أ.د. عبد الرحمن البر يكتب: حكم التظاهر بين السلمية والبلطجة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أ.د. عبد الرحمن البر يكتب: حكم التظاهر بين السلمية والبلطجة


بتاريخ : الأحد 23 يونيو 2013

مقدمة

تعيش البلاد هذه الأيام حالة من الحراك السياسى الصاخب والمتعاظم مع انفتاح أبواب الحرية وتعدد الرؤى والاجتهادات السياسية والتباينات الفكرية، وقد صاحب ذلك دعوات للتظاهر تأييدا للنظام، ودعوات للتظاهر لإسقاط النظام الحاكم، وإسقاط الرئيس المنتخب انتخابا حرا، وكل ذلك أنتج جدلا كبيرا.

وفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة أرى من الواجب على أهل العلم أن يبينوها ولا يكتموا شيئا منها؛ أداء لأمانة العلم ووفاء بالميثاق الذى أخذه الله على أهل العلم أن يبينوا ولا يكتموا، وقد كنت بفضل الله من الحريصين دائما على بيان ما أرى أنه حق وصواب، حتى حين كان هذا البيان ينتهى بالتغييب فى غيابات السجون، وقد تحملت ذلك صابرا راضيا؛ أملا فى أن أرضى ربى وأخدم دينى وأمتى، وأسأل الله أن يبقينى قوالا بالحق قواما بالقسط مخلصا لله فيما أقدمه لدينى ووطنى.

من هنا رأيت من المهم أن أجيب عن كثير من التساؤلات التى تجيش بها الصدور فى ظل هذا الجدل المحتدم والمتصاعد، وأسأل الله أن يلهمنى الصواب وأن يثبتنى على الحق؛ حتى ألقاه وهو عنى راض.

من هذه التساؤلات: ما حكم المعارضة للحاكم وولى الأمر والتظاهر السلمى ضده؟ متى يكون مشروعا، ومتى يكون غير مشروع؟

وما الحكم إذا صاحب هذا التظاهر تهديد بالاعتداء على الأشخاص أو الممتلكات العامة والخاصة؟

وهل يدخل المعارضون السياسيون فى حكم البغاة؟ وما حكم الاستعانة بالبلطجية فى هذه المظاهرات وغيرها لإرهاب الخصوم؟

وهل البلطجية المشاركون فى الاعتداء على الناس تنطبق عليهم أحكام الحرابة؟ وما حكم مواجهة هؤلاء البلطجية؟

وللإجابة عن كل ذلك أقول وبالله التوفيق:

المعارضة والتظاهر السلمى

من حق الأمة بل من واجبها أن تراقب حكامها، وأن تعارض ما تراه انحرافا منهم عن الصواب أو ميلا منهم إلى الفساد.

وذلك مما يدفع بالنظام الحاكم إلى ضبط وجودة الأداء وتقديم أفضل ما يمكن فى طريقة إدارة الأمور، ثم إن هذه المعارضة تسهم فى تقديم رؤى وأطروحات مختلفة تسهم بتنوعها فى إثراء الأفكار وتساعد الحاكم فى تصحيح الخطأ والتغيير إلى الأفضل.

وقد انتظمت إرادة الأمم فى تكوين أحزاب وحركات سياسية تتنافس فى تقديم البرامج لخدمة الشعوب، ولها كامل الحق فى التعبير عن رأيها وتقديم نفسها وأفكارها للأمة، فى إطار الضوابط الدستورية والقانونية التى ارتضتها الشعوب، والتظاهر السلمى هو لون من ألوان التعبير المشروع عن الرأى وباب من أبواب النصيحة التى أمر بها الإسلام، وجعلها سببا من أسباب خيرية هذه الأمة.

وليس لأحد كائنا من كان أن يمنع أحدا من التعبير عن رأيه، طالما لم يخرج بسيفه وسلاحه على الناس، ولم يقطع عليهم طريقهم، ولم يعتد على الأنفس أو الأموال أو الممتلكات العامة أو الخاصة، وهو أكثر مشروعية إذا تعرض صاحبه للظلم ولم يجد وسيلة أخرى للتعبير عن مظلمته، قال تعالى ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 148].

وقد أوجب الإسلام نصيحة الحاكم والمحكوم، واعتبر ذلك صلب الدين، ففى صحيح مسلم عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِى أن النَّبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ».

ولم يزل ذلك دأْبَ كثير من الصحابة والتابعين وأهل العلم على مرور الأيام وتعاقب الدول، إذ مارس كثير منهم هذا الواجب، فنصحوا الولاة والأمراء، وجهروا أمامهم بالحق، وعارضوهم فى كثير مما أبرموا.

ولذلك فلا بأس من معارضة أولى الأمر، بل يجب ذلك إذا أخطأوا، ويجب تنبيههم ونصحهم والإنكار عليهم فيما خالفوا فيه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ضيعوا فيه مصلحة الأمة، أو قصروا فى حماية الأوطان، أو بددوا ثروات الأمة، أو أساءوا للناس، أو غير ذلك من المنكرات التى قد تدفعهم إليها الحمية لآرائهم والتعصب لوجهات نظرهم مع ثبوت خطئها وفسادها، والقيام بهذا الواجب هو لون من ألوان التعاون على البر والتقوى.

وينبغى أن يتم ذلك من غير قطع للطرقات، أو تعطيل لمصالح الخلق، أو إجبار للناس على المشاركة ونحو ذلك مما يدخل فى باب الإكراه والإضرار بالناس، وقد منع الإسلام من إلقاء الأذى على طريق الناس، واعتبر ذلك سببا موجبا للعنة فاعله، فقد أخرج مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِى يَتَخَلَّى فِى طَرِيقِ النَّاسِ، أو فِى ظِلِّهِمْ»، وأخرج الطبرانى فى الكبير عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ أن النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِى طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ»، وإذا كان ذلك فيمن يؤذى الناس بإلقاء الأذى فى الطريق، فكيف بالذى يقطع على الناس طريقهم ويمنعهم من المرور إلى أعمالهم! لا شك أنه أكثر استحقاقا للعنة.

وينبغى أن يتم توجيه النصيحة والتظاهر ضد الحكام أو الأنظمة من غير إهانة لهم، أو تطاول عليهم، أو خروج بالسيف عليهم، أو احتشاد لقتالهم، فإن احتمال العدل مع استقرار أمور الأمة ممكن، بخلاف الحال إذا تقاتلت الأمة وخرج بعضها على بعض بالسيف، فالفتنة عمياء دهماء، لا يفرق الناس فيها بين الحق والباطل، والله أعلم.

والأفضل أن يكون ذلك سرًّا إذا كان الوصول إلى الحاكم ممكنا، وكان نصحه متيسرا، وكان قبوله للنصيحة مرجوًّا، لما رواه أحمد عن ‏‏هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ،‏ ‏عن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَرَادَ أن يَنْصَح لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِى عَلَيْهِ لَهُ». وذلك ما فعله أسامة بن زيد مع عثمان بن عفان رضى الله عنهم جميعا.

ولا مانع من إعلان هذه النصيحة متى كان الخطأ شائعا والضرر واقعا على العامة، بل أوجب الإسلام إعلان النصيحة والإنكار على الظالم إذا تعسف وتجاوز حدود الشرع فى تأديب المخطئين، ففى صحيح مسلم: عَنْ هِشَامٍ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِى الشَّمْسِ وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ (يعنى يعذبون بذلك) فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِى الْخَرَاجِ (يعنى تأخروا فى دفعه أو ماطلوا فى ذلك). فَقَالَ: أَمَا إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِى الدُّنْيَا». على أن هشاما لم يكتف بهذا الإنكار العلنى، بل ذهب إلى الأمير الذى فعل ذلك فنصحه، فانتصح ورجع عن فعله، ففى رواية عند مسلم أيضا: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا.

وعلى هذا فإن ما يفعله بعض الوطنيين المخلصين من مختلف طبقات الشعب وقواه وأحزابه السياسية وفئاته وأطيافه المختلفة من التظاهر السلمى المطالب بما يراه حقا، بأسلوب سلمى حضارى راق أقرته المواثيق الدولية والدساتير المحلية؛ لهو من صميم ما تدعو إليه شريعة الإسلام التى جاءت بالعدل والرحمة ورعاية مصالح الأمة، وأوجبت التعاون على البر والتقوى، وحددت خيرية الأمة فى قيامها بواجب النصيحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، متى تم ذلك بضوابطه وشرائطه الشرعية المذكورة.

التهديد والترويع للآمنين

إذا اقترن التظاهر بشىء من العنف أو التهديد باستعماله فهو حرام وإثم مبين، لا تجوز المشاركة فيه بحال من الأحوال، أيا كان السبب الحامل على التظاهر، فقد أخرج الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ».

وأخرج الترمذى بسند حسن عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إلى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِى جَوْفِ رَحْلِهِ» قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إلى البَيْتِ أو إلى الكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ».

ونهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يفعل المسلم شيئا يثير الفزع فى نفس أخيه ولو على سبيل المزاح، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إلى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أن يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».

وتبرأ النبى صلى الله عليه وسلم ممن حمل السلاح على المسلمين، فقد أخرج الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا»، ونهى أن يتناول الإنسانُ السيف بيده ويمشى به بين الناس من غير أن يكون محفوظا فى غِمده، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أن يُتَعَاطَى السَّيْفُ مَسْلُولًا».

ونهى النبى صلى الله عليه وسلم عن مجرد الإشارة بالسلاح إلى مسلم، فقد أخرج الشيخان عن أَبى هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إلى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِى أَحَدُكُمْ، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِى يَدِهِ، فَيَقَعُ فِى حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ». وأخرج الشيخان عن أَبى هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَشَارَ إلى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».

بل أمر صلى الله عليه وسلم من يحمل سهاما ويمشى بها فى الناس أن يضع يده على أطرافها؛ حتى لا تؤذى مسلما أو تخدشه على سبيل الخطأ، فقد أخرج الشيخان عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قال: مَرَّ رَجُلٌ فِى المَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا» يعنى: ضع يدك على نصالها (جمع نصل وهو ما يجرح منها) والغرض حتى لا يخدش بها أحدا دون قصد. كما أخرج الشيخان عَنْ أَبِى مُوسَى، عَنِ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِى مَسْجِدِنَا، أو فِى سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا، - أو قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ -؛ أن يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا شَىْءٌ».

كل ذلك يبين حرمة التهديد والإيذاء للمسلمين والترويع للآمنين، ولا يمكن بحال من الأحوال تسمية ذلك تظاهرا سلميا أو مشروعا، بل هو جريمة وإثم كبير يقع فيه من يمارسه أو يحرض عليه، ومن واجب الأمة أن تتصدى لمنع ذلك، وعلى أجهزة الأمن والقضاء أن يكون لها موقف قوى لمنع تهديد الناس أو تركهم يعيشون تحت سيف التهديد بالعنف، وكل مُقَصِّر فى ذلك آثمٌ شرعا.

حمل السلاح وسفك الدماء

إذا تجاوز التظاهر حدود التعبير السلمى عن الرأى إلى تهديد حياة الناس ورفع السلاح -أيا كان نوعه- فى وجوه الناس، فتلك جريمة تبرأ النبى صلى الله عليه وسلم ممن يفعلها حين قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا»، ومن حرَّض على حمله فهو آيس من رحمة الله تعالى، فقد أخرج أبو يعلى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِى اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ، مَكْتُوبٌ عَلَى جَبْهَتِهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ»، فلينتبه لهذا أولئك الذين يحرضون على إراقة الدماء فى الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعى.

وقد كان تحريم سفك الدماء من آخر ما نبَّه إليه النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث المتفق عليه فى خطبة النحر فى حجة الوداع، حين قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، إلى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ. أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».

كيف لا وقد توعد الله قاتل المؤمن بالخزى واللعنة والغضب والعذاب العظيم والخلود فى نار جهنم ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، وأخرج النسائى بسند صحيح عن مُعَاوِيَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أن يَغْفِرَهُ، إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أو الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا»، وأخرج البخارى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إلى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِى الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِى الإسلام سُنَّةَ الجَاهليَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِقَ دَمَهُ»، وأخرج البخارى عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِى فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» أى لا يزال منشرح الصدر مطمئن النفس فى سعة من رحمة الله عز وجل طالما أنه لم يقتل نفسا بغير حق، وأخرج البخارى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِى لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ».

ولحرمة الدماء كانت أول ما يقضى الله فيه بين الخلق، فقد أخرج الشيخان عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى الدِّمَاءِ»، وكان هدم الدنيا وزوالها أهون على الله من قتل مسلم بغير حق، فقد أخرج النسائى بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا». واعتبر القرآن العظيم ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.

أما الذين يقتلون الناس من أجل نصرة باطل بغير حق، سواء قبضوا أجرا على ذلك أو لم يقبضوا؛ فلهم سوء الحساب بين يدى الله، فقد أخرج النسائى بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَجِيءُ الرَّجُلُ (يعنى المقتول) آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ (القاتل) فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، هَذَا قَتَلَنِى، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِى. وَيَجِىءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: إن هَذَا قَتَلَنِى، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ: لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ، فَيَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلَانٍ فَيَبُوءُ بِإِثْمِهِ».

إنه مشهد مهيب يوم الحساب، مشهد الذى قتلَ نفسًا بغيرِ حقٍّ، لتكون العزةُ أو الملكُ لفلانٍ أو فلانٍ من ملِكٍ أو سلطانٍ أو رئيسِ قبيلةٍ أو شيخِ عشيرةٍ أو زعيم عصابة أو فى سبيل الشيطان، أو من أجل اغتصابِ الحقوقِ وانتهاكِ الأعراضِ، ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة، فإن الحقَّ جل وعلا يُجيبُه بأن العزةَ ليست لفلان، إنما هى لله وحده، ثم يُحَمِّل هذا القاتلَ إثْمَ جريمته، بل إثْمَ المقتول، بل يعطى المقتولَ من حسناته، فيذهبُ القاتلُ بالشرِّ كلِّه، ويذهبُ المقتولُ ظلمًا بالخير كله. إنه مشهدٌ مؤثِّرٌ من مشاهد يوم القيامة يقصُّه علينا النبى صلى الله عليه وسلم فى تعبير واضح وأسلوب سهل يفهمه الكبير والصغير، العامى والعالم.

وهذا كله يوجب على الأمة جميعا أن تتصدى لمن يريد أن يُحَوِّل الحق فى التعبير السلمى إلى معركة تسيل فيها الدماء البريئة من إخوانه ومواطنيه، وعلى أجهزة الأمن أن تكون حاسمة فى منع أى صورة من صور حمل السلاح، فرجال الأمن مسئولون أمام الله أولا ثم أمام شعوبهم عن حفظ الدماء والحرمات، وليعلم كل من تسول له نفسه الوقوع فى دماء الناس أن دماء المظلومين لن تذهب سدى ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَى مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.

ومن هذا المنطلق حرم الإسلام تحريما قطعيا الخروج بالسلاح على الحاكم الذى ارتضته الأمة، خصوصا إذا تم ذلك بالانتخاب الحر كما هو الحال مع الرئيس الدكتور محمد مرسى، الذى يجب على الجميع الوفاء له ببيعته، وهذا لا يمنع أى شخص أن يعارضه معارضة سلمية، لكن لا يجوز لأحد كائنا من كان أن يسقطه بطريقة غير شرعية، وإذا استخدم الخارجون عليه السلاح فهم بغاة بحكم الشرع تجب مواجهتهم ومنعهم من ارتكاب جريمتهم، وعلى أجهزة الدولة يقع عبء حماية هذه الشرعية.

البلطجة والبغى على الناس

اللفظ الذى استخدمه الفقهاء للتعبير عن (البلطجى) هو لفظ (الصائل)، واللفظ المستخدم فى كتب الفقه للتعبير عن (البلطجة) هو لفظ (الصِّيَال) وهو حرام وكبيرة من الكبائر، لأنّه اعتداء على الغير، لقوله تعالى ﴿وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وأخرج مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».

والبلطجية الذين يجتمعون فيعدون أنفسهم بالسلاح للخروج على الآمنين وسفك دمائهم أو سلب أموالهم هم فى حكم المحاربين.

أما المعارضون للحاكم الشرعى فيجب التفريق بين المعارضين السلميين؛ فمعارضتهم مشروعة، وبين الذين يتواطئون على حمل السلاح فى معارضة الحاكم المسلم ويخرجون عليه؛ فهؤلاء بغاة آثمون يجب التصدى لهم، منعا للفتنة وحقنا للدماء، كما فعل على بن أبى طالب رضى الله عنه مع الخوارج، فإنه لم يتعرض لهم حين اعترضوا عليه بالكلام، بل ناظرهم وأرسل عبد الله بن عباس فناظرهم، فلما حملوا السلاح وخرجوا عليه حاربهم على رضى الله عنه.

وهذا هو دور أجهزة الأمن فى حفظ النظام فى الأمة، وعدم السماح لمن يريد تحويل المعارضة السياسية إلى فتنة عمياء وسفك للدماء، لكن إذا التزمت المعارضة بسلمية التعبير فهى فى حماية الأمة وأجهزة الأمن، ولا تثريب عليها فيما تبديه من آراء.

وفى حالة انفلات الأمر وإفساد البلطجية فى البلاد فإنه لا يجوز الاستسلام لهم، بل يجب الدفاع عن النفس والأهل والعرض فى مواجهتهم، وعلى أجهزة الأمن يقع العبء فى حماية أرواح الناس والدفاع عنهم، وأما المواطن المعتدَى عليه فلا يحل له أن يستسلم، بل عليه أن يقاوم من يريد الفتك به أو الاعتداء عليه، وقد أخرج الشيخان عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إن جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِى، قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَك»، قَالَ: أَرَأَيْت إن قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْت إن قَتَلْتُه؟ قَالَ: «هُوَ فِى النَّارِ» قَالَ: أَرَأَيْت إن قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ، وَفِى لَفْظِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إن عَدَا عَلَى مَالِي؟ قَالَ: «أَنْشِدْ اللَّهَ». قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ قَالَ: «أَنْشِدْ اللَّهَ». قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ؟ قَالَ: «قَاتِلْ، فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِى الْجَنَّةِ، وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِى النَّارِ».

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أن النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَفِى لَفْظٍ عند أبى داود والترمذى وصححه: «مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَأخرجا أيضا عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أهلهِ فَهُوَ شَهِيدٌ». فهذه النصوص وغيرها تدل بوضوح على وجوب الدفاع عن النفس والعرض والمال أمام البلطجية وقطاع الطرق الذين يتعرضون للآمنين.

وعلى القضاة وأجهزة الدولة أن يطبقوا القانون بمنتهى الحزم والسرعة على من يثبت تورطه فى حمل السلاح وترويع الآمنين والاعتداء على أرواحهم وممتلكاتهم، حتى يأمن الناس وتستقر الأحوال.

شروط دفع الصائل البلطجى: حتى لا يكون الأمر سببًا لإثارة فتن فى المجتمع، فيقاتل الناس بعضهم بعضا بدعوى مواجهة البلطجة؛ فقد استنبط العلماء من النصوص الشرعية شروطًا لدفع الصائل ومواجهة البلطجى يجب توفرها حتى يعتبر المعتدَى عليه فى حالة دفاع تعطيه الحق فى رد العدوان، ويمكن إجمال هذه الشروط فى أربعة كالتالى:

أولا: أن يكون هناك اعتداء، أو عدوان من البلطجى، أما إذا كانت السلطات العامة هى التى تطبق واجباتها، فتقوم بإنفاذ أمر قانونى أو قضائى بالقبض على المتهم، أو تفتيشه، أو تنفيذ عقوبة محددة فى محكوم عليه فهذا ليس اعتداء ولا بلطجة، بل أمر مشروع، بل قد يكون واجبًا، ومحاولة منع أجهزة الأمن من القبض على المتهمين أو المجرمين جريمة وتسمى فى القوانين الحديثة جريمة مقاومة السلطات، والبون شاسع تماما بين قيام أجهزة الدولة المعنية بإنفاذ القانون، وما يفعله البلطجية من العدوان على الناس.

ثانيًا: أن يكون هذا الاعتداء حالاً وحاصلا، أما أن يكون مجرد تهديد لفظى دون وقوع اعتداء فلا يجوز دفعه باستعمال القوة ضد القائم بالتهديد، إلا إذا غلب على الظن أنه سينفذ تهديده فعلاً وظهرت شواهد قوية على ذلك.

ثالثًا: أن يكون المعتدَى عليه مضطرا لرد الاعتداء بالقوة، ولا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر، فإذا أمكن الاحتماء برجال السلطة العمومية أو أجهزة الأمن فى الوقت المناسب، أو استطاع المعتدَى عليه أن يمنع نفسه أو يمتنع بغيره دون استعمال القوة والعنف فليس له أن يستعملها.

رابعًا: أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة لدفعه دون زيادة، فإذا أمكن دفع الصائل أو البلطجى مثلاً بالصياح والاستغاثة لم يكن له أن يدفعه باليد، وإن كان فى موضع لا يلحقه الغوث دفعه باليد، فإن لم يندفع باليد دفعه بالعصا، فإن لم يندفع بالعصا دفعه بالسلاح، فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو دفعه بإتلاف عضو، فإن لم يندفع إلا بالقتل دفعه بالقتل، ويكون دم المعتدِى فى هذه الحالة هدرا. هذا والله أعلم.

وعلى كل حال، فإن دور البلطجية يزداد ويتمدد فى الفراغ الذى تتركه الدولة وأجهزتها الأمنية، وإذا زادت الظاهرة كانت منذرة بحرب أهلية، ولهذا فإن الأمم الحية والدول المتحضرة تعمل على مواجهة ظاهرة البلطجة مواجهة شاملة، من خلال الوقوف على أسباب الظاهرة دينيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا، وتتداعى جميع أجهزة الدولة وهيئات المجتمع المدنى للتوحد فى مواجهة هذا الشر المستطير وتنسيق الجهود للتخلص من البلطجة، وهذا ما نحتاجه فى مصر اليوم للنهوض والتعافى وتجاوز الأزمة.

المشاركة فى حشد به بلطجية

قد يدعو بعض السياسيين إلى حشد سلمى للتعبير عن الرأى بغير عنف، ويغلب على الظن أن البلطجية سيشاركون فى هذا الحشد لإثارة الفوضى وترويع الآمنين، وها هنا لا بد من التفريق بين حالتين:

الحالة الأولى: أن يتم ذلك بالترتيب بين السياسيين الداعين للتظاهر وبين البلطجية، بغرض إسقاط النظام وتسلم السلطة بدلا من الحاكم المنتخب، وربما يكون ذلك باتفاق مالى يدفعه السياسيون للبلطجية، بحيث يدخل البلطجية فى الحشود السلمية حتى يصلوا إلى الموضع المراد تخريبه، ثم يعلن السياسيون الانسحاب بعد أن يتركوا البلطجية يعيثون فى الأرض فسادا، ثم يتخذون من ذلك مبررا للاستيلاء على الحكم، وهذا إن ثبت فلا فرق بين السياسى والبلطجى، بل السياسى أشد إجراما، وينبغى أن يؤخذ بمنتهى الحزم والحسم.

وهذا ما بينه النبى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم فى كتاب: الإمارة، باب: الْأَمْرِ بالْوَفَاءِ بِبَيْعَةِ الْخُلَفَاءِ، الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما، وفيه: «وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إن اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ (يعنى يحاول إسقاطه بقوة السلاح) فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ»، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَهْوَى إلى أُذُنَيْهِ، وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ، وَقَالَ: «سَمِعَتْهُ أُذُنَاى، وَوَعَاهُ قَلْبِى».

وكذلك أخرج مسلم فى باب: حكم من فرَّق أمر المسلمين وهو مجتمع، عَنْ عَرْفَجَةَ رضى الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ (أى شرور وفتن)، فَمَنْ أَرَادَ أن يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِى جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ». وفى رواية: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أن يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أو يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ».

وهذه الجريمة تسمى فى القوانين الحديثة الخيانة العظمى، وأحكامها فى القوانين معروفة مشهورة، متى ثبتت ثبوتا يقينيا بحق مرتكبها. وفى مثل هذه الأحوال لا يجوز التعويل على التحليلات والتخمينات والمعلومات غير اليقينية؛ لأن الأمر يتعلق بالدماء

الحالة الثانية: أن يخرج البلطجية فى الحشد من غير ترتيب، بل يخرجوا من باب استغلال الحشود للإفساد فى الأرض، وفى هذه الحالة على السياسيين أن يرفعوا غطاءهم عن البلطجية، وأن يتعاونوا مع أجهزة الأمن فى القبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة، وإذا غلب على الظن أن البلطجية سيخرجون فى هذه التظاهرات فالنظر الشرعى السليم يوجب على العقلاء ألا يخرجوا؛ سدا للذريعة، وقطعا للطريق على الراغبين فى الإفساد.

من هنا فإننى بعد أن رأيت ورأى كل المنصفين أن دعوات التظاهر التى تدعو إليها الأحزاب التى تعتبر نفسها معارضة دائما ما تكون ممتلئة بالعناصر الإجرامية التى تمارس البلطجة، بحيث يدرك القاصى والدانى أنه فى توقيت معين تبدأ عملية الاحتكاك بأجهزة الأمن وبجماهير الناس، ويبدأ استعمال السلاح وإراقة الدماء، فضلا عما تواتر من معلومات عن تجمعات لهؤلاء البلطجية من أنحاء القطر؛ لكل هذا فإننى أدعو جماهير الأمة لعدم المشاركة فيها.

وأدعو المنظمين لهذه التظاهرات إلى إلغائها، أو على الأقل اتخاذ التدابير اللازمة لمنع هؤلاء البلطجية من استغلال حشودهم، وإعلان الإجراءات التى اتخذوها لتحقيق ذلك، والتواصل مع أجهزة الدولة للتصدى لمن يريد استغلال المظاهرات السلمية لإحداث الفوضى والفساد فى البلاد، فإذا لم يفعل المنظمون ذلك فهم يتحملون قانونيا وأخلاقيا كامل المسئولية أمام الله وأمام الشعب عن أى فساد يرتكبه البلطجية.

تعالوا إلى كلمة سواء

وأخيرا، فإننى أدعو كل العقلاء والحكماء فى هذه الأمة من المؤيدين للنظام والمعارضين له إلى تقديم مصلحة الأمة على كل المصالح الشخصية والحزبية الضيقة، وإلى حسن التقدير لخطورة الموقف وضرورة الجلوس معا على طاولة الحوار بإخلاص وصدق؛ لإنقاذ حاضر الأمة ومستقبلها، ومحاولة إنهاء الخصومات وتقريب وجهات النظر، والاشتراك فى بحث المخارج للأمة من هذه الأزمات المتلاحقة، فالكل خاسر فى هذه المعارك العبثية.

والمستفيد الأكبر من إيقاد الفتن بين أبناء الأمة هم أعداء الأمة المتربصون بها، وليدرك الجميع أن سفينة الوطن تتسع للجميع باختلاف توجهاتهم ورؤاهم، وأن حاجة الوطن تستوعب جهود الجميع بكل تنوعاتهم وتبايناتهم، وأذكِّر الجميع بعظم المسئولية واستشعار ساعة الوقوف بين يدى الله للسؤال ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: 24].

أسأل الله أن يحفظ أمتنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحقن دماء أبنائها، وأن يجمع كلمتها على الهدى، وعزائمها على عمل الخير وخير العمل، وأن يجعل مصر وأهلها فى أمانه وضمانه وإحسانه، وألا يشمت بها أعداءها وحسادها، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه وهو راض عنا.

وصلّ الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصدر