول أدوارها الهامة كقوى " للنظام والأمن " ـ وحقيقة لو أراد الأستاذ البنا كما يشيع المغرضون أن يحدث حدثا لفعل ولكنه كما هو مكتوب فى رسائله أنه لا يلجأ الى العنف ولا الى الثورات وأنه يريد أن يربى الشعب تربية إسلامية حتى يتم وعى الشعب الكامل عن طريق الشعب نفسه لأنه إذا كان الشباب الذى يتخرج من الجامعة كله أو غالبيته يدين بمبادىء الاخوان المسلمين فهم الرجال الذين سيتولون شئون هذا ا لبلد ومختلف المؤسسات من قضاء الى طب الى وزارات وغيرها فما دام الاخوان أو جيل مصرى قد تربى تربية إسلامية سيتم التغيير بأسهل وسيلة ومن غير عنف أو صراع وهذه كانت الفكرة السائدة فى ذهن الأستاذ البنا وهو ما دعا يوما الى عنف أو تحريض .. " ..
وكانت أيضا دعامة قوية وهامة لنشاط جماعة ا لاخوان وهى "حديث الثلاثاء " وهو الحديث الذى ظل الامام الشهيد حسن البنا حريصا على إلقائه من أول يوم عرفت فيه دار الاخوان سنة 1936 * ولعدة مرات انتقلت دار الاخوان لعدة أماكن ومع انتقالاتها كان يكثر عدد حضور هذا الحديث أو الدرس وتحول حديث الثلاثاء لمؤتمر أسبوعى لبحث قضاياالساعة يمثل فيه شعب الاخوان وعدد كبير من أبناء الشعب وطغى حديث الثلاثاء على شعبية غيره من صور اللقاء سواء فى صورة احتفالات أو مؤتمرات وجذب اليه الكثير من الشباب والرجال ولم يجتمع أبناء الشعب حول فرد أو سلطة مثلما اجتمعوا حول آراء وأفكار وبلاغه وعطاء الشهيد الإمام حسن البنا ولقد تحول حديث الثلاثاء الى منبر وطنى وعقيدى وساحة للفكر الاسلامى ومركز للإشعاع والاستناره وكل من عاصر هذه الفترة يعرف ما كان يمثله هذا اللقاء الأسبوعى لدرجة كانت تضيق معه الشوارع المحيطة بالمركز بمن فيها من الناس الذين تجمعوا لسماع الأستاذ البنا وضاقت معها صدور عناصر النفوذ من الانجليز والسراى والأحزاب لقدرة الإمام الشهيد على أن يجمع كل أبناء الشعب وطوائفه حوله ..
وهكذا كانت فترة الثلاثينات من أزهى عصور الدعوة التى حملت لواءها جماعة الاخوان المسلمين حيث استطاعت تكوين أرضية جماهيرية واسعة ومترامية عبر أقاليم ومديريات القطر المصرى بدءا بمدينة الاسماعيلية وانطلاقا من القاهرة لتشكيل الشعب الإخوانية التى وصلت الى حوالى الفى شعبة فى مدن ومراكز وقرى ونجوع وكفور القطر وانتشارا من خلال البعد الاعلامى وأثره والذى أدركه وفهم أبعاده الإمام الشهيد فكانت مجلات وجرائد الاخوان المتعددة كما استطاع الامام الشهيد أن يضع النظام الفكرى والحركى والتنظيمى للحركة بالمساهمة مع أفكار أعضاء الإخوان على كافة مستوياتهم التنظيمية ولم تقبع الحركة داخل الحجرات المقفلة أو داخل دور العبادة وإنما خرجت لتقول كلمتها فى المواقف والأمور والأحداث التى تحدث داخل وخارج القطر ا لمصرى فكانت جهود الاخوان فى مقاومة موجات التبشير ودورهم فى مساندة القضية الفلسطينية عام 1936 والوقوف الى جانب الفلسطينيين فى نضالهم ضد المؤامرة الانجليزية ـ اليهودية فى انتزاع حقوق الفلسطينيين فى ا لوجود والحياة فوق ارضهم ثم كان ذلك الحشد الضخم عند مقدم الملك فاروق لاعتلاء العرش واتجاه الاخوان لتنمية البعد الاقتصادى بإنشاء شركة المعاملات الاسلامية للإخوان المسلمين .
ولكن يبقى هناك سؤال على بساط البحث حول تقييم الحركة لنشاطها خلال الثلاثينات انطلاقا لتطور حركتها يقول الأستاذ التلمسانى : " الإخوان المسلمون كانوا يتبعون ولا يزالون فى تحركاتهم الأسلوب الذى يتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم ـ فهم لايدعون الى عنف أو صدام وهم يعلمون تمام العلم أن نتيجة الصدام بين المواطنين وبين الحكومة وقيادة الجيش فيه خسارة على الوطن ومصلحة لأعداء هذا الوطن وهم حريصون على خدمة وطنهم وعلى ألا يستفيد أعداء الاسلام والوضع الطبيعى الذى أسفر عنهالتاريخ منذ وجود سيدنا آدم عليه السلام وحتى اليوم أن كل شىء يولد صغيرا ثم يكبر فإذا كان الاخوان المسلمون قد بدءوا قلة وبدءوا متواضعين ثم اشتد ساعدهم شيئا فشيئا فهذا شأن كل شىء فى هذه الحياة إنما ماذا نفعل للذين يريدونأن يصوروا أو يشوهوا كل تصرف من تصرفات الاخوان المسلمين بأنهم كذا وكذا .. وحسبنا أننا اتهمنا بأننا شيوعيون ورأسماليون وأنصار القصر والاقطاع ولا يمكن أن يكون الإخوان أنصارا لأى طرف من هذه الأطراف لأن النفور تحقق بين هذه الهيئات وهو نفور لا يدعو الى وئام ولا الى اتفاق أو سلام .. فكل ما ينسب الى الاخوان المسلمين فى هذه الناحية محض افتراء ولا أساس له من الصحة لأنه يتنافى تمام المنافاه مع مبادىء هذه الدعوة التى تدعو الى روابط الألفة والمحبة من الجماعات أو للإنسان والفرد يولد طفلا لا يستطيع أن يتحرك ثم يجلس لا يستطيع أن يسير ثم يسير متعثرا الى أن تستقر أوضاعه ويصبح شابا يضرب فى نواحى الحياة هكذا حال الجماعات تنشأ صغيرة وتكبر شيئا فشيئا ليس فى هذا غرابة أبدأ .
كما يتحدث عن خطة الشباب وهى من أهم الدعامات التى ارتكزت عليه دعوة الاخوانالمسلمين فيقول الأستاذ التلمسانى : " كل خير فى هذه الدعوة كان وليد تفكير الأستاذ البنا ولكنه رضوان الله عليه إذا فكر فى أمر من الأمور ما كان ينفذه من تلقاء نفسه ولكنه كان يعرضه على مكتب الارشاد ويقول : إن لديه اقتراحا فإذا أقره خرج الى حيز التنفيذ وإن لم يقره يرجأ الى حينه ودعوة الاخوان المسلمين أصلا تقوم على تربية الشباب ولا تقوم على تعليم الشباب ـ وفارق بين التعليم والتربية ـ فالتربية هى ا لتنفيذ الفعلى لتعاليم الاسلام كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى وصف بأنه قرآن متنقل ـ قرآن يسير على قدمين ـ هذا ما كانت تعنى به دعوة الاخوان المسلمين وما يزالون يعنون حتى الآن بفكرة التربية يريدون أن يقيموا شبابا حرا نظيفا طاهرا مؤمنا بدينه وعقيدته كله رجوله وصراحة وشجاعة ووضوح وكانت هذه المسائل تشغل بال الاخوان المسلمين منذ قيامها الىالآن فنحن لا نعنى بالناحية العلمية إلا بلقدر الذى يصحح تعاليم ديننا إنما الذى يهمنا فعلا أن نربى شبابا على كل المعانى التى يعنى بها الاسلام من وفاء ونتمنى أن يكون شبابنا كله فى مصر على هذه الصفات " .
وهكذا ظهر الاخوان المسلمون بشكل فعلى وواقعى على خريطة الحياة السياسية وسرعان ما بدأت المواجهات والصدامات مع القوى الذى خشيت أن يهدد وجودها تلك الشعبية العارمة لجماعة الاخوان بدءا بالاحزاب والانجليز .. وهكذا جاءت الصدمات بسرعة نحو الجماعة وكان الابتلاء والاختبار ..والمحن .
واشتعلت الحرب العالمية
دقت طبول الحرب ودوى صوت المدافع والبارود فى أجزاء متفرقة من العالم إيذانا باشتعال الحرب العالمية الثانية من سبتمبر عام 1939 بين الحلفاء ودول المحور ومع دق طبول الحرب سقطت وزارة محمد محمود باشا وألف على ماهر باشا الوزارة فى أغسطس عام 1939 وبدأت مع وزارته حرب من نوع آخر حول سؤال مصيرى هل تدخل مصر الحرب مع بريطانيا أم لا تدخل ؟ واستمرت هذه المعركة فترة طويلة انقسمت فيها الأحزاب وتشتت بين مؤيد ومعارض لدخول الحرب مع الانجليز فكان هناك فريق السعديين وكان يرى دخول مصر الحرب فورا مع انجلترا وفريق الوفد ويرى دخول مصر المشروط باستجابتها للمطالب الوطنية وفريق ثالث وهو الوزارة ورأى عدم دخول مصر الحرب .
وكان للإخوان موقفهم المحدد من تلك القضية والذى حدده الامام الشهيد حسن البنا حين بعث بمذكرة الى على ماهر باشا رئيس الوزراء بعد اندلاع الحرب بأيام حدد فيها رأى الاخوان فى موقف مصر الدولى قال فيها " يا صاحب الرفعة إن موقف مصر الدولى يجب أن يكون واضحا صريحا ويجب ألا تتورط الحكومة فى شئ لا شأن لها فيه ولا صلة لها به إننا أمة مستقلة تمام الاستقلال بحكم القانون الدولى وبيننا وبين انجلترا معاهدة قبلها من قبلها تحت ضغط ظروف وأحوال خاصة لا على أنها غاية ما ترجوه مصر ولكن على انها خطوة فى سبيل تحقيق الأهداف المصرية السلمية وتنص المادة ( 7) من هذه المعاهدة على أن مساعدات مصر لإنجلترا إنما تكون فى داخل البلاد المصرية ومحصورة فى حدود معينة .. ولقد ظلت مصر وفية كل الوفاء بهذه التعهدات وعملت فى ذلك أقصى ما يمكن أن يعمل فكل زيادة على هذا لا يمكن أن يقبلها مصرى أيا كان لونه الحزبى أو السياسى وكل زيادة على هذا تفريط وتصنيع لحقوق هذا الوطن وجناية على هذه ا لأمة الناهضة الوفية .
فالإخوان المسلمون وهم الذين يرون فى المعاهدة المصرية ـ الانجليزية إجحافا كبيرا بحقوق مصر واستقلالها الكامل يريدون من حكومة مصر أن لا تتجاوز هذه ا لحدود المرسومة على ما فيها من اجحاف بأية حال ومهما كانت الدوافع اليه وأن تنتهز كل فرصة للإستفادة من الظروف الحاضرة وتكسير قيود الاحتلال التى تقيد حريتنا واستقلالنا وحقوق نهضتنا فإن اعتدت علينا أية دولة ونحن فى ارضنا فكل شبر من مصر الغالية فداؤه الدماء والأرواح والأموال والأبناء والإخوان المسلمين حينئذ على أتم استعداد لأن يذودوا عن حياض هذاالوطن بكل ما يملكون من نفس ومال وإن الدول الأوربية يا رفعة الرئيس مهما كان لونها لا عهد لها ولا ذمة ومهما تظاهرت بالحياد والمودة فإنها تخفى غير ما تظهر ولا تتردد فى تكذيب نفسها إذا وجدت مصلحتها فى هذا التكذيب فمن واجبنا أن لا ننخدع بحياد محايد بل لا بد من الاستعداد التام بكل معانيه وبكل سرعة وهمة وحتى نواجه الخطر ونحن على تمام الأهبة فلنقف موقف الحياد وسنعمل جاهدين للإستعداد " .
كما تناولت المذكرة رأي الإخوان فى الاصلاح الداخلى وتحديدا دقيقا وشاملا لماهية الإخوان المسلمين ودورهم ودعوتهم .
وهنا نورد مقولة د. عبد العظيم رمضان حيث يقول : كان موقف حزب مصر الفتاة وجماعة الاخوان المسلمين أقل شجاعة من موقف صدقى باشا .. لقد كان موقف الإخوان المسلمين محسوبا بدقة ومشوبا بالحذر الشديد وقد تحاشوا فيه التناقض الضار الذى وقع فيه حزب مصر الفتاة فبينما أوضحوا عدم تأييدهم لمعاهدة 1936 إلا أنهم رأوا أن تعنى مصر بالتزاماتها دون زيادة ثم أيدوا دخول مصر الحرب إذا اعتدى على اراضيها " .
ويقول الأستاذ التلمسانى ردا على المقولة : " للدكتور عبد العظيم رمضان أن يقول ما يشاء فالكلام لا ثمن له ويستطيع أى انسان أن يختلق من الوقائع غير الصحيحة ما يشاء ما دام لا حساب هناك عليه والحقيقة أن موقف الاخوان المسلمين من تلك الحرب كان هو الموقف الواضح الصحيح الذى كان يجب أن يفعله كل مسلم ومواطن يعرف قيمة الوفاء بالمعاهدات الدولية ولقد كان بيننا وبين انجلترا معاهدة وقعت عام 1936 وأقرها ممثلو الشعب فى ذلك الوقت سواء كان انتخابهم صحيحا أو مزيفا أقرها مجلس النواب وأصبحت معاهدة دولية من الواجب الوفاء بها ولم يكن فى قدرة مصر عسكريا أن تتنكر لهذه المعاهدة فى ذلك الحين والاسلام يأمر المسلمين بأن يفوا بالمعاهدات حيث يقول الله سبحانه وتعالى : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " فكل عقد يعقده المسلم مع غيره مسلما كان أم غير مسلم يجب عليه الوفاء بهذا العقد فالأستاذ البنا أو ممثل الاخوان المسلمين قال : إن بيننا وبين انجلترا معاهدة ويجب أن نعنى بالتزاماتنا تجاه هذه كمعاهدة على ألا نزيد وهذا موقف سليم مائة فى المائة وموقف رجولى وبطولى ولا معاهدة ما كانت تلزمنا بأن نهاجم أعداء انجلترا ولذلك قال الاستاذ البنا : إننا لا ندخل الحرب إلا إذا هوجمت مصر بالذات فإذا لم تهاجم فلا شأن لنا بهذه المسألة ولكننا نفى بتعهداتنا فى هذه المعاهدة فالموقف كان واضحا كل الوضوح لا لبس فيه ولا غموض ولكن البعض يريدون أن يحملوا الألفاظ مالا تحتمله أو يريدون أن يعملوا من " الحبة قبة " ليعرفوا بين الناس أو يعرف الناس أنهم يكتبون فى التاريخ وأنهم يناقشون أقوى جماعات مصر والمثل الذى يقول " خالف تعرف " كان سنتهم فى تلك الكتابات فما كان واحد يكتب ضد الاخوان المسلمين إلا ليعرف فى جنبات مصر والذين يعرفون الأستاذ عبد العظيم رمضان حق المعرفة ـ ولم يكن لى حظ فى التعرف عليه حتى الآن ـ يحدثوننا عنه كثيرا ويقولون عنه : ما يعرفة هو عن نفسه بالذات "
ولا يفتأ د. عبد العظيم إلا أن يلقى بسهم آخر من جعبته المليئة بالمغالطات حول الإخوان المسلمين فيقول * حول اندلاع مظاهرات الى الأمام ياروميل " من جموع الطلبة الأزهريين وأما الإخوان المسلمين فإن نفوذ القصر وعلى ماهر باشا كان يمارس من خلال هذه الجماعة كما يقول " كيرك " وقد أشرنا الى انه كان يعزى اليهم الدور الأول فى إيجاد تيار الدعاية والكراهية ضد بريطانيا فى خريف عام 1941 وذكر أنه حينما طلب الإنجليز من رئيس الحكومة اعتقال البنا لم يلبث أن أطلق سراحه " بضغط القصر " فيما يظهر والذى قيل إنه يمده بمعونة سخية وواضح أن الإنجليز كانوا يهدفون من اعتقال حسن البنا وكبار أعوانه الى تقليم أظافر فاروق وعلى ماهر باشا وحرمانهما من أداة يمارسان من خلالها نشاطهما بين الجماهير الشعبية العريضة ومع ذلك نلاحظ أن حسين سرى باشا لم يتهم الإخوان بأى دور فى تحريك المظاهرات .
ويرد الأستاذ عمر التلمسانى على هذه المغالطات قائلا : " هذا الكلام لا أساس له من الصحة علىالاطلاق وإنما الذى دعاهم الى هذا الكلام أن العداء بين المصريين جميعا وبين الإنجليز كان عداء طبيعيا لأن الإنجليز يحتلون مصر ويستعمرونها ويستغلون مواردها ويستفيدون من قطنها ومنتجاتها فى مصانعهم ويحرمون المصريين من هذا فكان بديهيا وطبيعيا أن يكره المستعمر وجود المستعمر هذه مسألة لا يمكن الجدل فيها سواء كنا " إخوانا مسلمين " أو غير اخوان مسلمين كل الهيئات كانت تتظاهر لأنها تكره الاستعمار وتكره الاحتلال البريطانى هذه المسألة ليست جديدة والحديث فيها حديث ممجوج لأنه إن لم يكن الوضع هو كراهية الشخص المحتل للشخص الذى احتلة لا يبقى إنسانا بالمعنى المعروف ولكنهم يديرون المسائل وفق أهوائهم فكان العداء بين الإخوان المسلمين والانجليز عداء طبيعيا لدرجة أنهم حين وقعت أحداث القناة فيما بعد كان يقوم بها الاخوان .. ولا يمكن أن نطالب بأن يحل الألمان محل الانجليز واحتلال أراضينا ونحن إذا كرهنا أن يحتلنا الانجليز فالمسألة تنصب على ا لألمان أيضا ونحن نريد حرية كاملة بعيدا عن أى احتلال أو استعمار .. فمظاهرات " الى الأمام ياروميل " لم تكن وليدة حب المصريين لروميل إنما كان واقعا كراهية المصريين للإنجليز فاتفقت كراهية المصريين للإنجليز كمحتلين مع كراهية الألمان للإنجليز كمحاربين فى وجهة نظر واحدة .. وما كان المصريون يفكرون أبدا فى أن تخرج انجلترا لتحل محلها ألمانيا فى احتلالنا وإلا كنا بلهاء وأغبياء والحمد لله لم يستطع واحد من هؤلاء المغرضين أن يتهمنا بأننا كنا دعاة الى ا لأمام ياروميل أو غيرها وكما قلت أكثر من مرة أن تهمة استغلال القصر لنا أو مساعدتنا للقصر تهمه مدحوضة من أساسها لأن الذى قتل حسن البنا هو القصر وعجيب أن يقتل الملك إخوانه وأنصاره كما يدعى هؤلاء .
اعتقال الشهيد الإمام ولقاء الإمام بالانجليز
اعتقال الشهيد الإمام :
أعادت بريطانيا دراسة حساباتها فى مصر خلال الحرب العالمية الثانية بعد العصيان المسلح الذى قام به رشيد عالى ( الكيلانى ) فى العراق وأحست أن موقف على ماهر باشا الوطنى باعتباره ذا ميول هدامة بعد استقالته وتشكيل حكومة برياسة حسن صبرى باشا فى29/يونيو 1940 وأصدرت الحكومة المصرية قرارا بنقل الامام الشهيد الى الصعيد ثم سمح له بالعودة للقاهرة ثم ألقى القبض عليه ويلقى صلاح عيسى ظلالا من الشك حول مقابلة حامد جودة سكرتير الحزب السعدى للشهيد الامام البنا فى معتقل الزيتون حيث قال * " وفى أحد الأيام زار حامد جودة سكرتير الحزب السعدى معتقل الزيتون حيث التقى بالشيخ حسن البنا وقضى معه عدة ساعات واعتذر اليه من اعتقاله ثم ما لبث حسن البنا أن خرج من المعتقل بعدها بقليل .. وعلى الرغم من أن أحدا لم يعرف ماذا دار بين الوزير السعدى والزعيم الاخوانى إلا أن الراصدين للتطورات السياسية فى مصر لا حظوا أنه خلال سنوات الحرب وعندما كان العمل السياسى فى مصر مصادرا بقسوة فإن الاخوان المسلمين الذين كانوا حتى ذلك الوقت مجرد جمعية صغيرة لا تختلف فى وزنها عن مثيلاتها كجمعية الشبان المسلمين والجمعية الشرعية قد توسعت بشكل قاس وانطلق خطباؤهم فى ا لمساجد يهاجمون النازية .. "
ويرد الأستاذ التلمسانى على هذا الادعاء قائلا : " يؤسفنى أن يزل لسانى بكلمة .. إن هذا كلام حشاشين لماذا ؟ لأن الأستاذ حسن البنا لم يكن المعتقل الوحيد فى ذلك الوقت ولكن كان هناك الكثير من المعتقلين من المعروفين بالعمل السياسى فى مصر فليس اعتقال حسن البنا بعجيب على هؤلاء وكون خروج الأستاذ البنا قبل غيره فهذا هو الذى يحدث عادة فى المعتقالات وفى كل تاريخ أن يخرج الناس من المعتقالات أفواجا أفواجا وقد تصادف أن يخرج البنا قبل غيره وبعد غيره ليس فى هذا ما يلفت النظر أو يدعو الى الشكوك والظنون .. .. وكون حامد جودة قابل الشهيد البنا فى المعتقل فمن البديهى أن أنصار الحكم القائم يحاولون الاتصال بمن يتصورون بأنهم معارضون لهم ليحاولوا أن يجتذبوهم الى صفوفهم وكون الاخوان المسلمين انتشروا انتشارا لم يصل اليه غيرهم فهذا ذكاء من الاخوان المسلمين واستغلال الفرص التى يستطيعون من خلالها أن ينشروا دعوتهم .. كلها هذه الآدعاءات عيوب مفتعلة وافتعالات صغيرة ما كان يصح أن ترصد فى كتب إنما هكذا شاء بعض الناس أصحاب الأغراض " .
لقاء الإمام الشهيد بالانجليز:
ويبدو أن الانجليز حاولوا بشكل ملتو إثناء الإمام الشهيد ورفاقه عن المضى فى مهاجمته الآنجليز وأعقب لقاءه .. أى الإمام الشهيد بوثيقة موجهة لجماعة الإخوان المسلمين ويقول ميتشل فى خصوص هذه الواقعة وبعد الافراج عن البنا فى أكتوبر 1941 جرى اتصال بين السفارة البريطانية والاخوان المسلمين والواقع أن مسألة من الذى بادر بالاتصال ؟ كانت وما تزال موضعا للخلاف وعلى أن الواضح أن الاتصال قد تم بالفعل وأنه لم يسفر عن نتائج إيجابية والنقطة الأساسية هنا هى أ ن الإخوان قد رأوا فى فشل بريطانيا فى “ شرائهم “ سببا لمضايقات النحاس للجماعة أولا برفضه ترشيح البنا للإنتخابات وثانيا موافقة العدائية المتكررة تجاههم طوال فترة بقائه فى الحكم وتأكد الاخوان بشكل قاطع من الموقف العدائى الثابت للبريطانيين تجاههم حتى ان البنا كتب رسالة وداع لأتباعه فى منتصف عام 1943نتيجة لاقتناعه بأن المخابرات البريطانية تعمل جاهدة وتضم هذه الوثيقة ـ التى تحتل مكانا بارزا فى قائمة القرارات المعروفة للأعضاء من المعناه التى تنتظرهم فى مواجهة تزايد العداء الخارجى ويجدر الاستشهاد بجزء من تلك الوثيقة بوصفها انعكاسا لاتجاه فكرى أساسى فى الحركة وبوصفها ايضا نوعا من التنبؤ بما سيقع من أحداث .
العقبات فى طريقنا والخلاف مع الوفد
العقبات فى طريقنا:
" أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية وستجدون أمامكم كثيرا من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات وفى هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات أما الآن فلا زلتم مجهولين ولا زلتم مجتهدين للدعوة وتسنعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد . سيقف جهل الشعب بحقيقة الاسلام عقبة فى طريقكم وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم فى سبيله وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطة وستقف فى وجهكم كل الحكومات على السواء وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل فى طريقكم .
ويستكمل الامام الشهيد قائلا : أيها الأخوة المسلمون اسمعوا : أردت بهذه الكلمات أن أضع فكرتكم أمام أنظاركم فلعل ساعات عصيبة تنتظرنا يحال فيها بينى وبنكم الى حين فلا أستطيع أن أتحدث معكم أو أكتب اليكم فأوصيكم أن تتدبروا هذه الكلمات وأن تحفظوها إذا استطعتم وأن تجمعوا عليها وإن تحت كل كلمة لمعانى جمه .
أيها الإخوان أنتملستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة موضوعة لأغراض محدودة المقاصد ولكنكم روح جديدة يسرى فى قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله وصوت داو يعلو مرددا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قيل لكم : إلام تدعون ؟ فقولوا ندعو الى الاسلام لذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه فإن قيل لكم : هذه سياسة فقولوا هذا هو الاسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام وإن قيل لكم : أنتم دعاة ثورة فقولوا : نحن دعاة حق وسلام نعتقد ونعتز به . فإن ثرتم علينا ووقفتم فى طريق دعوتنا فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين وإن قيل لكم أنتم تستعينون بالأشخاص والهيئات فقولوا : " آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنتم به مشركين " فإن لجوا فى عدوانهم فقولوا " سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين " .
ويقول الأستاذ عمر التلمسانى : " هذه الواقعة لها نصيب من الصحة ولكن على غير الصورة التى أوردها ميتشل فى كتابة عن ا لاخوان المسلمين فعندما قامتالحرب العالمية الثانية كان زعماء انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة قد صدرت منهم دعايات وأصوات تدعو لحماية حقوق الانسان وحماية الديمقراطية وإنكار فضيلة بعض الأجناس والواقع أن هذه الدعايات وجدت اتساعا وانتشارا ووجدت مسرى فى نفوس الكثيرين وظنوا مخطئين أن هذه الدول تدافع حقا عن حقوق الإنسان وعن حريته ومن هذه الوسائل جرى اتصال من جانب السفارة البريطانية بالأستاذ البنا وطلبت منه أن يلقى محاضرات فى الاذاعة عن الديمقراطية وحددت له خمسة آلاف جنيه فى المحاضرة الواحدة فسألهم . هل أتحدث عن حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية بمفهومى أنا ومفهوم ا لاسلام أم أن لكم غرضا آخر للحديث عن الديمقراطية فكان جوابهم : إنك تعرف أننا فى حرب مع ألمانيا وأننا نريد أن ينضم الرأى العام العالمى كله الى جانبنا فإذا تحدثت عن الحريات من وجه نظرنا فيكون لذلك أثر فى الرأى العام العالمى ويساعدنا فى هذا الموقف فقال لهم الامام الشهيد : إن أردتم أن أتحدث فى الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان فأنا على استعداد أن أتحدث عنها فى الاذاعة وبلا مقابل على شريطة أن أتحدث بوجه نظرى أنا ووجهة نظر الاسلام وليس من وجهة نظركم .. هذا كل ما تم من اتصالات أو كلام أو لقاء فى هذه " الشوشرة " التى يفتعلها ميتشل وأمثاله وانتهى فيها بأنه قال : إن هذه لم تسفر عن شىء .. والأستاذ البنا يوم أن فكر فى هذه الجماعة ومن يوم أن قامت وانتشرت وكل الاخوان المسلمين ـ وليس الأستاذ البنا بمفرده ـ يعلمون أن أشد أعداء هذه الفكرة هم الصليبيون وأن أنصار الصليب لا يريدون أن تقوم للإسلام قائمة فى أية بقعة من بقاع الأرض .. وكنا جميعا على ثقة كاملة من عدائهم لهذه الدعوة ولذلك تجد أن شعار الإخوان المسلمين أو هتافهم " الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا " كانوا يعلمون أنهم عرضة لمضايقات واعتقالات واغتيالات ولكل شىء كانوا يعدون أنفسهم لهذا فرحين مستبشرين بأنه إذا قتل إنسان منهم فى سبيل الله فمأواه الجنة والنعيم الدائم عند الله سبحانه وتعالى .. ولقد كان أمرا متوقعا عند جميع الاخوان " .
الخلاف مع الوفد :
ذكرنا من قبل أن هناك إحساسا تولد لدى الوفد أن ا لاخوان المسلمين يسحبون البساط ـ وهو الشعبية والأغلبية ـ من تحت أقدامه وأن الاخوان ينافسونه وخاصة فى مجال اجتذاب الشباب رغم محاولته الأولى تحسين صلته بالجماعة وتزكية بعض زعمائه لجماعة الاخوان ـ على اعتبار أنها جمعية دينية لا تحشر أنفها فى خضم السياسة ودهاليزها فلم يحاول الاخوان المسلمون فى يوم من الأيام أن يدخلوا فى صدام أو صراع مع أية جبهة من الجبهات السياسية المعروفة فى ذلك الوقت وعلى وجه الخصوص " الوفد " صاحب الأغلبية الجماهيرية ولكن سرعان ما سبب الأنتشار السريع لتشكيلات الجماعة وشعبها قلقا بالغا لدى زعماء حزب الوفد وسرعان ما تحرك هذا القلق فى اتجاه الحركة والصدام مع الاخوان "
ولكن حزب الوفد كان حزب الأغلبية وأحس أ ن الاخوان امتد نفوذهم الى الشباب واصبح الكثير من هؤلاء الشباب يتسللون من الوفد الى صفوف الإخوان وطبعا حرص رئيس حزب الأغلبية أنتظل أغلبيته كما هى فلا بد أن يفتعل المواقف للصدام مع الهيئة التى تنافسه الزعامة علىالشعب فحدث ما حدث عندما استدعى النحاس باشا الأستاذ حسن البنا وقابله فى " مينا هاوس " وألح عليه أن يتنازل عن ترشيح نفسه للإنتخابات فى الاسماعيلية بحجة ان موقفه هذا وتصميمه على المضى فى الانتخابات أمر لا يفيد الإخوان المسلمين بقدر ما يضر البلد نفسها لأن الإنجليز لا يريدون أن يدخل البنا مجلس النواب ولأن الأستاذ البنا كان يقدر دائما مصلحة البلد فاستجاب الى هذا الرجاء وتنازل عن ترشيح نفسه ولكن الوفد ظل على موقفه من الاخوان لأنها الهيئه الوحيدة التى كان يستجيب المواطنون لها ولم يكن لحزب الأحرار الدستوريين أو السعديين أو غيرهم أى اثر فى نفوس الشعب لأنها كانت احزاب أقلية لا تنجح فى الانتخابات إلا إذا كان هناك تأثير من الحكومة القائمة لتستبعد الوفد عن مجلس النواب وحلت الشعب تقريبا ولم يبق غير المركز العام وحاول الوفد بمختلف الوسائل شأنه شأن غيره فى ذلك الوقت أن يشكك الناس فى دعوة الاخوان المسلمين واتهمهم بأنهم يسعون الى الحكم وفى كل هذه الأطوار لم يقل الإخوان كلمة واحدة تجاه النحاس باشا أو غيره ولكنهم كانوا يستمعون الى الاتهامات والاشاعات بدون اكتراث لأنها تموت من تلقاء نفسها ولأنها لا أساس لها من الصحة ولما عجز الوفد عن أن يحتوى الإخوان المسلمين أو أن يضمهم الى صفوفه أسفر عن حقيقة نواياه وأغلق الشعب والمركز العام ولكن لم يكن فى تصرفات الوفد تجاه الإخوان ما انحدر الي غيره من الأحزاب أو القصر ـ حقا حصل قبض واعتقال ولكن كل هذا كان يتم فى صورة بعيدة عن العنف أو لا يجرح مشاعر الناس فى مجالات القبض والاعتقال وما كان يمكن أ تكون هناك علاقة مودة وصفاء من ناحية الوفد أو الأحزاب ألأخرى تجاه الإخوان لأنه فى الوقت يعتبرون فيه الإخوان دعاة لمصلحة هذا البلد وحمله لتعاليم دينه كان الوفد والأحزاب الأخرى تنظر لهذه المسألة من زاوية أخرى وهى أن الاخوان منافس خطير لهم على زعامة الشعب . وكان هذا الأمر لا يرضيهم بأى حال من الأحوال لأن الوفد كان يعتقد بأنه صاحب الأغلبية وصاحب الشعبية وأن الأمة كلها تثق فيه فلما رأوا إقبالالشباب على مبادىء الاخوانالمسلمين راوا أنهم " الخطر الحقيقى " على شعبيتهم فكان ما كان من عدم وفاق واتفاق فى وجهاتالنظر . والحقيقة أن الآخوان المسلمين كان موقفهم موحدا تجاه جميع الأحزاب ما كانوا يفضلون الوفد على الاحرار الدستوريين ولا يفضلون السعديين على الوفديين ولاشىء من هذا القبيل لأن النزاع كان على مبادىء والمبادئ لها جذور عميقة والاخوان المسلمون كانوا يريدون أن تحكم مصر بشرع الله وهذا أمر لم يكن وارد ا فى أى برنامج من برامج الأحزاب بل كلها كانت راضية لتنفيذ القوانين الوضعية الأمر الذى رأى الاخوان المسلمون بأنهم لا يصح أن يقبلوه لأن حكم الله فوق كل حكم ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم : " إن الحكم إلا لله " أى أن الحكم لا يجوز أن يكون إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم "
ومن نافلة القول : أن الاخوان ا لمسلمين لم يرسموا لأنفسهم الدخول فى تحالفات سياسية أو الانضواء تحت جبهات معينة وإنما انطلقوا فى دعوتهم مستقلين عن أى ضغوط يمكن أن تمارس عليهم . ولم يهدفوا كما ذكر الأستاذ البنا فى مذكراته للوصول الى كرسى الحكم كما كانت تسعى الأحزاب صاحبة الأغلبية والأقلية البرلمانية أو فى المستوى الجماهيرى .
ويقول الأستاذ عمر التلمسانى : " نحن رفضنا أن نكون حزبا لأن للأحزاب أسلوبا معيبا فى العمل ولأن للحزب برنامجا ونحن ليس لنا برنامج أو منهاج لأننا ندين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو منهاجنا لهذا ا لمعنى ولأننا لا نقر الأساليب التى تتخذها الأحزاب سبيلا للوصول الى أهدافها ومن بينها الحكم ولم نرض أنفسنا أن نكون حزبا لأننا نتبع أسلوبا يخلو من أى غرض شخصى نحن يرضينا أن يأتى أى انسان من أى حزب يطبق شريعة الله فنتبعه ولا نعارضه ونحن لسنا حريصين علىأن يكون رئيس الدولة من الاخوان المسلمين .
وما دام يتبع كتاب الله وسنة رسوله فنحن لسنا ضده هذا ا لذى حال بيننا وبين أن نكون حزبا لأننا نعرف كيف تتعامل الاحزاب مع بعضها البعض وكيف تسلك مختلف الطرق التى لا نقرها للوصول الى المجالس النيابية " .
والغريب أن يسعى كاتب مثل صلاح عيسى للتقول على ا لاخوان حين يقول : وهم أى الاخوان ـ لا يقرون بأنهم فصيلة سياسية بين فصائل أخرى ولكنهم يرون أنفسهم " حزب الله " حيث لا يجوز مع حزب الله أن توجد أحزاب أخرى ,, ونتسائل من أين أتى صلاح عيسى بهذا التصور الغريب ـ إن فكرة الحزبية لم تكن واردة بشكل صريح أو متوارب فى دعوة الاخوان المسلمين وكون أنهم لا يرضون أن يكونوا جزءا من التحالفات السياسية لا يعنى أن يدخلوا ضمن ما وصفه الكاتب " بالانتهازية السيباسية " .
إن حكومة النحاس باشا التى جاءت الى الحكم فى حادث 4 فبراير 1942 بمساندة الدبابات الإنجليزية أبت أن يقلق مضجعها وجود شعبية تقارب شعبيتها وأن تقلق النفوذ الإنجليزى الذى حرصت تلك الحكومة الوفدية ألا تثير قضيته وسادت موجة من التوتر وعدم استقرار العلاقات بين حزب الوفد وجماعة الاخوان ثم أغلق النحاس باشا جميع شعب الاخوان عدا المركز العام فى نهاية عام 1942 وعقب زيارة لمجموعة من كبار رجال الوفد تغير الموقف ثم عاد للتدهور وهكذا كان " ترمومتر" العلاقة بين الاخوان والنحاس باشا مرتبطا بالانجليز .. وهكذا ظل التوتر قائما بين الجماعة والحزب وسرعان ما تحول الى صراعات عنيفة لم يكن الإخوان المسلمون بمثيريها .
إنشاء النظام الخاص وأخطــاء عبد الرحمن السندى
إنشاء النظام الخاص:
بعد ان استكمل الإمام الشهيد بناء أركان النظام العام للجماعة وقواعده متمثلة فى مكتب الارشاد والمرشد العام ـ على قمة التنظيم ـ ونزولا فى السلم التنظيمى الى الشعب الإخوانية فى مدن وقرى القطر المصرى .. وأحس الأمام الشهيد بأن الجماعة تمضى فى تحقيق أهدافها بشكل طيب وإيجابى ولكن ثمة ما ينقص هذه الجماعة وأطال التفكير فى هذه المسالة وهى إيجاد البعد المادى للدعوة وهو أن تمثل الجماعة الى جانب أدوارها المعنوية فى إيقاظ شعلة الوعى الاسلامى بين المصريين قوة مادية قادرة أن تبطش بأعداء الدعوة الاسلامية وحماية الدعوة من هؤلاء الأعداء وكانت مجريات الأمور فى تلك الفترة تشير الى ان الإنجليز يشددون قبضتهم علىالبلاد مستندين الى تحالف طبيعى وتقليدى مع القصر فى حين لم تشكل الأحزاب خطرا من أى نوع على وجودهم وخاصة بعد أن أتوا بوزارة النحاس باشا الوفدية للحكم بالدبابات الانجليزية فى حادث 4 فبراير 1942 .. وفى نفس الوقت كانت تجرى مؤامرة خطيرة هدفها بيع أرض فلسطين لليهود بتواطىء أنجليزى ولطرد أهل فلسطين من أرضهم التى عاشوا فيها آلاف السنين وشعر الأستاذ البنا أن مثل هذه الأمور تجرى دون أن تجد من يقف لها ويواجهها فالحكومات العربية فى ذلك الوقت ومنها الحكومة المصرية كانت أسيرة قوى الاحتلال متهالكة هزيلة المواقف لا تنفع ولا تضر ولا تتحرك قيد أنمله لدرء الأخطار المحيطة بدولها وشعوبها .
وهداه تفكيره لأنشاء النظام الخاص للجماعة لأنه الحل الوحيد لكى يشعر المحتل الانجليزى بوجود المقاومة لوجوده غير المشروع على الأرض المصرية ولحماية الدعوة ومواجهة خطر اليهود فى فلسطين وهى الأهداف التى قام من أجلها الجهاز الخاص وليس كما يزعم عباقرة الكتاب الماركسيون من أساتذة التصنيف والتوصيف والتشويه ـ بأنه أنشىء للقيام بالاغتيالات السياسية وقلب نظام الحكم .
ويقول الأستاذ عمر التلمسانى " الإخوانا لمسلمون أعلنوا أن هذا النظام الذى أنشئ عام 1936 كان هدفه الأول هو تحرير مصر من الاستعمار البريطانى وإنقاذ فلسطين من اليهود ولكن ا لأغراض والأهواء كانت دائما تنكر هذا المعنى الحقيقى وتنسب الى الاخوان أن النظام لم ينشأ فى الاخوانا لمسلمين إلا سعيا وراء الحكم وما من شك أن هذا ا لنظام قام بأدوار غاية فى البطولة بالنسبة للوطن والاساءة الى الضباط والجنود البريطانيين المحتلين كما قام بدورة المجيد فى حرب العصابات فى فلسطين ضد اليهود ـ والمغرضون ينسون هذه المواقف ولا يتذكرون إلا أن النظام أنشئ فى الاخوان لغرض الاستيلاء علىا لحكم ومن المسلم به بداهة أن الشئون التى فيها الشكل العسكرى أو الحربى ـ فى كل دول العالم فإنها تأخذ صورة من السرية وليست هناك دولة فى العالم تطلع غيرها من الدول على أسرار الجيش حتى المواطنين أنفسهم لا يكونون على علم بالشئون الحربية ولا يتدخلون فيها ربما أن النظام كان الجانب الأكبر من دوره الحربى هو مقاتلة الانجليز باعتبارهم محتلين ومقاتلة ا ليهود باعتبارهم مغتصبين لأرض فلسطين كان هناك شئ من السرية فى عدم التصريح بأسماء الجهاز وحقيقة وقعت أخطاء من بعض أفراد النظام ولكنها فى مجملها أخطاء شخصية يجب ألا تنصرف الى الاخوان جميعا أو لا تنصب على ا لاخوان جميعا وهنا لابد أن نقف وقفة مع ما جاء فى مقدمة صلاح عيسى عن هذه الفقرات حيث يقول * لقد سعى حسن البنا الى بناء منظمة من الكوادر تتلقى تربية وإعدادا خاصا وتعد لتكون ( ميليشيا ) سرية مسلحة مهمتها أن تستولى علىا لحكم بتحرك إنقلابى "
ولا ندرى كيف استنتج الكاتب استنتاجه هذا وهل دلته نشاطات التنظيم السرى خلال فترات وجوده على وجود هذه النية لدى أفراد الجهاز ثم ألم يطلع الكاتب على أدوار الجهاز فى مقاومة الانجليز بدءا بإثارة الفزع والرعب فى قلوب جنود الاحتلال السكارى المعربدين فى شوارع ومدن مصر وانتهاء بدورهم فى مقاومة اليهود ونحيل الكاتب الى قضايا الأوكار وسيارة الجب ـ التى سنعرض لها فيما بعد ـ لو وجد أن كل هذا من أجل فلسطين وليس سعيا وراء ما يسميه الكاتب بالتحرك الانقلابى ـ وربما تكون هناك أخطاء قد وقعت فى هذا الجهاز وهذا وضع طبيعى لجهاز يشرف عليه بشر وطبيعة البشر الخطأ ـ ولقد وضع هذا الجهاز لتربية الشباب تربية جادة وإشعارهم بالمسئولية نحو أوطانهم ونحو عقيدتهم .. لقد كان الهدف الأول للنظام هو الجهاد فى سبيل الله دفاعا عن الدين .
نظام الأسر والكتائب :
ولقد واصل الأستاذ البنا إكمال عناصر البناء المتكامل للإخوان المسلمين فأنشأ نظام الكتائب ونظام الأسر .
وبالنسبة لنظام الأسر يقول الأستاذ عمر التلمسانى " نظام الأسر كان الغرض منه فى الاخوان المسلمين تعارف أفراد الإخوان بعضهم على بعض فمثلا إذا كان جماعة الاخوان أسرة كل أسرة مكونة من خمسة أو سبعة أفراد فرؤساء هذه الأسر كانوا يكونون بدورهم أسرا جديدة ولرؤساء الأسر الجديدة رؤساء ومن بينهم تتكون أسر أخرى وهكذا ..فكان نظام الأسر فى الاخوان يقصد به التعارف والتعاون والتكامل والحب وإن الأسرة الواحدة كانت تتكافل فيما بينها فى جميع أوجه شئون الحياة المحتاج يعطيه من لديه والابن يعطيه المدرس فى أسرته درسا وهكذا كان التكافل بين أعضاء الأسر على وجه متكامل وبناء وكان المقصود من نظام الأسر وحدة الفهم وإيجاد نوع من التكافل بين الاخوان المسلمين جميعا ولم يقصد أن يعارض أى نظام آخر .
أما الكتائب فهى أيضا صورة من صور النظام الخاص لم يكن هناك فروق بين هذه التشكيلات وكان الهدف منها جميعا هو إيقاظ الوعى الاسلامى فى نفوس المصريين ليعودوا الى تطبيق تعاليم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. وكان هدف الكتائب هو تحقيق أسلوب التربية العميقة وبشكل مباشر ولعل الأستاذ البنا قد اشتقه من اجتماعات دار الأرقم بن أبى الأرقم حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع المؤمنين به فى ذلك الوقت المبكر ولقد كان لهذا النظام تأثيره العميق علىا لاخوان فأفرز هذا النظام مجاهدين لا يخافون فى الله لومة لائم ودعاة مخلصين للعقيدة وعلماء على بينة من أمور دينهم .. "
أخطــاء عبد الرحمن السندى :
لقد عهد الإمام الشهيد بتيسير أمور هذا النظام الى أحد الشباب بعد تزكية من بعض عناصر الإخوان وبعد مبايعة للإمام الشهيد وكان أول أعمال النظام الخاص بث الفزع والرعب فى قلوب المحتلين الإنجليز حيث تم اختيار ليلة عيد الميلاد * واختاروا النادى البريطانى حيث يكون مكتظا بالجنود الانجليز وضباطهم وألقوا عليهم قنبلة لم تقتل أحدا ولكنها بعثت الرعب فى نفوسهم وحققت الغرض منها تماما فبدءوا يفهمون أنهم يعيشون وسط قوم يستطيعون أن يحفظوا كرامة أنفسهم وأن يلقنوا من يعتدى عليهم دروسا قاسية .. "
وقد سار عبد الرحمن السندى سيرا حسنا موفقا نال به رضاء القيادات والأفراد فى النظامين الخاص والعام فى الاخوان المسلمين .. ولكن ثمة تغيرات ظهرت على شخصية عبد الرحمن السندى فى الاتجاه العكسى .
ويقول الأستاذ عمر التلمسانى " بانتشار وازدياد قوة النظام الخاص أحس عبد الرحمن السندى رحمه الله بقوته وسلطانه * وكان يتصرف فى بعض الأحيان تصرفات لا يقرها الأستاذ الامام وهذا ليس أمرا مقصورا على الاخوان المسلمين قد يتصرف بعض أفرادها تصرفات لا تقرها رئاسة الحزب وقد تحمل الإخوان المسلمون كل الأعباء التى حدثت بعد ذلك ولذلك عندما طلب من الامام الشهيد ـ أن يصدر بيانا ـ فى أيام النقراشى باشا رحمة الله عليه ـ يستنكر فيه ما حدث كان الامام على أتم استعداد ونشر فى الصحف بيانا عنوانه " هذا بيان للناس " وبيانا آخر بعنوان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " .. أما مسألة شعور عبد الرحمن السندى أنه على مستوى الندية مع الامام الشهيد لأكبر دليل على أن قيادة الاخوان المسلمين أبعد ما تكون عن العنف لأنها لو كانت عنيفة أو تدعو الى العنف لتم الاتفاق بين الامام وعبد الرحمن السندى على العمل فى طريق واحد وتخيل عبد الرحمن السندى وصل الى مرحلة الندية مع الامام البنا فإن هذا لا يسىء الى الأستاذ البنا ولا يعيب الاخوان المسلمين .. إنما هو إحساس إنسان بلغت به القوة الى حد أنه يضع نفسه فى مستوى قائد الجماعة وهذا الانسان أغرته القوة وأغواه الشيطان ولما لم يرض رئيس الجماعة عن ذلك وقع الخلاف بينهما أما لماذا لم يفصل عبد الرحمن السندى ؟ فإن أى إنسان فى أى جماعة ينمو وتزداد قوته يوما بعد يوم قد لا يدرك خطره إلا بعد أن يصل أمره الى منتهاه وهذا ما حدث ، والسلاح الذى ضبط مع الاخوان أيام الرئيس جمال عبد الناصر فإن لهذا السلاح قصته فحين حدث حريق القاهرة وشعر الضباط الأحرار بأنهم موضع تفتيش لجئوا الى الاخوان المسلمين لتهريب الأسلحة التى كانت فى بيوتهم وكانت من اسلحة الجيش استعانوا بالاخوان المسلمين ووضع جمال عبد الناصر بنفسه التصميم للمخابىء ووضعت فيها الأسلحة بالاسمنت وهو يعرفها ولما وقعت المشاكل بين عبد الناصر والاخوان قال : إنه عثر على مخازن للإخوان تكفى لنسف القاهرة عشر مرات .
لقد نشأ الجهاز لمقاومة الوجود الأجنبى ثم انحرف عن الطريق ولو أن الحكومات اعتقدت أننا أخطأنا وأخذتنا بالحسنى وتفاوضت معنا بدل التعذيب فربما كان الحال الآن غير الحال .."
ويضيف الأستاذ عمر التلمسانى :" ومن المسلم به بداهة وأنا أقتنع بمواقف الأستاذ البنا كنت أرى أن عبد الرحمن السندى قد تجاوز حدوده عندما شعر بطاعة أفراد النظام له باعتباره أنه رئيس هذا التنظيم وبلغ به الأمر أنه عندما حدث صدام بين فريق من هذا النظام وبين الاستاذ الهضيبى ـ الذى خلف الأستاذ البنا فى مركز المرشد العام ـ أن كنت من الساعين الى التوفيق بين وجهات النظر فالتقيت مع عبد الرحمن السندى فى مكان اسمه دار الكتاب العربى لصاحبها المرحوم حلمى المنياوى فسألت عبد الرحمن السندى : هل أخذت رأى من معك قبل أن تقف هذا الموقف من الأستاذ الهضيبى ؟ فكان رده عجيبا جدا قال : إننى ماتعودت أن آخذ رأى أحد أبدا فتركته وانصرفت ودارت الأيام والسنون وألقى جمال عبد الناصر القبض على الأستاذ الهضيبى وبعض الإخوان فى يناير 1954 فكنا نلتقى فى مكتب المرحوم عبد القادر عودة لعلاج الموقف فحضر عبد الرحمن السندى فى ليلة من الليالى وظل هو والحاضرون يتناقشون فى الموقف وظللت أنا صامتا ولاحظ ذلك عبد الرحمن السندى فبادرنى قائلا : لماذا لا تبدىء رأيك ولا تتكلم يا فلان ؟ فقلت له يا أستاذ عبد الرحمن السندى أنا سمعت منك أن لا تأخذ رأى أحد فيما تريد أن تفعل فلا داعى لأن أناقش فى أمر من الأمور فحاول جاهدا أن ينكر هذا وأنه ما قال مثل هذا القول فتأكد لى من الاحداث الواقعة ان الغرور تملك المرحوم عبد الرحمن السندى فأخذ هذا الموقف من الأستاذ حسن الهضيبى مثلما وقف نفس الموقف مع الأستاذ حسن البنا رضوانالله عليه ولمتطل أيام الأستاذ البنا حتى يتخذ إجراء معينا مع السندى فوقف عبد الرحمن السندى هذاالموقف واحتل المركز العام هو وبعض أنصاره وذهبوا الى منزل الأستاذ الهضيبى وأساءوا اليه واجتمعت هيئة مكتب الارشاد والهيئة التأسيسية وقررت فصل السندى وبعض من معه وكان من فضل الله أن الأغلبية كانت ساحقة من أفراد هذاا لنظام التزمت بكلام الأستاذ المرشد ولم تتابع عبد الرحمن السندى على أهوائه واتجاهاته وزاد الأمور وضوحا فى نوايا عبد الرحمن السندى حين عينه عبد الناصر فى شركة " شل " فى قناة السويس وأفرد له فيلا " معينه وسيارة وأثث له منزلا وأطلعه عبد الرحمن السندى ـ مع بالغ الأسف ـ على الكثير من أحوال النظام الخاص وأسماء أعضائه مما مكن لجمال عبد الناصر من أن يسىء لهذا النظام إساءة بالغة كما ثبت من التحقيقات والقضايا التى صدر فيها أحكام ضد المخابرات التى عذبت الاحوان المسلمين فى مبدأ حكم جمال عبد الناصر ولقد نجح عبد الناصر فى التأثير على عبد الرحمن السندى واجتذبه الى جانبه فاتخذ هذا ا لموقف مع الأستاذ الهضيبى هو وبعض الشخصيات أيضا ـ ولم يكن هناك كما شاع فى ذلك الوقت تنظيم سرى بالمعنى المعروف ولكنهم الشباب الذين تحالفوا على مقاومة اليهود فى فلسطين ولقد أراد عبد الرحمن السندى أن يكون له دور فى توجيه سياسة الإخوان المسلمين إلا أن الفريق الذى كان له صله بعبد الرحمن السندى عندما تم انتخاب أعضاء مكتب الارشاد فى بدء عهد الأستاذ الهضيبى كانت الأغلبية الكبرى من أعضاء المكتب من المدنيين ـ أى لم يدرسوا فى الأزهر وليسوا مشايخ فلعل مثل هذا أساء البعض وأدخل فى روع عبد الرحمن السندى أنه تحول فى السياسة ومقابلة الأستاذ الهضيبى خصوصا وأن الاستاذ الهضيبى كان لديه مبدأ الحزم فى آرائه وتصرفاته بحكم عمله لفترة طويلة كقاض كان يقدر ويحكم وربما كان الاستاذ البنا أكثر تحملا وصبرا فى مواجهة الأمور ومعالجتها بالهدوء ولكن مواقف الأستاذ الهضيبى كانت تتسم بالحسم العاجل فى الأمور .."
وهكذا نخلص أن الجهاز السرى كانت بدايته طيبة ويعمل وفق النسق العام لحركة ومنهاج الإخوان ـ وهو مقاومة الاحتلال الإنجليزى ومقاومة التآمر اليهودى ـ الإنجليزى فى فلسطين ولكن هذاالجهاز انحرف عن طريقه وأصاب رئيس الجهاز عبد الرحمن السندى الغرور فظن أنه ينافس أو يضع نفسه فى مرتبة مع الامام الشهيد حسن البنا ثم مع الأستاذ حسن الهضيبى كما وقعت بعض أخطاء من الشباب المتحمس الذى انطلق من تلقاء نفسه فى ارتكاب هذه الأخطاء مثل حوادث نسف المحلات اليهودية أثناء حرب فلسطين ومقتل المستشار الخازندار ونسف شركة الاعلانات الشرقية وغيرها وكان ذلك نفكيرا لا تقره الجماعة مما أوجد خلافات حادة لم تنته إلا بفصل عبد الرحمن السندى وتشكيل الجهاز بأسلوب جديد بعيد عن كل مظاهر العنف والخروج من طاعة الجماعة ولكن أحدا لا ينكر أدوار هذا الجهاز فى محاربة الإنجليز والاحتلال الصهيونى لفلسطين .
الباب الثانى: عقـد الصدمات
حرب فلسطين
كانت قضية فلسطين مجهولة للكثير خلال فنترة الثلاثينات وقد حاول الإخوان المسلمون جاهدين تنبيه الأذهان لخطورة المؤامرة التى تجرى على أرض فلسطين عن طريق الخطب والمساجد وكتباتالامام الشهيد ضد الاختلال الانجليزى لفلسطين وطبع المنشورات التى تهاجم الانجليز لتواطئهم مع اليهود كما دعا الاخوان لمقاطعة المحلات اليهودية فى القاهرة فكان لهذه الدعوة تأثير بالغ فى النفوس كما سجلت كتابات الاخوان المسلمين فضائح التواطؤ الانجليزى ـ اليهودى كما قاد الاخوان مظاهرات عارمة فى ذكرى وعد بلفور وحاول الانجليز فصل مصر عن الأمة العربية ولكن الاخوان وقفوا إزاء هذا التخطيط الخبيث وعقد أول مؤتمر عربى من أجل فلسطين فى دار المركز العام بالعتبة مما دفع انجلترا إزاء الضغط الشعبى الى الدعوة لمؤتمر المائدة المستديره بلندن وأصدر المؤتمر الكتاب الأبيض الذى وضع حدا لهجرة اليهود الى فلسطين وتشكلت لجنة التحقيق البريطانية الأمريكية بإيعاذ من اليهود والتى طافت بمختلف مناطق الوطن العربى واستمعت ضمن جولتها لرأى ا لاخوان المسلمين فى قضية فلسطين ولكنها ضمنت تقريرها السماح لمائة ألف يهودى بالهجرة لفلسطين ثم جاءت الأمم المتحدة لتقرر واقعا جديدا وغريبا وهو تقسيم فلسطين بين دولتين : أحدهما عربية والاخرى يهودية فى قرارها فى 29 نوفمبر عام 1947 عمت موجة من الغضب فى سائر أنحاء مصر والعالم العربى وفى مايوا 1948 وعد الشهيد الامام حسن البنا زعماء الدول العربية الذين أجتمعوا فى " عالية " بلبنان بإرسال 10 آلاف مجاهد كدفعة أولى لفلسطين وسارع الإخوان للتطوع فى كافة أنحاء الجمهورية ولما انسحب الانجليز من فلسطين فى مايو 1948 دخلت الجيوش العربية وكان من بينهم متطوعو الاخوان المسلمين والجيش المصرى .
ويقول الأستاذ عمر التلمسانى : " كان قرار دخول الاخوان المسلمين الحرب أمرا بديهيا ولا بد أن يكون لأن المسلم لا يرضى أن يحتل اليهود بلدا مسلما فلا بد أن يقاوموا هذا الاحتلال أما تدريب هذه الكتائب فكان يتم فى الجامعة فى معسكرات تحت إشراف الحكومة والقائمين على شئون الجامعة وكان السلاح من عند الحكومة نفسها وقد جمعوا فيما بينهم أموالا ليشتروا بها السلاح عن طريق التبرعات .. وقد أبلى الإخوان المسلمون بلا ء حسنا فى هذه المعارك أو فى حرب العصابات ضد العصابات الارهابية اليهودية والصورة الواضحة فى هذه المسألة أن الانجليز واليهود كانوا يقررون أنهم علىا ستعداد أن يقابلوا فرقا من الجيوش ولا يلتقوا بأحد من الاخوان المسلمين لأن الأخ كان إذا خرج لغزو كان يخرج وهو مستعد للموت ما كان يفكر فى العودة حيا ولقد كون الإخوان المسلمون خطورة كاملة لأن حرب العقائد أقوى وأكبر من أى حرب وأشد أثرا فى نفوس أصحاب العقائد لأنهم يعتقدون أنهم إذا قتلوا فإنهم شهداء وسيدخلون الجنة وفعلا من الاحداث الطيبة أن سبعة من الاخوان تسللوا ذات ليلة الى احدى المستوطنات اليهودية فى فلسطين وقبل الفجر بساعة تسلل أحدهم الىالجامع الذى كان فى تلك المستوطنة وأذن لصلاةالفجر من فوق مئذنة المسجد فظن سكان المستوطنة أن الاخوان المسلمين احتلوا المستوطنة ففروا هاربين ومعهم الجنود اليهود وسلم الاخوان القرية للجيش المصرى ولكن بعد أيام استردها اليهود من الجيش مرة أخرى وقد شهد قادة الجيش مثل النواوى وفؤاد صادق شهادات قيمة بالنسبة للإخوان ولتضحياتهم وشجاعتهم وقد استشهد فى معارك حرب فلسطين ما بين 30ـ40 من الاخوان " ..
ثم كانت المفاجأة التى أذهلت مجاهدى الإخوان وهى قبول الدول العربية للهدنة الأولى وأصدرت أوامرها للجيوش العربية بوقف القتال لمدة 4 أسابيع من 11 يونية 1948 وحاول الإخوان تقديم نصيحتهم للحكومة المصرية بعدم قبول الهدنة أو المماطلةفى تنفيذها لأن الجيوش العربية كانت تواصل انتصاراتها وقد أعلن الإخوان رفضهم وعدم قبولهم هذه الهدنة المخططة وذلك فى بيان للإمام الشهيد حسن البنا فى الثالث من يونية عام 1948 وبعد نهاية الهدنة واصلالجيش المصرى ومعه كتائب الاخوان تقدمهم داخل فلسطين ثم فرضت الهدنة الثانية ولكن اليهود ضربوا بالهدنة عرض الحائط وبدأت الموازين تختل لصالح عصابات الارهاب اليهودى وقد حقق الإخوان المسلمون بطولات خارقة لحماية الجيش عند انسحابه .. أماا لإنجليز فلم يكونوا راضين عن دخول الاخوانالمسلمين الحرب لأنهمأصحاب فكرة استيطان اليهود فى فلسطين ولم يوجه الإنجليز معارضة مباشرة للإخوان لأن الاخوان مصريون وللمصريين حكومة فكانت اتصالاتهم بالحكومة فلما ضاقوا بالأمر اجتمعوا فى فايد ( سفراء انجلترا وفرنساا وأمريكا ) وأرسلوا قرارا للنقراشى وقد أخذت صورة القرار بأسلوب معين وقدمت فى قضية سيارة الجيب وكان القرار يقضى بأن تقوم الحكومة بحل الاخوان المسلمين وإما أن تحتل الدول الثلاث الاسكندرية والقاهرة فكان عند النقراشى ما فى نفسه تجاه الإخوان فنفذ قرار حل الجماعة .
أما الكتائب التى كانت تحارب من الاخوان المسلمين فلم تكن كتائب بالمعنى الدقيق وإنما مجموعات فى حدود مائتين وكان يخفف العبء أن هؤلاء الأفراد لم يكونوا يتناولون أجرا على انتظامهم فىالعصابات ولم يكبدوا الجماعة أى مصاريف وكان الاخ المجاهد ينفق على نفسه فى ميادين القتال الى جانب أن الإعاشة من طعام وشراب كانت تقدمه الحكومة وقد تم السفر بموافقة الحكومة ثم عادت تتنكر لمواقفها حينما وقع الشقاق بين النقراشى والجماعة فاستغلوا الفرصة وقبض على عدد من الاخوان المجاهدين فى حرب فلسطين وهم فى أرض القتال وأرسلوا مكبلين بالحديد من فلسطين الى مصر .. "
وقد وصفت احدى الصحف الأمريكية الأستاذ حسن البنا قائلة : " إنه صار أقوى شخصية فى الشرق العربى وإن هذه الشخصية لن تهزم إلا أن تصير الأحداث أقوى منها " وكانت إشارة وتلميحا لتدبير مؤامرات ضد الامام الشهيد وجماعة الاخوان المسلمين ولقد أثارت بطولات الإخوان وشجاعتهم النادرة قلوب الحاقدين سواء فىا لسراى أم فى الوزارة السعدية وماعكسته هذه البطولات من انعكاسات شعبية عارمة مؤيدة للإخوان وانتشار ساحق لحركة الاخوان ومن هنا بدأت التربصات والمؤامرات التى تدبر فى الخفاء ولكن الله كشفها جميعا وهكذا كان الاخوان المسلمون على مستوى الأحداث واستيعاب المتغيرات السياسية علىالساحة المصرية والعربية وكانوا وراء التحرك المصرى فى حرب فلسطين ولكن مؤامرات الأنظمة العربية وضعفها إزاء طغيان المستعمر الذى كان يكبل المنطقة العربية أوقع فلسطين فريسة سهلة فى أفواه عصابات اليهود الوحشية والارهابية والتف النظام المصرى الخاضع للسراى والانجليز ليوجه ضرباته للحركة ذات الشعبية الواسعة ـ الاخوان المسلمين ..