الإخوان المسلمون عمل متواصل
بقلم / إسماعيل حامد
مقدمة
"لقد انتصر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم صاغ من فكرة الإسلام شخوصًا، وحوَّل إيمانهم بالإسلام عملاً، وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوف، ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، إنما طبعها بالنور على صحائف القلوب، وأطلقها تعامل الناس، وتأخذ منهم وتعطي وتقول بالفعل والعمل ما هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله" .. بهذه الكلمات عبَّر شهيد القرآن سيد قطب عن هذا الدين، وكيف أقامه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في واقع الأمة، وأضاف: "لقد انتصر محمد بن عبد الله يوم صنع أصحابه عليهم رضوان الله صورًا حيةً من إيمانه، تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، يوم صاغ من كل منهم قرآنًا حيًّا يدب على الأرض، يوم جعل من كل فرد نموذجًا مجسمًا للإسلام، يراه الناس فيرون الإسلام"؛ فأقرَّ أن قيام الإسلام وانتصاره لم يكن إلا من خلال التربية العملية الميدانية التي قام بها رسول الله مع صحابته، فأثمرت رجالاً ربانيين قرآنيين، ويؤكد شهيد القرآن على حقيقة أخرى تُضاف إلى السابقة بقوله: "إن النصوص وحدها لا تصنع شيئًا، وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلاً، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكًا"، بما يفيد أن أي دعوة لا تنجح إلا إذا جسَّدها أصحابها في مواقف عملية وسلوكية وأخلاقية، بعيدًا عن دائرة الكلام العلمي النظري.
دعوة ماضية
ومنذ ثمانين عامًا قامت دعوة الإخوان تسير على خطى الحبيب، من أجل إعادة هذه الأمة إلى سالف عهدها وسابق مجدها، بإحياء الخلافة الإسلامية التي ماتت، وبإظهار الدين فوق ربوع العالمين، وتحقيق أستاذية العالم، انطلاقًا من قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: من الآية 143)، ولقد أدرك الإخوان أن هذه الغايات وتلك الأهداف التي قامت من أجلها الدعوة ما كان لها أن تكون في أرض الواقع، ولا أن تتحقق إلا إذا أخذ أبناؤها الأمر بقوة، استشعارًا لقوله تعالى ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ (البقرة: من الآية 63)، وأن يتحملوا مسئولية الدعوة بجد وعزيمة، وأحس الإخوان أن تحقيق تلك المبادئ والغايات والأهداف لا يتم إلا من خلال تطبيق عملي للإسلام الذي جاءنا به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإن تحقق ذلك يحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة صادقة؛ فانطلق الإخوان بهذه النفسية العظيمة وتلك الهمم العالية، يبلغون دعوة الله ويصلون الليل بالنهار عملاً وبذلاً وحركةً وعطاءً.
انتقالاً بالأمة من ميدان الخطب والكلام إلى ميدان العمل المتواصل، ومن ميدان وضع الخطط والمناهج إلى ميدان الإنفاذ والتحقيق، وحادي الركب يوجه القافلة "إن رجل القول غير رجل العمل، ورجل العمل غير رجل الجهاد، ورجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم، الذي يؤدي إلى أعظم الربح بأقل التضحيات"، فأصبح سمت الإخوان الأعمال الجدية المنتجة، لا يثنيهم عن واجبهم ودعوتهم كثرة الخصوم ولا تكالب قوى الشر.
تربية مثمرة
لقد سعى الإمام البنا و الإخوان من أجل السير على خطى الحبيب في تربية الرجال، فكان هدف الدعوة الأول أن تصنع رجالاً لا أن تلقي المواعظ، وأن تصوغ ضمائر لا أن تدبج خطبًا، وأن تبني أمة لا أن تقيم فلسفة، وأن تحول الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي وتراهم العيون، فكان سمت الدعوة في رجالها العمل المتواصل الذي لا يتوقف، كما قال المؤسس رحمه الله: "وقد أعددنا لذلك إيمانًا لا يتزعزع، وعملاً لا يتوقف، وثقةً بالله لا تضعف، وأرواحًا أسعد أيامها يوم تلقى الله شهيدةً في سبيله"، فربت دعوة الإخوان المسلمين أفرادها على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلتهم لا يقصرون في فرائض الله، ولا ينتهكون حرماته، ولا يجرءون على معصية، ولا يفرطون في التعبد، ولا يبالغون في التزهد، ولا يظلمون دنياهم على حساب آخرتهم، فهم يصومون ويفطرون، ويقومون ويتريضون، ويمزحون ويجدون، ويجاهدون وينبسطون مع أصدقائهم ومع أهليهم، ويعملون للآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا في أخذ شامل للدين وتطبيع عملي واسع له في كل مناحي الحياة.
وربَّت دعوة الإخوان أفرادها على مائدة القرآن؛ كي يكون كل واحد منهم قرآنًا يمشي بين الناس، فجعلوا كتاب الله تبارك وتعالى أول أورادهم، وكان من تعهُّدهم أن يرتب الأخ على نفسه كل يومٍ جزءًا على الأقل من القرآن الكريم يتلوه، وكان تعاملهم مع القرآن على أنه تعليماتٌ تُحْفَظ، وتوجيهاتٌ تُنَفَّذ، وتربيةٌ تظهر في السلوك والأخلاق، مستشعرين قول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ينبغي لحامل القرآن أن يُعْرَف بليله إذا الناس نائمون، وبنهارِه إذا الناس يفطرون، وبِحُزْنِه إذا الناس يفرحون، وببكائِه إذا الناس يضحكون، وبصمْته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يخْتالون، وينبغي لحاملِ القرآنِ أن يكونَ باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا عليمًا سِكِّيتًا، وينبغي لحاملِ القرآنِ أن لا يكونَ جافيًا ولا غافلاً ولا صخَّابًا ولا صيَّاحًا ولا حَدِيدًا"، فكانوا صوام النهار قوام الليل، وكانوا تجسيدًا عمليًّا لكل ما جاء في القرآن من قيم وأخلاق.
وربَّت دعوة الإخوان المسلمين أفرادها على مكارم الأخلاق التي هي أساس دعوتهم، انطلاقًا من قوله تبارك وتعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس)، فتجسدت أخلاق الأخ المسلم في جوانب عملية (صادق لا يكذب، وفي لا يغدر ولا يخلف، حليم لا يسرع بالغضب، ولا يفحش بالقول، حيي لا يجهر بالسوء، ولا يثبت للمنكر، شجاع يجهر بالحق، ولا يخشى فيه لومة لائم، عفيف يضع كرامته فوق كل الغايات والأغراض الزائلة، منصف يقدر الحسنة، ويزن السيئة، ويأخذ من كل شيء أحسنه، يعفو ويصفح، ويدرأ بالحسنة السيئة، إلا أن تنتهك محارم الله، فلا يقوم لغضبه شيء... الخ)، وهكذا كان تجسيد الإخوان لمبادئ دعوتهم من خلال عمل دؤوب متواصل يصلون الليل بالنهار.
وربَّت دعوة الإخوان أفرادها على أنهم "أُجراء عند الله أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم، وليس عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر ولا شأن الأجير" فهم يستشعرون أن الله محاسبهم على الأعمال والنيات لا النتائج، قال تعالى: ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: من الآية 105)، فأدركوا أنهم مطالبون بالعمل لدين الله وأجرهم عليه، وأدركوا أنه لا نجاح لدعوتهم إن أعطوها فضول أوقاتهم، وأدركوا أن الإسلام اليوم ليس بحاجة إلى مزيد بحوث ولا تراكم علوم ولا ثقافات واسعة بقدر ما يحتاج إلى دعاة عاملين مجسدين للإسلام في واقع حياتهم، من غير ملل من طول طريق أو تأخر نصر أو تباعد تباشير الفجر، يقول الإمام البنا: "أيها الإخوان المسلمون اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر: إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده. ولست مخالفًا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقًا طويلةً ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب..".
وربَّت دعوة الإخوان أفرادها على أن يكونوا شخصية تجمع الخير من جميع جوانبه انطلاقًا من قوله تعالى ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الحج: من الآية 77)، وأن يكونوا عمليين في كل ميدان يدخلونه، فإذا جدَّ الجِدُّ، ودعا داعي الجهاد كانوا فرسان الميدان جنود الحق باذلي الأنفس، وإذا دخلوا ميدانَ السياسة كانوا أبصر الناس بالمصالح والمفاسد، وأعلمهم بالسياسة الشرعية، وأقضى الناس لحاجات العباد، وإذا عاملوا الناس في التجارة كانوا أصدقهم وأكثرهم أمانةً، وإذا كانوا مع أهلهم وجيرانهم ومجتمعاتهم خالطوهم مخالطة تامة دون المساس بثوابت الدين، فهم في عمل متواصل مع مجتمعهم من بر الوالدين، وصلة الأرحام، وإكرام الضيف والجار، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، ومواساة الفقير، وكفالة اليتيم، وإنقاذ الغريق، ومساعدة البائس، وإنظار المعسر، وإرشاد الضال، وإغاثة اللهفان المستغيث، والمحتاج والضعيف، وإذا رأوا فسادًا أو منكرًا كانوا أشد الناس بغضًا له وفرارًا منه وسعيًا في إنكاره وإزالته، وعند الملمات تجدهم أسرع الناس تلبية للنداء وأسخاهم يدًا بالبذل والعطاء، وفي بيوتهم تجدهم أحرص الناس على تربية أبنائهم تربية إسلامية قرآنية، وفي مساجدهم كانوا أصحاب الصفوف الأولى، وعمارها بالجماعات والصلوات والذكر والقرآن ومجالس العلم والدعوة والإرشاد؛ حيث إن المسجد هو أهم مساراتهم الدعوية وأغلاها.
وهكذا أدرك الإخوان أن العمل الصالح بشتى أنواعه وألوانه، يحفظ على الأخ دينه وعرضه، ويكسبه الحياة المطمئنة، ويقوده إلى الخير وراحة البال، وأن الأعمال واسعة وميادينها فسيحة، وهكذا أدرك الإخوان أن العمل المتواصل فقط هو السمت الحقيقي لهم، بعيدًا عن زخرفة القول وإبداعات التنظير، واستغراقات العلم التلقيني، وفلسفات الجدل السوفسطائي، وهكذا عاش الإخوان في عمل متواصل، يراهم الناس وجهين لعملة واحدة، إما أن يكون الأخ المسلم في عمل دائم، متخذًا شعاره من قوله تعالى ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا﴾، وهذا هو الوجه الأول للعملة، وإما أن يكون في رباط دائم على ثغرة من ثغور العمل الدعوي، ينتظر أداء التكليف، متخذًا شعاره من قوله صلى الله عليه وسلم: (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله؛ فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة) .. فإلى العمل أيها الإخوان، ودعوا لغة القول إلى لغة الفعل، وانطلقوا من ميدان الكلام والنظريات والفلسفات والجدال العقيم؛ إلى محراب العمل المتواصل، والله معكم، ولن يتركم أعمالكم.
للمزيد عن تاريخ الإخوان المسلمين
.