إسلام الإخوان المسلمين
بقلم الإمام الشهيد حسن البنا
مقدمة
واسمعوا لي أيها الاخوان أن أستخدم هذا التعبير، ولست أعني به أن للإخوان المسلمين إسلاما جديدا غير الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، وإنما أعني أن كثيرا من المسلمين في كثير من العصور خلعوا على الإسلام نعوتا وأوصافا وحدودا ورسوما من عند أنفسهم، واستخدموا مرونته وسعته استخداما ضارا - مع أنها لم تكن إلا للحكمة السامية - فاختلفوا في معنى الإسلام اختلافا عظيما، وانطبعت للإسلام في نفوس أبنائه صور عدة تقرب أو تبعد أو تنطبق على الإسلام الأول الذي مثله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير تمثيل.
فمن الناس من لا يرى الإسلام شيئا غير حدود العبادة الظاهرة فإن أداها أو رأى من يؤديها اطمأن إلى ذلك ورضي به وحسبه قد وصل إلى لب الإسلام، وذلك هو المعنى الشائع عند عامة المسلمين، ومن الناس من لا يرى الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة، والغذاء الفلسفي الشهي للعقل والروح، والبعد بهما عن أدران المادة الطاغية الظالمة. ومنهم من يقف إسلامه عند حد الإعجاب بهذه المعاني الحيوية العملية في الإسلام فلا يتطلب النظر إلى غيرها ولا يعجبه التفكير في سواها،
ومنهم من يرى الإسلام نوعا من العقائد الموروثة والأعمال التقليدية التي لا غناء فيها ولا تقدم معها، فهو متبرم بالإسلام وبكل ما يتصل بالإسلام، وتجد هذا المعنى واضحا في نفوس كثير من الذين ثقفوا ثقافة أجنبية ولم تتح لهم فرص حسن الاتصال بالحقائق الإسلامية فهم لم يعرفوا عن الإسلام شيئا أصلا، أو عرفوه صورة مشوهة بمخالطة من لم يحسنوا تمثيله من المسلمين.
وتحت هذه الأقسام جميعا تندرج أخرى يختلف نظر كل منها إلى الإسلام عن نظر الآخر قليلا أو كثيرا، وقليل من الناس أدرك الإسلام صورة كاملة واضحة تنتظم هذه المعاني جميعا.
هذه الصور المتعددة للإسلام الواحد في نفوس الناس جعلتهم يختلفون اختلافا بينا في فهم الإخوان المسلمين وتصور فكرتهم، فمن الناس من يتصور الإخوان المسلمين جماعة وعظية إرشادية كل همها أن تقدم للناس العظات فتزهدهم في الدنيا وتذكرهم الآخرة، ومنهم من يتصور الإخوان المسلمين طريقة صوفية تعنى بتعليم الناس ضروب الذكر وهون العبادة وما يتبع ذلك من تجرد وزهادة، ومنهم من يظنهم جماعة نظرية فقهية كل همها أن تقف عند طائفة من الأحكام تجادل فيها وتناضل عنها وتحمل الناس عليها وتخاصم أو تسالم من لم يسلم بها معها، وقليل من الناس خالطوا الإخوان المسلمين وامتزجوا بهم ولم يقفوا عند حدود السماع ولم يخلعوا على الإخوان المسلمين إسلاما يتصورونه هم، فعرفوا حقيقتهم وأدركوا كل شيء عن دعوتهم علما وعملا.
ولهذا أحببت أن أتحدث لحضراتكم في إيجاز عن معنى الإسلام وصورته الماثلة في نفوس الإخوان المسلمين، حتى يكون الأساس الذي ندعو إليه ونعتز بالانتساب له والاستمداد منه واضحا جليا:
نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف. والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه ويوصي بالإحسان فيه جميعه، وإلى هذا تشير الاية الكريمة: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) (القصص).
واقرأ في القرآن وفي الصلاة إن شئت قول الله تبارك وتعالى في العقيدة والعبادة: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (البينة).
وتقرأ قوله تعالى في الحكم والقضاء والسياسة: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء). وتقرأ قوله تعالى في الدين وفي التجارة: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا، فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها واشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد) (البقرة).
وتقرأ قوله تعالى في الجهاد والمال والغزو: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة، ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم) (النساء). الى غير ذلك من الآيات الكثيرة البارعة في هذه الأغراض نفسها وفي غيرها من الآداب العامة وشؤون الاجتماع.
وهكذا اتصل الإخوان بكتاب الله واستلهموه واسترشدوه فأيقنوا أن الإسلام هو هذا المعنى الكلي الشامل، وأنه يجب أن يهيمن على كل شؤون الحياة وأن تصطبغ جميعها به وأن تنزل على حكمه وأن تساير قواعده وتعاليمه وتستمد منها ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمة إسلاما صحيحا، أما إذا أسلمت في عبادتها وقلدت غير المسلمين في بقية شؤونها، فهي أمة ناقصة الإسلام تضاهىء الذين قال الله تعالى فيهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) (البقرة).
إلى جانب هذا يعتقد الاخوان أن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هوكتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدا؟
وأن كثيرا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها.
ولهذا يجب أن تستقى النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جميعا.
وإلى جانب هذا أيضا يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصا في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون، ويرشد الناس إلى الطريق العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها.
ولضمان الحق والصواب في هذا التطبيق أو تحريهما على الأقل، عني الإسلام عناية تامة بعلاج النفس الإنسانية وهي مصدر النظم ومادة التفكير والتصوير والتشكل، فوصف لها من الأدوية الناجعة ما يطهرها من الهوى ويغسلها من أدران الغرض والغاية ويهديها إلى الكمال والفضيلة، ويزجرها عن الجور والقصور والعدوان؟ وإذا استقامت النفس وصفت فقد أصبح كل ما يصدر عنها صالحا جميلا.
يقولون إن العدل ليس في نص القانون ولكنه في نفس القاضي، وقد تأتي بالقانون الكامل العادل إلى القاضي ذي الهوى والغاية فيطبقه تطبيقا جائرا لا عدل معه .. وقد تأتي بالقانون الناقص والجائر إلى القاضي الفاضل العادل البعيد عن الأهواء والغايات فيطبقه تطبيقا فاضلا عادلا فيه كل الخير والبر والرحة والإنصاف، ومن هنا كانت النفس الإنسانية محل عناية كبرى في كتاب الله، وكانت النفوس الأولى التي صاغها هذا الإسلام مثال الكمال الإنساني، ولهذا كله كانت طبيعة الإسلام تساير العصور والأمم، وتتسع لكل الأغراض والمطالب، ولهذا أيضا كان الإسلام لا يأبى أبدا الاستفادة من كل نظام صالح لا يتعارض مع قواعده الكلية وأصوله العامة.
لا أحب أيها السادة أن أسترسل في هذا البيان فذللك باب واسع وحسبنا هذه الإلمامة الموجزة تلقي ضوءا على هذا المعنى العام للفكرة الإسلامية في نفوس الإخوان المسلمين.
فكرة الإخوان المسلمين تضم كل المعاني الإصلاحية
كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته، والتقت عندما آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك، أن الإخوان المسلمين:
دعوة سلفية: لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله.
وطريقة سنية: لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شيء وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وحقيقة صوفية: لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس، ونقاء القلب، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب في الله، والارتباط على الخير.
وهيئة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد.
وجماعة رياضية: لأنهم يعنون بجسومهم، ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لبدنك عليك حقا) .. وأن تكاليف الإسلام كلها لا يمكن أن تؤدى كاملة صحيحة إلا بالجسم القوي، فالصلاة والصوم والحج والزكاة لا بد لها من جسم يحتمل أعباء الكسب والعمل والكفاح في طلب الرزق، ولأنهم تبعا لذلك يعنون بتشكيلاتهم وفرقهم الرياضية عناية تضارع وربما فاقت كثيرا من الأندية المتخصصة بالرياضة البدنية وحدها.
ورابطة علمية ثقافية: لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولأن أندية الإخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح.
وشركة اقتصادية: لأن الإسلام يعنى بتدبير المال وكسبه من وجهه وهو الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) .. ويقول: (من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له) ... (إن الله يحب المؤمن المحترف).
وفكرة اجتماعية : لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها.
وهكذا نرى أنشمول معنى الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولا لكل مناحي الإصلاح، ووجه نشاط الإخوان إلى كل هذه النواحي، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلى ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعا ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعا.
ومن هنا كان كثير من مظاهر أعمال الإخوان يبدو أمام الناس متناقضا وما هو بمتناقض.
فقد يرى الناس الأخ المسلم في المحراب خاشعا متبتلا يبكي ويتذلل، وبعد قليل يكون هو بعينه واعظا مدرسا يقرع الأذان بزواجر الوعظ، وبعد قليل تراه نفسه رياضيا أنيقا يرمي بالكرة أو يدرب على العدو أو يمارس السباحة، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو معمله يزاول صناعته في أمانة وفي إخلاص. هذه مظاهر قد يراها الناس متنافرة لا يلتئم بعضها ببعض، ولو علموا أنها جميعا يجمعها الإسلام ويأمر بها الإسلام ويحض عليها الإسلام لتحققوا فيها مظاهر الالتئام ومعاني الانسجام، ومع هذا الشمول فقد اجتنب الإخوان كل ما يؤخذ على هذه النواحي من المآخذ ومواطئ النقد والتقصير.
كما اجتنبوا التعصب للألقاب إذ جمعهم الإسلام الجامع حول لقب واحد هو "الإخوان المسلمون".