رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة (5)
رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة** ( 12 )
المنهج الأصولي عند البنّا
هناك مشكلات تعترض طريق الأمة في تعاملها مع أصول الفقه يجب الإلتفات إليها ، كما يجب التعرف على بعض الضوابط ( الخاصة بهذا العلم ) التي أدى تركها إلى الإضرار بمسيرتها نحو النهوض والإخلال بالأرضية الصالحة للانطلاق من جديد ، وعلم أصول الفقه هو العلم الذي يهتم بكيفية الوصول إلى الحكم الشرعي ، وبحسب أقوال كثير من العلماء : فإن أول من دون هذا العلم هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله .
تعرّفُ الأصول بأنها مجموعة من القواعد والبحوث التي يُتوصل بها إلى استخراج الأحكام الشرعية العملية ( الأحكام الفقهية ) . وقد قسم العلماء مصادر الأصول إلى :
1. مصادر معتبرة وتشمل : القرآن ، والسنة ، ولإجماع ، والقياس .
2. مصادر أخرى للأصول مختلف عليها وهي : قول الصحابي ، وشرع من قبلنا ، وعمل أهل المدينة ، والعرف ، والاستصحاب ، والاستحسان ..الخ ).
ويمكن الحديث على أن هناك أصول غير معتبرة وتشمل : ما أضافه أهل التصوف مثل الكشف والرؤى ، والإلهام والخواطر .
وفي ما يلي نتعرف على محاولة الإمام البنا في إظهار رؤيته لهذه المسائل ، وما هو ترتيب هذه الأصول في منهجه ، لنتبين أنه رحمه الله لم يخرق إجماعا ، ولم يأتي بالغريب الشاذ ، بل استقى منهجه من الأصول التي سارت عليها الأمة في قرون الخيرية وما بعدها ... فيقول رحمه الله في :
المرجعية
والقرآن الكريم ، والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام ( أ ) ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف ( ب ) ويرجع فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات ' ( الأصل الثاني / رسالة التعاليم ) .
إن التأثر بالأشخاص ، وتبني مواقفهم وأفكارهم دون دليل من الحق يودي بالمرء أحيانا إلى تعصب مذموم ، وانحياز كل ذي رأي إلى رأيه ، فينفرط العقد ، وتتغير النيات ، وينشأ بذلك النزاع ، و ويخيم الفشل و تذهب الريح .وبالتالي وجب الحذر كل الحذر من اتباع الرجال بغير هدى من الله ، حتى لا يختلط أمر المرجعية على المسلمين ، وحتى لا ينهلوا إلا من معينهم الصافي ، ولا يقبلوا إلا ما كان موافقا لكتاب الله وسنة نبيه ،ولذلك نبّه على ذلك الإمام البنا في :
انتفاء العصمة عن أقوال الرجال
كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه ، و إلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالإتباع ، ولكننا لا نعرض للأشخاص..( فيما اختُلِفَ فيه )..بطعن أو تجريح ، ونكلهم إلى نياتهم ، وقد أفضوا إلى ما قدموا '( الأصل السادس/ رسالة التعاليم ) .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ' ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ) .
وفي حديث آخر ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا في الله ) .
وفي حديث آخر ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) .
واعتماداً على ما مضى من الأحاديث الشريفة ، فإن العبادة الصادقة لها أثر على قلب المؤمن ، وسبب في قذف الإلهامات والخواطر التي تنير له الطريق ، وتعينه على إبصار الحق ،و هذه الإلهامات ، والخواطر والفراسة ، أمور ثابتة ، وقد تسمى بالكرامات ، وهي حق وجب التسليم بها ، ولكنها لا تُتّخذ دليلاً من أدلة الأحكام ، فإن أدلة الأحكام هي القرآن والسنة وما تفرع عنهما ، وقد يُستأنس بهذه الأمور أي الإلهام ونحوه في معرفة الأشخاص والأحوال وما إلى ذلك ، وعلى هذا الفهم ارتكز الأمام حسن البنا في تقديره لهذه الأمور فقال في :
الأدلة الغير معتبرة للأحكام
وللإيمان الصادق والعبادة الصحيحة ، والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده ، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية ، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه' .( الأصل الثالث / رسالة التعاليم )
( الأصل أن المسلم يعرف ألأحكام الشرعية من أدلتها ، ولكن هذا غير متيسر في الواقع ، فليس كل مسلم بقادر على أن يصل إلى رتبة النظر والاجتهاد ، ولهذا وجب على القاصر عن هذه الرتبة أن يسأل أهل العلم عن حكم الله فيما يهمه من أمور و ما يجب عليه من أعمال .
قال تعالى : ( فاسْألوا أهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، وسؤال أهل الذكر هو أن يسأل المسلم عالماً ورعاً ثبتاً عما يهمه من مسائل ليعلم حكم الشرع فيها ، ويدخل في مفهوم سؤال أهل الذكر إتّباعه لإمام من أئمة الدين كأبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك ، بأن يأخذ باجتهاداتهم ، وأقوالهم في مسائل الفقه ، وأن لا يعتقد في أحدهم العصمة ، وإذا ظهر الصواب في مسألة عند غير إمامه اتبع الصواب في هذه المسألة ، أما إذا لم يتبين له ذلك استمر على متابعة إمامه في مذهبه واجتهاده ، فاتباع المذاهب إذاً سائغ وليس بواجب ، بمعنى أن المسلم له أن يتبع مذهباً ويأخذ بأقواله على مظنة أنه يوصله إلى حكم الشرع ، كما أن للمسلم أن لا يتبع مذهبا بعينه ، وإنما يسأل أي عالم يثق بعلمه وورعه عن المسألة التي تهمه و عن حكم الشرع فيها ، وعلى المسلم المقلد أن يجتهد في تعرُّف أدلة مذهبه إذا استطاع ذلك ، ثم عليه إذا آنس في نفسه القدرة أن يُكْمل نقصه العلمي ليصل إلى مرتبة النظر والاجتهاد ، أما إذا لم يبلغ هذه القدرة فلا حرج عليه أن يبقى في مرتبة التقليد لأحد الأئمة المشهود لهم بالعلم والصلاح على النحو الذي بيناه ، وفي جميع الأحوال على كل مسلم أن يعلم يقينا أن الذي فرضه الله عليه هو اتباع ما جاء به القرآن والسنة النبوية المطهرة .
فإذا ما بين أهل العلم أن الحكم الشرعي الصحيح هو ما نطق به الحديث الصحيح فعليه أن يأخذ بهذا الحديث الصحيح الذي يصرح به أهل العلم الثقات ، فإن أصحاب المذاهب كلهم قالوا ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) ، فالشريعة الإسلامية – أي القرآن والسنة – حجة على كل مذهب وليس أي مذهب حجة على الشريعة )
وحول هذه القضية يقول الإمام البنا ' و لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين ، ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته ، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صحّ عنده صَلاح من أرشده وكفايته . وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر ' ( الأصل السابع / رسالة التعاليم ) .
وبهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية عرض المنهج الأصولي عن الإمام البنا رحمه الله ، وسوف نتناول في الجزء القادم بعون الله ( المنهج الفقهي عند الإمام البنا ) .والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته . ...................................
• الفكرة مقتبسة من كتاب بعنوان ( حول أساسيات المشروع الإسلامي لنهضة الأمة ..قراءة في فكر الإمام الشهيد حسن البنا ...المركز الإسلامي للدراسات والبحوث...إعداد . أ .د .عبد الحميد الغزالي... دار التوزيع والنشر الإسلامية ) . • الدكتور عبد الكريم زيدان في الشرح العراقي للأصول العشرين .