"العريان": وداعًا أبا الطيب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
العريان": وداعًا أبا الطيب
14-01-2004

عندما أبلغتني "بسمة الدجاني"- ابنة العزيز الراحل د. "أحمد الدجاني"- بخبر وفاته أحسست برعشةٍ تهزُّ كياني، في هذا الوقت يفارقنا "أبو الطيب"؟ واسترجعت قائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهل كان بإمكانه أن يتأخر عن الأجل المحتوم؟!

لقد أحب لقاء الله، واستعد له بجهادٍ طويل في سبيل نصرة دينه، وحضارة الإسلام، وقضية فلسطين؛ قضية المستضعفين في الأرض، جاهد على كل الجبهات، ولم يدخر وُسعًا في السفر والتنقل والترحال، مدافعًا عن قضية شعب انتُزع من أرضه، وأرض مقدسة دنستها أدران الاحتلال الاستيطاني البغيض، لم ييأس ولم يتوانَ، بل كان دائمًا متفائلاً بنصر قريب، مستبشرًا بأمواج الشباب الذين يرفعون اللواء- لواء الحق- رغم تساقط الكثيرين بسبب تلاطم الأحداث.

رغم مرضه الأخير- الذي طال أكثر من شهرين- مضى أصدقاؤه ومحبوه وتلاميذه ينتظرون عودته إلى ساحات العمل من جديد؛ لينقل إليهم تفاؤله وآماله، ويثري جلساتهم بآرائه وتحليلاته، وينير طريقهم بفهمه وفكره الثاقب، إلا أنه فاجأنا جميعًا، وانتقل إلى دار البقاء، إلى جنة الخلد بإذن الله.

في آخر محادثة مع أهل بيته- قبيل وفاته بساعات- قالت زوجته الوفية: "إن الحالة سيئة، ولكن النَفَس اليوم أفضل من أمس"، ولعلها كانت صحوة الموت.

إذا ذُكِر "أحمد صدقي الدجاني"، أو "أبو الطيب"، تذكرنا على الدوام دماثة الخلق، وبسمة الوجه، وطلاقة اللسان، وبحَّة الصوت، وموسوعية الفكر، وتوازُن الرؤية، ونور العقل.

عاش "أبو الطيب" عمره لقضية أهله ووطنه (فلسطين)، إلا أنه أدرك أن تحرير فلسطين ومقدساتها ليس مسئولية العرب والمسلمين، بل حق يجب أن يتداعى له كل إنسان يدرك معنى العدل وحقوق الإنسان.

لذلك شارك في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وشغل مواقع تنفيذية عديدة في مجالسها الوطنية ولجنتها التنفيذية، حتى ترأَّس المجلس الأعلى للتربية والعلوم والثقافة بها، وكان خلافه الشهير، الذي أعقبه فراقٌ للمناصب وتمسكٌ بالثوابت، هو الخلاف مع "أبو عمار" على اتفاق (أوسلو)، الذي أدخل المنظمة والفلسطينيين في سراديب ودهاليز لا يدري أحد كيف الخروج منها الآن!!

وفي الشتات الطويل- الذي أعقب نكبة الحرب الكبرى في 1948م- غادر الشاب اليافع (يافا) مسقط الرأس، ومهوى الفؤاد، التي كان يذكرنا في لقاءاتنا أو أسفارنا بدروبها وبيوتها، وكأنه يستظهرها ويذاكرها معنا، تنقل في أكثر من بلد عربي: سورية، ولبنان، ومصر، وليبيا، والجزائر، وغيرها.. وعاش في هذه البلاد لسنوات أو شهور، حتى استقر به المقام في مصر، يحمل جوازًا خاصًّا لا يشعر فيها بغربة أو وحشة، تحتضنه قلوب وعيون محبيه وعارفي قدره.

ولا أنسى يوم عودتنا من مؤتمر بلبنان، وإذا بضابط الجوازات يحتجز جواز سفره مع جوازات الذين تعودوا على ذلك منا، وكانت صدمته شديدة، لعلها كانت المرة الأولى، واحمرَّ وجهه، وضاقت نفسه وهو مريض برئته، واكفهرَّت ملامحه حتى مرت ساعات، وكأنه يقول: هل ضاقت مصر بي؟ ولم يخفف عنه "أننا جميعًا في الهمِّ سواء"، فنحن في النهاية أبناء البلاد، وكنا نخفف عنه بضحكات ممزوجة بالاستخفاف من الإجراءات العقيمة كما تعودنا، قائلين له: "أصبحت الآن تحمل الجنسية المصرية بحق".

عرف "أبو الطيب" في الشتات أهمية الوحدة العربية، وحمل الهمَّ القومي العربي بجانب الهمِّ الفلطسيني الخاص، وأدرك خطورة أن ينفرد فريق من الفلسطينيين بالتصرف في قضايا الشعب الفلسطيني، بعيدًا عن الإدراك العروبي القومي؛ لذلك شارك في أنشطة قومية عديدة، كان من بينها اشتراكه في تأسيس المؤتمر القومي العربي، والعمل كباحث في إطار (مركز دراسات الوحدة العربية).

درس "أبو الطيب" التاريخ، وحصل فيه على درجة (الدكتوراة) في جامعة القاهرة، وتبحَّر في كتب التراث، وعشق اللغة العربية التي حرص كل الحرص على التحدث بها دائمًا بطلاقة وسلاسة وسهولة ويسر؛ لذلك كان عضوًا بمجمع اللغة العربية، وكان مدافعًا قويًّا عن الحضارة العربية الإسلامية، وكان أحد أهم المخططين لندوة (الحوار القومي الديني بالقاهرة) عام 1989م، كما شارك في اللجنة التحضيرية للمؤتمر القومي الإسلامي، الذي تأسس بالفعل عام 1994م، وشغل د. "الدجاني" منصب أول منسق عام له؛ وبذلك حوَّل الفكرة من حلم صعب المنال إلى واقع ملموس استمر حتى الآن، وترسخ عبر ثلاث دورات.

وساهم في تقريب وجهات النظر بين تيارين رئيسين في الأمة، هما: التيار الإسلامي ذو الشعبية العريضة، والتيار القومي بتشكيلاته المختلفة، وساهم بجهد فكري متواصل ونشاط ودأب ولقاءات متواصلة على ساحات الشرق والغرب في التقريب بين وجهات النظر، وإدارة حوار فكري يرفع التناقض بين الإسلام والعروبة، ويعيد اللحمة إلى القوى الحية في الأمة؛ كي تستطيع أن تحلق بجناحين، وتتجه إلى قضاياها الرئيسية، بدلاً من الانشغال في خلافات أراد البعض- من سماسرة الغزو الفكري- زرعها في جسد الأمة بربط العروبة بتيارات فكرية دخيلة عليها؛ سواء كانت عنصرية، أو شوفينية، أو ماركسية، وكذلك بغبن العرب حقهم الذي كرمهم به الإسلام كحملة لرسالته، وناشرين لدعوته، وحفظةٍ لكتابه العزيز.

اشتركت مع "أبي الطيب" في ندَوات عديدة ولقاءات متكررة في مصر ولبنان والمغرب وإيران، وهولندا، كما سعدتُ بمشاركته في حوارات تلفازية كذلك، كان قويَّ الحجة، سريعَ البديهة، واضحَ الرأيَ، ثاقبَ الفكر.

في هولندا بندوة عن (الإحياء الإسلامي والغرب.. حوار أم مواجهة؟؟) عام 1994م، وقبيل القبض عليَّ بأيام، كان مدافعًا قويًّا بلغة إنجليزية سليمة عن الحضارة العربية الإسلامية، مواجهًا لحجج المستشرقين أو المتحاملين على الإسلام وعقيدته وحضارته.

كتب أكثر من عشرين مؤلفًا في القضية الفلسطينية والعربية، والحضارة الإسلامية، ودبج عشرات المقالات في الصحف والمجلات العربية مدافعًا عن الحقوق الفلسطينية، متمسكًا بالبوصلة السليمة، شارحًا سماحة الإسلام وأحقية أهله وأمته بموقع متميز على الساحة العالمية، داعيًا الأمة الإسلامية للتجدد الحضاري حتى تضيف إلى العالم، كما أضافت إليه من قبل، بل كما قادتْه لقرون طويلة، وكان يعتمد على التاريخ لبناء المستقبل، فكان أكثرَ ما يشغله في سنواته الأخيرة (علم المستقبليات)؛ ولذلك دعا إلى تجديد الفكر، بل جعله عنوانًا لأحد كتبه (تجديد الفكر استجابة لتحديات العصر)، الذي نشرته دار المستقبل العربي عام 1996م؛ يقول في مقدمته:

"تجديد الفكر والنظر في قضايا الإنسان والمجتمع والحضارة في عصرنا، ودور الدين في معالجة مشكلات عالمنا، محاور أساسية في هذا الكتاب.. والعيش في عالم الأفكار يشعرنا بأهمية تجديد الفكر من خلال تفاعل الإنسان مع المكان والزمان، وهذا ما دعاني إلى أن أُولِي موضوع التجديد عنايتي، وأعالجه على الصعيدين النظري والعملي، فأكتب نظرات في علم تاريخ الأفكار، وفي علم دراسة المستقبل، وأطبق هذه النظرات في بحوث تطبيقية، وقد حرصت على أن أطرح ما توصلت إليه على محافل علمية، كما حرصت على الاستجابة وتناول موضوعات بعينها اقترحتها، تتصل بالحياة من حولنا في أبعادها المحلية والإقليمية والدولية".

هذا النص يبين لنا كيف كان "أبو الطيب" مهمومًا بالمستقبل لا الأفكار، في إطار رؤية إسلامية لا تكتفي بالتنظير، بل تنتقل إلى ميدان العمل؛ لذلك كان من كتبه (عروبة وإسلام ومعاصرة)، (فكر وفعل)، (وحدة التنوع وحضارة عربية إسلامية في عالم مترابط)، (عن المستقبل برؤية مؤمنة مسلمة)، و(عمران لا طغيان).

كان الفقيد- يرحمه الله- مشاركًا في أعمال محافل عدة، ويشارك في ندواتها ومؤتمراتها؛ عضوًا مراسلاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومنتدى الفكر بـ(عمان)، والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، والأكاديمية الملكية المغربية، وغيرها كثير..

رحم الله "أبا الطيب"، فسوف نفتقده طويلاً في ليل العرب الذي طال، كان يحمل القناديل، وينير الطريق، ولكننا على ثقة أن الأفكار لا تموت، وأن تراث "أبي الطيب" سيحمله تلاميذه وأصدقاؤه، ومحبُّوه، وأنَّ هذه الأمة حيةٌ لن تموت، وأنها وَلاَّدة، خاصةً عند المحن، وبالذات في شعب فلسطين.

خالص العزاء لأسرة الفقيد، ولكل عارفي فضلِه، وللأمة العربية والإسلامية، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا: "إن العين لتدمع، وإن الفؤاد ليحزَن، وإنا على فراقك يا "أبا الطيب" لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه لراجعون".


  • نقلاً عن مجلة (المجتمع)- العدد (1584)- (18 ذو القعدة 1424هـ= 10 يناير 2004م).

المصدر