الإسلام وهوية الأمة الناهضة
بقلم: د. توفيق الواعي
الإسلام هو هوية الأمة, وعصبها القوي, وقيمها العليا, وليس دينًا فقط, فهو إذن: عقيدة وهوية, علم وثقافة, آداب وأخلاق, رسالة ودعوة, نهضة وحضارة, قانون ودستور, حكومة ودولة, جهاد وجندية, هو سعادة في الحال وفلاح في المآل, نظام وحيد وصراط حميد، مَن أخذ به هُدِي إلى الفوزِ العظيمِ والدربِ المستقيم.
إذن فليس في الإسلام فصام بين القيم العليا والأعمال, بل تنبثق الأعمال عند المؤمن من قيمه وتنبع من عقيدته، وقد ربط الإسلام بين الإيمان والاستقامة في كثيرٍ من آياتِ القرآن الكريم وأحاديث رسوله العظيم، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾ (فصلت: من الآية 30)،﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107)﴾ (الكهف), ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)﴾ (طه), ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)﴾ (فاطر), وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للسائل عن تعاليم الإسلام وعقيدته "قل آمنت بالله ثم استقم" (أخرجه مسلم).
وقد قرر الباحثون والعلماء أنَّ العقيدة الإسلامية جاءت لتغير معتقد الإنسان, وتغير بذلك نظامه الاجتماعي حسب نظام تلك العقيدة وتعاليمها, وهذا النظام ينظر إلى جميع مصالح الحياة من وجهة نظر الأخلاق والقيم, لا من منطلق الأهواء بالشهوات والغرائز, وإن كان لا يغفلها أو يتناساها, ولكنه يهذبها ويجعلها للإنسان لا عليه, وفي سبيلِ سعادته لا تعاسته, وقد قدَّر الإسلام قيمة الإنسان بمقدار تمسكه بالقيم العليا والعمل على تحقيقها؛ لأنه لن يكون إنسانًا حقًا بغير ذلك, وإنَّ دعوة الفصل بين القيم والأعمال لهي من أعجب ما جاء به الغرب اليوم- وما أشبهها بقول العربي قديمًا:
خذ من كلامي ولا تنظر إلى عملي اجن الثمار وخل العود للنار
فما أشبه الليلة بالبارحة وكأن الزمن يُعيد نفسه, وإن الغرب الذي أقرَّ هذه النظرية, هو نفسه الذي يبطلها بعد أن ثبت فسادها, فتأتي أمريكا بلد الحرية الشخصية وتفصل 33 موظفًا من أعمالهم في وزارة خارجيتها لإصابتهم بالشذوذ الجنسي، وقيل في بيان سبب فصلهم إن هؤلاء لا يمكن ائتمانهم على أسرار الدولة (انظر جاهلية القرن العشرين صـ197 ط دار النور).
ثم عادت اليوم وانتكست فأعطت لهم الحق في أي شيء، وتأتي إنجلترا بعدها وتفصل وزيرًا بارزًا في حكومة تنشد المحافظة؛ لأنه كان يتخذ خليلةً له على زوجته, وتقرر أنه بهذا لا يؤتمن على مصلحة بلده, والقوانين أو النظم التي لا تربط أفعالها وأقوالها بقيم عليا ترجع إلى شرعة الغاب رويدًا وإن ادعت غير ذلك؛ فحين كان الجنود الإنجليز في الحرب الماضية يعتدي أحدهم على الآخر فيتلاكمان فمن انتصر فهو صاحب الحق, وعلى الآخر أن يعتذر بصرف النظر عن المسيء الحقيقي, وبهذا يكون قانون الغاب هو الذي احتكموا إليه, أما حين يشكو المصري إلى عمر أن ابن عمرو بن العاص ضرب ولده بغير وجه حق, فيقول عمر: "اضرب ابن الأكرمين" يكون قانون الإنسانية هو الذي يحكم وشرعة الحق والعدل هي التي تقرر وتتصرف.
عقيدة وحضارة
العقيدة الإسلامية هي قِوام حضارة ذات رسالة وُجدت أولاً لتبعث الركام الإنساني الزاهل, وتعيد له الحياة ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ (الأنعام: من الآية 122), وإحياء الإنسان قد يكون بشفاء عقله وإبراز إنسانيته, وقد يكون بإحياء المعاني الآدمية في تصرفاته وأعماله, والبعد عن الحيوانية والبهيمية والوحشية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾ (المائدة), ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: من الآية 58).
ثانيًا:
لتحرير الناس تحريرًا شاملاً من داخلهم وخارجهم, فمن داخلهم بتحريرهم من نزعاتهم وأهوائهم ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ (يوسف: من الآية 53), ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)﴾ (محمد), ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: من الآية 119), ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)﴾ (الأعراف), ومن خارجهم بدفع الظلم عنهم وفك أسرهم وعدم تعبيدهم إلا لله سبحانه وتعالى فما خرج أصحاب العقائد المسلمة ليؤسسوا إمبراطورية عربية أو قرشية ينعمون في ظلها ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها, ويخرجون الناس من حكم الفرس والروم إلى حكم العرب أو إلى حكم أنفسهم, وإنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده, كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد: "إنَّ الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده, ومن ضيق الدنيا إلى سعتها, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" (القتال في الإسلام – 25), "الناس لآدم وآدم من تراب, لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
وفي ظل هذه الرسالة وتلك العقيدة- استطاعت الأمم والشعوب المضطهدة والمغتصبة في القديم أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكم, وأن تساهم في صنع حضارة سعدت بها الدنيا عصورًا متطاولة, وآمادًا مديدة, ولم نعرف دورًا من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهى في جميع النواحي من هذا الدور الذي تعاونت فيه قوى الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل وسعادته.
واليوم هل يفيق الذاهلون والتائهون إلى الصواب ويراجعون رسالتهم في هذه الحياة أم يظلون هملاً تحكمهم صعاليك الأمم وشذاذ الآفاق وتذيقهم مرارة الذل والهوان, إنَّ هذه الأمة العظيمة لن تستكين لهذا الغثاء الذي يملك زمامها اليوم ولن تستسلم لهؤلاء الجرذان الذين يزحفون على الأمة في غفلة من الزمان, وغفوة من آسادها ونمورها:
ولكل نائبةٍ ألمت فرجة ولكل حال أقبلـت تحويلُ
لم أبكِ من زمنٍ زممت صروفه والدهر يعدل مرةً ويميلُ
ولعل أيام الهوان قليلةٌ فعلام يكثر عتبنا ويطولُ
المصدر
- مقال:الإسلام وهوية الأمة الناهضةإخوان أون لاين