الشاعرة "أمينة قطب" وتحمل الفراق
20-01-2004
توطئة
"أمينة قطب" أديبة وشاعرة مصرية معاصرة.. ولدت ونشأت في ظل أسرة علم وأدب وجهاد، وعاشت تجارب الجهاد والصبر والفقدان، وتجرَّعت الألم، وذاقت فجائع متتالية..
اعتُقلت عندما اعتقل جميع آل قطب، وصبرت على السجن والأذى.. استشهد أخوها العالم الربَّاني "سيد قطب"، ونال الشهادة بعض أقاربها، واستشهد زوجها المجاهد "كمال السنانيري"، فصبرت واحتسبت، ووظَّفت الأدب "قصةً وشعرًا" في خدمة الدين والجهاد والمعاني النبيلة في الحياة.
نشأتها وولادتها
ولدت الأديبة "أمينة قطب" في قرية (موشا) بمحافظة أسيوط في مصر، ونشأت في أسرة كريمة متدينة، وكان والدها الحاج "قطب إبراهيم" على حظٍّ من الوعي والمعرفة والتنوُّر، وكان متدينًا ووجيهًا في بلده، وكانت أمها امرأة فاضلة ومتدينة، وكان القراء يرتلون القرآن في دارهم طوال شهر رمضان، وبعد وفاة والدها الحاج "إبراهيم" غادرت أسرتها القرية إلى القاهرة واستقرَّت فيها.
اتصفت أمينة بالعديد من الصفات الطيبة، فهي امرأةٌ فاضلةٌ، داعيةٌ وأديبةٌ وشاعرةٌ، وكانت مهتمةً بالأدب، خاصةً في مجال كتابة القصة القصيرة، وقد نشرت عددًا منها في المجلات الأدبية التي كانت تَصدر في القاهرة، مثل مجلة (الأديب)، ومجلة (الآداب)، ومجلة (العالم العربي)، وذلك في سنوات 1947م إلى 1954م، وكتبت ست قصص ضمَّها كتاب (الأطياف الأربعة)، الذي اشتركت في كتابته مع إخوتها الشهيد "سيد" و"محمد" و"حميدة".
ولمَّا تعرَّضت الحركة الإسلامية في مصر للابتلاء، واقتيد آل قطب إلى السجون والمعتقلات.. اعتُقلت "أمينة" كغيرها، وظلَّت رهن الاعتقال في السجن الحربي فترةً من الزمن، وتزوَّجت أمينة من المجاهد "كمال السنانيري"، وما لبِثت أن فقدته شهيدًا، كما فقدت أخاها من قبل الأديب المجاهد "سيِّد قطب".
قصة زواجها من "السنانيري
إنَّ قصة زواج "أمينة" من المجاهد "السنانيري" لَتبعث على الإجلال والعَجَب معًا، فقد تمَّ الرباط بينهما حين كان "كمال السنانيري" داخل السجن..
تقول السيدة "أمينة": كان هذا الرباط قمةَ التحدي للحاكم الفرد الطاغية، الذي قرر أن يقضي على دعاة الإسلام بالقتل أو الإهلاك بقضاء الأعمار داخل السجون، لقد سجن المجاهد الشهيد "كمال السنانيري" في عام 1954م، وقُدِّم إلى محاكمةٍ صوريةٍ مع إخوانه؛ لأنهم يقولون ربنا الله، وحُكِم عليه بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة (25 عامًا) ثم يُعاد بعدها إلى المعتقل.
بعد أن قضى خمس سنوات من المدة- وفي أثناء ذهابه إلى مستشفى سجن (ليمان طرة) للعلاج- التقى هناك بأخيها الشهيد "سيد قطب"، وطلب منه يدَ أخته "أمينة"، وعرض الشهيد الأمر على أخته- أمر ذلك العريس الذي يقضي عقوبة المؤبد وباق منها عشرون سنة- فما كان من الأخت إلا أن وافقت بلا تردُّد، وأخذت عنوان الأخ وزارته في السجن وتمَّت الرؤية ثم عَقْد الزواج، وقويَت الرابطة بينها وبين من خطبها من وراء الأسوار، وكانت زيارتُها ورسائلُها له تقوِّي من أزرِه وأزْرِ إخوانه.
وعندما زارته ذات مرةٍ في سجن (قنا)، وكانت ترافقها شقيقته، حكت الشقيقة لأخيها ما تكبدتاه من عناءٍ حتى وصلتا إليه منذ أن ركِبتا القطار من القاهرة إلى (قنا) ثم إلى السجن، فقال لها: "لقد طال الأمد وأنا مُشفِقٌ عليكم من هذا العناء، ومثل ما قلت لك في بدء ارتباطنا قد أَخرج غدًا وقد أَمضي العشرين سنةً الباقية، وقد ينقضي الأجل وأنا هنا، فلكِ الآن مطلق الحرية في أن تتخذي ما ترينه صالحًا في أمر مستقبلك..
ولا أريد ولا أرتضي لنفسي أن أكونَ عقبةً في طريق سعادتك، إنهم يفاوضوننا في تأييد الطاغية؛ ثمنًا للإفراج عنا، ولن ينالوا مني- بإذن الله- ما يريدون حتى ولو مزقوني إرَبًا، فلكِ الخيار من الآن، واكتبي لي ما يستقرُّ رأيُك عليه، والله يوفقك لما فيه الخير".
وأرادت "أمينة" أن تُجيب خطيبها المجاهد، إلا أنَّ السجَّان أمرها بالانصراف، فقد انتهى وقت الزيارة، وعادت إلى البيت لتكتب له رسالةً كانت قصيدةً نظمتها له؛ لتعلن فيها أنها اختارت طريق الجهاد.. طريق الجنَّة.. وقالت له: "دعني أشاركك هذا الطريق"، وكان لهذه القصيدة أثرٌ كبيرٌ في نفس المجاهد.
وخرج "السنانيري" من السجن بعد أن أُفرِج عنه عام 1973م، وتمَّ الزواج، وعاشت "أمينة" معه أحلى سنوات العمر، وفي الرابع من سبتمبر سنة 1981م اختُطف منها مرةً أخرى ليودَع في السجن، ويبقى فيه إلى أن يلقى الله شهيدًا في السادس من نوفمبر من العام نفسه، وسُلِّمت جثتُه إلى ذويه، شريطة أن يوارَى الترابَ دونَ إقامة عزاء، وأذاعت السلطات أنَّه انتحر، ونشرت الصحف سبب استشهاده؛ فعزَت ذلك إلى إسرافِ سلطات التحقيق في تعذيبه.
رحلتها الشعرية
كانت أمينة في مطلع شبابها شغوفةً بقراءة الشعر وحِفظه، حتى إنَّها كانت تترك ما عليها من واجب دراسي وتسهر إلى وقت متأخر من الليل؛ لتحفظ قصيدةً أعجبتها، وكان الجوُّ من حولها يغذي ذلك الشغف بالشعر، فكان شقيقها الكبير العائل والموجِّه شاعرًا وكاتبًا، وكان الشقيق الثاني شاعرًا وكاتبًا أيضًا.
كتبت "أمينة" بعد قراءة جيدة للشعر عدَّة أبيات تعبِّر فيها عن عواطفها وأحاسيسها، لكن تلك الأبيات لم تكن شعرًا، وبعد عدَّة محاولات لم تصل في نظم الشعر إلى شيء، واتجهت إلى كتابة القصة القصيرة، لكن قراءتها للشعر ظلَّت مستمرةً، وقد شجَّعها شقيقُها الكبير "سيد" على المُضيِّ في هذا المجال، حيث كان ينقد لها ما تكتب، ويبصرها بمسالك الدرب الذي رأى أنها تملك السيرَ فيه، ووجَّهها ووجَّه باقي إخوته- وهو بين جدران السجن- أن تأخذ كتابتهم الطابع الإيماني، وأن تكون تصوراتُهم وأحاسيسُهم ومشاعرُهم بعيدةً كلها عن تصورات الجاهلية واتجاهاتها في التعبير، في النثر والشعر، ومن ثمَّ كانت مجموعة أقاصيصها الثانية (في الطريق) محاولةً أوليةً لإيجاد قصة نظيفة تأخذ طابعًا إنسانيًا.
وفي تلك الأثناء كان قد تمَّ الرباط بينها وبين المجاهد "كمال السنانيري"، وهو داخل السجن، وكانت التجربة عميقة مثرية للأحاسيس والخيال والمشاعر، وكانت كل زيارة تقوم بها "أمينة" للسجين المجاهد الصلب تثري خيالها ومشاعرها بألوان الأحاسيس، فتضمنها قصةً أو رسالةً من رسائلها إليه، أو تضع الأقاصيص في مخابئها حتى يأذن الله بالخروج.
وكتبت "أمينة" مجموعتين قصصيتين هما (تيار الحياة) و(في الطريق)، ولم تتجه إلى كتابة الشعر، إلا بعد أن ارتبطت بالمجاهد "السنانيري" وهو في السجن، إثر إحدى الزيارات التي كانت قد تأثرت فيها من كلام زوجها لها بأنَّ لها الخيار في اتخاذها موقفًا تراه مناسبًا وتتجه لمستقبلها؛ لاحتمال أن يطول مكثه في السجن، والذي آلمها لقصر مدة الزيارة، فبدأت بكتابة رسالة إليه تعتب فيها على ذلك الحديث وذلك التفكير في أمر فك ارتباطهما، وهنا تقول السيدة "أمينة": "وجدت كلماتي تخرج منظومةً على غير تدبير مني".
وكانت "أمينة" قد كتبت عدة أبيات أعجب بها زوجهًا إعجابًا شديدًا، وربما كان لذلك تأثير في معاودة نظمها الشعر، لا سيما أنَّ المناسبة تستدعي ذلك، ومنذ تأثرها بكلام زوجها أخذت "أمينة" تنظم الشعر وتجيده.
وجاءت سنة 65 و 1966م لتحمل المُصاب الجلَل، وكان فيها من الأهوال ما يعجز الشعر والنثر عن وصفه أو التعبير عنه، كانت تجربةً عنيفةً هائلةً، صمتت فيها كل أوتار النفس، ولم تَعُد تملك الحديث.. وخرج شريك حياتها من السجن، ثم اعتُقل مرةً أخرى، ثم كان استشهادُه الذي عُدَّ انتصارًا له على الباطل، ومنارًا للسالكين طريق الحق.
أما الزوجة الصابرة "أمينة" فكان هذا الحادث شديد الوقع عليها، عميق الأثر في القلب والشعور، فكانت قصائدها صورةً من صور التعبير لهذا الابتلاء، ولونًا من ألوان المعاناة لهذا الفراق، جاءت لتبرز قضيةً خالدةً على مدى الزمان، قضية الإيمان في مقابل الضلال، قضية العباد الذين يفردون الله- سبحانه- بالطاعة والعبادة، ويأبى عليهم إيمانُهم أن يحنوا رؤوسهم لغير الله.
جاءت هذه القصائد لتحمل في ثناياها تجربةَ نفسٍ ومعاناةَ قلبٍ، قُدِّر لهما أن يخوضا- بعمق- معركة الصدام الهائل بين الحق والباطل في عصرنا الحاضر، تلك المعركة الأزلية بين عباد الرحمن وعبدة الشيطان، تقول "أمينة": "ففي معركة من تلك المعارك فقد هذا القلب الشقيق الراعي وبعض الأعزاء من شباب الأسرة المقربين، ثم كان نصيبي فيها مضاعَفًا، والحمد لله، حين فقدت فيها أيضًا شريك الحياة".
تقول "أمينة": "لم تكن هذه الدموع قط دموع حسرة أو ندم، فحاشا لله أن تندم نفس مؤمنة على ما قدَّمت، أو على ما قدَّم الأحباب من عمل نال به صاحبه- بإذن الله- الكرامة بالشهادة في دين الله، ولكنه الفراق الطويل ومعاناة الخطو المفرد بقية الرحلة المكتوبة".
شعرها يعكس آلامها
"أمينة" شاعرة إسلامية، عانت الألم الذي يواجه دعاة الإسلام، وكان في أسرتها المعذَّب والسجين والشهيد، فجاء شعرها صورة لآلامها، في ديوانها (رسائل إلى شهيد) صرخة استنهاض في وجه من تسميهم بـ(الخانغين) أو (القطيع)، أولئك الذين رضوا بالذلة والهوان.. وفيه مجموعة من القصائد جاءت كأنها رسائل وجهتها إلى الزوج الشهيد، وإلى السائرين على درب الحق رغم أشواك الطريق..
ففي قصيدة (في دجى الحادثات) تصف لقاء كيانين ألَّفت بينهما العقيدة ووحَّد بينهما الإحساس المسئول بثقل الرسالة وجسامتها ليتحركا في صبر الأُباة المجاهدين صوبَ الهدف الذي أملاه الواجب الشرعي، تقول:
منذ كان اللقاء
- منذ ذاك الزمان
لم يكن للفراق
- في رؤانا مكان
قد قطعنا العهود
- نبتغي المستعان
أن نكون الجنود
- وحُماة المكان
من شرور الفجور
- أو عميل جبان
وفي قصيدة (من المنفى) كتبت "أمينة" عن الزوج الحبيب الشهيد، وتغنَّت بفرحة اللقاء، قائلة:
شاقَني صوتك الحبيبُ على الها
- تف يدعو ألاَّ يطول غـــــيابي
شاقني أن تقول لي: طال شوقي
- قد غدا البيتُ موحشًا كاليباب
شاقني ذلك النداء حنونًا
- فلتعودي لعالم الأحباب
شاقني أن تقـول: حُبك بعدًا
- لا تعيـدي بواعث الأسـباب
وشعرَت بغربة الحياة بعد استشهاد زوجها، وقد جمعت غربتها بين فقدها لزوجها وبين غربة الحياة حولها؛ لما فيها من مظاهر القهر والبطش والبُعد عن دين الله، فهي تُصور غربتها عن زوجها فتقول:
كيف الحياة إذن وكيف أعيشها
- في عـالم خاوٍ وجدّ حـزين
في القفر أحيا، والحياة مــريرة
- بعد الفراق، وفي هجير شجوني
ولما كان زوجها قد رحل فداءً لدينه ومبادئه، نراها تقول:
وطيوف الذكرى تروح وتغدو
- في حـــريق للقلب يدمي جفوني
أتعزى بالذكـــرى أنَّ "كمالاً"
- قد شرى بالحياة مجــــدًا لديني
ولنستمع إليها في مناجاتها لزوجها بعد استشهاده، وهي تقول:
أنا في العذاب هـنا وأنت بعالم
- فيه الجزاء بجنَّة الديَّان
مارست من أجل الوصول عبادة
- فيها عجائب طاقة الإنسان
كانت جهادًا في الطريق لدعوة
- هي للأنام هدىً وخيرُ أمان
إلى أن تقول:
هلاَّ دعـوت الله لي كي ألتقي
- بركابكم في جـنَّة الرضوان
هلاَّ دعوتم في سماء خلودكم عند المليك القـادر الرحمن
أن يجعل الهمَّ الثقيل براءةً
- لي في الحساب؛ فقد بقيت أعاني
ثم تسأل الله تعالى الثبات والمغفرة، وأن لا يطول عيشها في دنيا الفناء، فهناك نعيم الله الأبقى، وهناك العيش السعيد مع الأتقياء والمجاهدين، فتقول:
فاغفر الأمنيات يا رب عفوًا
- وأعنِّي دومًا ببرد العزاء
لا تدَعني للحزن يطمس قلبي
- لا تدَعني أعيش دنيا الفناء
واجعل الحبَّ للبقـاء المرجَّى
- في نعيمٍ بعالم الأتقــياء
برضــاء أناله مـنك يا رب
- وأحيا في فيضـه بالسماء
المصدر
- مقال: الشاعرة "أمينة قطب" وتحمل الفراق موقع اخوان اون لاين