الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ (الجزء الثالث).... محمود عبد الحليم

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ
" الجـزء الثالـث "

للأستاذ / محمود عبد الحليم


المـقدمـة


قد يظن الكثيرون من السادة القراء – الذين يترقبون صدور الجزء الثالث من هذه المذكرات – أنهم سيقرأون في هذا الجزء تاريخ ثورة 23 يوليو 1952 ، غير أنهم قد لا يجدون مأربهم فيما سوف يقرأون .. فلتاريخ هذه الثورة مظان أخري يمكن الرجوع إليها ، وهي كثيرة وفي متناول الجميع .. وقد كتب عنها من لازم صاحبها معظم الوقت ، ومنهم من لازمه كل الوقت ، ومنهم من انفصل عنه في وقت مبكر ووقف منه موقف المراقب .. وقد ظهر أخيرًا كتاب " صفحات من التاريخ " للأخ الأستاذ (صلاح شادي) ، وهو من خير ما يقرأ في هذا الصدد ، لأن مؤلفه كان جزءًا من هذه الثورة منذ كانت حلمًا في الخواطر ، ثم كان من حصادها . وقد جاء كتابه بعد كل ما صدر من كتب عن الثورة فصار مهيمنًا عليها ، حيث ناقش بعضها ببعض ، وأضاف إليها من معلوماته وتجاربه ، واستخلص من ذلك كله صورة هي أقرب إلي الصواب .

ولكن كتابنا هذا لا يمس تاريخ هذه الثورة إلا فيما يتصل منها بالإخوان المسلمين .. لأن موضوع الكتاب هو : " الإخوان المسلمون .. أحداث صنعت التاريخ " .. وإذا كانت ثورة 23 يوليو حدثًا من أحداث هذا التاريخ ، فمبحثنا فيها إنما يكون عند نقط التقائها بالإخوان المسلمين سواء أكان هذا الالتقاء التقاء بنود لهم ، أو تربُّ في أحضانهم ، أو قيام في حمايتهم ، أو الانتفاع بسمعتهم ، أو تمرد عليهم ، أو نقض لعهدهم ، أو تواطؤ مع العدو عليهم .. وهذه النقاط بالذات من تاريخ هذه الثورة هي التي رأي المهيمنون علي منابع الثقافة في مصر حجبها عن التاريخ ، آملين بذلك أن يصنعوا لهذه الثورة تاريخًا معينًا . ولقد كتبت الجزأين اللذين صدرا من هذه المذكرات ، وعرضت فيهما لجهود الإخوان المسلمين ، وما أسفرت عنه هذه الجهود من أحداث متسلسلة خلال ربع قرن من الزمان ، بدءًا من عام 1928م ، وكل جهد بذلوه قد تمخض عن حدث قرب الشعب بهذه الخطوة وما تمخض عنها من أحداث جسام إلي يوليو 1952م ، فرأي الشعب نفسه وجهًا لوجه أمام الهدف المأمول .

ولا حاجة بي إلي إعادة القول بأن اختفاء هذه الجهود عن أعين الأجيال الناشئة في ضباب الأكاذيب ،وضياع صوت هذه الأحداث عن أسماعهم في ضجيج مواكب النفاق ، لن يستطيع أن يحجب هذه الحقائق إلي الأبد .. بل من سطوع الشمس ولو ساعة من نهار ، مهما تراكم عليها من ظلام السحب .. وقد تكون جهودنا هذه في إصدار هذه المذكرات إحدى المحاولات التي تبذل لاختراق هذا الجدار الشاهق المشيد ، المضروب حول هذه الحقائق لحجبها عن العيون والأسماع . وأحب أن أحيط السادة القراء علمًا بأن هذه المذكرات التي وعدتهم في مقدمة الجزء الأول منها بإصدارها في ثلاثة أجزاء ، كانت مسوداتها جميعًا معدة وكاملة حتى آخر يوم من أحداث الجزء الثالث قبل البدء في طبع الجزء الأول منها .. وإعدادي مسودات هذه الأجزاء الثلاثة معًا في أوائل السبعينات ، كان انطلاقة ذهن صودرت فيه معلومات وأفكار وأحاسيس مدة عشرين عاما ، فلا هو وجد خلالها متنفسًا يطلقها منه ، وهو حملة اليأس علي التخلص منها بإرسالها إلي منطقة النسيان .. وكان حرصه عليها اعتزازا بقيمتها ، وضنًا بها علي الضياع .. لاسيما وهي معلومات هي في حقيقتها خلاصات تجارب ، وحصيلة جهود ، وثمرة أفكار ، لم تجد طريقاً إلي النشر والذيوع .. فلما انثقب في جدران السجن ثقب في أوائل السبعينات ، انطلقت الأفكار الحبيسة من سجنها – الذي طال أمده انطلاق القنبلة الموقوتة ، فتلقت شظاياها المضيئة صفحات كانت إليها في شوق عظيم .. وسرعان ما انطبعت هذه الأفكار علي الصفحات ، حتى كأنما كانت – لشدة شوقها إلي الانطباع – تكاد تسبق القلم .. وهكذا لم يجف مداد القلم حتى أتمها واستوفاها دون كلل ولا توقف .

وقد قصدت من إحاطة القراء علمًا بذلك أن أطمئنهم إلي أن ما يقرأون من معلومات في هذه المذكرات ، وما يلحق بهذه المعلومات من تحليل أو تفسير أو تعقيب ، لم يتأثر بما جد بعد ذلك من أحداث ،وما طرأ من ظروف ، وإنما هو نفسه الذي كان مكتوبًا في المسودات يوم كتبت هذه المسودات . وصدر الجزء الأول وتلاه الجزء الثاني .. ولكنني أمام الجزء الثالث هذا وجدتني مترددًا ,, هل أصدره وفاء بما وعدت أم أستبقيه لنفسي إرضاء لعواطفي ؟ .. وطال هذا التردد حتى لاحظه بعض المحبين ، فوجهوا إلي عتابًا شديدًا ؛ متهمين إياي بالتباطؤ في أمر ليس من حقي أن أتباطأ فيه ، أو أنكل عنه ، أو أقعد عن أدائه ؛ لأنه أصبح من حق التاريخ ، وأصبح شهادة يحرم كتمانها وما دعاني إلي التردد في إصدار هذا الجزء إلا ما أعلمه من أن أحداثه حين أعرض لها سيلزمني عرضها أن أتناول مواقف لإخوة أعزاء علي نفسي ، قد يكون في تناولها قهر لعواطفي .. وهو ما أتحاشاه ويتحاشاه كل ذي قلب .. ولكن الإخوة المحبين حين نظروا إلي الموضوع لم يعيروا هذه الناحية اهتمامًا ، ورأوا أن من حق المجتمع أن يسمع الحقائق التاريخية كاملة ، مهما كلف ذلك من لديه هذه الحقائق من آلام وأحزان .. وما كان لي بعد ذلك إلا أن صدع بأمرهم ، وأنزل عند بليغ حجتهم . ويعلم الله كم عانيت في إعداد هذا الجزء من مشقة نفسية ، وآلام تلذع القلب وتدميه .. فأنا أكتب عن فترة كانت حالكة الظلام .. والأشخاص خلالها يتحركون بتخبط بعضهم في بعض .. فربما أقبل أحدهم علي آخر معانقا – وهو يظن أنه مما يعانق صديقا – ولا يتبين إلا أخيرًا أنه إنما عانق العدو .. وينفر أحدهم من آخر علي أنه عدو ، ولا يتبين له أنه نفر من صديق إلا آخر الأمر .. والحديث من ناحيتي لابد أن يتناول كل هؤلاء ، وكل تحركاتهم كما وقعت دون إخفاء ولا تستر ولا تمويه . وقد أكون أعلم أن لبعض هؤلاء في تحركه الذي تحركه في الجو المظلم وجه عذر ، غير أن ذلك لا يشفع لي أمام أمانة التاريخ أن أجامل فأخفي التحرك أو أتستر عليه أو أتجاوزه .. ولو فعلت لفضحتني الأحداث ، فقد كانت محصلة هذه التحركات أحداثًا مروعة زلزلت مصر من أقصاها إلي أقصاها ، ورجعت بها القهقرى قرنا من الزمان ، ونقلتها إلي قاع بحر الظلمات الذي لازلنا نغالب ظلماته حتى اليوم .

ولا أستثني نفسي من هؤلاء الذين تحركوا وسط هذا الجو الحالك المدلهم فأزكي تحركاتي خلاله من دون الذين تحركوا .. وإنما قد ألزمت نفسي أن أثبت تحركاتي – كما وقعت – وسط تحركات غيري ، مودعًا كل ذلك سجل التاريخ ، تاركًَا للقراء تقييم هذه التحركات بعد أن يدخلوا في تقييمها ما كان يحيط بها من ظروف وملابسات . وقد أكون حريصًا أشد الحرص – بادئ ذي بدء – علي أن ألفت انتباه السادة القراء ، إلي حقيقة قد يغفلون عنها في خضم انفعالهم بأحداث هذه الجزء .. تلك هي أن المجموعات من الإخوان – عدا رءوس الفتنة ومدبريها – الذين لعبوا أدوارًا في خلال هذه الأحداث ، علي اختلاف هذه الأدوار ،وتعارض بعضها مع بعض ، إنما كانت الدوافع إليها دوافع نبيلة .. فلا ينبغي أن يساء الظن بهم ، أو أن يهبط بمكانتهم في النفوس .. فهؤلاء الإخوة هم الرعيل الأول الذي تحمل أعباء هذه الدعوة من أول يوم ، وحسبهم أن لهم فضل توصيلها إلي الأجيال الناشئة .. ولقد التقي هؤلاء جميعا – حتى طلع النهار – علي كلمة سواء ، وعرف كل منهم خطأه وصوابه .

وإذا الحبيب أتي بذنـب واحـد

جاءت محاسنـه بألف شفيـع

وليكن رائدنا إزاء هذه المواقف ما كان من مواقف لأجلاء الصحابة في الفتنة الكبرى في عهد الخليفتين الراشدين الثالث والرابع رضي الله عنهما ، وأصحاب هذه المواقف علي اختلافها وتعارضها ، هم الذين قال فيهم رسول الله صلي الله عليه وسلم : " أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم " . وما عرضنا لهذه المواقف في هذا الجزء من المذكرات إلا للتعليم والتوجيه ، وتزويد الأجيال الناشئة بثروة تاريخية تفتح أبصارهم ، وتنير بصائرهم ،وتجنبهم مواطن الزلل وتمنحهم موازين دقيقة لا تتذبذب ولا تختل ، يقيمون بها ما عسي أن يصادفهم في معترك الحياة من مواقف وأعمال وأحداث . ومع كل ما بذلت من جهد لإلقاء الأضواء من كل جانب – ما استطعت – علي أحداث هذه الفترة التي تعالج أحداثها في هذا الجزء ، فلا أدري هل بلغت في ذلك ما كنت أمل من الإبانة والتوضيح ، أم أن ظلام الجو المحيط بهذه الأحداث كان أكثف من أن تبدده هذه الأضواء المتاحة ؟ .. وعلي كلًّ .. فلتلتمس لي الأعذار إذا لم يكن الوضوح كاملاً .. فإنها لم تكن عاصفة كسابقتها ، لم تنل من البناء الإخواني إلا ما تنال ذرات التراب وحبات الحصى – مما تثيره العاصفة – من خدوش ، وإنما كانت هذه المرة دوامة جائحة اخترقوا بها قلب الإخوان المسلمين في مهجته ، فعميت من غيارها العيون ، وداخت من دورانها الرءوس ، وذهلت بمفاجأتها العقول .. وما من فتنة دبرت لهذه الدعوة كانت أشد عليها وقعًا ، ولا أفدح بها ضررًا ، ولا أسوأ فيها أثارًا من هذه الفتنة .. وكيف لا وقد نشأت من صميم لبها ، ونبتت في سويداء قلبها ، وتشعبت في سائر عروقها فكانت المصيبة فيها كمصيبة الذي قال :

قلبي إلي ما ضـرني داعـي

يكـثر أحــزاني وأوجــاعـي

كيف احتراسـي من عدو لي

وإذا عــدوي بيـن أضـلاعـي

أو علي حد قول الآخر :

كنت من كربتـي أفر إليهـم

فهمـو كربـتي فـأيـن الـفـرار

وقد يتوق بعض القراء – قبل أن يقرأوا ما كتبت عن أحداث هذه الحقبة من الزمن – أن يعرفوا هل قرأ كاتب هذه المذكرات ما كتبه غير عن أحداث هذه الحقبة ؟ وإن الذي كتب عنها لكثير ؟ .. وإلي هؤلاء السادة أقول :

إنني لم أكن حريصًا علي الاطلاع علي ما كتب غيري .. لأنني لا أضع كتابًا في موضوع معين ، فعليَّ في هذه الحالة أن أجمع له كل ما كتب غيري فيه ، حتى لا يكون موضوع الكتاب قد استوفي حقه – وإنما أنا – كما قلت من قبل – إنسان عايشت أحداثًا وشاركت فيها ، فأنا أكتب مذكراتي عن هذه الأحداث ؛ لأسجلها وأسجل بجانبها إحساساتي وتحليلاتي ومشاعري .. وفي هذه الحالة لست مطالبًا بالرجوع إلي غيري . ولهذا فقد لا يجد القراء إلا القليل من الاقتباس من نظرات غيري وآرائهم ، وقد يكون أكثر هذا الاقتباس القليل من خارج نطاق المجتمع الإخواني ، مما قد يكون وضعه بجانب نظرتي إلي أمر معين نفيًا لمعني التحيز من ناحيتي ، أو تأييدًا لتحليل ذهبت إليه لموقف من المواقف بدا في وقت حدوثه غريبًا .. وقد يبدو حرصي واضحًا – في الاقتباس القليل الذي اقتبسه من هذه المصادرة البعيدة عن نطاق المجتمع الإخواني – فيما ذبلت به أحداث هذا الجزء من المذكرات باقتباس فقرات من مذكرات " أجنبي " كان أحد الرءوس التي رسمت الخطوط العريضة والدقيقة في مؤامرة لإجهاض رع قرن من جهود الإخوان المسلمين ، وقد رأي هذا الأجنبي المسئول أن ينشر مذكراته هذه بعد أن أتم هو وزملاءه تنفيذ هذا المخطط الرهيب بأكمله لحساب دولته .

وقد جاء هذا الجزء من المذكرات كثير الأبواب والفصول .. وكان هذا التعدد بهذه الكثرة ، لما في أحداث هذه الحقبة من الزمن من تقلبات وتناقضات ، وتقاربات وتباعدات وتفاعلات ومفاجآت ، مما جعل الربط بين بعضها وبعض أمرًا صعبا .. وقد عملت – ما استطاعت علي أن تجيء إلي مخاطبة العقل ومطالبته بإصدار الحكم علي كل ما حدث منها بعد عرضه عرضًا من صميم الواقع .. ذلك أن المذكرات التاريخية لا يقصد منها تحريك الهمم نحو غرض معين ،وإنما يقصد منها إثبات أحداث وقعت ، علي نفس الصورة التي وقعت بها ، وإلقاء الأضواء علي الظروف المحيطة بها ، وتبصير القارئ بآثارها ونتائجها .. ثم ترك المجال له بعد ذلك لإمعان النظر فيها ، والخروج منها بقاعدة يمكن الإفادة منها في معترك الحياة . ومن أشق ما يعاني الذي يكتب للتاريخ من مشقات ، حين يعرض لأحداث تتصل به شخصيًا ، ولا يكون له عليها شهود يُعَضِدُ بهم نبأه عن هذه الأحداث .. وحين يعرض لأحداث قليل شهودها ، ويري هؤلاء الشهود القليلون أن تغفل هذه الأحداث ، وأن يسدل عليها ستار من النسيان ، وحجتهم في ذلك أن ذلك الإغفال لن يجد من يعترض عليه ؛ إذ هم وحدهم الشهود والوحيدون .. وقد يكون الدافع لهم في ذلك أنهم يرون في هذا الإغفال حفظاً لوقار الهيئة التي ننتسب إليها ، وإبرازًا لها في صورة مشرقة . وهذا لون من التاريخ لا أرضاه لنفسي ، ولا أعتقد أنه سيؤدي في النهاية إلي خدمة دعوة كدعوة الإخوان المسلمين ، أسست علي تقوي من الله ورضوان ، وشقت طريقها حاملة لواء الحق ، ملتزمة منهج الصدق .. ومن أراد أن يخدمها حق خدمتها فلا مندوحة له عن التزام نفس الجادة دون أن يحيد أو يغضي أو يخفي .

وقد ألزمت نفسي هذا المنهج في كل ما أوردت من أنباء أو أحداث حتى ما يمسني منها شخصيًا ، فقد نقلته إلي القراء تمامًا كما وقع .. تاركًا الحكم عليه بالصواب أو بالخطأ لهم .. وإن تنزيه أنفسنا عن الخطأ هو الخطأ بعينه ، لأننا مهما بلغنا من العلم والإيمان والإخلاص فإننا بشر .. وهدفنا الأكبر هو أن نعرض أنفسنا بصوابنا وخطتنا ؛ لتتعلم نحن من أخطائنا وتتعلم أجيال من بعدنا .. وبهذا الأسلوب الواضح ينتفع كل جيل من تجارب الجيل الذي سبقه ، لأن التجارب وضعت أمامه بحذافيرها ، ورأي أسباب ما نجح منها ، وأسباب ما لم ينته منها بنجاح . وكل ما أصاب الإخوان المسلمين من بلاء في هذه الحقبة من الزمان ، إنما كان منشؤه من نفاق مرد عليه فرد من أفرادهم ، استطاع بحكم موقعه في هذه الهيئة العتيدة أن يستغلها في إنجاح عمل كريم متفق عليه لإنقاذ الشعب .. حتى إذا تم العمل بنجاح ، واستوي هو علي العرش ، نسي ما كان يدعو إليه من قبل . ولقائل أن يقول : أنتم المسئولون .. لماذا لم تدققوا فيمن تقدموا لعضوية جماعتكم ؟ وإجابة علي هذا القائل ، نذكره يقول الله تعالي : (        ) ، ونقول له : لا تنس أن ممن كانوا حول رسول الله صلي الله عليه وسلم منافقين .

ولما قضت إرادة الله ، وسبقت كلمته أن يركز لواء التوحيد في الأرض ، وأن يظهر الهدي ودين الحق علي الدين كله ، سلح الداعية الأول بأسلحة لابد منها لتحقيق ذلك ، وكان من الأسلحة الوقائية التي سلحه بها أن أوحي إليه بأسماء المنافقين ممن يتظاهرون بصحبته . وهذه خاصية كان لابد منها للدعوة الأولي لتثبيتها .. أما وقد ثبتت الدعوة فإن هذه الخاصية لا تتكرر . ومحور هذا الجزء من المذكرات هو هذه الشخصية ، وسأقصر حديثي حولها علي ما يتصل منها بالإخوان المسلمين ، ولهذا فسأغفل جوانب لهذه الشخصية قد يراها القراء جديرة بالتناول ، مثل : قوانين التأميم ، ووحدة سوريا و مصر ، وحرب اليمن ، والمغامرات في إفريقيا .. ومع أن هذه الأحداث جديرة بالمناقشة وقد وضعها المؤرخون في جانب المثالب ، فإني أغفلها لخروجها عن موضوعنا . وفي حديثي عن هذه الشخصية فيما يتصل منها بموضوعنا فلن يكون همي منصبًا علي إبراز مساوئها وإخفاء محاسنها ، وإنما سأسوق الأحداث كما وقعت ، وأستنطق كل حدث منها دون أن ألون نطق هذه الأحداث بلون شعوري نحو هذه الشخصية من حب أو بغض .. وليس معني هذا أنني حين أذكر الحدث أغفل تسجيل إحساسي بجانبه ، وإنما المقصود هو أن أسجل الحدث كما وقع تمامًا ، دون أن أنتقص منه أو أزيد عليه أو أتناوله بتغير أو تحوير . وإذا كان في هذا الأسلوب في استنطاق الأحداث وتركها علي سجيتها ما لا يروق لبعض الناس ، وما لا يتمشي مع مشاعرهم ، وما لا يتجاوب مع عواطفهم ، فإنني أدعوهم إلي التذرع بالصبر ورحابة الصدر ، وتوطين النفس علي تقبل كل شيء في سبيل الوصول إلي الحقيقة التي هي غاية آمال كل منصف .

أما نحن – الإخوان المسلمين – فلن يحملنا بغضنا لشخص علي أن نعطه حقه إن كان له حق ، فإن ثنائي علي عمل – يستحق الثناء – أتاه عدوى ، هو إنصاف للحق قبل أن يكون إنصافًا لعدوى .. ومع ذلك فإن الرجال في ميزان التاريخ لا يقوَّمون بعمل أتوه أو عملين أو أكثر .. إنما يقومون بمجمل ما أتوه من أعمال طيلة حياتهم .. كما أن الأعمال تتفاوت قيمتها ، فرب عمل واحد عاد علي المجتمع بخير عميم يَجُبُّ ألف عمل ذميم ، ورب عمل واحد سيء أجهض ألف عمل طيب . وإن ما جري عليه أكثر الناس من التهوين من أمر العدو ، والحط من شأنه ورميه بالغباء .. ليس إلا خدعة يخدعون بها أنفسهم ، ولا تنتهي بهم – في أكثر الأحوال – إلا بمفاجآت مزلزلة .. ولو أنهم تجنبوا سوء التقدير ، والتزموا جانب الحذر لتفادوا كثيرًا من المفاجآت . وأحب أن أكرر هنا بهذه المناسبة ما سبق لي أن أثبته في مقدمة الجزء الأول من هذه المذكرات ، من أننا – نحن الإخوان المسلمين – حين يؤرخون لأحداث تمسهم شخصيًا – من أسلوب يبرزون فيه ما يظهرهم في صورة وضاءة ، ويخفون ما سوي ذلك أو تحريفه . ونحن في ذلك نسير علي ما أخذنا أنفسنا به ، وما عاهدنا عليه من أول يوم ، من أن نكون قرآنيين في كل أعمالنا وتصرفاتنا .. فالقرآن الكريم – كما قلنا في مقدمة الجزء الأول – لم يدع صغيرة ولا كبيرة من أعمال الداعية الأول وأعمال من حوله من صحابته وتصرفاتهم إلا سجلها ، سواء الصالح الرائع منها وما هو دون ذلك ، وعلق علي كل ذلك تعليقاً يدفع الأمة إلي أقوم طريق

وأعجب بعد ذلك لقوم ينتحلون صفة المؤرخين ، ويعرضون عن هذا الأسلوب القرآني في التاريخ ، وراحوا يكتبون ل الإخوان المسلمين مستملين في ذلك خيالهم وأهواءهم ونوازع نفوسهم .. ولا أدري ما الذي يدفعهم إلي ذلك وهم يرون بين أيديهم تاريخًا كتبناه بأقلامنا ، وأثبتنا فيه مفاخرنا كما أثبتنا فيه ما قد يؤخذ علينا .

صحيح أن المراجع لهذا اللون من التاريخ القرآني ل الإخوان المسلمين قليلة نادرة ، في حين أن اللون الآخر كثير ومتنوع وفي متناول الجميع .. وإزاء هذه القضية الخطيرة لا نملك إلا أن نحتكم إلي عقول القراء وأفهامهم ، ونرضاها فيصلاً بيننا وبينهم . وهذه الحقبة من التاريخ التي هي مجال هذا الجزء من المذكرات هي أحفل فترة في التاريخ الحديث بأعمال التعذيب والتفنن فيه ، والتخصص في جرائمه .. ولكنني تركت هذا الجانب – مع بالغ أهميته – إلي مظانه التي صدرت أحيرًا وصارت بين أيدي القراء في كل مكان ، وتناولتها أحكام القضاء التي دمغت العهد بالقهر والظلم والفجور والإرهاب .. وتركت ذلك واكتفيت بذكر أنموذج منه ، ولكني أفضت في ذكر أنواع من أساليب التعذيب العامة التي مست كل فرد .. مما قد يسمي بالتعذيب النفسي ، أو امتهان الكرامة الإنسانية والطبيعة الآدمية . ولكي لا أغش نفسي ، ولكي لا أضلل قرائي ، أضربت في هذه المذكرات عن التعويل علي ما أثر عن هذه الشخصية من أقوال أو مكتوبات ، أرادت هذه الشخصية أن تجعلها وحدها هي المرجع لمن أراد أن يتعرف علي أفكارها وآرائها وبرامجها مثل الدستور المؤقت ، والميثاق وقرارات مارس وغيرها من الخطب والبيانات والمقالات .

وفي الوقت الذي أضربت فيه عن التعويل علي ذلك ، أفضت في الحديث عن الأعمال ، وفصلت في ذكر الأحداث في ذكر الأحداث ، لأن محصلة حياة الرجال هي ما أتوا من أعمال وما أحدثوا من أحداث ،وما خلقوا من آثار لهذه الأعمال ، أما الكتابات والخطب والبيانات والمقالات مالم يترجمها صاحبها إلي أعمال ، فإنها لا تغني ولا تسمن من جوع عند البحث والتمحيص والتقييم . وقد شدد القرآن الكريم النكير علي هذه الظاهرة ، لخطورتها علي المجتمعات .

.. وما من طاغية مهما بلغ جوره ، وعم ظلمه ، وتجاوز طغيانه كل حد – أن يكتب بيده عن نفسه وعن أفكاره وآرائه وما يدينه . ومن هنا يأتي اختلاف الناس في تقييم الرجال ، فأولئك الذين مكنتهم ظروفهم من الاحتكاك بطاغية فعانوا من ظلمه ، واكتووا بنار جوره .. كان حكمهم عليه مستمدًا من أحداث عاشوها وأعمال حضروها .. أما أولئك الذين لم تتح لهم الظروف أن يخبروا الأعمال ، ولا أن يحضروا الأحداث ،وانحصرت خيرتهم به فيما قرأوا من كتاباته وما استمعوا من خطاباته ، وما ملأ سمعهم وأبصارهم من شعاراته ، فسيكون حكمهم مستمدًا من هذه الكتابات والشعارات . وهذا هو السر في أن الأجيال الناشئة – في تقييمها للزعماء والحكام – يأتي تقييمهم مناقضًا لتقييم سابقيهم من الأجيال .. بل تجد في الجيل الواحد نفس هذا التناقض في التقييم .. فهذه فئة أطلعتهم ظروفهم علي الأعمال ، وهذه فئة أخري لم يصل إلي سمعهم وأبصارهم إلا الكتابات والخطب والشعارات .

وهؤلاء الذين بنوا تقييمهم علي الكتابات والخطب والبيانات والشعارات ، يجب انتحال الأعذار لهم ،و يبقي الرفق بهم ؛ لأنهم إنما شهدوا بما عملوا ، وذلك مبلغهم من العلم .. وعذرهم في ذلك ظاهر ملموس ، فلقد كانت كل وسائل الإعلام مسلطة ليل نهار علي أسماعهم وعلي أبصارهم وعلي عقولهم ، وما كان في استطاعتهم أن يفلتوا من هذه الحلقة المفرغة التي ضربت حولهم ، وقد تلقفتهم هذه الحلقة منذ نبتوا أطفالاً ،ولم تدعهم حتى شبوا وصاروا رجالاً .. فأني لأمثال هؤلاء أن يعلموا غير ما علموا ؟ إلا أن تقدم لهم الحقائق الغائبة عنهم ، مقرونة بالأدلة الدامغة ، والبراهين المستمدة من الواقع الذي لا يجحد .. ثم يترك لهم بعد ذلك فرصة يعيدون فيها التقييم كيفما كان هذا التقييم . وتوضيحًا لهذا المعني أنقل من جريدة "" الأهرام " الصادرة في 29/7/1984 في نقاش بين الأستاذ صلاح منتصر المحرر بالأهرام وبين الأستاذ توفيق الحكيم ، فيما يتصل بكتابه " عودة الوعي " الذي نشره بعد وفاة عبد الناصر ، كان لهذا الكتاب ضجة وقت ظهوره ؛ لأن توفيق الحكيم كان من أقرب الناس إلي عبد الناصر وقد منحه أكبر وسام في الدولة لا يمنح إلا لرؤساء الدول .. ولكنه في هذا الكتاب هاجم عبد الناصر واتهمه بأنه سلب الشعب وعيه ، وكان من الأسئلة التي وجهها الأستاذ صلاح منتصر إلي الأستاذ الحكيم السؤال التالي :

س : عندما أشرت إلي الوعي الغائب هل كنت تقصد بذلك وعي الشعب أو وعي المفكرين أيضًا ، وقد كنت واحد منهم ، بل كنت كبيرهم ؟ .

الحكيم : عودة الوعي من مفكرين وأفراد عامين ، ولا تنبغي الدهشة من أنني كنت واحدًا من هؤلاء ... كيف كنت أعلم بكل ما يجري في الميادين المختلفة من سياسية واقتصادية واجتماعية إلا مما تنشره الصحف ووسائل الإعلام وبعض الإشاعات ، وكيف كنت أتنبأ بهزيمة مصر أمام إسرائيل ونحن في جميع الخطب والمقالات نعلن بأننا أقوي عسكريًا من أية دولة في المنطقة ، وأقرأ في الشوارع إعلانات ضخمة تقول بأننا سندخل تل أبيب بعد ساعات ؟ قل لي أنت أي واحد من أي مصدر أكيد للمعلومات كان من الممكن أن يطلعني علي سياسة الدولة واستعداداتها الحربية غير الملفات السرية التي لم تفتح .

وطالبت في " عودة الوعي " بفتحها لنعرف ونحكم ، وقد تفيدني عن مدي مسئولية عبد الناصر الذي أحبه وأثق في وطنيته ، وأعتقد أنه مسئول كحاكم في نطاق عشرين في المائة فقط ، ولكن الذين يعتقدون خطأ أو الاستنتاج أن علاقتي بعبد الناصر لابد كانت قوية وتجعلني مطلعًا علي مجريات الأمور مخطئون ، فأنا لم أجلس معه ساعة واحدة ، وكل علاقتي به أنني كنت قريبًا منه بالقلب والعاطفة ، وليس بالإطلاع علي دخائل أغراضه وسياساته إلا ما نعرفه كلنا من خطبه ومقالات صحفية .. ومن المنطقي أن نقول : إنها سحرت الشعب وأنا منه .

س : هل من السهل علي أي نظام أن يفقد الشعب وعيه ؟ .

الحكيم : من السهل جدًا علي أي نظام تسيطر فيه الدولة علي مصادرة المعلومات ، وفي يدها وحدها مفاتيح الإعلام والاتصال بالجماهير ، أن تشكل هي وعي الجماهير طبقاً للصورة التي تريدها ؛ لأن الوعي عند كل إنسان يتكون في رأسه من الصور التي تعرض له مرئيات أو سمعيات و مطلعات ، ولذلك نري الآن علي المستوي الدولي قيام الدول الصغيرة بالمطالبة بحرية المعلومات التي تسيطر عليها الدول الكبرى القوية بما لها من وسائل إعلام ضخمة هي التي تشكل الوعي السياسي الذي تريده سياسة هذه الدول الكبرى ؛ لتؤثر بها علي هذه الدول الصغرى .

وبعد أن أوردنا هذا التوضيح نرجع إلي السياق فنقول :

إن هذه الظاهرة – ظاهرة مخالفة أعمال الحاكم أقواله – تكاد تكون أخطر ظاهرة تبتلي بها المجتمعات والأمم ، لأنها أسلوب من أحقر الأساليب الغش والتضليل ، وقد لفت نظري إلي مدي خطورتها ما قرأته في سيرة بن عبد العزيز رضي الله عنه من نبأ يقول :

إنه لما توفي سليمان بن عبد الملك ، دعي عمر بن عبد العزيز لتولي الخلافة ، وكان من المتعارف عليه أن يكون أول عمل يقوم به الخليفة الجديد أن يصلي علي جثمان سلفه وأن يوازيه قبره ، فلما طلب من عمر بن عبد العزيز أن يقوم بذلك ، رفض أن يدفن سليمان حتى يصدر ثلاثة كتب .. فعجب الناس وتساءلوا فيما بينهم ، أية أهمية لهذه الكتب حتى جعلت الخليفة الجديد يقدمها علي دفن سلفه ؟! أما هذه الكتب فهي الآتي بيانها :

1 – كتاب إلي مسلمة بن عبد الملك يطلب إلي الرجوع بجيشه ، وقد كان حاصر مدينة القسطنطينية ،وطال الحصار وتفشت في الجيش الأمراض حتى هلك كثير من الجنود من شدة البرد وقلة المؤنة حتى أكلوا الدواب ، وكان سليمان قد حلف ألا يرجع هذا الجيش مادام حيًا .

2 – وكتاب بعزل أسامة بن زيد التنوخي ، وكان علي خراج مصر ، وكان ظلومًا فأمر به أن يسجن في كل جند سنة ، وأن تفك قيوده عند كل صلاة ثم يقيد ثانية .

3 – وكتاب بعزل زيد بن أبي مسلم ، وكان أميرًا علي إفريقية ، وكان غشومًا يتأله ، يسبح ويهلل وهو يأمر بقتل الناس وتعذيبهم .

كانت هذه هي الكتب الثلاثة التي وجد عمر بن عبد العزيز نفسه ملزمًا أن يقدمها علي دفن الخليفة السابق ؛ لأنه رأي في تأخيرها حتى يدفن سليمان إثمًا وتفريطًا في حق أمة أصبح هو مسئولاً عنها .. والذي يعنينا بالذات في سياق حديثنا من هذه الكتب الكتاب الثالث ، فهذا الكتاب يشير إلي المعاني التالية :

1 – أن هذا الحاكم كان ظالمًا .

2 – أنه كان يتأله أي يحرص علي أن يظهر بمظهر التقي والورع .

3 – أنه كان يأمر بقتل الناس وتعذيبهم ، في الوقت الذي يغطي علي ما يجري سرًا من القتل والتعذيب بشعارات يطلقها ويملأ بها الأسماع من التهليل والتسبيح .

وهذا طراز فاجر من الظلم يجمع إلي الظلم لونًا خبيثًا من الغش والنفاق والتضليل ، فالذي يقرأ ويسمع لا يقرأ ولا يسمع إلا شعارات تنادي بالعدل والرحمة والحرية والسلام ، أما الذي يجرب التعامل مع صاحب هذه الشعارات ، فإنه لا يري وراء هذا الستار الزائف إلا الظلم والقهر والتعذيب والاستبداد . وقد رأيت أن أسوق هذا النبأ من أنباء الخليفة الراشد الخامس ، حتى يعلم الكثيرون الذين أعفتهم ظروف معينة من التعامل مع الحاكم موضع حديثنا ، وكانت كل تجربتهم معه الاستماع إلي خطبه وبياناته وشعاراته ، أن عناصر التقييم لم تستكمل حتى قيموا ، وعليهم أن يعيدوا النظر بعد إحاطتهم بكل عناصر التقييم . وقد ظهرت في السوق في خلال فترة الانفتاح كتب عن الإخوان المسلمين ، انتهز كاتبوها خلو أذهان الناس عن أعمال الإخوان المسلمين وتاريخهم البطولي – نتيجة عشرين عامًا من الكبت والتضليل – وراح كل منهم يستملي هواه ، ويكتب تاريخ الإخوان المسلمين علي نسق ما يمليه هذا الهوى .. وكانت الضحية في هذا هو الجيل الجديد من الشعب العربي ، الذي نشأ في ظل إرهاب حكومي حجبه عن الحقائق ربع قرن من الزمان ، وملأ سمعه وبصره وعقله طيلة هذه الحقبة بسيل جارف من الأكاذيب الملبسة ثوب الحقائق .

وإذا كان هذا العهد قد استطاع أن ينفرد بعقول هذه الأجيال الحديثة ، فصاغها الصياغة التي أرادها ، فإن ابتداء عقد السبعينات جاء وقد أوهي من قبضة هذا العهد ، فأتاح فرصة لتنفس الصعداء ، انبري فيها أصحاب الأهواء من الكتاب فأخذوا دورهم في توجيه هذه العقول إلي ما يعملون لحسابه من المبادئ والأفكار ، معتمدين في ذلك علي ما يعلمون من انطواء الإخوان المسلمين علي أنفسهم ، وإغفالهم الأهمية العظمى للنشر والإعلان ، الذي صار في عصرنا هذا أداة سخرية تستطيع أن تبرر الحق باطلاً والباطل حقاً . وملأت هذه الكتب السوق المصري والسوق العربي .. ووجدت من يتلقاها ويرحب بها ويقرأها بشوق ونهم ، فالسوق خال من كتاب واحد عن الإخوان المسلمين .. وهذه كتب بلغت الجرأة بكاتبيها أخرجوا منها كتبًا تخصصت للكتابة حتى عن أسرار الإخوان المسلمين .. ومادام موضوع الكتاب هو الأسرار ، فهو إذن فرصة سانحة لاختلاق الأنباء ، وقلب الحقائق ، وتحريف الوقائع ، ودس السموم .. والهدف المقصود من ذلك كله هو تشويه صورة الإخوان المسلمين ، وإرضاء لهوى الكاتب في خدمة جهات تري الإخوان المسلمين أكبر عائق في طريقها في الشرق العربي والعالم الإسلامي .

وما كان لنا أن ننحي علي مثل هؤلاء الكُتاب بلوم ، فإنهم قد قاموا بعمل يخدمون به مبادئهم ، أما اللوم فإنه يوجه إلينا نحن الإخوان المسلمين ، لأننا تخلفنا عن أداء حق دعوتنا علينا من النشر والإعلان ، وتركنا الميدان خاليًا لغيرنا فاقتحموه في غيبتنا بهمة ونشاط . وتقدمنا أخيرًا إلي السوق – وبعد أن تسممت الأفكار – بالحائق عن دعوتنا ، ولكننا تقدمنا ، بتثاقل وكسل ، كمن يصحو علي ضوضاء من نوم عميق ، فاستيقظ يتمطى ويتثاءب .. وحسبك أن تعلم أن كتابًا ككتابنا هذا لم ينشر عنه إعلان واحد في صحيفة يومية .. كأننا بذلك لا نكتب إلا لأنفسنا . وكتابتنا .. لأنفسنا أمر مطلوب بلا شك وذو نفع عظيم ، فإن جمهور الإخوان المسلمين في العالم اليوم جمهور له قيمة ووزن – كماً وكيفًا – ترجحان كل جمهور آخر ، ومن حق هذا الجمهور أن يكون دائمًا أبصر الجماهير بحائق دعوته ، وتفسير وقائعها وتفاصيل أسرارها – ولكن ليس معني هذا أن تغفل من تعايشهم من الجماهير الأخرى – وهم الذين يكونون الرأي العام – فمن حق هؤلاء أيضًا ومن أوجب الواجبات علينا أن نضع حقائق دعوتنا بين أيديهم حتى لا ينفرد بهم المزيفون والمحرفون والمضللون . نعم ، إننا علي الحق الواضح الصريح ، ولكننا مطالبون بإشهار حقنا وإذاعته والمنافحة عنه ، وإيصال تفاصيله إلي كل عين وكل أذن وكل عقل بجميع وسائل الإعلام .. ولنا في ذلك الأسوة في رسول الله صلي الله عليه وسلم فإنه لم يدع وسيلة من وسائل الإعلام إلا سلكها واستعان بها .. وكان الشعر في عهده صلي الله عليه وسلم هو أقوي وسائل الإعلام ، فلم يتخلف دونه ، فكان له شعراء ينافحون عنه ، ويدافعون عن دعوته .. وكان يسره أن يسمع شعر حسان بن ثابت في الدفاع عن الدعوة ويقول : " اللهم أيده بروح القدس " .

وهناك أيضًا قضية جديرة أن تقابل بالتوجس والحذر ، ولا ندري إلي متى يلاحقنا النفوذ الأجنبي ، فيخرج من باب ليدخل من ألف باب .. فبعد أن حررنا أرضنا من جيوشه ، نري أنفه مندسًا في مشاريعنا ومناهجنا ، ونري إصبعه – من وراء ستار – تحرك الفتن فيما بيننا وتضلل الناشئة من أبنائنا .. ولقد نبهنا في هذا الجزء من المذكرات وفي سابقه بإشارات إلي مثل هذا الأسلوب الماكر .. وفي ختام هذا الجزء وجدنا ما صدق هذه الإشارات وأكدها .. وقد رأينا ما صدَّق هذه الإشارات وأكدها .. وقد رأينا أن ننقل إلي القراء النصوص المؤكدة ؛ حتى تكون نذيرًا للذين يحسنون الظن ، وينقادون – في سذاجة – لكل من يتزيى بزى المؤمنين الصالحين ، فيتلقون دون تفهم ولا تقليب ،و دون أن يمدوا ببصرهم ليروا ما وراء ما يتلقون من دوافع ،ولا إلي ما قد ينتهي بهم هذا التلقي من ضياع وانهيار . ولا يفوتني أن أشيد في هذا الصدد بزمرة كريمة – بعثت الأمل في نفوسنا – من الكتاب والباحثين ، تنبهوا إلي خطورة هذا التحرك المشبوه – ونحمد الله أن كنا أول من تنبه إليه ونبه إليه – نحو محاولات مدبرة للتشكيك فيما نعتز به من تاريخنا ، ولتحطيم إيماننا بأنفسنا وقادتنا .. فتصدوا لهذه المحاولات علي صفحات " الأهرام " تصديا يستحق التقدير والثناء .


وبعــد :

فهذه المذكرات يظلمها من اقتناها ليقرأها مجرد قراءة عابرة ، أو شغلاً لفراغ وقت ، فلقد أصدرتها لتدرس دراسة متأنية ، يخرج الدارس منها بخطة عمل في حياتنا التي نعيشها اليوم ، فهي – كما قلت من قبل – ليست إلا خلاصات تجارب وعصارات عقول .. كما أنها طرق مبتكرة لإنشاء مواقف ومواجهة مأزق ، وأساليب بارعة للتعامل مع النفوس ، وبرامج كاملة لتربية هذه النفوس ، وامتحانات – من واقع الحياة – للكشف عن معادن النفوس ، وخطط لإحباط مكايد ، ووسائل لتفادي عواصف ، ومثل حية في النبات علي الحق ، والاعتصام بالصبر ، والضحية بالمال والنفس .. ورواية كاملة الفصول – مثلت علي مسرح الحياة – لوقوف الحق الخالص الأعزل أمام قوي الباطل الزائف المدجج . ولقد كنت في مقتبل أيام اشتغالي بالدعوة الإسلامية أقرأ الحديث الشريف الذي يقول فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم : " إذا قرأتم القرآن فابكوا ، فإذا لم تبكوا فتباكوا " فأعجب لم يطالبنا الرسول صلي الله عليه وسلم بالبكاء حين نقرأ القرآن ؟ ما الداعي للبكاء ؟ .

فلما شببت وقرأت سيرته صلي الله عليه وسلم ووجدت هذه السيرة سلسلة من المآسي والمحن والآلام والتضحيات ، وعلمت أن هكذا سيرة كل نبي ورسول ، والقرآن يحكي لنا سيرة هؤلاء الصفوة من الدعاة وما لاقوا من أهوال .. فكان حقاً علي من يقرأ هذه السير أن يبكي إذا كان يفقه ما يقرأ . وهكذا سير من أرادوا أن يجددوا دعوة الأنبياء ، فسوف ينالهم ما نالهم ، وجدير بمن يقرأ عن أحداثهم أن يتناولها بسمعه وبصره وقلبه ، حتى يقرأها ويفقهها ويحسها .. لعل ذلك يحرك في نفسه خامد الهمم ، ويدفعه إلي اقتفاء الآثار علي بصيرة وهدي ونور .

محمود عبد الحليم

الإسكندرية في : 25 ذي القعدة 1404هـ

22 أغسطس 1984م


المـدخـل


من أشق الأمور علي النفس ، أن يتناول إنسان مثلي بالكتابة موضوعًا يتصل بالإخوان المسلمين وثورة 23 يوليو 1952 ، ذلك أن تناول هذا الموضوع يمض النفس ، ويهيج الشاعر ، ويثير الأحزان . وإذا كان الكاتب مجرد مؤرخ – مدي اتصاله بالأحداث التي يكتب عنها أنه يراقب هذه الأحداث عن كثب 0 فإن تأثره بما يؤرخ له ويسجله - إن تأثر – يكون سطحيًا ومؤقتًا ، أنما إذا كان المؤرخ أو الكاتب وثيق الصلة بالأحداث ، فإن تأثره يكون عميقاً وعنيفًا وأليمًا .. فكيف بمن يكتب عن أحداث كان هو ممتزجًا بها بل كان هو جزءًا منها ، بل كان من حصادها ؟! لو كان الرجال الذين ظهروا علي المسرح في ثورة 23يوليو 1952 رجالاً غرباء عن الإخوان المسلمين لا تربطهم بهم رابطة ، ولا تصلهم بهم صلة ، لما جرت الأمور علي النحو الذي جرت عليه ، ولما كانت الأحداث قد توالت علي الصورة الكتيبة التي حدثت بها ، والتي انتهت بالكوارث التي حاقت بالإخوان المسلمين وبالتالي بالبلاد ، فأوردتها موارد الدمار المادي والخلقي ، ثم جللت بعد ذلك هامها بالعار الذي لا ينسي علي مر الزمن ، حيث دنست أرضها الطاهرة أقدام شذاذ الآفاق ، وطريدي الإنسانية .

لم يخل التاريخ من مآس لازالت الأجيال تتناقلها جيلاً بعد جيل ، والقلوب تقطر حزنًا واشمئزازًا كمأساة البرامكة في عهد هارون الرشيد – ولكن البرامكة علي كل حال لم يكونوا أكثر طراء غرباء قدموا إلي ملك ثابت الأركان ، عريق في الملك ليكونوا في خدمته ، مستظلين بوارف فضله ، ملتمسين من واسع كرمه .. فإذا حدَّثت هؤلاء أنفسهم أن يتطاولوا علي سيدهم ، أو إذا أحس هارون بأنهم يتطلعون أن ينازعون سلطته ، فقد يتاح له وجه عذر إذا هو عصف بهم . أما مأساة الإخوان مع الثورة فكانت عكس ذلك تمامًا فلقد حمل الإخوان عبء تربية الشعب ربع قرن من الزمان ، استطاعوا خلاله أن يغيروا مفاهيمه ، وأن يوقظوا وعيه ، وأن يطهروا نفسه ، وأن يلهبوا مشاعره .. لقوا في سبيل ذلك أشد ما يلقي المجاهدون ، وضحوا بأموالهم وأنفسهم ودمائهم وبشبابهم وشيبهم حتى يئس أصحاب السلطان أن يبلغوا منهم أي مبلغ .. وسقط في أيدي الطغاة أخيرًا ، فطأطئوا الرءوس للدعوة الإسلامية في شخص الإخوان .. ودانت البلاد منذ بدأت الخمسينات لهم .. وطابت النفوس الشعب إلي الحكم الإسلامي ، وصار مفهومًا أن المسألة لم تعد أكثر من مسألة وقت .

وخطب أعداء الإخوان – وهم أصحاب السلطة – ود الإخوان ، ولكنهم وجدوا من الإخوان عزوفاً عنهم وعن مظاهر سلطتهم .. لأن الإخوان يعلمون أن اختلاط الحق بالباطل فتنة ، يضل فيها الناس فلا يميزون الحق من الباطل .. ولهذا عزف الإخوان ، وتوفروا علي إعداد العدة لحكم إسلامي خالص . ولم يكن هدف الإخوان في يوم من الأيام الاستمتاع بأبهة الحكم أو التباهي بمظاهر السلطة .. ولو كان هذا هدفهم لاختصروا الطريق ، ولأعفوا أنفسهم من كثير مما بذلوا من جهد ووقت ومال ودم .. فلقد تربع في دست الحكم في مصر من كان هو وشيعته التي تدين له أقل وأدني من شعبة واحدة من شعب الإخوان علمًا ومواهب وثروة بالرجال .. ولكن هدف الإخوان الذي أضناهم وأسهر ليلهم ، كما دوخ أعداءهم وأقض مضاجعهم ، أنهم يريدون أن تحكم الأرض بوحي السماء .. وهو مالا يرضاه حاكم مستبد ، ولا سلطان مفسد . وقد قدمت في صفحات ماضية أن الشعب المصري كانت أنظاره مشدودة إلي الإخوان ، يترقبون اللحظة القريبة التي تنتقل فيها مقاليد الأمور إلي أيديهم ، وأن المراقبين الأجانب كان مسيطرًا عليهم نفس الشعور ، حتى نشرت جريدة النيويورك تيمس في أحد تعليقاتها في ذلك الوقت قولها : " لا شك أن الإخوان المسلمين قوة لا تستهان بها " وقالت : " إنهم آثروا عدم خوض المعركة الانتخابية (سنة 1952) حتى يتم لهم تنظيم صفوفهم بالصورة التي يعتقدون أنها كفيلة بتحقيق أهدافهم " .

وهذا هو ما كان الإخوان – في حقيقة الأمر – متوفرين عليه تلك الأيام – فلقد كانوا يشعرون أن انهيار أعدائهم الذي بدأت بوادره في عام 1950 قد وصل إلي أقصاه عام 1952 ، وليس أدل علي ذلك من التخبط الذي أدي إلي توالي ثلاث وزارات علي الحكم في أقل من نصف عام . كان الإخوان مطمئنين إلي صفوفهم في الشعب ، وتكويناتهم المدنية والعسكرية ، وإلي تهيؤ الجو لاستقبال الحكم الإسلامي . ولست أدعي إلمامًا بتفاصيل ما يتصل بالتكوينات العسكرية ل الإخوان ، فقد كنت أولا في ذلك الوقت – بحكم عملي الشخصي – بعيدًا عن القاهرة في الصعيد ، ثم إنني كنت بطبيعتي – كما قدمت – عزوفًا عن التدخل فيما لم أدع إليه .. ولذا فإني أترك الحديث عن ذلك إلي الأخ الذي كان مسئولاً عن هذه الناحية وهو الأخ الكريم اللواء صلاح شادي شيئًا مما نشره عن لسان صحفي سامي جوهر – رحمه الله – في الطبعة السادسة من كتابه " الصامتون يتكلمون " وهو حديث ليس بالجديد عليّ فقد كان حدثني به وبأكثر منه الأخ الأستاذ صلاح = أكرمه الله – في الأيام الأولي للثورة .

قال الأستاذ صلاح في هذا الكتاب :

" في أواخر عام 1949 خلف حسين سري باشا إبراهيم عبد الهادي في رياسة الوزراء وأصدر قرارًا بعودة جماعة الإخوان المسلمين .. وحضر لي ضابط بوليس من القنطرة هو اليوزباشي – وقتئذ – عبد الفتاح غنيم لزيارتي .. وأبلغني برغبة المرحوم الصاغ – وقتئذ – صلاح سالم في اللقاء معي .. فرحبت .. وتم اللقاء . وحدثني صلاح سالم عن رغبته تشكيل الضباط الذي كان منضمًا ل الإخوان المسلمين قبل قرار حلها بإعادة العلاقات مع الجماعة .. فأعلنته ترحيبًا بذلك مادام الهدف واحدًا وهو خدمة الوطن ، والالتزام بشرع الله نظامًا ، وطرد المستعمر ، فوعدني أن يقابلني في موعد آخر بالمسئول عن تنظيمهم . وفعلا تحدد الموعد والتقينا في مكتب المرحوم محمد العشماوي باشا ، وحضر في هذا اللقاء جمال عبد الناصر بصفته المسئول عن تنظيم ضباط الجيش . وكنت ألقاه لأول مرة .. وإن كنت سبق أن سمعت باسمه من المرحوم محمود لبيب الذي كان وكيلاً لجماعة الإخوان علي أنه أحد أعضاء تشكيل الإخوان في الجيش هو البكباشي عبد المنعم عبد الرءوف .. وهو التشكيل الذي عرف بعد ذلك باسم تشكيل الضباط الأحرار .. وكان محمود لبيب هو الذي اختار لهم هذا الاسم ، حتى يبتعد تنظيمهم عن أعين الحكومة إذا عرف أنه تشكيل مرتبط بجماعة الإخوان . وتحدثنا طويلاً في هذا اللقاء .. وكان رأي عبد الناصر أن عبد الرحمن السندي غير مقنع للضباط ، وأنه لا يستطيع أن يجمع ضباط الجيش علي الفكرة الإسلامية ، وتحدثت معه علي أن أهدافنا جعل الإسلام هو النظام الحاكم .

وتكررت لقاءاتنا .. وبدأ التعاون بيننا في كل شيء .. حتى كان صلاح سالم يشتري لنا أسلحة من العريش للكفاح المسلح في حرب القتال ، وأذكر أنه بعد قيام الثورة أعاد لنا صلاح سالم مائتي جنيه دفعها للمرحوم عبد القادر عودة ثمن أسلحة لم يكن أتم شراءها . واتفقنا مع جمال عبد الناصر أن يقوم الضباط من تنظيمه بتدريب الشباب من الإخوان علي استخدام الأسلحة ، فاختار الصاغ – وقتئذ – مجدي حسنين ، وكان ضابطًا في مدرسة الأسلحة الخفيفة بثكنات الجيش في العباسية . وفي يوم 26 يناير 1952 .. يوم حريق القاهرة .. جاءنا عبد الناصر مذعورًا ، وطلب منا البحث عن مكان لإخفاء الأسلحة فيه ، كان يخفيها في مدرسة الأسلحة الخفيفة عند مجدي حسنين .. وأنه يخشي أن تقوم السلطات بتفتيش المدرسة فتعثر عليها . وفي الحال تم الاتفاق .. وقام الإخوان – رحمها الله – منير الدلة وحسن العشماوي ومعهما الإخوان عبد القادر حلمي المستشار حاليا بالكويت وصالح أبو رقيق المستشار بالجامعة العربية بالتوجه بسياراتهم إلي بوابة رقم (6) حيث كانت ينتظرهم مجدي حسنين ، وقاموا بنقل الأسلحة داخل سياراتهم إلي منزل عبد القادر حلمي في أول شارع الهرم .. وفي المساء حضر جمال عبد الناصر ونصح بنقل الأسلحة إلي الريف ، فوقع الاختيار علي عزبة حسن العشماوي في الشرقية .. ورسم جمال عبد الناصر بنفسه كيفية تشييد مخزن السلاح وطلب أن يكون تحت الأرض بمسافة ثلاثة أمتار ، وتغطي جدرانه بمادة الأسبتوس العازلة من الحريق والرطوبة .

وحفرنا المخزن أسفل جراج في العزبة .. ولم يكن يعرف مكانه سواي أنا والمرحوم حسن العشماوي والمرحوم منير دلة وصالح أبو رقيق وعبد القادر حلمي .. وطبعًا جمال عبد الناصر .. وبقيت الأسلحة بالمخزن .. وعندما قامت الثورة وفي إحدى جلساتنا مع جمال عبد الناصر سألناه عما إذا كان يريد الأسلحة فطلب أن تبقي في مكانها . واستمرت الاتصالات بين عبد الناصر وبيني قبل قيام الثورة .. وقبل قيام بأيام جاءني وأبلغني أنه يفكر في التعجيل بالقيام بالثورة ؛ لوجود عدد كاف من الضباط المنضمين لتنظيمه في القاهرة .. وأنه يمكنه بواسطتهم عمل حاجة .. وطلب أن تعقد جلسة للتشاور .. فحددت له لقاءّ في شقة عبد القادر حلمي أحد الأعضاء البارزين بالجماعة وعضو مكتب الإرشاد . ويقول الأخ صالح أبو رقيق تكملة للحديث : كان ذلك قبل قيام الثورة بليلتين ، حضر جمال عبد الناصر ومعه كمال الدين حسين إلي شقة عبد القادر حلمي ، وهي في الطابق الثاني بالمنزل الذي كنت أقيم فيه في أول شارع الهرم بالقرب من جامع سيدي نصر الدين . وقد شهد هذا المنزل كثيرًا من الأحداث .. إنني كنت أقيم بالطابق الأول منه وعبد القادر في الطابق الثاني .. وقد أخفينا فيه حسين توفيق عن أعين البوليس تمامًا بعد اتهامه باغتيال أمين عثمان .. وهي القضية التي اتهم فيها الرئيس أنور السادات أيضًا ، وفي هذا المنزل تكررت اجتماعات عبد الناصر ورجال الثورة والإخوان المسلمين بعد الثورة . جاءنا عبد الناصر وكمال الدين حسين واجتمعنا بنا .. صلاح شادي وأنا والمرحوم حسن العشماوي وفريد عبد الخالق وعبد القادر حلمي .. وأبلغنا اعتزامه القيام بالثورة خلال أيام ، فطلبنا منه الانتظار لحين استطلاع رأي المرشد ، فطلب استطلاع رأيه أن يتولي الإخوان الحكم بعد نجاح الثورة .. وكان المرشد في ذلك الوقت موجودًا بالإسكندرية .. ولكنه ألح لمعرفة رأيه بسرعة ، معلنًا أنه سيؤجل الحركة يومًا لهذا الغرض .

وفعلاً سافرت مع حسن العشماوي وعبد القادر حلمي وفريد عبد الخالق إلي الإسكندرية وقابلنا المرشد فطلب منا إبلاغ جمال عبد الناصر موافقته وتأييده وحمايته للثورة ، كما طلب إبلاغه أنه ليس من المصلحة أن تظهر للثورة علاقة بالإخوان ؛ حتى لا يتدخل الانجليز لمقاومتها ، واقترحت أن يتولي الحكم علي ماهر باشا علي أساس أنه غير حزبي ، وكان رئيسًا للوزارة وقت وفاة الملك فؤاد واستطاع أن يقوم البلاد وتطمئن له جميع الجهات . وعدنا إلي القاهرة واتصل صلاح شادي بعبد الناصر ودعاه للحضور إلي شقة عبد القادر حلمي في صباح اليوم التالي .. يوم 22 يوليو .. وجاء عبد الناصر ومعهكمال الدين حسين وأبلغناه الرسالة . ويقول صلاح شادي مكملاً الواقعة وقبل أن ينصرف جمال عبد الناصر انتحيت به جانبًا ، وطلبت أن يقرأ معي الفاتحة أن تكون الحركة لله ولإقامة شرع الله .. فقراها معي .. وتعانقنا وانصرف . وقامت الثورة .. وفي الساعة الثالثة من صباح يوم 23 يوليو جاءني حسن العشماوي وأبلغني أن جمال عبد الناصر اتصل به تليفونيًا لعدم وجود تليفون في منزلي ، وطلب منه أن يحضر إليّ ليكلفني بالذهاب إلي منزله لإبلاغ أسرته أن كل شيء تم بنجاح .. وفعلا ذهبت بسيارة حسن إلي منزل عبد الناصر بكوبري القبة .. وكانت السيدة زوجته وشقيقه عز العرب علي ما أعتقد بطلان من الشرفة في قلق .. فنقلت لهما رسالة عبد الناصر وانصرفت .

ويستأنف صالح أبو رقيق حديثه عن الأيام الأولي للثورة ويقول :

ونجحت الثورة .. وقام رجال الإخوان بحراسة المرافق ليلة الثورة .. وفي الأيام التالية اتصل كمال الدين حسين بصلاح شادي وأبلغه أن قوات بريطانية ستتحرك من السويس إلي القاهرة .. فأرسلنا مجموعة من الإخوان الفدائيين إلي الكيلو 96 لعرقلة تقدم الانجليز .. وظلوا يحرسون الطريق عدة أيام . وتم أول لقاء بين عبد الناصر والمرشد حسن الهضيبي يوم 28 يوليو .. حضر عبد الناصر إلي منزلي ، حيث كان ينتظره المرشد وعبد القادر حلمي وحسن العشماوي وصلاح شادي .. وقال عبد الناصر ونحن نصمد درجات السلم :

أنا خايف علي الأولاد من نشوة النصر .. ووجدتني أقول له بسرعة : نصر إيه .. ده لسه المشوار طويل .. عايزين ننظف البلد ونطهرها من الفساد وتقوم المشروعات .. وعندما وصلنا .. ودخل عبد الناصر وصافح المرشد فوجئت به يقول للمرشد :

" قد يقال لك إن إحنا اتفقنا علي شيء .. إحنا لم نتفق علي شيء " .

وكانت مفاجأة .. فقد كان اتفاقنا أن تكون الحركة إسلامية ولإقامة شرع الله .. واستمرت المقابلة في مناقشات أنهاها المرشد بقوله لجمال عبد الناصر :

" اسمع يا جمال .. ما حصلش اتفاق .. وسنعتبرهم حركة إصلاحية .. إن أحسنتم فأنتم تحسنون للبلد .. وإن أخطأتم فسنوجه لكم النصيحة بما يرضي الله " . وانصرف جمال . وقال لنا المرشد وكأنه كان يستطلع الغيب : " الراجل ده مافهش خير ، ويجب الاحتراس منه " . وكانت الوزارة قد شكلت برياسة علي ماهر كما اقترحنا ، لكن بعد شهور جاءنا جمال عبد الناصر يشكو من علي ماهر ومماطلته في إصدار قوانين الإصلاح الزراعي ، وسأل المرشد عمن يتولي الحكم بعده .. وكان رأينا أي شخص صالح " . ويضيف صلاح شادي قائلاً :

وتم تشكيل وزارة برياسة محمد نجيب .. وطلب منا جمال عبد الناصر الاشتراك في الوزارة ، استدعاني أنا وحسن وكان يوسف صديق حاضرًا .. وفاجأنا بقوله : " أنا عايز ثلاثة من الإخوان يدخلوا الوزارة ، فرد يوسف صدَيق : " إحنا هنخليها فقهاء " .. فقال له حسن العشماوي : ما لهم الفقهاء .. ما له واحد زى الشيخ الباقوري بغض النظر عن الموضوع . وقال عبد الناصر : أنما كنت اقترحت أنك تدخل الوزارة – والكلام كان موجها لحسن العشماوي – أنت و منير الدلة ولكن الزملاء معترضين لصغر سنكم .. وإحنا عايزين ترشحوا لنا اثنين أو ثلاثة . وذهبنا إلي المرشد .. واجتمع مكتب الإرشاد واتخذوا قراراً بعدم الاشتراك في الوزارة بعد مناقشات طويلة .. فقد رأي البعض أن اشتراكنا في الوزارة سيجعلنا مبصرين بكل الخطوات التي تقوم بها الحكومة .. ولكن المرشد كان له رأي آخر وهو أنه : لو حدثت أخطاء من الحكومة فإنها ستلقي علي الإخوان فضلاً عن أن رسالة الإخوان كما كان يراها المكتب في تلك الأونة هي عدم الزج بأنفسهم في الحكم .

أبلغنا جمال عبد الناصر يقرر المكتب ، فطلب من المرشد أن يرشح له أشخاصًا آخرين من غير الإخوان ، فرشح له أحمد حسني وزكي شرف ومحمد كمال الديب إلا أن عبد الناصر اختار أحمد حسني فقط كوزير للعدل ، استطاع الاتصال بالشيخ الباقوري وكان عضوًا بمكتب الإرشاد وأقنعه بالخروج علي قرار المكتب وقبول الوزارة وزيرًا للأوقاف فقبل . واتصل بي كمال الدين حسين وطلب مني محاولة إقناع أعضاء المكتب بقبول دخول الشيخ الباقوري الوزارة حتى لا يحدث صدع بين الحكومة و الإخوان ، فذهبت إلي مقر الجمعية لإبلاغ المرشد بحديث كمال الدين حسين لي ، فوجدته في حالة ثورة علي صالح أبو رقيق ؛ لأنه أبلغه أن الباقوري خالف قرار المكتب .. وبعد ساعة أذيع تشكيل الوزارة ، وخرج المرشد إلي منزله ، وعند خروجه قابله الصحفيون وسألوه :

- هل عرضت عليكم الوزارة ؟ .

- فأجاب : لقد عرضت علينا واعتذرنا .

وأغضب هذا التصريح جمال عبد الناصر .

ثم يكمل صالح أبو رقيق روايته نقلاً عما سمعه من المرشد فقال :

جلس المرشد في صالون منزله حزينًا لخروج الباقوري علي إجماع مكتب الإرشاد ، وقرب منتصف الليل وصل الشيخ الباقوري إلي منزل المرشد وصافحه وقبل يده وقال :

أنا تصرفت .. أتحمل نتيجة تصرفي ، وأنا مستعد أن أستقيل من مكتب الإرشاد . ورد الهضيبي : لسه ؟ وقال الباقوري : ومن الهيئة التأسيسية .. ورد الهضيبي : لسه ، وقال الباقوري : ومن جماعة الإخوان المسلمين . ورد الهضيبي : هكذا يجب . وطلب الشيخ الباقوري ورقة وكتب استقالته من جماعة الإخوان المسلمين .. وانصرف .. وفي صباح اليوم التالي توجه المرشد إليه في مكتبه بوزارة الأوقاف مهنئًا له . فقال له الباقوري :

اعذرني يا مولاي .. إنها شهوة نفس .

فرد المرشد : تمتع بها كما تشاء .. اشبع بها .

وكان هذا أول صدام بين عبد الناصر و الإخوان المسلمين .. أراد عبد الناصر شيئًا .. وكان يعتقد أنه إذا أراد فيجب أن يطاع .. أراد أن يدخل الإخوان الوزارة .. وقال له مكتب الإرشاد : " لا " ، الكلمة التي تثيره دائما .. ولكن استمرت العلاقات فاترة بين عبد الناصر وبين الإخوان . ثم جاء الصدام الثاني أو كلمة " لا " الثانية التي قالها الإخوان لعبد الناصر .. يقول صلاح شادي : في أحد الأيام في أوائل عام 1953 اتصل بي جمال عبد الناصر وقال لي : يا صلاح .. أنا باعت لك إبراهيم الطحاوي وسيحدثك في موضوع هام ، وعايز رأيك ورأي جماعة الإخوان فيه . وفعلا جاءني إبراهيم الطحاوي ، وقال لي : إن الرئيس عبد الناصر يريد من جماعة الإخوان أن تنصهر داخل هيئة التحرير ويصبحا تنظيمًا واحدًا .

وقلت له : مش ممكن .. إن معني هذا القضاء علي جماعة الإخوان .. وهيئة التحرير ما هي إلا حزب سياسي ونحن جماعة دينية . وفوجئت به يقول لي : ما هو الرئيس عايزك تمسك هيئة التحرير . وأجبته : إنني لا أبحث عن مصلحة شخصية .. لكن من الخطأ أن تطلب منا ذلك .. وانصرف إبراهيم الطحاوي .. وبطبيعة الحال أبلغ الرسالة إلي عبد الناصر الذي طلب أن يعقد معنا جلسة عمل في منزل عبد القادر حلمي .. المنزل الذي شهد كثيرًا من الاجتماعات . وحضر جمال عبد الناصر ومعه عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين والمرحوم عبد الحكيم عامر وأحمد أنور الذي كان وقتئذ قائدًا للبوليس الحربي .. وكان يحضر هذا اللقاء من الإخوان أنا وصالح أبو رقيق وفريد عبد الخالق وبطبيعة الحال عبد القادر حلمي الذي دعانا لتناول الغداء .. وبعد أن انتهينا منه جلس عبد الناصر يتحدث عن هيئة التحرير وعن رغبته أن تنصهر داخلها جماعة الإخوان المسلمين لتكون تنظيمًا قويًا .

ويرد صالح أبو رقيق ويقول : شوف يا جمال .. الحكومة أيًا كانت مادامت في الحكم وأرادت تكوين حزب فمصيره الفشل .. سيولد الحزب ميتًا .. لأن الذين سيضعون إلي عضويته ويسارعون إليها هم أعداؤها قبل أنصارها وذلك خوفاً منها .. وعندك تجربة إسماعيل صدقي في سنة 1930 خير دليل علي ذلك .. فعندما تولي الحكم شكل حزب الشعب وزور الانتخابات ونجح مرشحوه .. ولما خرج من الحكم انتهي حزب الشعب وتلاشي .

وجنح جمال ، وقال بخبث : أنتم عصاه . فناداه فريد عبد الخالق ويقول : قلت له : يا جمال ، إنني أري الجو ينذر بصدام ليس من مصلحة أحد في البلد أن يقع .. وكنت بذلك أشير إلي رغبته في أن تنصهر جماعة الإخوان داخل هيئة التحرير ، وكذلك لعدة مواقف اعتبرناها عدائية ، وكانت مظاهرها حذف الرقابة جميع بيانات الجماعة وعدم نشرها في الصحف .

فأجابني : أعملكم إيه ..ما أنتم عصاه .. تعجبت لرده ، وقلت له مستنكرًا :

عصاه !! دي كلمة كبيرة يا جمال .. عصاه ليه ..هل نحن نقف موقفًا عدائيًا من الأهداف الوطنية للثورة ومصلحة البلد ؟! إننا نريد تحقيق الديمقراطية وعودة الحياة النيابية .

فأجابني بسرعة : ما أنتم كده بتحرجوني .. طالبين انتخابات حرة .. يعني عايزين النحاس باشا يرجع تاني وتعود نفس الأوضاع .. أنا بقول لكم : ادخلوا هيئة التحرير وتولوا أنتم أمرها ، وتصبح هي مسرح نشاطكم .. وأنتم بترفضوا .. عايزين أيه أمال ؟ فقلت له : اسمع يا جمال .. إحنا بنصارحك .. الديمقراطية لا بديل لها ، وأنت يجب أن تكون عندك الثقة في أن الشعب سيتمسك بك ولن يرضي عنك بديلاً .. أما أن تتشكك في ذلك فهذا أمر غريب فعلاً .. لماذا تتشكك ؟ .. أما بالنسبة لدخولنا هيئة التحرير فليس هناك تعارض من أن تقود أنت التنظيم السياسي عن طريق هيئة التحرير ونبقي نحن دعاة للتربية الإسلامية ، أما رأيك أن تندمج الجماعة مع هيئة التحرير فهذا بالضبط أشبه بمن يضع زيتًا وماءً في زجاجة ويحاول أن يمزجهما ببعض .. مش ممكن أبدًا يمتزجان .. ومن الأفضل ل الإسلام وللبلد ولك أن نبقي بعيدين عن السياسة ومؤيدين لك كحركة إسلامية .. والتزام الحكمة وضبط النفس يمكن أن يكون جسرًا لتعبر من فوقه الأزمة .. وليس من هدفنا نهائيًا أن ننافسك في الحكم فنحن لا نريد الحكم .. ولذلك لا أري أي سبب للتصادم وعدم تقبل النصيحة ، وخاصة أن المرشد قال لك عند بدء الخلاف بالحرف الواحد : " يا جمال ، عندما تشعر بضيق من الإخوان بلغني وأنا أسلمك مفتاح المركز العام ونقفلها حتى لا تقع فتنة " .

وصمت جمال للحظات .. وأحسست أنه لا يجد ما يرد به .. وفجأة تكلم ليكشف لي بما في داخل نفسه وقال : اسمع يا فريد .. أقولك اللي في نفسي وأخلص .. أنا عندي فكرة مستولية عليّ ولا أعرف إذا كانت غلط ولا صح .. أنا عايز في خلال سنتين ثلاثة أوصل إلي إني أضغط علي زر .. البلد تتحرك زى ما أنا عايز .. وأضغط علي زر .. البلد تقف . فضحكت وقلت له : إحنا بقالنا 27 سنة بنعمل لتربية نشء من المسلمين يفهم الإسلام فهمًا متكاملاً ويعمل علي هدي منه .. ولا نقول رغم ذلك : إننا بلغنا درجة إن إحنا نجمع الإخوان في لحظة ونفرقهم في لحظة .. اسمع يا جمال : أنت بتفكر وكأنك ضابط في معسكر يصدر الأمر فينفذ في الحال .. لكن تغيير مسار المجتمعات لا يمكن إلا في جو من الحرية و الديمقراطية ؛ يسمعان بازدهار المفاهيم الصحيحة والقيم السليمة . فأصر علي رأيه قائلاً : الحقيقة ده اللي سيطر علي تفكيري .

فأتممت حديثي قائلاً : إذا كان كده .. فلا فائدة من نصيحتي أو نصيحة غيري ، وهذا شيء مؤسف جدًا .. والذي سيحكم لك أو عليك هو التاريخ . وانتهي بذلك حديثنا .. وانصرف جمال مع إخوانه – وبقينا نتناقش ونضحك عن رغبته أن يضغط علي زر فتتحرك البلد كما يريد .. ويضغط علي زر فتقف البلد – كنا نعتقد أنه يحلم ولكنه استطاع فعلاً أن يحقق الحلم بعد ذلك .

• مفاوضات الإخوان والانجليز :

وفي فبراير 1953 بدأ الحديث عن إجراء مفاوضات مع الانجليز للجلاء عن مصر .. ولعب الإخوان المسلمون دورًا في هذه المفاوضات يشرحه صالح أبو رقيق .. واستغله عبد الناصر بعد ذلك في التشهير بالإخوان واتهامهم بالعمالة والتعاون مع الانجليز .. يقول صالح :

في شهر فبراير 1953 جاءني المرحوم الدكتور محمد سالم ، وأبلغني برغبة السفارة البريطانية في أن يلتقي بعض المسئولين من جماعة الإخوان المسلمين بمستر إيفانز المستشار الشرقي بالسفارة البريطانية لاستطلاع رأي جماعة الإخوان فيما يرتضونه لنجاح مفاوضات الجلاء التي ستبدأ مع منطقة القتال في حرب عصابات . وأبلغت المرشد أنا ومنير دلة للاتصال بإيفانز .. وفعلاً اجتمعنا به ، وعدت للهضيبي أنقل له صورة كاملة عما دار بيننا من حوار .. فطلب مني أن أكتب تقريرًا مفصلاً وتسليمه له في اليوم التالي .. وعدت إلي منزلي فكتبت التقرير وسلمته للمرشد في اليوم التالي فاتصل تليفونيا بعبد الناصر الذي سارع إلي منزل الهضيبي وقال بالحرف الواحد بعد أن قرأ التقرير : " كويس . ده أنتم استطعتم الوصول إلي حاجات لم يكن من الممكن أن نوصل لها " – وكان إيفانز ينتظر ردًا علي عرضه من المرشد بنفسه ، فأبلغ المرشد رغبة إيفانز لعبد الناصر الذي طلب منه مقابلته . وفعلاً تمت مقابلة المرشد بإيفانز يوم 9 فبراير في منزل المرشد ، وبعد أن خرج إيفانز اتصل المرشد مباشرة بعبد الناصر وأبلغه في مقابلة تمت بعد ذلك في منزل منير دلة كل تفاصيل المقابلة .. وتوثقت بعد ذلك اتصالات إيفانز بالإخوان بعد أن بدأت المباحثات الرسمية التي تعثرت أكثر من مرة .. حتى انتهت بتوقيع الاتفاق النهائي في سبتمبر 1954 . ويضحك صالح في ألم ويقول : ومن الغريب أنه عندما اشتد الخلاف بين عبد الناصر والإخوان بعد ذلك أخذ يُشَهْر بهم علي أساس أنهم كانوا يتصلون بالانجليز بدون علمه وأنهم أبدوا تنازلات مما جعل موقفه محرجًا خلال المحادثات .. وجنَّد لادعائه هذا كل الصحف وأغلب الأقلام الصحفية .. وصدقه الناس بطبيعة الحال .. ولم يعلن أبدًا أنه كان علي علم بهذه الاتصالات وأنها تمت بموافقته وتشجيعه .. تمامًا كما فعل مع الأستاذ مصطفى أمين بعد ذلك باثني عشر عامًا عندما كلفه بمعاودة الاتصال برجال السفارة الأمريكية ، ثم قدمه للمحاكمة أمام محكمة الدجوى بتهمة التجسس .. وكان يكفي لتبرئته أن يقول عبد الناصر : إن تلك الاتصالات كانت أمره كما قرر مصطفي أمين .. إلا أن عبد الناصر بعث خطابًا إلي المحكمة ينفي تكليفه مصطفى أمين بذلك .. وكشف التاريخ بعد ذلك أن مصطفى أمين كان صادقاً – باعتراف عبد الناصر نفسه إلي محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان سابقًا فائق السمرائي سفير العراق في القاهرة سابقًا .

• الصراع الثالث :

ويسترسل صالح أبو رقيق في الحديث عن الصراع الثالث بين عبد الناصر والإخوان ، فيقول :

في أواخر عام 1953 اشتد الخلاف بين الإخوان وبين عبد الناصر .. كان الإخوان يطالبون بعودة الحياة الديمقراطية للبلاد وتحديد موعد لإعلان الدستور . وحاول عبد الناصر أن يستقطب بعض أعضاء مكتب الإرشاد للوقوف ضد المرشد حسن الهضيبي ، وعندما فشل أصدر مجلس الثورة قرارًا في 12 يناير 1954 بحل جماعة الإخوان المسلمين ، وكان المرشد يري أن الثورة لم تنفذ الأحكام الإسلامية المتفق عليها ، واستدعي عبد الناصر الشيخ محمد فرغلي عضو مكتب الإرشاد ، وأراد إقناعه بأن مصير الثورة والإخوان واحد ، وأن الأهداف واحدة ، وأنه يجب أن يقف الإخوان وراء الثورة ، وأن المرشد حسن الهضيبي يريد أن يفرض رأيه علي الثورة ، وأن التعاون معه أصبح مستحيلاً .

ونقل الشيخ محمد فرغلي حديث عبد الناصر لبقية أعضاء مكتب الإرشاد ، وأحسوا جميعًا أنه يريد إحداث فرقة بينهم ، فازدادوا تماسكاً ولم يهمهم قرار الحل . وبدأ عبد الناصر عدة محاولات لتشويه سمعة الإخوان .. وكانت المحاولة الأولي إعلان اكتشاف مخزن الأسلحة في عزبة حسن العشماوي – وكانت المحاولة الثانية اتفاقه مع عبد الرحمن السندي رئيس الجهاز السري – وكان الهضيبي قد عزله بعد أن أعلن أن لا سرية في الدعوة ، وعين بدلاً منه يوسف طلعت – اتفق عبد الناصر مع السندي علي أن يقوم بعض معاونيه باحتلال مبني المركز العام لإرغام المرشد علي الاستقالة .. وفشلت المحاولة وزاد الإخوان تمسكًا بمرشدهم . ثم وقعت أحداث فبراير عام 1954 بعد إعلان قبول استقالة محمد نجيب .. وخرجت المظاهرات تطالب نجيب بالبقاء ، وكان من المعروف أنها من تدبير الإخوان المسلمين .. وشهدت القاهرة أعنف المظاهرات واضطر عبد الناصر إلي إعادة نجيب .

وفي يوم 28 فبراير خرجت المظاهرات فرحة بعودة نجيب ، واتجهت إلي ميدان الجمهورية .. وحاول البوليس فض المظاهرات فأصيب عدد من المواطنين .. وحمل المتظاهرون قمصان المصابين ملوثة بدمائهم وتوجهوا إلي قصر عابدين .. وخرج إليهم محمد نجيب محاولاً دفعهم للانصراف .. ولم يتحركوا .. ولمح بينهم عبد القادر عودة فدعاه إلي الشرفة لإلقاء خطاب لفض المتظاهرين وصعد ووقف بجوار محمد نجيب الذي أعلن أنه سينشئ الجمعية التأسيسية وسيعيد الحياة النيابية .. وانصرفت المظاهرات وجاء في خطاب نجيب ما يلي :

" إننا قررنا أن تكون الجمهورية جمهورية برلمانية علي أساس هو أن نبدأ فورًا بتأليف جمعية تأسيسية تمثل كافة هيئات الشعب المختلفة ؛ لتؤدي وظيفة البرلمان مؤقتًا ، وتراجع نصوص الدستور بعد أن يتم وضعها ، وبعد ذلك تعود الحياة النيابية إلي البلاد في مدي أقصاه نهاية فترة الانتقال إلا لإعادة الدستور علي أساس سليم في نهاية فترة الانتقال " . واختتم نجيب كلمته قائلاً :

" نحمد الله سبحانه وتعالي مرة أخري علي أننا اجتزنا هذا الامتحان القاسي بنجاح – وأؤكد لكم مرة أخري أني لا أطمع في حكم أو سلطة أو جاه ، وإنما أطمع فقط في أن أؤدي واجبي وأن تزهق روحي في سبيل بلادي وتحريرها ، وفي سبيل اتحاد أبنائها ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .

وكانت تلك الكلمة سببًا في انصراف المتظاهرين .. وفي نفس الوقت أثارت ثائرة عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين .. فقد همس معاونوه أن الذي أوحي لنجيب بهذا الكلام هو عبد القادر عودة أحد أقطاب الإخوان ، الذي كان يقف إلي جوار نجيب في شرفة قصر عابدين . ومرت ثلاثة أيام .. وفي يوم 2 مارس قامت سلطات البوليس الحربي باعتقال 118 شخصًا بينهم 45 من الإخوان ، 20 من الاشتراكيين ، 5 من الوفديين ، 4 شيوعيين بادعاء أنهم كانوا يدبرون لإحداث فتنة في البلاد مستغلين فرحة الشعب بعودة نجيب .. وكان في مقدمة المقبوض عليهم حسن الهضيبي وعبد القادر عودة وصالح أبو رقيق وأحمد حسين زعيم الاشتراكيين . وتعرض رجال الإخوان المسلمين لأبشع عمليات التعذيب داخل السجن الحربي . وفي 8 مارس 1954 بعث عمر عمر نقيب المحامين برسالة إلي نجيب وكانت قد عادت له كل السلطات يطلب فيها التحقيق في وقائع التعذيب التي حاقت بالمحامين المعتقلين وهم أحمد حسين وعبد القادر عودة وعمر التلمساني .

وأمر نجيب بالتحقيق فورًا . ولم يبدأ التحقيق إلا بعد مرور عشرة أيام بسؤال الثلاثة . وأكدوا جميعًا أن الضابط محمد عبد الرحمن نصير كان يشرف علي أعمال التعذيب وكان يشترك في ضربهم بنفسه .. واستطاع المرشد أن يهرب رسالة من سجنه نشرت بجريدة المصري وكان فيها : " أما بعد ، فإن مجلس قيادة الثورة قد أصدر قرارًا في 12 يناير 1954 بأنه يجري علي جماعة الإخوان المسلمين قانون حل الأحزاب السياسية . ومع ما في هذا القرار من مخالفة لمنطوق القانون ومفهومه ، فقد صدر بيان نسبت إلينا فيه أفحش الوقائع وأكثرها اجتراء علي الحق ، واعتقلنا ولم نخبر بأمر الاعتقال ولا بأسبابه . وقيل يومئذ : إن التحقيق في الوقائع التي ذكرت به سيجري علنًا ، فاستبشرنا بهذا القول ؛ لأننا انتظرنا أن تتاح لنا فرصة الرد عليه لتبين أن ما اشتمل عليه وعلي الصورة التي جاءت به لا حقيقة له ، فيعرف كل إنسان قدره ويقف عند حده ، ولكن ذلك لم يحصل .

وإلي أن تتاح لنا الفرصة فإننا ندعوكم وندعو كل من اتهمنا وندعو أنفسنا إلي ما أمر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام حين قال : (                ) وقد استمرت حركة الاعتقالات طوال شهرين كاملين حتى امتلأت المعتقلات والسجون بطائفة من أطهر رجالات البلد وشبابها بلغوا عدة آلاف ، لكثير منهم مواقف في الدفاع عن البلاد وعن حرياتها شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ولم يكتفوا بالكلام كما يفعل كثير من الناس ، أما كيفية الاعتقال ومعاملة المعتقلين فلن نعرض لها هنا . وقد بدت في مصر بوادر حركة – إن صحت فقد تغير من شئونها وأنظمتها ، وإن قرار حل الإخوان وإنزال اللافتات عن دورهم لم يغير الحقيقة الواقعة وهي أن الإخوان المسلمين لا يمكن حلهم ؛ لأن الرابطة التي تربط بينهم هي الاعتصام بحبل الله المتين ، وهي أقوي من كل قوة ، ومازالت هذه الرابطة قائمة ، ولن تزال كذلك بإذن الله . ومصر ليست ملكًا لفئة معينة ولا يحق لأحد أن يفرض وصايته عليها أو يتصرف في شئونها دون الرجوع إليها والنزول علي إرادتها .. لذلك كان من أوجب الواجبات علي الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أن يبت في شئون البلاد في غيبتهم . وكل ما يحصل من هذا القبيل أن يكون له أثر في استقرار الأحوال ولا يفيد البلاد بشيء .

وإن ما دعوتم إليه من الاتحاد وجمع الصفوف لا يتفق وهذه الأحوال ، فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة . نسأل الله تعالي أن يقي البلاد كل سوء ، وأن يسلك بنا سبيل الصدق في القول والعمل ، وأن يهدينا إلي الحق وإلي الصراط المستقيم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .

وفي يوم 25 مارس تم الإفراج عن جميع أعضاء الإخوان المسلمين المعتقلين . وكان للإفراج عنهم قصة يرويها صالح أبو رقيق ، فيقول : جاءنا في السجن الحربي المرحوم محمد فؤاد جلال والسيدان محمد أحمد ومحيي الدين أبو العز صياح يوم 25 مارس يطلبان منا الوقوف مع الثورة والتعاون معها علي أساس أننا وطنيون . فقلت لهم وأنا أضحك : كيف يتم ذلك ونحن خلف الأسوار .. هو إحنا حبسنا نفسنا ؟! . فأجابوا ما انتم حتخرجوا علي طول . فقلت لهم : وما الموقف وقد وجدتهم إلينا أخطر اتهام يوجه إلي مواطن وهو الاتصال بالانجليز بدون علمكم ، وسنضطر للدخول معكم في جدال لتبرئة أنفسنا وأنتم أعلم بالحقيقة .. فما الحل ؟! فأجابوا : نسأل عبد الناصر .. وفعلا عادوا بعد قليل وقالوا : إن عبد الناصر اقترح أن يخرج المرشد فورًا ومعاونوه الستة الذين جاء ذكرهم في بيان الاتصالات بالانجليز ، ويذهب إليهم عبد الناصر في منزل المرشد ويهنئهم بصفته وباسم مجلس الثورة ، وينتشر ذلك في الصحف .. وفعلاً قبلنا ذلك لما فيه من دلالات ، وتم الإفراج عنا وحضر عبد الناصر ومعه صلاح سالم إلي منزل المرشد . وبدأت جماعة الإخوان المسلمين تستأنف نشاطها من يوم 26 مارس .. واعتقد الجميع أن الحياة النيابية ستعود .. وفي نفس اليوم بدأ عبد الناصر تنفيذ خطته .. وفوجئت القاهرة بتوقف جميع وسائل النقل بها في الساعة الواحدة ظهرًا ما عدا الترام ، وبعد أن استطاع أن يستميل إليه الصاوي رئيس اتحاد نقابات عمال النقل ؛ ليعلن إضرابًا شاملاً لمطالب خاصة .. ثم بدأت الإذاعة تذيع إضرار العمال بسبب قرارات عودة الحياة النيابية للبلاد ، ورغبتهم في الإبقاء علي مجلس الثورة .

وخرجت جريدتا الأهرام والأخبار تؤيدان هذا الاتجاه ،ويتطلبان ببقاء مجلس الثورة .. بينما انفردت جريدة المصري بالوقوف ضد ذلك الاتجاه .. ومحاولة الكشف عن المؤامرة التي تدبر للقضاء علي الحياة النيابية الدستورية الطبيعية للبلاد . وبدأت المظاهرات تشتد .. وهي المظاهرات التي كان يدبرها البوليس الحربي ، وكانت تطالب بعدم عودة الحياة النيابية .. واشتدت المظاهرات .. وأصدر المرشد العام بيانًا يوم 28 مارس هذا نصه :

" بسم الله الرحمن الرحيم .. لا ريب أن مصر الآن تمر بفترة بالغة الدقة والخطورة في تاريخها ، بعيدة الأثر في كيانها ومستقبلها ، وهي فترة تقتضي من كل مواطن أن يهل البلاد نفسه ، ويبذل لها وجوده ، ويؤثرها بالخالص من رأيه ومشورته حتى يأذن الله بالنجلاء هذه الغمرة ، ويبدل الوطن منها حياة أمن واستقرار ووحدة .

وقد فوجئ الإخوان المسلمون غداة خروجهم من السجن والمعتقلات بتوالي الأحداث الخطيرة التي تتعرض لها البلاد في حدة وسرعة ، لم يتيسر معها معرفة أسبابها والعوامل التي تؤثر فيها ، ثم تحديد وسائل العلاج التي تلائمها . من أجل ذلك بادر الإخوان المسلمون إلي العمل علي أداء واجبهم في التماس المخرج من هذه الأزمة ، فبدا لهم أن من العسير أن ترسم الخطط الصالحة ، ويوضع العلاج لهذه المشاكل ، وتسمع المشورة الصادقة المستقلة في جو الغضب والانفعال ، وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يسأل الله ألا يستجيب له وهو غضبان . لهذا لم يكن بد من الإسراع بلقاء المسئولين والاتصال بطرفي الخلاف ؛ للدعوة إلي اتخاذ مهلة تتجنب فيها المضاعفات ، وتنتهي فيها حالة التوتر القائمة حتى يتيسر لأولي الرأي والإخلاص أن يتقدموا للمسئولين من الأمة بخطة كاملة مدروسة تكشف عن البلاد هذه الشدة ، وتضع الحلول الكفيلة بوقاية البلاد من أن تتعرض لمثلها في أي مناسبة . وعلي هذا الأساس قام وفد من الإخوان المسلمين برياسة المرشد العام بلقاء البكباشي جمال عبد الناصر في الليلة الماضية ، ثم بزيارة اللواء محمد نجيب لانشغاله في هذه الليلة بالاجتماع بجلالة الملك سعود ضيف مصر الكبير ، الذي آثرها مشكورًا بكريم وساطته في علاج هذا الموقف العصيب .

ومازال الإخوان المسلمون يواصلون خطواتهم في إقناع المسئولين باتخاذ مهلة ، مع قيامهم في الوقت نفسه بدراسة خطة العلاج الشاملة ، آملين أن يستجيب المسئولون إلي ندائهم فتتغلب الحكمة والوطنية علي بواعث الخلاف والفرقة ، ويلتقي الجميع بإذن الله كلمة سواء . وإذا كانت الجهود تتوالي في العمل علي جمع الكلمة وحل الأزمة ، فإننا نناشد شعب مصر الكريم أن يعتصم بالهدوء والسكينة ورباطة الجأش ، وأن ينصرف أبناؤه جميعا إلي أعمالهم في انتظام وطمأنينة ، مع التوجه إلي الله العلي الكبير أن يحفظ البلاد من كل سوء ، وأن يعين الساعين ، ويجمع المسئولين علي الحل الكامل السليم الذي يخرج بالبلاد من المأزق الحاضر ، ويحفظ وحدة الأمة ، ويصون حقوق الشعب وحرياته ، ويحقق الاستقرار المنشود ، في ظل حياة نيابية نظيفة ؛ محوطة بالضمانات التي تجنبها مساوئ الماضي ، وتوفر الجهود لتخليص الوطن من الغاصب المستعمر ، ولمتابعة حركة الإصلاحات الإيجابية التي تستكمل البلاد بها نهضتها .. والله ولي التوفيق " . وأذيع هذا البيان الذي طلبه عبد الناصر من المرشد بعد اتفاق الاثنين علي توقف المظاهرات لحين انتهاء زيارة سعود وإيجاد حل للأزمة ، ونشر البيان يوم 29 مارس نفس يوم مغادرة الملك سعود مصر .

ويقول صالح أبو رقيق : وذهب جميع أعضاء مجلس الثورة لتوديع الملك سعود في مطار ألماظة ، وذهب بعض أعضاء مكتب الإرشاد لتوديع الملك .. وعند انصراف الجميع فوجئت باثنين يمسكان بذراعي ، كانا عبد الناصر والبغدادي وسألاني : أنت فطرت ؟ فقلت لهما : لا فقالا : تعال نفطر سويًا – فحاولت الاعتذار ولكنهما أصرا . ودعيا الهضيبي ولكنه اعتذر .. وذهبت معهما إلي ميس المطار ، وأثناء جلوسنا نتناول الإفطار سألني عبد الناصر : فين حسن ؟ وكان يقصد حسن العشماوي – وكان حسن أقرب المدنيين إلي قلب عبد الناصر ، كما كان عبد الحكيم عامر أقرب العسكريين إلي قلبه . فقلت له : حسن زعلان منك ، وله حق عرب عليك .. وكنت أشير بذلك إلي حادث التشهير به بالعثور علي مخزن الأسلحة في عزبته . فضحك وقال : طيب ده لازم يشكرني .. دا إحنا عملنا له دعاية بمليون جنيه والجرايد نشرت صوره .. ثم أضاف : لا .. ده أنا لازم أشوفه وأصلحه .. ثم بدأنا نتحدث عن الأوضاع .. والمظاهرات التي تطالب بعدم إجراء انتخابات وأنها لابد أن توقف .. وعن بيان المرشد .

وبادرني قائلاً : أنتم عايزين انتخابات ليه .. عايزين زينب الوكيل تتحكم في البلد تاني .. دي سبت موضع العفة للبوليس الحربي عندما توجه إليها أحد ضباط البوليس الحربي لسؤالها .. عايزينها تتحكم في البلد تاني ؟ قلت له : حرام عليك يا شيخ بلاش تشنيع .. المهم المظاهرات تتوقف والمرشد أذاع بيان نشرته الصحف اليوم يدعو الجميع إلي الهدوء . فأجاب : خلاص مفيش مظاهرات . وانصرفنا : وعلمت أنه توجهت مظاهرة في نفس اليوم إلي مجلس الدولة ، واعتدي المتظاهرين علي المرحوم عبد الرازق السنهوري .. وقد كلفني .. المرشد بالذهاب إلي عبد الناصر لمعاتبته لإخلاله بالاتفاق وفض المظاهرات التي تحاصر جريدة المصري وعدم الاعتداء عليها ، وتنفيذ قرارات مجلس الثورة بإعادة الحياة النيابية .. وعندما قلت له ذلك قال : أنتم يهمكم إيه مادمتم أنتم أحرار ، مالكم ومال الباقي ؟ فقلت له : هل تستطيع أن تعلن ذلك في مؤتمر صحفي ؟ فضحك وقال : طبعًا لا . ومرت أزمة مارس ، وتوقفت المظاهرات ، وبقي محمد نجيب رئيسًا للجمهورية و جمال عبد الناصر رئيسًا للوزارة . واكتشفنا تلاعبه بالحريات والديمقراطيات .. ثم بدأت محادثات الجلاء .. وفي شهر يونيه وقع بالحروف الأولي علي اتفاقية الجلاء .. ووجدت الاتفاقية لا تحقق الهدف فعارضناها .. وبعثنا له بعريضة تتضمن أوجه اعتراضنا .

وبدأ شن حملة دعائية ضد الإخوان المسلمين .. وحاول إحداث انشقاق في صفوف الإخوان .. وبدأت تحدث اشتباكات بين الإخوان ورجال الشرطة .. بدأت يوم 27 أغسطس سنة 1954 في مسجد شريف بالروضة .. ووقف حسن دوح وكان زعيم الطلبة الإخوان بالجامعة وألقي خطبة تتضمن هجومًا علي اتفاقية الجلاء . وبعد الصلاة خرج المصلون في مظاهرة وحدث اشتباك بينهم وبين الشرطة . وفي نفس اليوم هاجم عبد الناصر الإخوان علانية في خطاب ألقاه بهيئة التحرير يوم 5 سبتمبر ، وجند الصحف كلها لنشر أنباء عن المرشد الهضيبي – وكان في جولة بالبلاد العربية – علي أساس أنه يعلن عداءه للثورة . وأحس بعض الإخوان بالخطر ، واقتراح عدد منهم كان علي علاقة بالحكومة عقد اجتماع للهيئة التأسيسية لبحث الوضع بين الحكومة و الإخوان . وكان عبد الناصر يتوقع أن ينجح أعوانه في هذا الاجتماع في اتخاذ قرار بعزل الهضيبي . وعقد الاجتماع في مساء يوم الخميس 24 سبتمبر 1954 واستمر 20 ساعة ، وحضره مائة عضو من جملة الأعضاء وعددهم 137 عضوًا . وظهرت صحيفة الأهرام والجمهورية تحملان نبأ كاذبًا عن انشقاق خطير في صفوف الإخوان ، تضمن نشوب معركة بالأيدي بين المجتمعين ، أما جريدة الأخبار فقد نشرت الحقيقة وكانت عن حدوث مشادة كلامية بين الأعضاء .

وانتهي الاجتماع علي خلاف ما كان يرغب عبد الناصر .. ومرت الأيام .. وفي يوم 26 أكتوبر من نفس العام حدثت محاولة اغتيال عبد الناصر .. وقد تكون محاولة حقيقية أو محاولة مدبرة .. وقد تكون فردية أو بتدبير من جماعة الإخوان المسلمين . ولكن الذي ثبت أن عبد الناصر استغلها في تحقيق ثلاثة أهداف : تكوين زعامة شعبية لنفسه – التخلص من محمد نجيب إلي الأبد – القضاء علي جماعة الإخوان المسلمين التي ساندته في بدء الثورة .


• محاولة اغتيال عبد الناصر :

سأترك لصالح أبو رقيق تناول هذا الحادث بطريقته الخاصة إذ يقول :

لن أتجني علي أحد وأقرر شيئًا عن تلك المحاولة .. وهما إذا كانت حقيقة أم محاولة مدبرة . إنما سأسردها كما جاءت في الصحف في ذلك الوقت .. وللقارئ وحده أن يقارن بين الوقائع وظروف المحاكمة ، ويقرر هل كانت محاولة حقيقية أو مدبرة ؟؟ .

الزمان : مساء 26 أكتوبر 1954 .

المكان : ساحة ميدان المنشية في مدينة الإسكندرية .

الساحة مزدحمة بالآلاف من المواطنين .. حضروا للاستماع إلي خطاب الرئيس جمال عبد الناصر الذي سيلقيه بمناسبة توقيع اتفاقية الجلاء مع الانجليز يوم 19 أكتوبر من نفس العام . ودخل عبد الناصر المنصة الرئيسية ومعه صلاح سالم وعبد الحكيم عامر وحسن إبراهيم والشيخ الباقوري ، والسيد الميرغني حمزة وزير الزراعة والمعارف بالسودان وأحمد بدر المحامي السكرتير المساعد لهيئة التحرير بالإسكندرية . ووقف عبد الناصر ليلقي خطابه .. ومرت دقائق .. وفجأة دوي صوت الرصاص – وساد الهرج المكان .. وأمسك عبد الناصر بالميكرفون يردد كلمات مرتجلة يقول :

" أيها الأحرار .. دمي فداء لكم .. دمي فداء لمصر . أيها الرجال .. أيها الأحرار .. أتكلم إليكم بعون الله بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا عليّ .. فدمي فداء لكم .. إن حياة جمال عبد الناصر ملك لكم . أيها الرجال .. أيها الأحرار .. هذا هوجمال عبد الناصر بينكم .. أنا لست جبانًا .. أنا قمت من أجلكم .. من أجل عزتكم وكرامتكم وحريتكم .. أنا جمال عبد الناصر منكم ولكم .. عشت بينكم وسأعيش حتى أموت عاملاً من أجلكم ومكافحًا في سبيلكم ، وأموت من أجل حريتكم وكرامتكم ومن أجل عزتكم . أيها الرجال .. أيها الأحرار .. فليقتلوني .. لقد غرست فيكم العزة وغرست فيكم الكرامة .. لقد أنبت في هذا الوطن الحرية والعزة والكرامة .. فُلأَمت من أجل مصر .. من أجلكم .. من أجل أحفادكم .. كافحوا واحملوا الرسالة وأدوا الأمانة من أجل عزتكم ، ومن أجل كرامتكم .. ويكرر نفس الكلام ثم يقول :

أيها الرجال .. أيها الأحرار .. منذ 24 ساعة اعتدت يد الاستعمار علي الهاتفين بالحرية في هذا الميدان ، فقتل من قتل واستشهد من استشهد ، فإذا كان جمال لم يقتل في الماضي وجاء ليقتل اليوم بأيدي الاستعمار وأعوانه نجا .. فقد نجوت لأحقق لكم العزة ولأحقق لكم الكرامة ولأحقق لكم الحرية .. إن الخيانة تريد أن تكبلكم وتستبد بكم ، فإذا نجوت فلكي أزيدكم حرية وعزة وكرامة ، وليعلم الخونة أن جمال عبد الناصر ليس فردًا واحدًا في هذا الوطن فكلكم جمال عبد الناصر . يا إخواني .. دمي من دمكم .. وروحي من روحكم .. ومشاعري من مشاعركم .. أيها الرجال .. لقد استشهد الخلفاء الراشدون جميعًا في سبيل الله .. وإذا كان جمال يقتل ، فأنا مستعد لذلك في سبيلكم وفي سبيل الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .

وتعالت الهتافات : " الله معك يا جمال " . وأنهي عبد الناصر الكلمة التي ارتجلها أو هكذا بدت وكانت الكلمة مذاعة علي الهواء .. وسمع جميع أبناء مصر أصوات طلقات الرصاص والكلمة الرائعة التي ألقاهاجمال عبد الناصر .. واحتل قلوب الجميع وحقق الزعامة التي كان يحلم بها .. وأصبح الأسطورة في أحاديث كل الناس .. ولم تنم الأمة العربية بأسرها في تلك الليلة .. الكل ينتظر الصباح ليقرأ شيئًا عن الحادث .. ومن الجاني . وظهرت صحف الصباح – صباح 27 أكتوبر 1954 – تحمل في صدر صفحاتها الأولي نبأ القبض علي الجاني الأثيم بدون نشر صورته .. قالت جريدة الأهرام :

" لم يكد الجاني الأثيم يطلق رصاصاته الغادرة ، حتى كان الجمهور قد هجم عليه وعلي ثلاثة أشخاص يقفون علي مقربة منه ودخان الرصاص يتصاعد من حولهم ، وكاد يفتك بهم أولا أن بادر رجال البوليس والمخابرات إلي القبض عليهم وضبط السلاح في يد الجاني (هكذا نشرت جميع الصحف كما أنه لم ينشر شيء بعد ذلك عن الثلاثة الآخرين الذين قيل : إنهم ضبطوا الجاني " وقد اقتيد الأربعة إلي نقطة بوليس شريف .. ويدعي الجاني محمود عبد اللطيف ويعمل سباكًا في شارع السلام بإمبابة . وقد عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني علي أربعة أطراف فارغة من عيار 36 ملليمتر وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضبط مع المتهم ، إذ أن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع المشط الذي لا يلفظ الأطراف الفارغة " . كان هذا ما نشرته جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 27 أكتوبر 1954 ، وأثار ذلك التساؤل عن سر اختلاف الأطراف الفارغة عن طلقات المسدس المضبوط في يد الجاني .. وبدأت همسات هل هناك شخص آخر ؟! وفي نفس العدد نشرت الصحف أن الجاني ينتمي إلي جماعة الإخوان المسلمين .

وتوالت في الأيام التالية نشر اعترافات محمود عبد اللطيف وأنه من الجهاز السري ل الإخوان المسلمين .. وكان مكلفاً باغتيال عبد الناصر ؛ لتبدأ حركة اغتيالات لبقية أعضاء مجلس الثورة و 160 ضابطا من الضباط الأحرار والقيام بثورة ، وأن الجهاز السري كان سيقف أمام أي تحركات مضادة . ومع الاعترافات بدأ نشر أنباء اكتشاف مخازن أسلحة للجهاز السري والقبض علي أفراده ، ومخازن في جميع محافظات الجمهورية .. ومتهمين من مختلف الفئات والمهن .. طلاب بالجامعات ومحامين ومدرسين وعمال وفلاحين وضباط بالجيش وضباط بوليس وتجار .. أي من فئات الشعب جميعها العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية .


• محاكمات الإخوان :

وفي يوم أول نوفمبر – أي بعد الحادث بأربعة أيام فقط – أصدر مجلس الثورة برياسة عبد الناصر أمره بتأليف محكمة مخصوصة لمحاكمة المتهمين في محاولة اغتيال عبد الناصر برياسة قائد الجناح جمال سالم – وكان المرحوم جمال سالم معروفاً للجميع بالتصرفات الشاذة – وكان أمر تشكيل يتولاه البكباشي زكريا محيي الدين يقوم بإعلان المتهم بالإدعاءات المقامة ضده قبل المحاكمة بـ 24 ساعة فقط – ولا يجوز تأجيل المحاكمة أكثر من مرة واحدة ، ولمدة لا تزيد علي 24 ساعة للضرورة القصوى .. وأحكامها نهائية ولا يجوز الطعن فيها بأي طريقة من الطرق أو أمام أي جهة من الجهات .

وبدت للجميع أن نهاية جماعة الإخوان المسلمين أصبحت محققة .. فما كانت تنشره الصحف عن اعترافات الذين قبض عليهم من أفراد الجهاز السري ، وكيف أنهم كانوا يسعون إلي قيام حرب أهلية واغتيال جميع أعضاء مجلس الثورة ، وتحويل البلاد إلي مجموعة من الخرائب .. كان ما ينشر كافيًا لشحن كل الشعور والقوى ضد الإخوان المسلمين . فبدأن الناس في لهفة شديدة إلي معرفة شكل الجاني الأثيم .. ومضت خمسة أيام كاملة دون أن تنشر له صورة واحدة .. وأخيرًا نشرت صورته وآثار التعذيب واضحة تمامًا علي وجهه .. ونشر تحتها أنها صورة للجاني ويبدو فيها آثار اعتداء المواطنين عليه وقت القبض عليه . وللتاريخ .. فإن ما ينشر اليوم عن جرائم التعذيب التي ارتكبها أعوان عبد الناصر لا توازي واحدًا علي الألف مما تعرض له الإخوان المسلمون عام 1954 . وظلت أحاديث الناس تتناول في كل المجالات ما كان يعتزمه الإخوان المسلمون من خراب للبلاد .. كانت الناس تستقي معلوماتها مما تنشره الصحف .. وكان بعض المفكرين يراودهم الشك في حقيقة الحادث من ضبط الجاني والمسدس في يده والعثور علي طلقات رصاص من عيار لا يطابق رصاص المسدس ، ولا يريدون أن يصدقوا أن الحادث من تدبير الإخوان .

وفجأة وبلا أي مقدمات – في يوم 2 نوفمبر 1954 أي بعد الحادث بستة أيام – نشرت جميع الصحف الصباحية صورة الرئيس السابق جمال عبد الناصر وأمامه عامل بناء ممسكًا بمسدس .. ومع الصورة حكاية مثيرة .. تقول الحكاية : إن عامل البناء خديوي آدم .. وهذا اسمه .. كان يستقل الترام يوم الحادث عائدًا إلي منزله .. وعند ميدان المنشية شاهد جماهير من الناس مجتمعة وسأل عن سر تجمعهم ، ولما علم أن عبد الناصر سيلقي خطابًا نزل من الترام واندس وسط الجماهير . وعندما دوي صوت طلقات الرصاص وساد الهرج الآلاف المجتمعة سقط فوق الأرض وشعر بشيء يلسعه في ساقه ، وتحسسه فوجده مسدسًا وكانت مسورة المسدس لا تزال ساخنة .. وأيقن في الحال أنه المسدس الذي استخدمه الجاني في إطلاق الرصاص علي زعيم البلاد !! ووضع المسدس في جيبه واعتزم بينه وبين نفسه ألا يسلم المسدس إلا ل عبد الناصر شخصيًا .وتستطرد القصة استكمال حبكة خيوطها ، وحتى لا يتساءل القارئ عن السر في عدم تسليمه المسدس في نفس الليلة وانتظاره خمسة أيام .. فتقول القصة :

إن العامل خديوي آدم فقير جدًا يوميته 25 قرشًا .. ولم يكن يملك ثمن تذكرة قطار أو أتوبيس لحمله إلي القاهرة .. فسار علي قدميه المسافة بين الإسكندرية إلي القاهرة .. فوصلها يوم أول نوفمبر ، وتوجه في الحال إلي مجلس قيادة الثورة وطلب مقابلة جمال عبد الناصر . وأعطاه المسدس فكافأه عبد الناصر بمائة جنيه !! وهكذا ظهر سلاح جديد في الجريمة طلقاته من عيار 36 ملليمتر لتكون من نفس أظرف الطلقات التي عثر عليها .. واختفت تمامًا سيرة المسدس الذي ضبط في يد الجاني لحظة القبض عليه . هكذا أراد الحاكم ورجال التحقيق .

وفي اليوم الثاني مباشرة نشرت الصحف أن الجاني تعرف علي المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم ، وقرر أنه نفس المسدس الذي استخدمه لاغتيال عبد الناصر ، وأنه تسلمه من رئيسه في الجهاز السري المحامي هنداوي دوير . وتعرف هنداوي هو الآخر علي المسدس ، وقرر أنه نفس المسدس الذي أعطاه للجاني ، وكان رئيسه في الجهاز السري المحامي إبراهيم الطيب أعطاه له ليسلمه للجاني . هكذا تعرف الاثنان علي سلاح الجريمة .. وهكذا اختفت تمامًا سيرة المسدس الأول الذي ضبط مع الجاني لحظة القبض عليه .. واحد فقط أنكر أن المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم يتعلق بالجهاز السري .. هذا الشخص هو إبراهيم الطيب نفسه .. وجاء إنكاره أمام محكمة الشعب عندما عرض عليه رئيسها جمال سالم المسدس ، فقرر أنه ليس نفس المسدس الذي أعطاه لهنداوي .. إنما هو مسدس آخر . ولم يحقق جمال سالم هذه النقطة الهامة .. أغفلها تمامًا .. كما أغفل أثناء المحاكمة تكليف الادعاء بتقديم شهود الإثبات الذين ضبطوا الجاني لحظة ارتكاب الجريمة .. وكانوا .. بالمصادفة من العاملين بمديرية التحرير التي أنشأها مجدي حسنين أقرب الضباط الأحرار إلي قلب جمال عبد الناصر والذي من أجله تلاعب عبد الناصر بالديمقراطية كما سيأتي في الباب الثاني .. الشهود الثلاثة أولهم عبد الحميد محمود حبيب العامل بمديرية التحرير ، وكان أول من أمسك مسدس الجاني أو هكذا قال .. والثاني اليوزباشي جمال النادي وهو من مديرية التحرير أيضًا وقد كسر ذراعه أثناء مقاومة الجاني له أو هكذا قال .. إما الثالث فهو حامد حسنين عجمي العامل بمديرية التحرير أيضًا وقد عضه المتهم في ساقه عندما أمسك به أو هكذا قرر !! .

ولعل الادعاء خشي أن يقدمهم ويقدم خديوي آدم العامل الذي عثر علي المسدس حتى لا تتخبط أقوالهم ، ويظهر شيء محظور كانوا يسعون لإخفائه .. إن أي طالب بالسنة الأولي حقوق يعلم أن أول شهود يستمع إليهم هم شهود الإثبات الذين لهم صلة بضبط الجاني أو مشاهدة الجريمة أو اكتشاف سلاح الجريمة .


• محاكمة بدون محامين :

وتقرر تقديم محمود عبد اللطيف إلي محكمة الشعب برياسة جمال سالم .. والتاريخ فإن الأوراق التي قدمت إلي أعضاء هيئة المحكمة كانت كافية لأن تصدر أحكامها بإعدام كل الذين يقدمون إليها .. كانت أمام هيئة المحكمة أوراق تتضمن اعترافات تقول إن الهضيبي أنشأ جيشًا سويًا ضخمًا لتأمين حكم الإخوان المسلمين بعد قيامهم باغتيال جمال عبد الناصر وجميع أعضاء مجلس الثورة باستثناء محمد نجيب ، وكذلك اغتيال 160 ضابطًا منن الضباط الأحرار ، وأن هذا الجيش كان سيقف أمام جيش مصر وبوليس مصر ، ويقوم بقمع المستعمر ، بل إعلان حرب داخلية في مصر للاستيلاء علي الحكم .. وأن الخطة كانت تقسيم بلاد الجمهورية إلي مناطق .. وكل منطقة لها قائد وفصائل ، وكل فصيلة لها قائد .. وأن الذين اشرفوا علي هذا الجيش السري ثلاثة هم يوسف طلعت وكان يختص بأفراد الجيش من المدنيين ، وصلاح شادي وهو قائد تنظيم رجال البوليس ، وعبد المنعم عبد الرءوف قائد التنظيم في صفوف الجيش المصري .. وأن جميع الأسلحة والقنابل والذخائر التي ضبطت في مخازن الإخوان المسلمين كانت تكفي لتدمير ثلاثة أرباع مدينة القاهرة وتحويلها إلي خرائب .

وبدأت محكمة الشعب أو جلساتها يوم الثلاثاء 9 نوفمبر 1954 ، وكانت عمليات القبض علي بقية زعماء الإخوان المسلمين وأعضاء الجهاز السري لا تزال مستمرة . بل كان القبض علي بعضهم وفي اليوم التالي مباشرة يقاد إلي محكمة الشعب لسماع أقواله كمشاهد في القضية الأولي التي تنظرها المحكمة .. وكانت القضية الأولي أو المحاكمة الأولي للمرحوم محمود عبد اللطيف الذي أسندت إليه محاولة اغتيال عبد الناصر بمسدس في يده وقت الحادث ، ثم اعترف بارتكابه الحادث بمسدس آخر عثر عليه العامل بمديرية التحرير خديوي آدم وظهر بعد الحادث بخمسة أيام . ووجه إلي محمود عبد اللطيف ادعاءان :

الأول : اشترك مع آخرين في تنفيذ اتفاق جنائي ، الغرض منه إحداث فتنة دامية لقلب نظام الحكم ، وذلك بإنشاء نظام سري مسلح للقيام باغتيالات واسعة النطاق وارتكاب عمليات تدمير بالغة الخطورة وتخريب شامل في جميع أنحاء البلاد تمهيدًا لاستيلاء الجماعة التي ينتمي إليها علي مقاليد الحكم بالقوة .

والثاني : شرع في قتل البكباشي أركان حرب جمال عبد الناصر رئيس الحكومة تنفيذا للاتفاق الجنائي المشار إليه في أولاً .

وتلا رئيس المحكمة الادعاءين علي المتهم وسأله السؤال التقليدي : مذنب أو غير مذنب ؟ وعادة .. بل دائمًا يقرر المتهم في مثل هذه الحالات أنه غير مذنب .. وهو في ذلك يتعلق بآخر خيط من الأمل لينقذ رقبته من المشنقة . أما في حالة محمود عبد اللطيف وأغلب زملائه الذين وقفوا أمام تلك المحكمة فإنهم كانوا يقررون أنهم مذنبون .. كان يقررها البعض عن جهالة ؛ مصدقاً ما قالوه له قبل المثول أمام المحكمة من أن زعيم البلاد سيخفف عنه الحكم بل ويلغيه ، وأن المقصود فقط هو محاكمة زعمائه في جهاز الإخوان . والبعض كان يقررها لفقده الثقة في أي بصيص من نور العدالة بعدما تعرض له من أبشع ألوان التعذيب . وكان محمود عبد اللطيف و هنداوي دوير من النوع الأول .. ويؤكد ذلك أنه يوم تنفيذ حكم الإعدام فيهما أخذ هنداوي دوير يردد في هستيرية وهم يقتادونه إلي حبل المشنقة : (ضحكوا عليّ .. خدعوني .. ضحكوا عليّ .. مش ده اتفاقنا .. ماكانش ده الاتفاق .. مش ده اتفاقنا) .

المهم .. إنني هنا لا أحاول أن أتجني علي شخص ما .. ولكني أذكر الحقيقة والحقيقة التي أسجلها للتاريخ .. والتي جمعتها مما نشر في ذلك الوقت عن تلك المحاكمات ، وهي صورة غريبة وغريبة جداً للعدالة في تلك الأيام .. وبعد أن قرر المتهم أنه مذنب وقف المدعي العسكري وقال – وأنا هنا أنقل بالحرف الواحد : " حين أعلن المتهم بالادعاءات المقامة عليه في سجنه سألناه إذا كان قد وكل أحد المحامين للدفاع عنه ، فقال إنه لم يوكل أحدًا . والأمر بتشكيل المحكمة لا يحتم وجود محام مع المتهم أثناء المحاكمة فضلاً عن أن القضية معدة والشهود موجودون " . أي والله هذا ما قاله المدعي العسكري .. إنه يقدم متهما بادعاءات عقوبتها الإعدام ويطالب محاكمته بدون محام يدافع عنه ، لأن أمر تشكيل المحكمة لا يحتم وجود محام .. هكذا كان الأمر مخالفاً لأبسط مبادئ العدالة وكل الدساتير في العالم التي تكفل للمتهم حق الدفاع عن نفسه .. ولكن دستور عبد الناصر كان خلاف كل الدساتير كما كانت أفعاله خلاف كل الأفعال . ويلتقط رئيس المحكمة خيط الكلام من المدعي ويتوجه بالأسئلة إلي المتهم الواقف أمامه بلا حول ولا قوة ويسأله : عايز حد يدافع عنك ؟ .

ويتعلق محمود عبد اللطيف بصيص من نور الأمل ويهمس :

أيوه .. عايز يا أفندم .

ويدور أغرب حوار بين رئيس محكمة ومتهم يسأله رئيس المحكمة :

مين ؟ ويرد المتهم : محمود سليمان غنام .

ويفاجئه رئيس المحكمة وكأنما يقرأ الغيب ويسأله : وإذا مقبلش ؟

فيرد محمود : يبقي فتحي سلامة . ويكرر رئيس المحكمة : وإذا مقبلش ، فيرد محمود يبقي مكرم عبيد – ويسد رئيس المحكمة أمامه كل الأبواب – ويسأله : وإذا مقبلش ؟ وكان رئيس المحكمة يتوقع من المتهم أن يجيب : يبقي أمري لله وأترافع عن نفسي ، ولكنه خيب أمله وقال : يبقي أي واحد تاني . ويلتفت جمال سالم إلي ناحية المدعي ويصدر قراره ، ونصه :

" علي مكتب الادعاء أن يتصل بالمحامين الذين ذكرهم المتهم بالترتيب ، فإذا حضر أي واحد منهم كان بها .. وإلا انتدب أي محام آخر . وتؤجل الجلسة 48 ساعة ، وتعقد في الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس 11 نوفمبر . ونفذ مكتب الادعاء قرار المحكمة أو هكذا نشر في الصحف صباح اليوم التالي : اتصل المدعي أولاً بالأستاذ محمود سليمان غنام وصرح المدعي العسكري ؛ أنه اعتذر لأنه أصلا يستنكر الجريمة ولا يمكنه أن يترافع عن المتهم من الناحية القومية ؛ لأنه يستنكر استخدام أساليب العنف في الجدل السياسي – هكذا !! واتصل المدعي بعد ذلك بالأستاذ فتحي سلامة أنه هو الآخر اعتذر لسببين : أولهما : الشعور الوطني والآخر : احتقاره للمجرم الأثيم .. هكذا !! واتصل المدعي بآخر المحامين الثلاثة وهو مكرم عبيد .. وقال المدعي إنه قال حين فوتح برغبة المتهم : غريب أن يطلب مني الدفاع عن المتهم ، فأنا لا أستطيع أن أدافع عمن يعتدي علي الرئيس جمال عبد الناصر فهذا إجرام خطير .. هكذا !! . وقالت الصحف استكمالاً للخبر السابق – والذي أملاه عليها مكتب الادعاء – إن مكتب الادعاء خاطب نقابة المحامين فاجتمع مجلس النقابة في الحال برياسة عمر عمر نقيب المحامين واتصل ببعض المحامين .. ولكنهم رفضوا جميعًا .. هكذا !! . ولن أعلق علي هذا الجزء من المسرحية .

وانعقدت الجلسة الثانية للمحاكمة يوم الخميس 11 نوفمبر 1954 .. والكل يعتقد أن المحاكمة ستتم بدون محام يعكر صفوها .. ويفاجأ الجميع أن محاميًا كبيرًا هو المرحوم حمادة الناحل يقف معلنًا تطوعه للدفاع عن المتهم بعد أن قرأ اعتذارات زملائه .. لأن شرف المهنة يقتضيه أن يقف مدافعًا عن المتهم . وكانت جرأة حمادة الناحل وتمسكه بمبادئ المهنة وشرفها سببا لأن يتعرض بعد ذلك لأبشع أنواع التعذيب ، ودخل السجن ولفقت له القضايا هو وغيره من المحامين الذين كانوا يتطوعون للدفاع عن المتهم أمام محاكم عبد الناصر الاستثنائية . ويتحفز رئيس المحكمة للمحامي الجريء .. ويرفض كل طلب يتقدم به لمعاونته في مهمته للدفاع عن المتهم .. كان يرفض الطلب قبل أن يكمل المحامي كلامه .. واتخذ رئيس المحكمة منذ اللحظة الأولي موقف المهاجم دائمًا لكل شاهد .. وكان كل الشهود من المتهمين أيضًا .. يحاول أن ينكر أقواله التي سبق أن أبداها في التحقيقات تحت الظروف المعينة التي يعرفها الجميع .


• صور ومهازل من المحاكمة :

وإليك بعض المهازل أو الصور المبكية لمصرع العدالة .. وأنا أنقلها كما نشرتها الصحف في ذلك الوقت وهي تنشر كل تفاصيل محاكمة الإخوان .

في خلال سماع أقوال علي نويتو أحد أعضاء الجهاز السري وأثناء مناقشته عن هدف الجهاز قال الشاهد : إن الغرض من الجهاز هو تدريب شباب الإخوان المسلمين لتكوين جيش إسلامي لمعاونة حركات التحرير في الدول الإسلامية كالجزائر وتونس ، كما يتدرب الإخوان ليساهموا في معارك فلسطين ومعارك القناة ضد قوات الاحتلال . - سنواجه الشاهد بأقواله في التحقيق إذ قرر ما يأتي : وكانت تلك هي الحقيقة التي من أجلها انخرط آلاف الشبان في جماعة الإخوان المسلمين – ووقف المدعي العام يقول :

" الجيش الإسلامي كان سيقاوم الحكومة التي لا تحكم بالقرآن ، وأحضروا لنا الأسلحة للتدريب العسكري . أما عن الخطة فكانوا بيقولوا لازم الشعب كله يقوم بثورة !! .

وقال علي : مش دي أقوالي !!

وصرخ فيه رئيس المحكمة : مش مضيت علي أقوالك ؟

ويرد الشاهد : أنا ما قرأتش الأقوال دي – ويضحك رئيس المحكمة ويقول للمدعي :

ياريت كنتم خليتوه يوقع علي شيك بـ 500 جنيه – ويرد المدعي ضاحكًا : ياريت يا أفندم .

ولم يحقق رئيس المحكمة أقوال الشاهد .. ولا كيفية توقيعه علي أقوال لم يقلها .

ويقول صالح : إن كل متهم من أعضاء الإخوان المسلمين كانوا يرغمونه علي التوقيع علي أقوال .. دون سماعها .. كانوا يواجهون الأسئلة علي الورق .. ويضعون لها الإجابة .. ثم يكلفون المتهم بالتوقيع .. ومن كان يحاول أن يقرأ أو يعترض يتعرض لكل أصناف التعذيب . وكانت تلك صورة تتكرر مع كل شاهد .. ومع كل متهم .. كان رئيس المحكمة جمال سالم يعتقد أنها مؤامرة حقيقية ، ولم يخطر بباله أن الأوراق التي أمامه كلها مزيفة – تمامًا كما اعتقد زملاءه أن ثورة الشعب والمظاهرات في أزمة مارس كانت ثورة تلقائية سببها تعلق الشعب بهم .. ثم اكتشفوا بعد ذلك أنها كانت ثورة مدبرة دفع أجر لقيامها أربعة آلاف جنيه إلي الصاوي أحمد الصاوي رئيس نقابة عمال النقل ، وأن الذين حركوا المظاهرات هم مجموعة من الضباط الذين جمعهم عبد الناصر من غرز الحشيش والمواخير كما وصفهم كمال الدين حسين ..

ولعل الدليل الأكيد علي أن الرئيس السابق عبد الناصر كان لا ينقل إلي زملائه الحقيقة أبدًا .. إنما كان يعطيهم دائمًا لاتصالاته الصورة التي يرسمها بنفسه .. هو ما حدث خلال جلسات تلك المحاكمات عندما كان المرحوم منير الدلة أحد زعماء الإخوان المسلمين وواحدًا ممن كانوا علي صلة بعبد الناصر حتى إنه رشحه للوزارة عام 1953 .. يدلي بشهادته أمام المحكمة ودار بينه وبين رئيس المحكمة الحوار التالي :

سأله : رئيس المحكمة : هل تذكر يوم ما رحت مع صلاح شادي إلي جمال عبد الناصر في سنة 1953 ، وطلبتم منه أن تعرض عليكم مشروعات القوانين قبل صدورها ؟

وأجاب منير دلة : إحنا قابلنا جمال عبد الناصر ؛ لنبدي له أن الإخوان المسلمين يؤيدون الثورة ، وتطرق الحديث بين الرئيس وبين صلاح شادي إلي موضوع القوانين ، وقال له صلاح : حبذا لو عرض الحاكم مشروعات القوانين علي الشعب قبل إصدارها ، ودا كان رأي شخصي ولم يكن رأي جماعة .

وقاطعهجمال سالم صارخًا : أنتم قلتم : لازم الحكومة تعرض القوانين علي الجماعة ، فقال لكم : الحكومة لا تقبل الإخوان ، والحكومة تمثل الشعب أكثر من الإخوان .

ورد الشاهد : أنا أقسمت علي كلامي – ولم يتركه جمال سالم يكمل بل قاطعه قائلا :

إحنا كمان أقسمنا بيننا وبين ربنا .

فقال الشاهد : أنا أروي الواقعة كما حدثت .

فصرخ جمال سالم : كلامك ده فيه نوع من الاتهام لجمال عبد الناصر ، إنه مش عارف ينقل الكلام صح .

ولفريد عبد الخالق في تدبير هذه المحاولة رأي يقول فيه :

لا شك أنها كانت محاولة وهمية لاغتيال عبد الناصر .. فلم يكن أحد ابتداء من المرشد إلي أعضاء مكتب الإرشاد يفكر في اغتيال عبد الناصر .. بل إن المرشد هو الذي استجاب لنداء عبد الناصر بحل الجهاز السري عندما طلب منه ذلك وأعلن أن لا سرية في الدعوة .. وعندما رفض عبد الرحمن السندي حل الجهاز عزله وعين يوسف طلعت بدلاً منه تمهيدًا لتصفيته . وقال فريد : إن المعلومات التي وصلته هي أن الحكومة هي التي دبرت المحاولة للتخلص من الإخوان ، وأن محمد الجزار الذي كان ضابطًا في القلم السياسي قبل الثورة ، واتهم في الاشتراك في حادث اغتيال الإمام حسن البنا كان يتردد علي مركز الإخوان المسلمين محاولاً تبرئة نفسه أمام قادة الإخوان .

وفي إحدى مرات تردده وكانت العلاقة بين الحكومة و الإخوان متوترة سمع المرحوم هنداوي دوير – وكان من الشبان المتهورين – يردد : " لازم نقتل جمال " .. والتقط الخيط وذهب إلي المباحث العامة في محاولة للتقرب من السلطات وأبلغهم أن هنداوي دوير يدبر خطة لاغتيال جمال عبد الناصر . ووجدها المسئولون فرصة .. تعقبوا هنداوي وعلموا أنه يرأس خلية في إمبابة أعضاؤها طلبة بالجامعة ، والسمكري محمود عبد اللطيف .. وقع اختيارهم علي تدبير المحاولة وإسنادها إلي محمود عبد اللطيف ليكون بداية خيط للتخلص من الإخوان . واختاروا الزمان والمكان .. ونفذت الخطة .. اختطفوا محمود وأخذوه إلي الإسكندرية ومعه مسدس عثروا عليه في منزله . واقتاده ثلاثة منهم إلي ميدان المنشية .. وأجلسوه في الصفوف الأمامية وأحاطوا به ... وفي لحظة الصفر أطلق أحدهم .. ولابد أنه من أمهر الرماة ثماني رصاصات لم تصب واحدة منها أحد من الذين فوق المنصة رغم كثرة عددهم باستثناء إصابة سطحية للمحامي أحمد بدر بينما أصابت الرصاصات اللمبات الكهربائية .

ويؤكد ذلك أن الجماهير قبضت علي ثلاثة كانوا مع محمود عبد اللطيف ، ثم لم يأت ذكرهم بعد ذلك .. كما أن المسدس الذي كان مع محمود تبين أن طلقاته ليست من نفس نوع الطلقات التي أطلقت .. وبعد الإعلان أنه تم ضبطه وفي يده المسدس عادت الصحف ونشرت أن عامل بناء عثر علي المسدس الذي استخدم في الحادث .. واختفت سيرة المسدس الأول تمامًا – كما أن المحكمة لم تستمع إلي أقوال الذين قيل : إنهم قبضوا علي الجاني ، ولا إلي أقوال عامل البناء رغم أهمية شهادتهم – ولعل ذلك يرجع إلي خوف المسئول عن تدبير الحادث أن يخطئوا في أقوالهم فيكشفوا أن الحادث كان مدبرًا .

وهناك رواية أخري تتلخص في : أن المحاولة تمت بتدبير بين عبد الناصر و هنداوي دوير الذي استطاع أن يقنع محمود عبد اللطيف بضرورة اغتيال عبد الناصر وأعطاه المسدس ورسم له الخطة .. بينما نفذا إطلاق الرصاص أحد أعوان عبد الناصر بمسدس آخر ، ويؤكد هذه الرواية أن هنداوي قام بتسليم نفسه بعد وقوع الحادث مباشرة . ولو كان مشتركًا في الجريمة فعلاً لظل هاربًا حتى يقبض عليه . إنما سلم نفسه حتى يسرد اعترافات تطيح بكل جماعة الإخوان وبالرئيس محمد نجيب علي أمل أن يكون له مكان مرموق بعد ذلك ، ولكن عبد الناصر تخلص من الشاهد الوحيد ضده الذي يكشف الحقيقة بإعدامه . وكان ذلك سببًا في أنه كان يردد وهو في طريقه إلي المشنقة : ضحكوا علينا .. ماكنش دا اتفاقنا .


الباب الأول : نظرة الإخوان المسلمين قبيل قيام الثورة


الفصل الأول : مكانة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت أمام الرأي العام

بعد هذه العجالة التي استعرضت تطور العلاقات بين ثورة 23 يوليو وبين الإخوان المسلمين . يجدر بنا أن نوضح للقارئ مكانة الإخوان المسلمين في المجتمع المصري وقت قيام هذه الثورة وقبل قيامها ، وحتى لا تترك فجوة بين حقبتين من التاريخ ، لاسيما أمام جيل الثورة ، وهو الجيل الذي نشأ بعد يوليو 1952 وتلقي معلومات معينة وقفت بالتاريخ في نظره عند يوليو 1952 باعتباره أول تاريخ بلاده الحديث . ونحن وإن كنا قد أشبعنا هذه النقطة من قبل شرحًا وتوضيحًا ، وألقينا عليها الأضواء من كل جانب ، بحيث أبرزت أحداثها مكانة الإخوان المسلمين في المجتمع المصري قبل قيام الثورة .. فإن ذلك لا يمنع – تيسيرًا علي القارئ – من أن نستعير آخر صورة أوردناها في هذا الصدد ؛ ليكون القارئ علي ذكر منها فنقول :

كانت القوى المهيمنة في مصر قبل قيام الثورة ثلاث قوى : قوة حزب الوفد – وقوة الأحزاب الأخرى ، وقوة الملك ، ولعل القارئ – بمتابعة ما قرأ هذه المذكرات من احتكاك بين الإخوان وبين كل من هذه القوى الثلاث – قد استطاع أن يتصور مدي ما كان لكل واحدة من هذه القوى من نفوذ ، وأنها بمجموعها قد استحوذت علي السلطة ، وأنها تقاسمتها فيما بينها فأخذت كل واحدة بنصيب ، محاولة أن تغير علي الأخرى لانتهاب جزء من نصيبها .. لكن السلطة والنفوذ في نهاية الأمر لا تخرج عن نطاق هذا الثلاثي المحتكر المسيطر .. أما الشعب المسكين فكان هو النهب المباح والغنيمة الباردة لهذه القوى . وظهرت دعوة الإخوان المسلمين وسط هذه السيطرة ، وفي غمار هذا الاحتكار الذي يؤيده الاستعمار ، ولقيت ما لقيت من تصدي هذه القوى لها تصديا لا هوادة فيه .. وكان لكل من هذه القوى معها دور من أدوار ، تحت عين الاستعمار وبتوجيهه وتأليبه .. كان كل دور منها كفيلاً بالقضاء علي هذه الدعوة واستئصال شأفتها لولا ما تسلح به رجالها من إيمان بالله ، ولولا ما ألهم الله به قادتها من حكمة وثبات .. وقد أومأت في خلال ما مضي من هذه المذكرات إلي دور أو أكثر مما كان للدعوة مع كل من هذه القوى .

ثم كان آخر هذه الأدوار الذي استجمع الكل قواهم – بعد أن استنفد الوفد كل ما في جعبته من سهام – ووجهوا الضربة القاضية التي أشرت إليها ، والتي ما كان أحد يظن أن تقوم ل الإخوان بعدها قائمة .. وشاء الله أن يخيب ظن الجميع ، وأن ترجع الدعوة للحياة أقوى مما كانت ، أصلب عودًا وأقوى شكيمة .. مما ألقي الرعب في قلوب الجميع .. وما كان أمامهم من سبيل غير الاستسلام والخضوع . وإليك صورة من مظاهر هذا الاستسلام .. مما يلقي ضوءًا علي مكانة الإخوان المسلمين في المجتمع المصري خلال تلك الحقبة من الزمن .

• الوفد : بعد الحملة الشنعاء التي حملها الوفد علي الإخوان في النصف الأخير من الأربعينيات ، والتي تفرغ لها الوفد ، وجرد لها جميع أسلحته ، والتي أنشأ جريدة يومية خصصها لهذه الحملة ,, بعد إعلان هذه الحرب وخوضه غمارها .. وبعد ما تبعها من حملة الأحزاب الأخرى مجتمعة مع الانجليز والملك ، بما فيه من حل واعتقال واغتيال وتنكيل وتعذيب .. جاءت وزارة الوفد عام 1950 فوجدت أمامها الإخوان المسلمين أقوى مما كانوا . ووجدت الشعب حولهم أكثر التفافًا ، وبمبادئهم أشد تمسكًا .. فلم تجد مفرًا من مد يد الود لهم .. ورأت – تقربًا إلي الشعب – أن تسارع بإلغاء قرار الحل الذي لم يكن إلغاؤه إلا تحصيل حاصل ؛ حيث كان الإخوان قد استردوا كل شيء لهم إلا دورهم . ثم رأت حكومة الوفد أن تزداد تقربًا إلي الشعب فأقدمت علي ما لم تكن تجرؤ علي الإقدام عليه من قبل فأعدت إلغاء معاهدة 1936 .

وكان إلغاء حكومة الوفد لمعاهدة 1936 دافعًا قويًا ألجأ الوفد إلي التقرب إلي الإخوان المسلمين وخطب ودهم ؛ لأنه فوجئ بأن إلغاء المعاهدة قد أوجد فراغًا لا يملؤه إلا قوة شعبية أخذت نفسها بأسلوب التضحية و الجهاد .. ولم تكن هيئة في مصر قد أخذت نفسها بهذا الأسلوب غير الإخوان المسلمين ، وقد جربوا أنفسهم في ذلك الأسلوب في فلسطين وأبلوا بلاءً حسنًا .. ورأت حكومة الوفد شهداء الإخوان من طلبة الجامعات وغيرهم يتساقطون في ميدان الجهاد ضد المستعمر .. ورأوا المرشد العام ل الإخوان المسلمين الرجل الوحيد القادر علي إحباط مؤامرات الانجليز يخف إلي دار البطريركية ويقابل البطريرك الأكبر الأنبا يوساب ويظهر معه أمام الصحافة العالمية متعانقين . وأخرج الوفد من الحكم عقب حريق القاهرة وهو يعلم من هم أصحاب النفوذ المتغلغل في نفوس الشعب ، ومن هم القادرون علي مواجهة المستعمر وأذنابه .

• الأحزاب الأخرى : أسندت الوزارة إلي علي ماهر ، فكان من أوائل ما عمد إليه وقد أسندت إليه الوزارة في 27 يناير 1952 أن قابل المرشد العام في اليوم الرابع من فبراير ، حيث مكثا يتحدثان ساعة ، ثم قابل المرشد وزير العدل ساعة أخرى .. ثم ظهرت الصحف بعد هذه المقابلة بأيام تقول : " استجابة لطلبات المرشد العام بادر رفعة علي ماهر باشا رئيس الوزراء فاستصدر من مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 5 فبراير 1952 قرارًا بأن يعهد بأمر التدريب العسكري للشباب عن كافة نواحيه إليه بصفته وزيرًا للحربية والبحرية بدلاً من وزير الدولة . وله أن يتخذ جميع التدابير والإجراءات اللازمة لذلك . وستقدم وزارة الحربية الأسلحة والأدوات اللازمة لتدريب الشباب وإقامة المعسكرات لهم " .

وتوالت اللقاءات بين رئيس الوزراء و المرشد العام ، وكانت اللقاءات تتم بينهما منفردين دائمًا بناء علي رغبة المرشد العام ، حتى تحدد ميعاد للقاء بينهما في 27 فبراير 1952 ، وذهب المرشد العام إلي رئاسة مجلس الوزراء ، فلما دخل مكتب رئيس الوزراء فوجئ بوجود جميع رؤساء الأحزاب .. كان لهذه المفاجأة معني خاص فيما نحن بصدده .. وقد يلمح القارئ هذا المعني من بين ثنايا ما نشرته جريدة " المصري " في اليوم التالي تحت عنوان : " تصريحات لفضيلة المرشد العام عن حل القضية المصرية " حيث كتبت تقول :

علم " مندوب المصري " من مصادر مطلعة أن فضيلة حسن الهضيبي بك المرشد العام ل الإخوان المسلمين كان قد أبدي رغبته لرفعة علي ماهر باشا منذ بدأ مشاوراته لتشكيل الجبهة السياسية في أن يبدي فضيلته آراءه لرفعته كلما شاء دون التقيد باجتماعات تضمه مع آخرين ، ولذلك فوجئ فضيلته أمس الأول حين دعي للاجتماع برفعة علي ماهر باشا فإذا بمكتب رفعته يضم الجمع دفعة واحدة . وعلم المندوب أن فضيلته حين دخل علي رفعة علي ماهر باشا أمس الأول في مجلس الوزراء ، كان يعتقد أن رفعته انتهي من مشاوراته مع بقية رؤساء الأحزاب وأن فضيلته سيجتمع برفعة علي ماهر باشا وحده ؛ ولذلك كان عقد الاجتماع من الجميع دفعة واحدة مفاجأة لفضيلته . فلما سئل عن رأيه أثناء الاجتماع المذكور قال فضيلته : " إنني سبق أن بينته لرفعة رئيس الوزراء " ، فقال هيكل باشا لفضيلته : هل تسمح أن تذكر لنا ما قلته لرفعته ؟ فقال فضيلته : " إن رأينا صريح في أنه لا مفاوضة ولا اتفاق مع أحد " ، وقد اكتفي فضيلة المرشد العام بذلك مفضلاً عدم الدخول في مناقشات طويلة مع هيكل باشا .

وسأل المندوب فضيلته عن السبب في اختياره للإدلاء إلي الصحفيين بنص البيان المشترك الذي نشرته الصحف أمس عن الاجتماع برفعة علي ماهر باشا ، وهل يفهم من هذا البيان أن المجتمعين فيه كونوا جبهة واحدة معًا ؟ فقال فضيلته : " إن المجتمعين اتفقوا علي أن تلقي هذه الكلمة علي الصحفيين . واقترح مكرم باشا أن ألقيها .. ومادام قد تم الاتفاق عليها فأي منا يلقيها ، وإلقاؤها لا يحمل أي معني .. ولكن ليس معني ما حدث أننا كونا جبهة واحدة ، و الإخوان المسلمون مستقلون في إبداء آرائهم ولن يكونوا جبهة مع أحد " . وكان البيان الذي ألقاه المرشد العام هو : " لقد تبادلنا الرأي في الموقف السياسي والجميع متفقون علي تحقيق أهداف البلاد " . فالقارئ بغير ما جهد أو إمعان فكر يستطيع أن يري في هذا النص الصحفي دلالات منها :

1 – أن الحكومة تري في عقد لقاءاتها مع الإخوان المسلمين ما يطمئن الشعب إلي حسن نيتها وسلامة وجهتها وجدية موقفها .

2 – أن الحكومة تتلمس ما يرضي الإخوان فتعلن اتجاهها إليه وأخذها به ووضعه موضع التنفيذ ؛ تقربًا إلي الشعب وإرضاء لمشاعره .

3 – أن الأحزاب المختلفة – علي تعددها وادعائها تمثيل الشعب – لم تر في التفافها جميعًا حول رئيس الوزراء – المؤيد من الوفد أيضًا – ما يكفي لإقناع الشعب ولا لإقناع الانجليز بأنهم الجهة الممثلة للأمة ، ولابد من وجود هيئة علي رأسهم هي متجه الأنظار وموضع تقدير الجميع .

4 – أن هذه الهيئة تري نفسها – كما يراها رؤساء الأحزاب في قرارة نفوسهم – أرفع من أن يضمها معهم اجتماع ، فلجئوا إلي تدبير ما يشبه الكمين ليحظوا بالظهور أمام الرأي العام وهذه الهيئة بينهم .

5 – تعبيرًا عن التقدير والاحترام ، وإقرارًا منهم برفعة مكانة هذه الهيئة رأوا أن يتكلم باسمهم جميعًا ممثل الإخوان المسلمين أمام الرأي العام عن طريق الصحافة .

6 – أن هذه الأحزاب كانت حريصة علي معرفة رأي الإخوان ، علمًا منهم بأنه هو الرأي الذي يجب أن ينزل الجميع عليه ؛ لأنه هو الرأي الذي تسنده القوة المنظمة المتغلغلة في جميع الأوساط .. وبدا تلهف الأحزاب علي معرفة هذا الرأي في الاستفسار الذي وجهه هيكل باشا إلي المرشد العام تو دخوله الاجتماع .

7 – أن رد المرشد العام علي هيكل باشا كان يحمل في اقتضائه معني التبرم من مجرد ضم الاجتماع له معهم .

8 – إعلان المرشد العام علي صفحات الصحف – بعد الاجتماع – أن الإخوان المسلمين مستقلون في إبداء آرائهم ، وأنهم لن يكونوا جبهة مع أحد .. أسلوب لا يجرؤ علي الجهر به وإعلانه علي الملأ إلا إنسان يشعر أن أسباب القوة قد اجتمعت كلها في يده ، وأن توجيه الأمر أضحي طوع أمره .

9 – أن الانجليز حين أحسوا بأن الوزارة والأحزاب قد التزموا برأي الإخوان وألقوا إليهم بالقيادة ، عملوا علي التخلص من رئيس الوزراء علي ماهر ، لعل غيره يأتي متحررًا من الخضوع لنفوذ الإخوان ، فبعد يوم واحد من إعلان قرار هذا الاجتماع أسقط الانجليز علي ماهر ، بمضايقته – متضامنين في ذلك مع الملك – مضايقة لم يستطع معها البقاء .

وخلف علي ماهر في الوزارة أحمد نجيب الهلالي الذي لم يختلف عن سابقه في شيء إلا في مبادأته حزب الوفد بالعداء في ظل سياسة سماها " سياسة التطهير " – أما سياسة الالتزام بإلغاء المعاهدة ومواجهة الانجليز – ولو ظاهرًا – فلم يستطع أن يعلن تخليه عن شيء منها ، وظل علي سياسة اللقاءات مع المرشد العام . وحل الهلالي مجلس النواب وأعلن عن موعد لإجراء الانتخابات ، وطلب رأي الإخوان فأعلنوه برفضهم خوض معركتها ، فلم يقنع بهذا الإعلان وطلب منهم أسباب الرفض فأوضحوا له أسباب الرفض في مذكرة .. فأجل موعد إجراء الانتخابات أكثر من مرة ، وفي كل مرة كان يحاول جر الإخوان إليها .. وقد أفضنا نمن قبل في موقف هذه الوزارة من الإخوان والانتخابات ومحاولاتها المستميتة لجرهم إلي خوضها وإصرار الإخوان علي الرفض ، وكأن هذه الوزارة إنما جئ بها لتحقيق هذا الغرض ، فلما فشلت في تحقيقه أسقطت .. ولا داعي لذكر حكومة تالية لهذه الحكومة .. وحسبك أن تعلم أنها لم تعمر أكثر من عشرين يوما .

الملك : هو القوة الثالثة في البلاد ، وكان برغم الصعوبات التي أحاطت به في تلك الحقبة ، قد استطاع لأول مرة أن يسيطر علي القوتين الأخريين معًا ، فقد استطاع أن يطوي الوفد تحت جناحه وأن يسلكه ضمن المسبحين بحمده ، المتغنين بمجده ، المتقبلين للطماته بالشكر والامتنان .. ولا تستطيع أن تقول : إن ذلك كان وليد قوة طرأت علي مركز الملك ، وإنما كان نتيجة الضعف الذي تطرق إلي أعصاب حزب الوفد ، بعد أن طالت أيام بعده عن الحكم وتحرق شوقًا إلي جلسة طويلة علي كراسيه .

هذا الملك – مع تحقيقه ما لم يكن يحلم به يوما من الأيام من السيطرة علي جميع الأحزاب في مصر – لم يشعر أنه حقق شيئًا يذكر من القوة يستطيع أن يركن إليه للاطمئنان علي عرشه وللثبات في مركزه .. لأنه – أحس لأول مرة – أن هناك مركز ثقل جديد انتقل إليه النفوذ الشعبي ، وأن عرشه قد أضحي بين إصبعين من أصابع هذه القوة الجديدة . وتذكر أن بين هذه القوة وبينه ثأرًا قديمًا .. وتذكر أنه هو الذي سلط عليها من قبل زبانيته فشردوا أعضاءها وملئوا بهم السجون والمعتقلات ، وساموهم ألوان العذاب ، واغتالوا مؤسسها ، وأوهمه زبانيته بعد أن اغتالوا مؤسسها أنه قد آن له أن ينام مطمئنًا علي عرشه ملء جفنيه – وتذكر أن هذا المؤسس طالما طلب وألمح في الطلب أن يجتمع به ، ولكنه كان في كل مرة يرفض في صلف أخذًا بنصيحة زبانيته ، الذين كانوا حريصين علي الحيلولة دون تحقيقه . جاء في شهادة الأميرلاى أحمد كامل قائد بوليس القصور الملكية أمام محكمة عند نظر قضية اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا قوله : " كان الملك متخوفاً من الإخوان المسلمين كثيرًا ؛ لدرجة أنه كلفني في ذلك الوقت أن أشدد الحراسة عليه في تنقلاته ، وعمل حواجز حديدية علي الأبواب الرئيسية لسراي القبة وعابدين " لإجبار السيارات الداخلة إليها علي الوقوف والتحقق ممن فيها ، كما طلب مني إخراج المستخدمين والموظفين الذين ينتمون إلي جماعة الإخوان المسلمين من السرايات والتفاتيش الملكية " واعتقادي أن هذا الحادث ارتكب لحساب الملك السابق والحكومة .

وهكذا دارت الأيام ، و عمل الزمن عمله ، وحقق الله تعالي سنته في خلقه واكتشف الملك أخيرًا أنه كان مضللاً حين أوهموه بأنه قد آن له أن يأمن كل الأمن وينام ملء جفنيه .. كيف وقد رأي نفسه يواجه أضخم قوة شعبية مسيطرة يتقرب إليها الجميع ، ويلتمسون رضاها – حتى زبانيته أنفسهم – ولم تكن هذه القوة إلا جماعة الإخوان المسلمين التي أوهموه أنهم قد قضوا عليها . هذا الملك الذي رفض من قبل في صلف وكبرياء طلبات تقدم بها مؤسس هذه الدعوة أكثر من مرة للالتقاء به .. وجد نفسه مضطرًا أملاً في الاحتفاظ بعرشه – أن يستجدي لقاء بينه وبين مرشد هذه الهيئة الجديد .. وبعد لأي .. تم اللقاء .. ولكنه كان علي الصورة التي وصفناها في باب سابق .. وأيقن الملك بعد هذا أن الوقت المناسب قد مضي ، وأن القطار قد فاته ، ولا أمل في استرضاء هذه الهيئة بعد أن ضيَّع – بتضليل مستشاريه – كل الفرص المواتية . وأحس الملك أن نهايته صارت قاب قوسين أو أدنى فصار يتخبط تخبط التائه في لجة بحر صاخب لا يدري أين يتجه ولا إلي أين تحمله الرياح .

وقد يظن القارئ أن الإخوان المسلمين بتبوئهم هذا المكان العليّ بين هذه القوى الثلاث قد آلت إليهم السيطرة السياسية وحدها دون السيطرة الاجتماعية ، فنقول :

إن القوى السياسية في مصر متمثلة في الأحزاب والملك إنما هي في ذاتها وجه آخر للقوى الاجتماعية في البلاد ؛ ذلك أن هذه الأحزاب لم تكن إلا واجهة سياسية للإقطاعيين المستغلين الذين كانوا يملكون الأرض ومن عليها ، كما أن الملك وحده كان الإقطاعي الأكبر الذي لم يكتف بذلك ، بل كان همه أن يملك – فيما يملك – الإقطاعيين الآخرين . ولم يصل الإخوان المسلمون إلي ما وصلوا إليه من مكانة مسيطرة في تلك الحقبة من الزمن إلا بعد أن خاضوا ضد هذا النوع من الإقطاع غمار معارك دامية – كما أشرنا إليه من قبل وليس هنا مجال تفصيلها – ولكن حسبك أن نعلم أن شُعَبَ الإخوان المسلمين في العاصمتين وفي أحشاء الريف ، كانت مثابة للضعفاء والفقراء من العمال والفلاحين وذوي المهن وأمنًا يأوون إليه في أوقات فراغهم ، فيجدون الصدور الحانية والقلوب المحبة .. وفي ظل هذا الإشراق الروحي ، والتوجيه القرآني يبدءون – لأول مرة في حياتهم – يشعرون بوجودهم ، ويحسون بقيمتهم ، ويعرفون أن لهم حقوقًا .. لا تلك التي تحددها القوانين ،وإنما تلك التي منحها الله عباده يوم أنزل القرآن فقال : (يَا أيُّهَا النَّاسَ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأَنَثي وَجَعَلْناكُمُ شُعْوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكَرَمَكُمَ عِنَدَ الله أَتَقَاكُمَ) .

ومن هنا كان الجفاء دائما بين هذا النوع من ذوي القلوب الصماء من الإقطاعيين وبين هذه الشُعَب التي اعتبروها سرطانًا أصيبت به قراهم وبلادهم .. وتفاوتت درجات الصراع بين هؤلاء الطغاة وبين الشعب ، حتى وصل الصراع في بعضها إلي سفك الدماء .. وكانوا دائمًا هم المعتدين . هذه لمحة خاطفة قصدنا من إيرادها في هذا المقام أن نلفت الذين نظروا فرأوا بخارًا دفع عجلات القطار فتحركت واندفع القطار بعد سكون ، فسألوا البخار من أين جئت ؟ فقال لهم : لقد أوجدت نفسي ولا فضل لأحد عليّ . فانبهروا بما فعل البخار وصدقوا ادعائه .. وشغلهم انبهارهم بما فعل البخار عن أن يعرضوا هذا الادعاء علي عقولهم ؛ حتى تمحصه هذه العقول ، وتخبرهم بأن ادعاء البخار ادعاء باطل .. ولابد أن أصل البخار كان ماء باردًا حتى انصهر بل إنه كان لشدة برودته ثلجًا .. ثم تولَّته يد صناع بدفتها – صابرة علي هذه البرودة وصار ماءً سائلاً ، فأحكمت قبضتها عليها ، وسلطت عليه من حرارة جسمها ونفسها حتى ارتفعت حرارته . وجاء قوم كانت مصلحتهم أن يظل هذا الماء ثلجاء جامدًا ، ولم ينتبهوا إلي هذه اليد الدافئة التي تحتضنه إلا بعد أن تفكك الثلج وصار ماءً وارتفعت حرارته .. جاءوا فطاردوا هذه اليد لتدع الماء ولكنها تشبثت به ، فهبطوا عليها بهراواتهم ، فلم تجد معها الهراوات ، فجربوا ما لديهم من أدوات الجرح والتعذيب تلقاها الجسم كأنه بصبر وإيمان واحتساب ، مدافعًا عن يده المتولية أمر الماء .. ولم يدر يخلد أصحاب المصلحة هؤلاء أن ما ينزلون به علي هذه الجسد من الضرب والطعن يولد في هذه اليد حرارة جديدة عجلت بغليان الماء حتى تحول كله إلي بخار ، تفاقم ضغطه في وجه هؤلاء القساة فحطمهم تحطيمًا .

هذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً .. الثورة هي مواجهة الشعب بشيء جديد غير الذي ألفه وكان يعيشه رغما .. فإذا لم يكن هذا الشيء الجديد واقعًا للتفاعل معه والترحيب به – إذا لم يكن ذلك كذلك فإنه سيقابل من النفوس بصدود ، ومن الشعب بالرفض والمقاومة . والأشخاص الذين يظهرون علي مسرح الثورات يكونون كالطفل الذي يولد ، فلا يطمئن أهل بلده إلي سلامة مولده إلا إذا عرفوا أباه وأمه . فإذا اطمأنوا إلي انتسابه إلي من يعرفون تلقوه بالقبول وهنأ بعضهم بعضًَا بمقدمه ، وأفسحوا له من قلوبهم وغمروه بعواطفهم .. أما إذا لم يجد أهل البلد أن أحدًا ممن يعرفون قد تقدم معترفًا بأبوته مسرورًا بانتسابه إليه ، فإنهم يعتبرون العامل لقيطًا فينفرون منه ، ويعرضون عنه ، ويعملون علي التخلص منه .

والشعوب مهما اختلفت في درجات الوعي فإنها تتفق في مدي حساسيتها لقضايا مثيرة معينة . ومنذ بدأ النصف الأخير من الأربعينات أخذ الشعب في مصر يشعر بالإحباط وخيبة الأمل إزاء السلوك الشخصي للملك .. نعم ، إن الشعب لم يتخذ موقفًا إيجابيًا من هذا السلوك ، لكنه كان يحس في قرارة نفسه بالمقت والاشمئزاز .. وشرع ينصف العاملين في حقل السياسة علي أساس من هذا الشعور . وأجريت الانتخابات العامة عام 1950 – وكانت انتخابات حرة فعلاً وقد مارستها بنفسي وكنت رئيس لجنة فيها – وكان الشعب قد صنف المتقدمين لهذه الانتخابات علي الأساس الذي أشرنا إليه .. فكان المنتسبون إلي الملك أو أحزاب الملك صنفًا .. والذين عرف عنهم أنهم يعارضون سلوك الملك صنفًا آخر .. وكان الصنف الأخير هو حزب الوفد ، ومن ورائه الإخوان المسلمون .. وأسفرت الانتخابات عن فوز حزب الوفد واندحار أحزاب الملك . ثم رأي حزب الوفد بعد أن اعتلي كراسي الحكم ، وذاق حلاوتها أن يتشبث هذه المرة بهذه الكراسي ، وخيل إليه أن هذه الأمنية لا تتحقق إلا إذا هو تغاضي عن سلوك الملك وسار في ركابه ، وبذلك يقطع الطريق علي الأحزاب الشكلية الأخرى التي يستدعيها الملك كل مرة حين يضيق ذرعًا بحكومة الوفد لوقوفها في وجه أهوائه .. وهذه السياسة التي ارتآها حزب الوفد هذه المرة هي السياسة التي يحكم بها العقل المجرد لقوم نسوا أو تناسوا أن الله تعالي هو الفعال ما يريد ، وأنه تعالي يغير ولا يتغير .

وكان من نتيجة هذه السياسة الجديدة للوفد أن ارتكبت حكومته هذه حماقات ما كان يخطر ببال أحد أن يرتكبها الوفد ، منها سنُّ تشريع حظر نشر أخبار الملك ، ومنع دخول مجلات أجنبية تصف ما يرتكبه الملك من مهازل في نوادي القمار بالخارج ، وسنُّ تشريع لتقييد حرية الصحافة . وكان لهذه السياسة ضجة لفتت الأنظار ، وهبطت بمكانة الوفد في النفوس .. وضم الشعب في تصنيفه حزب الوفد – أسفًا – إلي الصنف الأول .. ولم يبق في الساحة بعد ذلك من الصنف المعارض للملك إلا الإخوان المسلمون وفلول من تجمعات أخرى . ولا شك في أن الثورة التي كان الشعب يتمناها وينتظرها هي ثورة الحكم في مصر الذي صار الملك يمثله تمامًا ولا يشذ عن ذلك حزب . ولما كان آخر تصنيفه صنفه الشعب للعاملين في حقل السياسة لم يبق فيه في خانة المعارضين للملك من الهيئات الشعبية المتغلغلة في أحشاء البلاد إلا الإخوان المسلمون .. فقد تعلقت أنظار الشعب بهذه الهيئة ينتظرون منها عملاً .. فلما قام بهذا العمل أفراد لا يعرف الشعب عنهم شيئًا ، راقبوا اتصالاتهم فوجدوها تتم بينهم وبين الإخوان المسلمين وفي بيوت قادة الإخوان المسلمين فاطمأنت قلوب الشعب ، وعلموا أنها الثورة المأمولة فرحبوا بها وساندوها .

سقطت قصة البخار لأنها سنة طبيعية لا تخلف لها ، تقوم عليها السموات والأرض ؛ ولأنها توضح تمامًا علاقة هذه الثورة بدعوة الإخوان المسلمين .. فالثورة نبعت من هذه الدعوة ، وكانت النتيجة الحتمية لها ، والقائمون بالثورة كانوا من صفوفها .. ولم لم تقم هذه الدعوة في الوقت الذي قامت فيه ، ولولا جهادها المستميت خلال ربع قرن من الزمن في إيقاظ الشعب وتربيته وإعداده لما كان الثورة أن تقوم ، ومع ذلك فأكرر ما سبق أن قررته في هذه المذكرات من قبل ، وهو أن الوصول إلي كراسي الحكم لم يكن هدف الإخوان وإلا لكان ذلك متاحًا لهم من قبل دون القيام بثورة ، فقد توالي علي دست الحكم في مصر من كان هو وشيعته أدني من شعبة واحدة من شعب الإخوان المسلمين علما ومواهب وثروة بالرجال .. وإنما كانوا يؤثرون دائمًا أن يجدوا من أتباعهم أو من غير أتباعهم من يلتزم بالحكم بكتاب الله ، علي أن يكونوا هم من ورائه يؤيدونه إذا صدق ، وينصرونه إذا التبست عليه الأمور ، ويذكرونه إذا نسي ، ويسندونه إذا اختل توازنه ، ويحمونه من نفسه ومن بطانة السوء ، ويقفون حائلاً بينه وبين منحدر الغرور والانحراف . هذا هو الموقف الذي كان الإخوان قد اختاروه لأنفسهم ، وآثروه بما اختاره الإخوان لأنفسهم من موقف ، لتجنب كثيرًا مما وقع فيه من أخطاء ، ولوجد من ورائه من يسدده ، ويقبل عثرته ويشير عليه ، ويبصره ، ويحميه من نفسه ومن الانحدار الذي انتهي به وببلاده إلي الكوارث التي خلفها من بعده .


• واقعة طريفة :

وإذا كان الإخوان المسلمون في ذلك الوقت هم مناط الأمل ومتجه الأنظار ، صار المركز العام كعبة تأتي إليها الوفود من كل مكان .. وأذكر في الأيام الأخيرة قبل الثورة بقليل أن جاء إلي المركز العام شابان أجنبيان يحمل كل منهما حقيبة صغيرة وكاميرا ، فتقدمت إليهما مستغربًا فأخبراني بأنهما صحفيان من السويد قدما ؛ ليأخذا حديثًا من المرشد العام ، وكان المرشد العام منشغلاً مع آخرين ، فلما أخبرته بأمرهما طلب مني أن أجلس معهما حتى يفرغ من القوم الذين معه . فجلست إليهما وتحدثت معهما فكان حديثهما معي مفاجأة لي ما كنت أتوقعها .. نعم ، إن مجيئهما من السويد إلي مصر للقاء المرشد العام مما لا يحتاج إلي توضيح أن الإخوان المسلمين كما تألقوا في سماء مصر وتعلقت بهم الأنظار ، فكذلك شعر المحللون السياسيون في أنحاء العالم أن الدور صار دور الإخوان المسلمين وأن عصر الإخوان المسلمين مقبل لا محالة بعد المعارك الضارية التي استسلم في نهايتها عهد الاستعمار وأذنابه ، فجاء هذان الصحفيان من السويد كما جاء أمثالهم من كثير من دول أوربا وأمريكا ؛ لاستطلاع آراء الإخوان المسلمين فيما ينتوون من سياسة الحكم الإسلامي في مختلف الشئون .

وهذا ما توقعت أن أسمعه من هذين الصحفيين . وفعلا كان أول سؤال وجهناه إليّ هو : نحن نعرف أن الإخوان المسلمين يريدون أن يحكموا بالنظام الإسلامي . ولما أحسسنا أن هذا النوع من الحكم أوشك أن يقوم في مصر ، فقد رأينا أن نستفسر عن الطريقة التي تنفذون بها الحكم الإسلامي في هذا العصر الذي نعيشه ..؟ ولما طلبت منهما أن يحددا لي نواحي الحياة ؛ لأشرح لهما تعامل الحكم الإسلامي معها قال أحدهما : سنأخذ ناحية واحدة من نواحي الحياة مثلاً لذلك ، وهي ناحية المواصلات .. كيف تتعاملون معها بالنظام الإسلامي ؟ لقد أصبحت وسائل المواصلات بالترام والقطارات والسيارات بل والطائرات ضرورة لازمة ، فكيف تتعاملون إسلاميًا مع هذه الوسائل .. والنظام الإسلامي وسيلة مواصلاته هي الجمال ؟! فكان ما سمعته منهما مفاجأة لي اضطررت معها أن أشرح لهما النظام الإسلامي شرحًا مستفيضًا ، أخبراني بعده أنهما لأول مرة يعرفان هذه الصورة الرائعة عن الإسلام .

الفصل الثاني : نظرة إلي الإخوان المسلمين من الـداخـل

حتى تكتمل صورة الإخوان المسلمين في هذه الحقبة من الزمن – وقد ألقينا عليها الأضواء من خارجها – ينبغي أن ننفذ بأبصارنا إلي داخل هذه الصورة ؛ لنري ما كان يعتمل في أعماقها من انفعالات وتفاعلات ، وما انطوت عليه أحشاؤها من أوجاع وآلام .. وبهذا التصوير الواقعي الشامل للصورة من خارجها ومن داخلها يكون الحديث عن تطور الأحداث بعد ذلك حديثًا موصولاً واضحًا مقنعًا .. يحمل مل حدث في نفسه مبررات حدوثه .. وليس أبغض إلي نفس قارئ التاريخ من أن يجد نفسه أمام أحداث مبتورة ، بترت عن مقدماتها ، وأخفيت عنه ظروفها ومبرراتها .

وإخفاء الظروف والمبررات ، يكون سوء النية عادة من ورائه .. ولكن كثيرًا ما يحدث يحسن نية ويقصد التسامح والمجاملة .. غير أنه في كلا الحالين يكون غمطًا للحق وتشويهًا للتاريخ ، وتضليلاً للذين يدرسون التاريخ يريدون أن ينتفعوا من دراسته . ومركز الدعوة قبيل قيام الثورة وعند قيامها أمام الرأي العام المصري والخارجي ، وإن كنا قد حاولنا إبقاءه حقه من التوضيح والبيان ، فإن هذا الجانب من صورة الإخوان المسلمين جانب ظاهر ومعروف ومشهور للكافة الذين عاصروه ، ومسجل في الصحف والكتب ليطلع عليه من لم يعاصروه .. أما الجانب الآخر للصورة من داخلها فهو الجانب الغامض المعقد المغلق ، الذي يقف أكثر المؤرخين عاجزين عن الغوص وراء أسراره ، وقد يلجأ بعضهم إلي التأويل والتفسير ، وقد يلجأ آخرون إلي انتهاز هذا الغموض فرصة للخلط والتحريف والاختلاق .. ونمن هنا كان حقًا علينا أن نجلي هذه الناحية بالقدر الذي مكنتنا في هذه الدعوة من رؤيته . ونظرتنا هذه من الداخل تتناول موقفين : موقف أولي القوة ، وموقف أولي القربى .

موقف أولي القوة :

سبق لنا القول بأن النظام الخاص (أولي القوة) في أواخر أيام الأستاذ الإمام – رحمه الله – قد خرج علي الخط المرسوم له ، وأتي أفعالاً لا تتواءم مع وسائل الدعوة ولا مع أهدافها ، دون الرجوع في شأنها إلي الأستاذ الإمام ؛ مما جعل الدعوة والأستاذ الإمام في أحرج المواقف ، وأشرنا إلي عزم الأستاذ الإمام علي إعادة النظر في هذا النظام ، لولا أن تفاقمت الظروف وعاجلته المنية ولقي – رحمه الله – ربه والإخوان في السجون والمعتقلات . وذكرنا في موضع آخر من الجزء الثاني من هذه المذكرات ، عند الحديث عن الظروف التي أحاطت بالبحث عن مرشد عام جديد أنه كان هناك تياران أطلا برأسيهما في ذلك الوقت ، هما (تيار أولي القربى وتيار أولي القوة) وذكرنا أن تيار أولي القربى قد انسحب من الميدان بعد قليل ، ولكن تيار أولي القوة كان له موقف آخر ، ووعدنا ببسط هذا الموقف فيما بعد . وقد آن لنا أن ننجز هذا الوعد حيث جاء موضعه فنقول :

خرج الإخوان من السجون والمعتقلات ، وعاد كل منهم إلي بلده وإلي أهله وإلي عمله ، خرجوا موحدي الشعور ، ينبضون بنبض واحد ، وينطلقون بلسان واحد ، ويتجهون وجهة واحدة ، يتجهون إلي القاهرة ، حيث قيادتهم ، ينتظرون منها التوجيهات ، ويتلقون منها التعليمات . خرج الصف الإخواني سليمًا معافى كأنما لم تمر به محنة ، ولم تنزل به كارثة – صحيح أنهم لم يكونوا قد استردوا دورهم ولا أموالهم ولا مستوصفاتهم ولا مدارسهم ولا مصانعهم بعد ، ولكن الرابطة الأخوية – التي كان مقصودًا من كل ما نزل بهم من عذاب وتنكيل تفتيتها – خرجت من المحنة أقوى مما كانت .. وهذه الرابطة هي العروة الوثقى .

ولكن الشيطان الذي أعجزه أن يفتن الإخوان عن دينهم بالسجن والحديد والنار استدار حولهم ؛ لعله يجد له منفذًا منه إلي صفوفهم المتراصة كالبنيان المرصوص ، فلم يجد إلا منفذًا واحدًا أن ينفخ فيه ، وينفث سمومه منه ، وكان هذا المنفذ هو تيار أولي القوة . وقبل الشروع في الحديث عن هذا الموقف يجدر بي أن أضع بين يدي القارئ حقيقة ينبغي تجليتها ، تلك هي أن النظام الخاص أو الجهاز السري – كما يحلو للبعض أن يسموه – الذي تناولنا الحديث عنه في الجزء الأول من هذه المذكرات نشأة ووظيفة ودورًا في الدعوة – قد أدي دوره في مختلف أطوارها خير أداء ، وكان مثلاً رائعًا مشرفًا في كل ميدان انتدب للنهوض بأعباء فيه ، ففي داخل مصر حمل العبء الأكبر من مطاردة الاحتلال البريطاني حتى طرده من القاهرة ، ثم لاحقه في القنال حتى أطار من عيون جنوده النوم .. وفي خارج مصر حمل العبء الأكبر في حرب فلسطين ، حيث سجل بطولات وألوانًا من الشجاعة والتضحية والفداء بهرت العالم كله . وظل هذا الأسلوب ديدن هذا النظام ، فكان دائمًا الجندي اليقظ ، والحارس الأمين لدعوته ولبلاده ولمثله التي بايع عليها ، وأعطي العهد علي الوفاء بها .

لكن فئة قليلة ضمت بعض المتصدرين في هذا النظام لعب الشيطان برءوسهم ، فاشرأبت نفوسهم إلي متاع الحياة الدنيا ، وأرادت الانحراف بهذا النظام عن طبيعته الصافية المستقيمة .. وما كان ينبغي أن يكون فئة قليلة وسط هذه الجموع الزاخرة من المجاهدين الصادقين وزن يثير الاهتمام ويبعث علي القلق – لولا أن رئيس هذا النظام كان علي رأس هذه الفئة القليلة . ومجتمعاتنا – نحن الشرقيين – لا تأتي معاناتها في أكثر الأحيان إلا من رؤساء لما تمكنوا واستقرت لهم الأمور ، نسوا تاريخهم ، وقلبوا لمجتمعاتهم ظهر المحن . وصار هدفهم الأوحد الخلود في مناصبهم مهما كان في تحقيق هذا الهدف دمار هذه المجتمعات .

وانحرف هذا الرئيس وإعجابه برأيه لم يكن وليد هذه الظروف التي سوف تشرع في الكلام عنها ، وإنما بدأ قبل محنة 1948 بفترة قصيرة .. وكانت قيادة الدعوة في ذلك الوقت عازمة علي حسم هذا الموقف ، ولكن حال دون ذلك خطوب ملحَّة جسام ، كان علي الدعوة أن تواجهها قبل كل شيء .. وقد بسطنا الحديث عن هذه الخطوب في الجزأين السابقين .. وقد انتهت مواجهة هذه الخطوب بالمحنة المدبرة . وانجلت المعركة غير المتكافئة ، وخرجت الدعوة الربانية من البلاء خروج السيف من الجلاء .. وظننا أن التجربة القاسية قد أصلحت ما تطرق إلي بعض النفوس من فساد ، وردت المنحرف إلي جادة الصواب .. ولكن تبين بعد ذلك أن شهوة السلطة ولذة المنصب كانت أقوي من أن تطفئ نارها التجربة القاسية .

كنت في تلك الأثناء بعيدًا عن القاهرة ، مقيمًا في الصعيد في بني مزار ، ولم أكن أجهل أخبار القاهرة ، ولكنني لم أكن أعلم بتفاصيلها . وكنت مطمئنًا إلي سهر الإخوة الكرام أعضاء مكتب الإرشاد علي الدعوة بحكمة وإحاطة وتبصر ، لاسيما وأن أكثرهم قد ضربوا أروع المثل في نكران الذات والتفاني في الدعوة ، فقد أعلنوا جميعًا خلع أنفسهم من التصدي لمنصب المرشد العام عدا اثنين يمثل أحدهما ذوي القربى ويمثل الآخر أولي القوة . كما أنني لم أكن قد نسيت مأساة اغتيال الخازندار ، فإنها لم تكن في عرف قيادة الدعوة ، وانطلاق في جموح .. ولازال يطن في أذني صوت الأستاذ الإمام يجأر بالشكوى إلي الله من تصرف رئيس هذا النظام .. ولولا ما عاجل الدعوة من ظروف قاسية تواترت عليها في تلك الفترة لكان له معه موقف حاسم . لم أكن أجهل شيئًا من ذلك ، ولكنني كنت أعتقد أن ما مر بنا من محن كان كفيلاً أن يقوَّم ما طرأ علينا من اعوجاج ، وأن يعود بالذين ضل بهم الطريق إلي الطريق السوي .. ولكنني فوجئت بأنني مطلوب في القاهرة .. وعندما وصلت إليها أبلغت بأن هناك شغبًا قد يودي بالدعوة من داخلها

كان الإخوان في ذلك الوقت قد اتخذوا لهم مقرًا مؤقتًا غير رسمي في منزل قديم بالعباسية ، يلحق به فناء كان حديقة في يوم من الأيام ، فاتجهت إليه حيث التقيت بالأخ عبد العزيز كامل .. فقص عليّ الأخ عبد العزيز تفاصيل الموقف ، التي تتلخص في أن إخوان النظام الخاص لا يوافقون علي أن يتولي منصب المرشد العام إلا من يرشحونه هم ، بحجة أنهم هم الذين تحملوا أشد المواقف ، وبذلوا أعظم التضحيات – وأخبرني الأخ عبد العزيز بأنهم قرروا ترشيح الأخ صالح عشماوي . سألت عن الأخ صالح فقيل لي : إنك تجده في المسجد القريب مقيمًا به لا يكاد يفارقه – فدخلت المسجد – ولم يكن وقت صلاة ، فوجدت صالحًا قد أعفي لحيته – ولم يكن قد أعفاها من قبل – واتخذ له المسجد مكانًا أشبه بالخلوة .. فسلمت عليه وجلست معه ، وتحدثت معه في موضوع المرشد العام .. فقال لي : يا أخي محمود .. أنا ما أردتها ولكن إخوان النظام رشحوني ، وما كان لي أن أخالفهم – وقد أحسست من حديثه ومن حالته التي رأيته عليها أنه جاد في الأمر ، وأنه يعد نفسه إعدادًا روحيًا حتى يكون جديرًا بالمنصب .

أما من ناحيتي لن أجد في نفسي غضاضة أن أبايع صالحًا وأن أسمع له وأطيع – وقد صارحته بذلك .. ولكن الموضوع لم يكن بمثل هذه البساطة .. إذ هناك أمران خطيران يستتران وراء ترشيح صالح : أولهما أن الإخوة الكرام أعضاء مكتب الإرشاد الذين خلعوا أنفسهم رجاء اجتياز الدعوة الظروف التي تحدثت عنها – وإذا رأوا صالحًا يتقدم للمنصب فإنهم سيعدلون عن خلع أنفسهم ويتقدمون للمنصب الذي قد يري كل منهم أنه أحق به من صالح .. وهنا تتفرق الجماعة ويذهب ريحها . وأما الأمر الخطير الآخر – وقد يكون هو الأشد خطورة – فهو الوسيلة التي رشح صالح عن طريقها .. إن مبدأ تسلط طائفة من طوائف الجماعة وإلزامها برأيهم تحت تأثير القوة هو مبدأ خطير ومدمر ، وقد يؤدي إلي إلغاء شخصية الجماعة ويحولها إلي مجموعة من المغامرين وقطاع الطرق .

وقد أحسست بعد لقائي بصالح وإصراره علي موقفه بأن عليّ واجبًا لابد أن أقوم به – وقد أكون لظروف معينة أقدر علي القيام به من غيري – ولم يكن هذا الواجب إلا عملاً إيجابيًا واحدًا .. هو مواجهة هذه الطائفة .. وأنا وإن كنت بعدت عن النظام الخاص للظروف التي ذكرت طرفًا منها ، فإنني أحتفظ بعلاقات طيبة مع أكثر قياداته وكثير من أفراده .. وكانت قيادات هذا النظام وعلي رأسهم عبد الرحمن السندي ينظرون إليّ باعتباري أخا أكبر ؛ يرجعون إليه فيما يختلفون فيه . سألت عن عبد الرحمن لأتحدث إليه فأخبرت بأنه غير موجود – ولعله قد بلغه نبأ استدعائي فآثر ألا يلقاني اتقاء الحرج – ولم أجد إلا نائبه الأخ أحمد زكي ومعه مجموعة من أفراد النظام .. وأخبرني الأخ عبد العزيز بأن قيادة النظام قد احتلت هذه الدار واتخذتها مقرًا لها . وأنها تطارد كل من يفكر تفكيرًا يخالف تفكيرهم في اختيار المرشد ، حتى إنه لم يعد أحد غير أفرادهم يجرؤ أن تطأ قدمه هذه الدار ، وأخبرني أنه يئس من حملهن علي العدول عن فكرتهم أو حتى علي التخفيف من هذه القيود .

ورأيتهم فعلاً قد فرضوا نظامًا صارمًا ينفر منه من ألف الجو الإخواني المفتوح المشبع بروح الإخاء والمحبة والود .. حتى إنني حين طلبت مقابلة الأخ أحمد زكي أرادوا إخضاعي لهذا النظام المنفر ، لاسيما والأفراد المكلفون بتنفيذه من صغار الأفراد الذين لا يعرفون كثيرًا من الإخوان ، وقد زادني ما قوبلت به من صلف حنقًا علي تصرفهم .. وكان الحديث عن هذا الصلف والجفاء هو أول حديثي مع الأخ أحمد زكي وقلت له : إذا كان الذين سيقودون الإخوان علي مثل هذا الجفاء والصلف فإنهم سيوردون الإخوان موارد الهلاك ، وسيكونون أنكي علي الدعوة من أل أعدائها . وتحدثت إليه حديثًا طويلاً بينت له فيه خطأ الاتجاه الذي عزموا علي السير فيه ، وخطورة نتائجه ، وختمت حديثي معه بقولي : إنني يا أحمد – كما تعلم – أحد الذين أسسوا هذا النظام .. ولكنني سأكون أول من يعمل علي تعويضه إذا كان يريد أن يفرض نفسه علي الدعوة .. وإذا كان أفراد من هذا النظام يطالبون بأن ينالوا مناصب في الدعوة لقاء ما قدموا وما تحملوا من تضحيات ومتاعب ، فإن النظام يكون قد حل نفسه بنفسه ؛ لأنهم يكونون قد نكثوا العهد الذي أخذه كل فرد منهم علي نفسه يوم أعطي البيعة أن يقدم روحه وماله لله ، ومعني ذلك في أبسط معانيه أنه لا ينتظر علي ذلك أجرًا ولا منصبًا ولا حتى الثناء يسمعه من الناس .

وكان الأخ ينصت إليّ باهتمام لما يعرف عن مدي ما أحظي به من تقدير الكثرة الغالبة من قادة النظام ، ومقدار ما أتمتع به من حبهم وثقتهم ، كما يعلم أنني لا أسعي إلي كسب شخصي ولا أقصد فيما أقول وأفعل إلا وجه الله .. وقد طلبت إليه إبلاغ الأخ عبد الرحمن بكل كلمة قلتها ، وأن يبلغه أنني سأكون في انتظاره في هذا المكان في نفس الموعد من الغد إن شاء الله . وحضرت في الموعد فوجدت الأخ أحمد الذي أبلغني بأن عبد الرحمن قد اقتنع وقال : ما كان لنا أن نخالف أخانا الكبير .. كما أخبرني أحمد بأن عبد الرحمن يعتذر عن الحضور ؛ لأنه سيكون خارج القاهرة لموعد سابق .. فعلمت أنه يتفادى مواجهتي في مثل هذا الموقف . ولم يكن لقاؤه يعنيني ،وإنما الذي كان يعنيني هو أن أري ما يدل علي عدولهم عن موقفهم .. فرأيت الأخ أحمد قد أصدر أمرًا إلي الأفراد الذين كانوا يتناوبون الحراسة بالانصراف ، كما أعلن أمامهم العدول عن خطتهم ، وترك الأمر لجمهور الإخوان لاختيار من يشاءون مرشدًا ، وأنه سيكونون في ركب من يقع عليه اختيار الإخوان . وكان الإخوان قد وقع اختيارهم علي الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي مرشدًا عامًا – وقد سبق في الجزء الثاني من هذا الكتاب ذكر ذلك بإفاضة – فلما علم الإخوان بجلاء إخوان النظام الخاص عن المكان وعدولهم عن خطتهم ، دعوا الأستاذ الهضيبي لزيارة هذا المركز العام المؤقت ، فجاء في اليوم التالي في مجموعة من كبار الإخوان ، وكنت في استقباله .. وكانت هذه المرة هي المرة الثانية التي ألقاه فيها .

وسعدت مع من سعد من الإخوان بهذه النتيجة ، معتقدًا أن إخواننا هؤلاء من قادة النظام الخاص قد سلموا بخطتهم عن اقتناع ، وأن المشكلة بذلك قد وصلت إلي نهايتها المأمولة .. وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين .. لقد اختفت هذه النزعة ، وبدت أمور الدعوة مستقرة ، واستأنفت السفينة سيرها في بحر هادئ ، وأخذت الدعوة تحقق كل يوم تقدمًا ونصرًا ، حتى احتلت مكان الصدارة في المجتمع المصري والعربي والإسلامي . وتألقت الدعوة في سماء مصر ، وشدت جميع الأنظار إليها .. تتطلع إليها في شوق وتلهف أنه قد حانت ساعة الخلاص ، وتحقق للناس ما طال انتظارهم له فقد قامت الثورة ، ولم يكن أحد يشك في أنها ثمرة جهود ربع قرن ، ثم فيه إيقاظ الشعب وتربيته وتثقيفه وتنظيمه .. وكان الأمر فعلاً كما اعتقد الناس ، ولكن لم يكن أحد يعلم أن هؤلاء الذين ظهروا علي المسرح من الإخوان ، كانوا يكنون في قرارة نفوسهم غدرًا بالدعوة التي تربوا في أحضانها وقامت حركتهم في كنفها وحمايتها .. وسرعان ما وضع الخلاف بين هؤلاء وبين قيادة دعوتهم .. ولما كان لهذا الخلاف آثار بعيدة المدى علي ما نحن بصدده في هذا الفصل مما يتصل بأولي القوة فقد نقف في الحديث عند هذا الحد لنستأنفه إن شاء الله في مواضع قادمة ، فقد يطول ويطول .

موقف أولي القربى :

تحدثنا في الجزء الثاني من هذه المذكرات عن موقف أولي القربى عند البحث عن خليفة للأستاذ الإمام ، وقلنا إن أحد هؤلاء وهو الأستاذ عبد الحكيم عابدين خلع نفسه من التصدي لهذا المنصب ، ولكن الأستاذ عبد الرحمن البنا شقيق الإمام أعلن أنه يري نفسه أحق بأن يخلف شقيقه في منصبه بالدعوة .. فلما رأي أن جميع من حوله من المسئولين لا يقرون هذا الاتجاه انسحب من الميدان .. ولكن يبدو أن انسحابه هذا لم يكن عن اقتناع ، أو بمعني أدق : انسحب وفي النفس شيء أو أشياء . أما الأستاذ عبد الرحمن نفسه فلم يحاول أن يتصدي للمرشد الجديد بعداء ، ولم يتصرف تصرفًا يؤخذ عليه ، ولكنه انكمش انكماشًا أحس معه جمهور الإخوان بأنه غير راض عن هذا الوضع الجديد ، وبأنه يسير في ركاب الدعوة سير صاحب الحق المغلوب علي أمره . علي أن هذا الموقف من الأستاذ عبد الرحمن لم يكن ليضير الإخوان في شيء ، فالعاملون في الدعوة كثيرون ، وإن كان المطلوب ألا يكون في نفس الأخ وهو يسير في ركاب الدعوة حرج.

ولكن الذي حدث هو أن رأي الإخوان بعض أشقاء الأستاذ الإمام الآخرين قد وقفوا موقفًا ، واتخذوا لهم أسلوبًا غير كريم ، حتى إن أحدهم نشر في الصحف كلامًا مثيرًا ما كان لرجل منتسب إلي حسن البنا أن يفوه به . وقد شكل هذا الموقف ثغرة في البناء ، كان يسترها لبنات لا يراها الرائي مستقرة بل يراها قلقة في موضعها غير مستقرة ولا مشدودة بأخواتها ولا ملتحمة (معهن) وكأنها بوضعها هذا تقول لدعاة التخريب : هأنذا ، ومن هنا فابدأوا .

وسيري القارئ إن شاء الله – مع الأسف – أن هذه الثغرة كانت فعلاً نقطة ضعف في البناء الإخواني ، وكانت هذه المجموعة من أصحاب هذا التيار موضع استقطاب من كل من حاول تخريب هذا البناء .. نعم ، إنها كانت فئة قليلة العدد ، ولكنها كانت عظيمة الخطر ؛ لأنها اتُخذت شعارًا ، واستعارها المخربون رمزًا ، واصطنعوا منها ستارًا يسترون وراءه خبث نياتهم وسوء سريرتهم . وبالرغم من الإساءات التي صدرت من بعض إخوة الأستاذ الإمام ، فإن الإخوان لم يتخذوا أي إجراء ينتقصون به من قدر الأستاذ عبد الرحمن ، فقد كانوا حريصين علي أن يرعوا له ماضيه في الدعوة ، ويكرموا في شخصه شقيقه الإمام ، فاحتفظوا له بمكانه في الهيئة التأسيسية وفي مكتب الإرشاد ، وكان موضع حبهم واحترامهم . ولكن هذا التطاول علي صفحات الصحف من بعض إخوته قد أغضب الكثيرين من الإخوان في كل مكان ، فأساءوا الظن بكل من يمت إلي هؤلاء بصلة قرابة ، فأساءوا بذلك إلي إخوان كرام بغير جريرة هذه القرابة ، في حين كانوا من أخلص الناس لدعوتهم لا يعدلون بها شيئًا من قرابة أو نسب .. وأعرف من هؤلاء الإخوان أخًا كريمًا وداعية كبيرًا بمكتب إداري البحيرة هو الأستاذ معروف بدر ، وكان كل ذنبه أنه من قرية في مركز فوة ملاصقة لشمشيرة القرية التي نشأ بها الأستاذ الإمام ، وتربط أسرته بأسرة الإمام آصرة قرابة .. أُخِذَ بهذه الجريرة ، فطورد ونظر إليه شزرًا ، وأبعد عن الوسط الإخواني في ذلك الوقت ، مع أني أعرف أنه برئ كل البراءة من هذه التهمة ..ولكن الفترة كانت حالكة ، والحساسيات كانت مسيطرة علي الأعصاب ، والجو كان مشحونًا بالتوتر.

الباب الثاني : معالم الخلاف


الفصل الأول :الحكم بكتاب الله

هذه قضية فات أوان أن يرفضها حاكم رفضًا صريحًا .. نعم ، جاء علي بلادنا وقت كان الناس يعتبرون مجرد إثارتها نوعًا من الهذيان والرجعية ، ولكن مع جهود أكثر من عشرين عامًا بذلها الإخوان في الالتحام بمختلف طبقات الشعب ، وتبصيره وتثقيفه أخذت هذه الفكرة الدخيلة المسئولية علي النفوس والعقول تنقشع شيئًا فشيئًا حتى زالت هذه الفكرة الدخيلة تمامًا ، وحل محلها الاقتناع بأن الحكم بكتاب الله هو الحكم الأمثل ، وأن الشريعة الإسلامية هي السماء التي لا تطاولها سماء في عالم التشريع أيا كان مصدر هذا التشريع . استقر هذا الشعور في نفوس الحاكم والمحكوم علي السواء .. أما المحكوم فإنه يطالب بالحكم بالشريعة الإسلامية ؛ لأنه سيعود بالخير عليه وعلي المجتمع .. وأما الحاكم وإن كان مقتنعًا بها ، فإن بريق السلطة المطلقة التي لا يحدها قيد ، يتلألأ بين عينيه فيبهره ويزيغ بصره ، وتتراءى له هذه الشريعة عائقًا يحد من سلطته .

وقد تبين للقارئ مما سبق أن الفئة من الإخوان الذين اشتركوا مع جمال في التحضير للقيام بالثورة كانت فئة محدودة العدد ، وهذا هو التكتيك السليم في مثل هذه الأمور الخطيرة التي يكون عنصر السرية فيها أهم عناصر نجاحها .. وهكذا فوجئ الإخوان في كل مكان بقيام الثورة ، ثم اطمأنوا عقب ذلك في الحال إلي أنها ثورتهم .. وأخذ الإخوان في جميع أنحاء العالم يستبشرون ويهنئ بعضهم بعضًا لا بأن الحكم قد آل إليهم وإنما بأن الحكم بكتاب الله قد آن له أن يتحقق . وهو الأمل المنشود ، والهدف الذي من أجل الوصول إليه اقتحم الإخوان الأهوال ، واستعذبوا مرارة الموت . كان الإخوان في شعور غامر من السعادة وخف كثير منهم إلي أعضاء مجلس الثورة يتبادلون العناق والقبلات ، ولكن المرشد العام عرف كيف يستغل جمال عبد الناصر طبيعة تكتيك الثورات من ضآلة عدد المشتركين في الإعداد لها ، كما استغل ما اتفق عليه من نفس المرشد علاقة الثورة بالإخوان حرصًا عليها ، وبناء علي ذلك استطاع أن يتملص من العهود والمواثيق .. وإزاء ذلك رأي المرشد العام نفسه أمام حكومة غير ملتزمة ، وأن عليه أن يتعامل معها برفق ، وأن يتقدم إليها – علي أساس أنها مجرد حركة إصلاحية – داعيا إلي الحكم بالقرآن ؛ شارحًا لها مزايا ذلك الحكم ، وموضحًا لها أن هذا الحكم لا يتعارض مع وجود أجناس وأديان أخري في البلاد ، داعمًا شرحه بالحجج والأسانيد ، ومزيلاً ما عسي أن يثار من شبه حول عدالة الحكم الإسلامي حيث يتمشي مع العقل وطبيعة الحياة .

ولقد انتهز المرشد فرصة حلول ذكرى المولد النبوي وفي عام 1952 فأقام حفلاً بهذه المناسبة بالمركز العام دعا إليه رجال الثورة فحضر محمد نجيب وجمال عبد الناصر وعدد آخر ، كما حضره الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر وقد ألقي المرشد العام كلمة جامعة ضافية ، جاء فيها :

" ولسنا نطالب الأخذ بكتاب الله لنشتفي بالعقوبات الصارمة التي سنها الله تعالي ، بل نطلب الأخذ به كُلا لا يقبل التجزئة ؛ لأنه ما من حكم فيه إلا وهو مترتب علي أحكامه الأخرى ، ولا تجد عقوبة إلا وقد سدت الذريعة إليها وأسقط عذر الجاني في جنايتها . وأول ذلك : التعليم وهو واجب علي كل مسلم ومسلمة ، وحق لهما لا يجوز أن يحرما منه . وعلي ولي الأمر أن يهيئ لهما أسباب تعلم الإسلام وأحكامه وبلوغ دعوته إلي الناس . وهذا فرض عين علي كل أحد ، ويجب أن تكون مهمة التعليم الأولي وهي تعلم إقامة الوازع النفسي في الناس حتى يكون إقبالهم علي طاعة الله والتخلق بالأخلاق الفاضلة مبنيًا علي هذا الوازع ، فإذا غاب الوازع عن بعض الناس جاء دور العقوبة .

وقد ذكر الله تعالي العقوبات في آيات معدودات ولم يذكرها إلا مرة واحدة ، ولكن القرآن ملئ بمناجاة النفوس وحضها علي الخير والبر والأخلاق الفاضلة ، وعلي ولي الأمر كذلك أن يهيئ لهما أسباب العلوم الأخرى التي تحتاج إليها الأمة في شئون حياتها ؛ من زراعة وتجارة وطب وهندسة وطيران وفنون حرب إلي غير ذلك . وهذا فرض علي الكفاية يلزم المسلمين جميعًا ، ولا يسقط عنهم إثم تركه إلا حين يتعلم منهم من يسد حاجة الأمة في كل فن . والواجب الثاني علي وليّ الأمر هو أن يسهر علي توفير الأرزاق للناس ، فإن شريعة الله تقتضي بأن يكون لكل إنسان في الدولة مسلمًا كان أو غير مسلم الحق في منزل يرد عنه حر الصيف وبرد الشتاء ، ويمنع عنه الأعداء والمتطفلين ، والغذاء الذي لابد منه لحفظ كيانه وصحته ، والكساء الذي لابد منه للشتاء والصيف ، والعلاج الذي يلزمه إذا مرض .

هذه حقوق لازمة في عنق الدولة ، وليست صدقات يأتيها الناس أو لا يأتونها – والسبيل إلي توفيرها لهم العمل ، فكل إنسان عليه واجب الحصول علي عيشه من طريق العمل خلال بحسب ما تؤهله له مواهبه ، وتهيئه له ظروف حياته ، ويجبر علي العمل إذا هو قعد عنه ، فالإسلام لا يحب القاعدين فإذا كان عمل العامل لا يكفيه أو لم يجد عملاً أو كان غير قادر علي العمل أصلاً فهو في كفالة المسلمين عامة – في كفالة الدولة – تمده بما يحتاج إليه أو نقص من حاجاته الضرورية .

• الزكاة : وسبيل ذلك الزكاة التي يجب علي كل مسلم أن يؤديها ، ويجب علي الحكومة أن تحصلها ، وللفقراء حق معلوم فيها لا يجوز بحال من الأحوال أن يحرموا منه ، ولا أن ينتقص شيء منه قبل أن يستوفوا حقوقهم التي ذكرناها . فإذا لم تكف الزكاة فقد أصبح علي كل من عنده فضل من المسلمين أن يعود به علي إخوانه في الإنسانية بما يوفر لهم حاجاتهم . والحاكم مسئول أن يوفر له ذلك ، والزكاة تصرف في المكان الذي جمعت فيه ، ولا تنقل إلي جهة أخري إلا إذا استغني أهل الجهة التي جمعت فيها – وهو أحدث ما أخذ به في معالجة الفقر في الأزمنة الحديثة . أما تنظيم ذلك كله فهو من الأمور التي تخضع لظروف الزمان والمكان .

وهكذا أيها الإخوان ، رفع الإسلام الحياة الاجتماعية للناس بالعلم وبلوغ الدعوة وإعطاء الفقير حقه ، ويعالج الأمور من أساسها بطريقة عادلة ميسورة – ثم هو يطلق القوى والمواهب لتحصيل العيش كما يريد الإنسان – للمسلم أن يجمع من الثروة ما شاء بشرط أن يكون من حلال ، وكل واحد من المسلمين له حق في أن يجمع من الثورة ما شاء ، بشرط أن يكسب ماله من حلال وينفقه في الحلال ، فلا يباح لأحد أن يصرف في غير الأوجه التي أحلها الله تعالي ، فلا خمر ولا ميسر ولا شيء مما تعارف الناس علي عدّه من المباحات ، فإذا فعل ذلك وادي حق الله فيه ، فإن الإسلام يحمي ماله ويقطع اليد التي تمتد إليه .

• عقوبة السارق : إن عقوبة السرقة التي يرتجف منها الناس عقوبة فيها غاية الرحمة بالناس ، لأنه لا يصح إنزالها بالسارق إلا إذا استوفي حقوقه التي ذكرناها كلها ووفر له المجتمع تعليمه ولباسه وطعامه ومسكنه وعلاجه ، بل وسد عنه دينه ، وهي بعد عقوبة رادعة تمنع البغاة الذين نالوا حقوقهم من الجماعة من أن يفكروا في السرقة ، ومن فعل منهم فعليه الجزاء .

• ست مرات : وتاريخ المسلمين أن يهيئوا للناس تلك الحياة الاجتماعية النظيفة الراقية ، وجدوا أن عقوبة القطع لا تتفق مع أحوال المسلمين فمنعوها ، وهم علي حق في منعها ، ولكنهم كانوا بغاة ظالمين في حرمانهم الناس من حقوقهم في التعليم وضروريات الحياة ، وكانوا بذلك مسئولين عن تعطيل حدود الله .

• الربا : إن بعض علماء الانجليز والألمان تقدوا نظام الفائدة ، وردوا إليه الاضطرابات في أحوال العالم الاقتصادية واقترحوا إلغاءه بالتدرج – وهم في ذلك يعودون إلي أصول الأديان من عدم التعامل بالربا . وإن كانوا يبنون آراءهم علي فكرة تنمية الأعمال الاقتصادية في العالم . وما من شك في أن مقدور العقل الإنساني أن يحل من المعاملات الناجحة في الاقتصاد ما يغني عن الربا .

• حركة الجيش : أيها الإخوان . إن حركة الجيش قد تمت بنجاح ، ويجب أن تستمر بنجاح ، ويجب أن يجد الناس في الإخوان المسلمين قومًا يعملون ولا يتكلمون ، ويحقون الحق ويبطلون الباطل ولو كره الناس أجمعون .

هذا ما اقتطعناه من كلمة المرشد العام أمام رجال الثورة . ولعل القارئ يلاحظ فيها ما أشرنا إليه من قبل أنها كلمة جمعت بين الحث علي الأخذ بكتاب الله وبين الإقناع العقلي ، الذي لو وجه إلي حاكم غير مسلم لتاقت نفسه أن يسعد شعبه بمزايا هذا النظام العادل الحكيم . ويذكرنا هذا بقول الحكيم الذي لما عرض عليه الإسلام سأل عن عدة أمور معينة ، فلما أجيب عليها بما جاء به الإسلام قال : " لو لم يكن هذا دينًا لكان في أخلاق الرجال حسنًا " .


الفصل الثاني : علاقة الحكم بالجيش

من الطبيعي حين يقوم جيش بانقلاب أو ثورة أن يقوم بتصدر جهاز الحكم فيه أول الأمر فئة من أفراده ، حتى إذا استقرت الأمور ، وشعر الجيش بتأييد شامل من الشعب ، كان علي الجيش أن يرجع إلي ثكناته ويسلم قيادة الأمور إلي الشعب ممثلاً في أفراد منه يري فيهم الشعب الكفاءة والأمانة يصعدهم إلي مناصب الحكم بمحض إرادته المتحررة من كل خوف وبالطرق الديمقراطية السليمة . كان هذا هو ما دار في خلد كل مصري حين قامت الثورة . وما كان غير هذا يمكن أن يدور في خلد أحد ؛ لأن الثورات إنما تقوم لترد للشعوب حريتها المسلوبة ، ولترسي دعائم الحكم الصالح النابع من إرادة هذه الشعوب . ولكن الذي حدث – وكان مفاجأة ل الإخوان كما جاء في الفصل الأول – أن الإخوان وجدوا أن جمال عبد الناصر متشبث بأهداب الحكم ، مُصِر علي إبقائه في حوزته ، وأن فكرة التخلي عن الحكم قد استبعدت تمامًا ، فماذا كان موقف الإخوان حيال هذا التحول المفاجئ ؟ .


• نظرية المرشد العام :

كان ل المرشد العام في هذا الصدد نظرية مقنعة ملخصها : أن الشعوب إذا ابتليت بحاكم ظالم تبذل جهدها في مقاومة ظلمه بجميع وسائل المقاومة ، حتى إذا فشلت كل جهودها لم يبق أمامها من ملجأ تلجأ إليه وملاذ أخير تستغيث به إلا الجيش .. فالجيش هو الملجأ الأخير لإنقاذ الشعب .. فإذا كان الجيش هو الحاكم واستبد وظلم فإلي من يلجأ الشعب لإنقاذه ؟ . كان هذا هو منطق المرشد العام الذي خاطب به أعضاء مجلس الثورة .. خاطب به جمال عبد الناصر ثم خاطب به كل عضو علي حدة .. ولما كانت هذه قضية منطقية مسلمًا بصحتها يتصوروا – ماداموا هم الحاكمين – أن يصدر منهم ظلم أو أن يجد الحيف أو الاستبداد إليهم سبيلاً ؛ لأنهم ما قاموا بالثورة إلا للقضاء علي الظلم والاستبداد ، فكيف يقارفون ما قاموا هم للقضاء عليه ؟ .

ولكي لا تقع تصوراتهم هذه علي القارئ موقع الاستغراب ، ينبغي أن يستحضر القارئ في خاطره صورة مجموعة من الشباب لم يجاوز أكثرهم العقد الثالث من العمر ، لا خبرة لهم بالحياة ، وليسوا علي نصيب يذكر من الدراسة العميقة أو الثقافة المستوعبة ، وفي أحناء صدورهم قلوب نابضة بحب بلادهم .. ومع ذلك لا تبرئهم من نفثة شيطان نفخها في نفوسهم غرور السلطة المفاجئة ، التي وجدوا مقاليدها قد ألقيت إليهم مطلقة دون قيد أو شرط ودون محاسب ودون معقب . وبهذا الصدد ننقل للقارئ الكريم ما جاء علي لسان أحد هذه المجموعة في خطبة ألقاها في هيئة التحرير ب كفر الشيخ 18/4/1953 فيقول حسين الشافعي عن نفسه وعن زملائه : " إن الذين بايعوا الله وباعوا أرواحهم يوم 23 يوليو لن يتغيروا حتى يصلوا بالبلاد إلي ما اعقدوا العزم عليه . بل إنهم سيعودون إلي أماكنهم بمجرد إتمام رسالتهم ، وعندما يتأكدون من أن الشعب أصبح قادرًا بحق علي تولي زمام نفسه علي أساس من الديمقراطية الحقة " . هكذا كان اعتقادحسين الشافعي واعتقاد زملائه أنهم لن يتغيروا .. ولا أدري هل كان جمال عبد الناصر يعتقد أيضًا هذا الاعتقاد ؟ .

أخذت هذه القضية فترة غير قصيرة من الزمن ، كان خلالها مناقشات ومراجعات بين أعضاء المجلس بعضهم وبعض ، وبينهم وبين رئيسهم جمال . واعتبر جمال إثارة هذه القضية عقبة كبرى ، عله أن يجتازها قبل كل شيء ، فمخططه الذي رسمه في خاطره متوقف علي تفاديها .. وقد راح ضحية تفادي هذه العقبة اثنان من أعضاء المجلس كان لابد من إبعادهما حتى يكون المجلس منسجمًا مع تصور جمال وأفكاره . ولا عجب في إبعاد هذين العضوين ، فقد كانا أكبر الأعضاء سنًا ورتبةً ، وبالتالي كانا أكثرهم خبرة ، وأنضجهم تفكيرًا ، وأبعدهم نظرًا .. وكانا هما العضوين اللذين اقتنعا بما عرضه المرشد من قضية ، ولم يستبعدوا علي هذا المجلس العسكري الذي يدير شئون البلاد باعتبارهم بشرًا كسائر البشر أن تطغي عليهم موجة الغرور بالسلطة المطلقة ، فتنسيهم الغرض السامي الذي دفعهم إلي القيام بالثورة ، ويصير همهم الحرص علي استبقاء هذه السلطة مهما اقتضي ذلك اللجوء إلي وسائل من الظلم لن يعدموا من تبريرها لهم .. وكان هذان العضوان هما القائمقام أحمد شوقي والقائمقام يوسف صديق .

وفاتني أن أذكر أن المرشد العام حين عرض هذه القضية جعل لهم أحد خيارين : أحدهما أن يتخلوا عن كراسي الحكم لمن يختارهم الشعب ويرجعوا هم إلي صفوف الجيش مشكورين .. أما إذا اختاروا الاستمرار في كراسي الحكم : فعليهم في هذه الحالة أن يستقيلوا من الجيش ، ويقطعوا صلتهم به ويصيروا مدنيين .. وفي هذه الحالة أيضًا يرجع الجيش إلي وظيفته حارسًا لحدود البلاد ، لا حارسًا لهم في مناصب الحكم . غير أن هذا كله لم يجد نفعًا فقد رفضوا الخيارين معًا ، وقرروا أن يظلوا حاكمين وأن يظلوا في الجيش ، واقتضي ذلك أن يجعلوا من الجيش آلة طيعة لهم فأخذوا من كل ذي رأي أو شخصية ، وجعلوا مناصبه القيادية في أيديهم . وكان هذا هو الغلاف الجوهري الأول الذي تخطي جمال عبد الناصر بقوة شخصيته أمام زملائه بمجلس الثورة وطغيان نفوذه الروحي عليهم .


الفصل الثالث : المدى الذي يصل إليه الإصلاح الزراعي

مشروع الإصلاح الزراعي من المشاريع التي دار الحديث عنها قبيل الثورة ، وتناولها أعضاء المجلس النيابي في ذلك الوقت بالمناقشة وإن كانوا لم يتخذوا فيها قرارًا . ولما قامت الثورة وجهت جل اهتمامها لوضع هذا المشروع موضع التنفيذ ، كما أن هذا المشروع كان من المشاريع التي تمت دراستها في اللجان المختصة بالمركز العام ل الإخوان المسلمين . ولما طلب رأي الإخوان في المشروع وأبدوا رأيهم فيه ، تبين أن هناك نقطة معينة يختلف الإخوان مع الحكومة حولها ، وهي مقدار الحد الأعلى للملكية ، فالحكومة تراه مائتي فدان و الإخوان يرونه خمسمائة فدان ، ورأي الإخوان في ذلك كان يقوم علي الأسس التالية :

1 – تجنب ما تحدثه الطفرة من آثار ، فالانتقال من الملكيات الضخمة إلي خمسمائة فدان أخف وقعًا علي النفوس من انتقالها إلي مائتين .

2 – أن وضع ملكيات من خمسمائة فدان في أيدي أشخاص قادرين علي الصرف عليها يعود بالخير علي البلاد . أما تفتيت الملكيات ووضعها في أيدي معدمين فسيحرم البلاد من إنتاج هذه الملكيات ويحرم من آلت إليهم كذلك .

3 – أن نظام الميراث الإسلامي سوف يتكفل بتفتيت هذه الملكيات ذوات الخمسمائة فدان ولكن بطريقة غير متعجلة وتدريجية وليس فيها مصادمة للنفوس ، وسيرفع عن كاهل الدولة عبء المساعدات المالية التي يجب أن تقدمها للمعدمين حتى يستطيعوا زراعة ما آل إليهم .

ولعل كثيرين من ذوي الخبرة في الشئون الزراعية والاقتصادية يرون في نظرية الإخوان هذه بما يقنعهم ويقنع كل من يتناول الأمور بالعقل والبصيرة .. ولكن إخواننا هؤلاء من رجال الثورة رفضوا هذا الرأي ولم يروا فيما يسنده من حجيج إلا نكوصًا وتخلفاً وميلاً إلي الإقطاعيين . ولسائل أن يسأل فيقول : إذا سلمنا بأن أعضاء مجلس الثورة في ذلك كانوا حديثي السن ولا خبرة لهم بهذه الشئون ، أفلم يكن لديهم مستشارون متخصصون ذوو خبرة ودراية ؟ ولهذا السائل نقول : كان لديهم الخبراء ، ولكن هؤلاء الخبراء لم يكونوا يجرءون علي إبداء رأي يخالف رأي سادتهم ؛ لما كان لهؤلاء السادة من سلطات تجعل من يخالف لهم رأيا عرضة لأن يلقي به في أعماق السجون أو علي الأقل في الشارع . ولهذا كان هؤلاء الخبراء يفهمون أن مهمتهم تقتصر علي تلتقي آراء هؤلاء السادة وتبنيها وتنفينها وإيجاد مبررات لها .. كما أن هؤلاء السادة كانوا عادة يتخيرون مستشاريهم من هذا الطراز من الناس ذوى الميل الطبيعي لمجاراة الحاكم في آرائه مهما كانت هذه الآراء .

ولا ندري حتى اليوم لماذا أسند جمال عبد الناصر تنفيذ هذا المشروع إلي عضو منهم كلهم يعرفون عنه أنه أشد تطرفًا ، وأخفهم حلمًا ، وتصرفاته أقرب إلي الترف والهوس منها إلي العقل والحكمة مع خطورة هذا المشروع وجسامة ما ينتظر أن يكون له من آثار .. لقد أسند هذا المشروع إلي جمال سالم .

أنموذج من آراء الخبراء العظام :

علي أن البلاد في ذلك الوقت لم نكن قد خلت من علماء أحرار ، رأوا في هذا المشروع بالصورة التي عرض بها عيوبًا خطيرة لا ينبغي السكوت عليها ، كما أن الصحافة كانت لا تزال حرة ، صفحاتها متاحة لذوى الخبرة في مختلف الميادين .. فأدلي بعض هؤلاء إلي الصحف ببحوث ضافية تتناول مناقشة هذه العيوب وأساليب علاجها .. ومن هؤلاء العلماء الدكتور عبد العزيز أحمد الذي كان يعد في ذلك الوقت أعظم الخبراء المختصين ، وكانت له مكانة عالمية .. كتب في هذا الصدد بحثًا قيمًا في هذا المشروع في جريدة " أخبار اليوم " في عددها الصادر في 23/8/1952 بعنوان :

الخطوة الأولي .. والخطوة الثانية

يجب أن يقترن تحديد الملكية بالتوسع الزراعي

نقتطف منه الفقرات التالية :

" وأخيرًا قد خطت الحكومة خطوتها الكبرى في سبيل الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بتقريرها مبدأ تحديد الملكية لإزالة الفوارق بين الطبقات " .

• العدالة الاجتماعية :

يعرف كل إنسان أن العدالة الاجتماعية تتحقق بأمرين ؛ الأول : تحديد الملكية الذي ينظم توزيع الثروة الحالية علي السكان توزيعًا عادلاً ، وهذا من شأنه أن يرفع مستوي المعيشة بين الطبقات الفقيرة علي حساب الطبقات الموسرة . والثاني : التوسع الزراعي لزيادة الثروة القومية لرفع مستوي المعيشة بين جميع الطبقات علي السواء .

• الحد الأقصى لتحديد الملكية :

وتحديد الملكية أسرع في التنفيذ لأنه لا يحتاج إلا إلي إصدار القوانين اللازمة ، غير أن اختيار الحد الأقصى للملكية أمر من الصعوبة بمكان ؛ لما قد يترتب عليه في الأوضاع القائمة ، وما قد يترتب علي ذلك من تغير في النظام الاقتصادي ، ليس من الميسور التنبؤ به نظرًا لتعدد العوامل المختلفة المتداخلة فيه ، من ذلك ما قد يحدثه من الأثر في مجموع الإنتاج الزراعي بالزيادة أو النقصان وهو من المسائل الجدلية ، وكذلك ما يتصل به من مسائل الديون والرهونات القائمة ، وغير ذلك مما لا شك أنه لم يغب عن القائمين بوضع ذلك القانون الآن . غير أني أريد أن أتناول موضوع تحديد الملكية من ناحية التنفيذ ، وأبادر إلي القول بأن الحرص والحذر يقتضيان التدرج في تجديد الملكية علي الأقل في اللائحة التنفيذية إن لم يكن في صلب التشريع ، وذلك يجعل الحد الأقصى مرتفعًا بحيث لا يقل عن 500 فدان ؛ حتى تستبين الحكومة أثره الفعلي في اقتصاديات البلاد بصفة عامة ، لاسيما أن تخفيضه فيما بعد ممكن دائمًا بخلاف ما إذا بدئ بالحد المنخفض وأصاب البلاد منه ضرر فإن معالجته تصبح متعذرة .

ويتبين من الإحصاءات أنه إذا حددت الملكية بألف فدان ، فإن مساحة الأرض التي تكون تحت تصرف الحكومة تبلغ (250 ألف فدان) ، وإذا خفض الحد إلي 500 فدان ارتفعت هذه المساحة إلي (410 ألف فدان) ، وإذا خفض الحد إلي 20 فدان كانت المساحة التي تتول إلي الحكومة (740 ألف فدان) . والسؤال المهم هو : كيف تتصرف الحكومة في هذه الأراضي متى أصبح من حقها أن تستولي عليها بمقتضي القانون ؟ وما هي الالتزامات التي تقع عليها من جراء ذلك وكيف يمكن مواجهتها ؟ . • التزامات الحكومة إزاء التحديد :

أولاً : سيكون علي الحكومة أن تدفع أرباح السندات التي تعطي للملاك الأصليين ، علي اعتبار أن للملكية حرمة مقررة في جميع الأديان ، ومكفولة في كل دساتير العالم ، ومنها الدستور المصري الذي نص في المادة التاسعة علي أن : الملكية حرمة فلا ينزع من أحد ملكه إلا بسبب المنفعة العامة وبشرط تعويضه عنه تعويضًا عادلاً .

ثانيًا : سيكون علي الحكومة أن توزع الأراضي علي صغار المزارعين .

ثالثاً : سيكون عليها أن تعاونهم بالسلفيات التي تساعدهم علي الوقوف علي أقدامهم في ملكياتهم الجديدة .

والأمر الأول والثالث ماليان ويتوقفان علي مقدرة الدولة علي الاستجابة لتلك المطالب . أما الأمر الثاني – الخاص بتوزيع الأراضي – فهو أشدهم تعقيدًا ويحتاج إلي مزيد من العناية والدراسة الدقيقة ؛ إذ أن السواد الأعظم من صغار المزارعين لا يتعدي تفكيرهم تدبير شئونهم الخاصة في الدائرة الضيقة التي يعيشون فيها ، ولابد من مرور وقت طويل قبل أن يعتادوا علي إدارة الملكيات التي سوف تصبح في حيازتهم نتيجة لتحديد الملكية ، بل إن كثيرًا من المستأجرين الحاليين يعتمدون علي الملاك ، سواء في جلب البذور أو السماد أو غير ذلك من مطالب الزراعة ، وقد يصاب الإنتاج فينقص فيعجز المزارع عن الوفاء بسداد أقساط الأرض والسلفيات ، كما أن بعض الأراضي غير كاملة الإصلاح ويتولي الملاك الأصليون إصلاحها الآن .

• الصعوبات في توزيع الأراضي :

علي أن الصعوبة الكبرى التي تواجه الحكومة عند التوزيع هي اختيار المزارع الصالح لتمليكه تلك الأراضي ؛ بسبب تفشي الرشوة والمحسوبية في الإدارة الحكومية ، ومن تعتمد عليهم الحكومة في ذلك من العمد والمشايخ وغيرهم مما تعانيه الحكومة الآن في جباية الضرائب وتوزيع أموال الضمان الاجتماعي ، وما حصل فيه من اختيار أشخاص لا حق لهم فيه . وتكون النتيجة إيثار الأقارب والأنصار وربما بعض الأشقياء الذين يخشي العمد والمشايخ بأسهم . والواقع أن مسألة إحكام توزيع تلك الأراضي أمر يتعلق بالأخلاق العامة ، وهي لم تبلغ بعد المستوي اللائق وتدعو إلي المزيد من المراقبة والإشراف الدقيق ، وأمامنا لجان التحقيق في توزيع أراضي مصلحة الأملاك في ضواحي مصر و الإسكندرية ، وقد قضت المصلحة شهورًا طويلة في اختيار الملاك لتوزيع بضعة آلاف من الأفدنة علي صغار الفلاحين في كفر سعد وغيره . وهذا في مساحات محدودة ، فكيف بمئات الآلاف من الأفدنة مما لا تستطيع الحكومة تنفيذ الآن إلا بالاستعانة بموظفين جدد ترهق بها ميزانية الدولة فوق إرهاقها .

• التدرج في تحديد الملكية :

نخلص مما تقدم أن الحرص علي أموال الدولة ، وتحقيق العدالة في توزيع الأراضي ، والمحافظة علي مستوي الإنتاج الزراعي حتى لا يصاب بالنقص – كل ذلك يقضي بالتدرج في تحديد الملكية عند تنفيذ إن لم يكن في صلب التشريع كما سبق القول – فإذا جعل الحد الأعلى 500 فدان في بادئ الأمر فإن الحكومة تحصل علي (410 ألف فدان) ، يمكن توزيعها علي 140 ألف أسرة – وناهيك بما يتطلبه اختيار هذا العدد من وقت وعناية ، وما يستلزمه في تحديد الملكيات الصغيرة وتحرير عقودها وجمع أقساطها ، وما تتحمله الدولة من أرباح للملاك الأصليين ، ومن سلفيات للزارع وتتجدد في مواعيد زراعة المحصولات المختلفة – حتى إذا ما أسفرت هذه التجربة عن نتائج مرضية أمكننا بعد ذلك أن نخطو الخطوة التالية بتخفيض الحد الأقصى إلي 200 فدان تحصل الحكومة منها علي (330 ألف فدان) أخرى ، وتسير في توزيعها بنفس الطريقة علي ضوء الخبرة والتجارب التي قد تكون اكتسبتها من التوزيع الأول ، ولعله من الخير أن يتضمن التشريع ذاته هذا التدرج في تحديد الملكية بحيث يصل في النهاية إلي 200 فدان . أما إذا رأت الحكومة أن يكون الحد الأقصى للملكية نمن الآن 200 فدان مخافة أن يتصرف الملاك فيما زاد عن هذا الحد أو أنها بدأت بـ 500 فدان ، فيمكن أن يتضمن التشريع نصًا يحظر علي الملاك التصرف في الأراضي التي تزيد علي 200 فدان ، علي أن يكون لهم الحق في استغلالها إلي أن تحدد الحكومة في الوقت المناسب التاريخ الذي يتعين عليهم فيه تسليمها إليها بعد أن تكون قد انتهت من التوزيع الأول وأصبحت مستعدة لمباشرة عملية التوزيع الثاني ، وإذا توفى المالك في تلك الفترة جار أن يطبق علي ورثته حد المائتي فدان .

• تخفيض الإيجارات ورفع أجور العمال :

وفضلا عما تقدم يمكن أيضًا إصدار تشريعات بتخفيض الإيجارات أو ربطها بالمحصول بحيث يتقسم المستأجر مع المالك الإيراد بطريقة مناسبة ، وكذلك يمكن رفع أجور عمال الزراعة وهذه كلها وسائل تهدف إلي رفع مستوي الطبقات العامة بالإضافة إلي تحديد الملكية .

• مشروعات التوسع الزراعي :

بعد بيان ما تقدم نتناول بإيجاز الوسائل التي تؤدي إلي التوسع الزراعي ، إذا نظرنا إلي خريطة مجسمة للمملكة المصرية نري أن جميع الأراضي المزروعة تقع في مناطق منخفضة تحيط بها أراضي صحراوية مرتفعة ، وكانت سياسة الري تقوم علي الري بالراحة بحيث لا تزرع الأراضي المرتفعة إلا نادرًا ؛ نظرًا لما يتطلبه ري الأراضي المرتفعة من نفقات لرفع المياه إليها ، وهي نفقات باهظة بسبب ارتفاع أثمان الوقود اللازم لتوليد القوة المحركة . وقد تبين لي أن ري الصحاري لا يمكن أن يتم علي مقياس واسع إلا إذا توافرت القوة الكهربائية بمقادير كبيرة وبأسعار رخيصة . وهذه الشروط لا تتحقق إلا بتوليد الكهرباء من مساقط المياه الكبرى ، ولهذا وضعت مشروع كهربة خزان أسوان في سنة 1932 علي أساس توليد الكهرباء في أنحاء المملكة المصرية بحيث يمكن ري الأراضي الصحراوية في جميع المساحات الممكنة . ولما قررت الحكومة تنفيذ هذا المشروع عرضته علي اللجنة الدولية في سنة 1947 فوافقت علي نقل الكهرباء إلي الوجه البحري علي يبدأ توزيعها في مديريتي أسوان وقنا حتى نجع حمادي .

• تعميم ري الصحاري :

وقد وضعت بعد ذلك مشروعًا بتعميم ري الصحاري في مصر وسياسة محددة وضمنته رسالة ألقيتها في المؤتمر الدولي الذي عقد في مصر في مارس 1949 تحت عنوان " التوسع الزراعي والصناعي المستقبل في وادي النيل " علي اعتبار أن مصر والسودان يكونان وحدة اقتصادية متكاملة وذلك علي أساس الري المستديم . وقد ثبت من التجارب التي أجرتها الجمعية الزراعية أخيرًا في بهتيم أن المقررات الحالية من مياه الري تزيد علي الحاجة ، وأن تقليلها عن المعدل الحالي قد أنتج فعلاً زيادة في المحصول ، فقد ارتفع محصول الذرة من ستة أرادب إلي أحد عشر إرديًا بتقليل مياه الري بمقدار 30% عن المعدل الحالي ، وحصل مثل هذه الزيادة في محصول القطن . وقد وصلت إلي مثل هذه النتيجة في التجارب التي أجريتها في ليبيا عندما انتدبتني هيئة الأمم المتحدة لوضع مشروعات الري وتعميم استخدام القوة الكهربائية فيها . ولهذا فقد يؤدي إعادة النظر في توزيع المياه إلي زيادة عاجلة في مساحة الزراعة الصيفية ، ريثما يتم إقامة مشروعات أعالي النيل وغيرها .

• الري بالآبار الارتوازية :

وقد دلتني خبرتي في ليبيا علي أنه من المحتمل تعميم الزراعة في المناطق الممتدة من الإسكندرية إلي مرسي مطروح فالسلوم علي الآبار الارتوازية ، بواسطة التيار الكهربائي الذي يولد من محطة رئيسية تنشأ في مرسي مطروح فإن جميع بلاد المغرب الأقصى تقوم بالزراعة فيها علي الآبار الارتوازية ، وبعضها مناطق تجري تحتها الأنهار فعلا متجهة إلي البحر الأبيض المتوسط ، وتتراوح أعماق الآبار فيها من 20 إلي 400 متر ، وبعضها تتدفق منه المياه بقوة وغزارة علي طول السنة .

وأنهي الدكتور عبد العزيز أحمد بحثه بقوله :

ذه بعض وسائل التوسع الزراعي ذكرناها إجمالاً ، ولا يتسع المقام للحديث عن التوسع الصناعي ، وهي تهدف جميعًا إلي زيادة الثروة ورفع مستوي المعيشة فيها متى صحت النية علي تحقيقها " . هذا أنموذج للبحوث والدراسات التي قدمت بين يدي المسئولين عن هذا المشروع الخطير . وقد قدمه رجل يد سياق حديثه علي أنه لم يكن خبرة مصرية ولا عالمًا مصريًا فحسب ، بل كان خبيرًا عالميًا تلجأ إليه هيئة الأمم المتحدة في مثل هذه الدراسات في أي مكان في العالم ، ومع ذلك فقد طرح بحثه جانبًا .

• من واقع الحياة :

وقد يكون واقع الحياة وحده في هذا الموضوع حكمًا بعد أن وضع هذا التشريع موضع التنفيذ بالأسلوب والصيغة التي وضعتها هذه الحكومة – وقد لا يكون للذين يعيشون خارج الريف ولا للذين يزالون أعمالاً لا تتصل بطبيعتها بمحاصيل البلاد أن يدلوا بآرائهم في هذا الأمر ، ولذا فعلنيا أن نسأل الذين عاشوا تطبيق هذا التشريع ولمسوا بأيديهم نتائجه ومارسوا خيره وشره . وقد يكون كاتب هذه السطور أحد هؤلاء الذين لمسوا بطبيعة عملهم هذه النتائج والآثار ، فباعتبار أن عملي كان الخبرة في القطن ، وكنت أحد أفراد هيئة تعد أعلي مستويات الخبرة في الدولة ، حيث يمر تحت عينيها كل محصول البلاد ، ثم كان عليّ أن أزور أراضي الإصلاح الزراعي في الوجهين البحري والقبلي لمعاينة إنتاجها كماً ونوعًا .. أستطيع أن أصدر حكمًا نتيجة هذه التجربة .. ولكني مع ذلك لا أسمح لنفسي – مهما كان اعتدادي بنفسي في مهنتي – أن يكون حكمي الحكم القاطع في هذا الشأن . ولذا فإني أحيل الباحثين في هذا الشأن إلي التقارير السنوية ، التي كانت تصدرها هيئة خبراء الاستئناف التي كنت أحد أعضائها عن حالة محصول القطن .. فسيقرأون في هذه التقارير مدى تدهور هذا الحصول الرئيسي في رتبه تدهورًا كبد البلاد خسائر جسيمة – وقد يكون معلومًا أن قيمة القطن المصري الاقتصادية ليست في كميته وإنما في نوعيته ورتبته ، فمحصول القطن المصري كمًا لا يعدو 6% من المحصول العالمي .

أما أسباب التدهور فليس هنا مجال تفصيلها ، ولكنني أستطيع أن أضع بين يدي القارئ تجربة معينة قد يفهم منها بعض هذه الأسباب :

عهد إليّ في أواخر الخمسينات القيام ببحث عن أسباب وجود بقع سوداء في القطن المصري تظهر آثارها في النسيج ، فاقتضي ذلك أن أمكث شهرًا في منطقة زراعية معينة في زمام مركز أبو حمص من مناطق الإصلاح الزراعي . وكان من دأبي إذا باشرت عملاً من الأعمال أن أمتزج بالعاملين فيه علي اختلاف مستوياتهم حتى يكون الشعور السائد بيني وبينهم الحب والاطمئنان . وكان يعمل في هذه الأرض " باشخولي " رجل ذكي كبير السن ذو خبرة وحنكة يعاونني في بحثي . وهو بطبيعة الحال موظف في الإصلاح الزراعي ، وقد كنت أتمني أن تجمعني الظروف برجل منصف مجرب عاش طول حياته في الزراعات وباشرها بنفسه قبل الإصلاح الزراعي وبعده لألقي عليه السؤال الذي يتلجلج في خاطري عن أثر قانون الإصلاح الزراعي في الإنتاج الزراعي – علي أن يجيبني إجابة صريحة دون خوف ولا وجل – وقلّ في تلك الأيام التي نتحدث عنها من كان يجرؤ علي المصارحة بحقيقة ما يعلمه عن ذلك إن كان فيما يعلم ما يمس هذا القانون من قريب أو من بعيد .

انتهزت الفرصة وألقيت هذا السؤال علي هذا الرجل الخبير المحنك الذي أحبني واطمأن إليّ كل الاطمئنان :

فكانت إجابته الآتي :

" المزارع الثري الذي أخذ أرضًا من الإصلاح الزراعي استطاع أن يصرف عليها من جيبه فأعطاها حقها من الخدمة والتقاوي والسماد ، فأنتجت إنتاجًا طيبًا . أما المزارع الفقير المعدم الذي أخذ أرضًا من الإصلاح الزراعي والذي يعتمد علي ما تمده به هيئة الإصلاح الزراعي من لوازم الزراعة فإنه ازداد فقرًا لأن هيئة الإصلاح الزراعي لا تمده إلا بجزء ضئيل من لوازم الزراعة ، ولما كانت الأرض في حاجة إلي استكمال حقها من هذه اللوازم وليس عنده ما يشتري به فإن أرضه لا تكاد تنتج ما يكفيه شخصيًا لطعامه ولا يستطيع أن يسدد شيئًا مما عليه لهيئة الإصلاح ، فتتراكم عليه الديون . ولما كانت الكثرة الغالبة من المنتفعين بالإصلاح الزراعي من الصنف الأخير فإن الإنتاج الزراعي في مجموعه قد تدهور كماً وصنفًا " .

وقد سُقت هذه الواقعة لألفت النظر إلي أن الإخوان المسلمين حين حددوا الخمسمائة فدان حدًا أعلى للملكية الزراعية لم يكونوا رافضين للإصلاح الزراعي ولا أعداء للحكومة ولا معوقين لمشاريعها ، وإنما كانوا يريدون أن يجنبوا البلاد ما كان لابد أن يحيق بها من خسائر مادية واجتماعية نتيجة الأخذ بمشروع الحكومة دون تعديل . ولكن رجال الثورة بالرغم من ضآلة إلمامهم بالعلوم الزراعية والاجتماعية وعدم خبرتهم في هذه الشئون أصروا علي أن يؤخذ بمشروعهم دون تعديل ، كأنما أنزل من لدن حكيم حميد .. وقد كان هذا الإصرار السبب في إقصاء علي ماهر عن رياسة الوزارة ؛ لأنه لم يكن يري أن يؤخذ بهذا المشروع دون تعديل . ولما كان هذا الإصرار من أمثال هؤلاء الرجال غير المختصين مثارًا للاستغراب ، ومدعاة للدهشة ، فقد رأيت استقصاء هذا الأمر بحثًا عن الدوافع القوية التي لابد أنها كانت وراء هذا الإصرار حتى سلبت هؤلاء الرجال القدرة علي الاستماع لآراء المختصين أو التفاهم مع أصحاب الرأي الآخر .. و لا أكتم القارئ إذا قلت له : إن بحثي عن هذه الدوافع هو الذي جعلني أخص هذا المعلم بالذات من معالم الخلاف باهتمام كبير وأن أوسع له من الصفحات .. ذلك أن الدافع الذي عثرت عليه لا يلقي بظلال من الريبة والشك علي المشروع فحسب ، بل إن هذه الظلال قد تمتد وتمتد إلي ما هو أبعد من ذلك .

وقد انتهي بي الاستقصاء إلي أن هذا المشروع مستوحي من جهة أجنبية ، ولم تكن هذه الجهة الأجنبية إلا وزارة الخارجية الأمريكية .

المشروع الأمريكي للإصلاح الزراعي بمصر

جاء في " أخبار اليوم " يوم 6/9/1952 تحت العنوان الآتي :

وزارة الخارجية الأمريكية تضع تقريرًا عن الملكية الزراعية في مصر

إذا وزعت الملكية توزيعًا عادلاً تغير تكوين البرلمان والأحزاب المصرية

رجال الأحزاب ينسون خلافاتهم ويتحدون ضد إصلاح أحوال الفلاح


نيويورك – من عبد الحميد الكاتب :

وضعت وزارة الخارجية الأمريكية بحثًا مفصلاً عن مشكلة إصلاح الملكية الزراعية في مصر تناول سوء توزيع هذه الملكية وأثره في حياة مصر السياسية . والتقرير من وضع " مكتب الأبحاث السرية بوزارة الخارجية " وقد أحيط بالسرية التامة فطبع منه علي الرونيو بضع نسخ لم تصل إلا إلي أيدي المختصين بشئون مصر من المسئولين في الوزارة ، وقد استطاع مراسل " أخبار اليوم " أن يحصل علي نسخة من التقرير يلخصها في المقال التالي :

يبدأ تقرير وزارة الخارجية الأمريكية بذكر الحقيقة التي يعرفها العالم كله عن مصر وهي : " برغم أن الزراعة تسيطر علي الاقتصاد المصري إلا أن الغالبية الكبرى من السكان الزراعيين يعيشون في مستوي من الحياة غير ملائم ، وبالتالي ليس لهم نفوذ سياسي في أمر بلادهم . بينما أستأثر عدد قليل نسبيًا من كبار الملاك ، بفضل ما لهم من ثروة ومن قوة اقتصادية بزمام القوة السياسية التي يستغلونها لحماية مصالحهم الذاتية . ويضرب التقرير مثلا علي هذه الحقيقة تكوين مجلس النواب الأخير ومقدار ما يملك أعضاؤه من الثروة الزراعية التي ظفروا عن طريقها بمقاعد النيابة عن الشعب الذي يعيش علي الزراعة ، ومع ذلك لا يملك زهاء أربعة عشر مليونًا منه سهمًا واحدًا من الأرض . فمن أعضاء هذا المجلس خمسة يملك كل منهم أكثر من ألف فدان ، وأربعون يملك الواحد منهم أكثر من خمسمائة فدان ، وستون تزيد ملكية الواحد منهم علي مائة فدان ، وثلاثة وسبعون يديرون تفاتيش زراعية واسعة .

نعم ، كان في هذا المجلس حوالي مائة عضو لا يعدون من الملاك الزراعيين ، ولكن منهم عدد من كبار الصناعيين وكبار الرأسماليين ، كما أن منهم عددًا من أصحاب المهن الحرة ذات الأرباح الجزيلة كالمحاماة والطب والصحافة . وعلي هذا النسق يتألف مجلس الشيوخ ، مع فارق واحد هو أن أعضاءه أوسع أملاكًا وأكثر ثراء . ومعني هذا أن البرلمان الذي يمثل بلدًا غالب سكانه من العاملين بأيديهم في الزراعة , لا يضم أحدًا من هؤلاء الفلاحين ، وإنما تتألف غالبية مجلسه ممن يستغلون هؤلاء الفلاحين . ولو كانت الأراضي الزراعية موزعة علي العاملين فيها توزيعًا يقارب أوضاع العدالة الاجتماعية ولو إلي حد ما ، لتغير تكوين البرلمان المصري وتكوين الأحزاب السياسية المصرية ، بل لتغير الوضع السياسي الداخلي في مصر تغيرًا تامًا .. ذلك أن هؤلاء الفلاحين ، ملاكًا صغارًا ومستأجرين وأجراء يكونون الغالبية الكبرى من الشعب المصري ، فبعض الإحصاءات تقدرهم بنسبة 69% من مجموع السكان ، وبعضها تقدرهم بأكثر من 75% من هذا المجموع ، وهم ليسوا بالجزء الأكبر من السكان فحسب ، بل هم أيضًا مصدر أكبر جزء من الدخل الأهلي ؛ فإليهم وحدهم يعود 45% من الدخل الأهلي في مصر كلها .

• التقدم والفقر :

ومما يزيد الأمر خطورة أن شئون الفلاحين لا تنصلح ولا تتحسن بتقدم الحياة في مصر بوجه عام ، بل هي علي النقيض من ذلك تزداد علي الأيام سوءًا وتأخرًا ونظرية المفكر الاجتماعي هنري جورج عن " التقدم والفقر " تنطبق انطباقًا حرفيًا علي مصر ، فكلما تقدمت فيها الحياة العامة ازدادت الغالبية الكبرى من أهلها فقرًا وتأخرًا . والأرقام تبرز هذه الحقيقة : ففي خلال السنين الخمسين الأخيرة زاد عدد سكان مصر بنسبة 97% ، وثلاثة أرباع هؤلاء الزائدين من الفلاحين ، أما الأرض التي يزرعونها فلم تزد بنسبة 12% ، فبينما كان نصيب الفرد من الأراضي الزراعية في سنة 1897 أكثر من نصف فدان صار نصيبه في سنة 1947 أقل من سبعة قراريط .. وفضلاً عن ذلك فإن الجزء الأكبر من الأرض التي أصلحت خلال نصف القرن الأخير أضيفت إلي أراضي كبار الملاك الذين استطاعوا بفضل ما لديهم من نفوذ سياسي أن يشتروا بأزهد الأثمان ما أصلحته الحكومة من الأراضي البور .. ومعني هذا بعبارة مختصرة أن تقدم الحياة في مصر وزيادة أراضيها المزروعة يزيد الغني غني والفقير فقرًا .

ومثل هذا يقال أيضًا عما طرأ خلال فترة الحرب وما أعقبها من ارتفاع في أسعار المحصولات الزراعية ، فإن أكثر الغنم من هذه الزيادة عاد علي المالك لا علي المستأجر أو الأجير . فمثلاً في سنة 38/1939 كان متوسط إيجار الفدان ثمانية جنيهات ، وفي سنة 42/1943 زاد إلي 15جنيهًا ، وفي 44/1945 زاد إلي 19 جنيهًا ، وفي 50/1951 زاد دفعة واحدة إلي كثر من ثلاثين جنيهًا . حدثت هذه الزيادة المطردة السريعة الضخمة في إيجارات الأراضي فاستغرقت أكثر ما طرأ من زيادة علي أسعار القطن وغيره من المحصولات الزراعية ، وبذلك بقي المستأجر علي حاله بينما ازداد دخل أصحاب الأراضي زيادة هائلة . وفي كثير من الحالات لا يحدد المالك إيجار أرضه ، بل يفرض له حدًا أدني علي المستأجر أن يدفعه مهما كانت غلة الأرض ومهما كان سعر المحصول . أما إن جاءت الغلة سخية وكان السعر مرتفعًا قاسم المستأجر ما زاد علي الحد الأدنى .

ولو كانت هناك قوانين تعطي المستأجر نصيبًا معتدلاً مما يطرأ علي أسعار محصولاته من زيادة ، وتحميه عندما يصاب المحصول في كميته أو في ثمنه ، لتحسن حال هذه الطبقة الكبيرة بفضل ما طرأ علي أسعار المحصولات الزراعية من زيادة خلال الحرب وبعدها ، ولكن انعدام هذه القوانين أدي إلي بقاء طبقة المستأجرين – وهم علي أي حال أقل سوءًا من طبقة الأجراء – تعيش مثلما كانت تعيش قبل الحرب ، في حين أن خزائن كبار الزراعيين تكدست بالأموال التي يشترون بها أملاكًا جديدة يضيفونها إلي أملاكهم الحالية ، أو يستغلونها في مشروعات صناعية تعود عليهم بدخل جديد .. وهذا وذاك يؤديان إلي تركيز الملكيات الكبيرة في أيد قليلة ، وكذلك سيطرة الملاك الزراعيين تدريجيًا علي الحياة الصناعية .

• الأحزاب السياسية ونظرتها إلي الفلاح :

ويعرض تقرير الحكومة الأمريكية لموقف الأحزاب السياسية المصرية من مشكلة الفلاح المصري ، وكيف أن هذه الحالة المؤسفة لم تثر اهتمام هذه الأحزاب اهتمامًا حقيقيًا عمليًا بما تعانيه الغالبية الكبرى من الشعب المصري . فالفلاح المصري لا يكاد يسمع من رجال هذه الأحزاب كلمة عطف واهتمام إلا في أيام المعارك الانتخابية ، ولكنه أردك بالتجربة المتكررة خلال السنين الأخيرة أن ما يبذل له من وعود أثناء الانتخابات لا تغنيه من فقره وبؤسه شيئًا ، وأن صلته بنائب دائرته وبالتالي بالحزب السياسي الذي انتخب مرشحه تنقطع ساعة يغادر مقر لجنة الانتخاب .

ونظرة سريعة إلي برامج الأحزاب السياسية المهمة في مصر ، من حيث إصلاح الريف وتحسن حال الفلاح ، ترينا أنها عبارات غامضة جوفاء لا يمكن أن تكون برنامجًا أو أساسًا لعمل أو حتى مجرد دليل علي أن حال الفلاحين المصريين شغل من أذهان واضعي هذه البرامج والمشرفين عليها جانبًا حقيقيًا من الاهتمام . فحزب الوفد مثلاً يقول برفع مستوي الحياة ..! وحزب الأحرار الدستوريين يقول بتخليص الشعب من شبح الفقر والجهل والمرض ..! وحزب الكتلة يقول بالضمانات اللازمة للتحرر من العوز .. ! .

وهكذا وهكذا .. ولا توجد أحزاب سياسية في بلد يسير علي نظام برلماني صحيح بلغت برامجها في الشئون الداخلية من الغموض والسطحية مبلغ برامج هذه الأحزاب المصرية . ولكن للمسألة جانب آخر هو أن هذه الأحزاب لم تجعل برامجها وسطحية هكذا من باب الجهل بما يجب عمله للفلاح والريف . وإنما لأن من مصلحة القائمين علي أمرها والموجهين لسياستها أن يبقي الفلاح علي ما هو عليه فقرًا ومرضًا وجهلاً .. ومظهر ذلك أن هذه الأحزاب تحتدم بينها الخصومة والعداوة ما تحتدم ، وينال بعضها من بعض بالتهم والسباب ما ينال ، حتى إذا عرضت لأمر خاص بتحسين حال الفلاح تحسينًا جوهريًا ملموسًا ، نسيت ما بينها من خلاف ووقفت جميعًا صفاً واحدًا في البرلمان . كان هذا هو شأنها عندما عرض علي مجلس الشيوخ منذ سنين بألا يسمح لمن يملك مائة فدان فأكثر أن يستزيد من الأرض الزراعية (مشروع محمد خطاب) ، وكذلك المشروعات التي كان يتقدم بها أحمد حسين عندما كان وزيرًا للشئون الاجتماعية أو موظفًا بوزارتها لإدخال بعض الإصلاحات في الريف المصري عن طريق المراكز الاجتماعية الريفية ، فإنها كانت تقابل بكثير من المعارضة ، يشترك فيها متضامنين متآزرين كبار الملاك من أعضاء هذه الأحزاب السياسية المتخاصمة المتنافرة .

• التصنيع وحده لا يحل المشكلة :

ويعرض تقرير الحكومة الأمريكية إلي ما تدور به أقلام الكتاب ، وما يقال أحيانًا علي منصة البرلمان ، من مقترحات لتحسين حال الفلاح المصري ، وأهمها أمران :

زيادة الأراضي الصالحة للزراعة ، والشروع في تصنيع البلاد .

ويري التقرير أن كلاً من الأمرين لا يحل المشكلة .. فأما الأراضي الصالحة المزارعة فإن أقصي ما يمكن زيادته منها – وفق أكثر الدراسات تفاؤلاً – هو مليون وثلث مليون فدان ، تشمل الأراضي البور في شمال الدلتا وعلي جانبيها ، كما تشمل تحويل مناطق الصعيد الأقصى من ري حياض إلي ري دائم . فإذا تم هذا علي ما يقتضيه من أموال ضخمة تنفق في شق الترع وحفر المصارف وإنشاء شبكات كهربائية وتنفيذ منخفض القطارة ، وتعلية خزان أسوان وإنشاء خزانات أخري علي النيل ، إذا تم هذا صارت الأرض الزراعية في مصر أكثر قليلاً من سبعة ملايين فدان في حين أن عدد سكانها الذين يتزايدون بنسبة 1.5% سنويًا سيبلغ في سنة 1960 اثنين وعشرين مليونًا من البشر . وبذلك سيظل مستوي الحياة علي ما هو عليه الآن برغم من هذه الزيادة في مساحة الأرض . حقيقة إن إصلاح هذه الأراضي البور ، وزيادة الأراضي الصالحة للزراعة قدر الإمكان أمر محتوم حتى لا تهبط حياة الفلاح عما هي عليه الآن من مستوي منخفض ، إلا أن هذا ليس هو الحل لتحسين حال الفلاح ورفع مستوي حياته .

وكذلك التصنيع .. فمع أن هذا أمر ميسور من حيث اليد العاملة ومن حيث القوة المحركة ؛ لأن العامل المصري أثبت خلال عمله بمصانع قوات الحلفاء أثناء الحرب أنه يستطيع أن يصبح عاملاً صناعيًا ماهرًا ، ولأن من الممكن توليد قوة كهربائية ضخمة من خزان أسوان وغيره من مساقط المياه ، فضلاً عما في مصر من منابع للبترول ، إلا أن هذا التصنيع لن يؤدي مع الوضع الاقتصادي الراهن في مصر إلا إلي خلق مشكلة جديدة .. ذلك أن أي بلد ناشئ في الصناعة لا يستطيع أن يعتمد في تصريف منتجاته الصناعية علي الأسواق العالمية التي احتكرتها البلاد المتقدمة في الصناعة ، إنما يعتمد علي السوق المحلية وحدها . فإذا ظل مستوي الغالبية الساحقة من الشعب المصري منخفضًا ، وظل دخلها ضئيلاً فإن الاستهلاك المحلي سيكون من القلة ، والسوق المحلية ستكون من الكساد ، بحيث لا تستطيع هذه الصناعات التي تنشأ في مصر أن تعيش وتزدهر ، وبالتالي تخلق مصر لنفسها مشكلة جديدة حين يصبح إنتاجها الصناعي بلا سوق تستهلكه لا في الداخل أو في الخارج .

• لابد من تحديد الملكية الزراعية :

" إن أي إصلاح ريفي في مصر يراد أن يكون له أثر حقيقي لا يمكن أن يتجنب موضوع إعادة توزيع الأراضي الزراعية توزيعًا عادلاً " .

هذه هي النتيجة التي ينتهي إليها تقرير الحكومة الأمريكية ، كما يري أن زيادة الأراضي الصالحة للزراعة ، وإنشاء المشروعات الصناعية والتوسع فيها ، يجب أن يسبقه توزيع الملكية الزراعية من جديد توزيعًا يقترب من أوضاع العدالة الاجتماعية . وليس توزيع الملكية الزراعية علي أكبر عدد من العاملين في الزراعة بشيء جديد يراد تجربته في مصر ، فقد سبقتها في ذلك عشرات من الدول في أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية ، التي يفرضها النظام الإقطاعي ، إلي نور العصر الحديث الذي يتميز عن سواه من العصور بمبادئ العدل الاجتماعي والتقارب بين طبقات المجتمع .. وقد لجأت بعض هذه الدول إلي تحديد الملكية الزراعية فيها تحديدًا تقشعر له أبدان كبار الملاك في مصر لو سمعوا به .

ويتناول تقرير الحكومة الأمريكية ما يوجه من اعتراضات إلي مبدأ توزيع الملكيات الكبيرة علي صغار المزارعين في مصر ، وأهمها الاعتراض بأن تفتيت الملكيات الكبيرة سيحول دون استخدام الوسائل الفنية الحديثة التي يمكن أن تستغل في الملكيات الكبيرة وحدها ، ويرد علي هذا الاعتراض بأن واقع الأمر في مصر أن أكثر الملكيات الكبيرة لا تزرع بالوسائل الحديثة .. وإنما وفق الوسائل القديمة التي ألفها الفلاحون .. ذلك أن العزب والتفاتيش الكبيرة إنما تؤجر قطعا صغيرة للفلاحين يزرعونها بوسائلهم العتيقة ، ثم يأخذ المالك أقصي ما يستطيع من المحصول أو الإيجار ، وقليل جدًا من هذه المزارع الكبيرة ما يزرع بوسائل حديثة بالمعني الصحيح ، وهي وسائل يمكن الأخذ بها في المزارع الصغيرة إذا أنشئ لها نظام تعاوني دقيق .

وفضلاً عن ذلك فإن من المشكوك فيه أن الوسائل الفنية الحديثة أجدي في زراعة الأرض المصرية من الوسائل القديمة . والدليل علي ذلك أن محصول الفدان المصري من القطن ومن الذرة هو أعلي محصول منهما في العالم كله ، بما فيه البلاد التي تزرع بأحدث الوسائل العلمية مثل أمريكا . ويري بعض الخبراء الزراعيين أن التربة المصرية ذاتها وقرب المياه من سطح الأرض وقلة الأمطار أو انعدامها تجعل الأدوات القديمة كالمحراث أصلح من الأدوات الحديثة التي تتعمق في الأرض وتقلب تربتها بطنًا لظهر فتعرضها للجفاف الشديد .

وسواء كان من الصالح إتباع الطرق الحديثة أو الإبقاء علي الطرق القديمة ، فإن تكوين أكبر عدد ممكن من الملكيات الصغيرة التي يعود دخلها علي من يزرعونها بأنفسهم لن يخلق مشكلة في مصر .. وإنما المشكلة الحقيقية هي هذه الطبقة من كبار الملاك الذين يسيطرون علي البرلمان المصري وعلي الأحزاب المصرية ، وبذلك يفرضون علي مصر من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ما يتفق ومصالحهم الخاصة ، ويتنافي مع مبادئ العدالة الاجتماعية وأوضاع الاقتصاد الزراعي السليم .

ملاحظات حول هذا المشروع الأمريكي أو حول هذا التقرير الأمريكي :

بعد أن نقلنا إلي القارئ تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن الملكية الزراعية في مصر ، ينبغي أن يكون لنا بعض الملاحظات :

1 – كان المفروض في مشروع زراعي وفي بحث زراعي أن يكون وضعه من اختصاص وزارة الزراعة الأمريكية إن كان للحكومة الأمريكية حق التصدي له – ولكن التقرير كان من وضع وزارة الخارجية ومن وضع مكتب الأبحاث السرية فيها .

2 – أن هذا التقرير باعتباره بحثًا سريًا سمح بنشره في هذا التاريخ ، يوحي ذلك بأن سريته لم يعد لها داع فقد أدت سريته دورها بتبني حكومة نصر له بحذافيره ، وكأن الذين قاموا بتبنيه كانوا علي علم سابق به وبالجهة التي وضعته .

3 – ما هي الدواعي والدوافع وراء اهتمام دولة عظمى مثل أمريكا حتى إنها أتعبت باحثيها السريين لوضع هذا التقرير عن مصر .. ولابد أنها عملت علي إيجاد من يتبناه وإلا لما أجهدت نفسها وأتعبت باحثيها في وضعه ، وإلا لكان أليق به أن يكون بحثًا أكاديميًا من وضع وزارة الزراعة الأمريكية أو إحدى الجامعات الأمريكية . أما وزارة الخارجية فإنها لا تضع التقارير والبحوث إشباعًا للناحية الأكاديمية ولا بدافع من الشغف العلمي ؟؟ .

4 – المقصود من بحث وزارة الخارجية الأمريكية هذا هو أن يؤدي إلي تغيير الوضع السياسي الداخلي في مصر تغييرًا تامًا – كما جاء ذلك صراحة في صلب التقرير – فهل كان هذا التغيير بهم حكومة الولايات المتحدة إلي هذا الحد ؟ وهل هي من الغيرة علي مصر وعلي فلاحيها بهذه الدرجة من الغيرة ؛ حتى إنك لتلمح في التقرير وعباراته ملامح التلهف والإلحاح ؟ .

5 – لما استعرض التقرير برنامج الأحزاب السياسية في مصر فيما يتعلق بإصلاح الريف وتحسين حال الفلاح ذكر أحزابًا مصرية لا يكاد يكون لها نصيب يذكر من القاعدة الشعبية ، وأغفل عن عمد القوة السياسية الكبرى وهي " الإخوان المسلمون " مع أن مركز الأبحاث السرية بوزارة الخارجية الأمريكية يعلم تمام العلم بأن لهذه القوة السياسية برنامجًا محددًا وجهودًا عملية فيما يتصل بالإصلاح الريفي وغير الريفي وتحسين أحوال الفلاحين وغير الفلاحين ، وأن هذه الهيئة تضم أكبر عدد من الفلاحين والعمال .

6 – في تلك الحقبة الدقيقة من الزمن كانت وزارة الخارجية الأمريكية ومركز أبحاثها يعلمان ، كما كان كل المراقبين السياسيين في أنحاء العالم يعلمون أن الجو في مصر صار مهينًا تمامًا لتغيير جذري في الحكم ، وأن النظام القائم بها قد استنفد أغراضه واستوفي أيامه ، وأن الجميع ينتظرون الحكم الإسلامي الخالص .

فهل رأت وزارة الخارجية الأمريكية أنها أصبحت أمام الواقع من أن التغيير واقع في مصر لا محالة ، فلنتدارك الأمر ، وليكن هذا التغيير لحساب أي شيء ، ولو لحساب الشيطان ، قبل أن يكون لحساب الحكم الإسلامي الذي هو العاتق الأكبر لأطماعها .. فكان هذا البحث أحد مقدمات لابد منها لإنجاح تكتيكاتها . وإلا فلننظر إلي شعوب الكاريبي وشعوب أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطي وكلها شعوب تعيش في ظل سياسة الولايات المتحدة منذ أكثر من خمسين عامًا وتسيطر علي اقتصادها الشركات الأمريكية ، ومع ذلك فهذه الشعوب تعاني أسوأ مستوي معيشة في العالم .. أفلم تكن هذه الشعوب أولي بهذا العطف الأمريكي ؟! .

7 – إن التركيز علي الناحية السياسية في هذا التقرير مع التوصية باستبعاد كل وسيلة أخري للإصلاح يوحي بأن وزارة الخارجية الأمريكية وضعت خطة جديدة للتعامل مع شعوب الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ، فبدلاً من التحدث مع حكومات تستمد سلطتها من قواعد شعبية ذات نفوذ لا تستطيع إبرام أمر دون موافقة هذه القواعد ، فإنها إذا فتت هذه القواعد وحطمتها تستطيع أن تمهد أسباب الحكم لرجل واحد توجهه فيتوجه دون أن يكون في البلاد من يحاسبه أو يراجعه .


الفصل الرابع : الحكم الدستوري

مطالبة الحاكم بالحكم الدستوري معناه أن يتنازل هذا الحاكم عن سلطات حكم الفرد إلي حكم يقوم علي الشورى ، ينبع من الشعب بحيث لا يبت فيه بأمر إلا بموافقة ممثلين للشعب يختارهم بنفسه . وتوضيحًا لهذا نقول : إذا فرضنا أن جمال عبد الناصر وافق الإخوان وأصدر أمرًا بالحكم بالشريعة الإسلامية ، فهل كان الإخوان يكتفون بذلك دون مطالبته بالحكم الدستوري ؟ والإجابة علي ذلك هي أن الإخوان كانوا سيطالبونه أيضًا بالحكم الدستوري × لأن في الاكتفاء بذلك دون هذه المطالبة خطورة .. فالذي أصدر أمرًا بشيء ، قادر – إذا هو تغير مزاجه أو وجد في ذلك ما يتعارض مع مصالحه – أن يصدر أمرًا بإلغاء هذا الشيء أو بتعديله أو الانتقاص منه أو الزيادة عليه .

أنما مطالبة الإخوان بالحكم الدستوري فمعناها تقليم أظفار الحاكم ، والحد من سلطته ، ونقل هذه السلطة إلي الشعب ، ونقل الحاكم من دائرة شعوره بأنه القيم علي الشعب ، القاهر فوقه ، المتصرف في شئونه كما يشاء ، إلي دائرة شعوره بأنه خادم للشعب وأجير عنده ، مرهون وجوده في الحكم برضا هذا الشعب عنه . نعم ، إن الحكم بالشريعة الإسلامية يتضمن فيما يتضمن معني هذا التعبير الاصطلاحي " الحكم الدستوري " وإن كان يعبر عنه بالشورى ، غير أن الناس في عصرنا هذا حين يرون الحاكم قد أقام الحدود اعتقدوا أنه قد حكم بالشريعة الإسلامية متناسين أن إقامة الحدود ليست إلا جزءًا يسيرًا من الشريعة الإسلامية ، ويلجأ بعض حكام البلاد الإسلامية إلي استغلال هذا الفهم الناقص في شعوبهم ويقيمون الحدود ويقفون من الحكم الإسلامي عند هذا الحد ، وينطلقون فيما سوي ذلك في الحكم بأهوائهم .. وهذا هو الذي دعا الإخوان المسلمين إلي المطالبة بالحكم الدستوري باعتباره المقدمة التي لابد منها ، والضمان الذي لا غني عنه في إرساء سياج متين حول الحاكم يحول بينه وبين الانحدار مع أهوائه ، فإذا ضمنا إحاطة هذا السياج بالحاكم رجونا من وراء هذا الحاكم كل خير .

وقلما يستجيب الحاكم لهذا الطلب لما فيه من قيود عليهم ، وإن كان هو حقيقة الأمر في صالحهم ؛ لأنه يعينهم علي أنفسهم . ولكن شهوة السلطة ، وحب السيطرة ، وجموح الآمال تتغلب في أكثر الأحوال وتستبد بالحاكم حتى لا يكاد يتألق بين عينيه غيرها .. وهذا هو ما كان من أمر جمال عبد الناصر .. ولكن جمالاً كأي حاكم لا يحب أن يعرف عنه ذلك ، فيحاول عادة أن يتستر وراء شعارات يطلقها ويحيط شخصيته بهالاتها ، ووعود يعلل بها الظالمين ريثما تتاح له فرص لتأجيلها أو للتخلص منها .. وإلي القراء مثال من هذه الأساليب :

في أول اجتماع لمجلس الثورة بعد 23 يوليو سنة 52 عرض جمال عبد الناصر علي المجلس اقتراحًا للاتفاق علي نظام الحكم وهل يكون حكمًا استبداديًا بالمفهوم الدستوري أو يكون حكمًا نيابيًا ؟ وعند أخذ الأصوات وقف جميع الأعضاء إلي جانب النظام الاستبدادي ، وقف جمال عبد الناصر وحده إلي جانب الرأي الآخر . وبإعادة أخذ الأصوات مرة أخري تكرر الوضع !! وعندئذ غادر جمال المجلس معلنًا استقالته من جميع مناصبه ، وذهب إلي منزله – فذهب الجميع إليه في منزله معلنين نزولهم عند رأيه . وردت هذه الواقعة في كتاب " البحث عن الذات " ل السادات ، وقد علق عليها بأنها لم تكن إلا مناورة من جانب جمال ، كما أوردها " البغدادي " في مذكراته وعلق عليها بنفس التعليق . لما ذهب زملاؤه إليه في منزله لاسترضائه ونزلوا عند رأيه – ما الذي تم عليه الاتفاق ؟ هل تمسك بالحكم النيابي مباشرة كما كان منتظرًا من رجل فضل الاستقالة علي الحكم الاستبدادي ؟ لقد تم الاتفاق علي إجراء انتخابات نيابية بعد ستة أشهر وتعليق ذلك علي شرط أن تقوم الأحزاب بتطهير نفسها .

• وهل تم إجراء الانتخابات بعد ستة أشهر ؟

لم يتم شيء من ذلك .. ولكن أعلن عن تكوين لجنة من ثلاثين عضوًا لوضع مشروع دستور جديد ، ثم أعلن بعد ذلك عن اقتراح بتكوين لجنة من مائة عضو يؤخذون من النقابات والهيئات لوضع الدستور وإقراره . وقد كان الشعب يتلقي هذه الاقتراحات والوعود علي أنها وعود صادقة . ويأخذها مأخذ الجد ويعلق عليها في الصحف ، ونقتطف تعليقًا للأستاذ محمد زكي عبد القادر في " أخبار اليوم " في 29/11/1952 تحت عنوان : " لا مائة ولا ألف " يقول فيه :

" أجل .. لا لجنة من مائة أو من ألف . بل لابد من جمعية وطنية تنتخب انتخابًا حرًا إذا أريد وضع دستور جديد ، وقد وضعت الدستور الحالي لجنة من ثلاثين عضوًا وصدر علي أنه منحة من الملك للشعب .. والمانح يستطيع أن يسترد إذا أراد . وما معني اقتراح لجنة من مائة يؤخذون من النقابات والهيئات ؟ وفضلا عن ذلك فليست النقابات في مصر هيئات رأي ، ولكنها جماعات للدفاع عن المصالح المادية لطوائفها ، ثم إن النقابات في مصر هيئات رأي ، ولكنها جماعات للدفاع عن المصالح المادية لطوائفها ، ثم إن ثلاثة أرباع الشعب ليست له نقابات تمثله " .

وهكذا ظل جمال عبد الناصر في إذاعة اقتراحات بلجان تجتمع وتنفض ، وإنجازاتها من مشاريع الدستور مجرد حبر علي ورق ، وفي إطلاق وعود ومواعيد حتى استطاع أن يمد فترة الانتقال التي كان حددها بستة أشهر إلي ثلاثة سنوات تبدأ من يناير 1953 .

• حساسية جمال لهذا المطلب :

وفي الوقت الذي كان الشعب فيه في أشد الشوق إلي حكم دستوري ثمرة لهذه الثورة ، كان جمال عبد الناصر حريصًا كل الحرص علي شغل الشعب عن إثارة هذا المطلب بكل وسيلة ممكنة . وقد استطاع خلق ظروف شغلت الشعب فعلاً فترات من الزمن بما أسماه تطهير الأحزاب ، ثم باعتقال زعماء هذه الأحزاب ثم تقديم هؤلاء الزعماء إلي محاكمات طال أمدها .. ولكن جهات ثلاثًا عجز جمال عن شغلها بشيء عن مطالبته بالحكم الدستوري ، وهذه الجهات الثلاث هم بعض زملائه من أعضاء مجلس الثورة الذين رفضوا مجاراته في أسلوب هذا الذي ل الدستور ولأهداف الثورة .. وبعد العدد الثالث سحبت المجلة من إشراف البكباشي صديق ونحي عن تحريرها اليوزباشي حمروش .

وبدأ يوسف صديق الذي كان عضوًا بمجلس القيادة (الثورة) يضيق ذراعًا بانحراف الحركة (الثورة) عن الارتباطات التي ارتبطت بها أمام الشعب يوم 23 يوليو . وبدأ يثير مناقشات ومحاولات داخل مجلس القيادة ، وينتقد تدخل العسكريين في كل صغيرة وكبيرة من شئون البلاد . أصبح يوسف صديق شوكة في حلق جمال عبد الناصر يثير له المتاعب كل يوم . فما كان من جمال عبد الناصر إلا أن وضعه تحت المراقبة الشديدة .. وعرفت هذا عندما استدعاني جمال وأخذ يشكو إليّ أمر يوسف صديق – ولم يثر في شكواه أي شيء بخصوص دفاع صديق عن الدستور ووجوب عدم تدخل الجيش في شئون الحكم – بل جعلها شكوى شخصية ، وطلب مني أن أقنع صديق بأن يبعد عن هذه المتاعب التي يثيرها كل يوم وما إن عدت إلي مكتبي حتى وجدت أحد أقارب صديق ينتظرني فطلبت منه أن يتوجه إلي منزل صديق ويخبره بما دار بيني وبين عبد الناصر من حديث .

واستأجر الرجل سيارة أجرة من تلك التي تقف إلي جوار مبني " المصري " وذهب ، وفي اليوم التالي جاءني سائق سيارة أجري من نفس الموقف وقال لي : إن رجلاً خرج في العاشرة والنصف مساء أمس من دار " المصري " واستقل سيارة أجرة . وبعد أن عاد السائق إلي الموقف جاءت قوة من رجال الجيش واعتقلته وحتى الآن لم يعد .. ورجاني أن أحاول الإفراج عنه لأن زوجته تبكي هي وأولادها . واتصلت تليفونيًا بعبد الناصر ، وأخبرته بالقصة فضحك وقال : إذن أنت الذي أرسلت من استأجر السيارة ؟ إننا نحقق مع السائق طوال الليل لنعرف شخصية من ركب معه .. وزاد صوت ضحكه ارتفاعًا ثم قال : سنفرج عنه . سنفرج عنه . وبعد بضعة أيام من سعي البكباشي صديق إلي جميع زعماء مصر علي اختلاف مذاهبهم السياسية ليتوجهوا إلي مركز القيادة ويقدموا مذكرة مشتركة ، يطالبون فيها اللواء محمد نجيب بإعادة الحياة النيابية ، وبينما هو يواصل جهوده لإقناع الزعماء بذلك ، قام جمال عبد الناصر باعتقاله وتحديد إقامته بالمنزل ، وبعد أيام أرسله إلي سويسرا بحجة العلاج من مرض يشكو منه ، وفصله من مجلس القيادة (الثورة) " .

هذا ما نقلته من كتاب " جمال عبد الناصر " للأستاذ أحمد أبو الفتح ، ليلمس في ثناياه القراء مدي حساسية جمال عبد الناصر إزاء من يتجرأ علي إثارة هذا المطلب مهما كانت شخصية هذا المثير . وقد أسوق مثالاً آخر من هذه الحساسية ، ففي خلال شهر إبريل عام 1953 كان الأستاذ أحمد أبو الفتح يكتب مقالات في " المصري " تحت عنوان : " مصرع النفاق " يطالب فيها بنفس المطلب ، وجمال عبد الناصر تمشيًا مع خطته في التستر في مثل هذه الحالات وراء آخرين دفع للرد عليه أحد وزرائه محمد فؤاد جلال فرد عليه أحمد أبو الفتح بمقال جاء في ختامه :

" ومن هنا يا حضرة المواطن (لأن الوزير رده قال : إنه لا يرد باعتباره ، وزيرًا وإنما باعتباره مجرد مواطن) إنه لا سبيل إلي القضاء علي النفاق إلا بفتح أبواب الحريات علي مصاريعها ، وإلا برفع القيود عن الصحافة حتى تنطلق الأقلام حرة تنقد ما تراه جديرًا بالنقد وتوجه حرة إلي خير وجهه . ويكون من ذلك مجال للمناقشات العلنية حول الآراء يشترك فيه الرأي العام بالمطالعة والمساهمة الفعالة والتوجيه ، ولن تكون لنا الحريات موفورة ولا مكفولة إلا بقيام النظام البرلماني حيث تتلاحم الآراء وتتصادم وتتباعد وتتقارب ليخرج منها في النهاية رأي تقره الأغلبية فتقوم بتنفيذه الأدوات التنفيذية . ولا ينبغي أن يرتفع الاعتذار بأن الحياة البرلمانية كانت يشوبها الفساد ، وبأن الأعمال الصحفية كانت تخالطها الأخطاء ، فليس ذلك عيب النظام البرلماني ولا مبدأ حرية الصحافة ، فلن يكون علاج إلا بالتربية السياسية ولن تتيسر هذه التربية إلا في وجود جو ديمقراطي متحرر من كافة القيود " .

وفي خلال شهر مايو من نفس العام واصل أحمد أبو الفتوح كتاباته في هذا المطلب نفسه فكتب سلسة مقالات تحت عنوان : " الدستور .. الدستور " فدفع جمال هذه المرة للتصدي له زميله صلاح سالم عضو مجلس الثورة ووزير الإرشاد القومي ، فكتب مقالات بعنوان : " الباكون والمتباكون " فرد عليه أحمد أبو الفتح بمقال عنوانه " نعم ، الدستور " جاء فيه :

" وأعتقد يا سيدي أن الحرية هي أغلي شيء يلوذ يذود عنه الإنسان ؛ ولذلك أري واجبًا عليّ أن ألفت نظرك إلي الأشياء الآتية :

1 – أن مصر الآن – وقد انقضي علي الحركة قرابة عشرة أشهر – لا تزال بدون دستور .

2 – أن الأحكام العرفية التي فرضت في عهد فارق لا تزال مفروضة إلي اليوم .

3 – أن المعتقلات التي كانت مفتوحة منذ 26 يناير لا تزال مفتوحة حتى الآن .

4 – أن الرقابة علي الصحف مفروضة عليها .

إني ألفت نظرك إلي كل هذا لأتهمك بأنك تئد حريات الشعب ، ولكن لأقول لك : إن هذه الحريات لم تتحقق حتى اليوم ؛ ولأقول لك أكثر من ذلك : إن الحريات هي التي تدفع الإنسان إلي مزيد من الحرية ، وإن تكبيل الحرية لا يمكن إلا أن يدفع إلي حركات خفية . وإني لأعجب يا سيدي لماذا تغضب حين أطلب للشعب دستورًا وأطلب للشعب توفير الحقوق ؟ ألم تكن هذه أهدافكم ؟ ألم تعلنوا عنها أكثر من مرة ؟ فإذا ما قمت أطالب بسرعة التحقيق ثرت واتهمتني بالتباكي ، إني أستحثكم فلا يقوم داعية استعماري مثل تشرشل ويتهمكم بالفاشية والدكتاتورية والحكم المطلق"

ومعذرة إلي السادة القراء في استقائي أكثر مقتبساتي من جريدة " المصري " ، فإن هذه الجريدة كانت في تلك الحقبة من الزمن المتنفس الوحيد للأحرار وذوي الضمائر ؛ لأن أصحابها – آل أبي الفتح – كانوا قد تذروها للدفاع عن الحق حتى أيام كانت لسان حزب الوفد فإنها لم تجاره في كل ما أرادها عليه ، كما أنني اختار دائمًا كتابات أحمد أبو الفتح ، لأنه كان من أصدق أصدقاء جمال عبد الناصر ومن القلائل الذين كانوا علي صلة بالثورة قبل قيامها . وقد يمت إلي هذا الفصل الذي نحن بصدده سبب ، سؤال وجهه مندوب " المصري " إلي الأستاذ المرشد العام في سياق حديثه أجراه معه ، وكان مجلس الثورة قد قرر إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية فسأله المندوب عن رأي الإخوان في ذلك فأجاب :

" إن الذي يعنينا أن يكون الحكم صالحًا محققًا الأهداف التي تسعي إليها البلاد والتي أعلنها رجال الثورة منذ قيامها أكثر من مرة ، قاضيًا علي الفساد الذي استشري في كل مرافق الحياة " .

• حتى من زملاء عبد الناصر :

استعرضنا في هذا الفصل حتى الآن أمثلة لمطالبة الرأي العام بهذا المطلب عن طريق جريدة " المصري " ، وهي إحدى الجهات الثلاث التي أشرنا إليها ، والتي لم يكن جمال عبد الناصر قد استطاع بعد إسكاتها .. أما الجهة الثانية : وهي الإخوان المسلمون فقد كانت مطالبتهم بهذا المطلب لا تفتر خلال اتصالات مستمرة بينهم وبين عبد الناصر . بقي بعد ذلك الجهة الثالثة وهي زملاء عبد الناصر في مجلس الثورة ومن حق التاريخ أن نثبت للرجلين العظيمين اللذين صدقا ما عاهدا عليه ، وآثرا التضحية بالجاه والسلطة المطلقة وما يحيط بهما من المتعة والأبهة ، ورضيا أن يعيشا في غمار الشعب بل وفي المعتقلات والسجون علي أن يجاريا زميلهما جمال عبد الناصر فيما جنح إليه من الديكتاتورية والاستبداد . ونبدأ باقتطاف فقرات من خطاب مفتوح من القائمقام أحمد شوقي إلي أعضاء مجلس الثورة نشره في نفس هذه الحقبة الزمنية ، جاء فيه :

" لعل زملائي وإخواني أعضاء مجلس قيادة الثورة يعلمون أنني حر الرأي ، لا يمنعني عائق من الإدلاء برأي مادمت مؤمنًا به .. ولعلهم لا ينسون أنني كنت أكبر الضباط رتبة بعد قائدي اللواء محمد نجيب عندما قمت معهم بتنفيذ الحركة ، ولعلهم لا ينسون أيضًا أنني كنت معرضًا معهم – ولا أقول قبلهم – لجميع المخاطر لو لم يقدر الله سبحانه وتعالي بنجاح الحركة . ولا أقول ذلك منا عليهم ، فأنا اعتقد أن ما فعلته ليس سوي تأدية واجبي الأكمل نحو مصر . ولذلك فإن من حقي أن أسأل زملائي وإخواني أعضاء مجلس الثورة ومن حقي عليهم أن أنال جوابًا علي أسئلتي هذه :

أولاً : هل كان من أهداف الثورة أن نحكم البلاد ؟

ثانيًا : هل كان من أهداف الثورة أن يزج بالمواطنين الجاني منهم والبريء في السجون وأن تملأ المعتقلات ؟

ثالثًا : هل كان من أهداف الثورة أن نكمم الأفواه ونقيد الحريات ؟

رابعًا : هل كان من أهداف الثورة أن يقحم الجيش نفسه في السياسة وفي كل مرفق من مرافق البلاد ؟

وأليس من أبناء مصر من يقوم بالأعمال المعهود بها الآن لبعض ضباط الجيش حتى يتفرغ هؤلاء الضباط للنهوض بجيشنا المفدى لكي يتمكن من القيام برسالته السامية من طرد المستعمر وحماية البلاد ؟ اعتقد أن إخواني وزملائي أعضاء مجلس قيادة الثورة سيجيبون علي هذه الأسئلة بأن الثورة كانت لها أهداف أسمي من هذا وأنبل " .

ويختم القائمقام أحمد شوقي خطابه بالمطلبين التاليين :

أولاً : إلغاء الأحكام العرفية قبل التفكير في أي إجراء آخر ، وما يتبع ذلك من الإفراج فورًا عن المعتقلين أيًا كانت ميولهم السياسية .

ثانيًا : أن تجري الانتخابات وزارة مدنية يرأسها محايد يطمئن إليه الكافة ويثق الجميع في نزاهته ، ولتحقيق هذين الهدفين الأساسيين ، وبالتالي لتوفير الضمان أري أن أسأل زملائي وإخواني أعضاء مجلس الثورة عن مآلهم .. هل سيعودون إلي الجيش أم يا تري هل سيدخلون المعترك السياسي كأفراد ؟ وإذا كان لي أن أقترح فإني أطالب اليوم بحق الزمالة في الجهاد ، قبل أن أطالب في الغد باسم الشعب ؛ أن يحققوا رغبته التي تتلخص في أن تبعدوا أنفسكم عن كل نشاط سياسي بأن تعودوا إلي صفوفكم في الجيش ، وتضربوا المثل في التضحية من أجل الوطن .

وختم الخطاب بهذه العبارة ألا هل بلغت اللهم فاشهد " .

أما الزميل الآخر لجمال عبد الناصر الذي كان مثال الرجولة الكاملة والوفاء النادر لمبادئه ، فهو البكباشي يوسف صديق .. وإذا كان القائمقام أحمد شوقي قد اكتفي في معارضته لخطة جمال بالاستقالة من مجلس الثورة تخلصًا من تبعة الردة عن مبادئهم ، فإن يوسف صديق كان له نشاط أشرنا إلي طرف منه فيما نقلناه عن كتاب الأستاذ أحمد أبو الفتوح .. وقد اشتعل هذا النشاط نيران الغيظ في صدر جمال عبد الناصر فاتبع معه أساليب المراقبة وتحديد الإقامة والنفي إلي الخارج ثم الاعتقال ، ثم اتبع ذلك كله بأسلوب أشد فتكًا من كل ذلك وهو أسلوب تشويه السمعة وإلصاق التهم فبث عن طريق أبواق دعايته أنه شيوعي . وقد وجه يوسف صديق إلي زملائه بمجلس الثورة خطابًا مفتوحًا يدور حول نفس المواضيع التي تضمنها خطاب زميله القائمقام أحمد شوقي ، ولذا فقد نكتفي بهذه الإشارة إلي خطابه المفتوح ، ولكننا ننقل من جريدة المصري حديثًا أجراه مندوبها مع يوسف صديق بمناسبة نشر خطابه المفتوح لما في هذا الحديث من إشارات ذات مغزى يحسن الالتفات إليها :

سأله المندوب : من أنت وما هي مبادئك ؟ هل أنت من الإخوان أم شيوعي أم وفدي أم اشتراكي ؟ وهل صحيح أنك كتبت رسالتك إلي الرئيس نجيب بمداد أحمر علي ورق أحمر ؟

فأجاب : " إن صح لي أن أتحدث عن نفسي فإني أقول لهؤلاء : إنني ضابط مصري قمت علي رأس الضباط الأحرار يوم 23 يوليو 1952 بالدور الرئيسي الذي مكن للضباط الأحرار من تنفيذ سياستهم . وأما مبادئي فهي مبادئ كل وطني حر مستقل يؤمن بربه وبوطنه ، وأن وحدة مصر هي السلاح الأول الذي تتحقق به جميع أهدافها ، وأن الطمأنينة والأوضاع الطبيعية والاستقرار السياسي والاقتصادي وشعور الناس بأنهم سينامون في بيوتهم ، وأنهم غير مهددين إذا قالوا كلمة للصالح العام بالمبيت في السجون والمعتقلات ، أو باتهامهم إذا كانوا من الإخوان بأنهم عملاء لندن ، وإذا كانوا من الأحرار الوطنين بأنهم من عملاء موسكو ، كل هذه هي مبادئي . لقد أصبحت هذه البضاعة بضاعة الاتهامات التي تلقي جزافًا باترة لا تروج عند الشعب ، فقد أصبح الشعب المصري كامل الوعي ، مرهف الحس ، يميز بين الغث والسمين .. وإذا كان الهضيبي زعيم الإخوان المسلمين في مصر حقاً من عملاء انجلترا ، فأنا لا يهمني بعد ذلك أن أتهم بأني من عملاء موسكو أو غير موسكو – ومن هم عملاء واشنطن ؟ ولماذا لا يسمع أحاديث عنهم أو تحديد لهم ؟ .

وقال : إنني لا أدين بشيء إلا بحيي لبلادي ولكني أري أن الشيوعيين الموجودين بمصر الآن قوة لا يمكن إنكارها إلا إذا الهرب من الواقع ، وأنهم كمصريين لهم الحق في مناقشة آرائهم كغيرهم من المواطنين . وانجلترا وأمريكا فيها شيوعيون وفي الأولي حزب معترف به .. ولقد صرح الهضيبي – وهو الذي يمثل أكبر معسكر إسلامي في الشرق – أن الشيوعية لا تقاوم بالقوة ولا بالقوانين ، وأنه لا مانع لديه من أن يكون لهم حزب ظاهر ، وأن الإسلام كفيل بضمان سلامة الطريق التي تسلكها البلاد . وقال : أما أني كنت عضوًا في مجلس قيادة الثورة ، فهذا أمر يعلمه كل من تتبع أحداث الثورة في أوائل الحركة . وأما أن المصريين لا يعرفون عني الكثير أو القليل ، فذلك يرجع إلي أن سياسة مجلس الثورة فسأتركه للتاريخ ، وإن كان الرئيس محمد نجيب لم يبخل علي الحق في مذكراته التي نشرها علي الناس حين قال : إنني كنت الشرارة الأولي التي اندلعت في هذا التاريخ ، وإنني أفضل أن يسأل أيضًا البكباشي جمال عبد الناصر عن هذا الدور وأنا راض بتقريره في ذلك .

وأما بشأن ميولي الحمراء ، فإن هذه الميول تلصق دائمًا بكل حر ، فقد ألصقت أخيرًا وبشكل مفاجئ بالصاغ خالد محيي الدين ، وأستطيع أن أقرر أن هذه التهمة قد وجهت في وقت من الأوقات إلي البكباشي جمال عبد الناصر نفسه كما وجهت للثورة كلها في يوم ما . ومهما واجهوا إلينا من تهم فنحن سائرون في طريقنا نضحك ملء أشداقنا من هذه الاتهامات . وأما أسباب استقالتي من مجلس الثورة فإن التاريخ الذي استقلت فيه من المجلس وهو فبراير سنة 1953 يستطيع أن يحدد أسباب هذه الاستقالة لكل من في رأسه عين تري وفي قلبه بصيرة تبصر " .

وبمناسبة حديثنا هذا عن يوسف صديق أذكر أن الأخ الأستاذ عباس السيسي أخبرني بأن ظروف الاعتقال جمعته فترة طويلة بيوسف صديق في السجن الحربي ، وقد أتاحت له هذه الفرصة التي كان فيها اللقاء مباحًا أن يكتشف في هذا الرجل بجانب شجاعته وجرأته أنه أديب وشاعر ، فقد كان يوسف ينشد من شعره قصائد رائعة تتناول الحياة السياسية في مصر ، وتتناول شخصية زميله جمال عبد الناصر الذي كان جزاؤه منه جزاء سنمار ، إذ فصله من الجيش وألقاه في غياهب السجن الحربي فلبث فيه بضع سنين . واعتقد أن الأخ الحاج عباس لا يزال يحتفظ ببعض هذه القصائد التي تسجل أحداث فترة حالكة من تاريخ مصر . وقبل أن نصل بالحديث في هذا الباب إلي نهايته يجمل بنا أن نلفت السادة القراء إلي أن المعالم الأربعة التي قام عليها هذا الباب وكانت هي نفسها مثار الخلاف بين الإخوان وبين الثورة كان المعلم الأخير منها وهو الحكم الدستوري أخطرها إغضابًا لجمال عبد الناصر وأعظمها استفزازًا له ، وذلك للأسباب الآتية :

1 – أن المطالب الثلاثة الأولي ، تستغرق طبيعة تنفيذها وقتًا غير قصير – لاحتياجها إلي إجراءات مطولة ، مما يفسح الوقت ويعطي الفرصة لمن يريد أن يتعلل بالإعداد والتجهيز ، ولكن المطلب الرابع وهو الحكم الدستوري من طبيعته أنه مطلب فوري التنفيذ ذو إجراءات محددة ولا تحتاج إلي وقت .

2 – أن المطالب الثلاثة الأولي فيها من النواحي الفنية ما يجعل المناقشة حولها تحتاج إلي طبيعة معينة من المتخصصين ، وبذلك تكون هذه المناقشة حولها محصورة في نطاق محدود ، ولكن المطلب الرابع مطلب شائع ومشهور ومفهوم لكل المستويات ، ويعرف كل فرد من الشعب تفاصيل إجراءاته ويستطيع أن يتناقش حوله ، حتى إنه تحول إلي شعار لكل من يريد من الحكام أن يخطب ود الشعب ، وقد جعلته الثورة أحد شعاراتها .. النكوص عنه يحس به كل فرد من أفراد الشعب ويعتبر فضيحة سياسية .

3 – لما كان هذا المطلب فوري التنفيذ ولا يحتاج تنفيذه إلي وقت ، وكان الأخذ به معناه أن الحاكم الذي يأخذ به حصر نفسه في دائرة سلطة محدودة ، وهو ما يتعارض مع ما أسره جمال عبد الناصر في نفسه من خطة لا يستطيع تنفيذها إلا إذا لم يكن مقيدًا بأي قيد .. لهذا اعتبر جمال أن كل من يطالبه بهذا النوع من الحكم عدو له ويجب التخلص منه حتى يخلو له الميدان .

الباب الثالث : الإخوان في موقف الناصح الأمين


مقدمة

لابد أن الجيل الجديد الذي لم يشهد الثورة في أعوامها الأولي حتى يبلغه – بوسيلة من وسائل الإبلاغ – ما فعلته الثورة بالإخوان المسلمين .. لابد أنه قائل في قرارة نفسه : لا يمكن أن يحدث هذا من الثورة إلا أن يكون رد فعل لتحد صارخ وهجوم عنيف وشغب مدمر قابل الإخوان به الثورة حتى إنها دفاعًا عن نفسها ، وإبقاء علي وجودها قد فعلت ما فعلت . وقد يكون هذا الذي يدور بخلد الجيل الجديد هو ما يجب أن يكون منطق كل من يفكر في القضية المجرد ، بل إن طبيعة الأحداث التاريخية تؤيد هذا الظن وتستبعد ما سواه .. ولكن الذي كان بين الإخوان والثورة كان غير هذا تمامًا ، فموقف الإخوان من الثورة مازالت مسجلة في الصحف ، محفوظة في الأضابير ، لا شيء فيها يدين الإخوان بمثل هذا الذي يخطر بالبال ، فلا اعتداء علي الثورة ولا تطاول ولا تحد ولا تزيد ولو بكلمة نابية .

بل إن كل ما سجله التاريخ يشهد بأن الإخوان كانوا من وراء الثورة قبل قيامها وبعد قيامها ، حتى لقد بلغ حرص المرشد علي نجاح الثورة حدًا لا يكاد يصدقه عقل ولولا أنه سجل في الصحف لما صدقناه فبالرغم من أن الثورة قد ثبت تاريخيًا وبشهادة الذين ظهروا علي المسرح من رجالها بعد أن انقشعت سحائب الغرور عن نفوسهم أنها إنما انبثقت عن الإخوان المسلمين وقامت في كنفهم وبحياطتهم ، فإن المرشد العام – خوفًا من تكالب الدول الاستعمارية للقضاء عليها إذا علموا ذلك عنها – راح ينفي علاقتها بالإخوان .

ففي 23/8/1952 ظهرت جريدة " المصري " وفيها العنوان الآتي بخط كبير :

" المرشد العام يقول : ليست هناك صلات سابقة بين الجيش والإخوان " .

وكان ذلك في سياق حديث طويل أجراه مندوب الجريدة مع المرشد العام ، يقول المندوب فيه بهذا الصدد : " وحدثني المرشد العام في الساعة التي مكثتها بصحبته عن حركة الجيش فقال : ليست هناك صلات سابقة بين الإخوان والجيش . وما يقال عن اتفاق مشترك بيننا وبين الجيش في حركته الأخيرة أمر غير صحيح " . إلي هذا الحد بلغ الإخوان الحرص علي نجاح الثورة وحياطتها – وليس معني هذا أن ننفي ما حدث بعد ذلك من خلاف بين الإخوان والثورة ، وقد عرضنا لشيء من ذلك في الصفحات السابقة ، ولكن هذا الخلاف لم يحمل الإخوان علي موقف يؤخذون به أو يلامون عليه ، بل ظل موقفهم حتى آخر لحظة هو موقف الناصح الأمين .. الذي يريد لها الخير ، يسدد خطاها ، ويقبل عثراتها ، وينير السبيل بين يديها ، حتى إذا ادلهمت الأمور وضاقت أمامها السبيل ، وعز وجود النصير ، خف الإخوان إليها يسندون ظهرها ويشيدون أزرها ويؤيدون كلمتها ويؤازرون أمام العدو موقفها .

وقد خصصا هذا الباب لتجلية هذا المعني للسادة القراء لبالغ أهميته ؛ ولأنه يأتي علي غير ما هو متوقع في أذهان الكثيرين فإثباته من الضرورة بمكان .


الفصل الأول : نصح ممزوج بتأييد

في هذا الفصل نستعرض موقف الإخوان من الثورة في أول أيامها وفي أوقات رخائها . أما في أول أيامها فبالرغم مما سمعه المرشد العام من جمال عبد الناصر في أول لقاء به بعد قيام الثورة فإن أحدًا خارج نطاق أخص الأخصاء من الإخوان لم يعلم بذلك ، وظل سرًا مصونًا ، وسار التعامل مع الثورة تعامل الأشقاء ، وليس أدل علي ذلك من بيان الإخوان بعد أسبوع واحد من قيام الثورة ونشر الصحف يوم 2/8/1952 ، وإليك هذا البيان :

" الآن وقد وفق الله جيش مصر العظيم لهذه الحركة المباركة ، وفتح بجهاده المظفر أبواب الأمل في بعث هذه الأمة وإحياء مجدها التليد ، وأزال عقبة كانت تصد عن سبيل الله والحق وتعوق المصلحين ، ويستند إليها المفسدون والمغرضون من كبراء هذه الأمة وحكامها في العهود الغابرة المختلفة . الآن ينبغي أن ننظر إلي الأمام ، وألا يأخذنا الزهو بهذه الانتصارات عما يجب من استئناف العمل في مرافق الإصلاح الشامل ؛ حتى تشعر الأمة بأنها انتقلت نقلة كلية من عهد إلي عهد . وإلا نفعل فقد ضاعت ثمرة هذه الحركة ، وأصابتنا نكسة لا تؤمن عواقبها ، وهذا يفرض علي كل ذي رأي في الأمة أن يتقدم إلي الأمة وإلي أولي الأمر فيها بمشورته ، خالصة لله ، بريئة من الهوى ، عما ينبغي إن يتجه إليه الإصلاح المنشود ببعث هذه الأمة من جديد .

وسنة الإخوان المسلمين أن يتقدموا إلي الأمة وإلي أولي الأمر فيها – في مثل هذه المراحل المتميزة من تاريخها – بالرأي يستقونه من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي سوي بين المسلمين وغير المسلمين في حقوقهم وواجباتهم العامة ، ولا يفرق بين جنس وجنس ولا بين لون ولون .

أولاً : التطهير الشامل :

إلا أن أول ما ينبغي الالتفات إليه من ضروب الإصلاح ، وما لا تظهر ثمرة العمل إلا به : أن يؤخذ كل من أعان الملك السابق علي الشر ، ويسر له سبيل الفساد والطغيان بما أخذ به الملك نفسه وما ينبغي أن يؤخذ به .. فلا يستقيم ميدان العدالة ولا في حماية أعوانه وأدواته آمنين لا تمتد إليهم يد القصاص . إن دستور البلاد الذي أقسم جميع وزراء الدولة علي احترامه تنتهي نصوصه وروحه إلي إلقاء المسئولية كلها علي كاهل الوزراء ، والوزراء حين يحملون هذه المسئولية يعتبرون مؤتمنين عليها من قبل الأمة ، فإذا فرطوا في رعاية هذه الأمانة فقد استوجبوا أشد أنواع المؤاخذة . وإن الدستور ليقرر أن أوامر الملك شفهية كانت أو كتابية لا تعفي الوزير من المسئولية في الحكومة حتى يجعل رئيسها مسئولاً عن أحاديث الملك الشخصية ، فكيف يقبل بعد هذا عذر وزير مهد للملك سبيل الإفساد ، ويسر له استغلال موال الدولة ، واغتصاب أراضيها وإضاعة مصالحها وأعانه علي إهدار الحريات وسفك دماء أبنائها الأبرار ، وسن له من التشريعات والقوانين الاستثنائية ما يحميه من رقابة الشعب ويدفعه إلي التمادي في طريق البغي ؟ .

ولكن رجال الحكم قد جاوزوا كل حد في التفريط وتضييع الأمانة ، ورأوا أن الاحتفاظ بمقعد الحكم – وهو أقصي ما يستطيع الملك حرمانهم منه – أعز عليهم من الوطن والشعب جميعًا ، فضلاً عما شاركوا فيه من الغنم الحرام والاستغلال السيئ الآثم لمقومات البلاد . لقد أصبح لزامًا أن تمتد يد التطهير إلي هؤلاء الحكام فنبادر إلي تنجيتهم عن الحياة العامة وحرمانهم من مزاولة النشاط السياسي ؛ حتى يقدموا للمحاكمة عن كل ما يوجه للملك السابق من اتهامات ، وما يعاب عليه من تصرفات ، وما تظهره الملفات الحكومية اليوم وبعد اليوم من مظاهر البغي وسوء الاستغلال ، حتى يكونوا عبرة لكل من يلي أمور هذه البلاد ، إذ يوقنون أن عقاب الشعب المتربص أحق بأن من نقمة الملك المتسلط . ولا يبلغ التطهير غايته حتى تشمل المؤاخذة كل من عبث بمصلحة الدولة ، أو أجرم في حق البلاد في عهود الحكم المختلفة .. وهذا يتقاضانا أن نبادر إلي تنفيذ قانون الكسب الحرام دون هوادة ولا محاباة ، وأن تقدم للمحاكمة بلا تردد ولا تمييز كل من أساء استخدام السلطة بمصادرة الحريات وترويع الآمنين وتعذيب أبناء الأمة الأحرار . وأن يعاد التحقيق نزيهًا صارمًا في القضايا التي غل الطغيان عنها علي يد العدالة من قبل : كقضايا الجيش واغتيال الشخصيات التي كان لبعض المسئولين فيها دور معروف .

كما ينبغي إلغاء الأحكام العرفية وسائر القوانين الرجعية المنافية للحرية .

ويستطرد بيان الإخوان فيطالب :

ثانيًا : الإصلاح الخلقي :

1 – إعداد جيل جديد عن طريق التربية الدينية والخلقية والوطنية ، وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي والمصري ، وتوفير التعليم للمواطنين جميعًا ، وتدعيم معاهد العلم والجامعات علي اختلافها ، وتزويدها بما تحتاج إليه من المكتبات والمعامل وأدوات البحث ، حتى يقوم بمصر نهضة علمية جديدة تساهم في بناء نهضتنا الاجتماعية والاقتصادية . ولا شك أن التشريع مهما أحكمت صياغته ، واستقامت أهدافه وأصوله .. لا يبلغ غايته حتى يقوم علي تنفيذ الفرد الصالح ، الذي لا يتم إعداده إلا عن طريق التربية الدينية ؛ إذ تغرس في نفسه من معاني الإنسانية السامية ما يعصمه من إتباع الهوى ، ويهديه إلي أن يحب للناس ما يحب لنفسه ، فإذا وُلَّيَ أمرًا أو تقلَّد سلطانًا كان المؤمن بربه الذي لا يزال ولا يتزلف ، المستقيم في خلقه الذي لا يتكبر ولا يتغطرس ، الرضي في أمانته ، الذي لا يختلس ولا يرتشي ، والذي لا يقصي الفضيلة عن حياته الشخصية أو حياته العامة فهو في بيته القدوة الصالحة ، وفي مكتبه المثل الطيب .

2 – ومن تمام هذا الباب أن تعمل الحكومة علي تحريم ما حرم الله ، وإلغاء مظاهر الحياة التي تخالف ذلك ، مثل : القمار والخمر ودور اللهو والمراقص والأقلام والمجلات المثيرة للغرائز الدنيا . وإن العاطفة الدينية لا تكفي وحدها لضمان التخلق بأخلاق الإسلام ، فينبغي أن يقترن غرسها وإنماؤها بمحاسبة الفرد حسابًا دقيقًا علي اتخاذ الآداب والأخلاق القرآنية منهاجًا له في حياته الخاصة والعامة .

ثالثًا : الإصلاح الدستوري :

إن الفرد الصالح لا تطيب له الحياة في ظل دستور تم وضعه في عهد الاستعمار الانجليزي أولاً ، والطغيان السياسي ثانيا . وقد نشأ عن ذلك وجود ثغرات في نصوص الدستور سمحت بإحداث اضطرابات في حياتنا العامة ، واستطاع الاحتلال أن ينفذ منها بين حين وآخر ، كما سولت للملك التدخل المستمر وتجاوز حدود المبادئ الدستورية الأساسية . ولقد كان المظهر البارز لهذه المناسبات أن يجئ الدستور منحة من الملك لا نابعًا من إرادة الأمة . ولما كان تصرف الحكام قد أهدر الدستور المصري نصا ومعني ، وكان من طبيعة الثورات الناجحة أن تسقط الدساتير التي تحكم الأوضاع السابقة عليها ، فإن الدستور المصري .. يكون قد أصبح لا وجود له من ناحية الواقع ومن ناحية الفقه ، مما يقتضي المسارعة إلي عقد جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد ، علي أساس أنه تعبير عن عقيدة الأمة وإرادتها ورغبتها ، وسياج لحماية مصالحها لا علي أنه منحة من الملك .

وسيترتب علي إعادة إصدار الدستور بطبيعة الحال اختفاء جميع نصوصه التي تصدر عن طبيعة كونه منحة ، ويستمد مبادئه من مبادئ الإسلام الرشيدة في كافة شئون الحياة . وفي ظل هذه المبادئ تختفي من الدستور أسطورة الحكام الذين فوق القانون أو فوق المسئولية الجنائية ، فالمبدأ الأساسي الذي يقره الإسلام المسئولية بمقدار السلطة ، وأن الكل سواء أمام القانون . هذا وينبغي أيضًا أن نستفيد من التجارب الدستورية السابقة ليكون اتجاهنا إلي الإصلاح مؤسسا علي قواعد واقعية ملموسة . والذي يستقرئ هذه التجارب منذ بدء الحياة النيابية إلي اليوم ، يجد أنها لم تقدم نيابة صالحة ولا تمثيلاً صحيحًا . وليس أدل علي ذلك من شيوع المفاسد وانتشار الأخطاء التي تعترف بها الأحزاب السياسية اليوم وتقول : إن الملك كان هو الآمر بها ؛ لم يفلح برلمان واحد في إسقاط حكومة ، أو مناقشة مخصصات الملك ، أو تغيير وزير ، أو توجيه اللوم إلي وزارة ولم ينته أي مجلس من مناقشة أي استجواب إلا بالانتقال إلي جدول الأعمال . وفوق ذلك ، فما من قانون جاء ضارًا بالحريات وقد أقرته ، وخضعت لمشيئة الحكومات فيه البرلمانات المتلاحقة ، تلك البرلمانات التي طالما يسرت للحكومات اعتماد الأموال الضخمة المرهقة للميزانيات في أوجه البذخ والترف وتحقيق شهوات الحكم الفردي ، بحيث عجزت الميزانية في مواجهة مطالب النهضة وضرورات الإصلاح في مرافق الحياة . وهكذا انتهت الحياة البرلمانية في كافة العهود الحزبية إلي أن أصبحت أداة تعطي شهوات الحكام ومظالم السلطان صيغة قانونية ، فلا مناص إذن من النظر في إعادة بناء الحياة النيابية والقوانين الانتخابية علي أصول سليمة حتى تؤدي رسالتها علي الوجه المنشود .

رابعًا : الإصلاح الاجتماعي :

إن الأمة تعاني تفاوتًا اجتماعيًا خطيرًا ، فهي بين قلة أطغاها الغني ، وكثرة أتلفها الفقر . وهذه حال لا يرضي عنها الإسلام ، فالإسلام يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم ، والإسلام يقضي بأن يكون لكل فرد في الدولة – مسلمًا أو كان غير مسلم – كحد أدني : مسكن يقيه حر الصيف وبرد الشتاء ، وملبس للصيف والشتاء ، ومطعم يقي جسمه ويجعله قادرًا علي العمل ، وعلاج بالمجان إن كان غير قادر ، وتعليم بالمجان ، ذلك كله له ولزوجه ومن يعول .

• وسبيل الإسلام إلي تحقيق هذه المزايا :

أولاً : العمل : فالعمل فرض علي القادر عليه ، ولا يجوز له أن يتخلي عنه ولا تجوز إعانة رجل لا يعمل وهو قادر ، بل يحمل علي العمل حملاً ، ويجب علي ولي الأمر أن يساعد علي إيجاد عمل له ، ويهيئ له وسائله ويتعهده حتى يتحقق أنه يستريح فيه . ثانيًا : التكافل الاجتماعي : فإذا لم يجد عملاً أصلاً أو كان عمله لا يكفيه أو كان لا يكفيه أو كان غير قادر عليه ، وجب علي ولي الأمر أن يتدخل ليحقق له ضرورات الحياة المذكورة آنفًا بالزكاة ، وهي فريضة مقررة مقدرة وليست صدقة يدفعها الغني متفضلاً . وهي حق للفقراء ، وتصرف حيث تجبي ولا تنقل لمكان آخر حتى يستوفي أهل كل جهة بفقرائها الذين يعرفونهم ويعرفون حاجتهم ، فيشعر الأغنياء والفقراء بأنهم متكافلون متراحمون .

فإن لم تكف الزكاة لتوفير تلك الحاجات الضرورية ، وجب علي من عنده فضل مال أن يرده علي الفقراء حتى يستوفوا حاجتهم ، فإن لم يفعلوا أجبرتهم الحكومة علي ذلك ، واتخذت من التشريعات ما يكفل إصلاح حال المجتمع بقدر ظهور الحاجات وبروز الضروريات . وقبل توفير هذه الضروريات الأساسية لكل فرد لا يوقع الإسلام حد السرقة علي السارق . وبناء علي هذه المبادئ يجب النظر في عدة إجراءات يلزم أن تتخذها الدولة لتحقيق تلك الغايات ، نلخص أهما فيما يلي :

1 – تحديد الملكيات الزراعية : فإن الملكيات الكبيرة قد أضرت أبلغ الضرر بالفلاحين والعمل ، وسدت في وجوههم فرص التملك ، وصيرتهم إلي حال أشبه بحال الأرقاء ، فلا سبيل إلي صلاح جدي في هذا الميدان إلا بتقرير حد أعلي للملكية ، وبيع الزائد عنه إلي المعدمين وصغار الملاك بأسعار معقولة تؤدي علي آجال طويلة . كما يتعين توزيع جميع الأطيان الأميرية المستصلحة والتي تستصلح علي صغار الملاك والمعدمين خاصة .

2 – تحديد العلاقة بين المالك والمستأجر : فمن الواضح أن عددًا كبير من المشتغلين بالزراعة لن تتوفر له ملكية حتى بعد التحديد ، وذلك نظرًا إلي قلة الأراضي الصالحة للزراعة بالقياس إلي المشتغلين بها . ولقد جرت العادة أن يلزم المستأجر بأداء مبلغ نقدي أو قدر عيني من المحصول لقاء انتفاعه بكل فدان دون مراعاة للقصد الاعتدال ، الأمر الذي يترتب عليه أن يحرم الفلاح ثمرة عمله طوال العام ، بل يخرج في أكثر الأحيان مثقلاً بدين لا يستطيع أداءه ، ولا علاج لهذه الحال بعد تحديد الملكية ‘ى بإصدار تشريع يقصر التأجير علي المزارعة ، بمعني انقسام المحصول بنسبة يتفق عليها كالنصف مثلاً ؛ لأنها أقرب الصور إلي العدالة .

3 – استكمال التشريعات العمالية : بإعادة النظر في التشريعات العمالية الحالية لتشمل جميع فئات العمال بما فيهم العمال والزراعيون ولتكفل للعامل وأسرته التأمينات الكافية ضد البطالة والإصابات والعجز والمرض والشيخوخة والوفاة ، مع مراعاة جعل الانتساب إلي النقابات إجباريًا . وإباحة تكوين الاتحادات النقابية ، وتحديد أجور العمال وفق المبادئ الإسلامية علي أسس اقتصادية سليمة ، مع ضمان حصول العمال علي نصيبهم من غلة الإنتاج ، وإلغاء مكافآت أعضاء مجالس إدارة الشركات . علي أن يكون تقرير هذه الحقوق وحمايتها بنصوص قانونية صريحة .

4 – إصلاح نظم التوظيف : علي أساس تقريب الفوارق بين الحد الأعلى والحد الأدنى للمرتبات والأجور ، وكفالة الضمانات القانونية والمالية في الخدمة والمعاش ، وتأمين المرءوسين ضد أهواء الرؤساء واستبدادهم ، وتحديد التبعات ، وتبسيط الإجراءات ، وإلغاء المركزية .

5 – إلغاء النياشين : وذلك تكملة لما تم من إلغاء الرتب ، وتحقيقًا للمساواة الكاملة بين أبناء الوطن الواحد ، وحتى تكون الأعمال خالصة لله ، وكذلك العمل علي القضاء علي مظاهر البذخ والترف .

6 – جعل المسجد مركزًا دينيًا وثقافيًا واجتماعيًا : وقد كانت هذه وظيفة المسجد الرئيسية منذ نشأته ، ولا يتم هذا إلا بتعيين رجال متدينين مثقفين للإشراف علي المساجد ، لا يكتفون بإقامة الصلوات ، بل يحولون المسجد وبخاصة في القرى ، إلي ندوة حافلة بضرب النشاط والإصلاح ومكافحة الأمية .

خامسًا : الإصلاح الاقتصادي :

إن موارد الثروة في مصر بوضعها الحال لا تكفي أن يعيش المواطنين معيشة طيبة ، ولابد من فتح أبواب جديدة للثروة وإصلاح الأوضاع القائمة علي أسس سليمة . وتقترح لذلك أمورًا منها :

1 – تحريم الربا ، وتنظيم المصارف تنظيمًا يؤدي إلي هذه الغاية ، وتكون الحكومة قدوة في ذلك بالتنازل عن الفوائد في مشروعاتها الخاصة .

2 – تمصير البنك الأهلي وإنشاء مطبعة للإصدار في مصر ، واستعجال إنشاء سك النقود المعدنية .

3 – إلغاء بورصة العقود التي أدت المضاربات فيها إلي زعزعة الاقتصاد القومي ، والعمل علي إصلاح السياسة القطنية بما يحقق مصالح البلاد .

4 – استكمال إصلاح الأراضي البور ، والعناية باستغلال الصحاري المصرية زراعيًا ومعدنيًا .

5 – تصنيع البلاد مع العناية بالصناعات المعتمدة علي المواد الأولية المحلية والصناعات الحربية . سادسًا : التربية العسكرية :

إن رجال الجيش البواسل هم أولي الناس بإصلاحه ، ويجب علي الدولة ألا تبخل عليه بالمال الذي يهيئه لتأدية واجباته ، وأن تعتبر ذلك فريضة لا يؤخرها غيرها من الفرائض ، ولو اقتضي الأمر الجور علي أبواب الميزانية الأخرى . ونود أن نشير إلي أمور في التربية العسكرية نجملها فيما يلي :

1 – أن تراعي الآداب والشعائر الدينية في الجيش ، وأن تقوم العلاقة بين أفراده علي أساس الأخوة .

2 – أن يوسع نطاق التجنيد بحيث لا يبقي في الأمة بعد فترة محدودة من يستطيع حمل السلاح دون أن يحمله ؛ حتى يصبح الشعب كله جيشًا كامل الأهبة والعتاد .

3 – أن تضاعف العناية بالتدريب العسكري في المدارس والجامعات ، وأن تتسم بالجد والإنتاج ، فيقرر إجباريًا في مناهج التعليم ويشمل فنون الحرب وأساليب القتال الصحيح .

4 – إنشاء جيش إقليمي يتكون من كل من فاته الانتظام في الجيش العامل .

5 – أن تبادر الحكومة إلي إنشاء مصانع الأسلحة والذخيرة لإمداد الجيش بحاجته منها ؛ حتى يستطيع الجيش أن يحقق غاياته في العدد والعدة ومستوي التدريب .

سابعًا : البوليس :

إن رجال البوليس هم حفظة الأمن الداخلي ، و هم جزء من الأمة يجب أن تكون علاقاتهم معًا علاقة أخوية وقائمة علي أساس من الخلق الفاضل الكريم . لذلك ينبغي أن يطهر البوليس من العناصر الفاسدة التي عاونت الطغاة علي إذلال الأمة ، ومهدت السبيل لزج أبنائها الأبرياء في ظلمات السجون والمعتقلات ، وأشاعت في البلاد جوًا من الفزع والإرهاب مازالت آثاره حية بيننا ، وأن ينزه البوليس عن أن يكون أداة في يد الأحزاب تسخره في مآربها السياسية ، مستغلة سيطرتها عليه حين تكون في الحكم . ويجب إلغاء نظام البوليس السياسي الذي أساء إلي سمعة البوليس ، ومد نفوذه بغير حق إلي كثير من مرافق الحياة ، وهو في حقيقته أثر من آثار الاستعمار البغيضة . ويجب أن يرفع مستوي رجال البوليس وأن يآمنوا في حياتهم ، وتوثيق روابط الود بينهم وبين رؤسائهم من ناحية وأفراد الأمة من الناحية الأخرى .

خـاتـمـة :

هذه الخطوط رئيسية في الإصلاح يحتاج كل منها إلي بيان ، وإن المشكلة التي تقابلنا الآن ذات ثلاثة أطراف : مظلومون وظالمون ، وأوضاع مكنت الظالم من أن يظلم ، ولابد لكي يستقيم أمر هذه الأمة مما يأتي :

1 – أن ترد المظالم إلي أهلها وأن يعاد إلي كل ذي حق حقه ، فترد إلي المسجونين السياسيين حريتهم . ولقد كانت هذه الصفوة من الشباب الطليعة الأولي التي ثارت في وجه الظلم والطغيان ، ولازالت ترسف في أغلالها بينما يتمتع المترفون والجلادون بأهوائهم . كما ترد الأموال والأرض المغصوبة إلي أهلها ، وأن تتوفر للمواطنين حياة يتحررون فيها من أغلال الإلحاد والفقر وطغيان الحاكمة وتجار السياسة .

2 – أن يقتص من الظالمين ، وأن يبعد من الميدان السياسي هؤلاء الذين استباحوا الحرمات ، واعتدوا علي الحريات وداسوا علي مقدسات الأمة ، وجعلوا البلاد مزرعة لشهواتهم ، واتخذوا العبث بمصالحها مادة للكسب الحرام لأنفسهم وأهلهم وأنصارهم .

3 – أن تغير الأوضاع التي مكنت الظالم من أن يظلم ، وأن يكون التغيير شاملاً لكل مرافق الحياة التي استطاع الطغاة أن ينفذوا منها إلي مآربهم .

أما قضية الاستقلال فليس لها إلا حل واحد ، وهو أن يخرج الانجليز من مصر والسودان ، وأن يخرج كل مستعمر من بلاد الإسلام ، وإن الإخوان المسلمين حين يتقدمون بهذه الخطوط الرئيسية إنما يستوحونها من كتاب الله الذي يأمر بالعدل والإحسان ، ويحض علي الإخاء ورعاية أهل الذمة ، ويدعون الله جلت قدرته أن يجمع القلوب علي الهدي ، وأن يحقق للأمة أهدافها ، وأن يهدينا سواء السبيل . والله أكبر و لله الحمد .

نقلنا إلي القراء هذا البيان ليلمسوا فيه المعاني التي توخينا إبرازها في العلاقة بين طرفين ونترك للقراء الكرام تقدير هذه العلاقة .

الفصل الثاني : تأييد ودعم في أحرج المواقف

قدمنا في الفصل السابق ما ينطق بروح التعاون والإخاء من ناحية الإخوان المسلمين إزاء الثورة ؛ حيث قدموا لها برنامجًا كاملاً شاملاً صريحًا واضحًا ، ولا يتقدم مثل هذا البيان إلا قوم يرون في القائمين بالحكم إخوة لهم يعقدون عليهم الآمال . وينتظرون من ورائهم الخير والإصلاح .. ولا يقرأ هذا البيان مراقب سياسي إلا قرر أن أصحابه إخوة وأصدقاء وحلفاء لهذه الحكومة .. وهو ما كان فعلا شعور واضعي البيان وهم الطبقة المسئولة في الدعوة والممثلة ل الإخوان المسلمين أعضاء الهيئة التأسيسية .

ولكن المراقبين السياسيين – لاسيما الأجانب منهم – لا يكتفون بمثل هذا البيان دليلاً علي روح التعاون والتكاتف بين هيئة وحكومة ، فإبداء هذه الروح في وقت الرخاء قد يكون وراءه ما وراءه من الدوافع والآمال .. وينتظر هؤلاء المراقبون حتى تقع هذه الحكومة في أزمة خانقة تكون فيها أحوج ما تكون إلي من يمد لها العون ، ويرقبون هذا الحليف الذي تقدم للتأييد في وقت الرخاء هل يجدون له أثرًا وقت الأزمة الذي يكون التأييد فيه مكلفًا وذا ثمن فادح ؟ . وهذا ما نستقرئ عنه الأحداث لعلها تنبئنا بشيء فيه يقنعنا هؤلاء المراقبين :

استمرت المفاوضات بين حكومة الثورة وبين الحكومة البريطانية منذ قامت الثورة في يوليو 1952 حتى آخر مايو 1953 في محاولات لإقناع إنجلترا بسحب جيوشها من منطقة قناة السويس .. وفي نهاية مايو 1953 يئست الحكومة ووجدت نفسها أمام طريق مسدود من تعنت الحكومة البريطانية فأعلنت قطع المفاوضات . ومعني إعلان الحكومة المصرية قطع المفاوضات هو أنها قد استنفدت كل وسائل التفاهم والإقناع ولم يبق أمامها بعد ذلك إلا طريق المقاومة .

فما كان موقف الإخوان المسلمين إزاء هذا الموقف الجديد ؟

في 29/5/1953 أي عقب إعلان الحكومة هذا الموقف مباشرة ، أقام الإخوان حفلاً بشعبة العباسية بالقاهرة بمناسبة ذكرى غزوة بدر ألقيت فيه كلمة المرشد العام التي نشرت في الصحف في اليوم التالي جاء فيها :

" والإخوان المسلمون يضعون كل إمكاناتهم رهن وصول مصر إلي حقها الكامل ، لا يضنون في سبيل ذلك بدمائهم ولا بأموالهم ولا بمجهودهم . وإن لهم من إيمانهم وصدق وطنيتهم وقوة تربيتهم ما يجعلهم قادرين علي تحمل الأعباء الجسيمة في معركة مصر المقبلة ، وإذا كان غيرهم يعتبر القيام بهذا الواجب مما تفرضه عليه الوطنية ، فإن الإخوان المسلمين يرون قيامهم بنصيبهم في تلك المعركة عبادة يتقربون بها إلي الله ، ويشترون بها الجنة . وإننا مع هذا نتابع جهودنا في ميدان الإصلاح الداخلي ، متعاونين مع كل من يريد الإصلاح والخير لهذا الوطن ، مؤيدين رجال العهد الحاضر في ذلك تأييد الكريم للكريم ، لا يألون عونًا إن أصاب ولا نصحًا خالصًا إن أخطأ .. معرضين عن كل ما يحاوله أعداء الإصلاح في عهده الجديد من إيغار الصدور ، وتفريق الصفوف .. وموقفنا هذا مما يفرضه حق الأمة والوطن علي جماعة تدعو إلي الإصلاح ، لا تبتغي من الناس جزاء ولا شكورًا " .

ومع أن كلمة المرشد العام هذه لم يقلها بنفسه حيث كان في ذلك الوقت خارج القاهرة ، وقد ألقاها نيابة عنه الأخ الأستاذ محمود عبد اللطيف .. فقد كان لما جاء بها صدي بعيد المدى في الأوساط البريطانية والغربية .. حتى إن وكالة أسوشيتدبرس كلفت مراسلها في القاهرة مستر إدوارد بولاك بمقابلة المرشد العام وإجراء حديث معه .

• حديث المرشد العام مع وكالة الأسوشيتدبرس :

وقد تمت المقابلة في 4/6/1953 ونشرت في الصحف في اليوم التالي .. ونورد نص هذه الأسئلة والأجوبة عليها كما نشرت :

س : ما هو رأي الإخوان المسلمين في المرحلة الحالية للنزاع المصري الانجليزي بشأن الجلاء عن منطقة قناة السويس ؟ .

جـ : لقد كان الإخوان يرغبون ألا تصل العلاقات السياسية بين مصر وبريطانيا إلي المرحلة الحرجة الحالية ، وكنا نأمل أن تقبل بريطانيا الحل الوحيد العادل والمعقول ، وهو الجلاء عن منطقة قناة السويس ، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك لكسبوا صداقة المصريين ، ولكن أملنا لم يتحقق ، فلقد سيطرت العقلية الاستعمارية علي وجهة النظر البريطانية ، وجعلتهم يذهبون إلي حد وضع شروط غير معقولة لإتمام الجلاء الذي تريده مصر – وإن هذا سيجعل المصريين جميعًا أعداءً لبريطانيا حتى تسترد مصر حقوقها .

س : هل الإخوان المسلمون علي استعداد للتعاون مع الحكومة في أي إجراء تقرره لتحقيق الجلاء عن القناة مهما يكن هذا الإجراء ؟ .

جـ : إن أحدًا لا يشك في ذلك ، ولو لم تكن موقنين بأن صبر الحكومة الحالي وانتظارها في مصلحة مصر لسبقناها ، وخطونا الخطوات الضرورية التي يجب علي مصر اتخاذها بشأن هذا النضال بجميع الوسائل الممكنة ضد القنوات البريطانية . وعندما تقرر الحكومة أن الوقت قد آن للتحرك فستجد الإخوان المسلمين علي استعداد للتجاوب بكل الإجراءات والعمليات الضرورية لتحقيق آمال مصر وحقوقها .

س : من المعلوم أن الإخوان المسلمين لديهم عدد من الأعضاء المدربين للقيام بشن حرب العصابات أو أي عمليات أخري ضد القوات البريطانية في منطقة القناة . وتقول الأنباء : إن هذه التشكيلات ستتحرك إذا قررت الحكومة ذلك وفي الوقت الذي تقرره الحكومة ، فهل تؤكد هذه الأنباء ؟ وإذا كان هذا صحيحًا فهل تستطيع أن ترسم الهيكل الخارجي لتفاصيل هذه التشكيلات واستعداداتها ؟ .

جـ : إن كل ما أستطيع الإفضاء به إليك هو أن الإخوان المسلمين مستعدون لأداء واجبهم وإني أفضل عدم الكشف عن تفصيلات أعتبر أن الموقف الحالي غير مناسب للكشف عنها .

س : هل تستطيع أن تفضي إليّ ببعض المعلومات عن حالة الإخوان المسلمين الحاضرة مثل عدد الأعضاء المنتمين إليهم ، وعدد الشعب في مصر وفي البلاد العربية الأخرى ؟ وهل ستشترك تشكيلات الدول العربية الأخرى من أجل تحرير مصر إذا ما تقرر نشوب القتال ؟ .

جـ : لم يعد اسم الإخوان المسلمين يعني أنها منظمة وطنية أو قومية ، فإنها الآن تقوم كرمز للمسلمين في جميع أنحاء العالم ؛ تدعوهم أن يفيقوا ويتقدموا في طريق نهضة قوامها التعاليم الإسلامية . وهذه التعاليم تهدف إلي حياة كريمة ، بما في ذلك نشر التعاليم والأخلاق الحسنة والمعيشة اللائقة في مجتمع التعاليم باستغلال منابع الثروة القومية ، والمحافظة علي الاستقلال الوطني قبل كل شيء – ونحن نهتم بعدد الأعضاء المقيدين في السجلات اهتمامنا برؤية مبادئنا تفهم علي الوجه الصحيح ، ويتبعها أكبر عدد من الشعب في مصر وفي الخارج .

أما عن الإخوان في مصر فإني أحب أن أؤكد أنهم منبثون في جميع أنحاء القطر ، وقد أنشئت المراكز في جميع البلاد والقرى . ويعتبر الإخوان المسلمون الآن قادة الرأي العام المستنير لشعب يدرك حقوقه وواجباته . وإن هدفنا الأساسي هو أن نرفع من مستوي أتباعنا وندفع بهم في طريق الحق ، وبذلك نعينهم علي تحمل مسئولياتهم في الوقت الحاضر . وأما عن الإخوان المسلمين في البلاد الأخرى فإني لا أود أن أقول أي شيء عنهم بسبب الظروف المختلفة القائمة في كل من هذه البلاد ، وكذلك فإني أفضل ألا أقيد نفسي بما إذا كانوا سيشاركوننا في معركة القتال أم لا .. إلا أني في مركز يسمح لي أن أؤكد أنهم سيؤيدوننا بجماع قلوبهم ، هذا إذا لم يستطيعوا أن يشتركوا في المعركة نفسها .

وإني أود أن ألفت الأنظار إلي محاولات خبيثة تقوم بها بعض العناصر الغربية لإعطاء صورة كاذبة عن الإخوان المسلمين .. وهذه المحاولات تهدف إلي خلق شعور عدائي بين الإخوان والغرب . وإني اعتقد أن العالم الإسلامي سيجني أعظم الفوائد بمحاولته فهم مبادئنا فهمًا جيدًا ، وبدارستها في ضوء من العدل وعدم التحيز ، وإني لمتأكد أن العالم الغربي عند ذلك سيقتنع تمام الاقتناع بعظم الفائدة التي سيجنيها وسيقلع عن تصورالإخوان المسلمين في صورة " شبح مخيف " تلك الصورة التي حاول البعض رسمها عن الإخوان . وإني لمتأكد أن الغرب سيجد في الإخوان المسلمين أكثر العوامل كفاءة للعمل في سبيل تقدم الإنسانية وتحقيق الرفاهية للشعوب ، واستقرار السلام بين الأمم المختلفة " .

وغير خاف عن القارئ – بعد أن اقرأ هذا الاستجواب الدقيق – مدي اهتمام الحكومة البريطانية في هذا الظرف الحرج باستطلاع رأي الإخوان المسلمين في الموقف ، وفي القدر الذي قرروا بذله من التأييد للحكومة المصرية . وحسب القارئ أن يعلم أن المفاوضات قد قطعت في نهاية مايو ، وأن هذا الاستطلاع ثم في الرابع من يونيو ، وأن لندن أعلنت تراجعها عن التعنت وتقدمت بخطوة إيجابية في المحادثات في 15 يونيو .

الباب الرابع : تأثير قيام الثورة في التفاعلات الداخلية في الدعوة


مقدمة

كان المفروض والمعتقد بل والذي يخطر ببال كل إنسان ، وخطر فعلاً ، أن قيام الثورة ما هو إلا دعم الإخوان المسلمين وتقوية وإمداد جديد . وإذا كان من طبيعة الأشياء ألا يخلو شيء من نقاط ضعف أو مواطن خلل ، فكان المنظر أن يكون قيام الثورة علاجًا شافيًا لهذه النقاط وتلك المواطن في المجتمع الإخواني .. فهل تحقق هذا الذي كان مفروضًا ؟ . أوردنا في فصل سابق بيانًا موجزًا عن التفاعلات الرئيسية التي كانت تنتاب الدعوة عندما تولي الأستاذ حسن الهضيبي منصبه فيها .. وقد أوجزناها في تفاعيل اثنين هما : تمرد أولي القربى ، وتمرد أولي القوة . وألمحنا إلي أنهما كادا يعوقان الدعوة عن السير .. ولكن جهود الإخوان تمكنت بعون الله أن توقف هذين التيارين عند حد .. بل إنهما أمام الإجماع الإخواني الدفّاق في تأييد المرشد الجديد ، لم يكن في استطاعتهما إلا أن يحنيا رأسيهما خضوعًا وإذعانًا . وسارت الدعوة تشق طريقها ، وتألقت في سماء مصر ، وشدت جميع الأنظار إليها ، تتطلع إليها في شوق وتلهف ، أنه قد حانت ساعة الخلاص ، وتحقق للناس ما طال انتظارهم له ، فقد قامت الثورة .. ولم يكن أحد يشك في أن هذه الثورة هي ثمرة جهود ربع قرن ؛ واصلت فيه هذه الدعوة الليل بالنهار في إيقاظ الشعب وتربيته وتثقيفه وتنظيمه .. وكان الأمر فعلاً كما اعتقد الناس .. ولكن .

ولكن – ما أشق هذا الاستدراك علي النفس – لم يكن أحد يعلم أن هؤلاء الذين ظهروا علي المسرح كانوا يكنون في قرارة نفوسهم غدرًا بالدعوة التي تربوا في أحضانها ، وقامت حركتهم في كتفها وحمايتها .. وسرعان ما وضح الخلاف أو افتعل الخلاف بين هؤلاء وبين قيادة دعوتهم . أما نقاط الخلاف فقد أفردنا لها بابًا تم فيه تمحيصها .. ولكن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ، وبهذا المعني وعلي هذا الأساس سار الإخوان مع وجود هذا الخلاف علي أسلوب النصح والتسديد والدعم والتأييد ، سواء في أوقات الرخاء أو في ساعات العسرة والحرج كما بينا ذلك في الباب السابق .. آملين أن يتكفل الزمن بالتقريب بين الآراء ورجوع المخطئ إلي الرشد والصواب .. ولكن هل وقف الأمر عند هذا الحد ؟ .

يبدو أن النفوس البشرية ذات تلافيف وسراديب وذات أعماق بعيدة ، بحيث لا يعلم حقيقة ما في أعماقها إلا الله وحده .. لقد سار الجمع مع الركب الإخواني الهادر يحرز كل يوم نصرًا ، ويجني كل يوم ثمرًا ، ويدكدك بأقدامه كل يومًا صرحًا من صروح الظلم والاستبداد .. حتى أتي عليها جميعًا .. وتأهب سكانها للقرار مخلين للركب الهادر الميدان ، تاركين بين يديه الزمام .. وتقدم – في حماية الركب الهادر – ثلة من رجال فتسلموا الزمام .. فلما تسلموا الزمام ماذا فعلوا ؟ إنهم تنكروا أولاً للركب الهادر الذي رباهم وحمي ظهرهم .. فلم يتقيدوا بما كانوا قد عاهدوا الله عليه .. ثم إنهم بعد ذلك أرادوا أن يتخذوا منه مطية لأطماعهم . إن الإنسان لا يملك لإنسان ارتبط معه برباط شيئًا إذا تحلل هذا الإنسان من ارتباطه حتى ولو كان قد وثق هذا الارتباط بيمين .. ولذا فإن المرشد العام لم يقابل تحلل جمال عبد الناصر من بيعته وعهده بشيء سوي التفويض لله ولم يعتبرها المرشد العام كارثة الكوارث .. لأن الوصول إلي الحكم لم يكن هدفه .. فإذا كان نفر من أفراد هذه الدعوة قد خرجوا عن الجادة وجعلوا الوصول إلي الحكم هو هدفهم .. فليهنئوا بهذا الحكم ، ولتسر الدعوة في طريقها المرسوم ، مؤيدة كل صواب ، محذرة من الجنوح إلي الأخطاء .. ولعل هؤلاء في يوم من الأيام يفيئون إلي رشدهم ويرجعون إلي صوابهم .

لقد خرج علي هذه الدعوة من قبل آخرون .. وتنكروا لها ، وحملوا عليها ، وافتروا عليها .. فلم يضرها ذلك في كثير ولا قليل .. واستطاعت أن تواصل مسيرتها .. كان هذا هو شعور المرشد العام حين صارحه كبيرهم بالتحلل من العهد والبيعة . ولكن كبيرهم هذا لم يكتف بالتحلل من العهد والبيعة ، بل أسر في نفسه وطوي أحنائه علي أطماع بالغة الخطورة لم تخطر علي بال طائفة من التي خرجت علي هذه الدعوة من قبل إنه جعل خطوته التالية أن يسخر الدعوة لأطماعه . إنه كان يفهم – عن ثقافته التي تلقاها في المحيط الإخواني ، ومن احتكاكه بمختلف الهيئات – أن لابد للحاكم لكي يكون ثابتًا في حكمه ، من قاعدة شعبية يستند إليها ، ويعتمد علي تأييدها ، ويستمد سلطته من نفوذها الشعبي .. ويعلم كذلك أن الإخوان المسلمين هي الهيئة الشعبية ذات الجذور في أعماق الشعب ، إنها الهيئة الشعبية المنظمة الغنية بشبابها ورجالها ونسائها ، وأنها الهيئة الوحيدة نظيفة الصفحة التي لم تثر حولها شبهة من غش أو فساد أو استغلال . أية هيئة هذه التي لا يحلم أي حاكم واسع الآمال إلا بها سندًا له ، وردءًا يحميه ، وطودًا يتسنم ذروته ، فلا تتطاول إليه الأيام ولا ترقي إليه الأحداث ؟!! .

إن جمال عبد الناصر دار بخلده كل هذا ، وطاردته نفس هذه الأحلام .. وما كان لإنسان في مثل موقف عبد الناصر إلا ويدور بخلده كل هذا وتطارده هذه الأحلام . وكل ما دار بخلد جمال ، وكل ما حلم به كان ممكنًا تحقيقه في عالم الواقع وبدون أدني جهد ، لو أنه حفظ عهده وتمسك ببيعته .. لأن الإخوان ازهد الناس في مظاهر الحكم .. ولو أرادوا – كما قدمنا – لسعي إليهم قبل ذلك بسنوات . ولقد سعي الهضيبي للقاء جمال عبد الناصر يوم 28 يوليو 1952 في منزل صالح أبو رقيق ليقول له هذه الكلمات ، ويطمئنه علي أن الإخوان المسلمين جميعًا من ورائه .

ولكن جمال عبد الناصر كانت له آمال أخري وأحلام أخري – وارتباطات أخري – كان حريصًا علي إخفائها .. وكان ولاءه لهذه الارتباطات الأخرى يقتضيه أن يفوه للمرشد العام بهذه الكلمات .. وهذا الكلام ربما جاء بيانه فيما بعد إن شاء الله .. والمهمة التي كان جمال يريد الإخوان لها قد تمت ، ونجحت الثورة ولم يعد له بهم حاجة ، وعليهم أن يخلوا له الميدان وحده لأنه لا يستطيع أن يجمع بين الضدين .. واعتمادًا علي ما يعلم من صدق وفاء الإخوان لمبدئهم ولوطنهم فإنه كان موقنًا أنه إذا ما وقع في مأزق فإنه سيجدهم – رغم كل ذلك – من ورائه . لقد كان معه طوال الوقت وعلي مدي الأيام السابقة صلاح شادي وحسن عشماوي وعبد القادر حلمي وفريد عبد الخالق وصالح أبو رقيق .. ولكنه لم يفه بهذه الكلمة لهم .. لأن التوقيت المرسوم كان أن يفوه بها ل المرشد العام نفسه في الوقت الذي فاته بها له ، ولو أنه استطاع أن يفوه بها له دون أن يسمعها هؤلاء لكان أفضل له ، ولكن الظروف لم تكن تسمح بذلك .


الفصل الأول : حاجة ملحة للعمل علي " تميز الدعوة " من جديد

هدمت هذه الكلمات القصار في هذا اللقاء صروح الآمال التي كان المرشد العام بناها علي هذه الثورة ، والتي كانت جميعها تدور حول حكم خالص في ظلال الوحي الرباني الهادي المبين ، كما لمح الرجل ما وراء هذه الكلمات التي سمعها من أطماع حول تطويع هذه الدعوة وتذليل عنقها لتكون في خدمة هذه الأطماع .. وما كان ل المرشد العام – والوضع أضحي كما رأي – لا أن يكرس كل جهوده علي ألا يختلط الحق بالباطل ، وعلي أن يظل للدعوة " تميزها " الذي اكتسبته وعاشت به حتى تسلم هو قيادتها .. وأحب هنا أن ألفت نظر السادة القراء إلي أن المحافظة علي تميز الدعوة ليس بالأمر السهل القريب المنال ، وإنما هو أمر خطير ، ومهمة بالغة الصعوبة .. ولقد سبق لنا أن أفردنا بابًا من قبل في الجزء الأول من هذه المذكرات لمحاولة حسن البنا إبراز الإخوان المسلمين باعتبارهم فئة متميزة من الفئات الأساسية في المجتمع المصري ، وأشرنا فيه إلي طرف من الجهود الجبارة التي بذلها في سبيل ذلك ، وما اعترض طريقه في ذلك من مشقات .. ومع ذلك فقد كان يريد أن يميز دعوته من دعوات وهيئات وجماعات كانت كلها موجودة معه علي الصعيد الشعبي ، كما كان متاحًا لهذه الجماعات من وسائل .. ومع ذلك لاقي ما لاقاه من مشقات ، وخاض في سبيل ذلك الغمرات ، وخرج عليه من خرج .

ودارت الأيام وبعد أن بذلت الدعوة في خلال عشرين عامًا أغلي ما نملك حتى تم تميزها .. واجه مرشدها الجديد موقفًا خطيرًا يكاد يقوض البناء من أساسه .. إنه يراد للدعوة أن تميع وأن تطمس قسمات وجهها المشرق وأن تلعب أصابع " المكياج " في هذه القسمات حتى تبدو في الشكل الذي يريده الحاكم . والدعوة الإسلامية – علي مدي العصور – لم تُنَل إلا بهذا الأسلوب ، أسلوب التمييع والتحرير والتزييف .. لأن الدعوة الإسلامية هي فكرة قبل أن تكون دعوة ، وهذه الفكرة محددة المعالم .. فإذا أريد تطويع الدعوة فلابد من العبث أولا بالفكرة ، ومحاولة إفراغها من مضمونها أو تحريف هذا المضمون بالإضافة إليه أو الحذف منه أو التأويل السقيم لمعانيه .. ولا نقصد بالدعوة الإسلامية في هذا الصدد المحمدية فحسب ، وإنما هي الدعوة من لدن إبراهيم عليه السلام حتى عيسي عليهما السلام .. هذا كان دأب الذين أرادوا الكسب الحرام لأنفسهم سواء كان هذا الكسب مادة أو جاهًا أو سلطة .

أحس حسن الهضيبي كل هذه المعاني لحظة فاجأه جمال عبد الناصر يوم 28 يوليو 1952 بهذه الكلمات القصار التي أعلن فيها تحلله من بيعته .. أحس بأن جهده كله يجب أن ينصب منذ تلك اللحظة علي تحصين دعوته ، والإبقاء عليها متميزة واضحة المعالم ، ذات جدار عال شاهق يعيا كل جبار دون اجتيازه .. ولهذا أجاب جمالاً بهذه الكلمات التي تؤدي نفس المعني تمامًا : " اسمع يا جمال .. ما حصلش اتفاق .. وسنعتبركم حركة إصلاحية .. إن أحسنتم فأنتم تحسنون للبلد .. وإن أخطأتم فسنوجه لكم النصيحة بما يرضي الله " وفهم جمال نفس هذا المعني الذي يقصده المرشد العام . وقال المرشد العام عقب ذلك للذين حضروا هذه المقابلة من الإخوان هذه الكلمات : " الراجل ده مافهش خير ويجب الاحتراس منه " ولم يكن هذا التعقيب منه إلا صدى لقوله تعالي : (                        ) .

والناظر في هذه الآية والست التي سبقتها قد يري فيها روعة وعجبًا .. فقد بدأت بقوله تعالي : (          ) ثم يذكر عشر صفات لأولئك الذين علموا أنما أنزل من الله هو الحق ، جعل في مقدمتها : (       ) ثم اتبع ذلك بقية الصفات – ولكنه في الآية السابعة التي نحن بصددها وهي التي تعرض لصفات النقيض لا تذكر إلا صفات ثلاثًا ليس غير ، وهي : نقض العهد والميثاق ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ، ثم الإفساد في الأرض – وقد تومئ الآية بذلك إلي أن نقض العهد – عادة – إنما ينبعث من حصول الناقض علي متاع من متاع الدنيا كمال أو سلطة كان يرنو إليهما ، فلما قد تعاهد معهم وهم أصحاب الفضل عليه ، وكانوا أولي الناس بأن يعترف بفضلهم ويصل حبله بحبلهم – ولما كان الحق لا يتعدد ، وليس بعد الحق إلا الضلال ، ومن تنكب طريق الحق لم يجد أمامه إلا طريق الفساد .. ولما كان هذا الناقض ذا قوة اكتسبها كما قدمنا ، فسلوكه طريق الفساد لا يعود عليه وحده بالضرر بل يعود الضرر عليه وعلي غيره ممن تابعوه أو ممن ابتلوا به .

ومعني أن حسن الهضيبي واجه في ذلك الوقت موقفًا ألزمه أن يتوجه كل جهوده للحفاظ علي " تميز " الدعوة هو أن الدعوة رجعت إلي سابق عهدها في عهد حسن البنا فاتخذت موقف الدفاع عن النفس ، والذود عن كيانها . ولكن الموقف في هذه الموقف أصعب من ذي قبل للأسباب الآتية :

1 – أنحسن البنا كان يدافع عن كيان دعوته ، ويعمل علي تميزها ، ويحدد معالمها – وهو قائدها غير منازع ، وصاحب الكلمة المطاع ، لا يخرج عن طاعته أحد من أتباعه .

2 – أن حسن البنا كان يعمل علي تميز دعوته – كما قدمنا – عن هيئات وجماعات كانت كلها معه في المستوي الشعبي وأنه كان متاحًا له ما كان متاحًا لهم من وسائل .

3 – أن الحكومات التي كانت تختلف معه أو تعاديه كان بينها وبين دعوته خط فاصل واضح المعالم يراه القريب والبعيد ، فصحف هذه الحكومات ترمي بصريح العبارة دعاة الحكم الإسلامي بالتأخر والرجعية .

4 – أن وجود جيوش المستعمر علي أرض الوطن مع وجود حكومات من المصريين تتعاون معه ، كان عاملاً من عوامل إبراز هذا الخط الفاصل الذي يراه الشعب بين الإخوان المسلمين وبين هذه الحكومات .

ولكن حسن الهضيبي هذه المرة واجه هذا الموقف وهو في وضع نجمله في الآتي :

1 – أنه دخل هذا الميدان وهو لا يزال قريب عهد بحرب شعواء شنها عليه عنصران من عناصر هذه الدعوة أولي القربى وعنصر أولي القوة .. وإذا كانت الظروف التي واجهت هذين العنصرين لم تكن مواتية لهما فخفت صوتهما ، وتواريا عن الأنظار .. فمن يدري كيف يكون لهما من موقف إذا تغيرت الظروف ؟ .

2 – أنه يريد المحافظة علي " تميز " دعوته لا عن هيئات وجماعات شعبية وحسب ، وإنما يريد أن يحفظ لها تميزها أيضًا عن حكومة لا يملك هو من الوسائل مثلما تملك .

3 – أنه ليس هناك خط فاصل واضح بين هذه الحكومة وبين الدعوة بحيث يراه الشعب ، ويكون هذا أول ما يلفت النظر إلي التميز ، بل إن الشعب مستقر في خاطره أن هذه الحكومة هي وليدة دعوة الإخوان المسلمين . بل الأدهى من ذلك أنالإخوان المسلمين أنفسهم مستقر في خاطرهم هذا المعني نفسه .

4 – أن هذه الحكومة لم تعلن علي الشعب ما يشم منه ما يناقض الدعوة الإسلامية ، بل إنها تصرفت في أول عهدها تصرفات توحي كأن أصحابها يمثلون هذه الدعوة ، مثل رفضهم ركوب السيارات المخصصة للوزراء والاكتفاء بركوب سياراتهم الخاصة ، حتى إن بعضهم كان يركب الترام ، ومثل اكتفائهم في الاجتماعات التي تطول لمجلس الوزراء أو لمجلس الثورة يتناول السندوتشات .. وما إلي ذلك من تصرفات طبعت في أذهان الناس صورة عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد والرعيل الأول ، ثم اجتماعات لهم تتم في بيوت الإخوان المسلمين .

كان هذا تصويرًا لموقف الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين في الأيام الأولي لقيام الثورة ، ومع أنه موقف لا يحسد عليه ، فإن مرور الأيام لم تزده إلا حرجًا ، ولم تخلع عليه إلا التفاقم والتعقيد .


الفصل الثاني : مواقف محرجة الأستاذ عبد القادر عودة

قدمنا أن الثورة حين قامت ، أحس كل أخ من الإخوان المسلمين أن هذه الثورة ثورته ؛ لأنها أولاً : كانت الخطوة المتوقعة التي لابد من حدوثها بعد أن وصل الإخوان بالشعب إلي هذه الدرجة العالية من الوعي والنضج والقوة ، وبعد أن أحاط الشعب بأعدائه الداخليين والخارجيين من كل جانب .. وكانت أشبه بالحمل الذي استوفى أشهره التسعة ، والكل في انتظار لحظة المخاض ليسعدوا بالمولود الذي طال انتظاره ، وثانيًا : لأن زملاء الأشخاص الذين ظهروا علي المسرح من النظام الخاص أسرعوا في مختلف أوساط الإخوان هذه الحقيقة ليطمئنوا إخوانهم في كل مكان إلي أنهم حققوا لهم ما كانوا يأملون من حكم إسلامي كريم .. وقدمنا أن ذلك أشاع السرور والابتهاج في نفوس الإخوان ، فأقبل بعضهم علي بعض يتعانقون كما أقبل الكثيرون من إخوان القاهرة علي " إخوانهم " من أعضاء مجلس الثورة يقبلونهم ويعانقونهم .

كان هذا شعور عامة الإخوان من أقصي البلاد إلي أقصاها .. ولم يكن أحد قد عرف بعد بانتكاس جمال عبد الناصر إلا المرشد العام وهذا العدد القليل من الإخوان الذين كانوا معه حين حضر المرشد العام من الإسكندرية يوم 28 يوليو 1952 والتقي جمال عبد الناصر في منزل صالح أبو رقيق . كان موقف المرشد العام بعد هذه المفاجأة في غاية الحرج .. كيف يواجه هذا الشعور الإخواني الغامر وكل منهم يزف إلي الآخر التهاني .. والناس عمومًا تشرئب أعناقهم إلي المركز العام للإخوان المسلمين يترقبون خطوته التالية من إعلان الحكم الإسلامي المرتقب ؟! . كان علي المرشد العام أن يرجع في هذا أول ما يرجع إلي الهيئة التأسيسية للإخوان .. واجتمعت الهيئة في جلسة غير عادية .. وبدأ المرشد العام بنقل إلي المجتمعين – مترفقًا – صورة الانتكاسة التي فاجأته .. فماذا كان وقع حديثه ؟ .

كان لحديثه وقع مختلف ، طائفة كانت تربطهم بجمال وزملائه صداقة شخصية من قبل قيام الثورة .. وهؤلاء رأوا أن صداقتهم الشخصية تلزمهم أن يكونوا في صف جمال وأن يدافعوا عنه دفاعًا منبعثًا من هذه الصداقة ، وطائفة استبعدوا حدوث مثل هذا ، وحملوا الحديث علي محمل المبالغة ، وطلبوا أن يمنحوا فرصة للتحقق من ذلك ، وطائفة صدمتهم هذه الصورة ، ولكنهم تذكروا أن قلب العبد بين إصبعين الرحمن ، وأن للسلطة فتنتها بغريب أن يقع ما حدث . ونحمد الله أن كانت الأغلبية الساحقة من الأعضاء من الطائفة الأخيرة .. ولكن الذي جعل للطائفتين الأخريين – علي قلة عددهما – وزنًا أن كان علي رأس الطائفة الثانية أخ من أكرم الإخوان ومن أقربهم إلي نفوسنا جميعًا ، وكان منصبه في الدعوة يعطي للخلاف وزنًا آخر ، ذلك هو الأخ الكريم الأستاذ عبد القادر عودة وكيل الإخوان المسلمين .

راح الأستاذ عبد القادر يتصل بجمال ويسأله عن هذه القضية الخطيرة .. وجمال ينكر ما قاتل ل المرشد العام ويقول : كيف أقول هذا وأنا رجل من الإخوان المسلمين ؟! إنني قلت : إننا سنحكم بالقرآن ولكن الظروف الآن لا تسمح بذلك من تذليل العقبات وتهيئة الجو للحكم بالقرآن ولابد من فترة تستطيع أن تحقق ذلك . وتعقد جلسات غير عادية متقاربة للهيئة التأسيسية لمعالجة هذا الخلاف الخطير – وفي كل اجتماع يقف الأستاذ عبد القادر ناقلاً لنا ما سمعه من جمال عبد الناصر ومدافعًا عنه ومطالبًا بتأييده تأييدًا مطلقاً ، وكيف لا نؤيده تأييدًا مطلقاً وهو أخ لنا – ويحاول المرشد العام أن يوضح للأستاذ عبد القادر حقيقة المواقف ، ويحذره من مغبة التأييد المطلق ، ومن الإسراف في حسن الظن ، ومن الانخداع بالألفاظ .. ويجد الأستاذ عبد القادر أصوات التأييد لكلامه من الطائفة الأولي .. ويحاول غير قليل من الطائفة الثالثة معه أن يخففوا من اندفاعه بين طائفتين اثنتين : الطائفة الأولي وعلي رأسها الأستاذ عبد القادر والطائفة الثالثة وعلي رأسها المرشد العام ، وقد تلاشت الطائفة الثانية حيث اقتنعت وانضمت إلي الطائفة الثالثة – وصرنا نخرج من هذه الجلسات وقد عصر الغم قلوبنا ولا ندري كيف الخروج من هذا المأزق الخطير الذي يهدد بتدمير الدعوة من داخلها .

كنا نعلم من أول الأمر أن بيننا عددًا قليلاً من أعضاء الهيئة يرتبطون بجمال ارتباطًا شخصيًا ، ومع ذلك لم نكن نعتبر ذلك انشقاقًا حيث لا خطر لهم . ولكن الأستاذ عبد القادر وكيل الإخوان يكون علي رأس هؤلاء ، ويتحدي المرشد العام علي رءوس الأشهاد .. إنها الداهية الدهياء والفتنة العمياء والطامة الكبرى !! لقد كان الأستاذ عبد القادر بموقفه هذا خسارة فادحة للدعوة ، وكسبًَا عظيمًا للطرف المناوئ للخط الذي عرضه المرشد واعتمدته الهيئة التأسيسية في تعاملها مع الثورة ، ولم يكن المرشد العام يطلب من الهيئة معاداة الثورة ولا مناوأتها وإنما يطالب بتأييدها فيما تحسن وبتوجيه النصح لها في غير ذلك .. وهو كلام ليس بالجديد فهو نص ما قال المرشد العام لجمال عبد الناصر .

• استحداث منصب جديد :

كان أعضاء الهيئة التأسيسية حريصين كل الحرص علي أن يكون هذا الخلاف محصورًا بين جدران أربعة هي التي تضم جلسات الهيئة ، وألا تخرج عن حدود هذه الجدران فيكون مثارًا للخلاف في جماهير الإخوان فيحدث تفرقاً وتحزبًا وتمزقًا .. وقد استطاع أعضاء الهيئة – إلي حد كبير – تحقيق ذلك .. ولكن جمال عبد الناصر كان ينقل إليه كل ما دار في هذه الجلسات عن طريق أصدقائه الشخصيين من أعضاء الهيئة .. ولم يكونوا يرون في ذلك خروجًا علي توصية الهيئة ؛ بحجة أنهم يرون أن جمال عبد الناصر أخ من كبار الإخوان ومن حقه أن يعلم بمثل ما يعلم به عضو الهيئة . ولما كان الأستاذ عبد القادر – وهو من لا يُشَك في حسن نيته – أثيرًا لدي أعضاء الهيئة وغيرهم من سائر الإخوان . و كان علي الأخص أثيرًا لدي المرشد العام ، فقد كان هو الذي رشحه وكيلاً للإخوان المسلمين ، وكان انحيازه إلي هذا الموقف بل تزعمه له عائقا يحول بينه وبين تأدية وظيفته في النيابة عن المرشد العام في تمثيل الدعوة أمام مختلف الجهات لاسيما أمام الحكومة .. وقد عز علي المرشد وعلي أعضاء الهيئة أن ينزعوا عنه هذا المنصب ، فقد رؤى إبقاؤه في منصبه وإنشاء منصب جديد " نائب المرشد " ، واختارت الهيئة لهذا المنصب الأخ الدكتور خميس حميدة علي أن يتفرغ لهذا المنصب . وواضح تمام الوضوح أن إنشاء هذا المنصب وإسناده إلي الأخ الدكتور خميس متفرغًا له ، قد حجب الأستاذ عبد القادر عودة عن أن يكون ممثلاً للدعوة نيابة عن المرشد العام في الوقت الذي لم يبد أمام جمهور الإخوان ما يشعرهم بانتقاص من مكانة الأستاذ عبد القادر أو المساس بكرامته .

• قضيـة :

أحس وأنا أسطر هذه السطور – متوخيًا الأمانة التاريخية – أني أصادم عاطفة متأججة في صدور الكثرة الغالبة من قراء هذه السطور .. فلا شك في أن الأستاذ عبد القادر عودة يحتل في قلوبهم سويداءها حبًا واحترامًا وتقديرًا ، ولعلي أكون أكثرهم حبًا واحترامًا وتقديرًا ، فقد كان لي الأخ الحبيب ، والصديق الصدوق .. وهو من أقرب الإخوان إلي قلبي ، وأحظاهم بإعجابي وحبي .. ولكن هذا لا يمنعني وأنا أسطر مذكرات للتاريخ أن أثبت ما له وما عليه ، ولن ينقص ذلك من قدره عندي .. وبهذه النظرة المتجردة من كل هوى أرجو أن يتقبل القارئ ما أسطر في هذه المذكرات التي لا أرجو من ورائها إلا رضا الله ونفع الناس : ( •    ) .

لقد كان الأستاذ عبد القادر من أحب الإخوان إلي الأستاذ الإمام . وكثيرًا ما كان يذكر لنا بالفخر والاعتزاز . وظل – رحمه الله – طيلة أيام الإمام يشغل منصبه في القضاء .. فلما تولي الأستاذ الهضيبي منصب المرشد العام كان الأستاذ عبد القادر أقرب الإخوان إلي قلبه ، ولعله هو الذي أوحي إليه أن يترك منصبه في القضاء ليكون بجانبه .. وهنا بدأ الاختبار . والاختبار هنا ليس اختبار الإيمان ، ولا اختبار الإخلاص ، ولا اختبار الفهم والعلم والإحاطة ، ولا اختبار المقدرة الكتابية والخطابية ولا اختبار التفاني في الدعوة .. فكل ذلك كان قد اجتازه من قبل وبد فيه وتفوق .. ولكن الاختبار هنا كان اختبار المقدرة الإدارية ومدي فهم المواقف وقراءة ما بين السطور وما وراء الألفاظ ، والتعامل مع الأحداث المرتقبة كأنما حدثت ، والقدرة علي الاحتفاظ بخط رجعة يرجع إليه إذا ما أخلفت الظنون ، ورحم الله الذي وصف مثل هذا الرجل فقال :

الألمعي الذي يظن بك الظـ

ـن كأن قد رأي وقد سمعـا

ولا أكتم القارئ سرًا في هذا المقام فأذكره بالحديث الذي كان قد دار بين المرشد العام حسن الهضيبي وبيني قبل الثورة في دمنهور والذي أثبته في الجزء الثاني من هذه المذكرات ، وجاء فيه علي لسان المرشد العام في سياق تقييمه لمن حوله من الرجال فذكر شخصية أغفلت ذكر اسمها آنذاك واكتفيت بنعتي لها بأنها شخصية هامة في الدعوة فوصفها بالإيمان والإخلاص والعلم ، ولكنه لم ير فيها الدقة التي كان يأملها في التعامل مع المواقف وأشار بكلمة فرنسية تعبر عن هذا المعني – لا أكتم القارئ سرًا إذا قلت الآن : إن هذه الشخصية كانت الأستاذ عبد القادر عودة . لم يطعن الأستاذ الهضيبي في إيمان الرجل ولا في إخلاصه ولا في علمه ولا في تفانيه ، وإنما قيمه في هذه الناحية التي نتحدث عنها والتي جربه فيها . ولسائل أن يسأل : لما كان تقييم المرشد العام للأستاذ عبد القادر هو هذا التقييم فلم لم يعمل علي تغييره ؟ ونجيب علي هذا السؤال فنقول : إن الأحداث في ذلك الوقت لم تكن من التشابك والتعقيد بحيث يلحق من تعوزه هذه الصفات ضررًا بالدعوة ، كما أن المرشد العام كان هو الذي يقوم بالاتصالات بنفسه ، ولم تكن الظروف تحتاج لأكثر من ذلك ، بل إنها لم تكن تسمح بغير ذلك .. يضاف إلي هذا أن قلقلة هذا الوضع بغير دليل ملموس قد يثير الخواطر ، ويبعث علي الشكوك ، ويزعزع الثقة .

ونصل بذلك إلي لب القضية وتتلخص في سؤال يقول : هل اجتماع العلم والفضل والإخلاص والتفاني والورع في رجل كاف وحده لإسناد منصب الإدارة والقيادة إليه أم لابد من صفات أخري يشترط توفرها فيه حتى يكون لائقًا لهذا المنصب منتجًا فيه ؟ ولعل كلمة عمر رضي الله عنه المأثورة تومئ إلي شيء مما نحن بصدده حين قال : " أشكو إلي الله ضعف الأمين وخيانة القوي " – وتحت كلمتي الأمين والقوي تندرج كل المؤهلات المطلوب توافرها فيمن يرشح لمنصب قيادي – كما قد يومئ إلي شيء من ذلك أيضًا ترشيح عمر رضي الله عنه ستة من كبار الصحابة ليختار أهل الرأي أحدهم خليفة له ، ولم يكن من بينهم ولده عبد الله ، بل جعله مجرد شاهد عليهم من علو كعب عبد الله في العلم والصحبة والفضل والورع .

وقد يكون من ألزم لوازم من يتولي منصبًا قياديًا ألا يكون سريع التأثر سريع الاندفاع ، وأن يكون قادرًا علي إلزام نفسه بحدود لا يتعداها في الحب والبغض .. وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " أحبب حبيبك هونًا ما ، عسي أن يكون بغيضك يومًا ما ، وأبغض بغيضك هونًا ما ، عسي أن يكون حبيبك يومًا ما " . علي أن التجربة هي أساس الحكم علي إنسان من حيث جدارته لما أسند من منصب ، ولقد كان من كبار الصحابة رضي الله عنهم من كانوا من أقرب الناس إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ومع ذلك لم يستعملهم في مناصب القيادة أو مناصب الحكم والإمارة ، واستعمل من هم دونهم مكانة لديه قدرًا .. ولم يكن هذا مطعنًا في هؤلاء الصحابة الكبار بل ظلوا مع ذلك موضع حب رسول الله صلي الله عليه وسلم وتقديره وتقدير إخوانهم وتقدير الأجيال إلي يومنا هذا وإلي ما شاء الله . ونرجع إلي السياق فنقول إن موقف الأخ الأستاذ عبد القادر كان مفاجأة غير سارة ، وكان عائقًا جديدًا أضيف إلي عوائق أخري لم يكن حدوثها مفاجأة ؛ لأنها كانت ذيولاً لمواقف سابقة .. وقد تلقي المرشد العام مفاجأة الأستاذ عبد القادر بصبر وأناة وجلد ، وترك للزمن بما يتمخض عنه من أحداث أن يكشف له ما عجز عن كشفه من حقائق في ذلك الوقت .

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً

ويأتيك بالأنباء من لم تزود

ونستطيع الآن أن نقول : إن الأيام قد أبدت للأستاذ عبد القادر ما كان يجهله ، ولكن بعد فوات الوقت المناسب ، وندع بيان ذلك إلي مواضع أخري من هذه المذكرات إن شاء الله .


الفصل الثالث : مواقف محرجة : الشيخ الباقوري

كانت المفاجأة الثانية التي تلقاها الرجل الصابر المحتسب المرشد العام ، وكانت بتعبير آخر : اللطمة الثانية .. وهي مفاجأة ولطمة ؛ لأنها أصابته في أقرب الإخوان إليه .. فالأولي كانت في الأخ الذي اختاره ليكون وكيله ، والثانية كانت في الأخ الذي تحدثت عنه في الجزء الثاني من هذه المذكرات حين التقيت به في دمنهور ، ووجدته في صحبة المرشد العام الجديد ، وعلمت بعد ذلك أنه رفيقه في رحلته في الوجهين البحري والقبلي ، ورأيت كل من أراد أن يستفسر من المرشد العام عن شيء من تفاصيل الرحلة يحيله إلي هذا الأخ الذي تفرغ لمرافقته . وإذا أراد قارئ أن يعرف مدي مصيبة المرشد العام في هذا الأخ فليقرأ ما كتبت عنه في الجزء الثاني من هذه المذكرات وما رأيته وما دار بيني وبينه من حديث .

ولكنني أنا شخصيًا – حين علمت بما كان من أمر الشيخ الباقوري ، ومما كان مفاجأة للكثير من الإخوان – لم يقع مني ذلك موقع المفاجأة ، ذلك أنني سبق أن حللت شخصيته بعد طول صحبة وصداقة ومعاشرة ، فرأيت في أعماقه شخصية الشاعر الذي تحكمه العواطف وتسيره حيث شاءت ، وإن كانت علي كل حال لا تجنح به إلي الحرام ، ولا تقوده إلي منكر – ولهذا فإنني بالرغم من كل ما وقع منه لا أفقد حبي له مع علمي بأن هذا يغضب الكثيرين ، ولكني لا أبالي مادمت أقرر حقيقة أحسها – واعتقد أيضًا أن الأستاذ الهضيبي المرشد العام – مع كل ما حدث من الشيخ الباقوري – فإنه لم يفقد حبه له ، لأن الرجل – حسن الهضيبي – كان مرهف الحس ، عميق النظرة ، سرعان ما تسعفه بصيرته بحكم صادق دقيق علي من يتعاملون معه ، ويحتكون به ، فهو قد عرف عن الباقوري ما عرفت ، فأصدر في شأنه حكمين في وقت واحد : حكم أعلنه علي الملأ حفظًا لكيان الدعوة وإبقاؤه علي تميزها ، وتنفيذًا لقانونها الأساسي ، وحكمًا آخر لم يعلنه ، واحتفظ به لنفسه .

أما الحكم الذي أعلنه فيقضي بتبرئة الدعوة من تصرف تصرفه دون الرجوع إلي الهيئة التي ينتسب إليها ، فقد استجاب لطلب الحكومة في تقلد منصب الوزارة في الوقت الذي هو يعلم أن استجابته الشخصية هذه تجرده من أن يكون في منصبه هذا ممثلاً للدعوة ، فكان الإجراء الطبيعي أن يعلن المرشد العام فصله من الإخوان المسلمين ، ولكن المرشد العام – ترفقًا به لما يعلم من طبيعته – طلب منه أن يستقيل فامتثل وأعلن ذلك في الصحف ، فقد جاء في " أخبار اليوم " في 13/9/1952 ما نصه : " اتصل الأستاذ حسن الهضيبي رئيس جماعة الإخوان المسلمين بجميع الصحف ليلة تأليف وزارة محمد نجيب ، وطلب إليها أن تنشر علي لسانه أن الأستاذ حسن الباقوري قد استقال من الإخوان قبل قبوله المنصب الوزاري " .

وأما الحكم الذي لم يعلنه المرشد العام فتستطيع أن تراه في ثنايا ما حدث ، مما انتهي إلي هذه النهاية ثم ما حدث بعد ذلك ، فقد جاء في كتاب " الصامتون يتكلمون " من رواية الأستاذ صالح أبو رقيق نقلاً عما سمعه من المرشد العام ، إذ يقول : جلس المرشد في صالون منزله – حزينًا لخروج الباقوري علي إجماع مكتب الإرشاد – وقرب منتصف الليل وصل الشيخ الباقوري إلي منزل المرشد وصافحه وقبل يده . وقال : أنا تصرفت .. وأتحمل نتيجة تصرفي .. وأنا مستعد أن أستقيل من مكتب الإرشاد .

ورد الهضيبي : لسه ؟! وقال الباقوري : ومن الهيئة التأسيسية .

ورد الهضيبي : لسه ؟! وقال الباقوري : ومن جماعة الإخوان المسلمين .

ورد الهضيبي : هكذا يجب .

وطلب الشيخ الباقوري ورقة وكتب استقالته من جماعة الإخوان المسلمين .. وانصرف . وفي صباح اليوم التالي توجه المرشد إليه في مكتبه بوزارة الأوقاف مهنئًا له . فقال له الباقوري : اعذرني يا مولاي .. إنها شهوة نفس . فرد المرشد تمتع بها كما تشاء .. اشبع بها .

وهنا أقول : لا أعتقد أن هناك ما يدعو إلي تعليق علي هذا الذي حدث لزيادة بيان أو إلقاء أضواء علي ما تنم عنه كل حركة وكل كلمة من حب دفين لم يستطع المرشد العام أن يتخلص من ربقته – ومن حب وتقدير لم يستطع الباقوري أن يخفيهما .

• آمال الباقوري في الإصلاح عن طريق منصبه :

علي أنني اعتقد أن الباقوري قد أقدم علي هذه الخطوة وفي ظنه أنه يتقلده هذا قد يستطيع أن يفعل شيئًا في سبيل الدعوة أو يقدم خدمات للمجتمع . وأذكر بهذه المناسبة واقعة قد تؤيد ذلك فأقول :

كان من الطبيعي بعد الاستقالة ألا يحضر الباقوري إلي المركز العام ، غير أنه كان من عادته ومن عادتي أن نتردد علي صيدلية الصليبة في حي الخليفة ، وهي صيدلية كان يملكها الأخ الدكتور جمال عامر عضو الهيئة التأسيسية والذي كانت تربطني وتربط الباقوري به صداقة قديمة .. وقد ظننت أن تقلد الباقوري منصب الوزارة – وكان لمنصب الوزارة حتى ذلك الوقت جلال ومهابة – سيحول بينه وبين تلك الجلسة التي كنا نجلسها مع الدكتور جمال عامر في صيدليته التي تقع في شارع عتيق ، والصيدلية نفسها كانت من الطراز العتيق . وحبستني ظروف العمل الشخصي والعمل في الدعوة في تلك الفترة عن زيارة الصيدلية مدة طويلة . ثم حملني الشوق علي زيارتها . فلما التقيت بالأخ الدكتور جمال قال لي : إن الشيخ الباقوري يريد أن يقابلك ، فقلت له : وكيف اتصل بك ؟ قال إنه يحضر هنا كالمعتاد وإن كانت ظروف عمله قللت من حضوره . فسألته : لماذا يريدني ؟ فقال : لا أدري – ومع أنني كنت فعلاً أتحاشي لقائي معه لما قد يكون في ذلك حرج ، فقد حدد الدكتور جمال موعدًا والتقينا فيه عنده بالصيدلية ، ودار الحديث بيننا علي الوجه الآتي : بدأ الباقوري حديثه بأنه يعلم أنه بتصرفه الذي تصرفه لم يعد له من حق في إلزام الإخوان بشيء ، ولا مطالبتهم بشيء ، ولكن ذلك لا يحرمه الاستمتاع بحقوق الصداقة بينه وبين من تربي معهم من الإخوان – وقد بادلته هذا الشعور . ثم قال : وبحق ما بيننا من صداقة سأعرض عليك عرضًا . إنني توليت وزارة الأوقاف وأحب أن أبذل جهدي في إصلاح شئون هذه الوزارة وأنقيها من الفساد حتى يعم نفعها المجتمع الإسلامي .. وقد وجدت مرفقًا عظيم الأهمية في هذه الوزارة لا خبرة لي به ، ولكنني علمت أنه لا يدر علي الوزارة ما كان ينتظر منه من ريع .. وفي اللحظات التي كنت أستعرض فيها شئون هذا المرفق خطرت في بالي ، فأنت رجل زراعي ، وخير من يؤتمن علي إدارة الشئون الزراعية في وزارة الأوقاف . فما رأيك ؟ فقلت له : يا أخي والله إن عرضك هذا عليّ يقع من نفسي أجمل موقع لأنه نابع من حب وتقدير وثقة وأمل في الإصلاح – وهو ما نشأنا عليه وتربينا عليه وأشربناه . ولكن الظروف المحيطة بالموضوع ظروف غير مواتية لأستجيب لعرضك أسفًا ، فليس كل الناس يعلمون نبل دوافعك في العرض ، ولا شرف مقاصدي في الاستجابة ، وسيتقولون ، ولهم أن يتقولوا ، ومن سلك مسالك التهم أتهم ولا أجر له . فاعذرني يا أخي إذا أنا تخلفت عنك فيما طلبت ، وشكر الله لك ، وأسأل الله أن يعينك فيما تبغي من إصلاح .

واقتنع الباقوري وفي عينيه معاني التأثر وقال : يا أخي .. إنك قد تحتاج إليّ في أمر من الأمور ، فخذ هذا الرقم وهو رقم سري لتليفوني الخاص بالوزارة .. فلما أبديت شيئًا من الممانعة في ذلك ، فهم ما أقصد ، فقال : ما خطر ببالي أن مثلك يطلبني في أمر يعود عليه بمنفعة شخصية ، ولكني أقصد أن هناك مظالم قد لا أعلمها وتعلمها أنت فيكون لك فضل توصيلها إليّ .. وهنا أخذت الرقم .. ومع أنني في تلك الفترة كنت مقيمًا بالقاهرة فأذكر أنني لم أتصل به عن طريق هذا الرقم إلا مرتين ، ولما كان الموضوعان اللذان اتصلت به من أجلهما موضوعين خطيرين ، ولكل منهما دلالة علي عمق الفساد في مجتمعنا كما أن لهما دلالة أيضًا علي عقم وسائل الإصلاح التي لجأ هذا العهد إلي سلوكها في مكافحة الفساد ، لهذا رأيت – معتذرًا إلي السادة القراء – أن استطرد فأعرضهما فيما أعرض :

• المظلمة الأولي :

تلقيت خطابًا من والدي برشيد يطلب إليّ الحضور فورًا ، وما كان لي أن أتخلف . فلما وصلت إلي منزلنا وجدت عند والدتي جيران لنا منزلهم أمام منزلنا يبكون . وهم جيران طيبون وصالحون وأميون يعملون بالزراعة ، وقد أقاموا منزلهم هذا منذ أكثر من عشرين سنة . فسألت عن سبب البكاء فقالوا : إنهم بنوا منزلهم هذا علي أرض حكر تابع للأوقاف – ورشيد مليئة بالاحكار – وقد حددت الأوقاف لهم إيجارًا سنويًا يحضر إليهم ساع من مكتب الأوقاف برشيد كل سنة بالإيصال ويدفعون له الإيجار . ولكن ساعي الأوقاف تخلف عن الحضور سنة .. ولما كانت قيمة الإيجار زهيدة فقد عزموا علي أن يدفعوا له إيجار السنتين معًا .. وفي منتصف السنة التالية فوجئوا بمحضر المحكمة يعلنهم بصدور حكم غيابي عليهم بهدم المنزل ؛ لتخلفهم عن الإيجار بالرغم من إنذارهم كتابيًا مرتين وبالرغم من إخطارهم بموعد جلسة المحكمة وإعلامهم به مرتين ولم يحضروا .. وأخبرهم المحضر بأن هذا القرار قرار نهائي .

إنها مصيبة حقاً تستحق أن أدعي لها من القاهرة لعلي أستطيع أن أفعل شيئًا أغيث به هؤلاء الجيران الطيبين ، حتى ولو بإعطائهم فرصة للبحث عن سكن لهم وهم عائلتان كبيرتان .. وقد علمت منهم أن شيئًا من هذه الإنذارات ومن هذه الإعلانات لم يصلهم ، ولو كان وصلهم لما تخلفوا عن تسديد هذه القروش ، ولو علموا أن هناك جلسة في المحكمة لما تخلفوا عن حضورها .. ولكن لابد أن هناك خطة مبيتة دبرت بإحكام . وبالتقصي وراء هذه الواقعة علمت بأن الاحكار المقامة عليها مساكن في رشيد كثيرة ، وأن هناك شبه عصابة متواطئة مع موظفي مكتب الأوقاف ومع الساعي بالذات علي أن يختاروا الحكر الذي يسكنه ناس أميون طيبون ، ويمتنع الساعي عن تذكيرهم بدفع الإيجار ، وفي السنة التالية يرسل مكتب الأوقاف إنذارًا مرة أو مرتين وفي كل مرة يعمل علي ألا يصلهم هذا الإنذار مع التوقيع علي صورته بتوقيع مزور – وبمرور المدة المقررة ترفع دعوى من الأوقاف في المحكمة تطلب الحكم بالهدم لامتناع المستأجر عن دفع إيجار الحكر , وتحدد المحكمة جلسة ويقوم المحضر المكلف بإعلانهم بالجلسة ويصنع المحضر ما صنع بالإنذار .. وتعقد الجلسة وتؤجل لجلسة أخري ولا يحضرون ، فيحكم حكما غيابيًا بالهدم ، ويكون الحكم في هذه الحالة حكمًا نهائيًا ؛ ويهدم المنزل فعلاً وتسلم الأرض لمكتب الأوقاف الذي يقوم بإجراءات بيعها وترسو علي هذه العصابة بثمن بخس .

فلما ألممت بالموضوع من جميع أطرافه ، وعلمت أنها ليست مصيبة هؤلاء الجيران وحدهم ، بل هي مؤامرة عامة أصابت غيرهم قبلهم وستصيب آخرين بعدهم ، وأن هذه المؤامرة لن تقتصر علي رشيد بل تتكرر في كل بلد فيه احكار .. لما علمت ذلك رجعت في أقرب وقت إلي القاهرة . ومع أني معي رقم التليفون السري للباقوري ، فقد حاولت أن أجد لهذه المعضلة حلاً عند غيره ، فذهبت إلي الوزارة ، وكان بها عدد من كبار موظفيها من الإخوان ، فاتصلت بهم وعرضت عليهم ، فأقنعوني بأن حكم المحكمة في هذه الحالة لا يستطيع أن يوقفه إلا الوزير شخصيًا ، وحثوني علي المسارعة بمقابلة الوزير قبل أن تنتهي المهلة التي أوشكت علي الانتهاء لإجراء الهدم .. وهنا لم أر مناصًا من استعمال الرقم السري وحددت المقابلة في الحال .. وشرحت الموضوع للوزير فماذا فعل ؟ أول شيء أنه كال لي الشكر علي أن أتحت له فرصة إنقاذ أسرة مظلومة من الضياع . ثم طلب مدير الاحكار بالوزارة أمامي ، فلما حضر عرض عليه المظلمة التي كنت قد قدمتها إليه ، وسأله عن الإجراء الذي يتخذ لمنع الهدم فقال له : إن الإجراء الوحيد أن تأمر فضيلتك شخصيًا وكتابيًا بوقف تنفيذ قرار المحكمة . فكتب فعلاً ما أملاه عليه المدير . فلما هم المدير بالانصراف استبقاه وقال له :

هذه المظلمة وجدت من يوصلها إليّ ، فما ذنب أصحاب المظالم الذين لا يجدون من يوصلها إليّ ؟ هل يشرد الناس من مساكنهم ولا يجدون من يدافع عنهم ونحن المسئولون عن ذلك بين يدي الله ؟! خذ هذا القرار : وكتب بيده القرار الوزاري التالي : " ممنوع منعًا باتًا هدم أي مسكن مقام علي أرض حكر للوزارة " ، ووقع بإمضائه علي القرار ، وسلمه للمدير وصار بذلك قرارًا رسميًا أنقذ كثيرًا من ضعفاء الناس .

• المظلمة الثانية :

لم تكن المظلمة الثانية أقل شأنًا ولا أدني خطرًا من المظلمة السابقة . وهي تتصل بموضوع التطهير . وقد سبق أن أشرنا في الجزء الثاني من هذه المذكرات إلي مشروع للتطهير لجأت إليه وزارة الهلالي في أواخر العهد الملكي ، وعلقنا عليه بما ملخصه أن التطهير بهذا الأسلوب غير مجد ولا يحقق الغرض منه ، ولكن الحكومات تلجأ إليه باعتباره أسهل الأساليب ؛ لأنه لا يكلفها أكثر من سن قانون تصدره دون مشقة – وإذا كان هذا الأسلوب يصلح في مجتمعات الأصل فيها هو النقاء ، والفساد طارئ عليها ، فإنها لا تجدي في مجتمعات صار الفساد فيها هو الأصل وصار النقاء هو الطارئ ، وأصبح الصالح فيها كالشعرة البيضاء في الثور الأسود .

وقد لجأت حكومة الثورة في سبيل تطهير الأداة الحكومية من الفساد إلي إصدار قانون بإنشاء لجان في كل وزارة للتطهير وإنشاء محاكم للتطهير تكون أحكامها نهائية .. وكم جَنَتْ هذه اللجان ومن بعدها هذه المحاكم علي بقية من العناصر الطاهرة كانت لا تزال مبنية في كثير من المصالح الحكومية ، وإذا كانت هذه اللجان وهذه المحاكم قد أخرجت من الجهاز الحكومي عشرة فاسدين فقد قضت بجانبهم علي مائة من الصالحين .. فهذه اللجان التي تكون في الوزارات والمصالح الحكومية ممن تتكون ؟ أليست تتكون من العناصر ذات المناصب الرئيسية بها ؟ وهل أساس الفساد إلا هؤلاء ؟ فما الذي تنتظر من لجان هؤلاء أعضاؤها إلا انتهاز هذه الفرصة للتخلص من كل من يعوق طريقهم إلي العيش الحرام ؟ . بينما كانت بمقر عملي في القناطر الخيرية دخل علي الأخ " أ.ع.ر " الذي غاب عني عدة سنوات . والأخ " أ " مهندس زراعي من دفعتي وهو من الإخوان الخلص الذين تربوا في أحضان الدعوة ، وكان مسكنه في الجيزة ونحن طلبة في الجامعة يعد شعبة الإخوان بالجيزة – ولما تخرجنا كان حظه أن يعمل في وزارة الأوقاف في تفتيشها الزراعية .. وتدرج في وظائفها حتى صار مفتش أوقافها بدمياط .. ولما كانت وظيفته تمكنه من اتخاذ قرارات ، فقد بدأ يعيد النظر في الأوضاع التي ورثها عن سابقيه ، فلاحظ فيها أن الذين يئول إليهم استئجار أراضي الأوقاف كل عام هم أشخاص معينون لا يتغيرون ، ولاحظ أن الإيجار يكاد يكون ثابتًا منذ عشرات السنين ، مع أن هذا يتم – كما هو مفروض قانونًا – عن طريق مزاد أو ممارسة ، فأخذ في تنفيذ القانون .. وحاول معه هؤلاء المستأجرون الدائمون بمختلف الأساليب ترغيبًا وترهيبًا واستعانة برؤسائه في الوزارة ، ولكن شيئًا من ذلك لم يفلح في ثنيه عن عزمه ، وآلت الأراضي لمستأجرين جدد وتضاعف الإيجار .

وأنشأت حكومة الثورة لجان التطهير ، ففوجئ صاحبنا بأنه مطلوب للمثول أمام لجنة من رؤسائه الذين ضارهم ما تم علي يديه في أراضي الأوقاف .. وًوُجِه باتهامات غاية في الغرابة ، اتهم بالسكر والعربدة ، واتهم بأنه طلب رشوة من المستأجرين القدماء في مقابل إرساء المزاد عليهم . ولما كانت هذه التهم مفتراه فقد اعتقد أنه سيفندها أمام المحكمة ، ولكنه أمام محكمة التطهير فوجئ بشهود زور شهدوا علي كل واقعة افتريت عليه ، وبتقارير من رؤسائه تؤيد هذا الافتراء ، فذكر للمحكمة الحقائق كما وقعت ولكنه لم يجد من يشهد معه .. وإذا بقرار المحكمة يصدر بفصله من العمل . وقد هالني ما سمعت منه ، فقمت لتوي وطلبت الباقوري في التليفون ، ووضعت أمامه المظلمة . وكنت أظن أنه يعرف هذا الأخ فتبين لي أنه لا يعرفه ولكنه سألني : هل تعرفه أنت ؟ فقلت : نعم . قال : هل تثق في خلقه ودينه ؟ قلت : إنني أثق فيه أكثر من ثقتي في نفسي .. فقال : هذا يكفيني كما لو كنت أعرفه تمامًا .. واستمهلني لحظة حتى أحضروا له ملفه .. فلما جاءوا بالملف أخذ يقرأ لي التهم الموجهة إليه مما تشمئز منه الأسماع كما قرأ عليّ قرار المحكمة . ثم أعاد عليّ السؤال عن مدي ثقتي في هذا المحكوم عليه فأكدت له ما زاده اطمئنانًا وقال لي : إذن أسمع ما أكتبه ، وأخذ كلما كتب عبارة قرأها عليّ حتى ختمها ووقعها وشكرته .

وبهذا رفع الظلم عن هذا الأخ الكريم ، ولو أنه تأخر عن إبلاغي يومًا واحدًا لما كان ممكنًا تدارك الأمر .. ويستطيع القارئ الكريم أن يتصور كم من المظلومين راحوا ضحية هذا " التطهير " ممن لم يكونوا يملكون من الوسائل ما أتيح لهذا الأخ الحبيب .

• استطراد داخل الاستطراد :

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، وإن كان هذا الشيء لا يتصل بالأستاذ الباقوري فإنه يتصل بموضوع التطهير وما جني هذا التطهير في عهد الثورة في أوائل أيامها علي الشرفاء الأتقياء الأنقياء ، وما أتاح من فرص لرءوس الضلال والقذارة بالأطهار الذين كان وجودهم معهم في العمل شوكة في حلوقهم ، وعقبة في طريق مطامعهم وكسبهم الحرام . كان لي زميل وصديق من الإخوان المسلمين . دخلنا كلية الزراعة معًا وتخرجنا فيها معًا هو الأخ " م.ع.ب " ، وقد عمل أول ما عمل في مصلحة الفلاح وكان مقر عمله في الصعيد . ولما كانت القاهرة هي مقر أهله وبها منزل أسرته فقد كان يتمني أن يجد فرصة للعمل بالقاهرة .. وجاءت الفرصة حين أراد مدير مصلحة الفلاح أن ينقل قريبًا له من مصلحة التنظيم بالقاهرة إلي مصلحة الفلاح ، ولم يكن ذلك ممكنًا إلا عن طريق التبادل .. وتم التبادل وتسلم الأخ " م.ع.ب " عمله بمصلحة التنظيم مساعد مدير لحدائق مصر الجديدة – وكانت مصلحة التنظيم تقوم في ذلك الوقت بعمل مجلس بلدي القاهرة حيث لم يكن قد أنشئ هذا المجلس بعد – وكان لهذه المصلحة سمعة سيئة لما كان معروفاً عنها من انتشار الرشوة فيها .

وبعد انقضاء فترة قصيرة علي التحاقه بهذا العمل الجديد ، حان ميعاد تُكسي فيه أرض هذه الحدائق بطبقة من الطمي لتجديد حيويتها – ولم يكن السد العالي قد بدئ فيه بعد – وأعلنت المصلحة – كالمعتاد – في الصحف عن مناقصة لتوريد عينات للطمي .. وقدمت العينات .. وكلها كانت من طمي جيد ، واختارت اللجنة – وكان هو عضوا فيها – أنسبها من ناحية المواصفات والثمن ، وسلمت اللجنة العينة المختارة إلي صاحبنا محرزة مختومة بخاتم المصلحة .. وكان عليه باعتباره المسئول عن هذه المنطقة أن يتسلم التوريد بنفسه ؛ أي كمية الطمي المطلوبة . فلما جاء التوريد فعلا وفحصه أخونا وقاس مواصفاته بمواصفات العينة لم يجد فيه شيئًا مطابقًا من مواصفات العينة ، فالعينة طمي صاف والتوريد تراب من تراب الشوارع ومن ناتج هدم البيوت القديمة ، وليس فيه طمي .. فما كان من صاحبنا بحسن نية إلا أن رفض التوريد . وجاء صاحب التوريد وحاول معه بكل الأساليب المعروفة فلم تجد معه ، فاتصل به رئيسه تليفونيًا فلم يقبل ، فاتصل به المدير العام للمصلحة فلم يقبل . وبحسن نية قال للمدير العام : كيف ترجوني أن أقبل توريدًا ليس به أي صفة من صفات العينة المقدمة ؟ فقال المدير : سأبعث إليك بلجنة تعاين التوريد . وجاءت اللجنة التي كانت مهمتها أن تقرر أن التوريد مطابق للعينة وقد أدت مهمتها شر أداء .

وتفاقم الوضع .. حيث صار علي أخينا بعد قرار اللجنة أن يدافع عن نفسه وأن يثبت خطأ رأي اللجنة وإلا دمغ هو بأن رأيه خاطئ واستحق بذلك أن يجاري علي هذا الخطأ .. وبلغ من تفاقم الوضع أن وصل إلي وزير الشئون البلدية والقروية في ذلك الوقت الأستاذ عبد العزيز علي ، وكان من كبار رجال الحزب الوطني القديم وله سجل حافل في مقاومة الاستعمار ، فقام الرجل بنفسه وعاين التوريد وضاهاه بالعينة وكتب بنفسه : إن الأمر لم يكن يحتاج إلي عينة لأن التوريد فعلاً ما هو إلا تراب من تراب الشوارع ومن هدم البيوت القديمة ليس فيه طمي .. فطعنت المصلحة في رأي الوزير بحجة أن الوزير ليس فنيًا . واستمر الصراع فترة طويلة .. غير أن المصلحة لم تستطع أن تنال من أخينا إلا بمحاولات من رؤسائه ومرءوسيه لمضايقته .. حتى أتيحت للمصلحة العامة فرصة الانتقام بإصدار حكومة الثورة تشريعًا بإنشاء لجان التطهير ومحاكم التطهير . فقدمته المصلحة إلي لجنة التطهير بقائمة من اتهامات مفتراه أقرتها اللجنة في الحال ثم أحالته إلي محكمة التطهير .

وكان الإخوان في المركز العام متابعين هذا الموضوع بكل خطواته ، فلما وصل إلي هذه الخطوة قام الأخ الأستاذ منير الدلة المستشار في ذلك الوقت بمجلس الدولة بلقاء زميله المستشار الذي يرأس محكمة التطهير وشرح له الموضوع بحذافيره – فلما مثل أخونا أمام المحكمة وقدمت إليه الاتهامات مشفوعة بتقارير من الرؤساء مدعومة بشهود زور من عمال وموظفي المصلحة ومن المتعاملين معه .. ولما انتهي عرض القضية قرر رئيس المحكمة النطق بالحكم بعد المداولة ، وفي أثناء المداولة طلب رئيس المحكمة أخانا المتهم وجلس معه في حجرة وحدهما وقال له : يا أستاذ " م " لعلك خدعت بالشعارات التي يطلقها هذا العهد فظننت أن الأمر جد لا هزل ، فرحت تتعامل مع هذا العهد علي هذا الأساس فكان أن رأيت نفسك هذا الموقف .. ولولا أني عرفت هذا الموضوع من صديقي الأستاذ منير لما كان بوسعي إلا أن أصدر حكمي بإدانتك وفصلك من العمل ؛ لأن الأدلة المقدمة إلي المحكمة مستوفية الشروط القانونية ومؤيدة بالشهود .. ولكنني سأعتمد في حكمي في هذه القضية علي ضميري لإنقاذك ، علي ألا تسرف بعد ذلك في حسن الظن .

أكرر معذرتي إلي القارئ الكريم في هذا الاستطراد الذي كاد ينسينا الموضوع الأصلي الذي كنا نعالجه وهو ما يتصل بالمفاجأة الثانية التي نشأت من تأثير قيام الثورة في التفاعلات الداخلية في الدعوة ، وكانت هذه المرة خروج الأخ الباقوري علي قرار مكتب الإرشاد ، واشتراكه وزيرًا للأوقاف في وزارة الرئيس محمد نجيب . وقد هيأ لنا الاستطراد ما كنا بصدده من إيراد الأدلة علي أن هذه المفاجأة المؤلمة والتي انتهت بفقد الدعوة لأحد أبنائها الكبار لم تفقد المرشد العام – من ناحية – حبه الشخصي لهذا الأخ ، كما أنها – من الناحية الأخرى – لم تفقد هذا الأخ الكبير حبه وتقديره ل المرشد العام .. ثم قررت بدوري أنها لم تفقدني حبه .. وأوردت أمثلة لتصرفات تومئ إلي أن هذا الأخ وإن فقد موقعه في الدعوة ، فإن حاول أن يعمل للمبادئ التي تعلمها في الدعوة ، والمثل التي أشربها في موقعه الجديد . وقد أضيف إلي هذه الأدلة دليلاً آخر أضعه بين يدي القارئ الكريم . ففي جريدة المصري الصادرة في 11/9/1952 ما يأتي :

سأل مندوب " المصري " الشيخ الباقوري وزير الأوقاف عن أسباب استقالته من الإخوان فقال : " هي أسباب أحب أن أوثر بها نفسي . وليس من بينها سبب واحد يمس احترامي لإخواني واعتزازي بهم ، فكل واحد منهم صغيرًا كان أو كبيرًا في أعمق مكان في قلبي " . • عقوبة معجلة :

علي أنني مع هذا لا أعفي الباقوري من خطأ استشراف نفسه إلي المناصب . وقلما تجد من لا يستشرف إليها ، ولكن استشراف نفس رجل تربي في أحضان دعوة تبلغ في تربية أبنائها درجة يقربون فيها من صفوف الملائكة .. مثل هذه النفس هي أعز علي الله من أن يدعها ترتع في غيها فتضل وتشقي ، ولكنه لا يلبث حتى يقدعها قدعًا يرد إليها رشدها ، فلا تجد لها ملجأ من الله إلا إليه . لقد دفع الباقوري ثمن مات جاري نفسه فيه نمن الاستشراف إلي المنصب ، فلقد رفعوه إلي حيث كان يتمني ويحلم .. ثم رفعوه أعلي من ذلك .. حتى كان عندهم في يوم من الأيام عماد البيت وقطب الوحي .. ثم .. وبغير مقدمات .. ألقوا به من شاهق فلم ينزل علي الأرض بل نزل إلي هاوية فتحطم .. وحسبك أن تعلم أن أعظم مصيبة تصيب إنسانًا هي الفقد بعد العطاء .. ولم أقل نزل إلي الأرض ، وقلت : نزل إلي الهاوية ؛ لأن مصيبته تجاوزت مصيبة الفقد بعد العطاء إلي ما هو أشد منها وأفدح ؛ إذ لم يكتفوا بذلك بل تقولوا عليه الأقاويل ، وافتروا عليه الفري ، وأغروا كلاب الناس به تلوك سيرته وتنهش عرضه .

واعتقد أن ما أصاب الباقوري في خلال تلك الفترة كان أشد إيلامًا مما أصاب الإخوان في معتقلاتهم وسجونهم من ظلم وتعذيب ؛ لأن تعذيب هؤلاء لم ينل إلا البدن ولم يمس جوهر النفس التي كان رضاها عن نفسها ، واقتناعها بأنها علي الحق كان يهون عليها ما تلقي من آلام البدن .. أما من كان عذابه من داخل نفسه فإنه أشد العذاب . ويوم استجاب الباقوري لدعوة هؤلاء الناس كان غائبًا عنه – كما كان غائبًا عن كثيرين غيره – حقيقة لم يسمعها في تلك الأيام الباكرة من أيام الثورة ، إلا من الرجل الصامت الرزين الثاقب الفكر البعيد النظر حسن الهضيبي ، فقد كان يقول لي لمن يأنس فيهم كتمان السر : " إن هؤلاء لا يؤمن جانبهم .. فلنعاملهم بحذر " .. ولكن الباقوري نسي هذا التحذير أو تناساه أو اعتقد أنه بحصافته – وهو حصيف – يستطيع أن يرقب بوادر الخطر فيتفاداه .. ولكن حصافته وشدة حذره لم تعصمه من انقلاب مفاجئ دون مقدمات ولا بوادر . ولم تكن هذه العواصف الفجائية من نصيب الباقوري وحده ، وإنما أصابت غيره كما أصابته ممن ذاقوا في يوم من الأيام حلاوة الأيمان . وهو ما نعرض له في العنوان التالي .

• من سياسة احتضان الخارجين :

هذه سياسة توخاها جمال عبد الناصر في تنفيذ مخططه ضد الإخوان المسلمين ، فكان يقرب إليه من يري فيه استعدادًا لمناوأة الدعوة أو التمرد علي قيادتها .. ولكننا في هذا المقام لا نعرض لذلك بمزيد بيان ، ونكتفي سيرًا مع السياق باحتضانه الخارجين علي الدعوة ونورد المثال التالي فنقول :

سبق لي أن ذكرت أن صيدلية الأخ المرحوم الدكتور جمال عامر كانت مثابة لكثير من قدامي الإخوان ؛ حيث كان الدكتور جمال عامر من أقدم الإخوان صلة بالدعوة ، فكان يأوي إليه هؤلاء الإخوان حتى الذين خرجوا منهم علي الدعوة في ظروف مختلفة – وكانت صيدلية الدكتور جمال وبيته ملاذي ومأواي ومبيتي بعد أن بعدت عن القاهرة مما يأتي تفصيله فيما بعد إن شاء الله . ولعل القارئ الكريم يذكر ما جاء بالجزء الأول من هذه المذكرات من خروج الأخ " ع.س.أ " في الفتنة الثانية ، وكان إذ ذاك لا يزال طالبا بكلية الحقوق وصار الدكتور " ع.س.أ " الأستاذ المساعد بكلية الآداب . غبت عن الأخ الدكتور جمال عامر سنتين في المعتقل ، فلما خرجت كان الدكتور جمال من أوائل من كنت حريصًا علي لقائهم .. وأخذ الدكتور يقص عليّ – في ليلة بتها عنده – ما كان من أحداث وقعت في غيابي .. وكان مما حدثني به قصة هذا الأخ الدكتور " ع.س.أ " .

قال : مر عليّ بالصيدلية هذا الأخ منذ أيام ، وكان قد انقطع عني بضعة أشهر . فلما سألته عن سبب انقطاعه قال : طبعًا أنت تعرف أن جمال عبد الناصر كان قد عينني مستشاره السياسي الخاص . قلت : نعم ، وقد أخبرتني بذلك من قبل . قال : والذي لم أقله لك هو أنه كان لا يقطع في أمر دوني ، وكان حريصًا علي ألا أفارقه لحظة ؛ لدرجة أنني كنت أذهب إلي منزلي في فترة الغداء ، فإذا غبت قليلاً طلبني في التليفون يستعجلني .. وظل هذا دأبه معي أكثر من عام .. وفي يوم كذا (ذكر لي الدكتور جمال التاريخ الذي ذكره محدثه ولكني نسيته) ظللنا نعمل سويًا حتى حان ميعاد الغداء ، فاستأذنت وأذن لي راجيًا ألا أتأخر لإتمام ما بقي من العمل . فلما ذهبت إلي منزلي ، وما كدت أرفع يدي من الطعام حتى سمعت جرس الباب يدق ، ففتحت فإذا بعدد من ضباط البوليس الحربي .. فتعجبت وسألتهم عن سبب حضورهم في هذا الوقت وماذا يريدون ؟ فأجابني رئيسهم إجابة أذهلتنني وخلعت لبي ، وكدت أكذب سمعي إذ كانت إجابته هذه الكلمات : مطلوب منك الآن أن تغادر البلاد .

فقلت : ومن الذي أمر بهذا وما السبب ؟ قالوا : هذا أمر الرئيس . وليس من حقك أن تسأل عن السبب .

فقلت : اسمحوا لي إذن أن اتصل به في التليفون .

قالوا : أمره يتضمن عدم السماح لك بالاتصال به .

قلت : وإلي أين أذهب ؟

قالوا : لك أن تختار البلد التي تغادر إليها ، علي أن يكون ذلك الآن ، ونحن معك وسنقوم بتسفيرك اليوم .

قال الدكتور " ع " للدكتور جمال : ولما كانت لبنان هي أقرب البلاد إلي مصر فقد اخترت لبنان ، فأخذوني بحقيبة ملابسي من المنزل إلي الطائرة ، التي نقلتني إلي بيروت وأنا ذاهل عن نفسي لهذه المفاجأة التي وقعت عليّ وقوع الصاعقة من السماء ، لا أعرف لها سببًا ، ولا أستطيع لها دفعًا .. وكثت ببيروت سبعة أشهر رهين الفندق الذي نزلت فيه ، لا أستطيع الكلام مع أحد ولا حتى الالتفات يمينًا ولا شمالاً .. حتى تمنيت لو كنت مت قبل هذا ، أو لو أنني كنت اعتقلت مع المعتقلين ، أو أودعت سجنًا مع المسجونين .

وأخيرًا جاءني من يحمل إذناً من الحكومة المصرية بدخولي مصر .. وأحاول الآن الرجوع إلي عملي بالجامعة . يقول الدكتور جمال : وقد سألته .. وبعد أن أنهيت فترة النفي ورجعت إلي مصر هل أمكنك أن تعرف سبب ذلك ؟ قال : لا .

أوردنا موضوع هذا الأخ – رحمه الله مع ما نحن بصدده من موضوع الباقوري .. ليري القارئ ما فعل الله بهما .. لقد عجل لهما العقوبة ، وأذاقهما مغبة استشراف نفسيهما إلي القارئ ما فعل الله بهما .. لقد عجل لهما العقوبة ، وأذاقهما مغبة استشراف نفسيهما إلي المناصب وركونهما إلي الظالم .. ولعله – جلت قدرته وهو المطلع علي السرائر – هكذا فعل بهما لما يعلم مما هو واقر في قرارة نفسيهما من بقية غطي علي بشاشتها ما اتبعاه من هوي .. وتعجيل المؤاخذة في الدنيا دليل علي سلامة جوهر النفس وصفاته ، وقد جاءت المؤاخذة لتذهب عن هذا الجوهر ما غشيه من ضباب حجب صفاءه .

بعد هذه الفصول الثلاثة في هذا الباب باب تأثير قيام الثورة في التفاعلات الداخلية في الدعوة يأتي فصل رابع يتصل اتصالاً وثيقاً بهذا التأثير ، ولكن نظرًا لخطورة هذا التأثير الرابع وفداحة نتائجه سنفرد له بابًا مستقلاً إن شاء الله ، ذلك هو " العمل علي احتواء قيادات النظام الخاص " .


الباب الخامس : مساجد ضرار (خطط للدوران حول الدعوة لتخريبها من الخلف)


مقدمة

إذا كانت نتائج الأمور تؤخذ من مقدماتها ، فقد كان المتوقع إزاء موقف الإخوان المسلمين المسالم والمبالغ في المسألة ، حتى وصل إلي حد الثناء علي الطرف الآخر وإطرائه ووضعه موضع الآمال في تحقيق الخير للأمة .. كان المتوقع أن يقابل ذلك بمثله من التجارب ، وإبداء روح التعاون والتواثق ، حتى ولو كان ذلك علي سبيل المجاملة . ولكن الذي حدث كان غير ذلك تمامًا ، فقد سلك الطرف الآخر مسلكًا مناقضًا لما كان متوقعًا .. وإذا قلنا : الطرف الآخر فإنما نقصد جمال عبد الناصر ، لأن جمالاً قد استطاع – بتأثير نفوذه الشخصي – أن يَحُول بين زملائه في مجلس الثورة وبين الاتصال بالإخوان – وقصر ذلك علي نفسه وحده ، فكانت المقابلات تتم بين الإخوان وبينه ، وكان هو يقوم بنقل ما يتم في هذه المقابلات إليهم بالأسلوب الذي يراه .. ينقل إليهم ما يري نقله ، ويحجب عنهم ما يشاء ، ويحور ما يري تحويره .. كل ذلك ؛ ليلقي في روعهم أن الإخوان يريدون أن يكونوا أوصياء عليهم .. ما أعظم الفرق بين الناصح الخبير الأمين الذي يتمني الخير لمن ينصحه ، وبين من يريد أن يفرض وصايته علي إنسان فيحجر علي تصرفاته ويتولي هو تصريف شئونه .

علي العموم .. استطاع جمال بهذه الأساليب أن يشحن إخوانه بشعور عدائي نحو الإخوان . ولم يكن الإخوان – بطبيعة الحال – يعرفون الطريقة التي كان جمال ينقل بها إلي زملائه المحادثات التي تتم في مقابلاته ، ولكنهم استطاعوا أن يلمسوا ذلك فيما كان يأتي علي ألسنة زملائه في كلمات كانوا يلقونها في لقاءات جماهيرية لهم في مختلف البلاد .. كما استطاعوا أن يلمسوا ذلك من مواقف نضرب لها مثلا ، فنقول :

في أوائل أيام الثورة أهابت بالمواطنين في أنحاء القطر أن يتقدموا لتلقي قسط من التدريب العسكري الجاد ، وأنشأت لذلك مراكز للتدريب في مختلف الحواضر ، وزودتها بضباط من الجيش – ولما كان اختيار الأماكن المناسبة لهذا التدريب ليس ميسورًا لضباط غرباء عن هذه الحواضر ، فقد هب الإخوان في كل حاضرة من هذه الحواضر للتعاون مع الضباط الموفدين واختاروا الأماكن المناسبة وأعدوها للغرض المطلوب – ثم كانوا هم أول من تطوع لتلقي التدريب ، وكان هؤلاء الضباط من أسعد الناس بهذا التعاون . وقام الإخوان في كل حاضرة فيها مركز تدريب بنشر الدعوة بين جماهير الناس يحثونهم علي التقدم لتلقي التدريب ، ولما كان موضوع التدريب هذا أمرًا جديدًا علي الناس ولا عهد لهم به ، فإنهم لم يسارعوا المسارعة الكافية بحيث تتكون منهم دفع كاملة ، فكان الإخوان يأخذون العدد الذي استجاب ويكملون الدفعة من شباب الإخوان .

وتوالت الدفع تلو الدفع ، والضباط المدربون فخورون بهذه الروح العالية ، وكادت هذه الروح تأخذ طريقها إلي نفوس الأهالي في مختلف البلاد ؛ حيث يحتاج الناس لكي يتعودوا علي أمر جديد عليهم إلي من يتقدمهم ليثير فيهم العزم ، ويبعث فيهم الرغبة . وبينما الأمور تسير في طريقها هذا الطيب المستقيم ، إذ بالإخوان يفاجأون بهؤلاء الضباط يتهربون منهم ، وإذا التقوا بهم قابلوهم بجفاء .. ووقع هذا التعبير في المعاملة أول الأمر من الإخوان موقع الدهشة والاستغراب ، وظن الإخوان في كل بلد من هذه البلاد أن هذا الأسلوب الجديد هو سوء تفاهم خاص ببلدهم دون غيرها من البلاد .. ولكن وصول شكاوى إلي المركز العام للإخوان المسلمين في القاهرة من جميع البلاد في وقت واحد ، جعل الجميع يشعرون أن هناك تعليمات صدرت من مركز القيادة في القاهرة بهذا المعني .. ثم تأكد المركز العام بعد ذلك أن هذه تعليمات صدرت فعلاً .

وماذا كان للإخوان من موقف إزاء هذا الأسلوب المجافي للأخوة والود – لقد فهم الإخوان أن قيادة الثورة لا تريد أن تري الإخوان بالذات يتدربون ، فصدر أمر من المرشد العام بتنفيذ هذه الرغبة وترك المجال لغيرهم .. وصدع الإخوان بالأمر وتركوا هذه المراكز لتتعامل مع الشعب مباشرة ، وأفسح الإخوان الطريق .. فماذا كان من أمر هذه المراكز ؟ . إنها صارت مراكز شكلية .. صارت تتضاءل وينفق عليها ولا عمل لها حتى تلاشت . كان هذا أول تصرف لفت نزر الإخوان المسلمين إلي أن رجال الثورة بدأوا يغارون من الإخوان ويحقدون عليهم هذا التكتل الشعبي المنظم وإلا لما رفضوا من الإخوان هذا التعاون في مشروع من مشاريعهم دون مقابل . ولقد كان الإخوان علي حق حين قيموا الموقف علي هذه الصورة فلقد تلا هذا التصرف تصرفات أخري تؤكد هذا التقييم وتبرزه بأوضح صورة .. وهو ما نتناوله في هذا الباب إن شاء الله .


الفصل الأول : جمعية الفلاح إصبع أمريكية من وراء ستار

في جريدة أخبار اليوم الصادرة في 13/9/1952 ورد بمناسبة استقالة الباقوري ما يشبه أن يكون تحقيقًا صحفيًا فيما حول هذه الاستقالة من ظروف وملابسات ، فقالت :

بدأ الخلاف عندما قام الدكتور أحمد حسين بإنشاء جمعية الفلاح .. ويقول الدكتور أحمد حسين : عندما بدأت في تكوينجمعية الفلاح نما إلي علمي أن الإخوان المسلمين يتوجسون خيفة من جمعية الفلاح ، وسيعملون علي إفشالها ، مع أن فكرة جمعية الفلاح تتعارض مع فكرة الإخوان .. فالأولي : تدعو إلي تكوين المواطن الصالح في المجتمع الصالح ، والثانية : تدعو إلي تربية المواطن الصالح تربية دينية تنعي فيه روح المواطن الصالح .. فأردت أن تتعاون الجمعيتان – كل بوسيلتها – نحو الهدف المتفق عليه لصالح المجموعة . فاتصلت بالشيخ الباقوري علي غير تعارف سابق ، ودعوته إلي منزلي ، وشرحت له فكرة الجمعية وأهدافها ، وبعد إجماع استمر أكثر من خمس ساعات أبدي الباقوري استعداده للتعاون معي قائلاً : إنني كمواطن مصري أؤيد جمعية الفلاح ، وأدعو لها بالتوفيق ، وعلي استعداد كامل أن أقوم بأي عمل لها يوكل إليّ في سبيل الخدمة العامة .. ولا أري تعارضًا مطلقاً بين فكرة الإخوان وفكرة جمعية الفلاح .. ولا أظن أن فضيلة المرشد العام حسن الهضيبي يري غير ذلك ، فالكل يجب أن يتعاون في سبيل صالح المجموع .

تقول الجريدة : وافترق الرجلان علي أن يرتب الأستاذ الباقوري اجتماعًا عائليًا يلتقي فيه الدكتور أحمد حسين بالأستاذ حسن الهضيبي ، وتم هذا الاجتماع العائلي علي مائدة الإفطار في الأيام الأولي من شهر رمضان في منزل الأستاذ الباقوري بحلوان ، وحضره الأستاذ حسين أبو زيد وزير المواصلات آنذاك والأستاذ جلال الدين الحمامصي رئيس تحرير " أخبار اليوم " . وبعد الإفطار .. بدأت مناقشة طويلة بين الدكتور أحمد حسين والأستاذ الهضيبي . بدأت هادئة ، وتوسطتها حدة وعنف ، وانتهت كما بدأت إلي غير اتفاق ، وكان الأستاذ الهضيبي واضحًا في أنه بوجود جماعة الإخوان المسلمين لا داعي لتكوين جمعية الفلاح . وقد حاول الأستاذ الباقوري أن يتدخل في المناقشة أكثر من مرة ؛ لتلطيف حدتها ، وإعطاء فرصة للأستاذ الهضيبي لتقريب وجهات النظر ، ولكن مرشد الإخوان لم يتزحزح عن موقفه . ولكن يكون القارئ قريبًا من الصورة التي كان عليها النقاش نورد فقرة منه :

الدكتور أحمد حسين : إن التشريعات الاجتماعية الحديثة في أرقي الدول تتفق وروح الدين الإسلامي ، وإن كانت تقوم علي أسس علمية وفقًا لتطورات البشرية .. فمشروعات الضمان الاجتماعي والتأمين الاجتماعي هي في أساسها فكرة إسلامية ، وقد عرف الإسلام مشروع " من أين لك هذا ؟ " قبل أن تصدره فرنسا بمئات السنين . والدين ينمي الصلات الروحية بين الناس ولن ينجح عمل إذا لم يعتمد علي قوة الروح . وهذا هو الفرق بين النظم الاجتماعية الحديثة وبين الشيوعية التي تعتمد علي المادية فقط .

المرشد العام : إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تطبق أحكام الإسلام بحذافيرها ؟ .

أحمد حسين : إننا نطبق أحكام الإسلام في أصولها ، ولكن يجب أن تتطور التفصيلات طبقاً لتطورات العصر . ففكرة الضمان الاجتماعي هي فكرة الزكاة ، ولكن طريقة التوزيع والتنفيذ تختلف باختلاف نظم الدولة الحديثة .

ثم دار نقاش طويل بين الرجلين علي نص في قانون جمعية الفلاح جاء فيه : تشترط الجمعية لعضويتها أن يكون العضو مواطنًا صالحًا ولا تتدخل في الخلافات الدينية أو الحزبية . وبعد انتهاء الاجتماع قال المرشد العام للشيخ الباقوري : " إني سمعت أن الدكتور أحمد حسين له صلات بالأمريكان ، ولم يستطع الباقوري تكذيب ذلك " .

نقف إلي هنا مما جاء بصحيفة أخبار اليوم . ومن سياق هذه القصة ومن بين ثناياها نستطيع أن نخرج بملاحظات منها :

أولاً : أن الدكتور أحمد حسين في الوقت الذي يعترف فيه بأن الإسلام كل ما في النظم الحديثة بل إنه سبقها ، نري فهمه لأصول الإسلام فهمًا خاطئًا ، فهو يري أن مصر في ذلك الوقت محكومة بالأحكام الإسلامية ، ويري الزكاة مجرد مساعدات مسقطًا بذلك كل أحكامها وحدودها ، معتبرًا هذه الأحكام والحدود إنما شرعت لعهد معين وقد انتهي العهد ، ولسنا الآن مقيدين بشيء من هذه الحدود والأحكام .

ثانيًا : بعد أن اعترف بأن في الإسلام كل ما في النظم الحديثة بل إنه سبقها ، نراه يناقض نفسه ويريد أن يقصر مهمة الإسلام في جمعيته علي الناحية الروحية . أما التشريعات الجنائية والمدنية فإنه يستمدها من النظم الأوروبية والأمريكية .. وهي نفس النظرة التي ينظرها الغربيون – ولهم عذرهم في ذلك – إلي المسيحية .

ثالثًا : أن المتتبع لهذا النقاش حين يحلل ما قاله الدكتور أحمد حسين ، ويراجع ما وصل إليه التحليل من نتائج يكاد يجد نفسه أمام صورة جديدة من صورة جمعيات الماسونية وأخواتها مثل : الروتاري واللوينز والتسلح الخلقي وإخوان الحرية وما يستجد من أسماء تلك الجمعيات ذات المبادئ البراقة في مظهرها ، الهدامة في حقيقتها ، التي أنشأها اليهود ليصرفوا بها المسلمين عن دينهم ، ويحطموا عقيدتهم في نفوسهم ، ويحلوا محلها عقيدة العالمية والإنسانية – كأن الإسلام قد خلا من هذين المعنيين الساميين ، مع أنه يقررهما ويدعو بالسماء ، ترتب علي اعتناقهما الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة .. وبين أن يعتنقهما فرد مدفوعًا إليهما بمجرد آمال تكتنفها المطامع ، وتنبعث منها رائحة التمويه والتزوير ..

وهذا هو السبب الذي من أجله رفض المرشد العام الموافقة علي قيام مثل هذه الجمعية ، ولا أشك في أن الشيخ الباقوري فهم ما فهم المرشد العام . ولكن الاستشراف إلي منصب متوقع من وراء جمعية يرأسها ويدعو إليها رجل معروف عنه أنه يعمل لحساب أمريكا ، ويشترك في عضويتها الوزراء أمر متوقع ، ويبدو أن فشل الدكتور أحمد حسين في التمويه علي المرشد العام جعل الباقوري يحجم عن أن يكون عضوًا من أعضائها ، فقد جاء في نهاية ما أوردته الجريدة " أخبار اليوم " عن هذه القصة أن جمعية الفلاح تكونت وضمن عددًا من الوزراء واختير الباقوري مستشارًا لها .

• أمريكا تحتضن ابنها المدلل :

هذا كل ما جاء بصحيفة " أخبار اليوم " عن هذه القصة .. وإكمالاً للقصة نقول :

إن ملاحظة المرشد العام التي أسر بها إلي الباقوري في شبه استفهام عما يشاع من صلات للدكتور أحمد حسين بالأمريكان ولم يستطيع الباقوري نفيها ، هذه الملاحظة تحتاج إلي تجلية وبيان :

لما كان للولايات المتحدة الأمريكية وزن كبير في السياسة العالمية ، لاسيما ما يتصل منها بالعالم العربي والإسلامي ، فقد كانت حكومات مصر علي اختلافها تتخير لتمثيلها الدبلوماسي فيها أحسن العناصر وأقدرها وأقواها شخصية .. وفي أواخر الأربعينات وقع الاختيار علي الأستاذ كامل عبد الرحيم ليكون سفيرًا لمصر في واشنطن ، بعد أن تمرس بالعمل في وزارة الخارجية المصرية حتى صار وكيلاً لها ، وهو الذي نصح في عام 1948م بألا تتدخل الحكومة المصرية بجيشها في فلسطين ، وكتب مذكرة بين فيها خطورة هذا التصرف وأضراره البالغة بمصر وبالقضية الفلسطينية . ولما تحقق ما حذر منه من هزائم لمصر وغيرها من الدول العربية ، لجأوا إليه ليكون سفيرًا في الولايات المتحدة ، لعله يستطيع أن يتلافى بعض ما حاق بمصر وبالدول العربية وبالقضية الفلسطينية من أضرار ، فقام هناك بأعمال جليلة ننقل إشارة إليها مما ذكرته جريدة " المصري " حيث نقول عنه :

" إنه كان شديد الإيمان بضرورة تضامن العرب في المشاكل الدولية العامة ، وكان لمجهوده أعظم الأثر في ظهورهم كتلة واحدة في كل معركة كبيرة داخل الأمم المتحدة وخارجها من أجل الشرق الأوسط . وقد استطاع أن يحول السفارة المصرية في واشنطن إلي بيت للعرب جميعًا ، ولاسيما أنه كان يكثر من المؤتمرات الصحفية والمحاضرات التي يشرح فيها وجهة نظره هو والعرب في المسائل التي تتولي الكتلة العربية الأسيوية الدفاع عنها . وكان الأستاذ كامل عبد الرحيم يلقي بيانًا أو حديثًا أو خطابًا مرة علي الأقل كل أسبوع ، وكان أكثر هذه الأحاديث والرسائل أمام جامعات أو غرف تجارية أو هيئات عليا مؤلفة من رجال الأعمال ، وكان أول من نظم قسم الصحافة في السفارة المصرية في واشنطن أعظم تنظيم ، وفي كل أسبوع كانت السفارة تصدر نشرة توزع علي خمسة آلاف من السياسيين ورجال الفكر والتجارة والأعمال العامة ، حاوية أهم وأدق الأخبار التي كانت الصحف الأمريكية المماثلة لبريطانيا أو إسرائيل تتعمد إغفالها وتتجنب نشرها .

ومنذ عام 1950 كان الأستاذ كامل عبد الرحيم يقيم مأدبة غداء في يوم الاثنين من كل أسبوع ، ويدعو إليها رجال الصافة وكتاب المقالات في أمريكا ، وكان يشرح لهم في أثناء المأدبة المسائل المتعلقة بمصر – وقد ساعد علي فهم حقيقة الموقف عندما حدثت الثورة العسكرية الحالية – وكثيرًا ما كان يتحدث قبل الانقلاب عن مساؤى فاروق والضرر الذي يعود علي سمعة مصر ومصالحها في الخارج من وراء ذلك . وكان الأستاذ كامل عبد الرحيم منتظمًا في صلواته اليومية الخمس ، لا يترك منها ركعة واحدة ، ولا يغفل عن أداء فريضة " . هذا شيء مما ذكرت " المصري " من صفات هذا الرجل وأعماله .. فإذا علم القارئ بعد ذلك أن رجلاً يمثل هذه الخبرة النادرة ، والقدرات الفائقة ، والأعمال الإيجابية المؤثرة ، والتاريخ الناصح الفريد ، و مصر في عهد جديد يحتاج أول ما يحتاج إلي الرجال الأكفاء ، الأقوياء ، الأمناء .. ثم يفاجأ هذا من العهد الجديد بالتغاضي عن كل ما قدم وما يستطيع أن يقدم ، يفاجأ بالنقل إلي منصب هو أدني من منصبه سفيرًا في بون .

وليت هذا النقل كان لأن العهد الجديد قد وجد من هو أكفأ منه ، ومن هو أكثر منه خبرة ، ومن هو أقوى منه شخصية ، وأنصع منه تاريخًا ، إذن لكان لمصر في ذلك عزاء .. ولكن الذي كان وراء هذا الغمط ومن خلف هذا الظلم أن العهد الجديد أراد أن يكون سفيره إلي الولايات المتحدة أحمد حسين . ولكي لا نغمط نحن الآخرين الدكتور أحمد حسين حقه فينبغي أن نسلم جدلاً بأن هذا الرجل قد يكون كفاءة في الناحية التي تخصص فيها واشتغل بها وصار خبيرًا فيها ، غير أن ذلك لا يؤهله أن يقدم علي من قضي حياته كلها في الخبرة السياسية الخارجية وعمل فيها وأنتج أعظم إنتاج في حين أن الدكتور أحمد حسين لم يعمل في هذه الناحية يومًا واحدًا . إذن ما الدافع إلي اتخاذ هذه الخطوة الغربية ، وما الداعي إلي الإقدام علي هذا التصرف الذي كان موضع نقد من جميع المحللين السياسيين في ذلك الوقت ؟ غير أن أحدًا لم يجرؤ علي الجهر بهذا النقد سوي جريدة " المصري " التي أبرزت نقدها في صورة ذكر طرف من صفات الرجل وأعماله . ثم نشرت بعد ذلك نص استقالته .. وكان هذا الأسلوب من جريدة " المصري " في التصدي لهذا التصرف الخاطئ الذي نقد يمكن أن يوجه إلي الحكومة ..ولهذا نري أن نضع نص هذه الاستقالة بين يدي القراء:

" حضرة وزير الخارجية :

منذ واحد وثلاثين عامًا ، وأنا مكرس حياتي لخدمة الوطن العزيز عن طريق العمل الحكومي . وأشهد الله أنني كنت ومازلت خلال هذه السنين الطوال غير مدخر جهدًا أو مالاً في سبيل خدمة الوطن بالقدر الذي أنار الله به بصيرتي ويسّر . وقد سلخت في خدمة وزارة الخارجية من هذه السنين الطوال زهاء عشرين عامًا ، أغلبها في وظائف رئيسة بالخارج وبديوان الوزارة – عملت خلالها جاهدًا لأحتفظ بالأمانة وأؤدي الواجب ما وسعني الأداء . حتى توليت وكالة الخارجية فبذلت الجهد في خدمة الوطن عن طريق هذه الوزارة – إلي أن هبت علي مصر كارثة فلسطين ، ورأيت أن مصر ستتردي في حرب ستجني منها الويل والخسار ، فبادرت قبل نشوب هذه الحرب بأسبوعين إلي توجيه نظر أولي الأمر إلي خطر الدخول في هذه الحرب ، منذرًا بأسوأ النتائج ، ودونت رأيي في مذكرة رسمية مازالت في محفوظات الحكومة .. ولما لم يؤبه برأيي ، وتجسم الخطر أمام عيني داهمًا ، طلبت ترك خدمة وزارة الخارجية وقتئذ ، فاقترح عليّ تولي سفارة واشنطن فقبلتها .

ويعلم الله ما لاقيت في هذه السفارة من صعاب وأزمات ، صمدت لها قوي الجنان ثابت الإيمان ، فمن أخبار انهزام الجيوش المصرية في فلسطين تملأ أعمدة الصحف الأمريكية ، إلي غير ذلك من أحداث وتصرفات معيبة ، تضافرت الدعايتان الصهيونية والبريطانية علي استغلالها استغلالاً واسع النطاق للحط من مصر وكرامتها ، والنيل منها ومن مصالحها .. حتى مرت بنا ونحن في هذه البلاد أيام من أحلك الأيام ، ضاقت فيها الدنيا أمامنا ، لولا رحمة من الله وفضل . لكننا صمدنا وتذرعنا بالعمل الدائب والإخلاص للوطن والدعاية الصالحة له ، واكتساب الأصدقاء في الحكومة الأمريكية وخارجها وفي الكونجرس وفي دائرة الصحافة ، وأرسينا بذلك أساسًا متينًا ، بدأنا نقيم عليه بنيانًا وطيدًا .. وهو مجهود ليس بالهين ، يستلزم عادة من كل سفير جديد في هذه البلاد المتشعبة النواحي المترامية الأطراف سنين طوالاً .. وعندما أشرقت علي مصر شمس عهد جديد من الحرية والكرامة ؛ إذ بهذا الأساس يزداد قوة ومتانة ، وإذا بأصدقاء مصر يعتزون بصداقتها ، ويتسابقون في خدمتها وشد أزرها ، وأصبح الطريق اليوم ممهدًا لمستقبل باسم مجيد ، وبناء شامخ وطيد . والآن .. ولما يتكامل البناء ، وأوشك الغرس أن يؤتي ثمره ، رؤى أن أتولي منصبًا آخر . غير أنني بعد تفكير طويل رأيت أن أختم حياتي في الخدمة العامة عن طريق العمل الحكومي بعد هذه الفترة الطويلة من الخدمة الخالصة لوجه مصر ، راضي الضمير بما أديت للوطن من جهد المقل ، ولكنه جهد المخلص المتفاني في خدمته .

وقد تفضلت الوزارة فعرضت عليّ سفارة بون . غير أنه نظرًا للأسباب المتقدمة ، ورغبة في العناية بعض الوقت بصحتي التي أضرها العمل المتواصل .. أستمحيكم العذر في عدم قبول هذا المنصب ؛ خصوصًا وإنني أري الخير كل الخير أن يسند إلي غيري ممن هم أقدر مني علي الخدمة . راجيًا قبول استقالتي ، شاكرًا للحكومة ثقتها الغالية ولزملائي بوزارة الخارجية كريم تعاونهم معي طوال مدة خدمتي . وإني إذ أعتزل الآن العمل الحكومي ، فلست بحال معتزلاً أداء الواجب للوطن في ميدان أفسح وأوسع مجالاً ، ألا وهو ميدان الخدمة العامة ، مستأنفاً الجهاد فيه كما كنت في الماضي غير مبتغ جزاءً ولا شكورًا .. عسي ربي أن يهديني سواء السبيل ، متضرعًا إلي الله تعالي أن يحفظ الوطن ، ويسدد خطي أولي الأمر فيه ويهيئ لنا من أمرنا رشدا . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " .

لا أدري لم أجهدت نفسي هذا الجهد وأجهدت معي القارئ في هذه النقطة بالذات وفي هذا الفصل بالذات ؟ وهل استطعت مع هذا كله أن يلمح القارئ من وراء كل هذا السرد والتحليل الإصبع الأمريكية ؟ لقد تربي أحمد حسين في أحضان الرعاية الأمريكية – وهو من أسرة ذات ثراء وتمت إلي عبود باشا بصلة نسب حتى إذا أشرب حب أمريكا وصبوا في رأسه أفكارًا جعلته أمريكي العقل والقلب مصري الشكل والهيئة ، أوفد إلي مصر ليؤدي رسالة محددة .. فقام الرجل بمهمته خير قيام . ولكن هل كانت مهمته حقاً انتشال الفلاح من وهدة الفقر والجهل والمرض كما ادعي ؟! ومتى كان إنقاذ الفلاحين من مهمة الأثرياء المترفين ؟ ومتى كانت أمريكا التي تقيم كل شيء بالدولار حتى الرجال تقيمهم بالدولار وحتى لو طلب منها إسداء معروف لم تتطوع بإسدائه إلا بعد أن تقيمه بالدولار فإذا لم تجد من حصيلته دولارات تكسبها لم تتطوع بإسدائه .

إن دور الدكتور أحمد حسين الذي انتدبته له أمريكا في مصر كان أشبه بدور الهلالي حين أسند إليه الملك فاروق الوزارة .. كان دورهما تخريب الإخوان المسلمين من الخلف ، هذا يجرهم إلي الانتخابات ضد الوفد ليفني كل منهما الآخر – وذاك كان بتنويمهم وسحب شبابهم إلي هاوية جمعية الفلاح وما يلقونه فيها من إغداق أمريكي ومنع تنسيهم مبادئهم وتحطم نفوسهم .. ولكن الفرق بين الاثنين أن الهلالي حين فشل في جر الإخوان أسقطوه . ولكن الثاني حين فشل نقلوه إلي دور آخر . ولكن مصر خسرت في سبيل إنقاذ الإرادة الأمريكية في النقل رجلاً نادر الوجود لا يعوض . وأعتقد أن الإرادة الأمريكية لم تكن إرادة أمريكية بقدر ما هي في حقيقتها إرادة صهيونية لبست الثوب الأمريكي . ثم إذن دور الدكتور أحمد حسين في مصر لم يكن إلا تكملة لمشروع الإصلاح الزراعي في مصر الذي أعدته لجنة البحوث السرية بوزارة الخارجية الأمريكية .. والدور والتكملة كلاهما يمثلان علامة استفهام كبيرة في تقييم الثورة المصرية ومدى برئتها .


الفصل الثاني : المؤتمر الإسلامي وهيئة التحرير

جاء في سياق حديثنا عن جهود الإخوان في نشر الفكرة الإسلامية أن استجاب لهذه الجهود شعوب الأمة الإسلامية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ، وكان من ثمارها عقد مؤتمر إسلامي عالمي في كراتشي بالباكستان . وقد نوهنا عنه في الجزء الثاني من هذه المذكرات . ثم انتهي الرأي إلي إنشاء مؤسسة إسلامية دائمة في القاهرة يطلق عليها " المؤتمر الإسلامي " ، واختير الأخ الأستاذ سعيد رمضان أمينًا عامًا لها . وتكون مهمتها العمل علي توثيق الصلات بين البلاد الإسلامية ، وعلي حل ما ينشأ من خلافات فيما بينها ، وتنظيم مؤتمرات سنوية تعقد في عواصم البلاد الإسلامية لمناقشة القضايا التي تمس كيان العالم الإسلامي والأقليات الإسلامية في كل مكان . وقام هذا المؤتمر الإسلامي بما عهد إليه من مهام ، فلما قامت الثورة رأينا جمال عبد الناصر ينشئ مؤسسة أخري في القاهرة تحمل نفس الاسم وعهد بشئونها إلي أنور السادات . ومع ما في هذا الإجراء من تحد ، فإن الإخوان لم يثيروا هذا الموضوع ، ولم يعيروه اهتمامًا بل تجاهلوه تمامًا أملاً في تضييق دائرة الخلاف .

هيئة التحرير :

في ديسمبر من عام 1952 تمخضت أفكار جمال عبد الناصر عن إنشاء هيئة تسمي هيئة التحرير ، وصيغت مبادئها بحيث تتصل بالإيمان بالله من بعيد .. وأسند رياستها إلي اللواء محمد نجيب باعتباره الشخصية المحببة إلي الشعب في ذلك الوقت ، ثم أخذ يحاول جر الإخوان إليها بأساليب مختلفة ، فعرض أمانتها العامة علي الأخ الأستاذ صلاح شادي فلما رفض تولي هو أمانتها ، وجعل مساعده فيها الصاغ إبراهيم الطحاوي . ولم يئس أن يجر إليها الإخوان باعتبارهم هيئة تندمج في هيئة التحرير ، حاول أن يجرهم فرادي .. وبدأ بالإخوان الدعاة ، وأحس الإخوان بأن هذه الهيئة ليست إلا المسجد الضرار ، أنشأه جمال ليخدع الناس به ، وليوقع البلبلة في صفوف الإخوان وليفض الناس به عنهم .. وأيقن كثيرون من الإخوان – ممن لم يكونوا موقنين من قبل – بأن جمالاً إنما يبيت لدعوة الإخوان شرًا .. وإلا فلم ينشئ هيئة لا تخرج مبادئها وأهدافها – كما يدعي – عن مبادئ الإخوان وأهدافهم ؟ .

وظل جمال عبد الناصر يدعو الإخوان إلي هذه الهيئة ، ولم يصدر من قيادة الإخوان ما يحجز علي الإخوان أن يتحركوا كما يشاءون ، فقام عدد من دعاة الإخوان بزيارة مقر قيادة الهيئة ، والالتقاء بطبقة الموجهين فيها ، والفلاسفة الذين صاغوا مبادئها ، وحددوا أهدافها ، وهم من أساتذة الجامعة وكبار الكتاب .. فلما التقوا بهم واستطلعوا منهم ما صاغوه من مبادئ وأهداف ، سمعوا منهم كلامًا خطيرًا ، سمعوا منهم أن الهيئة أوسع أفقاً من الإخوان المسلمين ، فمثلها العليا لا تقتصر علي محمد وعمر وخالد بل تتسع لتشمل لينين وماركس وفرويد – رجع إلينا هؤلاء الإخوة الدعاة رافضين آسفين .. وكان منهم الأخ الأستاذ البهي الخولي الذي قص عليّ ما رأي وما سمع ، وأخبرني فيما أخبرني بأن فلاسفة التحرير أخبروه أن خزائن الدولة مفتوحة للدعاة علي مصارعيها وكذلك مناصبها . وقد كان هناك تركيز من جمال عبد الناصر علي جر شخصيتين إخوانيتين بالذات إلي الهيئة . وهما الإخوان البهي الخولي و سيد قطب حتى نشرت بعض الصحف في تنبؤاتها مثل " أخبار اليوم " أن الأستاذ سيد قطب مرشح لمنصب هام وشاع في الأوساط الإخوانية أنه مرشح وزيرًا للمعارف ، وأن الأستاذ البهي مرشح لمنصب كبير في وزارة الأوقاف.

ويبدو في تلك الأيام أن الأستاذ سيد قطب قد سارع بإعلان قطع صلته بهذه الهيئة ، ولكن الأستاذ البهي قد تريث طويلاً علي الهيئة ، وساء هذا التريث كثيرين من الإخوان حتى تحدثوا إليه في ذلك ، ووصلت القضية إلي مسامع المرشد العام فأوجدت جفوة بينه وبين الأستاذ البهي . ولما طالت الجفوة جاءني الأستاذ البهي – لصلة الأخوة الخاصة التي كان قد أنشأها بيني وبين الأستاذ الإمام وأشرت إليها من قبل – وشكا إليّ ما يلقي من جفوة المرشد العام .. وشرح لي في تلك الليلة زياراته لهيئة التحرير وما رأي فيها وما سمع وأن ذلك كله لم يكن إلا للاستطلاع ، وطلب إليّ أن أعالج ما نشأ بينه وبين المرشد العام من جفوة ، فتحدثت في ذلك إلي الأستاذ المرشد حتى طابت نفسه ثم جمعت بينهما في جلسة كانت من أمتع الجلسات كشفت لي عن صفاء نفس هذا الرجل وسموها وقدرتها علي التجاوز واكتساب الأصدقاء ، وكان من ثمرات هذه الجلسة أن كلف المرشد العام الأستاذ البهي بوضع كتاب عن " المرأة في الإسلام " . وقد بلغ من إبهام فلاسفة هيئة التحرير لجمال عبد الناصر أنهم أوهموه بأن المبادئ التي وضعها لها مستقاة من مصادر عالمية شرقية وغربية قد أصبحت أوسع الهيئات في مصر أفقاً وأشملها أهدافاً حتى إن جمال عبد الناصر يخاطب الإخوان باعتبارهم إنما يمثلون جزءًا من مبادئها . وقد تصور أنها – وهي مدعومة بسلطة الحكومة وخزائنها ، مؤازرة بفلاسفة البلاد وكتابها ، مهرولاً إليها من البارزين من تجار البلاد وأعيانها – يجب أن تضم الإخوان المسلمين تحت جناحها .. وتحدث في ذلك – كما جاء في حديثه مع مجموعة الإخوة الأستاذ صلاح شادي وزملائه في أول هذا الجزء من الكتاب .. وقد اعتبر رفضهم عصيانًا .

ثم استدار إلي شعب الإخوان في أنحاء البلاد بجس نبضها ، ويتحسس ناحية ضعف ينفذ منها إليها يجد في هذه الشعب استجابة لما لم يجد له استجابة في القاهرة ، غير أنه لم يفز بطائل . إنه أراد أن يجعل من هيئة التحرير حزبًا يستمد منه تفويضًا شعبيًا يكسبه صفة الزعامة الحقة غير المدعاة ، فكرس جهوده لإنشاء هذه الهيئة وتثبيت أركانها ، وسخر من أوهمهم أنهم زملاؤه في مجلس قيادة الثورة ليجوبوا معه البلاد شرقاً وغربًا يجمعون الناس لها ، ويشرحون لهم مبادئها وأغراضها ، ويوضحون لهم أهدافها ، مقتفين في ذلك أثر الإخوان : فللهيئة مركز عام في القاهرة وفروع وشعب في الأقاليم .. وإذا كان الإخوان قد أنشئوا مركزهم العام وشعبهم في عشرين عامًا ، فقد أنشئوا هم مركز الهيئة وشعبها في كل قطر في أقل من ستة أشهر ، وأصبح أعضاؤها أكثر من أعضاء الإخوان عددًا .. ومن الطوائف أن هذه الهيئة أنشئت في 23/1/1953 وبعد أن أنشئوا لها فروعاً في جميع بلاد مصر .. تحولوا إلي خارج مصر فأنشئوا لها مركزًا عامًا في دمشق افتتحوه في 14/2/1953 برياسة سفير مصر في سوريا وسكرتارية الصاغ جمال حماد .

وننظر الآن لنري شيئًا من هذا في داخل مصر أو خارجها فلا نجد .. أين ذهب كل هذا وأين ذهبت هذه الدور ومنشئوها وعمارها ؟ .

كأن لم يكن بين الحجون إلي الصفا

أنيس ولـم يسمر بمكة سـامـر

والعجيب والمؤلم معًا أن الحاكم حين يري إقبال الناس عليه في العاصمتين والأقاليم يخدع نفسه ، ويعتقد أن أسماعهم مرهقة لما يشرح لهم من مبادئ وشعارات وأن أعينهم متجهة إلي ما يفوه به من عبارات ، وينسي أن هذه الأسماع والعيون إنما هي متجهة ومرهفة لما هو وراء شخصه من مغانم وما حوله من مكاسب ،وما يأملون من تحقيق لأنفسهم في ظل سلطانه من مآرب .. ينسي هذا أو يتناساه ولا يراه إلا في حال من حالين : إما حين يفقد سلطته فيجد هؤلاء قد أدبروا عنه بأسرع مما أقبلوا عليه ، وإما حين تفوح رائحة الفضائح فيبدأ أن يري نفسه فوق تلال من العفن والقاذورات . نصح الإخوان جمال عبد الناصر بهذه المعاني التي هي من طبيعة البشر ، وأخلصوا له النص ، ولكنه أبي أن يتقبل النصح ، وظن أنه قادر علي تغيير طبيعة البشر ، وأنشأ هيئة التحرير ، وعقد سكرتيرها العام المساعد الصاغ إبراهيم الطحاوي مؤتمرًا صحفيًا يوم 9/2/1953 يشرح فيه نشاط الهيئة ، ويقول : إن الشعب أجمع علي زعامة نجيب وتوليه رياسة التحرير ، وإن نظام هيئة التحرير هو أعدل نظام ديمقراطي في العالم .


الفصل الثالث : وزارة إخوانية

لما فشلت حيلة جمال عبد الناصر في ضم الإخوان إلي هيئة التحرير أو جر عدد من دعاتهم إليها ، ولم يعد عنده أمل في إثارة هذا الموضوع مرة أخري ، فكر في حيلة جديدة . وحاولها هذه المرة مع الأخ الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان . أملاً في أن يجد فيه مغمزًا بعد أن يئس من المرشد العام . فقد أخبرني الأستاذ عبد الحكيم – رحمه الله – في يوم من الأيام هذه الفترة أن الصاغ صلاح سالم اتصل به تليفونيًا وسأله عما إذا كان ممكنًا أن يجتمع معه الليلة في بيته فرحب به – وقابلني الأستاذ عبد الحكيم صبيحة تلك الليلة وحدثني بما دار في اجتماعهما فقال :

إن صلاح سالم أخبره أنه موفد من قبل جمال ، ومفوض تفويضًا كاملاً فيما سيعرضه من أمور ، وأنه يرجو أن يري من عبد الحكيم تجاوبًا وروحًا متعاونة ، حتى ترجع روح الوئام بين الإخوان والثورة . فرد عليه الأستاذ عبد الحكيم مطمئنًا من هذه الناحية ، وأكد له أن الإخوان يتمنون ذلك . فقال صلاح : إن جمالاً – تدليلاً علي حسن نيته وأنه لا يكن للإخوان إلا كل خير – فإنه يعرض عليهم أن يؤلفوا حكومة كاملة من الإخوان ، رئيسها من الإخوان وجميع وزرائها من الإخوان . قال لي عبد الحكيم : فتبسمت تبسمًا آثار دهشة صلاح الذي سألني لم قابلت كلامه بهذا الابتسام الذي يوحي بالسخرية ؟ .

فقال له : يا صلاح .. هذا عرض ماكر نحن نرفضه كل الرفض .

فأثار هذا الرد صلاحًا – كأنه رحمه الله – لم يكن يعرف الهدف الحقيقي لجمال من هذا العرض ، فقد كان طيب القلب ، ومن القلائل في مجلس الثورة الذين كانوا يتمنون أن يسود الوئام والتعاون علاقة الثورة بالإخوان .. وقال : إذن ماذا تريدون من تنازلات لكم من جمال أكثر من هذا ؟ ستكون الحكومة إخوانية صرفة .

فقال له : هوّن عليك يا أخي صلاح . أنت رجل لا نشك في حسن نيتك ، ولكن العرض الذي حملته إلينا عرض خطير ، يخفي في طياته الدمار والهلاك للإخوان المسلمين مادام هناك مجلس قيادة الثورة . إن قيام مجلس وزراء بجانب مجلس الثورة لن يكون إلا شماعة تعلق عليها الثورة أخطاءها ، وتحمله أوزارها ؛ لأن حقوق السيادة ستكون لمجلس الثورة دون مجلس الوزراء . ستكون مهمة مجلس الوزراء مواجهة الشعب بما يتخذ من قرارات تمس مصالحه ، ولابد أن تدور هذه القرارات في فلك السياسة التي يضعها مجلس الثورة . فإذا كانت هذه السياسة خاطئة ، لم يلمس الشعب هذا الخطأ إلا في القرارات التنفيذية التي تتخذها الوزارة فيما يتصل بقوت الشعب وملبسه لا علي مجلس الثورة بل علي الوزارة التي تواجهه .

إن جمالاً رأي حل الإخوان لم يقض علي دعوتهم لأنه لا يمس جوهرها ، بل إنه زادها قوة ، وزاد الشعب فيها حبًا ، فأراد أن يحلها بطريقة أخري تقضي عليها فعلاً قضاءً مبرمًا ، وتستأصلها من جذورها بإحلال الكراهية والمقت لها في قلوب الشعب محل الحب والثقة والإعجاب . إن الحل مهما طال أمده ، فإن دعوة الإخوان سترجع في يوم من الأيام وستجد قلوب الشعب في انتظارها ، مفتوحة لاستقبالها – أما العرض الذي تعرضونه فإنه سيصرف الناس من الدعوة وسيشيعونها باللعنات فلا تقوم لها بعد ذلك قائمة .

يا أخي صلاح ..

هذا عرض نرفضه شكلاً وموضوعًا .. ولا نقبله إلا بشرط واحد .. هو أن يحل أولاً مجلس الثورة ويكون حق السيادة لمجلس الوزراء ، فنستوحي قراراتنا من كتاب الله وسنة رسوله لا من وحي مجلس الثورة .

هذا ملخص ما حدثني به الأخ عبد الحكيم – رحمه الله – في صبيحة ليلة الاجتماع . وكان الحديث أطول من هذا بكثير وتطرق إلي نواح مختلفة ، ولكن لم يبق في خاطري منه بعد هذه المدة الطويلة إلا ما ذكرت . وحسبك أن تعلم أن هذا الاجتماع استغرق الليل كله حتى صلي الاثنان الفجر معًا – ويقول عبد الحكيم :

وكأن صلاحًا قد اقتنع أو يئس من قبولنا هذا العرض فسألني : إذن من ترشحونه من غير الإخوان لرياسة الوزارة ؟ فقلت له ( وذكر لي عبد الحكيم أسماء اقترحها ، ولكنني نسيتها الآن تمامًا ) .


الفصل الرابع : زيارتان لقبر الإمام

في 12/2/1953 أبدي أعضاء مجلس الثورة عزمهم علي زيارة قبر الإمام حسن البنا في ذكري استشهاده ، فرحب الإخوان . وكان في استقبالهم عند القبر جم غفير من الإخوان علي رأسهم المرشد العام .. وألقي الرئيس محمد نجيب الكلمة التالية :

" بسم الله الرحمن الرحيم "

أيها المواطنون :

من الناس من يعيش لنفسه ، لا يفكر إلا فيها ، ولا يعمل إلا لها ، فإذا مات لم يشعر به أحد ، ولم يحس بحرارة فقده مواطن .. ومن الناس من يعيش لامته واهبًا حياته ، حاصرًا فيها آماله ، مضحيًا في سبيلها بكل غال عزيز .. وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون ، وامتلأت بذكراهم القلوب . والإمام الشهيد حسن البنا أحد الذين لا يدرك البلى ذكراهم ، ولا يرقى النسيان إلي منازلهم ؛ لأنه – رحمه الله – لم يعش لنفسه ، بل عاش للناس ، ولم يعمل لشخصه ، عاش للصالح العام .. لقد كان حسن البنا صاحب عقيدة أخذت بزمام نفسه ، وملكت عليه منافذ حسه .. فعاش من أجلها أشق عيشة وأقساها ، ومات في سبيلها أشرف ميتة وأسماها .. وكان يؤمن بأن الدين هو الكفيل بإيجاد الأخلاق القويمة في نفوس الوطن العزيز ، وهو الوسيلة إلي حمل النفوس علي الفداء والبذل من أجل الكرامة .

ولست أنسي ما حييت هذا الشباب المؤمن القوي في معارك فلسطين ، يقتحم علي العدو أقوي الحصون ، ويسلك إلي قتاله أعصي السبل ، ويتربص بقواته وجحافله كل طريق . ولقد كان حسن البنا – علي قوة دينه وشدة إيمانه – يتحدث عن الإسلام في أفق واسع وفهم سمح كريم .. حتى انتفع به العالم والجاهل ، وكسب لدين الله أنصارًا كانوا أبعد ما يكونون عن الدين .. وكان الجميع يحبونه أخلص الحب ، ويحترمونه أشد الاحترام – ولذلك لم تكن الفجيعة فيه فاجعة جماعة ، ولا فجيعة طائفة – ولكنها كانت فجيعة أمة بل أمم غزا قلوبها ، وجمع علي الأخوة أرواحها . وكان – رحمه الله – حربًا عوانًا علي الفساد والانحلال ، علي قدر ما كان حربًا علي الغصب والاحتلال ، وكان سلاحه الذي اعتمد عليه سلاحًا ذا ثلاث شعب : الأولي : مكانة في نفوس الناس لا يبلغها غيره ، والثانية : بيان رائع قوي يحرك ويوجه ويثير ، والثالثة : قدرة علي التجميع والتنظيم لم يصل إليها إلا الأقلون ممن تصدوا لقيادة الأمم .

وقد أدرك أعداؤه وأعداء الوطن أن هذا السلاح في يده لا يفل حديده ولا يبلي جديده ، ثم هو سلاح لا يقاوم .. ولذلك أجمع المجرمون أمرهم علي قتله وحيدًا لا حارس له ، وأعزل لا سلاح معه ، وكانت القوة التي دبرت قتله ونفذته وأشرفت عليه .. هي القوة التي يلوذ بها الخائف فنمنحه الطمأنينة والأمن ، ويحتمي بها المطارد فتسبغ عليه ظلال السكينة والسلام " .

وقد حضر مع الرئيس محمد نجيب في هذه الزيارة الوزراء سليمان حافظ جلال والباقوري و فتحي رضوان كما حضرها الصاغ عبد الحكيم عامر والصاغ صلاح سالم . وأشهد لقد كان لهذه الزيارة معني كنا نحسه جميعًا ونشعر بحرارته .. وكان الذين قاموا بها والذين حضروها بل وكان الناس جميعًا يشعرون أنها رمز كان لابد منه أداءّ لحق الوفاء لرجل عاش حياته ليهيئ أسباب النجاح لثورة تقضي علي الظلم ، وتعيد للشعب حقوقه وكرامته . ويقال : إن جمال عبد الناصر كان هو صاحب فكرة زيارة قبر الإمام ، وأنه هيأ نفسه للقيام بها ولكنه فوجئ بأن اللواء محمد نجيب قد سبقه إليها .

علي أي حال فإن الزيارة كانت تجاوبًا لما يدور في خواطر أكثر الناس ، وقد رفعت من أسهم رجال الثورة عند الجمهور وزادتهم ثقة بهم وحبًا لهم ؛ ولهذا كان التسابق بين جمال ونجيب . ومرت سنة بعد هذه الزيارة وقعت خلالها أحداث خطيرة ، وظهر فيها من دفائن النفوس ما أزكم الأنوف . وتحطمت القيم ، ونقضت العهود ، واستبيح الكذب ، وديست الكرامات . وبعد كل هذا جاء جمال عبد الناصر في 12/2/1954 لزيارة قبر الإمام حسن البنا .. جاء لزيارة قبر حسن البنا بعد أن اقترف نحو الإخوان المسلمين ما يلي :

1 – أصدر – هذا الذي جاء يزور قبر حسن البنا – قرارًا بحل الإخوان المسلمين .

2 – أصدر – هذا الذي جاء يزور قبر حسن البنا – أمرًا باعتقال المرشد العام وقيادات الإخوان وإبداعهم السجن الحربي .

3 – أصدر بيانًا باتهام الإخوان المسلمين بالخيانة .

ليت شعري بأي وجه جاء هذا الرجل بعد كل الذي فعله ليزور قبر حسن البنا ؟! ومتى كان حسن البنا يري نفسه شيئًا غير دعوته ؟ صحيح أنه وجد في استقباله هناك والد الإمام وإخوته وولده ومعهم الأستاذ عبد القادر عودة والأساتذة صالح عشماوي وعبد الرحمن السندي وسيد سابق وعبدة قاسم والشيخ الغزالي و حلمي المنياوي .. ولكن هل هؤلاء يمثلون الإخوان المسلمين وهم يستقبلون من حل هيئتهم واعتقل مرشدهم ومئات من إخوانهم ، واتهمهم علنًا وعلي صفحات الصحف بالخيانة ؟ . مستحيل أن تكون هذه الزيارة قضاءٌ لحق الوفاء أو حتى مجرد عمل يمت إلي الخلق والإنسانية بسبب لابد أنها كانت أسلوبًا ماكرًا لشق هذه الدعوة وتفريق صفوتها ، واحتواء طائفة منها بإثارة نعرة أولي القربى في هذه الطائفة .. ولهذا كانت الكلمة التي ألقاها كلمة لا طعم لها ؛ لأنها مقطوعة الصلة بواقع الحياة فلقد كنا جميعًا غائبين وراء الأسوار ، ويقسم فيها علي أشياء يعلم هو أنه كاذب في ادعائها وقد ثبت كذبه فعلاً فيها .. وإليك نص هذه الكلمة كما قرأناها بعد ذلك في الصحف حيث تقول :

ألقي كلمة حبا فيها إخوانه المحتفلين بذكرى الشهيد حسن البنا في هذا اليوم الذي يذكرنا بالماضي القريب لا الماضي البعيد . ثم قال : إنني أذكر هذه السنين والآمال التي كنا نعمل من أجل تحقيقها . وأذكرها وأري منكم من يستطيع أن يذكر معي هذا التاريخ وهذه الأيام ، ويذكر في نفس الوقت الآمال العظام التي كنا نتوخاها ، ونعتبرها أحلامًا بعيدة . ثم أذكر هذا الوقت وفي هذا المكان كيف كان حسن البنا يلتقي مع الجميع في سبيل المبادئ العالية والأهداف السامية ، لا في سبيل الأشخاص ولا الأفراد ولا الدنيا .. ثم قال في نهاية كلمته : وأشهد الله أني أعمل – إن كنت أعمل – لتنفيذ هذه المبادئ وأفني فيها وأجاهد في سبيلها ثم ألقي صلاح سالم كلمة ثم ألقي كل من الأستاذ عبد القادر عودة والأستاذ عبد الرحمن البنا كلمة .

ولكن هل نجحت هذه الزيارة ، وهل حققت المقصود منها ؟ ونقول : نعم ، نجحت وحققت المقصود منها ولكن ساعة من نهار .. حتى كشفت الأيام للجميع حقيقة النيات .. ولكن تتكرر هذه الزيارة بعد ذلك علي مر السنين ، وقام هذا الزائر الوفي الكريم بمهاجمة حسن البنا بنفس الأسلوب الذي هاجمه به عهد الملكية بل أشد .


الفصل الخامس : أسلوب مخادعة بارع يصرف أصدقاء الإخوان عنهم

كان هناك فريق من رجالات الأمة الإسلامية وزعمائها ممن جمع بينهم وبين الإخوان في الماضي ميادين العمل الجاد و الجهاد الصابر المتصل .. عاشوا العهدين في مصر ، ولما قامت الثورة – ولم يكونوا بعيدين عن مقدماتها وأحداثها – طاب لهم المقام في مصر في كنف هذه الثورة التي ساهموا في التمهيد لها ؛ لينعموا بالمعيشة ما بقي لهم من حياة في ظل الدولة الإسلامية التي كانوا يحلمون بها . وهذا الفريق من رجالات الأمة الإسلامية كانوا أعرف الناس بالثورة وعلاقة الإخوان المسلمين بها فهم يعلمون أنها ثورة الإخوان المسلمين وأن جمال عبد الناصر وزملاؤه ليسوا إلا الفرقة التي عهد إليها بالظهور علي المسرح .

فلما أحس هؤلاء بنشوب خلاف بين الإخوان وبين جمال عبد الناصر ، خفوا للاتصال بالطرفين لمعرفة كنه هذا الخلاف وأسبابه ودواعيه .. فكانوا يتصلون بجمال فيسمعون منه كلامًا ويتصلون بالمرشد العام فيسمعون منه كلامًا .. ولكن حصيلة ما يسمعون كان بين يدين الإخوان ويجعلهم الطرف المعتدي . وهكذا عاش هؤلاء الرجال في حيرة من أمرهم .. أوجد هذه الحيرة أن جمال عبد الناصر كان حريصًا في أسلوبه معهم ، وفي تصوير المواقف لهم علي إبراز أمور معينة ، وإخفاء أمور أخري ، وبتر الأحاديث ، والانتهاء من ذلك كله بحيث يبدو أن الإخوان هم المعتدون وأنه هو الجانب المعتدي عليه .. حتى ظن هؤلاء الرجال بالإخوان الظنون ، وجاءوا إلي المرشد العام في ذلك يعتبون عليه . وهذا الأسلوب كان من البراعة والتفنن بحيث لم يؤثر في هؤلاء الرجال فحسب بل خدع الكثير من كبار الإخوان وعلي رأسهم الأستاذ عبد القادر عودة مع أنه كان يعيش كل وقته في الوسط الإخواني ، فما بالك برجال يعيشون في جوهم الخاص ولا يحتكون بالإخوان إلا بمجرد مقابلات واتصالات . ومن الذين استطاع جمال عبد الناصر أن يخدعهم بهذا الأسلوب في ذلك الوقت السيد أمين الحسيني – رحمه الله – مفتي فلسطين .. وكان مقيمًا بالقاهرة .. وكان الرجل يعتقد في إقامته في مصر في ذلك الوقت أنه يقيم لأول مرة في ظل حكومة إسلامية هي حكومة الإخوان المسلمين .

لما بدأ الخلاف يتطور حاول السيد أمين الوصول إلي الأسباب الحقيقية لهذا التفاهم السيئ .. ولما وجد أن طريقة تبادل الاتصال مرة بهذا الطرف وأخرى بالطرف الآخر لم تجد ولم تصل به إلي نتيجة وصارح المرشد العام الآخر بالأمر بأن اتصالاته التنقلية بين الطرفين لم تسفر في نظره وفي نظر كثيرين من الساعين بين الطرفين إلا بأن الإخوان هم المتعنتون .. وعرض الرجل علي المرشد العام اقتراحًا بأن تعقد جلسة يحضرها الطرفان جمال و المرشد العام ، ويكون هم (السيد أمين) وبعض الساعين في الصلح من كبار رجالات مصر والعالم الإسلامي حكمًا بينهما .. وقد رحب المرشد العام بهذا الاقتراح .

وكان الأخ الأستاذ عمر الأميري عضو الهيئة التأسيسية ومن كبار رجال الإخوان في سوريا وسفيرها السابق في باكستان منفيًا في ذلك الوقت ومقيمًا بالقاهرة – واتخذ له مسكنًا في مصر الجديدة – وقد اختار هو الآخر القاهرة مقامًا له ؛ اعتقادًا منه بأنه سيقيم في ظل حكم إسلامي . وكان الأستاذ عمر هو الآخر ممن يحسنون الظن بجمال ، ومن المقربين إليه ، وممن يختصهم جمال برعاية واهتمام ، وكان الأستاذ عمر يتمني لو أحسن الإخوان الظن بجمال – وقد كانت لي مع الأستاذ عمر جلسات طويلة في سكنه هذا طالما دارت فيها المناقشة حول هذا الموضوع – فلما علم الأستاذ عمر بهذا الاجتماع المزمع عقده ، طلب أن يكون في بيته . وكان الاجتماع في مسكن الأستاذ عمر – وقد أنسيت أسماء الشخصيات التي اشتركت فيه ولم يعد في خاطري منهم إلا السيد / أمين الحسيني صاحب الاقتراح والأستاذ عمر الأميري صاحب البيت – وطالت الجلسة واحتدمت المناقشة – وكان الإخوان والسادة الساعون في الصلح يأملون من ورائها خيرًا كثيرًا .. وبسط المرشد العام كل ما عند الإخوان من وجهات نظر .. وحاول جمال أن يتفادى كعادته نقاطًا معينة ، ولكن المرشد أصر علي سماع إجابته عنها محتكمًا إلي الحاضرين .. فلما أجاب عليها – مضطرًا – اتضح للوسطاء أن لا عيب في مسلك الإخوان وأن سوء النية ملموس في تصرفات الجانب الآخر . فلما انتهي الاجتماع إلي هذه النتيجة التي لم تسعد جمالاً ، أسر في نفسه نية سوء للسيد أمين الحسيني وللأستاذ عمر الأميري – تكشف فيما بعد قليل بطرد الأستاذ عمر من مصر ، وبإعلان حرب شعواء علي السيد أمين بتشويه سمعته ثم طرده هو الآخر من مصر .

هذه بعض أمثلة من أساليب الدوران حول الدعوة لتخريبها من الخلف ، وإن كانت قد أحبطت جميعًا لا يفعل الإخوان ولا بتهجمهم ، وإنما بفضل الله وثبات الإخوان واعتصامهم بإيمانهم .. غير أنها شتتت شمل الأمة ردحًا من الزمن كان الأولي أن يستغل في مصلحتها . والكاتب حيت يتقدم للكتابة في مثل هذا الباب ، يتقدم متوجسًا خائفًا ؛ لأنه حين يغريه بالتقدم ما يتراءى أمامه عن طريق سوي لا عقبة فيه .. لا يلبث أن يفاجأ أنه علي شفا جرف هار يكاد ينهار به فيظن أنه النهاية ولكنه يفاجأ باستواء جديد هكذا .. طريق لا أمان فيه ولا اطمئنان .. طرفان يتعاملان معًا ، أحدهما : كل تصرفاته محكومة بحدود مستمدة من عقيدة ثابتة .. والآخر : حدوده هوي نفس لا تعرف لها مستقرًا .

الباب السادس : التشكيلات الإخوانية


التشكيلات الموروثة :

ورث المرشد العام الجديد يوم تولي هذا المنصب التشكيلات الإخوانية التي تركها له سلفه الإمام الشهيد ، سواء منها ما يتصل بالشئون الإدارية كمكتب الإرشاد العام ولجنة تحقيق العضوية والهيئة التأسيسية والمركز العام لجمعيات البر والخدمة الاجتماعية .. سواء منها ما يتصل بذلك وما يتصل منها بالنظام الخاص . وقد رأي المرشد العام الجديد أن يبقي كل شيء علي ما هو عليه ، بالرغم مما اتخذته قيادات بعضها مما كان يستوجب التغيير . وإذا كان في حديثنا في فصول سابقة ما يوحي بأن تشكيلين اثنين علي الأقل من هذه التشكيلات كان يجب أن يتناولهما التغيير ، فإن هذا التغيير لو أجري في هذين التشكيلين لاقتضي ذلك تغييرًا في جميع التشكيلات الأخرى ، فهناك من أعضاء هذين التشكيلين من هم في نفس الوقت أعضاء في التشكيلات الأخرى ، كما أن من بين أعضاء التشكيلات الأخرى أعضاء متعاطفين مع أعضاء هذين التشكيلين .

ولعل هذا كان من الأسباب الرئيسية التي جعلت المرشد العام الجديد يبقي علي كل شيء علي ما كان عليه ، لاسيما وقد أنس من قيادة هذين التشكيلين أخيرًا تسليمًا بالأمر الواقع ، ومسايرة للركب الإخواني .. فآثر الأستاذ جمع الشمل ، خصوصًا والإخوان خارجون لتوهم من محنة قاسية . وقد أثبتت الأيام براعة هذه السياسة ، فقد استطاع الإخوان في ظلها أن يلموا شملهم ، وأن يستردوا مكانتهم .. ثم أن يحظوا من استجابة الشعب لدعوتهم ما جعلها تتبوأ أعلي مكان في الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في البلاد .

• بعد قيام الثورة :

فلما قامت الثورة ، وبدأت بوارق السلطة تلمع في سماء الإخوان .. أخذت هذه البوارق بألباب قيادات كانت قد استسلمت من قبل تحت تأثير الأمر الواقع الذي لم يكن آنذاك بديل منه .. ولكنها الآن وجدت أمامها طريقاً مفتوحًا وعلي رأسه داع يلوح لها بأعلام السلطة ويفتح لها ذراعيه .. فمن هذه القيادات من هرولت إليه ، وألقت بنفسها بين ذراعيه .. ومنها من بادلته ابتسامة علي حياء .. وهذه كان أمرها مع الدعوة غير عسير – أما الأخرى فكان أمرها عسيرًا ، وكانت هي رأس الفتنة التي تمخضت عن أعظم كارثة نزلت بالإخوان المسلمين ، وانتهت بتدمير مصر والبلاد العربية تدميرًا لازال أصحاب العقول حتى اليوم في حيرة كيف يخلصون البلاد من لعنته ، وكيف يتلاقون آثاره . أما الذين ابتسموا وكان خطرهم قليلاً ، فهم أصحاب نظرة أولي القربى ، والذين يعتقدون أنه قد سلبوا حقهم في خلافة الأستاذ الإمام في منصبه بالدعوة . وما الآخرون الذين باءوا بإثمها وتولوا كبرها ، ولعبوا بالنار وهم يضحكون ويمرحون .. وكانوا كالأطفال يحطمون أثمن ما يملكه آباؤهم ، ويشعلون النار فيها وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .. فإنهم قيادات النظام الخاص . رأت هذه القيادة في تلويح جمال لها فرصة سانحة لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه من قبل ، ألا وهو إخضاع قيادة الدعوة لأعوانهم ، وأن تكون هذه القيادة ألعوبة في أيديهم .. وبذلك يفرضون سلطانهم علي الدعوة ، ويوجهونها حيث يشاءون .

تشكيلات جديدة :

في خلال تلك الفترة حل الموعد الدوري لتجديد انتخاب الهيئة الإدارية العليا للإخوان .. ورأي المرشد العام أن الدعوة مقبلة علي أيام حافلة بالمتاعب .. وأحسَّ أعضاء الهيئة التأسيسية بالأحداث التي تجري في القاهرة ، فرأي أكثرهم أن يستطيعوا رأي المرشد العام في هذا الشأن .. فأبدي رأيه فيما عرضوه عليه . وكان اتجاه المرشد العام في هذا الشأن أن يعمل علي تكوين جديد علي ضوء ما مر بالدعوة من أحداث .. وطلب إليّ أن أكون عضوًا بمكتب الإرشاد فاعتذرت شاكرًا ومؤثرًا أن أظل عضوًا في لجنة تحقيق العضوية التي كنت عضوًا بها منذ أنشئت . وأجري الانتخاب وأسفر عن التشكيلين الآتيين :

1 – مكتب الإرشاد العام :

الإخوة الأساتذة محمد خميس و البهي الخولي و الشيخ محمد فرغلي و محمد حامد أبو النصر والشيخ أحمد شريت والدكتور حسين كمال الدين والدكتوركمال خليفة و عبد الرحمن البنا و عمر التلمساني و عبد القادر عودة و عبد الحكيم عابدين و عبد المعز عبد الستار .

2 – لجنة تحقيق العضوية :

الإخوة الأساتذة عبد العزيز كامل و حسني عبد الباقي و عبد الله عامر و حامد شريت و سعد الدين الوليلي و محمد الغزالي و محمود عبد الحليم .

وأحب هنا أن أقف وقفة قصيرة عند اعتذاري عن عضوية مكتب الإرشاد العام ، فقد يذهب الظن ببعض القراء أن هذا كان تهربًا مني من المسئولية ، وينبغي أن يعرف السادة القراء أن عضوية مكتب الإرشاد في تلك الحقبة من الزمن كان لها من المكانة الأدبية علي مستوي مصر والبلاد العربية والإسلامية ما تهون أمامه أضخم المسئوليات .. ومع ذلك فقد شاء القدر أن أزهد في هذه المكانة الأدبية – بعدًا عما يلازمها حتما من الأضواء وتمشيا مع طبيعتي وطبيعة مسئولياتي في الدعوة – فيأبي القدر إلا أن تلاحقني هذه الأضواء في ثنايا الزاوية التي اخترتها لنفسي في لجنة العضوية .. فلقد تطورت الأحداث تطورًا حملني – رغم أنفي – أخطر مسئولية ، ونقلني مكرهًا إلي دائرة الضوء بل إلي مركز بؤرتها مما يأتي إن شاء الله تفصيله في صفحات قادمة ، ومما كان له آثار بعيدة المدى في تطور الأحداث .

• قضيـة :

وقبل أن أنتقل إلي نقاط أخري ، ينبغي أن أوضح للقارئ أن إبداء المرشد العام رأيه للهيئة التأسيسية في أمر من الأمور أو في أشخاص يراد اختيارهم لعمل من الأعمال .. هذا الإبداء ليس فيه ما يعد اعتداءً علي حق الهيئة في اختيار ما تريد أو من تريد .. ذلك أن من حق المرشد العام – وهو الذي يباشر كل المسئوليات بنفسه وبمن حوله من القيادات – أن يقدم للهيئة تقريرًَا عن كل فرد من هذه القيادات ، وعن مدي بلائه في الدعوة تقصيره في حقها أو تعويقه لمسيرتها . كما أن من حقه كذلك أن يستعين بمن شاء من سائر الإخوان خارج نطاق هذه القيادات الرسمية :

• مجموعة الروضة :

وهذه قضية كانت مثار جدل أثاره بعض أعضاء مكتب الإرشاد الموروث ، والذي اقتضت ظروف الدعوة في ذلك الوقت الإبقاء عليه دون تغيير ولا تبديل ، فرأي المرشد العام أن يستعين بجانب هذا المكتب بمجموعة من الإخوان يطمئن إليها ويثق فيها ، فكان يكل إليها بعض المهام ، وهذه المجموعة هم الإخوة الذين ذكرهم فيما تلقاه من كتاب " الصامتون يتكلمون " ، وكان بعض هؤلاء المعترضين يطلقون عليهم " مجموعة الروضة " لأن أكثرهم كان يسكن في حي الروضة حيث يسكن المرشد العام .. يريدون أن يقولوا : إن المرشد العام قد اختار هؤلاء الإخوان باعتبارهم جيرانه في السكن .. وهو مالم يخطر علي بال الرجل ، فقد كنت أسكن في القناطر الخيرية خارج القاهرة ومع ذلك كان كثيرًا ما يستشيرني ويكل إليّ من مهام الأمور ، كما أنه في التشكيل الجديد لمكتب الإرشاد اختار الأخ الأستاذ عمر التلمساني وهو يسكن شبين القناطر وأسند إليه منصب السكرتير العام المساعد ، كما استقدم الأخ الدكتور محمد خميس حميدة من المنصورة وأسند إليه منصب نائب المرشد العام .

إذن لم تكن المسألة مسألة جيرة ، ولا مسألة صداقة شخصية ، ولا مسألة استلطاف ، ولا مسألة قرب ولا بعد ، وإنما كان الرجل يريد أن يتعاون مع إخوة لا يضعون في طريقه العراقيل ، ولا يتعاملون معه وفي نفوسهم أشياء ، ولا يوزعون ولاءهم له ولغيره باعتبار الولاء للقيادة هو الولاء للدعوة . ولقد أثبتت الأحداث أن المرشد العام كان في تصرفه هذا بعيد النظر ، ثاقب الفكر ، نافذ البصيرة ؛ إذ كشفت هذه الأحداث عن حقائق مذهلة كان يتوقعها ، وكان بتصرفه هذا يحاول تفاديها ، أو علي الأقل التخفيف من أخطارها ، فخطأ الجندي وهو فرد من أفراد الجيش أهون وأقل ضررًا من خطئه وهو في هيئة القيادة . وليس معني ما أسوق من حديث في هذا الشأن أن أبرئ هذه المجموعة من العيوب أو أن أنزهها عن الخطأ .. والخطأ والصواب أمران من طبيعة البشر .. لكنني عرضت بالحديث لقضية طالما اتخذها في ذلك الوقت بعض الموتورين مثارًا للتشنيع علي المرشد العام ، وجعلوها محورًا يدورون حوله في شغبهم عليه .

• طريقة الانتخاب :

وعلي العموم فقد اجتمعت الهيئة التأسيسية لتباشر حقها في اختيار أعضاء مكتب الإرشاد العام وأعضاء لجنة تحقيق العضوية .. وقد أشرت من قبل إلي أن هذا الاختيار يجري علي أساس فريد ، فهو انتخاب سري كتابي علي أن يختار كل عضو من الهيئة العدد المطلوب لمكتب الإرشاد والعدد المطلوب للجنة تحقيق العضوية دون أن يرشح أحد نفسه . ولعل في هذا الأسلوب مغالاة في الحرية من ناحية ، ومن ناحية أخري إبعادًا عن تزكية النفس في مجتمع هو أقرب المجتمعات إلي المثالية .. وأذكر بهذه المناسبة حادثة توضح هذا المعني ، وإن كانت تمسني شخصيًا ، إلا أن في إيرادها ما يكشف عن مقومات المجتمع الإخواني ، وبين إلي أي مدي وصل هذا المجتمع في الأخذ بالأسلوب الإسلامي في التربية الروحية والصقل النفسي .

في أثناء إجراء عمليات الانتخاب – وكانت تجري علي سطح المركز العام – كان يجلس بجانبي أخ كريم من إخوان الأقاليم هو الأخ الشيخ عبد الغفار الديب – رحمه الله – وكان من العلماء وعمدة قرية صفط العنب بمحافظة البحيرة ، وكنت – بحكم وجودي في لجنة تحقيق العضوية منذ أنشئت الهيئة التأسيسية – أعرفه كما أعرف جميع أعضاء الهيئة إلا أنه وإن كان يعرفني شكلاً فإنه لا يعرف اسمي .. وكان أعضاء الهيئة يعرفون أن عملية الانتخابات التي دعوا هذه المرة لأدائها عملية خطيرة لها ما بعدها ، فرأيت هذا الأخ الكريم يميل عليّ ويسألني : هل تعرف الأخ محمود عبد الحليم ؟

فقلت : نعم أعرفه . قال : وما رأيك فيه ؟

قلت : إنه ليس بذاك .

قال : إن رأيك هذا عجيب . فأنا لا أعرفه ولكن جميع الإخوان الذين أعرفهم يزكونه .

قلت : لا بأس .. لكل إنسان رأيه – وقد سألتني وهذا هو رأيي فيه .. وأنا لن أنتخبه .

وتمت عملية الانتخاب .. وفرزت الأصوات .. وأعلنت النتيجة .. وأحمد الله أن فزت بما يشبه الإجماع .. وهي نتيجة طمأنتني علي أعز ما أحرص عليه ، وهو ما تكنه قلوب إخواني لي من حب .. وعرف الأخ الشيخ عبد الغفار من الذي كان يبدي له الرأي في محمود عبد الحليم ، فأقبل عليّ معانقاً هو وإخوانه الذين قص عليهم ما كان بيني وبينه . وكانت نتيجة الانتخاب بمثابة تجديد إجماعي للثقة بقيادة المرشد العام ؛ لأنها جاءت مطابقة تمامًا لما كان يأمله ، فقد أقصي عن مكتب الإرشاد أعضاء منهم الأخ الأستاذ صالح عشماوي وأدخل فيه إخوان آخرون .

ومن أروع ما لفت نظري في الإخوة الذين دخلوا المكتب هذه المرة أن يكون منهم الأخ الأستاذ عمر التلمساني . وللأخ الأستاذ عمر قصة .. فهو المحامي الوحيد الذي دخلت الدعوة في عام 1936 فوجدته من الأعضاء السابقين .. وكان من أحب الإخوان إلي الأستاذ الإمام ، وكان يربطه به رباط روحي صوفي أشبه بالعشق الروحي .. وكان الأستاذ عمر من سكان شبين القناطر ، ولا يكاد يشترك معنا إلا في المناسبات وزيارات خاصة للأستاذ الإمام ، وبمقالات يكتبها في مجلة الإخوان ، وكنا نعتبره إذ ذاك الأخ المحب المدلل .. ثم كانت المفاجأة أن يترك هذا الأخ منتجعه ، ويأتي إلي المركز العام يضع نفسه ووقته وجهده تحت أمر الدعوة في أحرج وقت مر بها ، حيث الفتن علي أشدها والحكومة مكشرة عن أنيابها ، و المرشد العام في أمس الحاجة إلي من يقف بجانبه .

• الانتخابات الداخلية :

وقبل أن نختم عن الحديث عن التشكيلات ، يحسن بي أن أذكر نتيجة الانتخاب الداخلي في هذين التشكيلين حيث تم الآتي :

1 – في مكتب الإرشاد العام :

أسفر الانتخاب الداخلي عن انتخاب : الدكتور محمد خميس حميدة نائبًا ل المرشد العام والأستاذ عبد القادر عودة وكيلاً عامًا والأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتيرًا عامًا والأستاذ عمر التلمساني سكرتيرًا عامًا مساعدًا .

2 – في لجنة تحقيق العضوية :

عند إجراء الانتخاب الداخلي رأيت اتجاها من أعضائها إلي انتخابي رئيسًا للجنة باعتباري حائزًا أكثر الأصوات في الهيئة التأسيسية ، ولكنني أشرت عليهم بانتخاب الأخ عبد العزيز كامل ، وكان هدفي من ذلك أن أضعه أمام المسئوليات الجسام المقبلة ، وقد تم ما أشرت به ، كما انتخب الأخ الأستاذ سعد الدين الوليلي سكرتيرًا للجنة .

الباب السابع : التقاء إرادتين علي التخريب


الفصل الأول : لقاءات مشبوهة

وقفنا في باب سابق في موضوع النظام الخاص عند إذعان قيادته لما أجمع عليه الإخوان من اختيار المرشد العام الجديد الأستاذ حسن الهضيبي ، وقد وقع هذا الإذعان أحسن موقع من الجميع . واعتبر ذلك نصرًا كبيرًا للدعوة ، وعقبة كأداء انزاحت من طريقها .. وقلنا إن الدعوة بتحررها من هذا العائق انطلقت انطلاقاً فاق ما كان منتظرًا ، وراح الجميع يخطبون ودها ، وينثرون الورود في طريقها ؛ تقربًا إليها ، وتمسحًا بها .. حتى الملك أراد أن يلوذ بحماها .. ولكنها ركلته برجلها .. وتطلعت الأنظار إليها مترقبة التغيير المأمول . ووقع التغيير المنتظر ، الذي كان أشبه بالتغيير الذي أنهي دولة لني أمية .. كان الأمويون يلعنون العلويين علي المنابر طيلة مائة عام تولوا الحكم فيها .. وكان العداء مستحكمًا بين طائفتين طائفة الأمويين وطائفة العلويين .. وظل العلويون هم الأعداء المطاردين طيلة مائة عام .. فلما وقع التغيير باسم العلويين .. وكانت الأنظار معلقة بهم .. فإذا الذين ظهروا علي المسرح أبناء عمومتهم من بني العباس ، فلم يخطر ببال أحد أن الدولة شيء غير دولة العلويين .. ولكن الأحداث المؤسفة أخلفت الظنون ، ورأوا بني العباس قد استقلوا بالحكم وناصبوا أبناء عمومتهم الذين وصلوا إلي الحكم عن طريقهم أشد العداء

كان جمال عبد الناصر علي علم بما كان من موقف لقيادة النظام الخاص . كما أن الفترة التي قضاها في كنف هذه القيادة قد كشفت له كثيرًا من نواحي الضعف في نفوسها .. ولما كان دائب البحث عن وسائل تمكنه من احتواء هذه الدعوة المترامية الأطراف ، بحيث يوجهها حيث يشاء ، فيكون بذلك قد تربع علي عرش أعظم قاعدة شعبية .. وقد لمس أن الرجل الذي اعتلي صهوة هذه القاعدة هو من الصلابة والقوة بحيث لا يقتحم من أمامه .. ولابد لمن يريد اقتحامه أن يبحث عن وسيلة يقتحم بها من خلفه .. وقد هداه تفكيره ، وأرشدته خبرته إلي هذا النظام الخاص الذي سبق له أن تمرد ، ولم تذعن قيادته إلا مغلوبة علي أمرها .

ومع أنه هو شخصيًا لا يثق في هذه القيادة ، فقد سبق أن طعن في كفاءتها ، فإنه لا يعنيه الآن شيء من ذلك ، وكل الذي يعنيه هو أن يحتضن هذه القيادة ، ويوليها اهتمامًا خاصًا ، ويوسع لها من مجلسه – مجلس رئيس الحكومة – ويشعرها بأنها شريكة في الحكم .. وأنه وإياها " الإخوان القدماء " ، ولابد من العمل معًا علي التخلص من هذا الرجل " الدخيل " الذي جاءوا به من خارج الدعوة ووضعوه علي رأسها متجاهلين في ذلك أصحاب الدعوة الأصليين من الإخوان القدامى الذين بنوا صرح هذه الدعوة بعرقهم ودمائهم . وحسب القارئ أن يتصور موظفاً صغيرًا بوزارة الزراعة ، مؤهله الثانوية العامة يجد رئيس الحكومة يطلبه فيستقبله في مكتبه استقبال الند للند أمام رجال الحكم ، ثم يجلسه إلي جانبه ، ويمضي ساعات في الحديث إليه منفردين ، لا يسمح لأحد مهما علا شأنه بالدخول عليهما وقد تنتهي الجلسة الطويلة بأن يصحبه إلي منزله فيتغذيان معًا .. وأصبح بينهما تليفونيًا وشخصيًا مقدمًا لدي رئيس الحكومة علي كل اتصال .. أي شعور يتصوره القارئ من الزهو والغرور والاستعلاء يستولي علي لب هذا الموظف الصغير بحيث قد ينسيه حقيقة نفسه .

ولم يكن هذا الأسلوب جمال في التعامل مع رئيس النظام الخاص وحده ، بل إنه كان يستعمل نفس الأسلوب مع كثيرين من أفراد هذا النظام حتى الطلبة منهم .. فلقد كان من إخوان النظام في ذلك الوقت أخ سمعه حسن عبد الغني ، وكان إذ ذاك طالبًا بكلية الحقوق وكان علي درجة عالية من الإخلاص ، وكنت أحبه لهذا ، فكان يقابلني بالمركز العام في المساء ويحدثني عن جلسات له مع جمال وعما تم بها من حديث . أما من ناحية رئيس النظام الخاص في ذلك , فأنه لم يكن بحاجة إلي كل هذه المظاهر من الاحتفاء والتقريب ليسلك المسلك الذي يريده جمال . بل إنه كان يتمني أن يجد أي سند يسند إليه ليظهر ما كان يتكتمه مما كان يعتمل بالتأييد لفعل كل الذي فعل مما كان يريده جمال أن يفعل .. فلقد كان رئيس هذا النظام يعتقد أن المرشد العام قد سلبه سلطة بلا حدود لها ولا أن يفعل ، كان يستمتع بها ، ويظن أنها صارت تفويضًا إلهيًا له . ومن هذا المنطلق كان سلوكه الشائن المخرب الذي تمت جولاته بتدبير أثيم في كنف جمال عبد الناصر وتحت مظلة من تأييده وتوجيهه ومباركته .

كان الإخوان – لاسيما في القاهرة – يشعرون بهذا التحرك المشبوه الذي يتم بين جمال عبد الناصر وبين عناصر كثيرة من إخوان النظام الخاص .. وبدأ الإخوان – سواء منهم من كان من النظام الخاص أو من غيره الذين يتأثرون بتوجيهات جمال عبد الناصر يتكتلون ، وأخذوا يبحثون عن مكان يلتقون فيه معًا ، فوجدوا ذراعين مفتوحتين ترحبان بهم ، وكان هذان الذراعان ذراعي الأخ الحاج حلمي المنياوي ، وهذا الأخ إذ ذاك كان تاجرًا كبيرًا من تجار الورق بالقاهرة ، له محل تجاري فسيح بشارع الجيش ، ويتصل بهذا المحل مكتب كبير مؤثث وبه تليفون ويصلح لعقد الاجتماعات .. ومنذ ذلك الوقت صار هذا المكان ملاذ كل من تحدثه نفسه بالشغب علي دعوة الإخوان المسلمين أو المساهمة في الكيد لها .. ولست أدري حتى الساعة ما الذي دفع الحاج حلمي إلي اتخاذ هذا الموقف الذي كان أشبه بمسجد الضرار .. هل هي مجاملة منه لهؤلاء الإخوان المتمردين ؟ أم كانت وسيلة منه للتقرب إلي جمال عبد الناصر وسلطة الحكم أملاً في الانتفاع من وراء ذلك لتجارته ؟ والذي أعرفه في هذه الناحية أن جمالا فيما بعد حطمه فيما حطم ؟!!! . والعجيب في شأن هذا الأخ أنك سوف تقرأ في كثير مما سوف تقرأ عن التمرد والمتمردين وما كان منهم وما اتخذ بشأنهم ، وستقرأ اسم محل هذا الأخ قرين كل ما حدث وكل خطوة وكل مؤامرة .. ولكنك لن تجد اسمه هو نفسه في شيء من ذلك .

وبالرغم من أن جمال عبد الناصر كان حريصًا علي أن تكون اجتماعاته بإخوان النظام الخاص في نطاق السرية ، فإن كثرة تعدد هذه الاجتماعات ، وتدخل أكثر من فرد من رجال جمال فيها – أملاً في سرعة إنجاز المقصود منها وهو تأليب هذا الجهاز علي المرشد العام – كل ذلك نقل هذا الأسلوب إلي ما يشبه العلانية ، وصار معروفًا أن هناك جبهة يُسهَر علي إعدادها لإجراء بين يدي هذا التخريب ، وأن كل خيوطها في يد رئيس هذا النظام ، وأن خيوط هذه المؤامرة تحاك فيما بين يدي جمال وهذا الرئيس .

الفصل الثاني : عبد الرحمن السندي مرة أخري

دعاني المرشد العام ذات يوم ، وأخذ يقص عليّ من أنباء عبد الرحمن السندي ومن اتصالاته بجمال عبد الناصر ، ومن اجتماعاته بأفراد النظام الخاص ، وما يبثه فيهم من روح العداء لقيادة الدعوة ، وسمي لي أفرادًا أبلغوه كل ما قاله عبد الرحمن .. وأخبرني بأن عبد الرحمن يجد آذانًا صاغية من بعض كبار الإخوان .. وقال لي : إنني لم أدعك إلا بعد أن بذل كثير من الإخوان جهودًا مشكورة ولكنها لم تثمر ، ومع ذلك لم أكف بهذه الجهود بل استدعيته وتحدثت إليه وحاولت إقناعه بأن تصرفاته تسئ إلي الدعوة وتعود عليها بضرر بالغ ولكنه أصر علي موقفه . ثم قال لي : إنني لا أمانع في الاستقالة إذا رأي الإخوان أن ذلك في صالح الدعوة .. وقد استدعيتك باعتبارك الورقة الأخيرة ؛ لأنك أنت الذي عالجت هذه الفتنة من قبل وأنت أقرب الإخوان إلي نفوس أعضاء هذا النظام .

وبدأت بالاتصال بالأخ أحمد زكي باعتباره التالي لعبد الرحمن في القيادة ؛ ولأن له محلاً تجاريًا يتيسر اللقاء به فيه ، وأثرت معه الموضوع ، فلم ينكر ما يبذلونه من جهود في سبيل تغيير قيادة الدعوة ، ولم يخف ثقتهم في تحقيق أمنيتهم هذه المرة ، وحجتهم في ذلك أن الأستاذ الهضيبي رجل دخيل علي الدعوة وهو عقبة في سبيل التفاهم مع الثورة ، وأن التفاهم مع الثورة أمر ضروري لتحقيق مبادئ الدعوة ، وأن الثورة مستعدة للتفاهم مع الإخوان ولكن الهضيبي هو الذي يرفض .. وحاولت التفاهم مع الأخ أحمد ولبكنه اعتذر إليّ وطلب مني هذه المرة أن أتفاهم مع عبد الرحمن . وترقبت حضور عبد الرحمن إلي المركز العام .. ولم أشأ أن أقابله في أول مرة محاولاً أن أراقب تحركاته ، فرأيته يحضر في الليالي التي يكثر فيها حضور الإخوان ، ويندس بينهم ، ويتخير منهم أشخاصًا يتحدث إلي كل منهم علي حدة ، وينتقل من مكان إلي مكان ليلتقي بأفراد آخرين .. وبعثت في طلب بعض هؤلاء الأشخاص من الذين تحدث إليهم عبد الرحمن وسألتهم عما دار بين عبد الرحمن من حديث ، فوجدت أنه يمهد للقيام بانقلاب في المركز العام . وشعرت بأن ترك الفرصة له ينفث سمومه بين إخوان برءاء هو تفريط في حق الدعوة وغفلة ، وإذا كان قد استطاع في غفلة منا أن يستحوذ علي أفكار عدد من كبار الإخوان الذين بهر عيونهم بريق السلطة ويطمعون في غنائمها ، فما ذنب غيرهم من خلاة الأذهان ، سليمي الطوية الذين لا مطمع لهم إلا نصرة الإسلام .. كيف تتركهم فريسة لأفكار هي تخريب لدعائم الدعوة ، وتقدم لهم علي أنها الوسيلة الوحيدة لتثبيت دعائمها ؟! .

قررت في نفسي أن لابد من وضع حد لهذا الأسلوب السري الخطير ، ولا يكون ذلك إلا بنقله من السرية إلي العلن . التقيت بعبد الرحمن – الذي كان يستحي أن يرفع نظره إليّ – فرأيته يتكلم معي بأسلوب جديد فيه جرأة وفيه ما يشبه التوقح وفيه إصرار وفيه عناد .. وعبثًا حاولت صابرًا علي أسلوبه هذا أن أقنعه بخطورة محاولاته وإضرارها بالدعوة بل تعريضها للزوال .. فلما يئست تركته منذرًا .

انتقلت إلي مرحلة أخري مؤداها أن أشعره بتيار مضاد تقوم به مجموعات من إخوان النظام الخاص .. وبذلك لا يجد الطريق أمامه مفتوحًا كما كان يجده من قبل .. والتقيت بمجموعات كبيرة من هؤلاء الإخوة في القاهرة والأقاليم – وكان الذي يربطني بهم الحب والثقة التي مردها الإيثار وإنكار الذات – وأفضيت إليهم بما في نفسي – وتبادلنا الرأي ، وأجمعوا علي الوقوف صفًا واحدًا في وجه عبد الرحمن .. ونظموا أنفسهم بحيث يحضر عدد منهم كل ليلة إلي المركز العام وتكون مهمتهم تحذير الإخوان خلاة الذهن من عبد الرحمن وأفكاره المسمومة . ونجحت الفكرة .. وكان يجئ عبد الرحمن فيجد الطريق أمامه مسدودًا .. وحاول أن يستخدم سلطته علي أعضاء النظام فوجد منهم خروجًا علي طاعته وعصيانًا لأول مرة . وتكرر حضوره إلي المركز العام لعله يجد ثلمة بين هؤلاء الإخوان ينفذ منها ، فلم يظفر بطائل .. فانقطع عن المركز العام .

• دار الندوة :

صحيح أن هذه الخطة حرمت عبد الرحمن فرصة اصطياد أفراد جدد يضمهم إلي صفه .. وصحيح أن هذا الأسلوب حرمه منتدى يلتقي فيه بأفواج بعد أفواج .. ولم يعد يجد في هذا المنتدى وجهًا واحدًا يبتسم له أو يرحب به – ولكن ذلك لم يمنعه أن يجد منتدى آخر نذره صاحبه لاستقبال المتمردين والترحيب بالمتآمرين – وأكرر هنا أيضًا ما قلته من قبل : إنني لا أدري حتى الساعة أية مصلحة كان ينتظرها صاحب هذا المنتدى من وراء ذلك .. فإنك كنت إذا جلست إليه شخصيًا لم تشعر في حديثه بأدنى ما يشعر بالتمرد . عكف عبد الرحمن علي الالتقاء في " دار الندوة " هذه بأقطاب التمرد ، وبالحفنة من إخوان النظام الخاص التي كان قد استقطبها واستحوذ عليها من قبل .. والتي كان يرتب لها لقاءات مع جمال عبد الناصر ، ثم عرف كيف يحشو عقولها بأخبار كاذبة ،وأفكار سوداء ، ويصور لها المواقف علي غير حقيقتها ، ثم عرف كيف يعزلها عن المجتمع الإخواني خشية أن تلتقي بمن يصحح لها الأفكار ، ويشرح لها حقيقة الأمور .. وإذا كنا قد طاردنا عبد الرحمن في المركز العام فليس من حقنا أن نطارده في أماكن لا سلطان لنا عليها .

• عزل رئيس النظام :

لم يكن هناك بد من اتخاذ إجراء يحرم أولاً هذا الرئيس المتواطئ من الصفة التي تخوله حق توجيه أعضاء هذا النظام الوجهة التي يريدها ، وتحرر ثانيًا أعضاء هذا النظام من الالتزام بطاعة هذا الرئيس . وهذا الإجراء لا يتطلب عرض الأمر علي مكتب الإرشاد ولا علي ما سواه من مؤسسات الدعوة ، بل هو من حق المرشد العام وحده ؛ لأن هذا الإجراء ليس معناه فصل هذا الرئيس من جماعة الإخوان المسلمين وإنما هو مجرد نقل عضو في الجماعة من عمل عهد به إليه فوجد أنه لم ينتج فيه الإنتاج المطلوب إلي عمل في مجالات أخري في الدعوة ، قد يكون في واحد منها أحسن إنتاجًا . ولهذا كان الذي أصدر هذا الأمر هو المرشد العام ، كما أن هذا الأمر بطبيعة اتصاله بالنظام الخاص فإنه لم يصدر مكتوبًا ولا منشورًا ، بل كانت وسيلته التبليغ الشفوي عن طريق تسلسل القيادة .

وغني عن الذكر أن نقول : إن هذا الأمر لم يصدره المرشد العام فجأة ، ولا من تلقاه نفسه – مع أن هذا من حقه – وإنما صدر بعد اتصال المرشد العام بالكثيرين من العاملين بهذا النظام والمتصلين به .. بل إنه لم يصدر إلا بعد إلحاح من هؤلاء العاملين بعد أن تقدموا إليه بوقائع ثابتة لها خطورتها وتنذر بشر مستطير .. ونعرض علي القارئ واحدة منها حتى يكون معنا في تقدير ما كان يكتنف الموقف من خطر داهم :

جاء أحد إخوان النظام الخاص وأخبر المرشد العام بالتالي : في أثناء اجتماعنا العادي أخبرنا الأخ صلاح عبد المعطي أنه بتكليف من رئيس النظام الخاص دعا بعض شباب النظام إلي حضور اجتماع في منزل أحد أعضاء النظام الخاص اسمه الأخ جمال النهري ، وحضر هذا الاجتماع الإخوة عز الدين مالك وعلي صديق وحسن عبد الغني وغيرهم .. ثم حضر إليهم حازم النهري شقيق الأخ الذي يجتمعون عنده ، وهو من تشكيلات الضباط الأحرار ومخابراتهم ، وأخذهم إلي منزل عبد الحكيم عامر الذي اجتمع معهم وحضر الاجتماع جمال عبد الناصر وصلاح سالم ، وأخذوا يسيئون إلي المرشد العام وجماعة منير دلة ، ويصورون لهم الخلاف بين الثورة وبين المرشد العام علي أنه خلاف شخصي وليس خلافاً علي مبادئ أو سياسة .


الفصل الثالث : جريمة غدر مجنونة

من هذا يتضح أن إجراء المرشد العام بتنحية رئيس النظام عن رياسة النظام ليست إلا إجراءً عاديًا ، كان يجب أن يقابل من أخ بايع علي السمع والطاعة بالتسليم والرضا ، وتوجيه جهوده لميدان آخر من ميادين الدعوة الفسيحة .. ولكن الذي حدث كان عكس هذا تمامًا .. اعتبر هذا الأخ هذا الإجراء اعتداء عليه ، وسلبًا لسلطان يري أنه حق أبدي له .. وإذا كان قد ناوأ المرشد العام من قبل في خفاء ، فإنه أصبح الآن في حل من إعلان الحرب عليه ، مستحلاً في سبيل ذلك كل وسيلة تتاح له .. أتدري أيها القارئ ماذا فعل ؟ .

كان يعلم أن المهندس فايز – وهو من كبار المسئولين في النظام الخاص – من أشد الناقمين علي تصرفاته ، وأنه وضع نفسه تحت إمرة المرشد العام لتحرير هذا النظام في القاهرة علي الأقل من سلطته ، وأنه قطع في ذلك شوطاً باتصاله بأعضاء النظام بالقاهرة وإقناعهم بذلك .. وإذن فالخطوة الأولي في إعلان الحرب .. وكذلك سولت له نفسه .. أن يتخلص من سيد فايز .. فكيف تخلص منه ؟ .

إنه تخلص منه بأسلوب فقد فيه دينه وإنسانيته ورجولته وعقله .. وانتهز فرصة حلول ذكري المولد النبوي الشريف ، وأرسل إليه في منزله هدية علبة مغلفة عن طريق أحد عملائه ، ولم يكن الأخ سيد في ذلك الوقت موجودًا بالمنزل ، فلما حضر وفتح العلبة انفجرت فيه وقتلته وقتلت معه شقيقا له ، وجرحت بقيت الأسرة وهدمت جانبًا من جدار الحجرة . وقد ثبت ثبوتًا قاطعًا أن هذه الجريمة الأثيمة الغادرة ، كانت بتدبير هذا الرئيس .. وقد قامت مجموعة من كبار المسئولين في هذا النظام بتقصي الأمور في شأن هذه الجريمة وأخذوا في تضييق الخناق حول هذا الرئيس حتى صدر منه اعتراف ضمني . ولكن الذي يلفت النظر أن الحكومة حين باشرت التحقيق في هذه الجريمة البشعة باشرته بتثاقل مريب . وبدا كأنما باشرته لمجرد " سد خانة " حتى لا يقول الناس : لماذا لم تقم الحكومة بالتحقيق ؟! وقد أقفل المحضر دون توجيه اتهام لأحد .


الفصل الرابع : فصل أربعة من الإخوان المسلمين

أمام هذا الغدر والاعتداء الآثم ، الذي وصل إلي حد استحلال الدم ، لم يكن بد من اتخاذ إجراء عاجل ، في حدود ما يخول قانون الإخوان المسلمين الجهة المسئولة في الهيئة ، وكان أقصي ما يمكن اتخاذه من إجراء هو فصل هذا الرئيس والضالعين معه من هيئة الإخوان . اجتمع مكتب الإرشاد في 22 نوفمبر 1953 وتداول في هذا الموضوع الخطير ، وبحثه من جميع جوانبه ، وانتهي إلي قرار إجماعي بفصل رئيس هذا النظام الخاص وثلاثة من معاونيه ، هم : أحمد عادل كمال ومحمود الصباغ وأحمد زكي .. وأعلن هذا القرار .

وبديهي أن هذا القرار وقد تم إعلانه – كان لابد من احتفاظ مكتب الإرشاد العام لنفسه بالأسباب التفصيلية التي دعت إليه .. لأن في إعلان هذه الأسباب ما قد يزيد علاقة الإخوان بالحكومة سوءًا ؛ إذ فيها ما يمس جمال عبد الناصر شخصيًا .. وكان – حتى ذلك الوقت – ما يزال مأمولاً تفادي المواجهة لعل جمالاً يفئ إلي الرشد . وكان موقف الإخوان حيال هذا الوضع الخطير كمثل الذي رأي نفسه في مثل هذا الموقف فقال .

البغل في الإبريق لكن أين لي

بفم يقول البغل في الإبريق

• رفع قميص عثمان :

كان مفروضًا بصدور قرار إجماعي من مكتب الإرشاد العام أن يقابل بالرضا والتسليم من كل فرد من أفراد الإخوان المسلمين مهما خلا هذا القرار من ذكر الأسباب التفصيلية التي بني عليها ذلك للأسباب الآتية :

1 – أن هذا القرار قد صدر من الجهة المختصة ، وصدر بالإجماع لا بالأغلبية .

2 – أن علاقة الإخوان المسلمين في كل مكان بمرشدهم العام وبما يعاونه من هيئات منتخبة علاقة تقوم علي الثقة التي لا يداخلها شك .

3 – أن هذا القرار – وإن كان قد صدر دون إعلان أسبابه – فإن هذه الأسباب كانت معروفة لجمهور الإخوان بل لكثيرين من غير الإخوان .

ومع ذلك فقد بدأ هذا الرئيس المفصول في تنفيذ تمثيلية جديدة ، وضعت وأخرجت " في مكان ما " ولم تكن مهمته إلا أداء أدوارها علي المسرح .. وكانت الفصول التالية للمسرحية قائمة هذه المرة علي " رفع قميص عثمان " . كان هؤلاء المفصولون يعرفون أسباب فصلهم ، وكان الذين يمدونهم في الغي يعرفون هذه الأسباب ، وكان الإخوان جميعًا يعرفون هذه الأسباب ، لاسيما أولئك الذين كانوا يجتمعون معهم كل ليلة في " دار الندوة " . ولكن هؤلاء المفصولين ومن يلوذ بهم ويباركون جرائمهم يعلمون أن مكتب الإرشاد لا يستطيع أن يعلن هذه الأسباب للظروف فيه بإعلان أسباب الفصل .. وقد اتخذت هذه الحملة صورًا منها :

1 – تقدم بعضهم إلي المكتب بتظلمات كتابية ، ووعد المكتب بالنزر فيها ، وتبين فيما بعد أن هذا من جانب المتظلمين كان أسلوبًا من أساليب التنويم .

2 – بدت الأمور بعد ذلك كأنما استقرت . وتفرغ الإخوان لأعمالهم الخاصة ، كما تفرغ كل ذي مسئولية في الدعوة للعمل في موقعه ، ولم يدر بخلد أحد أن هذا الهدوء والاستقرار لم يكن إلا ستارًا لمؤامرة تحاك من خلفه ، علي أن تكون هي المؤامرة القاضية ولا قبل لأحد بمواجهتها ، فقد حيكت بإحكام وبراعة دقيقين ، بتكتيك ماهر توفرت عليه عقول متخصصة ، ووضعت في خدمته كل الوسائل ، فكانت بذلك أخطر مؤامرة واجهها الإخوان المسلمون .

الباب الثامن : المؤامرة الخسيسة أو الضربة المسددة إلي القلب من الخلف


حول هذه المؤامرة

كل المؤامرات التي حيكت لدعوة الإخوان من داخلها ، وقد عرضنا لها في هذه المذكرات ، كانت – علي اختلاف دوافعها – من نوع واحد .. ولكن المؤامرة التي تزعمها عبد الرحمن هذه المرة كانت وحدها نوعًا آخر .. إنها اختلفت عن سوابقها في أمرين :

الأول : أن سوابقها لم تكن من الخسة بحيث تستحل حرمة البيوت ولا حرمة النساء ، فلم تفكر واحدة منها في اقتحام بيت ، مهما بلغت درجة الخصومة لبن القائمين بها وبين زميل ، وكانوا يرون في ذلك خسة ونذالة يَرْبأوُنَ بأنفسهم عنها .. ولكن مؤامرة عبد الرحمن استحلت حرمة البيوت فاقتحمت علي المرشد العام بيته ، واستحلت دم أخ مخالف لهم في الرأي .

الثاني : أن هذه المؤامرة استعانت بسلطة الحكومة ضد الهيئة التي نشئوا فيها ، وتربوا في أحضانها ، ,قد يكون التعبير الأدق أن تقول : إنها تواطأت مع السلطة وتحالفت وأسندت ظهرها إلي ما تملك أداة منفذة لخطط وضعتها هذه السلطة .

• مجمل تخطيطي للمؤامرة :

خطط لهذه المؤامرة بحيث يكون هجومها ذا شعبتين ، فقد قسموا أنفسهم قسمين أو فريقين :

فريق كله من الشباب وُكِلَ إليه أن يقتحم علي المرشد بيته لإرغامه علي كتابة استقالة ، ويقوم هذا الفريق بمهمته في الوقت الذي يكون فيه الفريق الآخر قد اقتحم دار المركز العام واحتله .. وكان هذا الفريق أيضًا من الشباب ولكن كان علي رأسه ثلاثة من كبار الإخوان هم الأساتذة صالح عشماوي ، ومحمد غزالي ، وأحمد عبد العزيز جلال من أعضاء الهيئة التأسيسية .

وقد أدي الفريق الأول مهمته في اقتحام منزل المرشد العام – وهو أمر ميسور لكل من أراده – وصحيح أنهم تطاولوا علي الرجل وأساءوا إليه ، لكنهم لم يستطيعوا أن يستكتبوه الاستقالة . وكان المفروض في التخطيط أن يكون الفريق الآخر قد أتم احتلال المركز العام ، علي أن يوافيه الفريق الأول باستقالة المرشد العام المكتوبة ، ليعلنها الثلاثة الكبار في الصحف ، ويختاروا بعد ذلك مرشدًا عامًا لابد أنهم كانوا أعدوه فيما بينهما .. ولكن الفريق الآخر – وقد قام بمهمته – فاحتل المركز العام – وكان احتلاله ميسورًا لأي أحد فاليوم يوم جمعة والمركز خال من الرواد . وقام الثلاثة الكبار باحتلال مكتب المرشد العام ، وقام الشباب بحراسة بوابة المركز حتى لا يدخله إلا المشايعون ولكن الجزء الهام من الخطة لم يتحقق إذ لن يتم الحصول علي الاستقالة .. وإن كان المسئولون عن المؤامرة قد أبلغوها للصحف ثقة منهم في أن إحكام المؤامرة جعل هذه الاستقالة .. في قبضة أيديهم .

هذا من الناحية القائمين علي تنفيذ مخطط المؤامرة ، أما إدارة المؤامرة فكان يديرها عبد الرحمن وأركان حزبه من منزل قريب من جريدة الأهرام .

• مواقف ذات دلالات هامة في المؤامرة :

ولما كان دوري في نقل صورة هذه المؤامرة إلي السادة القراء دور الناقل عن غيره ممن شهدوها ، فأري – كما قدمت – أن أجمل القول فيها ، محيلاً إياها إلي كتاب " صفحات من التاريخ " للأستاذ صلاح شادي مجتزئًا هنا بملاحظات استمحيه عذرًا إذا أنا نقلتها عنه لشدة أهميتها ، ولبالغ دلالاتها ، حرصًا مني علي أن تكون بين يدي قراء قد لا يتاح لهم – في وقت قريب – الاطلاع علي كتاب الأخ صلاح .

وإليك هذه الملاحظات :

الأولي : كان أكثر هذا الشباب الذي ضلع في هذه الفتنة مضللين ومخدوعين ، حتى إنه لم تمض هذه الليلة حتى تقدم اثنان كانا من قادتها معتذرين وآسفين وهما الأخوان علي صديق وفتحي البوز .

الثانية : أن اثنين كانا من أكبر المسئولين في النظام الخاص في القاهرة ، أحدهما الأخ صلاح العطار وكان مسئولاً عن النظام الخاص في شبرا ، وكان يعد أقرب شخصية إلي السندي ، وقد جعله السندي أركان حربه في إدارة المؤامرة .. والآخر الأخ سيد عيد وكان مسئولاً عن النظام الخاص في شبرا الخيمة . كان هذان الأخوان – بإخلاص كانا من العوامل التي أعدتها القدرة الإلهية لتقويض البناء الذي سهر علي بنائه واضعو الخطة ومنفذوها .

الثالثة : كان معروفاً لدي منفذي الخطة أن الأخ صلاح العطار هو الناطق باسم السندي وممثله وناقل تعليماته ، حتى إنه لما توجه هو والأخ سيد عيد إلي المركز العام بعد منتصف الليل وجدا أن السندي قد اتصل بالمعتصمين تليفونيا وقال لهم : اسمعوا وأطيعوا لصلاح العطار .. وبذلك استطاع صلاح أن يرسل إلي السندي من ألقي في نفسه اليأس ، حتى إنه اضطر أن يتصل بالمعتصمين بإنهاء الاعتصام .

الرابعة : لما علم الأستاذ صالح عشماوي بتعليمات السندي بإنهاء الاعتصام ، غضب وهم بالاتصال به تليفونيا ، ولكن صلاح العطار منعه .

الخامسة : لما قابل الأخ سيد عيد الأخ صلاح العطار في يوم المؤامرة في مكان عينه له الأخ صلاح قرب جريدة الأهرام ، وجد الأخ صلاح الأخ سيد منخرطًا في البكاء لخطورة الحالة .. هدأه الأخ صلاح وقال له : هناك ما هو أخطر من هذا : إن سيد سابق قام الآن من عند عبد الناصر ليبلغ السندي بموافقته علي الانقلاب داخل الإخوان وأنه لن يتدخل إلي أن يتم الأمر ؛ لأن تدخله سوف يقلب الأمور ، وأن التعاون مع عبد الناصر سيتم بعد نجاح الانقلاب .

السادسة : في يوم المؤامرة أرسل المرشد العام الأخ سعيد رمضان إلي صلاح سالم وزير الإرشاد يرجوه عدم نشر هذه الأنباء في الصحف . ووافق صلاح سالم إلا أن عبد الناصر قال له : إن الصحف حرة فيما تكتب ولا نتدخل في شئونها للتأثير عليها .

ويبدو أن عبد الناصر خوفاً من أن يكون قد وصل إلي بعض الصحف من صلاح سالم ما يمنعها من النشر سارع بدعوة الأستاذ أحمد أبو الفتح صاحب جريدة المصري أوسع الصحف انتشارًا في ذلك الوقت ليلقي إليه بنفسه هذه الأخبار بطريقته الخاصة لينشرها أحمد أبو الفتح . وقد جاء في صفحة 197 من كتاب " جمال عبد الناصر " لأحمد أبو الفتح يقول : إن عبد الناصر دعاه إلي منزله في تلك الليلة حوالي الساعة التاسعة مساءً فوجد أنور السادات ، عنده وآثار عبد الناصر فجأة الكلام عن الإخوان المسلمين .. ثم دق جرس التليفون فلاحظ أحمد أبو الفتح أن المحادثة نقلت إليه أخبارًا سارة أشاعت البهجة والفرح في نفسه . وأنهي عبد الناصر المحادثة قائلاً : " إن الفريق المعارض ل لهضيبي قد احتل المركز العام للإخوان وطرد من الدار أنصار الهضيبي وأعلنوا أنهم وحدهم الذين يمثلون الإخوان المسلمين ، وأعلنوا أنهم أجبروا الهضيبي علي الاستقالة من منصبه كمرشد عام .. وسمح عبد الناصر لأحمد أبو الفتح بنشر هذه التفاصيل .

السابعة : يقول الأخ سيد عيد : في أثناء انتظارنا في ذلك المساء قرب منزل المرشد العام التقينا بالأخ الأستاذ سيد قطب ، وكان غاضبًا ويردد : يا فرحة الصهيونية والصليبية العالمية . يقول الأخ سيد عيد : وعندما أتيحت لي فرصة الالتقاء بالأستاذ سيد قطب في السجن سألته : ما دخل الصهيونية والصليبية العالمية بخلاف داخلي بين الإخوان ؟ فقال لي : لقد اتصل بي الأستاذ علي أمين في الساعة الثانية ظهرًا يوم الحادث وقال لي : أين حاسة الصحفي عندك ؟ .. الإخوان قايمين علي بعض بالسلاح وأنت قاعد في البيت ؟! .

فقمت في الحال وأخذت سيارة تاكسي وذهبت إلي بيت المرشد فلم أجد شيئًا غير عادي .. وذهبت إلي المركز العام فلم أجد شيئًا ملفتاً للنظر كذلك .. ثم تحدث بعدها كل الأمور التي حدثت .. هذا ما جعلني أقطع بأن الأمر مدبر من أكثر من جهة .

وبعد أن أوردت هذه الملاحظات ذات الدلالة ، ووضعتها بين يدي القراء ليستنتجوا منها ما يشاءون – يجدر بي أن أذكر أن هذه الخطة ظلت مسيطرة أمسية ذلك اليوم ، وهزيعًا من الليل .. حتى أفاق بعض المخدوعين ، ويتدخل من بعض الإخوان منهم الأخ عبد العزيز كامل الذي لازم المعتصمين معظم الوقت .. ويحسن تصرف الآخرين الكريمين الأستاذين صلاح العطار وسيد عيد اللذين ذكرني دورهما في هذه المؤامرة بدور الصحابي الجليل نعيم بن مسعود الذي كان أثيرًا لدي اليهود .. وقد وكل إليه الرسول صلي الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب أمر التخذيل عن المسلمين ، فكان عاملاً من أهم العوامل التي فككت الحلف بين اليهود والمشركين وأدت إلي فشل خطة الحصار المحكم حول المسلمين وغيرت بذلك وجه المعركة فصار في صالح المسلمين .

أقول : بهذه الجهود المخلصة أمكن إفشال وفض الاعتصام .. وكان الخير وقد انتصف الليل قد وصل إلي أسماع بعض إخوان القاهرة ، فخف في الحال الأخ الأستاذ صلاح شادي رئيس قسم الوحدات في ذلك الوقت ومعه مجموعة من إخوان الوحدات إلي دار المركز العام ، ولم ينتظروا حتى يفتح لهم الباب ، وتسلقوا السور ودخلوا المبني ، ولم يكن قد بقي أحد من المعتصمين سوي الثلاثة الكبار ومعهم الأخ صلاح العطار ، وقد رفضوا الخروج لا تمنعًا ولا تعنتًا كما رفضوا من قبل ، وإنما رفضوا خوفاً علي حياتهم .. فلما أُمَّنُوا من هذه الناحية خرجوا .


الفصل الأول : في أعقاب فشل المؤامرة الخسيسة

بعد عرض المؤامرة في مجملها ، يأتي ابتداءً من هذا الفصل دور بسطها بسطا يتناسب مع خطورتها وفداحة آثارها ، ولما كان الرأي العام شاهدًا عليها إذ نقلها المتآمرون إلي صفحات الجرائد فقد وجب أن نبدأ باستقراء صداها في صحافة تلك الأيام فنري من خلال ذلك تطور أحداثها .. ونبدأ من اليوم التالي للمؤامرة فنقول :

(1) وقعت هذه المؤامرة في يوم الجمعة 27/11/1953 – ونشرت الصحف – المصري – في صبيحة السبت 28/11 تحت عنوان : " انقسام خطير في صفوف الإخوان المسلمين – بعض الأعضاء يحتلون المركز العام ويغلقونه " .

" اتصل الأربعة المفصولون بأنصارهم ، وفي الساعة الخامسة مساء أمس ذهبوا ومعهم نحو خمسين عضوًا إلي منزل الأستاذ الهضيبي طالبين استقالته فرفض . فذهبوا إلي دار المركز العام – وكان اليوم يوم الجمعة ، والمركز هادئ تمامًا – ففتحوه بالقوة واحتلوه ، ونادوا بالسيد سابق مرشدًا وصالح عشماوي وكيلاً ، حيث كانا معهم في المظاهرة ، وأعلنوا مبايعتهما . ووصلت الأنباء إلي الأستاذ عبد الحكيم عابدين فذهب إلي المركز العام وبصحبته الشيخ محمد فرغلي وعمر الأميري ، وحاولوا تهدئة الموجودين الذين أصروا أن يطلعوا علي أسباب فصل الأربعة ، فرفض هؤلاء الإدلاء بشيء واتصلوا بالأساتذة عبد القادر عودة وعبد الرحمن البنا وعبده قاسم الذين حضروا وحاولوا محاولة أخري مع المتظاهرين " .

(2) وفي نفس اليوم نشرت المصري بيانًا من صالح عشماوي وأحمد عبد العزيز جلال ومحمد الغزالي ومحمد سليمان هذا نصه :

" فوجئ الإخوان والرأي العام بقرار مكتب الإرشاد العام حرص علي نشره في جميع الصحف صباح الاثنين الماضي يقضي بفصل أربعة من أعضاء الجماعة دون أن يجري معهم أي تحقيق أو توجه إليهم أية تهمة ، ودون إبداء الأسباب التي أدت إلي اتخاذ هذا القرار الخطير .. وقد نتج عن ذلك بلبلة في نفوس الإخوان ، واضطراب في صفوفهم وانتظروا إلي يوم الثلاثاء الماضي ، وسأل بعضهم المرشد العام عن أسباب الفصل فرفض أن يدلي بالأسباب ، وأكد أن المكتب يصدر قراراته ، وليس لأحد أن يسأله عما يفعل .

ثم تطورت الأمور تطورًا سريعًا مساء الجمعة (أمس) إذ تجمع عدد كبير من الإخوان وطالبوا المرشد بإعادة النظر في قرار المكتب الذي يجمع بين طابع الاستبداد والتحدي ، ولكن فضيلته أعلن استقالته علي الملأ . ثم تجمع الإخوان في المركز العام من مختلف الشعب وتدارسوا الأمر حتى ساعة متأخرة من الليل ، واستقر رأيهم علي :

أولاً : اعتبار الإخوان عبد الرحمن السندي وأحمد زكي ومحمود الصباغ وأحمد عادل كمال موقوفين إلي أن تحدد موقفهم لجنة خاصة تعرض تقريرها علي الهيئة التأسيسية .

ثانيًا : اعتبار مكتب الإرشاد موقوفاً حتى تبت الهيئة في مصيره .

ثالثاً : تأليف هيئة لتصريف شئون الدعوة وإدارة المركز العام لحين اجتماع الهيئة التأسيسية – تتكون من الدكتور محمد سليمان والأستاذ محمد الغزالي والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال والأستاذ صلاح عشماوي . (3) وفي نفس اليوم نشرت الصحف ما يأتي :

في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل جاءنا البيان التالي من مكتب الإرشاد العام المجتمع في منزل المرشد :

" علم مكتب الإرشاد العام الليلة أن نفرًا من الشباب اجتمعوا في دار المركز العام في عطلته الأسبوعية وبحثوا في جو من الشغب بعض قرارات المكتب . وإن مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين يستنكر هذا العبث الذي تأباه طبيعة الدعوة ونظام الإخوان وآداب الإسلام . وهو إذ ينصح هؤلاء الشباب بأن يؤوبوا إلي الحق ، ويأخذوا أنفسهم بنظام دعوتهم ، يدعو الإخوان كافة أن يتلقوا هذه المحاولة العابثة وكل ما يذاع عنها ، بما ألفوا أن يواجهوا به كل تقول علي الدعوة ، ومحاولة للتفرقة ؛ من الثقة بتأييد الله ووحدة الصف ، مطمئنين إلي أن للإخوان من نظمهم وسلامة أوضاعهم ما يضمن وحدتهم . والله أكبر ولله الحمد " . ثم قال الأستاذ عبد الحكيم عابدين : " إن مكتب الإرشاد في سبيله لتصفية الموقف ، ونفي استقالة المرشد العام " .

(4) تخلل هذه الأحداث مأدبة عشاء أقامها المرشد العام في منزله لأعضاء مجلس الثورة ، حضرها جمال عبد الناصر وزكريا محيي الدين وعبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين ، ونشرت الصحف هذا النبأ وقالت : إن الضيوف تناولوا طعام العشاء ، وظلوا يتحدثون مع المرشد العام ومع أعضاء مكتب الإرشاد حتى منتصف الليل .. ونشرت الصحف صورة لجمال عبد الناصر والمرشد العام يتصافحان .

(5) في 29/11/53 أي في اليوم التالي وهو يوم الأحد نشرت الصحف – المصري – ما يلي :

" حضرت وفود ضخمة من مختلف شعب القطر إلي المركز العام ، وكان المتظاهرون قد انفضوا قبل الساعة السابعة من صباح السبت ، ولم يبق إلا صالح عشماوي وأحمد عبد العزيز جلال اللذان غادرا المركز العام حين حضرت الوفود . وبلغ المصري أن عبد العزيز كامل كان ممن حاولوا التوفيق بين الفريقين .

وكان مكتب الإرشاد قد قرر الاجتماع بالمركز العام الساعة الثانية بعد الظهر ، وقبل الاجتماع كان قد حضر الطرفان ، فخطب عبد الحكيم عابدين مؤيدًا المرشد ، ثم تلاه الأساتذة سيد قطب رئيس قسم نشر الدعوة ، وحسن دوح عن الطلبة ، وعز الدين إبراهيم عن مكتب إداري القاهرة وسعيد رمضان والدكتور خميس ثم تكلم المرشد فقال :

" إنني لا أملك في هذا المجال التعبير عما يجول في نفسي ولا عما يجول في نفوسكم ، ولعل هذا الاجتماع خير دليل تقدمه علي أن الإخوان لا يزالون قوة متحدة ... ثم قال : وإذا كان الذين فصلوا يطلبون منا دليلاً علي إدانتهم ، فإن الدليل الذي قدموه أمس كان كافيًا . وإذا كنا قد سكتنا عنهم وأبينا أن نتكلم في أخطائهم فإن ذلك كان ترفقاً بهم .. وختم كلامه قائلاً : " إن الإخوان الذين زاروني أمس دون إذن مني أعلن أني قد سامحتهم . أما الذين أخطئوا في حق الدعوة فليس لها أن تتسامح في أخطاء تمسها " .

ثم بدأ مكتب الإرشاد اجتماعه بالتحقيق في حادث الأمس ، والاستماع إلي من كانوا بالمركز العام ومنهم صالح عشماوي وعبد العزيز جلال ومن أرسلهم المكتب للتفاهم وهم : عبد القادر عودة وعبد الحفيظ الصيفي وعبد العزيز كامل ، ثم أذاع المرشد العام البيان التالي إلي رؤساء المكاتب الإدارية الذين كانوا بالمركز العام واجتمع بهم :

" أرجو أن تبلغوا جميع الإخوان في محيط المكتب الإداري أن مكتب الإرشاد العام قرر بجلسته العادية المنعقدة في مساء يوم الأحد 15 ربيع الأول 1373هـ الموافق 22 نوفمبر 1953م فصل السادة أحمد زكي حسن وأحمد عادل كمال وعبد الرحمن السندي ومحمود الصباغ . ولقد صدر هذا القرار بعد الاستماع إلي البيانات المتعددة التي عرضت علي المكتب عن أخطائهم المتلاحقة في حق الدعوة والجماعة خلال العامين الماضيين ، والتي ثبت منها أنهم سلكوا مسلكاً لا يتفق وأغراض الجماعة وأنهم نقضوا البيعة وخرجوا علي الدعوة . ولما كان مكتب الإرشاد هو الجهة المهيمنة علي دعوة الإخوان المسلمين ، ويحمل أمانتها ، فليس للإخوان أن يسترسلوا في السؤال عن تفاصيل أسباب هذا القرار . كما يأمل المكتب الذي اتخذ هذا القرار – لصالح الدعوة المحض – أن يكتفي الإخوان بالعلم به ، وتنفيذ مقتضاه بكل دقة ، وألا يجعل هذا القرار موضع بحث أو مناقشة بينهم بأية حال من الأحوال ، وليعكفوا علي دعوتهم وينشطوا في أداء تبعاتهم في مراقبة الله والإقبال علي طاعته حرصًا علي الآخرة " .

وقد سأل مندوب " المصري " الأستاذ عبد الحكيم عابدين والشيخ محمد فرغلي عما إذا كان المكتب قد اتخذ قرارات فقررا أنه لم يتخذ ولا تزال الجلسة مستمرة في يوم تال .. كما علم مندوب " المصري " أن محمد مالك لم يكن ضمن المجموعة التي تظاهرت في منزل المرشد مع أنه تربطه رابطة مصاهرة مع أحد المفصولين وهو أحمد زكي .. وجاء " للمصري " بيان تأييد للأستاذ المرشد من طلبة جامعة الإسكندرية .

(6) في نفس اليوم نشرت الصحف – المصري – بيانًا جاءها من صالح عشماوي وزملائه :

" بسم الله الرحمن الرحيم . إن حرصنا علي سلامة الدعوة ووحدة الجماعة هو ما حدا بنا إلي التدخل بين الإخوان لتقريب وجهات النظر وحسم النزاع ، ودفع الأمور لتأخذ مجراها الصحيح .. أما وقد اتفقت الآراء علي تأليف لجنة يحتكم إليها الإخوان المتظلمون ، فإننا نرجو أن تجتاز الدعوة هذه المرحلة بسلام . ومازلنا عند موقفنا في تحري الحق وإقرار العدل والعمل علي إصلاح ذات البين .. ونحن نهيب بالإخوان أن يقدروا الموقف ، وأن يرعوا مسئولياتهم ومصلحة الدعوة قبل كل شيء ، والله المستعان " .

(7) في اليوم التالي وهو 30/11/1953 نشرت الصحف البيان التالي :

" استأنف مكتب الإرشاد اجتماعه مساء أمس حتى الواحدة صباح اليوم .. وأذاع الأستاذ عبد الحكيم عابدين علي الصحفيين هذه القرارات ، وهي :

أولاً : وقف كل من الأستاذين صالح عشماوي ومحمد الغزالي عضوي الهيئة التأسيسية وإحالتهما إلي لجنة تحقيق العضوية للفصل في أمرهما .

ثانيًا : وقف الشيخ سيد سابق وإحالته إلي اللجنة التي أمر المكتب بتشكيلها فيما نسب إليه .

ثالثًا : إحالة الأستاذ أحمد عبد العزيز جلال في لجنة تحقيق العضوية للفصل فيما نسب إليه .

رابعًا : اعتبار موقف الدكتور محمد سليمان منتهيًا بالبيان الذي كتبه وقرر ثقته بالمرشد العام واستنكاره لموقف الخارجين علي الجماعة " .

وقد سأل مندوب " المصري " الأستاذ عبد الحكيم عابدين عن الحكمة في التفريق بين الذين تقرر وقفهم في قرار المكتب ؟ فقال : لأن الأولين عضوان في الهيئة التأسيسية أما السيد سابق فليس عضوا فيها .

(8) في نفس اليوم نشرت الصحف – المصري – البيان التالي من صالح عشماوي وزملائه :

" بسم الله الرحمن الرحيم "

نعتقد أن من حق الإخوان المسلمين جميعًا معرفة الحقيقة المجردة عن الأحداث المؤسفة .. لقد أبرأنا ذمتنا ، وقمنا بالحق المفروض علينا ، عندما تدخلنا مسرعين لتهدئة النفوس وإنقاذ الدعوة من الخطر بعد تطور الأمور هذا التطور الخطير الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الدعوة ، نتيجة لتصرفات مكتب الإرشاد التي ثبت من الأحداث أنها لم تبن علي أساس من التحري الدقيق وتبين الأمور . ولكن المسعى الذي بذلناه لم يلق التقدير الذي يستحق من بعض أعضاء المكتب الذين ظلوا بعيدين عن مواجهة الموقف ، حتى بعد أن استدعيناهم لحسم الأمور ، بحجة أن قراراتهم لا تناقش وأن حكمهم لا معقب عليه ، وعلم الله أنه لولا أن مواجهتنا للإخوان الذين لجئوا للمركز العام بعد أن تخلي عن هذه المواجهة أعضاء المكتب – وهي مسئوليتهم الأولي – ولولا ما بذلناه من جهود لتهدئة الحالة لحدثت مآس تضيق بها ضمائر المؤمنين .

وكان ممن عاون علي تهدئة الحالة ، واشترك في مواجهة الموقف الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل الذي وعد الإخوان بحل المشكلة كما يأمل وكما يأملون هم , من توحيد صفوف الجماعة ، وتصحيح أي وضع خاطئ ، متعهدًا بالقيام بهذا العمل ثم انصرف الإخوان بعد أن تركوا الأمانة في أعناق إخوانهم أعضاء الهيئة التأسيسية ، الذين واجهوا الموقف وتحملوا تبعاته ، وفي الوقت الذي كان يعالج فيه الموقف في المركز العام توجه الإخوان محمد سليمان وطاهر الخشاب وعبد القادر عودة ومحمد الغزالي وعبد العزيز جلال لمنزل المرشد لإطلاعه علي الحقائق وبحث الموقف ، ولكنه لم يكن للأسف موجودًا في ذلك الوقت ، وفي اليوم التالي – السبت – تطورت الأمور كالتالي :

1 – دعاني البكباشي جمال عبد الناصر إلي منزله فتوجه عن اللجنة الأستاذ صالح عشماوي ومعه سيد سابق حيث وجدا البكباشي زكريا محيي الدين وزير الداخلية ، والصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد والشيخ محمد فرغلي مندوبًا عن مكتب الإرشاد . ثم بحث الموقف برمته في هذا الاجتماع . واتفق علي تكوين لجنة للتحقيق مع الإخوان المفصولين وتحديد موقفهم ، وعلي تهدئة الخواطر في الاجتماع الذي يعقد بعد العصر في المركز العام .

2 – وفي الوقت نفسه اتصل بنا الأستاذ عبد العزيز كامل وأبلغنا أنه أفلح في إقناع أعضاء المكتب للموافقة علي تكوين لجنة للتحقيق .

3 – وعلي هذا حضرنا الحفل المذكور للمساعدة في تهدئة النفوس ، في الوقت الذي كان فيه بعض خطباء الحفل يحاولون زيادة الفتنة اشتعالاً .

4 – وقد اجتمع منا الإخوان محمد الغزالي وأحمد عبد العزيز جلال مع أعضاء المكتب ، وشرحا له خطورة التعاون في معالجة الموقف وضرورة سرعة البت في الأمور .

5 – وفي ساعة متأخرة من الليل اتصل خمسة من أعضاء المكتب هم : الدكتور خميس حميدة والأساتذة : عمر التلمساني ، وعبد الرحمن البنا ، وعبد القادر عودة ، والسيد محمد حامد أبو النصر وأبلغونا أنهم وافقوا علي تأليف لجنة للتحقيق .

6 – علي هذا الأساس نشر بيان الأمس وفيه ذكرنا تكوين لجنة التحقيق ، ولكننا فوجئنا في الصباح بقرار بوقف 21 عضوًا وتأليف لجنة للتحقيق لا مع الإخوان المفصولين حسب الاتفاق ولكن مع الإخوان الذين احتجوا علي قرار الفصل .. وأعجب من ذلك أن ينشر تصريح للأستاذ عبد الحكيم عابدين بأن التحقيق لا يزال جاريًا معنا بواسطة مكتب الإرشاد ، مع أن هذا لم يحدث إطلاقاً ، ولا يجوز بنص قانون الجماعة الذي يجعل المكتب مسئولاً أمام الهيئة التأسيسية لا العكس . ونحن ماضون في خدمة الدعوة وفق تعاليم الإسلام وآدابه لا تصرفنا عن هذه الوجهة الكريمة أي تصرفات ، والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " .

يقول صاحب المذكرات :

علي السادة القراء أن يلاحظوا أن الإخوان بلجوئهم إلي جمال عبد الناصر هذه المرة إنما حاولوا معالجة الأحداث من منبعها .

(9) وفي 1/12/1953 وهو اليوم التالي نشرت الصحف نداءً من المرشد العام إلي جميع الإخوان هذا نصه :

" بسم الله الرحمن الرحيم "

أيها الإخوان .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد :

فيسرني أن أبلغكم صادق تقديري وخالص إعجابي بما أبديته من الغيرة علي دعوتكم ، والوفاء لبيعتكم ، والصدق والمحافظة علي وحدة صفوفكم ، سواء في الحشد الجامع الذي زخرت به دار المركز العام يوم السبت أو في الوفود التي تلاحقت من كافة الشعب والأقاليم إلي الدار تزيدني ثقة بإخلاصكم ، واطمئنانًا إلي قوة إيمانكم . كما أهنئكم بما وفقتم إليه من ضبط ومتانة الخلق حتى مرت هذه الكبوة بسلام ، والحمد لله . وإنه لمن فضل الله علي الدعوة ،وأصالة الخير في نفوس أبنائها ، أن كثيرًا من الشباب الذين ألموا بهذه الزلة ، أظهروا الندم والتوبة ، حتى لقد فرض بعضهم علي نفسه عقوبات يتطهر بها من أثر ما اقترفوا ، وأقبلوا يعبرون عن بالغ أسفهم لما فرط منهم ؛ مستغفرين الله تعالي ، معتذرين إلي الإخوان ومجددين العهد .

ولقد أعلنت من قبل أني سامحتهم ، وأحب أن يكون لذلك صداه في نفوس الإخوان كافة فلا يغلظوا للمخطئين القول ، ولا يعاملوهم بجفوة ، وإنما يحسنون النظر إليهم ، ويسعونهم بسماحة الأخوة ، حتى يستأنس الإخوان بإخوانهم ، وتمهد العواطف الكريمة السبيل إلي حسن التفاهم ، وإحلال الأخوة النبيلة محل الإعراض والتنافر .. وهذا ما لا يليق بأصحاب الدعوة التي تقوم علي تربية الفضائل في النفوس ، وتدعيم المثل العليا في الناس " .

يقول صاحب المذكرات : ينبغي أن يلاحظ القارئ أن كلمة المرشد هذه مقصود بها الإخوان الذين غرر بهم رءوس الفتنة ، والذين قرر المكتب فصل واحد وعشرين منهم .. وقد تنبه هؤلاء أخيرًا إلي أن الحقائق قد زيفت عليهم فتابوا وندموا . أما رءوس الفتنة فإنهم ظلوا سادرين في غيهم ؛ ولذا فإنهم غير مقصودين بهذه الكلمة .


الفصل الثاني : التحقيق مع الثلاثة الكبار الموقوفين

(10) أحال مكتب الإرشاد العام إلي لجنة تحقيق العضوية السادة صالح عشماوي وأحمد عبد العزيز جلال ومحمد الغزالي أعضاء الهيئة التأسيسية للتحقيق معهم ، بكتاب تضمن الاتهامات الموجهة إليهم .

(11) اجتمعت لجنة تحقيق العضوية لمناقشة كتاب مكتب الإرشاد ودراسته وتحديد الخطوات التي تتبع لإجراء التحقيق ، فكان أول شيء واجه اللجنة أن الأخعبد العزيز كامل رئيس اللجنة قال : إنه يتنحي عن الاشتراك في هذا التحقيق ؛ بدعوى أنه ممن حاولوا الإصلاح بين الطرفين وهذا يحجبه عن أن يكون محققاً فيما هو منسوب لأحد الطرفين . وقد حاولت أن أقنعه بأن ذلك لا يطعن في تحقيقه ، إلا أنه أصر علي رأيه ، ثم حاولت أن أقنعه بأن يشترك في التحقيق علي أنه مجرد عضو باللجنة فرفض هذا أيضًا . وقد ذهب بعض الإخوان في تعليل هذا الموقف في ذلك الوقت بعض المذاهب . كما أن اللجنة استبعدت أحد أعضائها وهو الشيخ محمد الغزالي حتى يتم التحقيق معه وأجرت انتخاب رئيس آخر ، وقد وقع اختيارهم عليّ .

(12) قامت اللجنة بالتحقيق في الموضوع ، وأصدرت قرارها الذي نشر بالصحف في أبرز مكان وهذا هو نص ما نشر يوم 10/12/1953 :

1- إزالة صفة العضوية من الإخوان المسلمين عن صالح عشماوي والغزالي وأحمد عبد العزيز .

2- تطبيق 3 مواد – جواز استئناف القرار – رد صالح عشماوي .

عقدت لجنة العضوية لجمعية الإخوان المسلمين اجتماعًا مساء أمس قررت في نهايته بالإجماع إزالة صفة العضوية عن الأساتذة صالح عشماوي ومحمد الغزالي وأحمد عبد العزيز جلال . وكان مكتب الإرشاد مجتمعًا عند صدور هذا القرار وقد عرض عليه فاعتمده .

حيثيات القرار : وقد قالت لجنة العضوية في حيثيات قرارها ما يلي :

عمدتنا من القانون في هذا التطبيق المواد الثلاث الآتية :

المادة 4 : عضو الهيئة هو كل مسلم عرف مقاصد الدعوة ووسائلها ، وتعهد بأن يناصرها ويحترم نظامها ، وينهض بواجبات عضويتها ، ويعمل علي تحقيق أغراضها ، ثم وافقت إدارة الشعبة التي ينتمي إليه علي قبوله ، وبايع علي ذلك ، وأقسم عليه ، ونص البيعة : " أعاهد الله العلي العظيم علي التمسك بدعوة الإخوان المسلمين والجهاد في سبيلها والقيام بشرائط عضويتها ، والثقة التامة بقيادتها ، والسمع والطاعة في المنشط والمكره ، وأقسم بالله العظيم علي ذلك وأبايع عليه ، والله علي ما أقول وكيل " .

المادة 36 : لهذه الهيئة " التأسيسية " أن تقرر في أي اجتماع منح بعض الإخوان حق العضوية للهيئة التأسيسية بشرط أن تتوفر فيمن يراد منحه إياها هذه الشروط :

أ – أن يكون من الأعضاء المثبتين .

ب – ألا تقل سنه عن 25 سنة هلالية .

ج - أن يكون قد مضي علي اتصاله بالدعوة خمس سنوات علي الأقل .

د – أن يكون متصفًا بالصفات الخلقية والثقافية والعملية التي تؤهله لذلك .

المادة 39 : تزول صفة العضوية عن عضو الهيئة التأسيسية بالاستعفاء ، وبفقدانه أحد الشروط التي تؤهله للعضوية ، أو بقرار من اللجنة المنصوص عليها في المادة 37 بالشروط الواردة فيها ، أو بقرار من الهيئة نفسها .. وفي كل الأحوال يجوز للمرشد العام أن يأمر بوقف العضة علي أن يعرض أمره فورًا علي الهيئة المختصة بالنظر في أمره . واللجنة بعد أن ناقشت قرار الاتهام علي ضوء ما اقتنعت به من أدلة مادية وقرائن مضيئة ، تستخلص أن المدعي عليهم قد ارتكبوا الأخطاء الآتية :

أولاً : أنهم اعتصموا في دار المركز العام ، وظاهروا الشباب المعتصمين وجرءوهم علي ذلك ، وبذلك حرضوا علي الخروج علي القانون .

ثانيًا : أنهم ادعوا كذبًا أن المرشد العام أعلن استقالته علي الملأ .

ثالثاً : أنهم أصدروا قرارات لا يخولهم إياها قانون الإخوان المسلمين ؛ حيث وقفوا مكتب الإرشاد ، وألغوا قرار المكتب بفصل الأربعة وبذلك يكونون قد خرجوا علي القانون ونقضوا العهد ونكثوا البيعة .

رابعًا : أنهم افتأتوا علي هيئة الإخوان المسلمين بتنصيبهم أنفسهم أوصياء عليها دون الرجوع إليها أو أخذ تفويض منها بذلك .

خامسًا : أنهم متصلون في شئون الدعوة بأحد الأربعة الذين فصلوا خصوصًا ليلة الاعتصام وفي الأيام التالية ، وفي هذا خروج علي قرار الفصل الذي أصدرته هيئة شرعية . سادسًا : أنهم أساءوا سمعة الدعوة ، وحطوا من كرامتها أمام الرأي العام الداخلي والخارجي باتخاذهم الصحف السيارة لنشر هذه القرارات .

وبناءً علي ذلاك قررت اللجنة بالإجماع إزالة صفة العضوية العامة في الدعوة عن السادة صالح عشماوي ومحمد الغزالي وأحمد عبد العزيز جلال .

3 من شهر ربيع الآخر 1373هـ ... 9/12/1953م

رئيس اللجنة ... محمود عبد الحليم

السكرتير ... سعد الدين الوليلي

(13) وقد أرسلت لجنة العضوية بقرارها إلي المرشد العام . وكان من المفروض أن يعتمده مباشرة إذا وافق عليه .. إلا أنه إمعانًا في تلمس أسباب العدالة تنازل عن حقه هذا وعرضه علي مكتب الإرشاد الذي كان مجتمعًا بكامل أعشائه فوافق عليه بالإجماع ، وحينئذ وقعه المرشد العام . وقد أرسل القرار إلي الثلاثة مبينًا فيه أن لهم الحق في استئناف هذا القرار إلي الهيئة التأسيسية بطلب كتابي منهم يرسل إلي المرشد العام ، الذي عليه أن يعرضه علي مكتب الإرشاد أولاً . ولكن المكتب فوض الأستاذ المرشد في تلقي الطلب الكتابي وعرضه علي الهيئة التأسيسية في اجتماعها علي وجه السرعة ؛ تمكينًَا لهم من تيسير إجراءات التقاضي والانتفاع بكل الفرص التي أعطاها إياها قانون الإخوان .

(14) قدم الثلاثة طلباتهم ، وبالرغم من أنهم لم يذكروا كلمة الاستئناف في طلبهم وإصرار بعض أعضاء الهيئة التأسيسية علي رفض الاستئناف شكلاً حيث قدموه علي وجه خاطئ يتضمن المضي في الخروج علي أوضاع الجماعة ، فقد رأي المرشد العام أن تعتبر الهيئة هذا الطلب الكتابي استئنافاً قانونيًا وتنظر فيه .

(15) انعقدت جلسة الهيئة التأسيسية في مساء يوم الخميس 10 ديسمبر 1953 وأذن للثلاثة بالحضور . وقرأ رئيس لجنة العضوية قرار اللجنة وتقريرها التفصيلي – الذي سنثبت نصه إن شاء الله بعد قليل – ومكنت الهيئة بعد ذلك الثلاثة من أن يسردوا قصتهم ، ويشرحوا موقفهم ثلاث ساعات كاملة لم تعترضهم في خلالها أدنى مقاطعة .

(16) بعد استيضاحات ومناقشات هادئة ظهر من روح الهيئة التأسيسية الإجماع علي إدانتهم وإن بدت رغبات محدودة في تمييز بعضهم عن بعض ، وفي الرأفة ببعضهم مع وجوب العقوبة .. وأخيرًا أصدرت الهيئة قرارها بتأييد قرار لجنة العضوية بأغلبية 92 صوتًا ضد 23 كانت مخالفتهم منصبة علي نوع العقوبة .

(17) في أثناء شرح هؤلاء الإخوة لمواقفهم في أثناء الجلسة ، تناولني بعض بألسنة حداد ، لاسيما الأخ الشيخ محمد الغزالي ، وقد طلب إليّ بعض إخوان الهيئة أن أرد عليهم في هذا الجانب الشخصي ، ولكنني رفضت أن أرد قائلاً : إنهم في موقف لا يحسدون عليه ، وأنا عاذرهم ومسامح ومقدر ما هم فيه من حرج .. وآمل أن يفيئوا إلي الصواب في يوم من الأيام .

ولعل تسامحي هذا في حقي الشخصي قد أثر في نفس بعضهم ، فبعد نحو ثلاثة أيام من هذه الجلسة كنت سائرًا في ميدان العتبة ظهرًا ، فإذا بي أفاجأ بمن يقبل نحوي ويلقي إليّ بالتحية ويعانقني معتذرًا عما بدر منه في أثناء الجلسة .. وكان هذا هو الأخ الشيخ محمد الغزالي الذي بادلته ودًا بود وحباً بحب ، وكررت عليه ما قلته في أثناء الجلسة من أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية .

ملاحظة هامة :

ترجع أهمية هذه الملاحظة إلي أن أحداثاً بالغة الأهمية وقعت فيما بعد ، وكانت هذه الملاحظة أصلاً للمحور الذي دارت عليه هذه الأحداث .

كان نشر هذا القرار مذيلاً باسمي في الصحف مفاجأة لي .. لا لأنه كان معروفاً في ذلك الوقت أن هذا القرار ، الإدانة فيه ليست موجهة للثلاثة المذكورة أسماؤهم وإنما هي موجهة إلي الشخصية صاحبة السلطة التي وراءهم ، وإنما كان مفاجأة لي وصدمة لأني بطبيعتي التي نشأت عليها أوثر دائماً أن أعمل شخصيًا مستخفيًا خشية الافتتان وانتقاص الأجر والمثوبة ، التي هي هدف كل مؤمن من العمل .

ولقد تحاشيت من قبل أسباب الظهور حين اعتذرت عن عضوية مكتب الإرشاد يوم عرضها عليّ المرشد العام الأستاذ الهضيبي .. ولكن شاءت إرادة الله أن يتخلي الأخ عبد العزيز كامل عن رياسة لجنة العضوية في أحرج موقف واعصب ظروف .. فتكون النتيجة أن ينشر اسمي في الصحف تحت أخطر قرار في حينه ، مع أنني أرسلت بالقرار بهذه الصورة الرسمية إلي المرشد العام ، وكان اعتقادي أن المرشد لن يرسله إلي الصحف بنصه كما وصله بل بملخص له يمليه علي مندوبي الصحف بنفسه .

وأرجع فأكرر ما أشرت إليه أن هذه الملاحظة التي تبدو وكأنها مقحمة إقحامًا الآن حيث لا يدعو المقام إلي إثارة مثل هذا الشعور ، وهذه الأحاسيس إنما لفت النظر إليها تمهيدًا في ذهن القارئ لأحداث خطيرة قادمة .

الفصل الثالث : أضواء علي أحداث المؤامرة في التقرير الكامل للجنة العضوية

عقب جلسة الهيئة التأسيسية قام المركز العام – قسم نشر الدعوة – بطبع رسالة بعنوان : " حتى يعلم الإخوان – القول الفصل " في نحو أربعين صفحة من القطع الصغير ، تضم قرار الاتهام الذي قدّم به مكتب الإرشاد الثلاثة المطلوب التحقيق معهم ، والتقرير التفصيلي للجنة تحقيق العضوية في هذه القضية . وكان الهدف من طبع هذه الرسالة وتوزيعها فيما يبدو إحاطة الإخوان في مختلف البلاد علمًا بالحقائق لهذه الفتنة .. ونظرًا لندرة وجود هذه الرسالة في أيامنا هذه ، ولما تشتمل عليه من حقائق وأحداث تاريخية ذات دلالات علي ما تلاها من أحداث .. رأيت أن أثبت في هذا الفصل نص هذه الرسالة التي استعرتها من الأخ الكريم الأستاذ عباس السيسي .

إلي الإخوان المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وعلي آله وصحبه ومن والاه

أيها الإخوان الفضلاء :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. ولعلكم في خير وعافية في دينكم ودنياكم ، قائمين بالحق لا يضركم من خالفكم حتى يأتي وعد الله .

وبعد :

فقد حملت إليكم الصحف بين الحين والحين أنباء متفرقة عن تفاصيل الأحداث الأخيرة التي مرت بها الجماعة ، وحرصًا منا علي إيضاح الحقائق وطمأنينة القلوب ، فنحن نضع تحت أنظار الإخوان تطورات هذه الأحداث ، ونلحقها بقرار لجنة العضوية مصحوبًا بالأسباب ، حتى يزداد المؤمنون إيمانًا مع إيمانهم ولا يرتاب أحد من الإخوان .

أولاً : موقف مكتب الإرشاد :

فوجئ الإخوان بما حدث من شغب في المركز العام ، وما صدر من بيان خلال هذا الشغب يحمل توقيعات الأساتذة صالح عشماوي وأحمد عبد العزيز جلال ومحمد الغزالي والدكتور محمد سليمان . زاعمين أنهم غضبوا لأربعة من الإخوان فصلهم المكتب دون تحقيق مخالفًا بذلك – كما أرجفوا – قانون الجماعة ومبادئ الإسلام . وهم يعلمون كما يعلم المفصولون أن المكتب اتخذ قراره هذا في حدود ما خوله القانون من اختصاص صريح في مادته السابعة . كما يعلمون أن المكتب لم يلجأ إلي ذلك إلا بعد معاناة الدعوة لثلاث سنوات لأخطائهم التي كانت أداة تفرقة ومثار خلل في الصفوف ، وبعد أن فشلت جميع المحاولات التي اتخذها لإلزامهم نظم الجماعة وأوضاعها . ومع كل ذلك فقد تحري المكتب صحة الأدلة دون أقل إخلال بواجب التبيين والتحقيق ، بل زاد أمر هؤلاء الأربعة رعاية واهتمامًا فتلقي بالقبول أول ظلامة وردت من أحدهم في اليوم التالي لقرار المكتب ووضعها موضع النظر ، وكذلك الظلامة الثانية . ولم يكن ليأبي مثل هذه الرعاية سائر المفصولين لو تقدموا إليه متظلمين ، ولا تزال اللجنة المشكلة من الأساتذة : محمد فرغلي وعمر التلمساني ومحمد حامد أبو النصر توالي بحث هذه الظلامات بجانب عملها في تحقيق الأحداث الأخيرة وما أعقب من مسئوليات .

ورغم وضوح الخطأ وثبوت التبعة ، فقد رأي مكتب الإرشاد أن يطيل الحبل ويفسح الصدر ، فأوضح استعداده لأن يقبل هذه العثرة ، مكتفيًا بأن يصدر الموقعون علي البيان بيانًا آخر يدفعون فيه عن أنفسهم إثم الخروج علي آداب الإسلام ونظام الجماعة – وما كاد الأخ الدكتور محمد سليمان يصدر بيانه في هذا الصدد حتى قبل عذره ، ولم يقدم للجنة العضوية اكتفاءً بهذا البيان . كذلك لم يشأ مكتب الإرشاد أن يعامل الأستاذ أحمد عبد العزيز جلال كما عامل زميليه ، لأنه وعد بإصدار بيان يوضح فيه موقفه . وهكذا لم يستعمل المرشد العام حقه في إيقاف الخارجين علي أنظمة الجماعة إلا في أضيق نطاق ، وهو الحق المخول له بمقتضي المادة 39 من القانون الأساسي ، ولم يستعمله إلا بعد الاستئناس برأي مكتب الإرشاد العام . ولم يكن مناص من تحويل المخطئين ، من أوقف منهم لإصراره ، ومن لم يوقف اعتمادًا علي إبداء رغبته في تصحيح موقفه وحملاً لأمره علي أحسن الوجوه – إحالة هؤلاء جميعًا للجنة العضوية لتتولي تحقيق القضية .

ثانيًا : لجنة العضوية :

ولجنة العضوية كما تعلمون المشكلة بمقتضي المادة 37 من القانون الأساسي ، والمختارة من بين أعضاء الهيئة التأسيسية وتنتخبها الهيئة كما تنتخب مكتب الإرشاد ، فهي لجنة مستقلة لا ولاية للمكتب عليها ، وهي المختصة بمحاكمة أعضاء الهيئة التأسيسية بمقتضي المادة 37 نفسها .

وقد أحال المكتب إليها الأمر مبينًا وجهة نظره ، ومستعدًا لتقبل قضائها في هذا الأمر . ولكن الموقعين علي البيان رفضوا أن يتحاكموا إلي اللجنة ؛ زاعمين في بيان نشروه بالصحف أن مكتب الإرشاد الذي أحالهم إليها يعتبر طرف خصومة ، مدعين في مكابرة عجيبة أنه لا يملك الفصل في القضية علي هذا الوجه إلا الهيئة التأسيسية ، ولو أخذ إليها من المكتب ، وبذلك لا يملك المكتب أن يؤدي أمانته في إحالة ما يراه للتحقيق ، ولا تملك اللجنة أن تباشر اختصاصها في التحقيق علي نحو ما أشارت إليه في تقريرها الفياض وبعد أن استمعت إلي شهادة الشهود ومنهم الأستاذ عبد العزيز كامل والأستاذ الشيخ محمد فرغلي . ولذلك مضت اللجنة في عملها فرأت أن التهمة بالنسبة لهؤلاء ثابتة ، والأدلة قائمة . وقد أصدرت حكمها بعد أن يسرت لهم كل أسباب الدفاع عن أنفسهم فأبوا إلا الرفض والإعراض ، وهو مرفق بهذا مع أسبابه وحيثياته .. وقد شاء فضيلة المرشد العام ألا يستعمل حقه المقرر في القانون باعتماد هذا القرار إلا بعد الاستئناس برأي مكتب الإرشاد . وقد انعقد المكتب وحضر الجلسة جميع أعضائه ماعدا الأستاذ الشيخ عبد المعز عبد الستار لغيابه في الحجاز . أما الحاضرون وعددهم اثنا عشر عضوًا فهم الإخوان الأساتذة : محمد خميس والبهي الخولي ومحمد فرغلي ومحمد حامد أبو النصر وأحمد شريت وحسين كمال الدين وكمال خليفة وعبد الرحمن البنا وعمر التلمساني وعبد القادر عودة وعبد العزيز عطيه وعبد الحكيم عابدين .

وقد قرئ عليه تقرير لجنة العضوية بإزالة صفة العضوية في الدعوة عن ثلاثتهم ، وطلب فضيلة المرشد رأيهم اعتماده فوافقوا بالإجماع عليه ، وعندئذ وقع فضيلته باعتماد القرار . وقد بالغ المكتب في إعطائهم كل فرصة للدفاع عن أنفسهم فعرض فضيلة المرشد العام أن يعرض أي استئناف يقدم منهم علي الهيئة التأسيسية في اجتماعها القادم دون رجوع إلي المكتب ، وأبلغهم السكرتير العام ذلك مع قرار اللجنة المعتمد في مساء الأربعاء السابق لجلسة الهيئة التأسيسية ليوجه نظرهم إلي حقهم في الاستئناف أمامها .

ثالثًا : الاستئناف للهيئة التأسيسية :

ثم كان أن عقد اجتماع الهيئة التأسيسية الذي كان مقررًا عقده منذ الجلسة الماضية لاستكمال بعض ما ورد في جدول أعمالها مما لم يتسع له الوقت . ورأي هؤلاء الثلاثة أن يتقدموا للهيئة التأسيسية يطلبون عرض الأمر عليها ، وهنا نسجل للإخوان الحقائق الآتية :

1 – أن مكتب الإرشاد قرر تفويض المرشد العام في تلقي الطلب الكتابي من هؤلاء المفصولين وعرضه علي الهيئة في اجتماعها علي وجه السرعة ، دون الحاجة إلي نظر هذا الطلب أمام المكتب مجتمعًا في جلسة قانونية طبقاً للمادة 37 من القانون ، تمكينًا لهؤلاء من تيسير إجراءات التقاضي ، والانتفاع بكل الفرص التي أعطاهم إياها قانون الإخوان .

2 – ورغم أنهم لم يذكروا كلمة الاستئناف في طلبهم وإصرار بعض أعضاء الهيئة التأسيسية علي رفض الاستئناف شكلاً لتقديمه علي وجه خاطئ يتضمن المضي في الخروج علي أوضاع الجماعة ، فقد رأي المرشد العام أن تعتبر الهيئة هذا الطلب الكتابي استئنافاً قانونيًا وتنظر فيه .

3 – وهكذا أذن لهم بالحضور ، ومكنتهم الهيئة أن يسردوا موقفهم ثلاث ساعات كاملة لم يجدوا خلالها أدني معارضة أو مقاطعة .

4 - بعد استيضاحات ومناقشات هادئة ظهر من روح الهيئة التأسيسية الإجماع علي إدانتهم وإن بدت رغبات محدودة في تمييز بعضهم عن بعض ، وفي الرأفة ببعضهم مع وجوب العقوبة .. وأخيرًا أصدرت الهيئة قرارها بتأييد قرار لجنة العضوية بأغلبية 92 صوتًا ضد 23 كانت مخالفتهم منصبة علي نوع العقوبة .

أيها الأخوة الفضلاء :

هذه هي صحائف تلك الأحداث جلية واضحة ؛ لتتبينوا مدى الدقة والأمانة اللتين تحراهما فضيلة المرشد العام ومكتب الإرشاد في تطبيق قانوننا الأساسي ، بل ما فوق الدقة من سماحة في بعض الأحيان ، رغم ما أبداه هؤلاء من جنوح عن النظام أولاً وأخيرًا . ونحن نختم هذا البيان بما صرح به فضيلة المرشد العام غداة نشر القرار وتعقيبًا علي رد هؤلاء عليه ، حيث قال :

" إن الإخوان المسلمين كانوا ولازالوا صفاً واحدًا ، ولا يستطيعون أن يعملوا إلا وهذا شأنهم .. وينبغي أن يأخذ كل أخ مسلم نفسه بهذا المعني ، ويروضها علي احترام أنظمة الجماعة ومقرراتها ، فإذا خرج أي إنسان علي ذلك علمنا أنه لا يستطيع أن يلائم بين نفسه وبين هذه الأنظمة ، واضطررنا إلي إقصائه عنا ، داعين له بحسن التوفيق في خدمة الإسلام والمسلمين . وهذا هو شأن إخواننا الذين أزيلت عنهم عضوية الجماعة ، وفيما عدا هذا المعني الذي أسلفنا فليس لنا بهم شأن ، لا تطعن علي إيمانهم ولا علي سلوكهم ، والله يتولانا جميعًا بالمعونة والسداد " .

وإننا نرجو أن تحيطوا علمًا بهذه التفاصيل ، وأن تذيعوها مع قرار لجنة تحقيق العضوية بأسبابه علي كافة الإخوان ؛ تمكينًا لهم من فهم الحقائق ، ووقاية من الاستماع إلي أقوال أو بيانات تخالف الحق وتند عن الصدق والأمانة . كما نرجو أن يكتفي الإخوان من الموقف بالعلم بهذه الحقائق ، وألا يجعلوها فيما بينهم محل جدل أو نقاش .. وأن يجعلوا موقفهم وحديثهم عمن أعفتهم الهيئة من عضوية في حدود الأدب الكامل والسماحة الإسلامية التي تمثلت في تصريح المرشد العام . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ... والسلام عليكم رحمة الله وبركاته " .

السكرتير العام

عبد الحكيم عابدين


من مكتب الإرشاد إلي لجنة العضوية

بسم الله الرحمن الرحيم

" حضرة الأخ الكريم رئيس لجنة تحقيق العضوية .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

وبعد :

تنفيذًا لقرار مكتب الإرشاد العام بتاريخ 22 ربيع الأول سنة 1373هـ والموافق 29 ديسمبر سنة 1953م ، نحيل إليكم الأساتذة صالح عشماوي ومحمد الغزالي وأحمد عبد العزيز جلال ، للفصل في أمرهم ، مع العلم بأن المكتب وقف الأول والثاني . أما التهم التي من أجلها أحيلوا للجنة – من وقف منهم ومن لم يوقف – فهي :

أولاً : أنهم ظاهروا فكرة التمرد علي النظم والأوضاع بوقوفهم إلي جانب الشبان المتمردين علي المرشد العام ومكتب الإرشاد واعتصامهم معهم في دار المركز العام مساء يوم الجمعة بتاريخ 20 من ربيع الأول 1373هـ الموافق 27 ديسمبر 1953م .

ثانيًا : أنهم أكدوا وقوفهم أنصارًا لهذا التمرد بل زادوه اندفاعًا وأغروهم بالاسترسال إلي أسوأ الحدود ؛ ببيانهم الذي نشرته الصحف صباح السبت وما فيه من الإرجاف بالدعوة والافتراء علي قيادتها ، بما زعموا من أن المرشد العام أعلن استقالته علي الملأ ، وبما اصطنعوا لأنفسهم من حقوق ليست لهم في :

أ – إلغاء قرار مكتب الإرشاد السابق صدوره بفصل أربعة من أعضاء الجماعة .

ب – ادعاء وقف مكتب الإرشاد العام ، مع أن هذا الحق لا تملكه أية سلطة في الدعوة ، فضلاً عن أفراد من أعضاء الهيئة التأسيسية ليست لهم أية صفة في وقف عضو واحد في أية شعبة من شعب الإخوان .

ثالثًا : أنهم أسفروا عما في نفوسهم من أهواء ومآرب شخصية بما اجترأوا عليه من إعلان أنفسهم أوصياء علي الجماعة وقوَّما علي شئون الدعوة ، حيث لا أثارة من صفة تخولهم ما يدعون .

رابعًا : أنهم عمدوا إلي إذاعة السوء وإشاعة أنباء التفرقة بين الصفوف بما أقدموا عليه من نشر قراراتهم الواهمة في الصحف ، بل إن إصدار بيان بتوقيعهم هو الذي خلق كيانًا لهذه الهفوة التي وقع فيها شبان أبرياء ، إذ لولا نفر من كبار الإخوان بجانبهم لما تشجع المتمردون ، ولا عنيت الصحف بإصدار بيان لنفر أكثرهم من النشء المخدوعين .

خامسًا : أنهم أعطوا الفرصة لتبيين ما في نفوسهم لتوضيح موقفهم باستجواب بعضهم أمام مكتب الإرشاد ، فظهر إصرارهم علي ما صنعوا رغم إبراز المكتب لهم ما في تصرفاتهم من خطأ جسيم وخروج عن الدعوة .

سادسًا : أن الأستاذ صالح عشماوي لم يمثل أمام المكتب رغم تبليغه رغبة المكتب في سماع أقواله مساء يوم السبت ، وتبليغ كل مظان وجوده يوم الأحد لضرورة حضوره ، وأنه قد استبان موقفه من المعلومات التي أدلي بها الأستاذ محمد فرغلي عضو المكتب والأستاذ عبد العزيز كامل عضو الهيئة التأسيسية ، ويمكن سؤالهما عن تفاصيل ما يعلمان .

سابعًا : أن الأستاذ أحمد عبد العزيز جلال أبدي أمام المكتب استعداده للعودة إلي الحق ، ووعد بإصدار بيان يقرر فيه التزامه بأوضاع الجماعة وثقته في المرشد والمكتب . ثم فوجئنا في صباح الأحد ببيان جديد اشترك في توقيعه يدل علي تمسكه وزملائه بموقفهم السابق إزاء الجماعة .

ثامنًا : أنهم مجتمعين قد اشتركوا في إصدار بيان نشر صباح الأحد بالصحف ادعوا فيه تكوين لجنة تحكيم بين الإخوان بفريقيهم كما يزعمون ، وأنهم في هذا البيان نفسه أكدوا تمسكهم بمضمون البيان الأول بقولهم : ومازلنا عند موقفنا في تحري الحق وإقرار العدل وإصلاح ذات البين . فضلاً عما في ذلك من إشعار الرأي العام بوجود خصومة ضخمة في موقف لا يعدو أن يكون قيامًا من الجماعة بواجبها في مؤاخذة بعض المخطئين من أعضائها .

تاسعًا : أنهم أصدورا بيانًا نشرته الصحف صباح الاثنين 23 ربيع الأول 1373هـ الموافق 30 ديسمبر 1953م ضمنوه كثيرًا من الانحراف عن الحق والمغالطات التي تزيد في توضيح اعتدائهم علي مكتب الإرشاد ، وهو السلطة الشرعية في الدعوة ، من مثل قولهم : " ويعلم الله لولا مواجهتنا الإخوان الذين لجئوا للمركز العام بعد أن تخلي عن هذه المواجهة أعضاء مكتب الإرشاد في حين أنهم يعلمون أن الأمر دبر خلسة من مكتب الإرشاد وفي ليلة عطلة الدار ، وأنهم وحدهم هم الذين علموا من قبل أو من بعد بأمر هذا التجمع ، وكانوا وحجهم موضع الرضا من هؤلاء الشبان ، كما يعلمون أنه ما من عضو من أعضاء المكتب وصله النبأ إلا وحضر علي الفور وحاول علاج الموقف ولكنه لم يستطع لأسباب يعلمها الشبان المجتمعون وهؤلاء المتظاهرون أو المدبرون ، بل بلغ الأمر بهؤلاء الشبان أن منعوا السكرتير العام من البقاء معهم ، ورفضوا الاستماع إلي الأستاذ عبد القادر عودة رغم الجهد الذي بذله لإبلاغهم كلمة الحق . بينما كانت كلمات أصحاب هذا البيان تقابل بالارتياح كأنهم لها في انتظار أو كأنهم معهم علي اتفاق .

عاشرًا : أنهم بهذا البيان الأخير أكدوا بكل مظاهر التأكيد إصرارهم علي موقف الخروج الذي اختاروه لأنفسهم رغم بذل النصح لهم ، وضرب المثل الذي ضربه لهم زميلهم الدكتور محمد سليمان برجوعه إلي الحق وعدوله عن موقفه .

حادي عشر : أن الموقعين علي البيان كانوا المستشارين الحقيقيين للشباب المعتصمين ، وأن الأستاذين صالح عشماوي وسيد سابق كانا في خلوة معهم طوال الوقت ، وكانوا يستمدونهما الرأي في كل خطوة كما يشهد بذلك الأخ محمد هارون المجددي . فإذا أضيف إلي ذلك أن الشبان رفضوا إدخال العقلاء من الإخوان إلي الدار بعد وقت قضاه الحراس في الاستئذان من الداخل ، أمكن القول بأن رفض دخول العقلاء كالأستاذ سيد قطب كان ثمرة الاستشارة التي يتلقاها الشبان من الأستاذ صالح وزملائه .

ثاني عشر : أن الأستاذ صالح عشماوي كان عقبة في سبيل المسعى الرشيد الذي قام به الأخ عبد العزيز كامل لإخلاء الدار من هؤلاء الشبان ، وذلك لإصرار الحاج صالح شخصيًا علي ضرورة البقاء في الدار والمبيت فيها حتى رغم خروج الثائرين أنفسهم . وإن تمسكه علنًا بالبقاء وطول مجادلته في ذلك للأستاذ عبد العزيز كامل أمام بعض الشبان كان دليلاً قاطعًا علي أن فكرة الاعتصام بالدار وليدة رسمه أو علي الأقل موضع ارتياحه وتأييده .

ويكفي أن تعلموا أن الأستاذ صالح عشماوي بقي بالدار بعد خلوها من الجميع متشبثًا ألا يغادرها ، وأن أقصي ما أمكن الوصول إليه مع صالح هو أن يغادرها بعد الأخ عبد العزيز كامل بنحو ساعة ريثما تعود سيارته من توصيل الأخ عبد العزيز كامل لمنزل المرشد العام . ومن البداهة بمكان أو مبيت الأستاذ صالح عشماوي بالدار لا يثير شيئًا من الاهتمام ولكن له دلالته علي مظاهرته لفكرة الاعتصام بالدار .

ثالث عشر : أن الأستاذ عبد القادر عودة طلب من الأستاذ صالح عشماوي الحضور إلي منزل المرشد العام فأبي الاستجابة له ، وكذلك رغب إليه الأستاذ عمر التلمساني في هذا لم يسمع لرجائه .

رابع عشر : أن الأستاذ صالح عشماوي وزملاءه لا يزالون مع المفصولين علي صلة خاصة لا يمكن تفسيرها مع هذه الملابسات إلا بأنها مشاركة لهم في التآمر الذي ظهرت ثمرته مساء الجمعة ، وقد ثبتت هذه الصلة من رؤية الأستاذ عبد العزيز كامل للأستاذين صالح عشماوي وسيد سابق في خلوة مع الأستاذ عبد الرحمن السندي بدار الكتاب العربي يوم السبت ومن اعتراف الأستاذ أحمد جلال أمام المكتب .

خامس عشر : أن مجلة الأستاذ صالح عشماوي المسماة " مجلة الدعوة " نشرت بجوار مقالة رئيس التحرير خبرًا مكذوبًا زعم فيه استقالة الأخوين عبد العزيز كامل ومحمد سليمان بقصد بلبلة الخواطر ، والإبهام بأن الإخوان لازالوا علي خلاف مع القيادة ومكتب الإرشاد . سادس عشر : أن مقاله الافتتاحي في نفس المجلة وتصوير المجلة للحادث ينطوي علي أكذب المغالطات والمهاجمة لقيادة الإخوان ومكتب الإرشاد ، ويعتبر إصرارًا علي التمادي في موقف النكث والخروج .

يا حضرات أعضاء اللجنة :

أ – ومن جملة الاتهامات يري مكتب الإرشاد العام أن أصحاب البيان الثلاثة ، قد عرضوا أنفسهم لزوال صفة عضوية الهيئة التأسيسية عنهم وفقاً للمادة 39 من قانون النظام الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين ؛ لفقدانهم أحد الشروط التي تؤهلهم للعضوية والمنصوص عليها في البند " د " من المادة 36 من هذا القانون ؛ إذ أن ما صنعوه لا يتفق بحال من الأحوال مع الصفات الخلقية والعملية التي تؤهل الرجل لعضوية الهيئة التأسيسية .

ب – أنهم فقدوا بهذه التصرفات أهلية العضوية العادية في جماعة الإخوان المسلمين والمنصوص عليها في المادة " 4 " من القانون وفيها اشتراط أن يتعهد العضو باحترام نظام الدعوة . ولا ريب أن ما اجترحوه ليس من احترام الدعوة ولا النهوض بواجبات عضويتها وتحقيق أغراضها في قليل أو كثير .

ج – أنهم حنثوا باليمين التي يعطيها العضو العادي في أي شعبة والموضحة بالفقرة الثانية من المادة " 4 " من هذا القانون ، وفيها القيام بشرط عضويتها والثقة التامة بقيادتها ، والسمع والطاعة في المنشط والمكره . ومن البداهة بمكان أن ما اقترف الموقعون علي البيان من تصرفات بمنأى عن رعاية هذا القسم الغليظ .

يا حضرات أعضاء اللجنة :

هذه هي الوقائع التي تدين أصحاب البيانات الطائشة والتي تستوجب بأدلتها المعروضة تطبيق المادة " 39 " بزوال صفة عضوية الهيئة التأسيسية والمادة " 4 " بزوال صفة العضوية العادية كما حددتها النصوص القانونية أما الأضرار البليغة التي ترتبت علي تصرفات هؤلاء الإخوان ، والبلبلة التي شاركوا في إيجادها في الصفوف ، والفجيعة التي كانوا من أكبر عوامل سوقها إلي نفوس المسلمين في أنحاء العالم .. بما أهموا من انشقاق الجماعة ، فذلك أمر من الخطورة وجسامة الخطأ والتبعة بحيث يلمسها كل أخ مسلم أكثر مما تحدده النصوص القانونية . والمكتب يرجو أن تسرع اللجنة في اتخاذ إجراءات المحاكمة في أقرب وقت ممكن ، حسمًا للموقف وإنقاذًا للدعوة من كثرة التخرصات والأقاويل .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

السكرتير العام .. المرشد العام

تحريرًا في 24/3/1373هـ

31/12/1953م


التقرير التفصيلي للجنة تحقيق العضوية في قضية الأساتذة صالح عشماوي والشيخ محمد الغزالي وأحمد عبد العزيز جلال

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلي الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم . اللهم ألهمنا الصواب ، وجنبنا مزالق القول ونوازع الهوى .

• 16 اتهامًا :

في يوم الأربعاء 25 من شهر ربيع الأول 1373هـ الموافق 2 من ديسمبر 1953م أحال إلينا مكتب الإرشاد العام تقرير اتهام موجه إلي الإخوان الأساتذة صالح عشماوي ومحمد غزالي وأحمد عبد العزيز جلال للفصل في أمرهم ، باعتبارهم موضع اختصاص اللجنة لأنهم أعضاء في الهيئة التأسيسية . وفي أول جلسة عقدتها اللجنة في مساء اليوم المذكور ، تقدم الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل رئيس اللجنة برغبته إلينا في التنحي عنها خلال فترة نظر هذه القضية لأنه شاهد فيها ، فأقرت اللجنة رغبته وانتخبت الأخ الأستاذ محمود عبد العليم رئيسًا لها خلال هذه الفترة . وبعد أن قرأت قائمة الاتهام وهي تتضمن ستة عشر اتهامًا ، رأت استدعاء بعض من وردت أسماؤهم في التقرير مكتوب بشهادته ثم الأستاذ محمد فرغلي فالأستاذ هارون المجددى اللذين أدليا بشهادتيهما . ثم استدعت اللجنة الأخ الأستاذ نجيب جويفل واستمعت إلي شهادته في واقعة معينة ورد ذكر اسمه فيها في شهادة الأستاذ محمد فرغلي .

• 8 جلسات :

وقد استغرقت شهادة هؤلاء ومناقشتهم ثماني جلسات عقدتها اللجنة بحجرة نائبة في دار المكتب الإداري للقاهرة ، وأخذت من الزمن أربعًا وثلاثين ساعة . وبعد أن رأت اللجنة الاكتفاء بهذه الشهادات قرر دعوة الإخوان الموجه إليهم الاتهام لنستمع إلي ما لديهم من دفاع ، فكتب إلي كل منهم خطابًا تدعوه فيه إلي المثول أمامها للاستماع إلي ما عنده ، وحددت اليوم والساعة .. وحرصًا من اللجنة علي الاطمئنان إلي وصول الدعوة إليهم كلف الأخ محمد هاشم الموظف بالمركز العام بتوصيلها بنفسه إلي مظان وجودهم .. وفي اليوم المحدد لم يحضر منهم إلا الأخ الأستاذ أحمد عبد العزيز جلال الذي طلب أولاً الاستماع إلي نص قرار الاتهام فقرئ عليه فكان رده هو هذه الكلمات بنصها : " أولاً هذا البيان مليان أكاذيب " ثم أخرج من حقيبته خطابًا موقعًا منه ومن زميليه الأستاذين محمد الغزالي وصالح عشماوي هذا نصه :

حضرة الأخ الكريم الأستاذ سعد الدين الوليلي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :

فقد وصلنا خطابكم للحضور أمام لجنة تحقيق العضوية مساء اليوم (الأحد) للتحقيق في شأن ما ورد خاصًا بكم في تقرير مكتب الإرشاد العام ... إلخ .

ونحب أن نؤكد لكم أن لجنة العضوية لا تملك الصلاحية للتحقيق معنا فيما ورد في تقرير مكتب الإرشاد العام ، لأن موضوع التحقيق هو خلاف بيننا وبين أعضاء مكتب الإرشاد العام . ولجنة العضوية ليس من حقها ولا زلا من سلطتها التحقيق مع أعضاء المكتب – وهم أحد طرفي الخلاف – ولذلك يجب أن يرد الأمر كله إلي الهيئة التأسيسية نفسها ، وستنعقد في يوم الخميس القادم ، فهي اللجنة المختصة لمحاسبة المكتب ومحاسبتنا أيضًا . ويمكن عرض الخلاف عليها لتفصل فيه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

توقيعـات

- أحمد عبد العزيز جلال

- محمد الغزالي

- صالح عشماوي


• حرص اللجنة علي مصلحة المدعي عليهم :

فشرعت اللجنة في مناقشته في هذا المبدأ الخطير علي نحو يلمس المطلع علي محضر تسجيله مقدار حرص اللجنة علي مصلحة هؤلاء الإخوان المدعي عليهم . غير أن ساعتين كاملتين لم تزحزحاه قرره خطابهم من سابقة خطيرة .

وإمعانًا من اللجنة في الحرص علي مصلحة المدعي عليهم ، قررت أن تتيح لهم فرصة أخري بتوجيه الدعوة إليهم للحضور ثانية في اليوم التالي ، وأشارت في كتاب الدعوة إلي ملخص المناقشة التي جرت بين اللجنة وبين الأستاذ أحمد عبد العزيز جلال ، وأكدت فيه أن اللجنة هي وحدها موضع الاختصاص ، وأنها مستقلة تمامًا عن مكتب الإرشاد ، وأن المكتب لا سلطان له عليها ، وأن لا مرجع لها إلا ضمائرها .. ثم حددت لهم الموعد باليوم والساعة كما حددت المكان . وكلفت الأخ محمد هاشم بتوصيل هذه الخطابات فسلمها إليهم بنفسه . وانعقدت اللجنة قبل الموعد المحدد بنصف ساعة وظلت منعقدة حتى الساعة العاشرة دون أن يحضر منهم أحد ودون أن يصل منهم اعتذار .

• هذا هو القانون الأساسي للإخوان :

وقبل أن نبدأ في النظر في وقائع القضية نري أن نناقش أولاً المبدأ الذي بني عليه المدعي عليهم اعتراضهم علي صلاحية اللجنة للتحقيق معهم فيما ورد في تقرير مكتب الإرشاد . ومرجعنا بطبيعة الحال هو قانون النظام الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين فنثبت منه هنا المواد الآتية :

مادة 36 : لهذه الهيئة – الهيئة التأسيسية – أن تقرر في أي اجتماع ، أو بناءٌ علي ترشيحات اللجنة المنصوص عليها في المادة التالية منح بعض الإخوان حق العضوية للهيئة التأسيسية بشرط أن تتوفر فيمن يراد منحه إياها هذه الشروط ( وذكرت الشروط ) .

مادة 37 : تنتخب الهيئة التأسيسية من أعضائها (ومن غير الأعضاء المنتخبين لمكتب الإرشاد) لجنة من سبعة أعضاء ، ويفضل غير القاهريين وذوو الإلمام والصلات بالفقه الإسلامي والإجراءات القانونية . (مهمتها تحقيق ما يحال عليها من المرشد العام أو مكتب الإرشاد أو الهيئة نفسها خاصًا بما يمس الأعضاء في سلوكهم أو الثقة بهم أو أمر آخر . ولهذه اللجنة أن توقع ما تشاء من الجزاءات حتى الإعفاء من العضوية علي أن تعتمد ذلك من المرشد العام) .

وعند اختيار هؤلاء الأعضاء يقسمون أمام الهيئة " بالله علي أن يؤدوا ما عليهم بالذمة والصدق والأمانة " . وتختار اللجنة رئيسها وسكرتيرها بين أعضائها عقب اختيارها مباشرة ، وتدون قراراتها ومحاضرها في سجل هاص بها – ويكون اجتماعها صحيحًا بحضور خمسة من أعضائها متى كان فيهم الرئيس – وتكون قراراتها صحيحة إذا صدرت عن الأغلبية المطلقة للمجتمعين – ويتجدد اختيارها مع اختيار المكتب . ولا مانع من اختيارها كلها أو بعضها لأكثر من مرة . وتجتمع بدعوة من رئيسها – وللعضو الذي يتقرر فصله أن يستأنف هذا القرار بطلب كتابي يرفع إلي مكتب الإرشاد العام ليعرض علي الهيئة التأسيسية في أول اجتماع لها ، ورأيها فيه حاسم .

مادة 38 : إذا قصر واحد من أعضاء الهيئة التأسيسية في الواجبات الملقاة عليه نصحه المرشد العام . فإذا تكرر التقصير أحاله علي اللجنة المنوه عنها في المادة السابقة ، إلا إذا كان عضوًا بالمكتب فيتخذ في شأنه ما نص عليه في المادة 25 .

وهذه المواد تتضمن القواعد الآتية :

أولاً : أن الهيئة التأسيسية وهي السلطة العليا في الجماعة فوضت هذه اللجنة في مباشرة حق التحقيق مع أعضائها فيما ينسب إليهم ، وناطق بها الاضطلاع بأعباء هذه الناحية من سلطتها ، ومنحتها الصلاحية له ولإصدار قرار بالعقوبة حتى الفصل من العضوية .

ثانيًا : حصرت الهيئة الشروط التي متى توفرت مجتمعة قبل عضو من أعضائها كان للجنة الصلاحية في مباشرة حق التحقيق معه وتوقيع الجزاءات عليه في شرطين لا ثالث لهما وهما :

1 – أن يكون الأخ المنسوب إليه الاتهام عضوًا في الهيئة التأسيسية .

2 – أن يحال هذا الاتهام إلي اللجنة من المرشد العام أو مكتب الإرشاد أو من الهيئة نفسها .

ثالثًا : لم تستثن المادة (38) أحدًا من أعضاء الهيئة التأسيسية الذين توفر قبلهم الشرطان السابقان من وجوب المثول أمام اللجنة لمباشرة حقها معه إلا أعضاء مكتب الإرشاد ماداموا متمتعين بهذه الصفة ، أما إذا زالت عنهم هذه الصفة سواء أكان ذلك بعد تجديد انتخابهم أو بقرار من المكتب نفسه علي الصورة التي وضحتها المادة (25) – فمردهم كذلك إلي اللجنة .

رابعًا : أن الهيئة التأسيسية حين جعلت للجنة مهتمين أولاهما تختص بإدخال أعضاء في الهيئة (المادة 36) والأخرى تختص بالتحقيق مع أعضائها وتقرير العقوبات عليهم (المادة 37) قيدت اختصاص اللجنة في الإدخال بقصره علي مجرد الترشيح ، في حين أنها في المهمة الأخرى وهي التحقيق والعقوبة حتى الفصل من العقوبة أطلقت للجنة الحق في ذلك وجعلت قرارها نهائيًا بعد اعتماده من المرشد العام ، ولم تجعل لنفسها الحق في إعادة النظر في القرار بعد صدوره وإعلان العضو به إلا في حالة واحدة هي أن يكون القرار فصلاً من العضوية وتقدم العضو المفصول بطلب كتابي فيه إلي مكتب الإرشاد عرض طلبه باستئناف القرار علي الهيئة التأسيسية في أول اجتماع لها ورأيها فيه حاسم .

خامسًا : تقديرًا من الهيئة لخطورة السلطة المخولة لهذه اللجنة أحاطتها بشروط وضمانات بينتها المادة (37) في الصفات الواجب توافرها في عضوها وفي تحديد أغلبية خاصة لجلساتها وفي القسم الذي يؤديه أعضاؤها أمام الهيئة عند اختيارهم وفي اعتماد قراراتها من المرشد العام .

سادسًا : ليس لمكتب الإرشاد العام سلطة من قريب ولا من بعيد علي هذه اللجنة فقد اشترطت المادة (37) أن يكون أعضاؤها من غير المنتخبين للمكتب . كما أن المادة نفسها جعلت انتخابها من حق الهيئة التأسيسية نفسها التي تنتخب المكتب – وبذلك قسمت الهيئة سلطتها بين لجنتين ، فعهدت بسلطتها التنفيذية إلي المكتب وعهدت بسلطاتها القضائية إلي لجنة العضوية .

ويتضح ذلك جليًا فيما يقرره القانون من أي قرار يمس كيان الجماعة يصدر من أية إدارة من إدارات الدعوة لا يكتسب صفته إلا إذا اعتمده مكتب الإرشاد ، ماعدا قرارات هذه اللجنة فإنها تكتسب صفتها الشرعية دون عرضها علي المكتب أو اعتمادها منه .

• من الناحية الشكلية :

وعلي ضوء هذه القواعد المستقاة من قانون الجماعة نحب أن نناقش موقف هؤلاء الأعضاء الثلاثة من اللجنة من ناحية الشكل علي الوجه الآتي :

أ – صفاتهم :

أولاً : أعضاء في الهيئة التأسيسية .

ثانيًا : ليسوا أعضاء مكتب الإرشاد العام .

ب – شكل اللجنة :

أولاً : أخطرت اللجنة أحد أعضائها وهو الشيخ محمد الغزالي أحد المدعي عليهم بخطاب مسجل بأن قرار وقفه قد نحاه عن عضوية اللجنة حتى يفصل في أمره .

ثانيًا : التقي قرارها برغبة رئيسها الأستاذ عبد العزيز كامل في تنحيته عن رياسة اللجنة وعضويتها خلال نظرها هذه القضية لاعتباره شاهدًا فيها .

ثالثاً : انتخبت الأستاذ محمود عبد الحليم رئيسًا لها خلال نظر هذه القضية .

رابعًا : أخطرت بذلك فضيلة المرشد العام .

خامسًا: حافظت طوال جلساتها علي العدد القانوني لأعضائها فكانوا خمسة دائمًا منهم الرئيس .

جـ - الإجراءات :

أولاً : أحال مكتب الإرشاد العام إلي اللجنة تقرير اتهام ضد هؤلاء الأعضاء الثلاثة .

ثانيًا : سمعت اللجنة شهادة من وردت أسماؤهم في قرار الاتهام وبعض من ورد ذكرهم في شهادة هؤلاء الشهود واستجوبتهم وناقشتهم .

ثالثاً : حددت اللجنة الموعد والمكان لحضور هؤلاء الأعضاء المدعي عليهم أمامها وأخطرتهم بذلك . ولما تخلفوا أتاحت لهم فرصة أخري بالكتابة إليهم كذلك .

رابعًا : لم يرد المدعي عليهم أعضاء اللجنة كلهم أو بعضهم لمأخذ عليهم .

ومن ذلك يري الناظر بعين القانون المجرد عن الهوى أن جميع الشروط والضمانات والإجراءات التي تضمنها قانون النظام الأساسي للجماعة لإلزام هؤلاء الأعضاء الثلاثة بالمثول أمام اللجنة لإجراء التحقيق معهم قد توفرت كاملة . وكان يجب علي هؤلاء الأعضاء الدين لم يعتذروا عن الحضور بعذر شرعي أن يحضروا في الموعد والمكان المحددين لهم لدفع التهم الموجهة إليهم بما عسي أن يكون لديهم من أدلة . • أوضحنا لهم كل الحقائق :

وبالاطلاع علي محضر تحقيق مع الأستاذ أحمد عبد العزيز جلال ، وعلي كتاب الدعوة الذي وجهته إلي الأعضاء الثلاثة المدعي عليهم للحضور في المرة الأخيرة ، يتبين أن اللجنة لم تدخر وسعًا في تجلية حقائق القانون لهم ، وفي مجاراتهم إلي أبعد الحدود في سبيل إدخال الطمأنينة إلي نفوسهم حتى يفيئوا إلي الحق ويستجيبوا لصوت القانون . والإنسان بطبيعته إذا وجه إليه اتهام ، وعلق سمعته شيء تواق – إذا كان لديه دليل براءته – أن يتلقف أول من يقابله ، ويتلمس من يسأله ليفضي إليه بأدلة براءته ، ليدحض هذا الاتهام ، ويخلص سمعته مما علق بها ، لاسيما إذا علم أن إفضاؤه بذلك لأول سائل لن يمنعه من الإفضاء لغيره .

• القانون يبطل الادعاء :

والواقع أن الاحتجاج بوجود خلاف بين عضو الهيئة المدعي عليه وبين أعضاء المكتب يعد باطلاً . لأن من السهل علي كل عضو محال إلي اللجنة يدعي هذا الخلاف ليفلت من المثول أمام اللجنة . خصوصًا إذا علم أن أكثر الحالات تحول إلي اللجنة عن هذا الطريق وهو المكتب – وبذلك يكون مثار الخلاف ممكنًا وجوده بطبيعة الإجراءات – ويمكن إثارة هذا الاحتجاج نفسه بنفس الصورة إذا ما كان التحويل إلي اللجنة عن طريق المرشد العام .. وبذلك يبطل عمل اللجنة ، ويبطل بالتالي ما قصد إليه القانون من إيراده إحدى مواده وهي المادة (37) . والتحايل علي إبطال إحدى مواد قانون مقرر يعتبر باطلاً . وإذا فرضنا جدلاً أن الذي يمنعهم من الوقوف أمام اللجنة أن بينهم وبين أعضاء المكتب خلافاً كما ادعوا في كتابهم ، فهل هذا يمنعهم – لو كانوا جادين – أن يبرئوا أنفسهم أولاً أمام اللجنة مما هو منسوب إليهم ثم يرفعوا شكواهم بعد ذلك ضد أعضاء المكتب إلي الجهة التي يرونها موضع اختصاص ؟ كما أننا لو أخذنا بنظرية المدعي عليهم وقام خلاف بين عضوين أحدهما عضو في الهيئة التأسيسية والآخر ليس عضوًا فيها

إذن لما وجد المختلفان لجنة تحقيق يحتكمان إليها .. وبذلك تضيع الحقوق وتتبدد دون مراجع . وبعد أن يئست اللجنة من حضورهم أو إذعانهم إلي القانون بعد أن أعذرت إلي الله وإليهم ، ورأت أن من حقها أن تسير في القضية ، وأن تحاكمهم غيابيًا مكتفية بما تضمه محاضر تحقيقاتها .

وهنا ننتقل إلي الموضوع فنري ما يأتي :

أولاً : كانوا مع المعتصمين ولم يستنكروا عملهم :

في أول بيان أصدروه بتوقيعاتهم ونشروه في الصحف الصادرة يوم 28 نوفمبر 1953 ثبت أن المدعي عليهم الثلاثة كانوا مع المعتصمين بدار المركز العام يوم الجمعة الموافق 20 من شهر ربيع الأول 1373 الموافق 27 نوفمبر 1953 ، وأنهم لم يواجهوا تصرفات هؤلاء المعتصمين بالاستنكار ، مع أنهم كانوا منهم موضع الرضا والقيادة ، وكان ينبغي لمثلهم ممن يحسن النية والتصرف – وقد حازوا هذا المكانة في نفوس هؤلاء الشبان – أن يطمئنوهم إلي أنهم سيقومون عنهم بالتفاهم مع فضيلة المرشد أو مع مكتب الإرشاد ، ويطلبوا إليهم الانصراف ، فإذا أبوا كان عليهم هم أن ينصرفوا – وما كان يضيرهم شيئًا في الدعوة ولا في أنفسهم أن يفعلوا ذلك لو كانوا حسنى النية والتصرف .. أما في الدعوة فما كان في طوق هؤلاء الشبان المعتصمين أن يفعلوا أسوأ مما فعلوا ، وأما في أنفسهم فقد وقف كثير من أعضاء المكتب والهيئة التأسيسية من هذا الشباب الموقف الذي أشرنا إليه وما ضارهم في أنفسهم شيء أمثال الإخوان الأساتذة عمر التلمساني وعبد القادر عودة وعبد الحكيم عابدين وعمر الأميري والشيخ محمد فرغلي وعبد العزيز كامل . والأخير لم يكتف بالموقف السلبي بل ظل معهم طيلة الليل يحاول إخراجهم من المركز العام .

وفي هذا تفنيد لادعاء الشيخ محمد الغزالي والأستاذ أحمد عبد العزيز جلال حين ادعيا للأستاذ عبد العزيز كامل بعد أن وقعا بيانهم الذي نشر بالصحف يوم 28 نوفمبر أنهما إنما فعلا ذلك تهدئة للثائرين وتخليصًا للدعوة من هذا المأزق .

ثانيًا : هذه بياناتهم تحكم عليهم :

أصدر المدعي عليهم بيانًا موقعًا منهم نشروه بالصحف الصادرة يوم 28 نوفمبر 1953 ضمنوه النقاط الآتية :

1 – ادعاءهم أن الأستاذ المرشد العام أعلن استقالته علي الملأ .

2 – إلغاءهم قرار مكتب الإرشاد العام بفصل الأربعة المفصولين ، واعتبارهم إياهم موقوفين فقط حتى تحدد موقفهم لجنة خاصة تعرض تقريرها علي الهيئة التأسيسية .

3 – إصدار قرارًَا من ثلاثتهم مع الرابع بوقف مكتب الإرشاد العام حتى تبت الهيئة في مصيره .

4 – اعتبارهم أنفسهم هيئة تقوم بتصريف شئون الدعوة وإدارة المركز العام لحين اجتماع الهيئة التأسيسية .

وبتحقيق النقطة الأولي ثبت أن الأستاذ المرشد لم يستقل ، فالمكتب وهو الجهة المختصة نفي ذلك ، والمدعي عليهم لم يقدموا دليلاً مادياً ولا معنويًا علي ادعائهم – وتبين بذلك أنهم ارتكبوا خطأين : الأول الكذب والافتراء والآخر إشاعة الذعر والارتباك في صفوف الإخوان بنشر هذا الكذب في الصحف .

وبتحقيق النقطة الثانية تبين أن مكتب الإرشاد لم يلغ قرار الفصل الذي أصدره ضد الأربعة المفصولين ، وأن مكتب الإرشاد لا يجعله القانون الأساسي مسئولاً أمام أية سلطة في الجماعة إلا أمام الهيئة التأسيسية – وبذلك يكون المدعي عليهم قد انتخبوا لأنفسهم شخصية الهيئة التأسيسية مجتمعة ، وبذلك يكونون قد خرجوا علي القانون الذي بايعوا عليه وعلي الهيئة التي هم مجرد أفراد منها .

وبتحقيق النقطة الثالثة تبين أن موقف مكتب الإرشاد ليس من حق آية سلطة في الجماعة إلا هذه الهيئة التأسيسية كما ذكرنا ، وبذلك يكون المدعي عليهم قد خرجوا مرة أخري علي القانون الذي أقسموا علي احترامه والخضوع لأحكامه .

وبتحقيق النقطة الرابعة تبين أن في تنصيبهم أنفسهم أوصياء علي الجماعة لا خروجًا علي القانون فحسب بل ابتداعًا لسابقة خطيرة تركت آثارها في كيان الدعوة الداخلي ومركزها الخارجي ، ومكنت أعداء الدعوة من الإرجاف بالسوء ، وتهوين أمر الجماعة وبالتالي أمر العاملين للإسلام .. ذلك أنهم نصبوا أنفسهم أوصياء ومنحوا أنفسهم جميع السلطات فوق الجماعة دون أن يرجعوا إليها ، أو يأخذوا بذلك تفويضًا منها .

وأما هذا الافتيات علي الحقوق تقصر قوانين الهيئات الشعبية عن أخذ حقها من هؤلاء المفتاتين لأنها لا تملك عقوبة أشد من الإعفاء من العضوية . هذه الأخطاء اشترك ثلاثتهم فيها ، ولا سبيل إلي إنكارها أو التملص منها ، لأنهم نشروها في الصحف ممهورة بتوقيعاتهم ، ولم يلحقوها بعد أن ظهرت علي صفحات الصحف بتكذيب بل إنهم استمروا في إصدار البيانات المماثلة في الصحف أيضًا . وقد لاحظت اللجنة أن المدعي عليهم كثيرًا ما يذكرون في بياناتهم أنه سيلجئون إلي الهيئة التأسيسية متظلمين من قرار الفصل الذي أصدره المكتب ضد الأربعة الأعضاء – فمن أي نص في قانون الإخوان المسلمين الذي أقسموا علي الخضوع له فهموا أن وسيلة عرض تظلم علي الهيئة من قرار للمكتب هي أن يعتصموا بدار المركز العام وأن يتخذوا قرارات بوقف المكتب وإحلال أنفسهم محله ، والمسارعة بنشر هذه القرارات الضارة بسمعة الجماعة في الصحف ، واستباحة الكذب العلني بنشر خير كاذب باستقالة المرشد العام .

ثم هم لا يعلنون لجوءهم إلي الهيئة التأسيسية إلا بعد اتخاذ هذه الخطوات غير المسبوقة في تاريخ الجماعة ، مع العلم بأن الفرصة كانت متاحة لهم منذ صدور قرار الفصل لدعوة الهيئة بالطريق القانوني دون الوقوع في هذا الخطأ الجسيم ، أو الانتظار حتى تجتمع الهيئة في ميعادها المحدد وما كان بالبعيد . وقبل أن تنتهي اللجنة من تحليل نقاط هذا البيان وتحقيقها ، نحب أن نلفت النظر إلي أن قرارها في هذه القضية – والمنسوب إلي المدعي عليهم كثير سواء في قائمة الادعاء أو في شهادة الشهود – سيعتمد أعظم الاعتماد علي ما جاء في هذا البيان ، لأن مجموعة من الوقائع المادية سجلوها بتوقيعاتهم علي أنفسهم ،وبذلك لا يكون هناك مجال للتظلم من القرار بدعوي أنهم لم يحضر أمام اللجنة.

ثالثاً : النشر بالصحف :

ومما أكد للجنة سوء نية المدعي عليهم وسوء تصرفهم أنهم اتخذوا الصحف وسيلة لنشر كل ما يصدر عنهم ، حتى كتابهم الذي أرسلوه إلي اللجنة يذكرون فيه أنهم لم يمثلوا أمامها .. وهذه وسيلة للتشهير تتنافي مع الخلق الإسلامي ومع تقاليد الدعوة ، ولا يقدم عليها ذو نية حسنة ، والضرر الذي سببه هذا النشر لا يخفي علي أحد .

رابعًا :

" نشر المدعي عليهم بالصحف الصادرة يوم 29/11/1953 بيانًا ادعوا فيه أن الأخ الشيخ محمد فرغلي في الاجتماع الذي عقد في منزل نائب رئيس الوزراء اتفق معهم علي تكوين لجنة للتحقيق مع الإخوان المفصولين وبسؤال الشيخ محمد فرغلي قرر أنه طلب منه الأستاذ صالح تكوين لجنة للتحقيق مع المفصولين سأله قائلاً : أية لجنة تقوم بهذا التحقيق الذي تريد ؟ فقال الأستاذ صالح : لجنتنا – يقصد تلك التي تتكون منه ومن زملائه الثلاثة – فقال له الأستاذ فرغلي : إن مكتب الإرشاد هو الهيئة الإدارية العليا للجماعة ، وهو صاحب الحق المطلق في قبول الأعضاء وفصلهم ، وهو مؤتمن علي أمور الجماعة ، وليس لأحد أن ينازعه في هذا الاختصاص ، ومع ذلك فإن مكتب الإرشاد حينما أصدر قرار فصل هؤلاء الشبان الأربعة أعطاهم حق التظلم ، فمن أراد أن يتظلم فمن الطبيعي أن ينتدب مكتب الإرشاد لجنة التحقيق معه " .

" ونشر المدعي عليهم في نفس البيان أن الأستاذ عبد العزيز كامل أبلغهم أنه أفلح في إقناع أعضاء المكتب للموافقة علي تكوين لجنة للتحقيق – ثم قالوا : وفي ساعة متأخرة من الليل اتصل خمسة من أعضاء مكتب الإرشاد هم : الدكتور خميس حميدة والأساتذة عمر التلمساني وعبد القادر عودة وعبد الرحمن البنا والسيد محمد حامد أبو النصر وأبلغونا أنهم وافقوا علي تأليف لجنة للتحقيق . ثم قالوا : وعلي هذا الأساس نشر بيان الأمس وفيه ذكرنا تكوين لجنة للتحقيق ولكننا فوجئنا في الصباح بقرار بوقف 21 عضوًا وتأليف لجنة للتحقيق لا مع الإخوان المفصولين حسب الاتفاق ، ولكن مع الإخوان الذين احتجوا علي قرار الفصل " .

• ماذا قال الشهود ؟

وبسؤال الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل في هذا الصدد قرر أن كل ما وعدهم به هو أن يتوسط في الأمر دون أن يقيد نفسه بحل معين . وبسؤال الأخ الأستاذ عمر التلمساني قرر : أن الذي دار بيننا في حضور الإخوة الأربعة من أعضاء المكتب ، أن المكتب قرر تكوين لجنة من الشيخ محمد فرغلي والسيد محمد حامد أبو النصر وعمر التلمساني لتحقيق ما حدث مساء الجمعة من الشبان الذين اعتصموا بعد أن ذهبوا إلي منزل فضيلة المرشد ، ونظر كل تظلم يقدم من الأربعة المفصولين ؛ إذ كان قد قدم إلينا تظلم من أحمد عادل كمال . كما أن المكتب أحال إلي هذه اللجنة التحقيق مع الشيخ سيد سابق الذي صدر قرار بإيقافه . " ولم نقل أبدًا إن هذه اللجنة للتحقيق مع المفصولين " .

ويقرر كذلك فيقول : وأحب أن أقول إن الأستاذ صالح عشماوي قرر لنا ونحن في دار الكتاب العربي – ليلاً – أنه علم تليفونيًا بأن المكتب الإداري أوقف واحدًا وعشرين من الإخوان ، فهو إذن لم يفاجأ في صباح اليوم التالي بشيء لأن ما يقرر أنه فوجئ به في الصباح كان يعلمه قبل أن تصدر جرائد الصباح . وبسؤال الأخوين الأستاذين محمد حامد أبو النصر وعبد القادر عودة ، قررا نفس الذي قرره الأستاذ عمر التلمساني . وذكر الأستاذ عبد القادر عودة أنهم قالوا ذلك في دار الكتاب العربي للمدعي عليهم وكان معهم آخرون ذكر منهم عبد الرحمن السندي والشيخ سيد سابق . وتري اللجنة أن الفرق بين ما نشره المدعي عليهم بالصحف يوم 30/11 عن لجنة التحقيق وبين ما قرره الشهود الذين أوردنا ملخص ما قرروه فرق شاسع . فالمنشور بالصحف لا يشعر بأن المكتب متمسك بقراره ولا بأن اللجنة المنوه عنها إن هي إلا لجنة للتحقيق مع الذين أحدثوا الشغب يوم الجمعة وللتحقيق في تظلم من يتظلم من المفصولين . ولجنة العضوية وإن كانت تؤثر أن تمسك عن القطع برأي في هذه النقطة ، إلا أنها تضع بجانب هذا أن الأستاذ صالح عشماوي اجترأ علي نشر خبر بمجلة الدعوة باستقالة الأخوين الأستاذ عبد العزيز كامل من لجنة العضوية والدكتور محمد سليمان من الهيئة التأسيسية – وثابت أن إيراد ما يتصل بالأستاذ عبد العزيز كامل فيه تحريف ظاهر ، وأن الدكتور محمد سليمان لم يستقل من الهيئة التأسيسية . فإذا وضعنا هذه الوقائع من الأستاذ صالح عشماوي بجانب ما نشره عن لجنة التحقيق استطعنا أن نحكم علي روايته ونحن مطمئنون .

خامسًا :

قرر الأستاذ عبد العزيز كامل في شهادته أنه حاول ليلة الحادث أن يحمل الأستاذ صالح عشماوي علي مغادرة المركز العام بعد أن غادره كل المعتصمين تقريبًا فلم يفلح ، وظل في محاولاته هذه معه حتى قرب الفجر . ولما سأله الأستاذ عبد العزيز كامل : ما الذي أقحمك في هذا الأمر وقد خرج المعتصمون أنفسهم ؟ قال الأستاذ صالح : " اعتبرني طرفاً في هذا الأمر " . كما قرر الأستاذ عبد العزيز كامل أنه في ساعة متأخرة من الليل دخل علي الأستاذ صالح عشماوي في الحجرة المعتصم بها ليرجوه الخروج من المركز العام فوجده يتكلم بالتليفون مع آخر في الخارج ثم التفت إليه والسماعة في يده سائلاً الأستاذ عبد العزيز كامل : ما هي شروط جلائه عن المركز العام ؟ كأن المتكلم معه في التليفون ينتظر من الأستاذ صالح عشماوي جوابًا علي هذا السؤال – فغضب الأستاذ عبد العزيز وأبي أن يجيبه إلا إذا أخبره باسم الشخص الذي يتصل به بالتليفون ويريد أن ينقل إليه هذه الشروط ، فرفض الأستاذ صالح أن يذكر اسم الشخص .

من الذي يوجه المؤامرة ؟!

بعد ذلك يقرر الأستاذ عبد العزيز كامل أنه ذهب في اليوم التالي إلي دار الكتاب العربي ، فوجد بإحدى الحجرات اجتماعًا يضم الأساتذة صالح عشماوي وعبد الرحمن السندي والشيخ سيد سابق . وأخذوا يتحدثون معه في شأن وساطته بأسلوب عرف منه الأستاذ عبد العزيز من هو الشخص الذي كان يكلم الأستاذ صالح أمس في التليفون ورفض ذكر اسمه . ويقرر الأستاذ عبد القادر عودة في شهادته أنه لما ذهب إلي دار الكتاب العربي لمقابلة المدعي عليهم مع بعض أعضاء المكتب في شأن التفاهم ، وجد مع المدعي عليهم أشخاصًا آخرين منهم عبد الرحمن السندي والشيخ سيد سابق .

كما أن الأخ محمد هاشم الموظف بالمركز العام قرر في شهادته التي قدمها إلي اللجنة مكتوبة – وكان موجودًا بالمركز العام ساعة اقتحامه – أنه كان جالسًا بجوار مكتب المراقب وأمامه التليفون دق جرسه ، فإذا المتكلم الأستاذ عبد الرحمن السندي .. يقول الشاهد : " فتكلمت معه فطلب الأخ علي صديق فجاء وكان رده كالآتي : " الحمد لله . كويس الحمد لله . كل حاجة كويسة " .. وبعد قليل دق التليفون مرة أخري فأمسكت بالسماعة فإذا به عبد الرحمن السندي وطلب علي صديق أيضًا .. وجاء علي صديق .. وفي أثناء هذه المكالمة أحسست بوجود سيارات علي باب المركز العام فوقفت لانتظار من بها بجوار علي صديق فدخل الحاج حلمي المنياوي وكان علي يقول في التليفون " جه الحاج حلمي والحاج صالح والشيخ الغزالي والشيخ سيد سابق والحاج جوده والحاج عبده قاسم ومحمد شريف .. إن شاء الله وعليكم السلام ورحمة الله .. ووضع السماعة ودخل حضرات المدعوين " . من مجموع هذه الشهادات يتضح أن هذه الحركة وعلي رأسها المدعي عليهم كانت علي اتصال بأحد المفصولين اتصالاً منتظمًا طول الليل .. وقرر مكتب الإرشاد بفصل هؤلاء الأربعة يقتضي أن يقطع الإخوان صلتهم في شئون الدعوة بهؤلاء المفصولين . فالاتصال بهم بل التلقي منهم فيه خروج علي القرار وتحد له ويشم منه رائحة التآمر .

سادسًا :

تبينت اللجنة من مراجعة البيان الأول الذي أذاعه المدعي عليهم بالصحف أن الحرص علي تصديره بإعلانهم استقالة المرشد العام يرتبط بسابقة للأستاذ صالح عشماوي تقرر من أجلها وقفه شهرًا في العام الماضي . هذه السابقة هي مخاطرته بإذاعة أمر قرار المكتب اعتباره سرًا . وكان هذا السر الذي حرص الأستاذ صالح علي نقله بعد منتصف الليل إلي جريدة " المصري " هو إعلان استقالة المرشد العام أيضًا .. كأن في نفس الأستاذ صالح عقدة إزاء هذا الرجل الذي يشغل هذا المنصب ويقود هذه الجماعة .. مع أنه بايعه أمام الهيئة التأسيسية من قبل . واللجنة تري في تصرفات الأستاذ صالح هذه إزاء الأستاذ المرشد ، وتكرر هذه التصرفات نفسها بالرغم من وقفه شهرًا من قبل بسببها ، نقضًا للبيعة ونكثًا للعهد ، وتري في زميليه اللذين وقعا معه علي البيان الذي تضمن ذلك نفس الرأي الذي تراه فيه .

وقبل أن تختم اللجنة هذه الحيثيات لابد لها أن تشير إلي أن هناك أسماء جاءت علي ألسنة الشهود في مواقف غامضة ، ستطلب اللجنة فيما بعد إحالتها لاستجلاء هذه المواقف وتحديدها .

إمـضاءات

حسني عبد الباقي – عبد الله عامر – حامد شريت – سعد الدين الوليلي – محمود عبد الحليم


الفصل الرابع : تعـقـيب

معذرة إلي القارئ في إيراد هذا الفصل الدامي ، الذي ما كتبت حرفاً فيه إلا وهو يعتصر قلبي ، ويدمي فؤادي .. وإنه لينبغي عليّ أن لا أكتم القارئ حقيقة دفينة في داخل نفسي ، هي أن هذا الفصل – مع أنني عانيت جانبًا كبيرًا من أحداثه ، وأنني الذي كتبت بنفسي مقدمته ونهايته ، وسجلت بقلمي كل أطواره – إلا أنني حين بدأت أكتب عنه في هذه المذكرات وجدتني قد أنسيته إنساءً يكاد يكون تامًا حتى أكثر أسماء أشخاصه .. مع أنني أذكر أحداثاً سابقة عليه وأخري تالية له .. وما كان ذلك فيما أعتقد إلا أنني كنت أري هذا الحدث إبان وقوعه أعظم كارثة أصابت الدعوة ، لأنها كانت انفجارًا داخليا . وهو أخطر ما يصيب الدعوات ، بل هو الخطر الداهم الذي ينسف الدعوات فلا تري فيها عوجاً ولا أمنًا ، فيمحوها من الوجود محوًا ، بحيث لا يبقي لها في الوجود ولا في التاريخ أثرًا ولا ذكرًا ..

ومثل هذا الخطر الداهم الذي تنفطر له النفوس ، لاسيما نفوس من واجهوه وكافحوه وناضلوا ضده ، وابتلعوا مرارته – إذا واتتهم الظروف فاستطاعوا دفعه ، وتمكنوا من وقف تياره واحتوائه ، تحاول ذاكرتهم – بدافع كراهية اجترار المرارة – أن تلقي به في غياهب النسيان .. ولولا ما أمدني به الأخ الأستاذ عباس السيسي من صورة من المذكرة التي كنت سطرتها بيدي في ذلك الأوان لما استطعت أن أكتب في هذا الفصل إلا إشارات عابرة لا تسمن ولا تغني من جوع . وإيراد هذا الفصل علي ما في إيراده من إيلام للنفس ولذغ للقلب ، أمر ضروري لا مندوحة عنه ولا مفر منه . لأنه حلقة في سلسلة الأحداث التي صنعها جمال عبد الناصر بيده ، وأحكم وصل بعضها ببعض . فلولا الارتباط الوشيك بين هذا الفصل وبين الأحداث السابقة عليه والأحداث اللاحقة له لأغفلت ذكره ، ولتقاضيت عنه إعفاءً لنفسي من ألم ممض لازمها طيلة تسجيل أحداثه .. ولكن تسلسل الأحداث ، وأمانة التسجيل ، والوفاء بحق التاريخ وحق الأجيال الجديدة – ألزمني بإيراد ما كنت أوثر أن لا أورده . ولا أعتقد أن شعور الصد عن تذكر هذا الفصل ليس مستوليًا علي نفسي وحدي ، وإنما هو بغير شك مسئول علي نفوس كل الإخوة الذين عاصروا هذه الأحداث ، ومن هذه النفوس نفوس الإخوة الذين كانوا وقود هذه الأحداث ، والذين زجت بهم في أتونها اليد الأثيمة التي كانوا إذ ذاك يحسنون بها ظنًا .

ولم يكن الإخوان غافلين عن حقيقة أحداث هذا الفصل ، ولا عن صانعها ومحركها ، ولكنهم كانوا يتغاضون عن هذه الحقيقة ، لأنهم لا يملكون لمحركها شيئًا وهو مستخف عن الأنظار ، ويريدون أن يحسموا الظاهرة التي بدت بين صفوفهم حسمًا داخليًا ، وهو حدود ما يستطيعون ، وأهم ما يأملون من حفظ الكيان الروحي لدعوتهم سليمًا معافى عير مريض ولا مقطع ولا معلول ؛ إذ هو الأساس الذي يهون كل شيء دونه . ولقد كانوا يعملون علي ذلك . ويبذلون الجهد في تحقيقه ، وهم يعلمون أن كل نجاح يحرزونه في هذا السبيل هو بمثابة طعنة في قلب صانع هذه الأحداث ومحركها . ويعلمون أن هذه الطعنة لن توقظ ضمير هذا الصانع ، بل إنها تزيد آثار حقده اشتعالاً ، وتدفعه إلي حياكة مؤامرة أخري . ويبدو أنه كان يعتقد أن المؤامرة الأخيرة التي نحن بصددها ، والتي حاكها أحكم حياكة ، واستطاع أن يجمع جميع خيوطها في يده .. أنها مضمونة النجاح ، وأن لا قبل للإخوان بمواجهتها .. ولقد كان تقديره صحيحًا فإنسان كان في داخل الدعوة وفي صميمها ، يعلم من أسرارها ما لا يعلمه إلا القليل ، ثم هيأت له الظروف أن تلقي إليه مقاليد الحكم في مصر يتصرف في مقدراتها كما يشاء لا معقب لحكمه ثم يتلقف رئيس النظام الخاص للإخوان ، الذي لم يتعود مرءوسوه وأتباعه أن يعصوا له أمرًا ، ومن حول هذا الرئيس شفاء صدره وتحقيق أمله ، لاسيما وقد صار هذا الرئيس يجمع إلي سلطته الروحية تأييد سلطة الحكم بما لبديها من مغانم ، وما يحوطها من هيبة . إنسان جميع في قبضته كل ذلك مما قد لا يجتمع لإنسان .. وكل ذلك إزاء دعوة لا يملك أصحابها إلا إيمانهم بها وثقتهم في قيادتها ، واعتزازهم بأخوة كل أطرافها من عامة الناس بل من ضعفاء الناس وفقرائهم ..

كان صانع المؤامرة ومحركها علي حق في تصوره أن المؤامرة مضمونة النجاح لا يقع في سبيل سهمها إلي الهدف عائق ، ولا يعترض طريقه مانع .. كل أسباب النجاح قد توفرت فلابد من النجاح . وكان أمل جمال عبد الناصر الذي طالما تمناه هو أن يجد هذه الهيئة العتيدة طوع أمره ورهن إشارته وفي قبضة يده ، حتى يستطيع أن يحكم مصر ، ويبسط حكمه علي البلاد العربية والإسلامية ، ويستطيع بحق أن يكون إمبراطورًا ، حيث يكون مؤيدًا بقاعدة شعبية تمتد في طول البلاد المصرية وعرضها وفروعها تغمر الشرق العربي كله ، وتتجاوب معها تكوينات شعبية في البلاد الإسلامية في أنحاء العالم .. وهو أمل واسع عريض ، وحلم باذخ لذيذ .. ولكنه اصطدم بشخصية الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين الذي أظهر استعداده أن يسلم جمال عبد الناصر مفتاح المركز العام ، ولكنه لن يسلمه الإخوان المسلمين ، فالإخوان المسلمون بغير مركز عام وبغير دور للشعب هم الإخوان المسلمون لا ينقصهم شيء .. ورفض جمال عبد الناصر هذا العرض وأبي إلا أن يتسلم زمام الإخوان المسلمين . وإذن فلابد لذلك من خلع هذا المرشد العنيد . وتحت يد جمال عبد الناصر أكثر من واحد يطمع في هذا المنصب ويسيل لعابه لمجرد الحلم به . وإذن فلتوضع خطة ، ولتدبر مؤامرة ، وكل عناصر نجاحها في رأس الهيئة صنيعة من صنائعه لتكون الهيئة بمرشدها الجديد في ركابه .. مهمتها أن تطلق البخور بين يديه ، وتسبح صباح مساء بحمده بل وتغسل علي قدميه .

إن الخطة كانت سليمة ، والمؤامرة كانت محكمة ، والظروف كانت مواتية ، والنجاح كان مضمونًا ، لولا إرادة الله التي شاءت أن تبقي في هذا البلد هيئة واحدة تعمل لوجهه ومرضاة لأمره بين عشرات الهيئات التي مردت علي الغش والختل والخداع ، إرادة الله تدخلت ، وخيبت ظن الحاسبين الذي جمعوا عناصر الجانب الأيمن في المعادلة فأسفر حاصل الجمع عن شيء واحد لا شيء غيره وهذا الشيء هو النجاح التام الكامل فاطمأنوا وساروا في خطواتهم بأقدام ثابتة لثقتهم في النجاح .. ولكنهم نسوا حين كانوا يحسبون إدخال عنصر هام في حسابهم هو عنصر " الله " وهو الفعال لما يريد ، فانقلب نجاحهم فشلاً .

استند إخواننا هؤلاء إلي السلطة الكبرى في البلاد ، وظنوا في القائم عليها أحسن الظن ، وقالوا لأنفسهم : إذا أسندت الدعوة قيادتها إلي أخ قديم بها آلت إليه السلطة فإن ذلك أجدى علي الدعوة وأنفع من إبقاء قيادتها في يد رجل من عامة الناس ليس له من الأمر شيء ، ولا يسند ظهره إلي سلطة ما . ونسي إخواننا هؤلاء أو تناسوا ما أظهره هذا الأخ صاحب السلطة من مواقف وما أقدم عليه من تصرفات بتنكره لهذه الدعوة وتنصله من تبعاتها ، وما يكن لها من عداء وتربصه بها الشر ، فقد تنكر للحكم بما أنزل الله وأنشأ مسجدًا ضرارًا سماه هيئة التحرير وأراد أن يمحو شخصية الدعوة بإلزامها بالاندماج والذوبان في هذه الهيئة ، فلما عجز عن حمل الإخوان علي ما أراد لجأ إلي محاولة أخري سمح إخواننا هؤلاء لأنفسهم أن يكونوا عدته فيها . أما نحن فاستندنا إلي الله وحده ، وواجهنا إخواننا هؤلاء ونحن نعلم أننا في الحقيقة لا نواجههم وإنما نواجه هذا الحاكم وهذه السلطة التي تربع علي قمتها ، وما كانت مواجهتنا اعتداء عليه ، ولا تنديدًا به ، بل كانت مجرد دفاع عن دعوتنا وعن كياننا ، حتى إنك لتلمس هذا المعني في كل كلمة كتبناها فيما أجرينا من تحقيق وما أصدرناه من بيانات ، لم نمس السلطة بحرف واحد ، ولم نشر إليها بكلمة واحدة .. بل إننا حاولنا إشعارها بأملنا فيها – تقريبًا لقلبها وفتئًا لما انطوت عليه جوانحها من حقد – فلجأنا إليها طالبين إليها أن تكون واسطة خير بيننا وبين إخواننا ، وليس أدل علي مسالمتنا وحسن نياتنا من ذلك . فماذا كان رد الفعل لهذه المسألة وقد فشلت المؤامرة وانتهت إلي عكس ما كانوا يتوقعون إذ انتهت بنبذ المتآمرين وبضم الصفوف ضمًا صارت الدعوة به أقوي مما كانت ؟ .

ماذا كان رد الفعل ؟ .

الباب التاسع : فشلت الأقنعة كلها في إخفاء وجع مدبر المؤامرة


مقـدمة

يبدو أن هذه المؤامرة كانت آخر ما كان في جعبة جمال عبد الناصر ، وأن القناع الذي كان يخفي به وجهه في أثنائها كان آخر قناع في حوزته . وكان في كل مرة يجد بين يديه من يزج بهم علي المسرح ويجد في حوزته قناعًا يخفي به عن المشاهدين وجهه ، فلما كانت هذه التمثيلية الدرامية المفزعة الأخيرة .. وانتهت بالفشل غير المتوقع .. بحث عن قناع آخر – استعدادًا لتمثيلية جديدة بعدها – فوجدها قد نفدت . ولم يكن بد حينئذ من أن يخرج من وراء الكواليس .. وبدلاً من أن يقتصر دوره – كما كان في كل مرة – علي التلقين أصبح عليه أن يغادر المكان الخفي للملقن وأن يظهر علي المسرح وحده – بعد أن فقد الممثلون جميعًا شخصياتهم ولم يعودوا يصلحون لأي دور من الأدوار – كان عليه أن يظهر علي المسرح سافرًا ليؤدي بنفسه دورًا جديدًا .. ولكن الدور هذه المرة كان دورًا طائشًا عنيفاً . وقد كان هو في كل مرة المؤلف والملقن والمخرج وبين يديه الممثلون يختار منهم من يشاء لما يشاء ، فكان وجود الممثلين بين يديه يتيح له فرصة من الوقت ليؤلف التمثيلية من واقع الحياة .. ولكن غياب الممثلين عن المسرح هذه المرة فجأة لم يتح له فرصة التأليف من واقع الحياة فلجأ إلي الخيال واستمد منه تمثيلية هذه المرة .

ثم إن بروزه علي المسرح هذه المرة وحده كان ملفتًا للنظر ، فلم يتعود المشاهدون أن يروه بشخصه مثلاً – فلما رأوه في هذا الموقف ذهبت بهم الظنون كل مذهب ، وشرعوا يراجعون الأدوار التي شاهدوها في المسرحيات السابقة علي ضوء هذا المشهد الجديد .. وقرروا في أنفسهم أنه لابد أن يكون هو صاحب الوجه المقنع الذي كان يطل من ورائه ولا يرون إلا قناعه . وواضعو خطط المؤامرات حين تفشل مؤامراتهم أكثر من مرة يفضلون دائمًا أن يتخلوا عن التآمر ليعيشوا بقية حياتهم عيشة طاهرة ، متعظين بما أصابهم من فشل لكن شهوة جمال عبد الناصر إلي ارتقاء متن الزعامة الشعبية – التي يراها وهو محق أعظم من رياسة الدولة – حالت بينه وبين الاتعاظ ، وأثر أن يخاطر بنفسه هذه المخاطرة .

صدر القرار بفصل الثلاثة الكبار يوم 9 ديسمبر 1953 وصودق عليه من الهيئة التأسيسية مستأنفاً في اليوم التالي .. وطبعت الرسالة التي تضمنت قرار الاتهام والتقرير المفصل للجنة العضوية يوم 15 ديسمبر واستغرق توزيعها علي شعب الإخوان بقية الشهر ونمت دراستها .. وبدأت تمثيلية جمال عبد الناصر الجديدة في أوائل العام الجديد 1954 . ولا شك في أن مسارعة قسم نشر الدعوة بالمركز العام إلي طبع هذه الرسالة وتوزيعها كان إجراءً حاسمًا ، فلقد كان هناك من وراء الكواليس سباق لاهث .. فقيادة الإخوان تريد أن يصل إلي مسمع الإخوان في كل مكان تفاصيل الحقائق في هذه المؤامرة التي يغشاها الغموض .. وجمال عبد الناصر يريد أن يباغت الإخوان بإجراء جديد من طبيعته أنه يحول بين القيادة وبين توصيل هذه الحقائق إلي الإخوان حتى تكون أذهانهم خالية فتقبل أنباء يختلقها في خطة إجرائه الجديد – وقد لا يكون سرًا أن أذكر في هذا المقام أنه لما تم طبع هذه الرسالة وقدّم لي قسم نشر الدعوة نسخة منها ، ذهلت وسألتهم : كيف استطعتم أن تطبعوها بهذه السرعة ؟ فقالوا لي : بل إنها أرسلت أيضًا إلي المكاتب الإدارية – كان وصول هذه الرسالة إلي الإخوان في جميع أنحاء مصر وخارج مصر بهذه السرعة من أعظم مكاسب الإخوان المسلمين . وقد يأتي بيان ذلك إن شاء الله .

ومع ذلك فإن جمال عبد الناصر – وقد كان يعلم مدي أهمية السرعة في إنجاز إجرائه الذي قرر اتخاذه – لم يقصر ولم يضيع دقيقة واحدة .. ولكن إنجاز الإخوان – والحمد لله – كان أسرع .


الفصل الأول : جمال عبد الناصر يسفر عن وجهه لأول مرة

فيصدر قرارًا بحل الإخوان المسلمين :

كان آخر ما أنهينا به الباب الماضي سؤال يقول :

ماذا كان رد فعل جمال عبد الناصر علي موقف الإخوان منه موقف الناصح الأمين ؟

وقد خصصنا هذا الفصل لنص رد فعل جمال عبد الناصر الذي ظهر في صدر الصحف يوم 15 يناير 1954 تحت العنوان التالي :

بيان خطير من مجلس قيادة الثورة عن الإخوان المسلمين لاتصالهم بالانجليز ، وإقامة منظمات سرية في الجيش والبوليس ومحاولة قلب نظام الحكم القائم تحت ستار من الدين اعتقال 450 والإفراج عن 20

أصدر مجلس قيادة الثورة في الساعة الواحدة إلا ربعًا من صباح اليوم قرارًا باعتبار جماعة الإخوان المسلمين حزبًا سياسيًا يطبق عليها أمر المجلس الخاص بحل الأحزاب السياسية وفيما يلي نص البيان :

( ملاحظة – المؤسسات الاجتماعية تمارس نشاطها – صرح البكباشي أنور السادات بأن المؤسسات الاجتماعية لجماعة الإخوان المسلمين المنحلة كالمدارس والمستوصفات والمستشفيات وغيرها ستظل تمارس نشاطها تحت اسم جديد يحدده وزير الداخلية – ولا ينطبق علي هذه المؤسسات قرار المصادرة الذي يقضي به أمر حل الأحزاب ومصادرة أموالها وممتلكاتها ) .

إن كانت الثورة قد قامت في 23 يوليو ، فقد ظل تنظيم الضباط الأحرار ينتظر من يتقدم الصفوف مخلصًا ليغير المنكر الذي كنا نعيش فيه ، ويثبت بعمله جدية صدقه وإخلاصه لدينه ووطنه .. وكنا علي استعداد أن نتبعه في صف واحد كالبنيان المرصوص ، حتى نحقق لوطننا العزيز عزته وكرامته وتحررًا من الاستعباد والعبودية . ولما طال انتظارنا عقدنا العزم علي القيام بالثورة ، وكنا جادين ولا هدف لنا إلا حرية الأمة وكرامتها وإن الله تعالي لن يكتفي بإيمان الناس إذا لم يتبعوا هذا الإيمان بالعمل الصالح . ومن يوم قيام الثورة ونحن في معركة لم تنته بعد ، معركة ضد الاستعمار لا ضد المواطنين ، وهذه المعركة لا تحتمل المطامع والأهواء التي نفذ الاستعمار من خلالها ليحطم وحدة الأمة وتماسكها فلا تقوي علي تحقيق أهدافها . وقد بدأت الثورة فعلا بتوحيد الصفوف إلي أن حلت الأحزاب ، ولم تحل الإخوان إبقاءٌ عليهم وأملاً فيهم وانتظارًا لجهودهم وجهادهم في معركة التحرير ، ولأنهم لم يتلوثوا بمطامع الحكم كما تلوثت الأحزاب السياسية الأخرى ، ولأن لهم رسالة دينية تعين علي إصلاح الخلق وتهذيب النفوس .

ولكن نقرأ من الصفوف الأولي في هيئة الإخوان أرادوا أن يسخروا هذه الهيئة لمنافع شخصية وأطماع ذاتية مستغلين سلطان الدين علي النفوس ، وبراءة وحماسة الشبان المسلمين ، ولم يكونوا في هذا مخلصين لوطن أو لدين . ولقد أثبت تسلسل الحوادث أن هذا المفر من الطامعين استغلوا هيئة الإخوان والنظم التي تقوم عليها هيئة لإحداث انقلاب في نظام الحكم القائم تحت ستار الدين . وقد سارت الحوادث بين الثورة وهيئة الإخوان بالتسلسل الآتي :

1 – في صباح يوم الثورة استدعي الأستاذ حسن عشماوي لسان حال المرشد العام إلي مقر القيادة العامة بكوبري القبة ، وأبلغ إليه أن يطلب من المرشد العام إصدار بيان لتأييد الثورة ، ولكن المرشد بقي في مصيفه بالإسكندرية لائذا بالصمت فلم يحضر إلي القاهرة إلا بعد عزل الملك ثم أصدر بيانًا مقتضيًا طلب بعده أن يقابل أحد رجال الثورة فقابل البكباشي جمال عبد الناصر في منزل الأستاذ صالح أبو رقيق الموظف بالجامعة العربية . وقد بدأ المرشد حديثه مطالبًا بتطبيق أحكام القرآن في الحال ، فرد عليه البكباشي جمال عبد الناصر أن هذه الثورة قامت حربًا علي الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي والاستعمار البريطاني وهي بذلك ليست إلا تطبيقاً لتعاليم القرآن الكريم . فانتقل المرشد إلي تحديد الملكية وقال : إن رأيه أن يكون الحد الأقصى 500 فدان ، فرد عليه البكباشي جمال عبد الناصر إن الثورة رأت التحديد بمائتي فدان فقط وهي مصممة علي ذلك . فانتقل المرشد بالحديث قائلاً إنه لكي تؤيد هيئة الإخوان الثورة أن يعرض عليه أي تصرف للثورة قبل إقراره . فرد عليه البكباشي جمال عبد الناصر قائلاً إن هذه الثورة قامت بدون وصاية أحد عليها وهي لن تقبل بحال أن توضع تحت وصاية أحد ، وإن كان هذا لا يمنع القائمين علي الثورة من التشاور في السياسة العامة مع كل المخلصين من أهل الرأي دون التقيد بهيئة من الهيئات . ولم يلق هذا الحديث قبولاً من المرشد .

2 – سارعت الثورة بعد نجاحها في إعادة الحق إلي نصابه . وكان من أول أعمالها أن أعادت التحقيق في مقتل الشهيد حسن البنا ، فقبضت علي المتهمين في الوقت الذي كان المرشد لا يزال في مصيفه بالإسكندرية .

3 – طالبت الثورة الرئيس السابق علي ماهر بمجرد توليه الوزارة أن يصدر عفوًا شاملاً عن المعتقلين والمسجونين السياسيين وفي مقدمتهم الإخوان . وقد نفذ هذا فعلاً بمجرد تولي الرئيس نجيب رياسة الوزراء .

4 – حينما تقرر إسناد الوزارة إلي الرئيس نجيب تقرر أن يشترك فيها الإخوان بثلاثة أعضاء علي أن يكون أحدهم الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري – وقد تم الاتصال تليفوني بين اللواء عبد الحكيم عامر والمرشد ظهر يوم 7 سبتمبر 1952 فوافق علي هذا الرأي قائلاً إنه سيبلغ القيادة بالاسمين الآخرين . ثم حضر الأستاذ حسن عشماوي إلي القيادة في كوبري القبة وأبلغ البكباشي جمال عبد الناصر أن المرشد يرشح للوزارة الأستاذ منير دلة موظف بمجلس الدولة والأستاذ حسن العشماوي المحامي .

وقد عرض هذا الترشيح علي مجلس الثورة فلم يوافق عليهما ، وطلب البكباشي جمال عبد الناصر من الأستاذ حسن العشماوي أن يبلغ ذلك للمرشد ليرشح غيرهما – وفي الوقت نفسه اتصل البكباشي جمال بالمرشد فقال الأخير إنه سيجمع مكتب الإرشاد في الساعة السادسة ويرد عليه بعد الاجتماع . وقد أعاد البكباشي جمال الاتصال مرة أخري بالمرشد فرد عليه أن مكتب الإرشاد قرر عدم الاشتراك في الوزارة ، فلما قال له : لقد أخطرنا الشيخ الباقوري بموافقتك وطلبنا منه أن يتقابل مع الوزراء في الساعة السابعة لحلف اليمين أجابه بأنه يرشح بعض أصدقاء الإخوان للاشتراك في الوزارة ولا يوافق علي ترشيح أحد من الإخوان . وفي اليوم التالي صدر قرار من مكتب الإرشاد بفصل الشيخ الباقوري من هيئة الإخوان فاستدعي البكباشي جمال عبد الناصر الأستاذ حسن العشماوي وعاتبه علي هذا التصرف الذي يظهر الإخوان بمظهر الممتنع عن تأييد وزارة الرئيس نجيب وهدد بنشر جميع التفاصيل التي لازمت تشكيل الوزارة ، فكان رد العشماوي أن هذا النشر يحدث فرقة في صفوف الإخوان وليس لموقف المرشد العام ورجا عدم النشر .

5 – عندما طلب من الأحزاب أن تقدم إخطارات عن تكوينها قدم الإخوان إخطارًا باعتبارهم حزبًا سياسيًا . وقد نصحت الثورة رجال الإخوان بأن لا يترددوا في الحزبية ، ويكفي أن يمارسوا دعوتهم الإسلامية بعيدًا عن غبار المعارك السياسية والشهوات الحزبية . وقد ترددوا بادئ الأمر ثم استجابوا قبل انتهاء موعد تقديم الإخطارات وطلبوا اعتبارهم هيئة . وطلبوا من البكباشي جمال عبد الناصر أن يساعدهم في تصحيح الإخطار . فذهب إلي وزارة الداخلية حيث تقابل مع المرشد في مكتب الأستاذ سليمان حافظ وزير الداخلية وقتئذ وتم الاتفاق علي أن تطلب وزارة الداخلية من الإخوان تفسيرًا عما إذا كانت أهدافهم سيعمل علي تحقيقها عن طريق أسباب الحكم كالانتخابات وأن يكون رد الإخوان بالنفي فلا ينطبق عليهم القانون .

6 – وفي صبيحة يوم صدور قرار الأحزاب في يناير 1953 حضر إلي مكتب البكباشي جمال عبد الناصر الصاغ صلاح شادي والأستاذ منير دلة وقالا له : الآن وبعد حل الأحزاب لم يبق من مؤيد للثورة إلا هيئة الإخوان ، ولهذا فإنهم يجب أن يكونوا في وضع يمكنهم من أن يردوا علي كل أسباب التساؤل . فلما سألهم ما هو هذا الوضع المطلوب أجابا بأنهم يريدون الاشتراك في الوزارة . فقال لهما : إننا لسنا في محنة ، وإذا كنتم تعتقدون أن هذا الظرف هو ظرف المطالب وفرض الشروط فأنتم مخطئون . فقالوا له : إذا لم توافق علي هذا فإننا نطالب بتكوين لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها للموافقة عليها ، وهذا هو سبيلنا لتأييدكم إذا أردتم التأييد فقال لهم البكباشي جمال عبد الناصر : لقد قلت للمرشد سابقًا إننا لن نقبل الوصاية ، وإنني أكررها اليوم مرة أخري في عزم وإصرار .

وكانت هذه الحادثة هي نقطة التحول في موقف الإخوان من الثورة وحكومة الثورة ، إذ دأب المرشد بعد هذا علي إعطاء تصريحات صحفية مهاجمًا فيها الثورة وحكومتها في الصحافة الخارجية والداخلية ، كما كانت تصدر الأوامر شفويًا إلي هيئات الإخوان بأن يظهروا دائمًا في المناسبات التي يعقدها رجال الثورة بمظهر الخصم المتحدي .

7 – لما علم المرشد بتكوين هيئة التحرير تقابل مع البكباشي جمال عبد الناصر في مبني القيادة بكوبري القبة وقال له : إنه لا لزوم لإنشاء هيئة التحرير مادام الإخوان قائمين . فرد عليه البكباشي جمال : إن في البلاد من لا يرغب في الانضمام إلي الإخوان ، وإن مجال الإصلاح متسع أمام الهيئتين . فقال المرشد : لن أؤيد هذه الهيئة . وبدأ منذ ذلك اليوم في محاربة هيئة التحرير وإصدار أوامره بإثارة الشغب واختلاق المناسبات لإيجاد جو من الخصومة بين أبناء البلد الواحد .

8 – وفي شهر مايو 1953 ثبت لرجال الثورة أن هناك اتصالاً بين بعض الإخوان المحيطين بالمرشد وبين الانجليز عن طريق الدكتور محمد سالم الموظف في شركة النقل والهندسة – وقد عرف البكباشي جمال من حديثه مع الأستاذ حسن العشماوي في هذا الخصوص أنه حدث اتصال فعلاً بين الأستاذ منير الدلة والأستاذ صالح أبو رقيق ممثلين عن الإخوان وبين مستر إيفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية وأن هذا الحدث سيعرض حينما يتقابل البكباشي جمال مع المرشد . وعندما التقي البكباشي جمال مع المرشد أظهر له استياءه من اتصال الإخوان مع الانجليز والتحدث معهم في القضية الوطنية ، الأمر الذي يدعو إلي التضارب في القول وإظهار البلاد بمظهر الانقسام .

ولما استجوب الدكتور محمد سالم عن موضوع اتصال الانجليز بالمرشد ومن حوله قال : إن القضية تبتدئ وقت أن كان وفد المباحثات المصري جالسًا يتباحث رسميًا مع الوفد البريطاني . وفي إبريل سنة 1953 اتصل به القاضي جراهام بالسفارة البريطانية وطلب منه أن يمهد مقابلة بين مستر إيفانز المستشار الشرقي بالسفارة وبعض قادة الإخوان ، وأنه أي محمد سالم أمكنه ترتيب هذه المقابلة في منزله بالمعادي بين منير دلة وصالح أبو رقيق عن الإخوان ومستر إيفانز وتناول الحديث موقف الإخوان من الحكومة ، وتباحثوا في تفاصيل القضية المصرية ورأي الإخوان وموقفهم من هذه القضية – ثم قال الدكتور سالم إنه جاء في رأي قادة الإخوان أن عودة الانجليز إلي القاعدة تكون بناء علي رأي لجنة مشكلة من المصريين والانجليز وأن الذي يقرر خطر الحرب هي هيئة الأمم المتحدة . ولعل هذا هو السبب في تمسك الانجليز بهذا الرأي الذي لم يوافق عليه الجانب المصري للمفاوضات حتى اليوم . ثم قال الدكتور سالم في اجتماع آخر مماثل في منزله أيضًا حيث طلب مستر إيفانز مقابلة المرشد فوعد منير دلة بترتيب هذا الاجتماع . وفعلاً تم في منزل المرشد . ودار في هذا الاجتماع الحديث عن القضية المصرية وموقف الإخوان منها . وذكر الدكتور محمد سالم أن مستر إيفانز دعا منير دلة وصالح أبو رقيق لتناول الشاي في منزله وقد أجابا دعوته مرتين .

9 – وفي أوائل شهر يونيه 1953 ثبت لإدارة المخابرات أن خطة الإخوان قد تحولت لبث نشاطها داخل قوات الجيش والبوليس . وكانت خطتهم في الجيش تنقسم إلي قسمين : القسم الأول : يهدف إلي عمل تنظيم سري تابع للإخوان بين صفوف الجيش . ودعوا فيما دعوا عدداً من الضباط وهم لا يعلمون أنهم من الضباط الأحرار فسايروهم في خططهم ، وكانوا يجتمعون بهم اجتماعات أسبوعية ، وكانوا يتحدثون في هذه الاجتماعات عن الإعداد لحكم الإخوان المسلمين والدعوة إلي ضم أكبر عدد من الضباط ليعملوا إمرة الإخوان وكانوا يأخذون عليهم عهدًا وميثاقًا وقسمًا أن يطيعوا ما يصدر إليهم من أوامر المرشد .

أما القسم الثاني : فكان ينحصر نشاطه في عمل تشكيلات من ضباط البوليس . وكان الغرض منها هو إخضاع نسبة كبيرة من ضباط البوليس لأوامر المرشد أيضًا . وكانوا يجتمعون في اجتماعات دورية أسبوعية ، وينحصر حديثهم في بث الحقد والكراهية بين ضباط البوليس بأنهم أحق من رجال الجيش بالحكم نظرًا لاتصالهم بالشعب . وكانوا يمنونهم بالترقيات والمناصب بعد أن يتم لهم هدفهم . وكان يتزعمهم الصاغ صلاح شادي الذي طالما ردد في اجتماعاتهم أنه وزير الداخلية المقبل .

وقسم ثالث : أطلق عليه قسم الوحدات ، وكان الغرض منه هو جمع أكبر عدد ممكن من ضباط الصف في الجيش تحت إمرة المرشد أيضًا . وكانوا يجتمعون بهم في اجتماعات سرية أسبوعية . وكان الحديث يشتمل علي بث الكراهية للضباط في نفوس ضباط الصف وإشعارهم بأنهم هم القوة الحقيقية في وحدات الجيش ، وأنهم إذا ما نجح الإخوان في الوصول إلي الحكم فسيعاملون معاملة كريمة – كما كان هذا القسم يقوم ببث الدعوة لجمع أكبر عدد من صف ضباط وجنود ليكون تحت إمرة المرشد .

ولما تجمعت هذه المعلومات لإدارة المخابرات اتصل البكباشي جمال عبد الناصر بالأستاذ حسن العشماوي باعتباره ممثلاً للمرشد وصارحه بموقف الإخوان العام ثم بموقف الإخوان في داخل الجيش وما يدبرونه في الخفاء بين قوات الجيش والبوليس وقال له : لقد أمنا لكم ولكن هذه الحوادث تظهر أنكم تدبرون أمرًا سيجني علي مصير البلاد ، ولن يستفيد منه إلا المستعمر ، وإنني أنذر أننا لن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه التصرفات التي يجب أن توقف إيقافاً كاملاً ، ويجب أن يعلم الإخوان أن الثورة إنما أبقت عليهم بعد أن حلت جميعه الأحزاب لاعتقادها أن في بقائهم مصلحة وطنية ، فإذا ما ظهر أن في بقائهم ما يعرض البلاد للخطر فإننا لن نتردد في اتخاذ ما تمليه مصلحة البلاد مهما كانت النتائج . فوعد أن يتصل بالمرشد في هذا الأمر ولم يعد حتى الآن .

وفي اليوم التالي استدعي البكباشي جمال عبد الناصر الأستاذ خميس حميدة نائب المرشد والأستاذ سيد سابق وأبلغهما ما قاله لحسن العشماوي في اليوم السابق فأظهرا الاستياء الشديد وقالا : إنهما لا يعلمان شيئًا عن هذا وأنهما سيبحثان الأمر ويعملان علي إيقاف هذا النشاط الضار . ورغم هذا التحذير وهذا الإنذار استمر العمل حثيثًا في صفوف الجيش والبوليس ، وأصبح الكلام في الاجتماعات الدورية يأخذ طابع الصراحة وطابع الحقد ، فكانوا يقبلون الخطط في هذه الاجتماعات بحثاً عن أسلم الطرق لقلب نظام الحكم . وكان الأحرار المنبثون في هذه التشكيلات يبلغون أولاً بأول عما يدور في كل اجتماع .

10- بعد أن تعين الأستاذ الهضيبي مرشدًا للإخوان لم يأمن إلي أفراد الجهاز السري الذي كان موجودًا في وقت الشهيد حسن البنا برياسة السيد / عبد الرحمن السندي فعمل علي إبعاده معلنًا بأنه لا يوافق علي التنظيمات السرية لأنه لا سرية في الدين . ولكنه في الوقت نفسه بدأ في تكوين تنظيمات سرية جديدة تدين له بالولاء والطاعة ، بل عمد إلي التفرقة بين أفراد النظام السري القديم ليأخذ منه إلي صفه الأكبر عدد ليضمهم إلي جهازه السري الجديد – وفي هذه الظروف المريبة قتل المرحوم المهندس السيد فايز عبد المطلب بواسطة صندوق من الديناميت وصل إلي منزله علي أنه هدية من الحلوى بمناسبة عيد المولد النبوي ، وقد قتل معه بسبب الحادث شقيقه الصغير البالغ من العمر تسع سنوات وطفلة صغيرة كانت تسير تحت الشرفة التي انهارت نتيجة الانفجار . وكانت المعلومات ترد إلي المخابرات أن المقربين من المرشد يسيرون سيرًا سريعًا في سبيل تكوين جهاز سري قوي ، ويسعون في نفس الوقت إلي التخلص من المناوئين لهم من أفراد الجهاز السري القديم .

11- وكانت نتيجة ذلك أن حدث الانقسام الأخير بين الإخوان ، واحتل فريق منهم دار المركز العام . وقد حضر إلي منزل البكباشي جمال عبد الناصر بعد منتصف ليل ذلك اليوم الشيخ محمد فرغلي والأستاذ سعيد رمضان مطالبين بالتدخل ضد الفريق الآخر ومنع نشر الحادث . فقال لهم البكباشي جمال : إنه لا يستطيع منع النشر حتى لا يؤول الحادث تأويلاً ضارًا بمصلحة البلاد – أمام من جهة التدخل فهو لا يستطيع التدخل بالقوة حتى لا تتضاعف النتائج ، وحتى لا يشعر الإخوان أن الثورة تنصر فريقًا علي فريق ، وأنه يري أن يتصالح الفريقان وأن يعملا علي تصفية ما بينهما – فطلب منه الشيخ فرغلي أن يكون واسطة بين الفريقين وأن يجمعه مع الأستاذ صالح عشماوي – فطلب منه البكباشي جمال أن يعود في اليوم التالي في الساعة العاشرة صباحًا وأنه سيعمل علي أن يكون الأستاذ صالح موجودًا – وفي الموعد المحدد حضر الشيخ فرغلي ولم يمكن الاتصال بالأستاذ صالح عشماوي ، وكان الشيخ فرغلي متلهفاً علي وجود الأستاذ صالح عشماوي مما دعا البكباشي جمال أن يطلب من البوليس الحربي البحث عن الأستاذ صالح وإحضاره إلي المنزل . وتمكن البوليس الحربي في الساعة الثانية عشر من العثور علي الأستاذ صالح فحضر هو والشيخ سيد سابق إلي منزل البكباشي جمال وبدأ الطرفان يتعاتبان .. وأخيرًا اتفقا علي تشكيل لجنة يوافق علي أعضائها الأستاذ صالح للبحث فيما نسب إلي الإخوان الأربعة المفصولين علي أن لا يعتبروا مفصولين وإنما يعتبرون تحت التحقيق ، والعمل علي أن يسود السلام المؤتمر الذي كان مزمعًا عقده في دار المركز العام في عصر ذلك اليوم . ولكن لم ينفذ هذا الاتفاق .

12- وفي يوم الأحد 10 يناير 1954 ذهب الأستاذ حسن العشماوي العضو العامل بجماعة الإخوان وأخو حرم منير دلة إلي منزل مستر كروزويل الوزير المفوض بالسفارة البريطانية ببولاق الدكرور الساعة السابعة صباحًا ثم عاد لزيارته أيضًا في نفس اليوم في مقابلة دامت من الساعة الرابعة بعد الظهر إلي الساعة الحادية عشر من مساء اليوم . وهذه الحلقة من الاتصالات بالانجليز تكمل الحلقة الأولي التي روي تفاصيلها الدكتور محمد سالم .

13- وكان آخر مظهر من مظاهر النشاط المعادي الذي قامت به جماعة الإخوان هو الاتفاق علي إقامة احتفال بذكرى المنيسي وشاهين يوم 12 الجاري في جامعتي القاهرة والإسكندرية في وقت واحد ، وأن يعملوا جهدهم لكي يظهروا بكل قوتهم في هذا اليوم ، وأن يستغلوا هذه المناسبة استغلالاً سياسيًا في صالحهم ، ويثبتوا للمسئولين أنهم قوة وأن زمام الجماعة في أيديهم وحدهم – وفعلاً تم اجتماع لهذا الغرض برياسة عبد الحكيم عابدين حضره الأستاذ حسن دوح المحامي ومحمود أبو شلوع ومصطفي البساطي من الطلبة ، واتفقوا علي أن يطالبوا من الطلبة الإخوان الاستعداد لمواجهة أي احتمال يطرأ علي الموقف خلال المؤتمر حتى يظهروا من الطلبة الإخوان الاستعداد لمواجهة أي احتمال يطرأ علي الموقف خلال المؤتمر حتى يظهروا بمظهر القوة ، وحتى لا يظهر في الجامعة أي صوت آخر غير صوتهم . وفي سبيل تحقيق هذا الغرض اتصلوا بالطلبة الشيوعيين رغم قتلتهم وتباين وجهات النظر وعقدوا معهم اتفاقًا وديًا به خلال المؤتمر .

وفي صباح 12 الجاري عقد المؤتمر وتكتل الإخوان في حرم الجامعة وسيطروا علي الميكرفون ، ووصل إلي الجامعة أفراد منظمات الشباب من طلبة المدارس الثانوية معهم ميكروفون مثبت في عربة للاحتفال بذكري الشهداء . فتحرش بعض الطلبة الإخوان وطلبوا إخراج ميكروفون منظمات الشباب . وانتظم الحفل وألقيت كلمات من مدير الجامعة والطلبة . وفجأة إذا ببعض الطلبة من الإخوان يحضرون إلي الاجتماع ومعهم نواب صفوي زعيم فدائيان إسلام في إيران حامليه علي الأكتاف ، وصعد إلي المنصة وألقي كلمة ، وإذا بطلبة الإخوان يقابلونه بهتافهم التقليدي " الله أكبر ولله الحمد " وهنا هتف طلبة منظمة الشباب " الله أكبر والعزة لمصر " فساء طلبة الإخوان أن يظهر صوت في الجامعة مع صوتهم فهاجموا الهاتفين بالكرابيج والعصي وقلبوا عربة الميكرفون وأحرقوها وأصيب البعض إصابات مختلفة ثم تفرق الجميع إلي منازلهم .

حدث كل هذا في الظلام . وظن المرشد وأعوانه أن المسئولين غافلون عن أمرهم – لذلك فنحن نعلن باسم الثورة التي تحمل أمانة أهداف هذا الشعب أن مرشد الإخوان ومن حوله قد وجهوا نشاط هذه الهيئة توجيهًا يضر بكيان الوطن ويعتدي علي حرمة الدين . ولن تسمح الثورة أن تتكرر في مصر مأساة رجعية باسم الدين . ولن تسمح لأحد أن يتلاعب بمصائر هذا البلد بشهوات خاصة مهما كانت دعواها ، ولا أن يستغل الدين في خدمة الأغراض والشهوات وستكون إجراءات الثورة حاسمة وفي ضوء النهار وأمام المصريين جميعًا والله ولي التوفيق .


الفصل الثاني : الاعتقال الأول

سأرجئ التعليق علي بيان مجلس الثورة الذي أوردته في الفصل السابق لأتحدث عن عملية الاعتقال التي لابست هذا البيان فحدثت قبيله بأيام أو معه أو بعده بأيام .

أما من ناحيتي فقد حضر إليّ في نحو الساعة العاشرة صباحًا يوم 15 يناير 1954 في مقر عملي بمحلج القناطر الخيرية ضابط بالملابس المدنية ، وأخبرني أنه مكلف باعتقالي وأنه تابع لمحافظة القليوبية التي تتبعها القناطر الخيرية . فسألته عما إذا كان من حقي أن أذهب إلي منزلي – وكان منزلي مجاورًا للمحلج – فأبدي الرجل استعدادًا كريمًا ، وصعد معي إلي حيث أسكن ، وأحضرت حقيبتي وبها بعض الملابس وأخذت معي كتابًا كنت أحبه هو شرح لحكم ابن عطاء الله السكندري ، ونزلت معه فركبنا سيارة المحافظة إلي القاهرة حيث سلمني إلي مقر قيادة البوليس الحربي الذي قام بنقلي إلي السجن الحربي . وكنا هذه المرة في مبني صغير من مباني السجن الحربي حيث وجدت مجموعة قليلة العدد من الإخوان . وكانت الأوامر تقضي بحبسنا حبسًا انفراديًا . وكان جاري في الزنزانة التي تلي زنزانتي الأخ الشيخ فرغلي ، وكان من أحب الإخوان إلي نفسي ، لأنه كان من أحب الإخوان إلي الأستاذ الإمام ، وأعتقد أنه كان من أقرب الإخوان إلي نفوس جميع الإخوان .. لأنه كان من تفانيه في دعوته لا يتكلف ولا يتصنع ولا يتشدق .. وأذكر بهذه المناسبة أنه – وهو واعظ صناعته الكلام – كان إذا دعاه الأستاذ الإمام في اجتماع من الاجتماعات إلي الكلام للتعليق علي رأي أبداه الأستاذ في اجتماع الهيئة التأسيسية ، فإنه كان يقف ولا يتكلم كأنما ارتج عليه ، حياءً من أن يعقب علي كلام أستاذه .. فيبتسم الأستاذ ابتسامة الإعجاب بحياء العلماء وأدب الفضلاء .

كنا محبوسين حبسًا انفراديًا ، ولكن كل زنزانة مزودة بسرير عليه مرتبة نظيفة ومخدة وبطانية وبمنضدة وبكرسي ، وكان الطعام الذي يقدم إلينا طعامًا نظيفاً ومتقن الطهي ، وفي أوان من الصيني ، ومع الطعام ملعقة ، وشوكة أيضًا في بعض الأحيان .. ولكن الحبس الانفرادي علي كل حال ثقيل علي النفس ومحطم للأعصاب .. وكانت الزنازين تفتح لنا أبوابها مرة أو مرتين في اليوم حيث نجدد وضوءنا .. وكانت هذه هي فرصة تلاقينا معًا . ومع أن تبادل الحديث فيما بيننا ممنوعًا إلا أننا كنت نتمكن من ذلك . وفي أول مرة فتحت الزنازين التقيت بالأخ الشيخ فرغلي فشكا إليّ ضيقه بهذا الحبس الانفرادي دون أن يكون معه شيء يتسلي فيه – ويبدو أن الضابط الذي اعتقله لم يسمح له باصطحاب شيء معه – وسألني : هل أحضرت معك كتابًا ؟ فقلت له : أحضرت معي كتاب شرح حكم ابن عطاء الله السكندري ومعي المصحف فقال : إنك طبعاً لا تستغني عن المصحف فأعطني كتاب ابن عطاء فأعطيته إياه .

وفي يوم آخر تقابلنا كالمعتاد في دورة المياه فأخبرنا الأخ الأستاذ حسن العشماوي أنه نودي عليه في الصباح . فإذا به يجد في مكتب السجن الحربي في انتظاره وكيل نيابة كان زميلاً له ، وتبين له أنه جاء لإجراء تحقيق معه ، فرحب حسن ، وفتح محضر التحقيق .. ويقول حسن : كانت أكبر مفاجأة لي أن يقول لي وكيل النيابة رسميًا :

التهمة الموجهة إليك أنك تحرز أسلحة وذخيرة قدرها كذا – وحددها – في مخبأ في عزبتكم بجهة كذا في المكان الفلاني – بالتحديد – علي عمق كذا – ووصف المكان وصفاً دقيقًا .. وبعد أن أتم وكيل النيابة توجيه التهمة قال موجهًَا الكلام للأخ حسن : فما أقوالك ؟ قال حسن : أنا ممتنع عن الإدلاء بأية أقوال وعن الإجابة علي أي سؤال حتى يحضر هنا في التحقيق جمال عبد الناصر لأنه هو الذي يعرف كل شيء عن هذه الأسلحة ويعلم قصة وجودها في هذا المكان لأنها أسلحته .

يقول صاحب هذه المذكرات إنه قد تبين لنا فيما بعد أن الصحف نشرت في يوم 18 يناير 1954 نشرت صفحاتها الأولي بخط كبير .

- ضبط 100 كيلو جلجانيت ، 15 ألف طلقة

- مستودع ملئ بالأسلحة والمواد الناسفة – العثور عليه في أملاك حسن العشماوي بالشرقية

فتشت عزبة حسن العشماوي تبع ناحية العطيف مركز ههيا شرقية فاتضح أن بها جراجًا أرضيته من التراب ، وتحت التراب ضفيرة طوب تحتها أسمنت مسلح ، وبها فتحة توصل إلي باب سرداب كانت مغطاة بالمشمع ، ووجد بداخلها أسلحة وذخائر قدرها 20 ألف جنيه .

• دلالة بعيدة لهذه الواقعة :

أنا لم أكن ممن يحسنون الظن بجمال عبد الناصر ، وكنت أعلم أنه يحاول احتواء الدعوة ، وأنه في سبيل ذبك يحيك المؤامرات ضدها وضد قيادتها – ولكن الذي لم يكن يخطر لي ببال أو حتى يلوح لي في الخيال أن يبلغ في استباحته الكذب حدًا تترفع الدناءة عن أن تكون وصفًا له .

لقد قص علينا حسن العشماوي ونحن في دورة المياه قصة هذه الأسلحة وكيف أنها هي أسلحة يملكها جمال عبد الناصر . ولما وقع حريق القاهرة خشي أن تصل إليها أيدي السلطات إذا فتشت مدرسة الأسلحة الخفيفة المخبأة بها ، وطلب من حسن العشماوي إخفاؤها عنده في عزبتهم وقام جمال عبد الناصر بنفسه برسم كيفية تشييد المخزن تحت الأرض بعمق ثلاثة أمتار ، وأشرف بنفسه علي تشييد المخزن ووضع الأسلحة فيه – مما سبق تفصيله فيما نقلناه من كتاب " الصامتون يتكلمون " علي لسان الأخ صلاح شادي . إن هذه القصة دلتني – لأول مرة – علي أن هناك رذائل تخرج عن حدود ما عهد الناس من رذائل ، فهي رذيلة تطوي بين جوانحها كل الرذائل . كما دلتني علي أن هذا الرجل جمال عبد الناصر لا يقيم وزنًا لخلق ولا لدين ولا لشرف ولا لعرف ولا لأية قيمة من القيم ، ولا يبعد عليه ولا يستغرب منه أن يقتل أباه إذا وجد في ذلك ما يحقق مطامعه .. وقد ذكرتني هذه القصة بالمثل العربي الذي يقول : رمتني بدائها وانسلت .

ولقد كنت حين أقرأ حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم : " إن الصدق يهدي إلي البر وإن البر يهدي إلي الجنة ، وإن الكذب يهدي إلي الفجور وإن الفجور يهدي إلي النار " فأقف عند لفظ الفجور ولا أتصور العلاقة بين الفجور وبين الكذب ، حتى حدثني حسن العشماوي بقصة الأسلحة هذه فلمست في الحال هذه العلاقة لأنني وجدتني أنطق تلقائيًا حين سمعت القصة قائلاً : أما إنه حقاً فاجر .. وبدأت منذ ذلك اليوم أعلم أن الفجور هو الدرك الأسفل من الكذب . كما أن هذه القصة قد وضحت لي غموضًا في قصة أخري كنت قرأتها منذ زمن بعيد في كتاب من أمهات كتب الأدب لا أذكر اسمه الآن ، ولكن القصة تحكي عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه خرج مرة إلي البداية مستخفيًا فقابل أعرابيًا فسأله عما يعرفه عن الحجاج بن يوسف فارتاب الرجل وأمسك عن الكلام فكشف الحجاج له عن شخصيته وقال له : نشدتك الله إلا صدقتني بما تعرفه عني وقد أمنتك .

قال الأعرابي : أما وقد أمنتني فوالله إنك لظلوم سفاك فتاك كذاب .

فقال الحجاج : أما إني حقاً ظلوم سفاك قتال ولكنني لست بكذاب وما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين أهله .

ولقد كنت أعجب كيف أن الحجاج رضي لنفسه ولم يأنف أن يوصف بالظلم والسفك والقتل ولكنه ربأ بنفسه أن يوصف بالكذب .

نعم إن التحقيق قد حفظ بأمر جمال عبد الناصر . وهذا الحفظ في ذاته إحدى الفضائح التي لو وقع مثله في بلاد كانجلترا أو فرنسا أو أمريكا لما اكتفوا بإسقاط هذا الرئيس بل لحاكموه وأودعوه السجن ، لأنه غرر بالشعب وكذب عليه ، واستهزأ بعقوله . فكيف يلصق تهمة خطيرة بإنسان وتمتلئ الصحف بصور المخبأ الدفين وصور الأسلحة التي وجدت فيه ، وعدد قطع كل نوع منها .. ثم يحفظ التحقيق بعد ذلك دون أي مبرر .

   إن حفظ التحقيق في هذا الأمر الخطير معناه أن الادعاء باطل ، وأن رد المتهم علي النيابة بأن هذه الأسلحة والذخائر هي ملك جمال عبد الناصر وهو الذي أخفاها عنده هو الصحيح .. وفي هذه الحالة كان علي النيابة أن تحقق مع جمال عبد الناصر الذي هو ليس فوق القانون .. فإذا ثبتت صحة أقوال المتهم وجبت تبرئته ووضع جمال عبد الناصر في قفص الاتهام بأكثر من تهمة أخفها إحراز الأسلحة ، لأن إحراز الأسلحة بغير تصريح وإن حرمه القانون إلا أنه في ذاته لا يلحق عارًا بصاحبه ، ولكن التهمة التي تلحق بصاحبها العار هي تهمة الكذب والافتراء واستغلال النفوذ لاتهام الناس بالباطل .. لاسيما إذا كان الذي ألقي عليه الاتهام هو صاحب الفضل علي الذي اتهمه ، وهو الذي آواه يوم كان مطاردًا ، وجاءه مستغيثًا فأخفاه عن أعين السلطة وستر عورته ..  وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ يقول : " ثلاثة لا يقبل الله لهم توبة : شيخ زان ، وفقير متكبر ، وملك كذاب " . المهم .. أنني خرجت من هذه القصة التي وقعت أحداثها أمامي ، بأن جمال عبد الناصر شخص خطر لا أمان له ، لأنه لا مبدأ له ولا خلق ولا دين ، وأنه يستبيح كل شيء في سبيل تحقيق أغراضه الشخصية . وأن التعامل معه يجب أن يكون بحذر ، وبأسلوب ماكر ، فلا يقل الحديد إلا الحديد . كما أنني أقدمها للقراء مقياسًا يقيسون به مدى صدق المتهم التي كالها للإخوان كيلاً في قراره بحل الإخوان . 

• معتقل العامرية :

بعد أسبوع من إقامتي بالسجن الحربي افتتحت الحكومة معتقلاً في العامرية . وهو معتقل في وسط الصحراء كان في الأصل معسكرًا أقامه الانجليز في أثناء الحرب العالمية الثانية ، ثم تركوه فامتدت إليه يد التخريب ولم يبق إلا ما يشبه الهياكل من نحو أربعة جمالونات لا تكاد تمنع المطر عن ساكنيها .. وملحق به دورة وحوله سور من الأسلاك الشائكة . ويكاد يكون هذا المعتقل في مستوي السجن الحربي كنا فيه من حيث النوم علي سراير ومن حيث الطعام ، ولكنه يختلف عنه في أنه أولاً تحت إدارة البوليس أو بالأدق تحت إدارة المباحث العامة كان الضابط ممدوح سالم أحد ضباط المباحث المشرفين عليه – وفي أنه لم يكن الحبس فيه انفراديًا لأن العنبر كان يتسع لنحو مائة .

وكانت أيامنا في هذا المعتقل أيامًا مباركة . لأن هذا الجو الصحراوي مع وجود عدد من أكرم الإخوان يناهز الخمسمائة أتاح لهم الفرص للعبادة ومناجاة الله ودراسة القرآن . كما أتاح لهم تبادل الآراء وتبادل المعلومات ، بل أفادهم صحيًا فهو جو نقي تمام النقاء ، وكان الأخ سعد العراقي – وكان إذ ذاك طالبًا في إحدى كليات الأزهر – يقوم بتمرينات رياضية مع بعض الإخوان كما كان الإخوان يقومون بتنظيم محاضرات تتناول مختلف المواضيع التي تتصل بالدعوة . ومع أن الخروج في وقت الفجر من عنابر النوم إلي دورة المياه التي تبعد عن العنابر بأكثر من مائة متر في العراء كان كافيًا لإصابة أفراد المعتقل جميعًا بأمراض خطيرة من أمراض البرد ، إلا أن أحدًا منا يصب بشيء من ذلك طيلة فترة إقامتنا به . وكانت صلاة الفجر تقام جماعة وبعد أداء الصلاة كان الإخوان يستمتعون بالاستماع إلي تلاوة مشجية من القرآن الكريم من الأخ صلاح أبو إسماعيل – الطالب إذ ذاك – ذي الصوت الرخيم فتكون هذه الجرعة القرآنية فاتحة العمل في اليوم الجديد .

• الجو السياسي للبلاد في أثناء هذه الفترة :

لم يكن بد من إدخالنا المعتقلات بعد أن وجد جمال عبد الناصر أن مؤامرته التي حاكها ضد قيادة الدعوة قد فشلت فشلاً تامًا .. ولكن يبدو أن هذه الخطوة جاءت متأخرة عن موعدها المناسب بعض الوقت ، فقد دخل الإخوان المعتقلات بعد أن فهموا تفسير كل ما حدث فهمًا دقيقًا وحددت المواقف أمامهم تحديدًا واضحًا ، كما أن الوعي السياسي في البلاد قد نضج نضجًا كاملاً ، ولم يعد اعتقال الإخوان يعوق سريان أفكارهم في شرق البلاد وغربها وسيطرتها علي أحاسيس الناس ومشاعرهم ، بحيث أصبحت جميع فئات الشعب تهتف من صميم قلوبها للحرية ، وتطالب القائمين علي الحكم بإفساح الطريق لحكم نيابي حر يشعر الشعب بأنه يحكم نفسه بنفسه ، ويمنع كل مواطن حق التعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه .. وكان المثقفون من رجال الجامعة ورجال القضاء والقانون – وهم المعبرون عادة عن أماني الشعب بمختلف طبقاته وقطاعاته – يدبجون المقالات في المطالبة بحكم نيابي حر ، ويطالبون رجال الثورة أن يتخلوا عن مكانهم في حكم الشعب مشكورين بعد أن أدوا مهمتهم وقاموا بدورهم .. وكانت جريدة " المصري " – باعتبارها جريدة رأي وفكرة – المجال الطبيعي لنشر هذه المقالات ، وإعلان هذه المطالبات ، وكانت كما قدمت قد صارت في ذلك الوقت أوسع الصحف انتشارًا لتجاوبها مع رغبات الشعب .

وجاء اعتقال الإخوان وحلهم في هذه الأثناء - وهم قادة الشعب في هذه المطالب – فكان وفودًا زادت به هذه المشاعر الشعبية اشتعالاً ، فكانت تصل إلينا ونحن بالمعتقل ما تفيض به أنهار الصحف – لاسيما جريدة المصري – من مقالات تعبر عن هذه المطالب – كما وصلت إلينا أثناء أنباء جمال عبد الناصر ومحمد نجيب لأن محمد نجيب أيد مطالب الشعب حتى إن جمال عبد الناصر اتهمه بأنه متواطئ ضده مع الإخوان . وفي هذه الأثناء كان الأستاذ عبد القادر عودة لا يزال علي وفاق مع جمال عبد الناصر ولذا فإنه لم يعتقل بل إن جمال عبد الناصر أعطاه حق دخول المعتقل وزيارة المعتقلين والتحدث إليهم وقد حضر عندنا أكثر من مرة – لاسيما في الفترة الأولي من أيام الاعتقال – وتحدث مع بعض الإخوان – ولم أكن منهم لأنه كان يائسًَا من إقناعي بآرائه .. ولكن الأحداث التي وقعت بعد ذلك أخذت شيئًا فشيئًا تهز ثقته حتى أقنعته أخيرًا بأن كان مسرفاً في حسن الظن وبأنه كان علي خطأ في آرائه وتصوراته .

فهو ما كان يتصور أن جمال عبد الناصر يعادي الحرية والحكم النيابي ويعتبر المنادين بذلك أعداءه ، حتى ولو كان المنادي بها محمد نجيب نفسه ، فينسي كل مواقف نجيب ويعلن عزله من مناصبه لمجرد أنه أيد الشعب في هذا المطلب . ثم إن ما رآه أو ما قرأه من اتهامات وجهت إلي الإخوان من جمال عبد الناصر في قرار الحل وبعد هذا القرار ، كل ذلك ما هو إلا اختلاق لا أصل له ، وفهم أن جمال عبد الناصر – اعتمادًا علي أنه وحده دون زملائه يعلم الحقائق – استباح أن يزور عليهم هذه الحقائق ويصدر هذا التزوير في بيان رسمي باسمهم .. ثم موضوع الأسلحة التي رمي بها حسن العشماوي ثم يتبين أنه هو صاحبها .. كل ذلك حمل الأستاذ عبد القادر عودة علي تغيير آرائه والاستقامة مع إخوانه علي رأي سواء .

• مناورة مكشوفة :

في أثناء وجودنا في الاعتقال ، وفي الوقت الذي أطلق جمال ألسنة رجاله من الضباط في سب الإخوان ، فيخطب حسين الشافعي في 6/2/1954 في المحلة الكبرى وأسيوط فينسب إلي الإخوان كل نقيصة ، يخطب الصاغ وحيد رمضان في هيئة التحرير بالإسكندرية يقول :

إن الهضيبي ورجاله لم يكونوا من الإخوان في يوم من الأيام بل كانوا يعيشون حياتهم الماسونية في أحضان الانجليز . ويطلب الرجوع إلي تعاليم حسن البنا . في نفس الوقت وفي 13/12/1954 تنشر الصحف صورة كبيرة تضم جمال عبد الناصر وصلاح سالم والباقوري وعبد الرحمن البنا وصالح عشماوي تحت عنوان " رجال الثورة يشاركون في الاحتفال بالذكري الخامسة للشهيد حسن البنا " . ولا داعي للتعليق علي هذه المناورة المكشوفة لأنها ى تحتاج إلي تعليق .


الفصل الثالث : قمة التهاب المشاعر الشعبية إذعان جمال عبد الناصر

كانت قمة التهاب المشاعر التي أشرنا إليها آنفاً هي مواجهة جمال عبد الناصر بما لم يكن في حسبانه من وقوف رئيس الجمهورية ورئيس مجلي قيادة الثورة اللواء محمد نجيب بجانب الشعب في مطالبته بإفساح المجال لمجلس نيابي تحكم البلاد عن طريقه . ولما كان هذا المطلب هو الوتر الحساس الذي إذا ضرب عليه ضارب ثارت أعصاب جمال عبد الناصر حتى يكاد يفقد توازنه ويختل كيانه ، فقد واجه هذا الموقف بأسلوب هو أقرب إلي الطيش منه إلي الصواب والحكمة ، فقد استصدر قرارًا من مجلس الثورة بتجريد محمد نجيب من جميع مناصبه .. وليس يعنينا هنا في هذه المذكرات تفاصيل هذا القرار ولا ما انتحل من أسباب بعيدة عن الواقع بني عليها اتخاذ هذا القرار . ولكن الذي يعنينا أن القرار قد اتخذ وأن جمال عبد الناصر اعتقد أنه هو الحل للأزمة التي يواجهها . ولا نشك في أن الذي شجع جمال عبد الناصر علي اتخاذ هذا القرار هو اعتقاده بأنه يهزه كيان الإخوان بالمؤامرات التي حاكها وبثها في داخل هذا الكيان ، ثم بإصداره بيان الحل ووصمهم فيه بالخيانة ، وباعتقال مرشدهم وقادتهم ونحو ألف أبرز أعضائهم ، اعتقد أنه بذلك قد تم له القضاء علي الإخوان المسلمين ولم يعد بذلك في البلاد عرق ينبض ، فليتخذ إذن ما يشاء من قرارات وليرفع من يشاء وليخفض من يشاء وليفعل ما يشاء ، فلن يجد من يرفع بذلك رأسًا .

• مظاهرة أول مارس 1954 :

ولكن الذي حدث كان غير الذي دار بخلد جمال عبد الناصر .. فقد أقال محمد نجيب من مناصبه في 25 فبراير .. وإذا به في أول مارس يواجه مظاهرة ضخمة ففي ذلك اليوم توجه جم غفير من طلبة الجامعة – وأنا أكتب هذا ناقلاً من الصحف فقد كنت لا أزال في المعتقل – إلي ميدان إلا بعد أن أطل عليهم محمد نجيب من شرفة قصر عابدين وبجانبه جمال عبد الناصر يضحك .. وخطب فيهم محمد نجيب خطبة طمأنهم فيها علي الحكم النيابي . ولابد هنا من الاعتراف بأن هذه المظاهرة التي كانت من أكبر المظاهرات التي شهدتها العاصمة المصرية في تاريخها ، فقد كان ميدان الجمهورية وهو أوسع ميادين القاهرة بحرًا متلاطمًا بأمواج البشر – كانت هذه المظاهرة بقيادة الإخوان المسلمين . وقد أشارت الصحف إلي بعض شخصيات إخوانية كانت بارزة فيها ، ومن هذه الشخصيات إبراهيم كروم وكان من أشهر " فتوات " القاهرة ، وقد هداه الله وصار من أتقي الإخوان ، وكان ممتطيًا جوادًا يتقدم المتظاهرين ويطلق أعيرة نارية في الهواء . وعز الدين مالك كان يتزعم المتظاهرين راكبًا سيارة جيب مركبًا عليها ميكرفون يردد الهتافات ويوزع المنشورات .

ومما يجدر ذكره ، وينبغي الالتفات إليه أن هذه المظاهرة الضخمة التي قامت بهذه القوة الجارفة ، كانت قادرة علي تغيير كل شيء تريد تغييره .. وكان ذلك كله في غيبة قيادات الإخوان وراء أسوار المعتقلات – ولابد أن جمال عبد الناصر تصور وهو ينظر إليهم من الشرفة بجانب نجيب أنهم قادرون – لو شاءوا – علي النفوذ إليه وإلقاء القبض عليه ، ولا تستطيع قوة أن توقف زحفهم .. ولذا فإنه أوعز إلي نجيب بعد أن أنهي كلمته أن يطلب إليهم الانصراف .. غير أنهم لم ينصرفوا .. فحاول نجيب ذلك مرات دون جدوى . فأسعفته سرعة بديهته – وقد رأي وسط المتظاهرين الأستاذ عبد القادر عودة – فدعاه للوقوف معهما في الشرفة وطلب إليه أن يأمر المتظاهرين بالانصراف فما كاد يأمرهم حتى انصرفوا في التو واللحظة . ومع أن تصرف عبد القادر عودة جاء إنقاذًا لجمال عبد الناصر – وهو يعلم ذلك بيقين – إلا أن جمال عبد الناصر نزر إلي الموضوع من ناحية أخري فتصور أن الذي استطاع فض هذه الجموع في لحظة هو قادر علي جمعها في لحظة .. إذن هو قوة يجب التخلص منها .

هذا ما علق به الكثيرون علي ما كان من أمر هذه المظاهرة ، ولكنني أري أن عزم عبد الناصر علي التخلص من عبد القادر عودة لم يكن وليد ما رآه من قدرته علي فض المظاهرة أو جمعها ، وإنما كان وليد تحول عبد القادر عودة من الولاء له والانحياز لجانبه إلي الولاء للمرشد العام .. لاسيما والأستاذ عبد القادر رحمه الله كان من الرجال الصرحاء الواضحين الذين إذا اتجهوا إلي ناحية اتجهوا إليها بكل ما فيهم ، وإذا أعرضوا عنها أعرضوا بكل ما فيهم ، لا يعرف التوسط في الأمور ولا أخذها برفق .. ليس هذا – كما قدمنا – عيبًا في الخلق ، ولكنه ليس الأسلوب الأمثل في تناول القادة لم ينشأ بين أيديهم من مواقف وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : " إنا لَنَبُشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تكرههم " . وربما تناولنا هذا الموضوع فيما بعد إن شاء الله بمزيد بيان .

ثم إن المقدرة علي جمع المظاهرة رفضها لم تكن تشغل بال عبد الناصر باعتبارها مقدرة خارقة فهو كان من الإخوان ويعرف أن الطاعة التامة من خصائص المجتمع الإخواني .. ولكن الذي شغل باله هو : كيف تم جمع هذه المظاهرة في حين أن جميع قادة الإخوان تحت يديه في السجون ؟ إذن هذا الأسلوب الذي اتبعه من اعتقال القادة والأعضاء البارزين فقط معتقدًا أن ذلك يشل الأتباع الباقين عن الحركة أسلوب خاطئ إن جاز في حق مختلف الهيئات فقد ثبت أنه لا يجوز في حق الإخوان المسلمين .. وإذن فلابد من أسلوب آخر .. أما الأسلوب الآخر الذي بيته جمال عبد الناصر ولم يفصح عنه لأحد حتى لزملائه في مجلس الثورة فهو موضوع فصول قادمة إن شاء الله .. وقد يكون هذا الفصل أولها .

• من نتائج هذه المظاهرة :

1 – رجوع محمد نجيب إلي جميع مناصبه .

2 – خضوع جمال عبد الناصر لمطلب الشعب في حكم دستوري .

3 – عملية إفراج واعتقال جزئية .

4 – تجاوب جميع المثقفين مع الاتجاه الجديد .

5 – الإفراج عن جميع الإخوان المسلمين .

ونتناول في هذا الفصل النتيجتين الأوليتين فنقول :

• رجوع محمد نجيب إلي جميع مناصبه :

صحيح أن أول نتائج هذه المظاهرة رجوع محمد نجيب إلي جميع مناصبه التي كان يباشرها فرجع إلي منصب رئيس الجمهورية ورجع إلي منصب رئيس مجلس الثورة والوزراء . سلم بذلك كله جمال عبد الناصر ولكنه حرص في أثناء تسليم السلطة إلي نجيب علي أن يحتفظ لنفسه بمنصب الحاكم العسكري .. وقد نشرت الصحف في يومي 8 , 9 مارس 1954 الآتي :

يعود اللواء محمد نجيب رئيسًا للجمهورية والوزارة والثورة . وأذيع المرسوم التالي :

" يخول للسيد البكباشي جمال عبد الناصر حسين السلطة في اتخاذ التدابير المنصوص عليها بدلاً من السيدات والسيد اللواء محمد نجيب ، ويرخص له علاوة علي ذلك باتخاذ إجراء آخر لازم للمحافظة علي الأمن والنظام العام في جميع نواحي جمهورية مصر أو في جهات معينة فيها " .

وإذا علمنا أن محمد نجيب – نتيجة هذه الأحداث – كان أقوي رجل في مصر ، كما أن جمال عبد الناصر كان في نفس الوقت في أضعف مركز مر به .. تعجبنا – بعدما فعله عبد الناصر بنجيب من أفاعيل – كيف ينخدع نجيب ويجيب عبد الناصر إلي مطلبه فيتنازل له عن سلطة الحاكم العسكري بل يرخص له علاوة علي هذه السلطة في اتخاذ أي إجراء آخر لازم للمحافظة علي الأمن والنظام العام في ... ولا شك أن موافقة نجيب علي هذا التنازل كان خطأ فادحًا . وكان كالذي اصطادوا له فهذا كاسرًا وقيدوه وسلموه له مقيدًا . فبكل سذاجة حرره من قيود وأطلقه فكان هو نفسه أول فريسة من فرائسه .. لقد منج نجيب عبد الناصر سلاح الحاكم العسكري فأشهر عبد الناصر هذا السلاح أول ما أشهر في وجه مانحه ..

• خضوع عبد الناصر لمطلب الحكم الدستوري :

كان إذعان عبد الناصر لمطلب الحكم الدستوري أمرًا لابد منه أمام الإجماع الشامل للأمة بحيث لم يعد مفر من الإذعان والخضوع .. أما إن هذا الإذعان كان عن اقتناع فهذا ما لم يكن في استطاعة أحد أن يفتح عن قلب عبد الناصر ليري فيه حقيقة هذا الأمر . ولكن التصرفات الظاهرية كانت تشعر بوجود هذا الإذعان إلي حد تحس معه الجدية ففي نفس التاريخ 9/3/1954 سأل مندوب " المصري " البكباشي جمال عبد الناصر عن التطورات التي أعلنت أمس فقال :

" لقد بدأنا منذ شهرين نبحث الطريقة التي يمكن بها تكوين هيئة وطنية تمثل البلاد ، علي أن يكون هذا كفترة انتقال البلاد إلي الحكم النيابي السليم الذي نعتبره هدفاً أساسيًا من أهداف الثورة – وقد كلف مجلس الثورة الأستاذ سليمان حافظ ليتصل بالشخصيات المختلفة للبحث معهم في الأسس التي ينفذ علي أساسها هذا المشروع . وقد أعدت جملة مشروعات أحدها من الأستاذ سليمان حافظ وآخر من الدكتور أحمد فكري الأستاذ بجامعة الإسكندرية . وكانت هذه الموضوعات قيد البحث حتى يمكن الوصول إلي أصلح مشروع يوافق حال البلاد . وكان السبب في هذا هو الشعور بالفراغ بعد تحطيم جميع الأمس القديمة التي بنيت عليها الحياة السياسية البائدة في هذه البلاد ، وكان الجميع يشعرون أنه لابد من القيام بعمل لملء هذا الفراغ " .

وفي غضون هذا التاريخ كتب أحمد أبو الفتوح في " المصري " كلمة جاء فيها :

" أعلن المسئولون عن إطلاق تراجع الدستور وتعتمده . وأعلن المسئولون أن أعضاء الجمعية التأسيسية سيختارون بالانتخاب الحر المباشر . وأعلنوا أن الأحزاب السياسية ستعود . وأعلن المسئولون أن رجال الجيش الذين سيعملون في الحقل السياسي سيستقيلون من الجيش ويعملون كمدنيين لا عسكريين .. وهذه بواكير الحرية هبت علي البلاد " . وفي نفس التاريخ يعقد صلاح سالم عضو مجلس الثورة ووزير الإرشاد مؤتمرًا صحفيًا يعلن فيه :

" الرأي متفق علي اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية بالانتخاب لا بالتعيين – لن يقوم حزب من الأحزاب قبل إقرار الدستور الجديد – مجلس الثورة يمارس سلطة السيادة ولا يشترك في الحكم بعد قيام الجمعية التأسيسية – فترة الانتقال بدأت في أول يناير 1953 وتنتهي بانتخاب الجمعية التأسيسية – الإخوان كهيئة دينية – سيفرح عن جميع المعتقلين وتلغي الأحكام العرفية عند إعلان الجمعية التأسيسية – أعضاء مجلس الثورة لن يعودوا إلي مناصبهم في الجيش ، وسيخوضون المعركة السياسية كمواطنين مدنيين " .

• تجاوب جميع المثقفين مع الاتجاه الجديد :

وإذا طالعت الصحف الصادرة في هذا التاريخ وحوله شعرت بأن الشعب كله كان من وراء هذا الطلب فنقابة الصحفيين تؤيد هذا المطلب وتطالب بإلغاء الأحكام العرفية ، والصحفيون يدلون بآرائهم في تفاصيل الإجراءات التي تؤدي إلي الحكم الدستوري ، فبينما بعضهم يري البدء بتكوين جمعية تأسيسية تضع الدستور وتعتمده ، يري آخرون منهم رأيًا منهم آخر كالأستاذ إحسان عبد القدوس فقد كتب مقالاً بجريدة " المصري " تحت عنوان " برلمان .. لا جمعية تأسيسية " يطالب فيه بانتخاب برلمان تكون مهمته الأولي وضع الدستور . ويقول فيه : إذا قيل إن البرلمان لا يقوم إلا بعد وضع الدستور ، فإننا في ظروف شاذة ولن يضيرنا بعد كل هذا الشذوذ الذي عشنا فيه أن ننتخب برلمانا يضع الدستور . ثم يقول : وأكتب هذا لأنني تبينت ترددًا من أغلبية المواطنين في التقدم للترشيح لجمعية لن تدوم مهمتها أكثر من شهر أو شهرين . ولأني أريد أن أتعجل الاستقرار لمصر وأتجنب المزيد من الشذوذ " .

وبمناسبة ذكر الأستاذ إحسان عبد القدوس أذكر إنه اعتقل وأودع السجن الحربي مع الإخوان بعد أن نقلت منه إلي معتقل العامرية . وأخبرني الإخوان الذين بقوا في السجن الحربي أن الأستاذ إحسان بعد أن فهم دعوة الإخوان أعلن توبته وعاهدهم علي أن يكون لسانًا لهذه الدعوة . ثم إنك تقرأ في الصحف مثل هذه العناوين :

إن البلاد كلها بإعادة الحياة النيابية – مجلس نقابة المحامين بطلب زوال كل القيود التي تحد من الحريات – نقابة الصحفيين تشكر رجال الثورة علي إلغاء الرقابة علي الصحف – هيئة التدريس بجامعة الإسكندرية ترحب بالقرارات الجديدة – جامعة القاهرة تحذو حذو جامعة الإسكندرية . كانت البلاد في حالة نشوة أو صحوة علي حلم لذيذ وجدت في اليقظة بشائره فطارت فرحًا تتعجل له التمام .

• عملية إفراج واعتقال جزئية :

لم يكن منتظرًا أن يكون في أعقاب مظاهرة 28 فبراير 1954 اعتقالات ، ولكن جمال عبد الناصر قرر في نفسه الانتقام من أشخاص معينين بعضهم من الإخوان وبعض آخر من غير الإخوان من معارضيه . فسترًا للإجراء الذي انتواه من اعتقال هؤلاء الأشخاص ألحقه بالإفراج عن عدد من المعتقلين . ففي 3 مارس 1954 اعتقل باعتباره حاكمًا عسكريًا 118 شخصًا بينهم 45 من الإخوان ، 20 من الاشتراكيين ، 50 وفديين ، 40 شيوعيين . وفي 7 مارس أفرج عن الإخوان الأساتذة البهي الخولي وعبد المنعم خلاف وإسماعيل الداعور وحلمي عبد المجيد وعبد العزيز الشابوري ومحمد محمد عصفور .

وكان المقصود من بين الخمسة والأربعين الذين اعتقلوا بعد مظاهرة ميدان الجمهورية اثنين بالذات هما الأستاذ عبد القادر عودة والأستاذ عمر التلمساني لأنه كان قد أبقي عليهما دون اعتقال في حركة يناير 1954 أملاً في أن يحتويهما فلما وجد أنه فشل في ذلك قرر الانتقام منهما فاعتقلهما ولما كان انقلاب الأستاذ عبد القادر عودة عليه انقلابًا مفاجئًا بعد أن كان بعده أقرب الإخوان إليه أراد أن يصب جام غضبه عليه فقد كلف من كلابه الآدميين من سامه هو والأستاذ عمر التلمساني ومجموعة معهما ألوان الإهانة والعذاب ثم خص الأستاذ عبد القادر بلون آخر من القهر تمهيدًا لخطة شيطانية رتبها بينه وبين نفسه ، فقد لفق له قضية اتهمه فيها هو ومعه ثلاثة من الإخوان هم الأستاذ محمود الفوال وعز الدين مالك والشيخ وهبه الفرماوي بالعمل علي قلب نظام الحكم فغي حوادث مظاهرة 28 فبراير .


الباب العاشر : الخدعة الكبـرى


الفصل الأول : هبوط إلي الدرك الأسفل .. هل الغاية تبرر الوسيلة ؟

يبدو أن مظاهرة 28 فبراير 1954 بميدان الجمهورية كانت طعنة نجلاء أصابت عبد الناصر في مقتل لأنها قلبت كل حساباته ، وجعلته يدور حول نفسه . يبحث عن مخرج ، وكلما لجأ إلي طريق وجده مسدودًا وليس أمامه من طريق مفتوح إلا طريق واحد هو طريق الاستجابة للرغبة الشعبية الجارفة في حكم نيابي دستوري حر .. ومع أن سلوك هذا الطريق هو الذي يمليه العقل والواجب فإنه يتعارض تعارضًا كاملاً مع الخط الذي رسمه لنفسه .

ولقد كنا نحن – الإخوان المسلمين – نتحدث بهذا فيما بيننا ونحن في المعتقل مقدرين ما يعانيه من حيرة بين ما نعرف من أماله الديكتاتورية الواسعة ، وبين ما أطبق عليه من ضغط شعبي لا يقاوم . وقد لمسنا فعلاً هذه الحيرة في الرسل الذين كان يرسلهم إلينا في المعتقل بالسجن الحربي والعامرية يتوسطون في المصالحة . وإذا كان هذا الذي كنا نتحدث به فيما بيننا في المعتقل كان مجرد تصور قد يكون مطابقًا للحقيقة أو مبالغًا في التعبير عنها لأن الحقائق الدفينة لم تكن غائبة عنا وحدنا لوجودنا بالمعتقل بل كانت غائبة عن غيرنا ممن يعيشون الحياة الحرة ويقرءون الصحف ويستمعون إلي الأخبار . ولقد مرت الأيام وتغيرت الظروف وأتاحت لنا أن نعرف حقيقة ما كان جمال عبد الناصر يعانيه فعلاًَ من جراء هذا الموقف من أزمة نفسية خانقة حملته علي ارتكاب حماقات وجرائم لا يكاد سامعها أن يصدقها لولا أن الذي يرويها أحد زملائه في مجلس الثورة وشهودها بقية هؤلاء الأعضاء ، فقد جاء في مذكرات عبد اللطيف البغدادي في صفحة 119 من الجزء الأول ، أنه في جلسة مجلس الثورة المنعقدة في 4 مارس 1954 اقترح جمال عبد الناصر حل المجلس وأن يعمل كل فرد من أعضائه علي تكوين فريق Team مكون من عشرة أفراد مهمته التخلص من العناصر الرجعية من الذين يناهضون الثورة وعلي رأسهم الإخوان المسلمون .

ويقول البغدادي في صفحة 98 من مذكراته في نفس الجزء :

" في اجتماع مشترك بين مجلس الثورة وأعضاء الوزارة في 20 مارس 1954 أبلغ جمال عبد الناصر الاجتماع بوقوع ستة انفجارات نسف في مبني السكة الحديد وفي الجامعة وفي محل جروبي في وقت واحد – وعلل لهم ذلك بسياسة اللين في موقف الحكومة، وأن خطورة العودة إلي الحكم النيابي لا تصلح في هذا الوقت " . ثم يقول البغدادي في صفحة 146 من نفس الجزء :

" إن جمال عبد الناصر اعترف بأنه هو الذي قام بهذه الانفجارات . وذلك في اليوم التالي لوقوعها . واعترف بذلك للبغدادي وحسن إبراهيم وكمال حسين . وعزا السبب في قيامه بهذه الحوادث إلي أنه كان يرغب في إثارة البلبلة في نفوس الناس ويجعلهم يشعرون بعدم الطمأنينة حتى يتذكروا الماضي أيام نسف السينمات ويشعروا أنهم في حاجة إلي من يحميهم " .

وهذه الأنباء المرعبة التي لم نعلم بها إلا بعد أن أتاحت الظروف لزملاء عبد الناصر هؤلاء أن يبوحوا بها . هذه الأنباء لفظاعة بشاعتها لا تملك تعليقًا عليها وندع ذلك للقراء الكرام .. ومع ذلك فتتناولها نحن من ناحية مدلولها فقط وهو أن عبد الناصر كان في أضعف موقف .. ولكن الشرفاء من الحكام مهما بلغ موقفهم من الضعف كل مبلغ وأحاطت بهم أحرج الظروف من كل جانب لا يفكرون مجرد تفكير في مثل ما فكر فيه جمال عبد الناصر وما فعله فعلاً .


الفصل الثاني : الإفراج عن الإخوان وقد عادت الأمور كلها في أيديهم

من حق السادة القراء أن أكاشفهم بما ينتابني من شعور مما يتصل بتسطير هذه المذكرات باعتبار هذا الشعور وهذه الأحاسيس جزءًا لا يتجزأ من المذكرات .. وقد أغفل ذلك في بعض الأحيان حين لا يكون انفعالي الشعوري شديدًا ، فكثير من الأحداث ينساب التعبير عنها من قلم الكاتب وتمر تحت عين القارئ ولا يري كلاهما أن انفعالاً ذا بال يستوقفه عندها فهي أحداث عادية أو قريبة من العادية أو هي أحداث متوقعة .. أما الحدث الغريب أو غير المتوقع كما لو نبئت بأم قتلت ابنها فإنك لابد من انفعال يهز كيانك واندفاع نحو التعبير عن هذا الانفعال . ولقد كنت أكتب هذه الفصول وما يتصل فيها بجمال عبد الناصر وفي مخيلتي صورة عن هذا الرجل تكونت في خاطري نتيجة أحداث مختلفة ، مر حتى الآن في هذه المذكرات بعضها وآت إن شاء الله بعض آخر منها ، ولهذه الصورة في مخيلتي معالم كثيرة لا أري داعيًا لذكرها الآن ، ولكن أذكر منها معلمًا واحدًا هو الخسة ، ولكن هذه الجلسة لم أنفعل بها انفعالاً يستوقفني أمامها لأنها صفة شائعة في كثير من أصحاب السلطة والحكام .

ولكن الذي قرأته مما سجله البغدادي في مذكراته عن موقفين من مواقف الخسة لعبد الناصر وجدتني قد انفعلت بهما انفعالاً كاد يحطم فؤادي .. كيف أن إنسانًا ينحط إلي هذا الدرك الأسفل من الخسة والنذالة ثم يسمح لنفسه بعد ذلك أن يمشي بين الناس بل أن يكون حاكمًا ؟! أقسم لقد شعرت حين قرأت هذين الموقفين بما يعبر عنه في اللغة الدارجة " بالقرف " وهممت بأن أنقطع عن الكتابة استقذارًا لهذه الشخصية .. وتوقفت فعلاً فترة حتى هدأت مشاعري .. تذكرت أنني لا أكتب عن هذه الشخصية وإنما أكتب عن الإخوان المسلمين .. ودار في خاطري مما يتصل بموقفي أن الذين سطروا أحداث السيرة النبوية العطرة لم يمنعهم من تسطيرها ما اتصل ببعض أحداثها من أشخاص أخساء .. ولا أقصد بالأخساء أعداء الإسلام من المشركين أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة فهؤلاء كانوا أعداءً ولكنهم لم يكونوا أخساء لأنهم كانوا يصارحون بالعداء ، وإنما أقصد أقيال اليهود من أمثال مالك بن الصلت ولبيد بن الأعصم وكعب بن الأشرف وشاس بن قيس الذي مر يومًا علي الأنصار – الأوس والخزرج – وهم مجتمعون فساءه ما رأي من ألفتهم بعد ما كان بينهم من العداوة ، فأمر شابًا من اليهود وقال : اجلس بينهم ثم اذكر يوم بعاث – حرب كانت بينهم في الجاهلية – ففعل فأذكي ذلك بينهم روح عداء خمدت وكادوا يقتتلون لولا حضور النبي صلي الله عليه وسلم .

ولهذا شرعت أواصل الكتابة مستعينًا بالله ملتزمًا أن أبرز الأحداث وأجلي المواقف مهما كان في ذلك من مرارة .. فأقول :

إن جمال عبد الناصر بعد أن ارتكب جريمة النسف وعرض اقتراحه بارتكاب جرائم الاغتيال وحاول أن يثير بها زملائه بمجلس الثورة ووزراءه ولم يجد لذلك أثرًا في إيقاف المد الشعبي المتزايد .. لم ييأس وعزم علي تدبير خطة أخري فادعي المرض واعتكف في بيته خمسة أيام ولا أحد كان يعلم ما الذي انتهي إليه من خطة في خلال هذا الاعتكاف ، ولكننا عرفنا الخطة وعرفها غيرنا بعد أن نفذها .. وتفصيل الخطة الجديدة هو ما يأتي في هذا الفصل وفي الفصول القادمة إن شاء الله .

• إفراجات ووسطاء :

في خلال تلك الفترة كانت تتوالي إفراجات عن أعداد قليلة من الإخوان ، فبين يوم وآخر يأتي ضابط من المسئولين عن المعتقل وينادي علي عدة أسماء يطالب إلي أصحابها إعداد أنفسهم ومهماتهم للإفراج عنهم . ولما قرب شهر مارس علي الانتصاف رأينا دفع الإفراجات تكبر وتتقارب حتى صار في كل يوم إفراج مجموعة كبيرة . وقد بلغنا ونحن في معتقل العامرية أن هناك وساطات يرسلها عبد الناصر للمرشد العام في السجن الحربي يعرضون عليه الصلح .. وكان المرشد في ذلك الوقت قد تمكن من تهريب خطاب وجهه إلي مجلس الثورة الذي أصدر بيان حل الإخوان طالبهم فيه بالمباهلة فيما نسبوه إلي الإخوان في هذا البيان من تهم ، والمباهلة أسلوب قرأني يتحدي المكذوب عليه الكاذب بأن يطلب الطرفان – وقد جمع كل منهما أهله وذويه – أن ينزل الله لعنته علي الكاذب .. ولا يطلب المباهلة بطبيعة الحال إلا الطرف الواثق كل الثقة من براءته ولا يهرب منها إلا الكاذبون المفترون .. وتردد الوسطاء بين عبد الناصر والمرشد العام ، والمرشد مصمم علي أن لا يغادر السجن حتى تثبت براءة الإخوان مما نسب إليهم وأن يرد إليهم اعتبارهم ..

وقد بلغنا ونحن في العامرية حيث كنا آخر من غادرها أنه تم الاتفاق علي أن يخرج المرشد العام وجميع المعتقلين ، وأن يقوم جمال عبد الناصر – ردًا لاعتبار الإخوان – في نفس اليوم بزيارة المرشد العام في منزله . علي أن يكون للإخوان أن يزاولوا نشاطهم كاملاً وأن ترد إليهم ممتلكاتهم ودورهم وكل ما أخذ منهم . وأن يصدر مجلس الثورة بيانًا يوضح فيه حقيقة الأسباب للحل علي أن يكون هذا البيان مسك الختام في هذه المعادلة . والذي أذكره يوم خرجت من المعتقل مع المجموعة التي كانت معي يوم 25 مارس 1954 ، وأركبنا سيارة نقل حكومية أننا طيلة الطريق كنا نهتف بهتافات الإخوان ونهتف للحرية وللحكم الدستوري والحكم بالشريعة الإسلامية وكان الناس الذين نمر بهم في مكان يصفقون لنا ويشيعوننا بعبارات التشجيع والتأييد . يوم 25 مارس هذا الذي أفرج فيه عن آخر دفعة من المعتقلين هو نفس اليوم الذي اجتمع فيه مجلس الثورة اجتماعًا استمر خمس ساعات بحث خلالها الموقف الداخلي . وبعد انتهاء الاجتماع خرج الصاغ كمال الدين حسين إلي الصحفيين وأذاع عليهم القرار التاريخي وهذا نصه :

قرار مجلس الثورة بجلسته اليوم 25/3/1954 :

أولاً : يسمح بقيام أحزاب .

ثانيًا : المجلس لا يؤلف حزبًا .

ثالثًا : لا حرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير علي الانتخابات .

رابعًا : تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابًا حرًا مباشرًا بدون أن يعين أب فرد وتكون لها السيادة الكاملة والسلطة الكاملة ، وتكون لها سلطة البرلمان كاملة ، وتكون الانتخابات حرة .

خامسًا : حل مجلس الثورة في 24 يوليو المقبل باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد للمثلي الأمة .

سادسًا : تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها .

ملحوظة : يقول صاحب المذكرات : في الصحف التي نشرت هذه القرارات صورة واضحة لجمال عبد الناصر وبجانبه صلاح سالم ، يبدو فيها عبد الناصر في هيئة المغلوب علي أمره والذي يفكر في مخرج من هذا المأزق الذي وضع فيه . وبعد أن نشرت الصحف هذه القرارات نشرت ما يأتي :

" تم الإفراج أمس عن الأستاذ حسن الهضيبي من السجن الحربي كما أفرج عن باقي أعضاء جماعة الإخوان المعتقلين . وقد تم اتصال أمس بين المسئولين وبين السيد / حسن الهضيبي المرشد العام قبل الإفراج عنه بشأن عودة جماعة الإخوان المسلمين إلي نشاطها السابق . وقد تم الاتفاق معهم علي ثلاث نقاط :

أولاً : أن تعود الجماعة إلي سابق نشاطها وكيانها بدون أي حد من حرياتها ، وإعادة أموالها المصادرة وشعبها ومركزها العام .

ثانيًا : الإفراج فورًا عن جميع الإخوان مدنيين وعسكريين مع إعادة من فصل منهم إلي الخدمة العسكرية .

ثالثًا : أن يصدر مجلس الثورة بيانًا يوضح فيه حقيقة الأسباب التي اعتبرها داعية إلي حل الإخوان . ويكون هذا البيان بمثابة الختام في هذه المسألة المؤسفة .

وقد صرح السيد حسن الهضيبي بأن الإخوان سيكونون بعد عودتهم عونًا للحكومة علي طرد الانجليز من منطقة قناة السويس ورد اعتداءاتهم الوحشية – وفي منتصف ليلة أمس توجه البكباشي جمال عبد الناصر إلي منزل الأستاذ الهضيبي حيث اجتمع به في منزله .


الفصل الثالث : الفترة المحرجة والفرصة المضيعة

خرج الإخوان من هذا الاعتقال وهم سادة الموقف .. لم يكونوا في يوم من الأيام أقوي مما كانوا عليه في ذلك اليوم . فالحكومة أفرجت عنهم وهي راغمة ، بل إنها كانت في إفراجها عنهم متوسلة إليهم ، ملتمسة الرضا والصفح عنها والتجاوز عن سيئاتها معهم ، حتى إنهم اشترطوا علي الوسطاء الذين أرسلتهم الحكومة إليهم في المعتقل أن لا يخرجوا من المعتقل إلا إذا ردت الحكومة اعتبارهم بأن تصدر تكذيبًا لنفسها فيما أفترته عليهم – وانتهوا إلي حل وسط بأن يخرجوا ويقوم جمال عبد الناصر بزيارة المرشد العام في بيته وقد فعل . كما أن جميع أهل الرأي من صحافة وقانون ، وجماعات أساتذة وطلبة ، وقطاعات الشعب جميعًا حتى الجيش .. كلها تعج بالهتاف والدعوة إلي رأي الإخوان وفكرتهم ويثيرون إليهم بأصابعهم ، ويرمقونهم بأنظارهم وينتظرون خروجهم من المعتقلات ليقودوا الأمة إلي تحقيق أمانيها في الحرية والحكم النيابي الصالح السليم .

بل إن الأجانب – وما كان أكثرهم في تلك الأيام – كانوا في نفس موقف الأهالي ، ويسيطر عليهم نفس الشعور في ترقب ما يقرره الإخوان من خطوات .. حيث جاء مراسلو الصحف الأجنبية إلي المرشد العام يوجهون إليه الأسئلة عن معاملة الحكومة الإسلامية للأجانب ولغير المسلمين ويرد عليهم بالنصوص القرآنية والنبوية فيطمئنون . وقد لمست هذا الشعور بنفسي حين خرجت من المعتقل وذهبت إلي عملي بمحلج القناطر الخيرية – وكان أكثر العاملين فيه تجارًا أجانب كما أن إدارته كانت من الأجانب .. ما كادوا يعلمون بحضوري إلي المحلج حتى أقبلوا عليّ والتفوا حولي يمطرونني بنفس النوع من الأسئلة التي وجهت إلي المرشد العام ، ولأنهم علموا – ولا أدري كيف علموا – بأنني من المسئولين في دعوة الإخوان المسلمين ، أحسست كأنهم يريدون أن يحصلوا مني علي ما يشبه الحماية لأنفسهم وأموالهم .. وقد أجبتهم إلي ما طلبوا مؤكدًا لهم أن الإخوان المسلمين مضطرون إلي حمايتهم لا بحكم صداقة شخصية وإنما بحكم القرآن نفسه ، الأمر الذي جعلهم يرحبون بالحكومة الإسلامية .

• دليل آخر علي أن الإخوان كسبوا الجولة :

ولا أخال القارئ محتاجًا إلي أدلة أخري علي أن الإخوان قد كسبوا الجولة وخرجوا من المعتقلات وهم في أقوي المواقف ، ولكني مع ذلك أسوق دليلاً آخر ، ذلك أن إخواننا الثلاثة الكبار الذين فصلوا يوم 9 ديسمبر 1953 ، واعتمدت الهيئة التأسيسية فصلهم يوم 10 ديسمبر ، وقد قابلوا هذا الفصل بالهزأ والسخرية ، وذهبوا إلي أحضان محركهم يلتمسون في ظل سلطته الحماية . هؤلاء الثلاثة لما رأوا الأوضاع قد انقلبت وأن الكفة التي قبعوا فيها وراء محركهم قد شالت وأن كفة الإخوان رجحت أيقظت فيهم قرارات 25 مارس 1954 عاطفة الأخوة الإسلامية التي كانت خابية في نفوسهم منذ 15 يناير 1954 فأصدروا بيان في الصحف في نفس يوم إعلان قرارات مارس ممهورًا بتوقيعاتهم وتوقيع الأربعة الذين فصلوا إليك نصه :

" رجال من الإخوان يطالبون الحكومة بعودة الإخوان بأوضاعها وقيادتها ومرشدها بتوقيع صالح عشماوي وعبد الرحمن السندي ، وأحمد عبد العزيز جلال ومحمد الغزالي وأحمد زكي حسن وأحمد عادل كمال ومحمود الصباغ " .

بسم الله الرحمن الرحيم – لقد أثبتت الحوادث أن قرار حل الإخوان المسلمين كان خطأ بالغاً من مجلس قيادة الثورة وانتكاسًا أصيبت به البلاد – أما الخطأ فلأن المراقبين لتطورات الحوادث الداخلية في مصر في السنين الأخيرة يعلمون تمامًا أن هذه الثورة ما كانت إلا وليدة لكفاح دموي شاق قام به الإخوان المسلمون ضد الطغيان الملكي وضد الأوضاع التي كانت قائمة – وكان ثمن هذا الكفاح الشعبي خيرة شباب الإخوان المسلمين وفي مقدمتهم إمامهم ومرشدهم حسن البنا – وأما الانتكاس فلأن حل الإخوان المسلمين هو الفرصة الوحيدة التي كان يتطلع إليها الاستعمار ، ويعمل لها أذنابه .. فكانت النتيجة أن برزت المؤامرات والفتن , وأسفر الاستعمار عن نواياه في مصر والسودان والعالم الإسلامي .

ولا عجب أن يحدث هذا الخطأ وهذا الانتكاس وفي مصر نفر من عجائز السياسة الذين كانوا من عمد عهد الملكية السابق يتظاهرون بالالتفاف حول الثورة ورجالها ، في الوقت الذي يتربصون بهم الدوائر ، وينصبون الشباك والأحابيل ويدفعون إليها دفعًا . ونحن إذ نري هذه السياسة التي تورط فيه رجال الثورة ، وما نتج عنها من تحرش الانجليز واعتداءاتهم المتكررة علي المواطنين العزل ، وتصريحات ساستهم – ونري أيضًا استغلال اليهود لهذه الفرصة ، وحشد قواهم علي حدود الأردن وسوريا . فلذلك رأينا أن توضح هذه الحقائق :

فالحقيقة الأولي : أن الإخوان المسلمين كتلة واحدة يعملون صفاً واحدًا ، وما كان لهم أن يعملوا إلا كذلك . وقد حاولنا منذ اللحظة الأولي لقرار الحل أن نوضح للحكومة هذه الحقيقة عمليًا حينما وضعنا أنفسنا تحت تصرف قيادة الإخوان دون اعتبار لأي وضع سابق لنا في تنظيمات الجماعة .

والحقيقة الثانية : أن مصلحة الاستقرار الداخلية في عودة الإخوان كهيئة إسلامية جامعة ، وليس هذا العود في صالح الإخوان فحسب كما يبدو للسطحيين ، فقد أثبتت المحن السابقة أن مثل هذه القرارات بحقهم لم تصبهم بقدر ما تصيب أعداءهم ولكن المصلحة في الاستقرار الداخلي والاستقرار وحده .

والحقيقة الثالثة : أن الإخوان المسلمين سيقفون طبيعيًا بالمرصاد لأي خطوة رجعية تعود بالبلاد نحو أوضاع استعمارية قديمة بعد أن دمرها جهادهم المرير وتضحياتهم الدموية الغالية . ولن يتخلي الإخوان المسلمون اليوم عن تاريخ الأمس ، فليحذر أولئك الذين داعيهم الأمل ظنًا منهم أن الإخوان قد غفلوا عن أسلحتهم ، وما هي إلا الصبر والجهاد المستمر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً .

والحقيقة الرابعة : أن العود للحياة الطبيعية ليس معناه تمثيلية يخرجها عجائز السياسة حتى يخدع بها الشعب فالحياة الطبيعية في عرف الإخوان المسلمين هي في أوضاع سليمة تتفق ومبادئنا التي هي مبادئ شعب وادي النيل ويقف من ورائها أربعمائة مليون مسلم .

أما الحقيقة الخامسة : فهي أنه يجب علي الحكومة أن لا تستمر في ورطها في هذا الخطأ البالغ في حق الوطن والإسلام خصوصًا بعد أن أنذرتها الحوادث والنذر بسوء العاقبة . ولن يكون ذلك إلا بأن تسرع بإعادة الإخوان المسلمين فورًا كاملة متكاملة . وبعبارة أوضح أن تعود الجماعة بأوضاعها وقيادتها ومرشدها ، وأن ترد إليها جميع دورها وأموالها وأن يفرج فورًا عن جميع المعتقلين مدنيين وعسكريين ، وأن يصفي الموقف بأجمعه بحفظ جميع القضايا التي نتجت عن هذا الوضع .

وهذه المطالب يقف جميع الإخوان من خلفها صفًا واحدًا لا يعرفون ولا يستغيثون فيها اشتراطات أو مساومات لا يقبلها الأعزة المؤمنون .. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

                                                                                      توقيعـات 

أوردت هذا البيان علي طوله الذي صدر من هؤلاء الإخوان الذين كانوا سوطاً يلهب به جمال عبد الناصر ظهور الإخوان المسلمين .. أصدروا بيانهم هذا في نفس يوم إذعان جمال عبد الناصر بصدور قرارات 25 مارس .. وأين كان هذا البيان طيلة الفترة من 15 يناير حتى 24 مارس وما قبلها ؟! .

ولم يقتصر هؤلاء الإخوان علي إصدار هذا البيان بل كانوا من أوائل من زاروا المرشد العام في بيته وطلبوا منه الصفح وأن يرجعوا إلي أماكنهم في الدعوة ، ولا أدري ماذا قضي مكتب الإرشاد في أمر الأربعة الذين كان قد فصلهم ، ولكن الذي حدث أن سألني المرشد عما إذا كنت أوافق علي إلغاء فصل الثلاثة الذين فصلوا وقد جاءوا معتذرين وطلبوا تجديد البيعة فقلت له : إنما كان الفصل إشعارًا لهم بخطئهم فإذا كانوا قد جاءوا معتذرين فكأنهم بذلك قد اعترفوا بخطئهم وأنا أول من يرحب برجوعهم إلي الصف . ولكن المعني الذي هدفت إليه من إيراد كل هذه القصة الطويلة التي لم يكن كل ما جاء فيها من مطالب إلا تحصيل حاصل جاء واضحًا في قرارات مارس .. المعني في ذلك أن هؤلاء الإخوة شعروا بأن الدعوة التي خاصموها قد قهرت أعداءها فلم يكن أمامهم من سبيل إلا طلب الصفح منها .. وهذا وحده دليل علي أن الإخوان كسبوا الجولة كسبًا جعلهم سادة الموقف .

• فرصة الفرص أضعناها :

كانت الفكرة التي في رأسي منذ أواخر أيام الاعتقال هي أن الإجراء الوحيد الذي علينا أن نتخذه في اليوم التالي لخروجنا هو أن نضع يدنا علي مرافق البلاد ، ونتخذ لنا وضعًا في حكومة انتقالية يشل حركة جمال عبد الناصر شللاً تامًا حتى نستطيع تنفيذ ما اتخذه مجلس الثورة من قرارات رغم أنف جمال عبد الناصر .. ولعل القارئ يري معي أنه في ظل الظروف التي سردتها لم يكن أحد يستطيع أن يقف في طريق الإخوان إذا هم تقدموا لاحتلال مكانهم . ومن حق التاريخ أن أقرر هنا أن الإخوان لم يوفوا هذا الموقف حقه من الحركة ، فقد كان الموقف يقتضيهم أن لا يضيعوا ساعة واحدة بل دقيقة واحدة منذ خرجوا هذا الخروج المنتصر من المعتقل إلا استغلوها أكمل استغلال ، لاسيما وهم جربوا أنهم يتعاملون مع ثعلب ماكر وشخص مجرد من الأخلاق والدين والضمير والإنسانية – والتعامل مع مثل هذا الثعلب يوجب الحذر ، ويتطلب المكر والحيلة والخديعة ولا يفل الحديد إلا الحديد .

كان علي الإخوان أن ينتهزوا هذه الفرصة من أول لحظة خرجوا فيها من المعتقل ليعملوا عملاً إيجابيًا يحقق آمال الأمة التي تنتظر منهم هذا العمل مهما أدي هذا العمل السريع إلي تضحيات إذا ما تصدي لهم جمال مع فلوله إن كان بقي له فلول . لكن الذي حدث كان غير ذلك . طن الإخوان أنهم وصلوا بالأمور إلي نهايتها ، وأن الرقاب قد دانت لهم ، وأن الظروف قد خضعت لمشيئتهم .. فخرجوا من المعتقلات مستسلمين إلي حالة من الاسترخاء والاستجمام أثارت غضبي . فقد كانت الفكرة التي أشرت إليها مسيطرة علي رأسي تمام السيطرة . فذهبت في مساء اليوم التالي لخروجنا إلي المركز العام كعادتي علي أمل أن ألقي الأستاذ المرشد والإخوة المسئولين ، لم أجد أحدًا منهم . فسألت الأخ الأستاذ محمد الطوبجي مراقب المركز العام عنهم فقال لي : إنهم في بيت المرشد يستقبلون المهنئين بالخروج من المعتقلات . وجئت في اليوم الثاني فلم أجد أحدًا .. وقيل لي إنهم لا يزالون يستقبلون المهنئين .

فاستشطت غضبًا . بل إن أعصابي كادت تحترق من الغضب . وأنا أعلم أن جمالاً لن يمهلنا حتى نستجم ونستوفي حقنا من تهاني المهنئين . وذهبت إلي المركز العام في اليوم الثالث فالتقيت بالأخ الأستاذ عبد الحكيم عابدين الذي بادرني بقوله : إن الأستاذ المرشد عاتب عليك . قلت : لماذا ؟ ، قال : لأن جميع الإخوان المسئولين وغير المسئولين زاروه مهنئين حتى صالح عشماوي والغزالي والسندي وزملاؤه المفصولون . وأنت الوحيد الذي لم تزره .

فقلت له : إنني لم أزره ولن أزوره ، وصببت عليه – رحمه الله – جام غضبي وقلت له أبلغ الأستاذ المرشد أن بقاءه في بيته يستقبل المهنئين ليس هو العمل الإيجابي الذي ينتظره الشعب من الإخوان المسلمين في هذا الظرف الدقيق . وإن الذي جربناه فوجدناه يستبيح الكذب والاختلاق والافتراء والغدر لن يمهلنا حتى نتم استقال وفود المهنئين . ولم يكن عبد الحكيم فيما يبدو لي يري ما أري ، كدأب الإخوان عامة يغلب عليهم حسن الظن الذي جرَّ عليهم وعلي الأمة ما جر من مصائب وأهوال . ولم ألتق بالأستاذ المرشد والإخوة المسئولين إلا في اليوم التالي في حفل شاي دعيت إليه في منزل الأخ منير الدلة .. وقد أفضيت إلي الأستاذ المرشد بما عندي ، فاعتذر إليّ بأنه لم يستطع أن يغادر بيته لحظة لتدفق وفود المهنئين التي لم تدع له فرصة للراحة ولا حتى للاختلاء بنفسه ولو لحظة من ليل أو نهار .

وقد ساءني أن وجدت الحديث الدائر بين كبار الإخوان في هذا الحفل منصبًا في أكثره علي موضوع الانتخابات القادمة وموقف الإخوان منها ، والتفاهم مع جمال علي كيفية إجرائها .. مما جعلني أتخلص نمن هذا الحديث وانتحي جانبًا مع الأخ الأستاذ محمد فرغلي الذي كان دائمًا يتفق معي في الرأي ، وقد كاشفته بما في نفسي .. وخرجت وإياه من هذا الحفل غير منشرحي الصدر كأنما نتوقع شرًا ، ولكن لا ندري كيف يكون . وقد حضر في خلال تلك الفترة إلي مصر الملك سعود بن عبد العزيز لمحاولة التوفيق بين جمال عبد الناصر والرئيس محمد نجيب .. وقد استقبل الملك وفدًا من الإخوان برياسة المرشد العام مرحبين بمقدمه وقد أعرب لهم عن سروره بأن يري الإخوان يستأنفون نشاطهم ورسالتهم . وفي أول يوم حضر فيه المرشد العام إلي دار المركز العام أدي صلاة الشكر بالفناء الخارجي للدار وأم المصلين – وفي جموع زاخرة من الإخوان قام الأخ الأستاذ عبد القادر عودة محمولاً علي الأعناق وألقي الكلمة التالية :

" الحمد لله الذي أرجعنا إلي هذا المكان بعد أن غيبتنا غياهب السجون فترة من الزمن .. ثم أوصي الإخوان بأن يكونوا صفاً واحدًا ، تحت قيادة واحدة وقال : إن الله قد اختار لنا الخير كل الخير بهذا الحل . لأن القلوب قد تلاقت ، والأفكار قد اتحدت – ثم قال : إن الدعوة الإسلامية الأولي لم تتحقق بأكثر من هذا العدد الموجود في فناء المركز العام الليلة . وثقوا أنه ما من قوة تستطيع أن تقضي علي هذه الدعوة بحديدها ونارها ، مادمتم متمسكين بحبل الله المتين والحب القوي الذي يربط بين قلوبكم " .

ثم تكلم الدكتور خميس والأستاذ عمر التلمساني . ثم نهض المرشد فقال :

" إننا نؤثر دائمًا المصلحة العامة . وإننا ندع الماضي فلن نتحدث فيه لنعمل جاهدين علي طرد المستعمر الغاصب . وإن الإخوان المسلمين هم القوة التي تستطيع أن تدوخ المستعمر – وطلب بجمع الصفوف بين أفراد الأمة ليتحقق الغرض المأمول " .

   وفي خلال هذه الفترة قرر مكتب الإرشاد تكوين لجنة للاتصال بالحكومة ومجلس الثورة من الدكتور كمال خليفة والشيخ محمد فرغلي والأستاذ صالح أبو رقيق والدكتور عبد القادر سرور للتفاهم علي المسائل المتعلقة بالجماعة .. وكان من أول ما طالب به الإخوان الإفراج فورًا عن باقي المسجونين ومن بينهم الأخوة : الصاغ أ.ح معروف الحضري والصاغ أ.ح حسين حمودة وغيرهم من الضباط الذين كانوا لا يزالون محبوسين بسجن الأجانب وغيره من المعتقلات . 


الفصل الرابع : مفاجأة أجهضت مكاسب الشعب

في اليوم التاسع والعشرين من مارس 1954 بينما كنت أباشر عملي بمحلج القناطر الخيرية – ويقع هذا المحلج علي الطريق الرئيسي الموصل إلي القاهرة والمحاذي لشاطئ النيل – فوجئت بهتافات متواصلة ، وبأصوات مرتفعة . فخرجت إلي بوابة المحلج فرأيت سيارات نقل ممتلئة بعمال ، تبين لي أنهم من عمال وزارة الزراعة جاءهم أمر الوزارة بترك أعمالهم وركوب هذه السيارات الحكومية – سيارات نقل – ومع كل سيارة شخص يحسن القراءة والكتابة . يقرأ الهتافات المكتوبة في ورقة ويرددها خلفه ركاب السيارة دون أن يعرفوا معناها . وكانت هذه الهتافات متعددة ، ولكن أبرزها وأكثرها ترديدًا قولهم : " لا أحزاب ولا حزبية ولا جمعية تأسيسية " . ثم بلغني أن جميع وسائل المواصلات معطلة في شبه إضراب .

فتعجبت وتعجب الناس كيف استطاع العمال العاملون في وسائل النقل المختلفة من ترام إلي أتوبيس إلي مترو إلي سيارات الأجرة أن تلتقي إرادتهم المختلفة ، وظروفهم المتباينة ، وأماكنهم المتباعدة علي هذا الإضراب المفاجئ ، الذي شل حركة العاصمة شلالاً تامًا – ثم كيف التقت إرادات عمال الحكومة من مختلف وزاراتها ، وعلي تباعد أماكن العمل لكل نوع منها .. كيف التقت إراداتهم رغم ذلك كله ، فخرجوا في وقت واحد مضربين متجهين جميعًا إلي قلب القاهرة هاتفين بهتاف واحد وبصيغ واحدة ذات معان سياسية فوق مستوي إدراكهم وثقافتهم . وكيف يقدم هؤلاء العمال علي الإضراب وهم قد رأوا بأعينهم منذ قليل أن عمال شركة واحدة هي شركة كفر الدوار للغزل والنسيج أضربوا مرة واحدة في عهد الثورة فشنقت الثورة اثنين من زعمائهم علنًا .. ؟! . تحير الناس في تعليل ما رأوا وما فوجئوا به .. ولكن انكشف بعض هذا الغموض حين اتصل من كان معنا بالمحلج ببعض هؤلاء العمال المحملين في سيارات الحكومة فأخبروهم بأنهم مكلفون بهذا الإضراب من رؤسائهم بناءً علي تعليمات من جهات عليا وأنهم ستصرف لهم أجورهم عن هذا اليوم كاملة .

• وصف المفاجأة :

سأنقل من جريدة " المصري " التي صدرت في اليوم التالي وصفًا لما حدث في خلال هذا اليوم العجيب حيث كتبت تقول :

" سيطر علي القاهرة أمس جو غريب رهيب لم يكن في يوم من الأيام مسرحًا لما يماثله .. فقد نزلت إلي الميدان عدة " فرق " معينة مكونة من بعض الأشخاص . نزلت هذه " الفرق " إلي القاهرة أمس فأدت إلي تكوين جماعات متعددة أخذت تطوف بمختلف أحياء العاصمة وطرقاتها الرئيسية – وعلي الرغم من أن هذه الجماعات كانت قليلة العدد إلا أنها كانت كثيرة العدة . فلقد رددت هذه الجماعات الضئيلة العدد ، العالية الضوضاء ، هتافات غريبة ، وكانت هذه " الجماعات " وتلك " الفرق " المعينة تهتف هتافات عدائية ، وتندد بالحياة الديمقراطية وقيام الأحزاب .

• تعطل المواصلات :

ولقد أدت هذه المظاهرات إلي تعطل جميع وسائل النقل في مختلف أنحاء العاصمة ، فتوقفت سيارات الأتوبيس ومركبات الترام والمترو .. حتى سيارات الأجرة التي ظل سائقوها في عملهم حتى ساعة مبكرة من صباح اليوم سيتوقفون توقفًا تامًا .

• مطالبة الموظفين بالتوقف :

ولم تقف موجة المظاهرات عند هذا الحد ، فقد ظلت " جماعاتها " تطوف بدواوين الحكومة مطالبين موظفيها بترك أعمالهم . وهكذا تعطلت العاصمة وشلت حركتها تمامًا ، وانعدمت فيها كل مظاهر الحياة .

• مظاهرة ضد " المصري " :

وقد تجمعت بعض هذه " الفرق " أمام دار جريدة " المصري " في حوالي الساعة الثانية والنصف بعد ظهر أمس وهي تردد هتافات " تسقط المصري العاهرة وتعيش الجمهورية الحرة " .

ولما كانت الأوامر قد صدرت إلي رجال البوليس بعدم التعرض لهذه " الجماعات " أو تفريقها فقد اعترض طريقها إلي " المصري " رجال البوليس الحربي . ولكن هذه " الجماعات " لم يرضها من البوليس الحربي ذلك فتراجعت إلي الوراء في شارع القصر العيني وأفرادها يقذفون الحجارة ليحطموا بها زجاج نوافذ الدار ، وقد تحطم بعض زجاج غرفة رئيس التحرير . وقد أصابت حجارتهم فضلاً عن تحطيم النوافذ أربعة من رجال البوليس الحربي في رؤوسهم فأصابتهم بإصابات مختلفة – ثم انصرفت هذه " الجماعات " من أمام دار جريدة " المصري " متجهة إلي جهات أخري .

وخطب الصاغ صلاح سالم في المتظاهرين أمام رياسة مجلس الوزراء أمس فقال : إن الثورة ستستمر في طريقها ، وإن الوجوه القديمة من الشيوخ والنواب السابقين لن تعود إلي الوجود . ويلاحظ أنه بعد يوم واحد من اتخاذ القرارات المشار إليها أخذت الأمة تشتد حتى بلغت ذروتها عقب عودة الرئيس نجيب من زيارته للإسكندرية يصحبه جلالة الملك سعود إذ فوجئ بمطالب تتعارض تمامًا مع ما اتخذه مجلس الثورة . وقال البكباشي جمال عبد الناصر إنها رغبة الجيش بجميع وحداته . ووجد الملك سعود أن من الواجب السعي لتقريب وجهتي النظر فدعاهما إلي قصر القاهرة لبحث هذا الأمر . وأجل الملك العربي سفره أمس إلي اليوم أملاً في حل الموقف – وفي صباح أمس زار جمال عبد الناصر الرئيس نجيب في داره للتباحث في هذا الشأن – وقبل ظهر أمس اجتمع المؤتمر المشترك لبحث المبادئ التي يمكن أن يتم الاتفاق عليها حلاً للمواقف . وقد انتهي المؤتمر من إقرار هذه المبادئ علي أن يتم بحث تفاصيلها اليوم . والمفهوم أنها لن تعترف بالأحزاب ، وسيكون لمجلس الثورة السيادة ، كما يدور البحث حول شكل الجمعية الوطنية وسلطة رئيس الجمهورية .

وعند اجتماع مجلس الثورة مع الوزراء حضر الرئيس نجيب ، ولم يستطع الدخول إلا من الباب الخلفي لدار مجلس الوزراء ، لأنه المتظاهرين سدوا الباب الأصلي – ولما حضر جمال وصلاح عامر حضروا في سيارة واحدة هتفت لهم هذه المظاهرات . وقد ألقي جمال عبد الناصر كلمة في المتظاهرين جاء فيها : " وستسير حتى نحقق أهداف الثورة . وهذه الثورة ليست ثورة فرد أو أفراد ، ولكنها ثورتكم يا شعب مصر . وليس جمال أو صلاح إلا أبناء هذه الثورة . وستسير مع الشعب لتحقيق أهداف هذا الشعب . وقد غرروا بنا في الماضي واستغلونا واستباحوا كرامتنا ، أما اليوم فأنتم يا شعب مصر لن تمكنوا أي فرد من أن يخدعكم أو يضلل بكم ، فأنتم الأمناء عليها . ولن تكون هناك ديكتاتورية إلا ديكتاتورية الشعب " .

• أوامر من قيادة الحرس الوطني بترحيل أفراده إلي الإسكندرية والأقاليم إلي القاهرة :

نشرت جريدة " القاهرة " أمس رسالة تلقتها من مكتبها بالإسكندرية قالت فيها : طلبت قيادة الحرس الوطني بالإسكندرية إعداد قطار خاص مكون من سبع مركبات لنقل 800 من قوات الحرس الوطني الذين سيغادرون الإسكندرية في طريقهم إلي القاهرة صباح الاثنين " اليوم " . وقالت الجريدة : وتلقينا أيضًا من مراسلنا في مدينة الواسطي رسالة تليفونية عاجلة يقول فيها : وردت إشارة اليوم من الفيوم لمحطة الواسطي ونصها : رقم 46 – إلي حركة القطارات بمصر ومفتش حركة الفيوم والواسطي مستعجل جدًا : مطلوب ترحيل 150 حرس وطني لمصر بصفة عاجلة جدًا بقطار رقم 735 لقطار رقم 777 اليوم – الواسطي تستعد بعربتين لإضافتهما إلي قطار رقم 777 ويلاحظ ركوبهم والمختصون للتأكد والإفادة للتنبيه باللازم – وقد نفذت محطة الواسطي هذه التعليمات . وقالت جريدة القاهرة أيضًا في عددها مساء أمس : إن مندوبها علم أن المسئولين عن منظمات الشباب برياسة الصاغ وحيد رمضان يقومون الآن بالتمهيد لتنظيم مظاهرة سلمية صامتة كبرى ، تمر في أنحاء شوارع القاهرة ، وتهدف إلي مطالبة المسئولين بالسلاح للكفاح ضد الاحتلال – ومن المنتظر أن نخطر محافظة القاهرة بخط سير هذه المظاهرة السلمية . وأدلي الصاغ خالد محيي الدين لمندوب " المصري " بالإسكندرية أمس حين قاتل له المندوب : إن بعض مدارس الإسكندرية قد أضربت فقال : " عساهم أن لا يكونوا قد هتفوا بسقوط الحرية والبرلمان والحياة النيابية " .

• الاعتداء علي مجلس الدولة :

استقال الأستاذ سليمان حافظ الذي كان يمثل القانون في الثورة . وقد هاجمت هذه " الفرق " مجلس الدولة . واعتدوا علي الدكتور عبد الرزاق السنهوري رئيس المجلس الذي أصيب بجراح ، وقد استغاث بجمال عبد الناصر فأرسل إليه صلاح سالم وصحبه إلي منزله .

• الحياة الطبيعية تستأنف اليوم :

علي أثر إعلان القرارات الجديدة لمجلس الثورة عادت الحياة إلي طبيعتها – وفي المساء قصد جمال وصلاح وكمال حسين إلي مقر اتحاد عمال النقل المشترك وحثوهم علي العمل – ثم صدر بيان من وزارة الداخلية بمنع المظاهرات .

هذا هو وصف جريدة " المصري " لما حدث في ذلك اليوم .. ولقد قلت حين رأيت هذه المفاجأة .. لقد سبقنا جمال عبد الناصر ، وبقدر ما منحه سبقه من فرثة يعمل فيها ويدبر ، سلبنا تخلفنا الفرصة للتفكير والتدبير . ولم يعد أمامنا بعد ذلك إلا أن نحاول أن نكف عن وجوهنا ما يوجهه إليها جمال عبد الناصر من لطمات . فليس لجمال عدو إلا نحن ، وليس له منافسون سوانا ، فلقد اختفت الأحزاب كأن لم تكن ، ودار أكثر رجالها واستداروا ورضوا أن يكونوا أذنابًا له في هيئة التحرير .. إن الرجل يريد أن يحكم البلاد بنفسه وبرأيه وبتفكيره وحده ، يضغط علي زر فتقوم ويضغط علي زر فتقعد .. أين هذا مما يريده الإخوان عليه من أن يدع البلاد تحكم نفسها بنفسها بدستور مستمد من القرآن الذي يقدس الشورى ، ويندد بالأنانية والاستبداد ؟! . ويلاحظ أن هذه المعركة المفاجئة التي باغتت الناس جميعًا ، قام بها عبد الناصر في الوقت الذي لم يكن له سند من الجيش بدليل أن " المجموعات " عمال النقل المشترك حين هاجمت جريدة " المصري " تصدي لها البوليس الحربي ، ولكن جمال عبد الناصر لجأ إلي طبيعته في الكذب حين سأله الرئيس نجيب عن هذا الانقلاب المفاجئ فقال : إنها رغبة الجيش بجميع وحداته .

لقد استباح جمال عبد الناصر – لتثبيت نفسه وإجهاض كل ما أجمعت عليه طوائف الأمة – جرائم جسامًا لن يتغاضي التاريخ عن الحكم عليها وتجريمها .. رجل ائتمنته الأمة علي أموالها فيأخذ من هذا المال ويرشو به رئيس اتحاد نقابات عمال النقل المشترك واسمه " الصاوي " ليعلن إضرابًا شاملاً لمطالب خاصة .. ثم يسخر وسائل الإعلام من إذاعة وصحافة لإذاعة أنباء هذا الإضراب .. ثم يوعز إلي الوزراء بإرسال العمال التابعين لوزارتهم بسيارات الحكومة إلي القاهرة هاتفين ضد الحياة النيابية ، ونظرًا لعدم وجود نصير له في الجيش يلجأ إلي الحرس الوطني التابع لكمال الدين حسين فيسخر السكة الحديد لنقل شباب الحرس الوطني من الإسكندرية والصعيد إلي القاهرة لتأييد حركة العمال المفتعلة المرشوة من خزانة الدولة .. ثم يسلط هؤلاء وهؤلاء علي الجريدة الحرة الوحيدة في مصر ليحطموا زجاجها ولولا دفاع البوليس الحربي عنها لحطموها وقتلوا من فيها – ثم يسلطهم علي حرم القضاء فيهاجموا رئيس مجلس الدولة وكادوا يفتكون به . هذه الجرائم لم يغفرها التاريخ . ولئن حاول الذين انتفعوا من وراء هذه الجرائم وآل إليهم الأمر من بعده أن يتستروا علي هذه الجرائم ويبسطوا عليها بساط النسيان – وإذا أحرجهم ذو جرأة وشجاعة لجئوا إلي وسائل ممقوتة من التبرير واختلاق الأعذار التي وحدها جريمة يحاول بها ستر جريمة .. لئن واتت الظروف هؤلاء ردحًا من الزمن ، فإن ذلك لن يطول بإذن الله .. ومهما طال فلن يمحي من صفحات التاريخ وسوف يأتي اليوم الذي ينشر فيه ويقول التاريخ فيه كلمته .

ولم نكن نحن وحدنا الذين ساءهم ما ارتكبه جمال عبد الناصر من جريمة في ذلك اليوم ، بل إن زميله وصديقه في مجلس الثورة عبد اللطيف البغدادي ذهل لما فعله جمال وكان يظن هو وزملاءه أن هؤلاء العمال تحركوا من تلقاء أنفسهم ، فلما علموا بأن جمالاً دفع أربعة آلاف جنيه من أموال الدولة رشوة للصاوي رئيس نقابة هؤلاء العمال " عاتبه " البغدادي في هذا التصرف فرد عليه جمال بقوله : ما هو كان لازم ندفع لهم ؛ لأن خالد محيي الدين ويوسف صديق كانوا حيدفعوا أيضًا لتحقيق غرضهم . ومن هنا نستمد دليلاً جديدًا أن جمال عبد الناصر كان يتعامل مع من سماهم أعضاء مجلس الثورة لا تعامل الزملاء كما أوهمهم وأوهم الناس : بل تعامل صاحب الهدف الشخصي يحجبه في طيات نفسه ، ويستعين في كل خطوة يخطوها نحو هذا الهدف بمن يراه صالحًا للاستعانة به من هؤلاء .. ويبدو أن البغدادي لم يكن صالحًا للاستعانة به في هذه الخطوة فركنه جانبًا وراح يستعين بمن هم أسلس منه قيادة وأكثر سذاجة ومن لا يفهمون أنهم يشتركون بذلك في ارتكاب جريمة .

   ولكن الجريمة ارتكبت بكل جرأة وبكل صفاقة ، وتم نجاحها ، وخرج جمال عبد الناصر ظافرًا علي أنقاض أمة فقدت كل آمالها في الحرية والأمن والاستقرار .. وظن السذج الذين أعانوه علي هذه الجريمة أنهم – كما ألقي في روعهم – أسدوا إلي أمتهم جميلاً عظيمًا 


الباب الحادي عشر : ما بعد إفلات الفرص أيـام سوداء


الفصل الأول : عبد الناصر والإخوان يتبادلان المواقف

لا أدري هل كنت منصفًا فيما حملت قيادة الإخوان وزره من تباطئها عن احتلال مكانها الذي كان شاغرًا لقيادة الشعب إلي حريته ؟ .. ولقد بسطت الظروف التي أحاطت باعتقال الإخوان ثم الإفراج عنهم ، قبل أن أحمل هذه القيادة الوزر حتى لا أكون متجنيًا في هذا التحميل . و ينبغي أن يكون معلومًا أن نقد القيادة نقدًا مباشرًا لا من وراء ظهرها في موقف من المواقف لا يقدح في تقريرها والإخلاص لها .. هكذا علم الإسلام أبناءه ، حتى المرأة نقدت عمر بن الخطاب وهو علي المنبر وأذعن عمر . وقد يكون عذرًا للقيادة في هذا الصدد أنها تعتصم في كل تصرفاتها بالقيم الإسلامية .. ولكن هذه القيم لها موقف معروف ومحدد إزاء من جُرب عليه الكذب ونكث العهد .

وقد أثرت هذا الموضوع في فصل سابق وما كان من حديث حوله بيني وبين الأخ الأستاذ عبد الحكيم عابدين ثم بيني وبين الأستاذ المرشد العام . غير أن جديدًا جد في هذا الموضوع وإن كان هذا الجديدة عليّ أنا شخصيًا حيث لم يكن لي به سابق علم ولم أعلم به إلا بعد أن قرأت كتاب " صفحات من التاريخ " للأستاذ صلاح شادي ، فقرأت فيه في صفحة 326 ما يأتي :

" حتى بعد وضوح غدرته بنا في سنة 1954 ، ودخولنا السجن وخروجنا منه ، وزيارته (جمال عبد الناصر) للمرشد في منزله علي سبيل الاعتذار ، حيث طلب من المرشد أن لا نهدده بإخراج مظاهرات تنادي بشجيه ووعده المرشد بذلك . ودعا المرشد في بيان عام جموع الشعب إلي الإخلاد إلي الهدوء بغرض تهيئة الجو للإصلاح بين نجيب وعبد الناصر – فلما خرجت مظاهرات مارس المزيفة توجه الأخوان هارون المجددي وتوفيق الشاوي إلي المرشد حسن الهضيبي وطالباه بإخراج مظاهرات مضادة ، فأبي أن يجيبهما إلي ما سبق أن دعا الشعب إلي نقيضه فلا ينسق سره وعلانيته " .

وقد طرق سمعي لأول مرة من هذه الفقرة التي اجتزأتها من كتاب الأخ الأستاذ صلاح شادي أنه كان هناك طلب من جانب جمال عبد الناصر أن لا يخرج الإخوان مظاهرات تهدده ، وأنه كان قد وعد من جانب المرشد العام بذلك . وإن كنت ألفت النظر إلي بقية ما جاء بهذه الفقرة مما يتصل ببيان المرشد العام الذي يطلب من جموع الشعب الإخلاء إلي الهدوء ، فأقول إن هذا البيان لم يصدر أو علي الأقل لم ينشر إلا بعد وقوع المظاهرات المزيفة .. وإنه لم يكن من الصواب إخراج مظاهرات مضادة لأن جمال عبد الناصر في ذلك الوقت كان قد صار في موقع القوة . ثم قرأت في مذكرات معدة للنشر إن شاء الله للأخ الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي ما يلي : " عندما اضطر جمال عبد الناصر إلي إخراج الإخوان من المعتقل الأول كانت هناك لجنة وساطة من الأستاذ فؤاد جلال والدكتور عبد القادر سرور . ووضع الطرفان شروطًا : أن يزور جمال المرشد في بيته معتذرًا – وأما من جانب جمال فاشترط أن يلتزم الإخوان الصمت لفترة معينة " .

في خلال هذه الفترة تحركت المظاهرات العمالية المدفوعة الأجر – ويقول الأخ هارون المجددي إنه توجه مع الأخ الدكتور توفيق الشاوي – كما توجه غيرهما – لمقابلة الأستاذ الهضيبي يطلبون منه أن تتحرك الجماعة لمواجهة ما يجري في البلد ، والعمل علي إيقاف هذه المهزلة فكانت إجابته : لقد أعطيت كلمة ولمدة ثلاثة أيام ويجب أن أكون عند كلمتي . لكن ، وبعد صحوة من الغفوة .. يقول الأخ الدكتور كمال خليفة : إن الأستاذ الهضيبي اتصل به ، وطلب منه الاتصال بجمال ليحدد موعدًا معه للمقابلة . وتم ذلك بالفعل ، وتوجه المرشد مع الدكتور كمال وتحدث فضيلته مع جمال عن هذا الذي يجري في شوارع القاهرة ، وطلب منه العمل علي إيقافه لأنه يعرض البلاد إلي عدم الاستقرار – ولكن عبد الناصر لم يأبه لهذا القول . بل نظر إلي المرشد غير مكترث بما يسمع – ويقول الدكتور كمال إنه نظر إليهما نظرات ذات معني واحد ، أنه نجح في تحقيق ما يريد ولا يهمه بعد ذلك ما يقال " .

قرأت هذا وكان نبأ جديدًا عليّ ، وفيه تفصيل لما جاء بكتاب الأخ الأستاذ صلاح شادي ، فذكرني ذلك بقصة التحكيم التي تروي في بعض الكتب – وإن كنت قرأت تحقيقًا تاريخيًا أثبت أنها لم تحدث – ولكنها لازالت تروي علي الصورة الآتية :

لما اشتد الخلاف بين علي ومعاوية اتفق الطرفان علي التحكيم بينهما فاختار طرف علي أبا موسي الأشعري واختار طرف معاوية عمرو بن العاص .. واختلي الحكمان معًا ليتفقا علي رأي فاتفقا علي أن يخلع كل منهما صاحبه ، ويتركا الأمر بعد ذلك للمسلمين يختارون إمامًا آخر . ولما كان علي كل منهما أن يعلن هذا الرأي علي المنبر ، اختلفا من يصعد المنبر أولاً ، فتأخر عمرة بن العاص مدعيًا أنه ليس من حقه أن يتقدم علي أبي موسي ، وأبو موسي يفضله بسابقته في الإسلام وعلمه وفضله ، فتقدم أبو موسي وأعلن قائلاً : إنني أعلن أنني أخلع عليًا كما أخلع خاتمي هذا وخلع خاتمه – فلما جاء دور عمر بن العاص صعد المنبر وأعلن قائلاً : إنني أثبت معاوية كما أثبت خاتمي هذا وثبت خاتمه في إصبعه . ويستدل رواة القصة بها علي طيبة أبي موسي ومكر عمرو بن العاص .. وإذا فرضنا أن هذه الواقعة حدثت فإن أبا موسي لا يلام علي طيبته وحسن ظنه فإنه لم يجرب علي عمرو بن العاص كذبًا ولا نكثًا للعهد .. ولكننا جربنا جمال عبد الناصر الكذب وآنسنا منه نكث العهد ، فما كان ينبغي لنا أن تلدغ من جحر مرتين .

وأنا لازلت أكرر أن الفرصة التي كان يجب أن تستغل ، وأن لا نضيع ساعة واحدة منها هي فرصة الثلاثة الأيام التي أخ1ذ بها جمال عهدًا من المرشد العام فاطمأن بذلك أنه ضمن ثلاثة أيام تشل فيها حركة الإخوان وتكون له فرصة للتفكير والتدبير ، وناهيك بثلاثة أيام للتفكير والتدبير من شخص لا يحد تفكيره قانون ولا يقيد تدبيره دين ولا شرف ولا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة . علي العموم .. قد كان ما كان ولم يعد أمام الإخوان بعد أن أفلتت منهم الفرصة ، وبعد أن سبقهم إليها جمال عبد الناصر ، إلا أن يتلقوا منه – كما قلت من قبل – اللطمات ، وكل ما يملكه الإخوان أن يفكروا كيف يتفادون هذه اللطمات ، إن استطاعوا أن يتفادوها .. وهيهات .

وكان للإخوان مجموعة خصصوها للاتصال بالحكومة أو بمعني أصح بجمال عبد الناصر للتفاهم في مختلف الشئون . وقامت هذه المجموعة بالاتصال مرة ومرات ، ولكنها لم تأت بنتيجة ذات قيمة ، لأن جمال عبد الناصر كان في تلك الأثناء يتكلم من موقع القوة ، فلقد آلت إليه مقاليد الأمور بعد أن أصبح محمد نجيب مجرد رمز وصورة يحركها كيفما يشاء . ولا ننسي أن محمد نجيب هو الذي أجابه علي طلبه فمنحه سلطة الحاكم العسكري – التي كان يتمتع هو بها – وزاده عليها بسلطات لم يمنحها الحكام العسكريون من قبل ولو كانوا في ميادين القتال .. ولقد كان عبد الناصر أو أدناها ، فإن كل هذه المناصب بغير هذه السلطة مناصب جوفاء – أما هذه السلطة فهي السيف الذي يستطيع لبه أن يذل الرقاب ، ويطيح الرءوس ، ويخضع الصغير والكبير ، ويتحكم به في أصحاب المناصب حتى أولئك الذين منحوه إياها . ولقد كنت أشرت من قبل إلي أن المرشد العام كان قد رفع دعوي أمام مجلس الدولة يطلب فيها الحكم ببطلان قرار الحل الذي أصدره مجلس الثورة ، إلي أن مجلس الدولة قرر نظر الدعوى يوم 31 مارس 1954 ، ولكن 31 مارس جاء بعد يوم 29 مارس الذي حدث فيه انقلاب جمال عبد الناصر .. وكان ضمن حلقات هذا الانقلاب اقتحام الرجال الذين استأجرهم عبد الناصر بمال الشعب لمبني مجلس الدولة ، والهجوم علي رئيسه الدكتور السنهوري ومحاولة قتله .. ولذا فقد حاولت أن أجد إشارة في يوم 31 مارس وما تلاه من أيام لموضوع دعوي الإخوان فلم أقف لها علي أثر .. لقد قضي انقلاب عبد الناصر فيما قضي علي هيبة القضاء بعد أن ديس أكبر رجل فيه بنعال أبطال يوم 29 مارس 1954 .

   وأستطيع أن أختصر القول فأقول إنه ما من يوم جاء بعد ذلك إلا كان أسوأ مما قبله لاسيما في العلاقات بين الإخوان وعبد الناصر ، فضلاً عما حاق بالبلاد من دمار خلقي ومادي – ولكن الإخوان بالرغم من فقدهم موقع القوة الذي كانوا فيه ، فإنهم لم يقفوا موقف المتفرج ، بل تقدموا في كل موقف بما يجب عليهم من النصح والإرشاد .. وهاكم خطاب المرشد العام إلي عبد الناصر في غرة شهر رمضان 1373 الموافق 4 مايو 1954 :  
   " السيد رئيس مجلس الوزراء .....   السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 
   

وبعد :

فإنكم دون شك تذكرون أنكم اتفقتم معنا علي إنهاء الوضع الشاذ الذي أوجده حل جماعة الإخوان المسلمين يوم دعوتهم الإخوان إلي تناسي الماضي والتعفية علي آثاره ، ورأيتم أن خير البلاد ومصلحتها في أن يبدأ الإخوان ورجال القيادة عهدًا جديدًا من التعاون . ولقد سلمتم يومئذ بوجوب إلغاء قرار الحل الخاص بجماعة الإخوان المسلمين وبالإفراج عن جميع المعتقلين ، ويرفع الأثر الذي ترتب علي بيان الحل رفعًا صريحًا يغنينا عن التعرض لمناقشة البيان . وبصرف النظر عن أن المسائل الخاصة بالجماعة لم ينته الرأي فيها إلي ما اتفق عليه ، فإن مصلحة الوطن تقتضينا أن نبذل لكم من الرأي في مشاكله ما نري أن يدعو إلي اطمئنان الناس كافة ، ويحقق الاستقرار الذي لا يمكن بدونه أن يتم شيء من إصلاح الأمور الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الشئون علي وجهه الصحيح . والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم – كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم – ومن حقنا أن نؤدي لكم الواجب علينا .

من ذلك ، أم مصر اليوم تجتاز مرحلة من أدق المراحل التي مرت بها . فنحن جميعًا نهدف إلي تحرير البلاد وإخراج الانجليز منها . ولن تخرجهم الخطب والبيانات ، وإنما يخرجهم كفاح شاق طويل ليس هذا موضع بيانه . ونحن لا نريد الدفاع عن أنفسنا فحسب ضد إسرائيل التي استأسدت علينا في الآونة الأخيرة ، بل نريد إخراجها من فلسطين ، ولا تزال الحرب بيننا وبينها قائمة ، وإن كنا في هدنة . وأول مات يجب علينا ، أن نتخذ العدة لذلك ، وأن نعد جيشًا لمهمته الأصلية وواجبه الأول . فإن مصر لتحتاج إلي الاستقرار . وهو أمر لا ينال بالكلام ، ولا يدرك بالشدة ، ولكنه ينال حينما يشعر الناس شعورًا حقيقيًا بأنهم حماة الثورة . وحماة ما اتجهت إليه من ضروب الإصلاح . والثورة لابد للمحافظة عليها من أن تحوطها القلوب وتذود عنها . أما القوة وحدها فإنها لا تحقق الغاية المقصودة . ويدرك الاستقرار كذلك بالعدل والإصلاح والرفق . وإنه لا يغني واحد من هذه عن الآخر – وإن للاستقرار وسائل أحب أن أضع تحت نظركم منها ما يأتي :

1 – إعادة الحياة النيابية :

لا ريب أن الحياة النيابية هي الأساس السليم لكل حكم في العصر الحاضر . وإذا كانت تجارب الماضي قد أظهرتنا علي بعض العيوب فمن واجبنا أن نخلي حياتنا النيابية من العيوب ، وأن نجعلها أقرب ما تكون إلي الكمال . والأمة لا تتعلم بإلغاء الحياة النيابية في فترة الانتقال ، وإنما تتعلم بممارسة الحياة النيابية بالفعل ، فلنشرع فورًا فيما يؤدي بنا إليها في أقرب وقت .

2 – إلغاء الإجراءات الاستثنائية ( الأحكام العرفية ) :

فإن الإجراءات الاستثنائية إذا أفادت الهدوء المؤقت ، والاستقرار الظاهر ، فإنها تخلق حالة من الغليان ، وتذكي النار تحت الرماد . ولن يؤمن علي مستقبل الوطن إذا اشتعلت النيران .

3 – إطلاق الحريات :

وأود أن تطلقوا الحريات جميعًا ، وعلي الأخص حرية الصحافة ، فإن في ذلك خير مصر وأمنها وسلامتها . ولقد رأيتكم تأخذون علي الناس أنهم لم يقولوا لفاروق " لا " حيث يجب أن تقال ، وأنتم الآن بفرض الرقابة علي الصحف تمنعون الناس أن تقول لكم " لا " حيث يجب أن تقال – وما هكذا تربي الأمة علي نصرة الحق وخذلان الباطل .

   ونحن لا نسلم بأن تتجاوز الصحافة حدودها ، ولا أن يطلق لها العنان لتلبس الحق بالباطل ، وإنما نحب أن تترك الحق في حدود القانون ، فإذا تجاوزته حق عليها العقاب – وقد تجدون في معارضة الصحف لكم خيرًا كثيرًا . وغني عن القول أن إطلاق حريات المعتقلين وبعض المحكوم عليهم من المحاكم الاستثنائية أمر توحي به ضرورة جمع الشمل وتوحيد الكلمة ، ويوجبه الحق والعدل . أما الإصلاح فمجاله واسع . وفي رأينا أن إصلاح النفوس أولي من كل إصلاح لأنه أساس كل إصلاح . والله نسأل أن يرزقنا الصدق في القول والعمل ، وأن يعصمنا من الزلل وأن يهدينا جميعًا سواء السبيل ، إنه سميع مجيب . 
        والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " . 


الفصل الثاني : تـحـرش مقدمة لخطوة سياسية مريبة

لا يستطيع أحد أن ينكر جمال عبد الناصر – بعد خديعته التي حاكها – صار في المركز الأقوى داخليًا ، بحيث صارت شئون البلاد الداخلية في قبضة يده ، ومقدراتها طوع يمينه .. وصار يأمر فيطاع ، ويشير فيتسابق الناس إلي حيث يشير .. ويعلن عن حفل في مناسبة من المناسبات يخطب فيه ، فيجد فيه الألوف ، وتقاطع خطبته بالتصفيق والهتاف .. إنه أصبح يسيطر علي قوات الشرطة عن طريق وزير داخليته ، ويسيطر علي الجيش عن طريق زميله وصديقه المقرب عبد الحكيم عامر .. وأصبح يسيطر علي موظفي الدولة وعمالها فأرزاقهم في يده .. ماذا بقي من أسباب القوة لم تعد في قبضته ؟! أليس هذا هو الأمل الذي كان يراوده من أول يوم من أيام الثورة وأفضي به إلي أصدقائه من الإخوان شادي ومجموعته ؟ إنه أضحي إذا ضغط علي زر قامت البلاد ، وإذا ضغط علي زر قعدت البلاد . إنه رأي ذلك كله بنفسه يتحقق .. ولكنه في قرارة نفسه لم يجد له طعمًا ، مثل أفخر طعام وأشهى غداء يقدم إليك ولكن دون ملح ، يحسدك عليه الناس ولا يعلمون أنك لا تجد له طعامًا .. إنه كان يحدث نفسه كلما رأي نفسه محاطًًا بهالات من التوقير والاحترام من كل من يلوذ به .. كان يحدث نفسه ويقول : هل هذه هي القوة حقاً ؟ .. هل إذا أنا فقدت هذا المنصب أجد كل هؤلاء الذين يتزلفون إليّ ويحيطون بي .. ؟ .

أما المنصب فالجيش والشرطة يحميانه فأنا ثابت في منصبي ، ولكن المشكلة هي إخضاع الشعب فقد أخضعته ، ولكن المشكلة هي ما بين هذه البلاد وبين الانجليز ، وهي القضية الأساسية التي كم من حكومات تهاوت لعجزها عن حلها ، وقمنا بالثورة وآزرنا الشعب آملاً أن يكون حلها علي أيدينا .. وقد ضحي الشعب من أجل هذه القضية بالكثير وينتظر منا مواصلة النضال .. إنني أستطيع أن أوهم الشعب بأني قوي , ولكن هذا العدو الجاثم فوق صدرنا ليس بالأبله الذي يمكن التمويه عليه ، فهو يعرف تمامًا مدي شعبيتي .. نعم أنا أنشأت هيئة التحرير ، وأصبح لها فرع ومقر في كل مركز من مراكز القطر ، وأصبحت تضم مئات الآلاف من الأعضاء ولكن الانجليز رأوني بأعينهم حين ضيق مثقفو الشعب علي الخناق لإلزامي بدستور وحكم نيابي ، وأخذت أبحث لي عن معين يعينني أو أسند إليه ظهري أمام هؤلاء ، فلم أجد من مئات الآلاف الأعضاء في هيئة التحرير عشرة أشخاص يقفون بجانبي ، واضطررت للخضوع حتى استأجرت عمال النقل المشترك .. لقد رأي الانجليز كل هذا بأعينهم وعرفوا أن هيئة التحرير إن هي إلا وهم كبير ، وأنني لا أستند إلي سند شعبي – وكان خزيًا لي أنه في الوقت الذي عجزت أنا ورجالي من الضباط أن تجمع عشرة أشخاص من هيئة التحرير يقفون بجانبنا ، استطاع الإخوان المسلمون – وقادتهم في السجون – أن يجمعوا أكبر مظاهرة حدثت في مصر في يوم واحد ..

ولكن هل كنت أجهل كل هذه الحقائق ولم أعرفها إلا اليوم ؟ لا .. لقد كنت أعرفها ولكنني وضعت خطتي علي أساس أن القاعدة الشعبية جاهزة ، وأنا أحد أعضائها من قديم ، وكل مهمتي أن أحاول بكل الوسائل أن أتولي زمامها .. ولقد كان الانجليز يعرفون أين القوة الشعبية منذ قامت الثورة فلما بدأت أنا وزملائي في المفاوضة مع الانجليز ، اتجه الانجليز مباشرة إلي المرشد العام ليعرفوا أدني طلبات القوة الشعبية . والآن أراني أقف موقفًا لا أحسد عليه ، فالهيئة الشعبية وقد استنفدت ما كان لديها من وسائل ولكنها جميعًا ، ومع ذلك فما زال الباب مفتوحًا أمامي للتصالح معها لتكون لي سندًا يرهب الانجليز حين أتفاوض معهم .. ولكنهم يشترطون للتصالح شروطًا لا أقبلها ، من حكم دستوري نيابي قائم علي الشريعة الإسلامية . ومعني ذلك أنني أكون قد حطمت كل آمالي بنفسي فأنا أريد حكمًا لا يشاركني فيه أحد .. إذن الصلح مستحيل .. وإذا كان الصلح مستحيلاً فمعني ذلك أنني سأواجه مفاوضًا يعرف المدى الحقيقي لشعبيتي ، وإذن لابد من التساهل معه والتنازل عن بعض حقوق البلاد .. وفي هذه الحالة – وفي يدي كل وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وأحكام عرفية – أستطيع أن أوهم الشعب بأنني حصلت علي اتفاقية حققت كل أمانيه في التحرر والاستقلال .. أما الإخوان فقد حرمتهم من جريدتهم وأصدرت أمرًا إلي جميع الصحف بعد نشر أي شيء عنهم أو منهم وبذلك لن يصل إلي مسامع الشعب إلا ما يصدر عني .. وسأضيق عليهم الخناق بمختلف الوسائل حتى يشغلوا بأنفسهم .. وعلي العموم فحسابي معهم لابد من تصفيته ما لم يذعنوا ويلقوا إليّ السلم .

• معني تبادل المواقف :

جعلت عنوان الفصل السابق " عبد الناصر والإخوان يتبادلان المواقف " وأحب أن أوضح هذا العنوان فأقول إن معني ذلك أن الإخوان كانوا قبل خديعة 29 مارس في موقف القوة ، وكان عبد الناصر فقي موقف الضعف ثم انقلب الوضع بعد الخديعة فصار عبد الناصر في موقف القوة وصار الإخوان في موقف الضعف . وهذا لا يعني أن الإخوان كانوا أقوياءٌ فضعفوا وأن عبد الناصر كان ضعيفاً فصار قويًا ، ولتقريب هذا المعني أضرب مثلاً بطفل رأي رجلاً يطل من سطح منزل فاستفزه الطفل بشتائم دفعته إلي النزول إليه في الشارع ليقتص منه ، فانتهز الطفل فرصة الوقت الذي يستغرقه الرجل في النزول وصعد هو إلي سطح المنزل من سلم خلفي ، فلما صار الرجل في الشارع والطفل علي السطح أخذ الطفل يقذفه بالحجارة ولا يستطيع الرجل أن يقذفه من الأرض إلي أعلي .. فالطفل صار في موقف القوة في الوقت الذي قوته لازالت قوة طفل – والرجل صار في موقف الضعف في الوقت الذي قوته لازالت قوة رجل .

أما ضعف عبد الناصر وإن كان قد صار في موقف قوة فقد شرحناه في السطور السابقة ، وأما الإخوان فلم يفقدوا شيئًا من مقومات قوتهم وإن كانوا قد صاروا في موقف الضعف .

• حرب النشرات :

هذا تعبير جمال عبد الناصر شخصيًا . ولكن الموضوع يتلخص في أن عبد الناصر وقد صار صاحب جميع السلطات أغلق للإخوان مجلتهم وفي الوقت نفسه سلبهم حق إصدار مجلة أخري تعبر عن آرائهم ومنع الصحف من نشر أي شيء منهم أو عنهم . صحيح أن الإخوان لم يعجزوا مع ذلك عن نقل آراء قيادتهم وشرحها إلي سائر الإخوان في شعبهم عن طريقين :

طريق الانتقال ، فقد كانت توزع محافظات القطر علي مجموعة من القيادات الإخوانية بالمركز العام وتسافر هذه القيادات إلي عواصم المحافظات حيث يجدون في انتظارهم ممثلين لجميع الشعب الرئيسية التابعة للمحافظة ، فينقلون إليهم آراء القيادة ويشرحونها لهم ويتناقشون فيها معهم .. وبطريقة التسلسل تصل هذه التعليمات والآراء والتوجيهات إلي كل فرد من الإخوان في المحافظة .. وعيب هذه الطريقة البطء فهي تستغرق وقتاً طويلاً ومجهودًا جسيمًا وتضحيات مادية . ولهذا استعانوا بطريق آخر وه الطريق الذي سماه عبد الناصر حرب النشرات .. ولا يخفي علي القارئ أن ظروف طبع هذه النشرات تجعل نشرها محدودًا مهما بذل في سبيل ذلك من جهد .. ولهذا كان الذين يقومون علي إعداد هذه النشرات آراءً وطبعًا وتوزيعًا هم أفراد النظام الخاص الذي كان شبه معطل فتقدم إلي حمل العبء ، فما كان لهيئة ذات كيان ضخم كالإخوان المسلمين أن يحجر عليها دون مبرر من قانون فتوصد في وجهها أبواب الصحافة وتمتع من إصدار صحيفة ، ثم يحال بينها وبين إبراز رأيها في وريقة تبعث بها إلي أعضائها حتى يتبينوا الأمور ويتضح لهم الطريق .

• مدى إزعاج النشرات لعبد الناصر :

وهذه النشرات لم تزد علي أن تكون وريقة مطويًا بعضها علي بعض حتى صارت أربع وريقات كل منها في مساحة الكف ، مطبوعة طبعًا رديئًا .. ومع ذلك كانت هذه النشرات في نظر جمال عبد الناصر إحدى الكبائر ، وكانت مثيرة له حتى إنها طيرت النوم من عينيه .. وفي الوقت الذي كنا نحن الإخوان لا نكاد نقيم لها وزنًا كان عبد الناصر يري الواحدة منها كأنها صاعقة نزلت عليه من السماء ، أو زلزال يكاد يقوض أركان سلطاته . وقيام النظام الخاص بإصدار هذه النشرات وتفننه في إخفاء المكان الذي تعد فيه ، جعل يد عبد الناصر أقصر من أن تصل إليها ، وكاد عقله يذهب هلعًا منها .. حتى إنه – وقد عجز عن منعها – حاول أن يخفف من حملتها عليه – وقد جاءني مرة الأخ محمد جوده عضو الهيئة التأسيسية ومن أصدقاء جمال عبد الناصر من قبل الثورة ، ويرتبط بي برباط المواطنة ، فهو من أبناء رشيد كان زميلاً لي في المدرسة الابتدائية بها .. جاءني مرة وأبلغني شكوى جمال عبد الناصر من أن النشرة الأخيرة نسبت إليه أنه عقد معاهدة سرية بينه وبين الإسرائيليين .. وقد رأي الأخ محمد جوده أن يبلغني هذه الشكوى لما يعلم من صلتي بأعضاء هذا النظام وبقيادته .

وقد تقابلت فعلاً مع الأخ يوسف طلعت رحمه الله ومع بعض الإخوة من قادة الجهاز وكلمتهم في هذا الشأن . وقد احتدمت المناقشة بيني وبينهم لأنني – وإن كنت أري جمال عبد الناصر أسوأ مما يرون – فإنني لا أرضي لنفسي ولا لديني أن أرميه بواقعة معينة ليس معني دليل عليها سوي ما يشيعه زملاء له كانوا محاصرين معه في الفالوجا .. وإذا كان هو قد رضي لنفسه أن يختلق علينا الأكاذيب فإن ذلك لا يحملنا علي نسيان أننا أصحاب دعوة ودين .. ومثل هذا الاتهام لا يأتي استنتاجًا مهما تجمعت قرائن الاتهام .

وقد سقت هذا الحديث عن النشرات ليعلم القارئ مدة فزع جمال عبد الناصر عن " الكلمة " المكتوبة مهما ضاق نطاق نشرها .. ولعل هذا هو الذي أوحي إليه بعد ذلك بوضع الأغلال في أيدي الكتاب والصحفيين ، ووضع الكمامات علي أفواه رجال الفكر مما أطلق عليه فيما بعد " حرية الصحافة " .. ولنا عودة إن شاء الله إلي موضوع النشرات عودة يستبين منها القارئ أكثر مما استبان الآن مدى هلع عبد الناصر منها .


الفصل الثالث : التحـرش لم يمنع الإخوان من انتقاد الاتفاقية

قلنا في الفصل السابق إن عبد الناصر – في تهيئه لإنجاز اتفاقية للجلاء يحرز بها تعسرًا نصرًا يكون له رصيدًا سياسيًا يقربه إلي نفوس الشعب – وضع خطة يضمن بها تقليم أظافر الإخوان فحال بينهم وبين جميع وسائل التعبير عن الرأي ، وأخذ يتحرش بهم فيعتقل بين يوم وآخر عددًا من شبابهم من النظام الخاص ذوى النشاط في القاهرة ، ويسلط عليهم جهازه الإجرامي – البوليس الحربي – الذي يرأسه أحمد أنور ، وصار كل يوم يزيد من عدد المعتقلين من هذا النوع من الشباب ويزيد من ألوان التعذيب .. كل هذا آملاً في أن يشغل الإخوان بأنفسهم فلا يجدون جهدًا ولا وقتًا للنظر فيما سوي ذلك من الأمور السياسية . وكان في هذه الأثناء جادًا في أسباب الوصول مع الانجليز إلي اتفاقية . وكلما قطعت المفاوضات مرحلة من المراحل زاد ضغطه علي الإخوان وتحرشه بهم ، وكان في حسبانه أنه حتى تصل هذه المفاوضات إلي نهايتها وتنجز الاتفاقية يكون الضغط والتحرش قد قطع أنفاسهم فلا يقوون علي نقد هذه المعاهدة إلا همسًا وأين لهم من وسائل إعلام تنشر همسهم .

وقد يكون من الطرائف أن نذكر أن عبد الناصر وقد عجز بدون الإخوان عن أن يشعر الانجليز في أثناء المفاوضات معهم بمقاومة شعبية لجأ إلي استئجار عصابات الإجرام للسطو علي المعسكرات البريطانية ، فلما أبرمت المعاهدة اعتقلهم في السجن الحربي مدة ثم أفرج عنهم . وشاءت الظروف أن يقوم المرشد العام في أثناء إجراء المفاوضات برحلة في البلاد العربية استجابة لدعوات وصلته من الإخوان فيها ، فغادر مصر في النصف الأخير من شهر يونيه 1954 وزار فلسطين وتناول طعام الغداء علي مائدة الأنبا ياكوريوس مطران النصارى . وفي أثناء تجواله في لبنان وسورية وفي 27 يوليه سنة 1954 أعلنت حكومتا مصر وبريطانيا موافقتهما علي رءوس موضوعات اتفاق لمعاهدة جديدة تسوي النزاع الانجليزي المصري .


• المرشد العام ينقد الاتفاقية :

وفي 31 يوليه نشرت صحيفة بيروتية بأحرف ضخمة وعناوين بارزة رأي المرشد العام في الاتفاقية .. والنقاط الأساسية في هذا النقد هي ما يلي :

1 – كان المفروض أن ينتهي أجل معاهدة 1936 بعد أقل من عامين .. وإذ ذاك كان علي بريطانيا أن تجلو عن القاعدة ، وأن تتركها دون أساس قانوني يمكنها من العودة إليها فيما بعد – أما المعاهدة الجديدة فتمنحها هذا الحق باشتمالها علي مادة تسمح بإعادة تشغيل القاعدة في حالة حدوث أي اعتداء علي أي دولة عربية أو علي تركيا .

2 – المادة التي تسمح بإعادة تنشيط القاعدة في حالة الاعتداء علي تركيا تربط مصر والدول العربية بتركيا وبالتالي تربطهم جميعًا بالمعسكر الغربي .

3 – الفقرة التي تسمح لبريطانيا بصيانة القواعد الجوية تمثل تهديدًا لمصر . وهي علي المدى الطويل أداة لدوام السيطرة .

4 – المدنيون الذين سيناط بهم المساعدة في تشغيل المعدات هم بطبيعة الحال شخصيات عسكرية في ثياب مدنية .

5 – جددت الاتفاقية أجل المعاهدة 1936 لفترة خمس سنوات أخرى ، وسمحت بإجراء تشاور لمراجعة الموقف عند انتهاء فترة العمل بها ، وهو نفس النوع من البنود التي تكفل في الواقع الاستمرار الدائم لمعاهدة 1936 .

وقد طلب المرشد العام أن أي اتفاقية بين مصر وحكومة أجنبية ينبغي أن تعرض علي برلمان منتخب بإرادة حرة يمثل إرادة الشعب المصري ، وعلي صحافة متحررة من الرقابة وتملك حرية المناقشة .

هذا ما نشرته الصحيفة البيروتية – ولا أعتقد أن نقد اتفاقية يراد إبرامها بين دولة وأخري ، هذا النقد الموضوعي مما يثير شجنًا أو يبعث ضغنًا أو يعتبر انتهاكًا لكرامة حكومة .. فالمفروض أن الحكومات ليست معصومة من الخطأ ، وأن النقد الموضوعي من حق أي مواطن إن لم يكن من واجباته ، ولكن الذي حدث هو أن عبد الناصر اعتبر هذا النقد كبيرة الكبائر ، وهجومًا عليه بسلاح بتار في مقتل . وقد يكون لعبد الناصر بعض الحذر من وجهة نظره فهو حاكم لا رصيد له من قاعدة شعبية ولا إنجاز سياسي ، وهذا هو العمل السياسي الوحيد الذي يريد أن يكون له رصيدًا ، فمهاجمته فيه يعتبرها بمثابة القضاء عليه سياسيًا . هذا من وجهة نظره ولكن من الوجهة مرفوضة شكلاً وموضوعًا لأن الاتفاقيات تمس كل فرد من أفراد الشعب فلكل فرد أن ينقدها وأن يعلن وجهة نظره فيها – ولا أنسي أيام تم الاتفاق علي أسس معاهدة 1936 ولم يكن الذي قام بالمفاوضة في شأنها فرد ولا حزب بل مجموعة من الزعماء .. ومع ذلك فقد امتلأت الصحف بمقالات ضافية في نقدها واستمر هذا النقد فترة طويلة ، ومع ذلك لم يغضب الحكام ولا المفاوضون بل انتفعوا بكثير مما جاء في هذا النقد وكان ذلك سببًا في تعديل بنودها حتى صارت أقل إضرارًا بالبلاد . فماذا كان يضير عبد الناصر أن يتقبل هذا النقد كما تقبله سابقوه وأن يطلق للصحافة الحرية في نقدها هي الأخرى ويستخرج من هذا النقد ما يواجه به الانجليز لتعديل الاتفاقية كما فعل سابقوه ؟ .. ولكن يبدو أنه كان متفهمًا موقفه فهو ليس كسابقيه فهو ليس كسابقيه فهو لا يمثل حزبًا ولا كتلة شعبية ويعرف أن الانجليز يعرفون ذلك .. فلابد أن يرضي بالقليل ولابد أن يوهم الشعب بأن هذا القليل هو الكثير الذي يريده المواطنون .

• وسيلة أخري في التحرش :

لم يقلع عبد الناصر عن وسائله التي كان يضايق بها الإخوان بل ضاعفها ثم استحدث وسيلة أخري هي تشويه سمعة الإخوان المسلمين بنشر أكاذيب عنهم ، وقلب حقائق تاريخية ، واختلاق أخبار لا أصل لها ينسبها إليهم ، ولم يكن يعجز عن ذلك ، فالصحف كلها والإذاعة خاضعة له ومؤتمره بأمره . وسأضرب لذلك الأسلوب الحقير مثلاً ما نشرته هذه الصحف اللقاء الذي تم بين الملك فاروق والمرشد العام ، فلقد أبرزته صحف جمال عبد الناصر بأنه كان استجداءٌ للملك وتذللاً له وتأمرًا معه علي الأمة .. ويكفي للرد علي هذا التزييف خطة الإخوان بعد هذا اللقاء ، وحملة الملك فاروق في الصحف الأجنبية – بعد قيام الثورة وخروجه من مصر – علي الإخوان وتحميلهم مسئولية قيام هذه الثورة .. ,قد تعرضت لهذا اللقاء بشيء من التوضيح في الجزء الثاني من هذه المذكرات فليرجع إليه من شاء من القراء .

ولم يكف عبد الناصر بهذه الوسائل بل لجأ إلي وسائل أخرى سوف أتناولها إن شاء الله بالحديث ، ولكن هذه الوسيلة بالذات كانت أخطر الوسائل جميعها فهي أخطر من الاعتقال والسجن بل والتعذيب أيضًا ، لأن هذا كله حين يصيب يصيب أفرادًا بعينهم – أما تسخير وسائل الإعلام لنشر أنباء مكذوبة عليه وسيلة لبيان الحقيقة – ثم إن هذا الأسلوب هو من أخطر الأساليب للإثارة والاستفزاز ، ولذا فإن ردود فعل لهذا الأسلوب كان يستغلها عبد الناصر للتنكيل بالإخوان .

هل كان الإخوان متجنين في انتقادهم الاتفاقية ؟

هذا سؤال أعتقد أنه قد يساور بعض القراء من الأجيال الحديثة الذين لم يعاصروا عقد هذه الاتفاقية ولكنهم يقرءون التاريخ الحديث لمصر فلا يجدون فيه آثارًا ولا مضاعفات نشأت من عيوب هذه الاتفاقية .. ولهؤلاء نقول :

   إن هذه الاتفاقية قد عقدت ولم يكن في خاطر إنسان – لا من الذين عقدوها ولا من الذين نقدوها ولا من الذين عاصروها داخل مصر وخارجها – أن أحداثًا في طي الغيب ستحدث بعد ذلك بسنتين ستغطي علي عيوب هذه الاتفاقية وتجعل الاتفاقية نفسها كأن لم تكن .. وأية اتفاقية توضع موضع النقد ، يصدر الناقدون نقدهم لها غير مفترضين ظروفاً شاذة قد تحدث في المستقبل – وهكذا كان نقد الإخوان للاتفاقية . علي أن الإخوان لم يكونوا هم وحدهم الذين نقدوا هذه الاتفاقية ، وإنما نقدها غيرهم ، غير أن الآخرين كان نقدهم همسًا ولكن نقد الإخوان كان جهرًا آملين أن يكون في هذا الجهر ما يشعر الشعب بخطورة أخطاء هذه الاتفاقية حتى يهبوا للمطالبة بتعديلها . ولكن سياسة عبد الناصر القمعية ألجمت الألسنة . 

• نقد آخر للاتفاقية :

وقد قرأنا في كتاب محمد نجيب " كلمتي للتاريخ " أن محمد نجيب نقد الاتفاقية فيقول في صفحة 158 :

" ثم استؤنفت المباحثات للمرة الثالثة في يوليو 1954 ولم أعد رئيسًا لوفد مصر .. كانت أحداث فبراير ومارس قد أدت إلي هذه النتيجة .. وتولي جمال الذي كان قد أصبح رئيسًا للوزراء رياسة الوفد المصري في المباحثات التي وقعت اتفاقيتها الأولي بسرعة مذهلة بعد أيام فقط من بدايتها أي في يوم 27 يوليو 1954 تم عقد الاتفاق النهائي التفصيلي في 19 أكتوبر 1954 . ولم أكن قد قابلت جمال بعد أحداث مارس إلا مرة واحدة .. وفي هذه المرة الوحيدة طلبت منه ألا يبرم اتفاقًا مع الانجليز قبل أن يستمع إلي ملاحظاتي .. ولذا كانت مفاجأتي شديدة عندما وقع الاتفاق الأول دون أن يتيح لي فرصة إبداء الرأي . وأعددت ملاحظاتي علي الاتفاق في كتاب بعثت به إليه مع رسول خاص وكانت ملاحظاتي في إيجاز هي :

أولاً : وجود الفنيين الانجليز غير خاضعين لسلطة الحكومة المصرية يضعف من سيادتنا ، ويحد من سيطرتنا علي أرضنا .

ثانيًا : قبول القوات البريطانية في حالة الهجوم علي تركيا أمر يورطنا في مشاريع الدفاع الغربية ، حيث كانت تركيا مرتبطة بحلف الأطلنطي ، وقد سبق ورفضت ذلك أثناء مفاوضاتي مع الانجليز .

ثالثًا : طالبت بضرورة عرض الاتفاقية علي الشعب في استفتاء عام علي أن تلغي الأحكام العرفية .

وكنت قد عقدت العزم علي رفض التصديق علي الاتفاقية باعتباري رئيسًا للجمهورية ، ولكن الدستور المؤقت لم يرد فيه نص التصديق . وطالبت سليمان حافظ – الذي كان قد استقال من منصبه كمستشار لرئيس الجمهورية بعد أزمة مارس والاعتداء علي مجلس الدولة ، إذ أثر الابتعاد عن الحياة السياسية – لأستشيره فيما يمكنني أن أفعله لوقف فرض هذه الاتفاقية علي شعب مصر . وعلمت منه أن الوزراء الذين أعلنت موافقتهم علي الاتفاقية بالإجماع لم تتح لهم فرصة إبداء الرأي .. وأن جمال كان يقرأ بنود الاتفاقية عندما لمح ظواهر المعارضة علي فتحي رضوان ، فقال جمال : لعل الأخ فتحي معارض .. فرد عليه بأنه كذلك ولكنه ينتظر الفراغ من التلاوة ، التي استمر فيها جمال حتى انقطعت بدخول إسماعيل الأزهري وبعض زملائه من وزراء السودان إلي قاعة الاجتماع وما دار بين الفريقين من مظاهر الابتهاج وتبادل التهاني بالاتفاق ، ثم انصرف جمال معهم إلي مكتبه الخاص ، ,عودته مرة أخري لينهي الجلسة قبل إتمام تلاوة الاتفاق . وصدرت الصحف في اليوم التالي بأن مجلس الوزراء قد وافق علي الاتفاق بإجماع الآراء – وكانت نصيحة سليمان حافظ لي هي أن أرفض التصديق ، فإن صدرت الاتفاقية فليس أمامي إلا أن أستقيل " .

كما قرأنا أن خالد محيي الدين يقول في هذا الصدد : إن صحفيًا فرنسيًا اسمه " روجيه استفانوا " من مجلة " نوفيل أوبزرفايتر " قد أخبره أنه قد عرف بحكم صلته الوثيقة بالسفارات الأمريكية والفرنسية والانجليزية أن جمال عبد الناصر وبعض رفاقه قد أعطوا للأمريكان إشارة بالتساهل في توقيع اتفاقية الجلاء وإدخال تركيا في حالة العودة إلي القاعدة ، وذلك ثمنًا لتأييدهم في المعركة ضد نجيب . وقد تبينت صحة ذلك فيما بعد ، إذ لم تستغرق محادثات الجلاء بين جمال والانجليز إلا أيامًا معدودة من شهر يوليو 1954 وقع بعدها الطرفان بالأحرف الأولي اتفاقية الجلاء . وهي التي تعثرت عشرات السنين في مفاوضات مرهقة .. ووافق جمال علي عودة الانجليز للقاعدة في حالة الهجوم علي تركيا .

مذكرة الإخوان المسلمين في نقد الاتفاقية

وسط هذا الجحيم الذي كان يعانيه الإخوان المسلمون من كتم للأنفاس ، ومن حملات الاستفزاز بما تزخر به أنهر الصحف من أكاذيب وافتراءات ، ومن هجمات مسعورة لاعتقال أنضر شباب الدعوة من النظام الخاص – وسط ذلك كله رأوا من حق هذا الوطن عليهم أن يعلنوا برأيهم في هذه الاتفاقية فكونوا لجنة من الإخوان المتخصصين ، عكفوا علي دراسة الخطوط الرئيسية لهذه الاتفاقية وخرجوا من هذه الدراسة بمذكرة شاملة تقدموا بها إلي رياسة مجلس الوزراء حيث أودعت الرياسة في الثاني من شهر أغسطس 1954 .. ويلاحظ أنه قد تم هذا في غيبة المرشد العام الذي لم يعد من رحلته إلا يوم 22 من أغسطس .. وننقل فيما يلي نص هذه المذكرة :

   " السيد رئيس مجلس الوزراء 
   السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

وبعـد :

فقيامًا بواجب الشورى في الأمر ، والتواصي بالحق والصبر ، والتعاون علي البر والتقوى – قد اطلع مكتب الإرشاد العام علي الخطوط الرئيسية للانتقال المقترح عقده بين مصر وانجلترا ، والذي وقعه رئيس وزراء مصر ووزير حربية انجلترا في يوم 27/7/1954 . كما اطلع المكتب علي الملحق رقم (1) الذي نشر مع الخطوط الرئيسية في اليوم التالي للتوقيع . وقد تبين المكتب من دراسة الخطوط الرئيسية والملحق أمورًا خطيرة يعرضها فيما يلي عليكم ، ويتقدم بالرأي والنصيحة فيها إليكم . وهو إذ يفعل ذلك يقدر كل التقدير ما بذله المفاوضون المصريون من مجهود كبير ومن محاولات ضخمة للوصول إلي حقوق الأمة .


أولاً : الخطوط الرئيسية :

1 – تحدد المادة الثانية مدة الاتفاق بسبع سنوات من تاريخ توقيعه ، كما أنها تلزم الحكومتين المصرية والبريطانية بالتشاور خلال السنة السابعة فيما يتخذ من تدابير عند انتهاء المدة – ولما كان الجلاء سيتم كما اتفق في ظرف عشرين شهرًا فلا محل لجعل مدة الاتفاق سبع سنوات إلا إذا كانت الاتفاقية تستهدف شيئًا آخر غير تنظيم الجلاء وهو ربط مصر بانجلترا طيلة السبع سنوات بنوع من التحالف أو الارتباط قد يمتد إلي ما بعد السبع سنوات ، كما يدل علي ذلك التزام مصر بالتشاور مع انجلترا فيما يتخذ من تدابير عند انتهاء السبع سنوات .

2 – وتعطي المادة الرابعة لانجلترا في العودة إلي قاعدة القتال إذا هوجمت مصر أو أي دولة من دول الجامعة العربية والتي وقعت معاهدة الدفاع المشترك أو إذا هوجمت تركيا . وتوجب المادة علي مصر أن تقدم لانجلترا كل التسهيلات اللازمة لتهيئة القاعدة للحرب وإدارتها إدارة فعالة ويدخل في ذلك استخدام الموانئ المصرية .

وسنبين فيما يلي وجوه الخطر في هذه المادة :

أ – أعطت لانجلترا الحق المطلق في العودة إلي القتال واحتلال القاعدة بجنودها لمجرد حدوث هجوم علي مصر أو دولة عربية أو تركيا . ولانجلترا الحق في العودة إلي القتال دون استشارة مصر ودون الحصول علي موافقتها بل ودون رضاها ، ولو كانت الدولة المعتدية عليها قادرة علي رد الاعتداء وحدها .. والدول المستقلة لا تقبل أن يفرض عليها العون فرضًا ، ولا تعرض أرضها للاحتلال بهذه السهولة ، ولا تجعل دخول الأجانب بلادها راجعًا لمشيئة الأجنبي .

ب – وإذا كان الاعتداء علي تركيا أمرًا يقلق راحة المسلم ، وكان الدفاع عن كل بلد إسلامي واجبًا إسلاميًا ، فإننا لا نفهم كيف أن الاعتداء علي تركيا يعطي انجلترا الحق المطلق في احتلال القتال ويلزم مصر التزامات مادية وأدبية قبل انجلترا لا قبل تركيا المعتدي عليها – إلا إذا كان المقصود تدعيم السياسة الانجليزية وحماية الإمبراطورية .

ج – ولقد انتقدت مصر حلف باكستان – وتركيا ، ورفضت من قبل أن تدخل حلفاً بلقانيًا أو في حلف الأطلنطي ، ولكنها طبقاً للمادة الرابعة دخلت في كل هذه الأحلاف بطريق غير مباشر لأن تركيا حليفة باكستان وحليفة لبعض دول البلقان ، كما أنها مرتبطة بحلف الأطلنطي ، فإذا هوجمت أي دولة محالفة لتركيا ودخلت تركيا الحرب فقد حق لانجلترا أن تحتل القتال بحجة مهاجمة تركيا ، ووجب علي انجلترا أن تدخل الحرب في صف تركيًا طبقاً لما بينهما من معاهدات . وإذا دخلت انجلترا الحرب وهي محتلة للقتال فقد اشتركت مصر اشتراكًا فعليًا في الحرب بسماحها باستخدام أراضيها ومطاراتها وموانيها ، ومما تقدمه من معونة وتسهيلات لانجلترا . ولا شك أن هذه النتيجة التي وصلت إليها انجلترا عن طريق التحالف الواقعي في المفاوضات السابقة عن طريق التحالف الاتفاقي والدفاع المشترك . ولعل هذا التحالف الواقعي الذي أقامته المادة الرابعة ولم تصرح به ألفاظها هو الذي دعا رئيس وزراء مصر ووزير حربية انجلترا إلي أن يعلنا في البلاغ المشترك أنه ليس له غرض عدواني ، وأنهما يعتقدان أنه سيفضي إلي المحافظة علي السلم والأمن .

د – أعطت المادة الرابعة لانجلترا الحق في استعمال جميع المواني المصرية ويترتب علي ذلك أن يكون لها حق في نقل جنودها وعتادها علي الطرق البرية والمائية والسكك الحديدية المصرية التي تصل مختلف المواني بالقاعدة ، وأن يكون لها مندوبون في كل ميناء . وما كانت انجلترا تستطيع أن تصل لشيء من هذا قبل أن تقرره لها المادة الرابعة .

3 – والفقرة الثانية من المادة الرابعة تلزم مصر أن تتشاور مع انجلترا في حالة قيام تهديد بهجوم علي أي بلد من البلاد التي سلف ذكرها في الفقرة الأولي – ولم تبين هذه الفقرة حالة التهديد بالهجوم – تلك الحالة التي لا تكاد تختلف في مدلولها عن عبارة " خطر الحرب " التي طالما حاولت انجلترا إلزامنا بالاتفاق عليها ولم تقابل إلا بالرفض .

4 – وتنص المادة السابعة علي جلاء القوات الانجليزية جلاء تامًا عن الأراضي المصرية في مدة لا تزيد عن عشرين شهرًا من تاريخ توقيع الاتفاق .

والجلاء التام الناجز غير المشروط بشرط هو حق الشعب الذي أجمع علي المطالبة به ، وهو ما استهدفته الحركة وصرح به رجالاتها ، ولكن الجلاء الذي جاءت به المادة السابعة جاء مع الأسف مسبوقاً بالتزامات ومعلقاً علي شروط وغير تام ولا ناجز . وسنري أن الملحق رقم (1) استبدل بالجنود الانجليز فنيين وموظفين من الانجليز يديرون القاعدة ، ويحافظون عليها . وهذا يجعل الجلاء صوريًا ، ويحل محل الانجليز الذين يلبسون الملابس العسكرية انجليزًا يرتدون الملابس المدنية ومهمة الفريقين واحدة .. ولذلك رأينا أن المادة الرابعة تعطي انجلترا حق إعادة جيشها للقاعدة بمجرد مهاجمة دولة من الدول التي عينتها المادة ، كما تفرض علي مصر محالفة واقعية مع انجلترا وحلفائها . وإذا كانت مدة الاتفاقية سبع سنوات من تاريخ توقيعها ، فمعني ذلك أن تظل القاعدة محتلة بالمدنيين من الانجليز ومعرضة لدخول الجيش الانجليزي فيها طيلة سبع سنوات – وإذا كان هذا هو الجلاء الذي جاءت به المادة السابعة فلن يستطيع منصف أن يقول عنه إنه جلاء ناجز أو جلاء غير مشروط .

5 – وتنص المادة الثامنة علي اعتبار قناة السويس ممرًا مائيًا له أهميته الدولية . هو تقرير للواقع ، ودليل علي بطلان ما كانت تدعيه انجلترا عن أهمية القتال لها وحدها – لكن النص علي احترام اتفاقية سنة 1888 التي تكفل حرية الملاحة كان يقتضي النص علي حق مصر في تعطيل هذه الملاحة في حالة الدفاع عن النفس . والمادة الثامنة بهذا الوضع الناقص لن يستفيد منها سوي إسرائيل .

6 – وتلزم المادة التاسعة مصر بأن تقدم التسهيلات الخاصة بالطيران والنزول والصيانة لكل طائرة تابعة لسلاح الطيران الانجليزي بمجرد الإخطار عنها – وهذا النص يحمل مصر بالتزامات خطيرة :

أ – فهو يلزم مصر قبول أي طائرة أخطرت عنها دون أن يكون لمصر حق الاعتراض أو الرفض .

ب – يلزم مصر أن تنشئ مطارات لنزول الطائرات الانجليزية ، وأن تنشئ محطات لإصلاح وصيانة هذه الطائرات ، كما يلزم مصر أن تضع مطاراتها الحالية ومحطات الإصلاح والصيانة تحت تصرف الطيران الانجليزي .

ج – ويلزم مصر أن تقدم التسهيلات السابقة في أي مكان من القطر المصري لا في منطقة القنال وحدها – ويكمل هذا الالتزام الجوي التزام بحري هو حق انجلترا في استخدام جميع المواني المصرية المنصوص عليه في المادة الرابعة – ويترتب علي هذين الالتزامين التزام بري بنقل الأشخاص والمهمات فيما بين بعض المطارات والمواني وبعضها الآخر ، وفيما بين المطارات والمواني وبين القاعدة .

ثانيًا : الملحق رقم (1) :

1 – أعطت الفقرة الثالثة لشركة انجليزية تجارية أو أكثر حق حفظ المنشآت البريطانية وإدارتها وأباحت لهذه الشركات أن تستخدم فنيين وموظفين من البريطانيين علي أن لا يزيد عدد الفنيين عن حد معين سيتفق عليه . وهذا النص إذا كان قد قيد عدد الفنيين فإنه لا يقيد عدد الموظفين ، ويسمح للشركة أن توظف عددًا كبيرًا من الانجليز ، وهم جميعًا مجندون ، فيكون هناك جيش من هؤلاء في القنال تحت اسم الموظفين .. ويستطيع هذا الجيش الأجنبي في أي وقت أن يكون خطرًا علي مصر خصوصًا وتحت يده العتاد الكثير ، ولديه العدد الكافي من الفنيين . ولا يغير هذا المعني ما قد توهم به عبارة الشركة جواز أن تكون الشركة مصرية وبين جواز استخدام المصريين مع البريطانيين ، فإن حق اختيار الشركة أو الشركات متروك لانجلترا ولا يعقل أن تختار شركات مصرية ، وحق اختيار الفنيين والموظفين متروك للشركة . ولا يعقل أن تختار الشركة الانجليزية فنيين أو موظفين مصريين إلا إذا كانت أعمالهم تافهة ، ولم يكن لديهم من يقوم مقامهم من الانجليز .

ولو صح أن انجلترا لا يهمها أن يشرف علي القاعدة مصريون لما كان هناك دافع لهذا اللف والدوران ولسلمت القاعدة للحكومة المصرية وتركت مسئوليتها . وعلي كل حال فإن وضع إدارة القاعدة في يد شركة يشرف عليها موظفون بريطانيون ملحقون بالسفارة البريطانية يدل علي روح الحكومة البريطانية واتجاهها وحرصها علي أن تكون أمور القاعدة في أيد انجليزية .

2 – وتلزم الفقرة الرابعة الحكومة المصرية أن تقدم المعونة الكاملة للشركة التجارية . وتعبير المعونة الكاملة تعبير واسع ومن شأنه أن يرتب علي مصر التزامات غير محددة تنفرد الحكومة البريطانية بتقديرها .

3 – والفقرتان الأولي والخامسة معًا يفيدان أن معظم المنشآت الانجليزية في القتال ستسلم للشركات التجارية لإدارتها وحفظها وصيانتها . وأن منشآت من نوع خاص كالكباري والمواصلات وأيضًا أنابيب البترول قد تسلم للحكومة المصرية – ولكن الحكومة المصرية مع تسلمها هذه المنشآت لن تديرها إلا بواسطة الشركات التجارية . ولا ندري ما الحكمة التي تدعو لتسليم الحكومة المصرية بعض المنشآت وإلزامها بأن تديرها .

4 – وتجعل الفقرة السادسة للحكومة الانجليزية حق التفتيش علي جميع المنشآت ما يسلم منها للحكومة المصرية وما يسلم منها للشركات . ويتم التفتيش بواسطة موظفين من الانجليز يلحقون بالسفارة البريطانية في القاهرة .

وبمقتضب هذه الفقرة :

أ – أن يكون التفتيش علي جميع المنشآت ما سلم منها للحكومة المصرية وما سلم للشركات .

ب – أن يقوم بالتفتيش عسكريون من الانجليز ، ولا يمكن إلا أن يكونوا عسكريين لأنهم يفتشون علي منشآت وأعمال عسكرية .

ج – أن يمنح هؤلاء المفتشون الحصانة الدبلوماسية بحكم إلحاقهم موظفين بالسفارة البريطانية .

د – أن يكون لهؤلاء العسكريون حق الإقامة في القاهرة بعد أن جلا العسكريون عنها منذ عام 1946 .

هـ - وأخيرًا فإن قيام شركات انجليزية بإدارة القاعدة ، واستخدامها فنيين وموظفين من الانجليز ، وجعل التفتيش علي أعمال هؤلاء العسكريين بواسطة موظفين ملحقين بالسفارة البريطانية .. كل ذلك معناه أن انجلترا هي التي تدير القاعدة وتحافظ عليها وتصونها ، وتتصرف فيها ، وأن الوضع السابق علي هذه الاتفاقية لم يتغير في حقيقته وإن تغير في مظهره .

• المعاني التي قامت عليها الاتفاقية :

يستفاد من دراسة الخطوط الرئيسية والملحق رقم (1) أن الاتفاقية تقوم علي المعاني الآتية :

الأول : ربط مصر بالكتلة الغربية ربطًا فعليًا وذلك بإدخال تركيا في الاتفاق . وهذا الرباط يجعل مصر حليفة لدول الكتلة الغربية وإن لم تذكر كلمة " التحالف " ، ويعرض مصر لويلات حروب لا مصلحة لها فيها . ولا فائدة تعود منها عليها ، ويجعلها تنفق أموالاً هي أحق بأن تنفقها في محاربة الاستعمار وتدعيم استقلالها .

الثاني : تقرير الجلاء المشروط بإدخال تركيا في الاتفاق واعتبار هذا الدخول شرطاً للجلاء وثمنًا له – وهذا هو الجلاء المشروط الذي يحرص الانجليز منذ سنة 1954 علي أن يتمسكوا به في كل مفاوضة ، وليس الجلاء التام الناجز غير المشروط الذي نادت به الأمة المصرية وتعاهدت عليه واستشهد أبناؤها في سبيله .

الثالث : استبدال الاحتلال المدني بالاحتلال العسكري إذا هوجمت مصر أو أي بلد من بلاد الجامعة العربية أو تركيا ، وهذا المعني مع سابقه يجعلان الجلاء جزئيًا لا كليًا ومؤقتًَا لا نهائيًا ، وصوريًا لا حقيقيًا ، وقد يقال إن تقديم مصر التسهيلات لانجلترا لا يجعل مصر حليفة لها ، ويستدل القاتلون بما حدث في الحرب الماضية ، وهؤلاء يجب أن يعلموا أن مصر بتقديمها التسهيلات في أراضيها لدولة محاربة تعتبر مشتركة في الحرب فعلاً ، وإن ما حدث من إيطاليا وألمانيا في الحرب الماضية لن يحدث من روسيا مثلاً ، ذلك أن ألمانيا وإيطاليا كانتا علي علم بشعور الشعب المصري نحو الانجليز ، ومع ذلك فإن حرصهما علي عدم استشارة الشعب المصري لم يمنع من غارات طائراتها علي المدن المصرية مما أدي إلي تخريب المنشآت وهلاك الأنفس .

• علاج الموقف :

إن أول علاج للموقف في رأينا هو أن توقف المفاوضات الدائرة بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية ، وأن يعتبر ما تم منها كأن لم يكن مادامت المفاوضات أساسها المساومة علي الجلاء . حتى إذا اعترف الانجليز بجلاء غير مقيد بقيد ولا مشروط بشرط ولا مرتبط باتفاق علي أمر آخر ، جاز للحكومة المصرية أن تدخل معهم في محادثات لا تتعدي تنظيم الجلاء ، فإذا تم الجلاء وانتهت عوامل الضغط وأسباب المساومة ، فإن لمصر أن تفاوض انجلترا ، وأن تتفق معها علي ما تراه في صالحها .

والخطوة الثانية : في علاج الموقف هو تحقيق ما أعلنته الحكومة الحالية من إعداد الشعب وتربيته تربية عسكرية وبث روح الجهاد فيه ، وتجميع صفوفه ، وتنظيمها لجهاد كريم هو السبيل الطبيعي لاستخلاص الحقوق وإجلاء الغاصبين والمستعمرين – ويوم تفعل الحكومة فسيكون الإخوان في الصف الأول ، وستري الحكومة كيف سيبيعون أنفسهم وأفراد الشعب الكريم في سبيل الله وتحرير وطنهم . وإن ذلك الاتجاه لقمين أن يوصلنا إلي الجلاء التام الناجز في أقرب وقت ممكن وأقل كلفة ، ولن نبذل من التضحيات والخسائر في سبيل الله بعض ما يصيب البلاد من إتمام الاتفاق المقترح وبين الانجليز .

ولا نحب أن نلزم الحكومة الأخذ برأينا في علاج الموقف .. ويكفينا أن تعلم الحكومة المصرية أن مشروع الاتفاق ضار بمصر للأسباب التي ذكرناها ، وأن الأمة لا ترضاه ولا تقبله ، ولن تسمح بأن تقيد نفسها به ، وأن علي الحكومة أن تراجع موقفها من الاتفاق ، وأن تتخذ منه الموقف بوعي الأمة وجهادها الطويل بأهداف الثورة وما أعلنته منذ قيامها بأنها لا تقبل إلا الجلاء الناجز الطليق من كل شرط وقيد .

هذا ما يري الإخوان المسلمون التقدم به إلي الحكومة آملين أن تستجيب لهم ، فإن أبت إلا المضي فيما بدأته من مفاوضات فإن الأمانة الوطنية تختم عليها أن تتبين رأي الأمة في هذا الأمر الخطير ، الذي لا يجوز أن تستأثر به حكومة دون شعب . وإذا كنا قد فات الحكومة أن تتبين رأي الأمة في المفاوضات قبل البدء فيها فلا يفوتن الحكومة أن تتبين رأي الأمة في اتفاق الخطوط الرئيسية ، ولن يكون ذلك إلا بإطلاق حرية القول والاجتماع وتوفر الحرية للصحف لتنشر كل ما يصل إليها عن الاتفاق . ولا يغني عن تبين رأي الأمة في اتفاق الخطوط الرئيسية أن يعرض الاتفاق النهائي بعد إتمامه علي ممثلي الأمة لإقراره والتصديق عليه ، فإن تبين رأي الأمة في الاتفاق قبل المضي فيه يوقر علي الأمة وقتها وجهدها . ويجعل الحكومة علي بصيرة من أمرها فيما تأخذ وما تدع . وهذا ما جري به العمل في كل مشروعات الاتفاقات السابقة فقد عرضت علي الأمة لاستطلاع الرأي فيها ونوقشت في الصحف وفي الاجتماعات العامة مناقشة حرة لا قيد عليها ولا تثريب علي المشتركين فيها .

  وما تقدمنا للحكومة في هذا كله إلا للنصيحة التي يفرضها علينا الإسلام – والدين النصيحة – وما نريد إلا الخير للأمة والحكومة ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الوكيل العام للإخوان المسلمين

ذي الحجة 1373هـ

2 أغسطس 1954م


الفصل الرابع : عبد الناصر يقابل نقد الاتفاقية بخطة تنكيل وإبادة

ما كنت أتصور ولا أحد كان يتصور أن تتطور الأمور هذا التطور الخطير فيعتبر جمال عبد الناصر نقد الإخوان لاتفاقية الجلاء بمثابة إعلان حرب عليه ، في حين كان نقد هذه الاتفاقية واجبًا قوميًا علي الإخوان المسلمين باعتبارهم الهيئة الوحيدة التي بقيت في مصر بعد قيام الثورة ، وعليها وحدها يقع العبء في كل خطوة سياسية أو اجتماعية تمس كيان البلاد .. ولو أنها سكنت في مثل هذا الموقف لكان سكوتها خيانة وطنية لا يغفرها التاريخ .. ثم إن الاتفاقية في ذاتها فيها من العيوب الكبيرة ما لا يمكن السكوت عليه ، وقد أوردت نص نقد الإخوان للاتفاقية ليري القراء بأعينهم فداحة هذه العيوب . وأكرر هنا مرة أخري أن عدم شعور المصريين بما كان سيحيق بمصر وقضيتها الوطنية من أضرار جسيمة نتيجة تنفيذ بنود هذه الاتفاقية إنما يرجع لحدث خارج عن إرادة الجميع لابسته تطورات شاذة كان من شأنه أنه أسقط هذه الاتفاقية قبل أن تظهر أضرارها ، ذلك هو ما يسمي بالعدوان الثلاثي سنة 1956 وموقف أمريكا منه موقف التحدي لا مراعاة لمصلحتنا وإنما ثأرًا لكرامتها لأن المعتدين لم يستشيروها قبل اعتدائهم ، فجاءت مصلحاتنا عرضًا في أثناء هذا الثأر . وتأديبًا لهم أسقطت أمريكا حقوقهم التي كانوا قد اكتسبوها .

علي أن ما ارتكبه جمال عبد الناصر من مآثم لا ينساها التاريخ ضد الإخوان متذرعًا في ذلك بنقد الإخوان للاتفاقية كما كان يرد ذلك .. لا يتناسب ولا يكون الجزاء الوفاق لنقد اتفاقية حتى لو فرضنا أنها اتفاقية مثالية وخالية من العيوب ، فما بالك بها وعيوبها ظاهرة ملموسة .. ولكن يبدو أنه – مع إفلاسه السياسي في ذلك الوقت – شعر بأن نقد الاتفاقية – وهي كل ما أراد أن يجعله رضيًا سياسيًا له – إن هو إلا محاضرة له في آخر موقع بقي في يده ، وأنه القضاء المبرم عليه .. ولكن هذا كله لم يكن ليدفع الإخوان إلي التفريط في حق الوطن مراعاة لخاطر حاكم أو خوفًا من غضبه وبطشه . وكان جمال عبد الناصر كلما أبدي له بعض من يتصل به ممن يعتبرهم محايدين استغرابهم لثورته علي الإخوان لأنهم نقدوا الاتفاقية مع أن هذا حق مقرر لكل مصري ، يتهرب من حصارهم له بهذا الاستغراب بقوله : إنه إنما يثور عليهم لأنهم أعلنوا نقدهم في الصحف قبل أن يتقدموا إليه به .. والرد علي هذا أولاً أن نقد خطوط رئيسية معلنة لا يحط من قدر الحاكم في شيء لأن إعلان هذه الخطوط قبل إعلان الاتفاقية لا يكون له معني ما لم يكن قد قام بهذا الإعلان ليقول فيه كل ذي رأي رأيه ، حتى يجري فيه التعديل الممكن .. والرد الثاني علي هذا الادعاء هو ما جاء في كتاب اللواء محمد نجيب ونقلناه في الفصل السابق من قوله : " وتولي جمال الذي كان قد أصبح رئيسًا للوزراء رياسة الوفد المصري في المباحثات التي وقعت اتفاقيتها الأولي بسرعة مذهلة بعد أيام فقط من بدايتها أي في يوم 27 يوليو 1954 – فاتفاقية لوحظت فيها العجلة إلي هذا الحد هل كان يريد عبد الناصر أن يرجأ نقدها حتى يرجع المرشد العام من رحلته وقد رجع يوم 22 أغسطس بعد أن تفوت الفرصة المناسبة ، وهل كان عبد الناصر يريد من المرشد العام وقد سأله الصحفيون في لبنان عن رأيه في خطوط رئيسية نشرت أن يمتنع عن إبداء رأيه ، وبأي حجة كان يحتج أمامهم إذا هو امتنع عن الإجابة عن أسئلتهم .. إن موقف جمال عبد الناصر يذكرنا بقول الشاعر :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

هذا نقاش أدرناه ليتضح منه أن الإخوان لم يكن أمامهم إلا طريق واحد إزاء مفاجأة الشعب بما أعلنه عبد الناصر من الاتفاقية إلا أن يعلنوا الشعب برأيهم فيها لعل ذلك يؤدي إلي تدارك عيوبها أو حتى بعض هذه العيوب قبل فوات الأوان .

• أساليب تنكيل جديدة :

غني عن الذكر أن أقول إن ما بدأه جمال عبد الناصر من خطط اعتقال شباب الإخوان من النظام الخاص وتعذيبهم ونشر الأكاذيب والافتراءات علي الإخوان في الصحف كل يوم لم تقف عنه حد بل ضاعفها وشدد في الحملة علي الإخوان بكل وسائل حكومة في يدها كل الوسائل مع حرمان الإخوان من الرد .. كل ذلك لم يتوقف ساعة من ليل أو نهار ، بل إن الإخوان كل يوم كان يتفقد بعضهم بعضًا فيجدون أن المترددين علي المركز العام من الشباب ينقصون عددًا فإذا سئل عنهم عرف أنهم قد اعتقلوا حتى كاد المركز العام يخلو من الشباب . فلما اطمأن جمال عبد الناصر إلي وصول المركز العام إلي هذه الحالة بدأ في خطة أخري ماكرة وخطيرة ومؤثرة ، تلك هي خطة نقل الموظفين .. وقد كنت من أوائل من جرب فيه هذا السلاح الجديد .. وإذا كان في هذه التجربة معي من مرارة خالطها بعض اللطائف والمصادفات والمفارقات التي تبرز خصائص هذا المجتمع من النبل والمروءة والفطنة والذكاء .. فقد رأيت أن أعرضها بين يدي القراء أنموذجًا لما نال الإخوان من هذا الأسلوب في التنكيل .. وأستميح السادة القراء عذرًا إذا بسطت في هذا العرض بعض البسط فأقول :

• أمر بنقلي إلي قنا :

أ – وصلني فجأة وبدون مقدمات ولا أسباب من الجهة التي أتبعها وهي مصلحة القطن برقية هذا نصها : " بأمر السيد وزير المالية تقرر نقلكم فورًا إلي مصلحة الأموال المقررة " .

ب – كان مدير مراقبة القطن الذي يرأسني صديقًا حميمًا لي وكان من الأتقياء الصالحين وهو الأستاذ حسبن الخضري رحمه الله ، وقد اتصلت به مستفسرًا عن هذه المفاجأة ، فأسر إليّ بأن وزير المالية وكان السيد / عبد الحميد الشريف وكانت مصلحة القطن تابعة له – اتصل به وطلب منه نقل محمود عبد الحليم فورًا إلي قنا ، فقال له يا معالي الوزير إن آخر حدود مصلحة القطن هي سوهاج . فقال : إذن ننقله إلي مصلحة أخري – وبعد قليل اتصل به وأمره أن يرسل البرقية التي وصلتني .

وأفهمني الأستاذ حسين معتذرًا أن الوقوف أمام هذا الأمر فوق طاقته لأنه ليس صادرًا من وزير المالية وإنما هو صادر من جهات عليا لأهداف سياسية . ولكنه قال لي : اكتب لي مذكرة تذكر فيها حاجة هذه المصلحة إلي خبراء وأن الحكومة شعورًا منها بهذه الحاجة قررت استثناءها هي ومصلحة الجمارك من قرارها الذي منعت به التعيين في الحكومة ، وأن التضحية بخبير لم يكتسب خبرته إلا بعد ممارسة طويلة ليباشر عملا لا خبرة له به يضر الجهتين المنقول منها والمنقول إليها .. وكتبت المذكرة وسلمتها إليه . فأشر عليها بإقراره لكل ما جاء بها وأنه لا مانع إذ رؤى نقله إلي مكان بعيد أن ينقل إلي أنأى بلد في المصلحة وهي " جرجا " ثم رفع المذكرة إلي الوزير .

ج – لما علمت أنني منقول إلي قنا أحببت أن أخذ فرصة من الوقت أستعد فيها لهذا السفر الطويل ، وأرتب أمور أسرتي وأولادي في فترة غيابي عنها الغياب الذي لا أعرف له كنها ولا مدى – وفقد أفهمني الأستاذ حسين فيما أفهمني أن الوزير أمرهم بعدم منحي أية إجازة من أي نوع – وكان مفتش صحة القناطر الخيرية التي أقيم فيها صديقاً لي . فذهبت إليه وعرضت له الموضوع وسألته عما إذا كان من الممكن أن يمنحني إجازة مرضية لبضعة أيام .. فما كان منه إلا أن أخرج من مكتبه ورقة قدمها إليّ قرأتها فإذا هي إشارة تليفونية سرية من مفتش صحة محافظة القليوبية يحذر فيها مفتش صحة القناطر الخيرية من إعطاء فلان أية إجازة مرضية مهما كانت الأسباب – فعذرت الرجل وغادرته وهو يكاد يبكي من حرج موقفه .

د – ذهبت في المساء إلي دار المركز العام ، وأطلعت الأستاذ المرشد علي البرقية وعلي المحاولات التي بذلتها . فقال لي : لا مناص من التنفيذ . وإنهم يريدون أن يجردونا من أعز إخواننا . وهي خطوة من خطواتهم في سبيل إخلاء المركز العام من القيادات بعد أن أخلوه من الشباب ، ليتمكنوا من الإقدام علي فعل شيء أسروه في قرارة أنفسهم . وقال لي : إن هذا الإجراء الذي اتبعوه معك اتبعوه في نفس الوقت مع الأخ طاهر عبد المحسن فقد نقلوه إلي سوهاج . ومع عدد آخر من أعضاء الهيئة التأسيسية البارزين والذين لهم مواقف تسوؤهم .

وقد لاحظت أن الأستاذ المرشد كان في ذلك المساء في حالة نفسية سيئة – وقد فهمت أن خطة تجريد المرشد العام من خلصائه ومعاونيه ومن أكرم مجموعة من الشباب حوله إنما هي خطة أعدها جمال عبد الناصر ليتمكن من اصطياد المرشد العام كما اصطاد إبراهيم عبد الهادي الأستاذ الإمام .. ولذلك يقضي علي الدعوة من أقرب طريق .

هـ - أرسلت إلي والدي – رحمه الله – في رشيد ليحضر إلي القناطر الخيرية ليتولي شئون أسرتي في مدة غيابي وسافرت – وكلي قلق لا علي أولادي وأسرتي – يعلم الله – وإنما علي الدعوة الإسلامية المهددة ، والمسخر للقضاء عليها كل إمكانيات الدولة ، وبطرق بعيدة كل البعد عن الشرف والمروءة والإنسانية – ووصلت إلي قنا علي ما أذكر في أواخر أغسطس ، ونزلت بها لأول مرة في حياتي في فندق الجبلاوي .

وفي الصباح سألت عن مقر تفتيش الأموال المقررة ، فعلمت أن مقره في مبني المحافظة ، فذهبت إليه وسألت عن المفتش فقيل لي إنه في إجازة ، والقائم بعمله هو الأستاذ النبوي وكيل التفتيش – وكان للقائي بهذا الرجل أجمل الأثر في نفسي ، فقد وجدته رجلاً واسع الأفق ، طيب القلب ، صالحًا فاهمًا للظروف ، كريمًا ذا أدب وذا مروءة ، رحب الرجل بي وأكرم وفادتي وظللت طيلة يومي الأول جالسًا عنده في مكتبه – وفي خلال جلوسي في ذلك اليوم استعرضت أكثر موظفي التفتيش كبارًا وصغارًا ، وكان الأستاذ النبوي حريصًا علي تقديمي إليهم بأسلوب يفهمون منه ظروف نقلي عندهم – وقد فهمت في ذلك اليوم أن رياسة تفتيش الأموال المقررة في كل محافظة ليست للمفتش وإنما رئيس التفتيش هو المحافظ نفسه لأن كل القرارات والجزاءات والإجازات لابد أن توقع من المحافظ نفسه – كما فهمت حقيقة مزعجة لي هي أن محافظ قنا هو الأميرالاي محمد أبو السعود .

والمزعج لي في هذه الحقيقة هو أن الأميرالاي محمد أبو السعود هذا هو نفسه اليوزباشي محمد أبو السعود الذي كان في سنة 1941 معاون بوليس بندر دمنهور ، والذي كانت بيني وبينه مواقع أيام يغير بنفسه علي دار شعبة الإخوان في دمنهور ، ويحاول منع إلقاء المحاضرة الأسبوعية بها ، كما أنه أغلق الشعبة بنفسه في حين لم تغلق أية شعبة أخري في القطر ، وكنت أنا دائمًا الذي أتعرض له وأصطدم به ، وهو يكن لي كراهية شخصية – وقد دارت الأيام بهذا الرجل حيث نقل إلي أسيوط في وقت من الأوقات ، واستطاع أن يقضي علي عصابة خطيرة كان لها شهرة في أنحاء البلاد كلها تسمي عصابة " الخط " ونشرت الصحف في ذلك الوقت صورة محمد أبو السعود وتحدثت عن شجاعته .. وبسبب ذلك فتح أمامه باب الترقي حتى وصل إلي هذا المنصب الرفيع في سنة 1954 الذي قلما كان يحظي به ضابط مثله . وكانت خطتي حين علمت بذلك هي أن أتحاشي لقاءه ، بل أن أتحاشي حتى مجرد أن يعلم بوصولي إلي قنا – وقد كان الأستاذ النبوي – من باب التكريم – يريد أن يقابلني به فأفهمته بأسلوب ما أنني لا أرغب في ذلك .. فهم الرجل واكتفي بأن اتصل بالمدير العام لمصلحة الأموال المقررة في وزارة المالية بالقاهرة وأبلغه بوصولي .

وفي مساء ذلك اليوم سألت عن مقر شعبة الإخوان المسلمين بقنا وقصدت إليه ،و تعرفت بالإخوان فيه ، وكانوا حفنة من الشباب الغض المؤمن فأحببتهم وأحبوني – وكان ممن تعرفت به منهم الأخ محمد الرشيدي الكاتب بتفتيش صحة بندر قنا – وقد فرح الإخوان بنقلي عندهم واستبشروا خيرًا أن شعبتهم ستنهض ، ولكنني أسررت بالظروف التي أواجهها وتواجهها الدعوة إلي الأخ محمد الرشيدي ،وقلت له إنني سأحتاج إلي معونته فأبدي أتم الاستعداد . وفي اليوم التالي ذهبت إلي عملي الجديد وجلست عند الأستاذ النبوي واستعرضت الموظفين الذين استعرضتهم بالأمس . ولكنني في خلال هذا اليوم أحسست بأن تفاهمًا قلبيًا ، وتجاوبًا نفسيًا ، قد توطد بيني وبينهم . واتخذوا يبادلونني التحية ممزوجة بعواطف الود والمحبة ، وكانت العيون تنطق بما حالت الظروف دون أن تنطق به الألسنة . وفي أثناء ذلك اليوم قلت للأستاذ النبوي سائلاً : ما هو العمل المطلوب مني تأديته ؟ فرد الرجل وكأنما كان يتحاشى أن أوجه إليه هذا السؤال وقال : هذا هو ما يحيرني .. وأنت بمؤهلك ومدة خدمتك جدير أن تتولي أعلي منصب في التفتيش ولكن كل الأعمال عندنا مشغولة بموظفيها .. وبعد نقاش أخوي حول هذا الموضوع حاول الرجل بأدب وكياسة أن يقنعني بأن أقضي وقتي معه في مكتبه ولا داعي لتسلم عمل .

ومن طرائف ما يشار إليه إشارة عابرة أن ظروفي كانت تستدعي أن أتصل بمصلحة القطن بالقاهرة وبالأخ الكريم الأستاذ أحمد عبد اللطيف مدير المستخدمين ، ونوهت بذلك أمام الأستاذ النبوي فقال : هذا أمر ميسور نطلبه لك بالتليفون وكانت الساعة حوالي الثانية عشرة ظهرًا ، فقلت له إن الوقت الباقي علي موعد انتهاء العمل بالمصالح الحكومية لا يكفي لتوفير هذه المكالمة ، فقال : إننا نستطيع الحصول عليها في دقائق .. وأمسك بالتليفون وما هي إلا دقائق لا تزيد علي خمس حتى رأيتني أتكلم مع الأستاذ أحمد عبد اللطيف رحمه الله .. وقد أردت من ذكر هذه الواقعة لنوازن بين ذلك وما آلت إليه حالة مرفق التليفونات عندنا في هذه الأيام . وفي أثناء جلوسي مع الأستاذ النبوي في اليوم الثالث وجهت إليه سؤالاً وأنا لا أدري ماذا يكون جوابه عليه . غير أني ما كدت أوجه إليه السؤال حتى بادرني بموافقة ممزوجة بما يشبه الرجاء والتمني . وكأنما أخرجت الرجل بسؤالي هذا من حرج كبير كان لا يدري كيف يخرج منه . وكان هذا السؤال هو قولي له : يا سيدي الأخ الأستاذ نبوي هل عندك مانع من الموافقة علي إحالتي إلي الكشف الطبي ؟ سرتني إجابة الرجل ، وأذهبت عني غمًا كبيرًا وهمًا مقيمًا .. إلا أن عقبة كئودًا في الطريق كانت تعترض أمالي في إنجاز هذا الأمر ، وهو أن أسرق إجازة مرضية من بين براثن الوحش الكاسر الرابض علي عرشه في القاهرة ، والذي وضعنا في دائرة ضيقة بين براثنه فلا نستطيع حراكًا إلا أن يكون هذا الحراك إلي أنيابه .

حاولت التحرك في القناطر الخيرية فوجدت مخالبه محيطة بي في صورة إغلاق باب التحرك عن طريق الإجازات المرضية .. وهاأنذا أجئ إلي قنا .. وهو يريد بذلك أن يعزلني عن القاهرة التي هي في ذلك الوقت في أمس الحاجة إلي وجودي ووجود أمثالي من المبعدين .. وإذا لم أستطع الحصول علي إجازة فلا مناص أمامي من ترك العمل والهروب إلي القاهرة ، ويفعل الله ما يشاء ، فأنا لا أستطيع أن أنام وأنا أعلم أن الأحداث في القاهرة تتفاقم لا كل يوم بل كل ساعة . أجئ إلي قنا لأجد عدوًا قديمًا لي ولدعوة الإخوان المسلمين هو محافظ الإقليم والرئيس المباشر لي ، ولا أستطيع أن أحصل علي إجازة أو علي تحويل إلي الكشف الطبي إلا عن طريقه وبموافقته شخصيًا .. وكانت الخطة التي وضعتها تقتضي أولاً أن لا يعلم هذا الرجل بحضوري ، كما تقتضي ثانيًا أن أنجز عملية الإجازة المرضية في أسرع وقت ممكن قبل أن تحدث اتصالات بين القاهرة ويبين هذا الرجل في شأني - ولقد أخذت وعدًا من الأخ الأستاذ محمد الرشيدي الكاتب بتفتيش الصحة فعليه هو أن يحصل لي علي إجازة بل علي أطول إجازة يمنحها القانون .. ولكن أني لي بالحصول علي هذا التوحيل وهو لابد أن يكون بأمر السيد المحافظ وبتوقيعه شخصيًا .. ولم يكن أمامي إلا الاتكال علي الله والمخاطرة .

وتوارد الموظفون الذين اعتدت أن أراهم كل يوم ، يعرضون عمل التفتيش علي الأستاذ النبوي .. وكان نمنهم موظف شاب مهمته أن يحمل كل يوم الأوراق من التفتيش ويقدمها إلي السيد المحافظ ليوقعها ثم يرتد بها موقعة إلي التفتيش لتأخذ كل ورقة منها طريقها إلي التنفيذ .. وكان هذا الشاب من أهل قنا وذا قلب كبير ، ونفس شفافة ، وبصيرة نافذة .. وكان من أكثر الموظفين مبادلة رد ومحبة معي – فتعمدت أن أثير موضوع طلب الإحالة إلي الكشف الطبي معه بسؤالي إياه عن إجراءاته .. فكأنما كان يعرف ما في نفسي فرأيته يقترب مني ويقول : اكتب الطلب ووقعه وأعطنيه ولا عليك بعد ذلك .

قلت : ولكن المحافظ هو الذي يوقعه بنفسه ؟!

قال : نعم هو الذي يوقعه بنفسه ، ودعني أقم بهذا العمل فأنا أعرف ما تريد أو تقول .

واختار الشاب ورقة صغيرة أعطانيها وكتبت عليها الطلب ووقعتها ثم أخذها واستكتب عليها موافقة مبدئية من الأستاذ النبوي ثم أخذها بعدما وقعها الأستاذ النبوي وكتب تحت توقيعه كلمة " أوافق " وكتب تحتها كلمتي محافظ قنا والتاريخ ، ثم فتح ملف الأوراق التي ستعرض علي المحافظ ووضع الورقة وسط مجموعة من الأوراق الروتينية التي اعتاد المحافظ أن يوقعها كل يوم دون استفسار أو قراءة لتفاهتها وتكرارها كل يوم ، وأخذ الملف ونزل للسيد المحافظ . وكانت اللحظات التي غابها هذا الشاب عند المحافظ لحظات استغرقت في خلالها مع الله الذي بيده كنت أحسن الظن بالله عز وجل – وبعد نصف ساعة حضر الشاب الذي أسرني بحبه وبنبله وبفضله ، وقدّم لي الطلب موقعًا عليه من المحافظ وقعه دون أن يدري .. ثم قال لي : إن الإجراءات تقضي بأن نرسل هذا الطلب مع أمثاله من الطلبات إلي تفتيش الصحة : وهذا يستغرق عدة ساعات . وغالبًا ما يؤجل الكشف الطبي لي اليوم التالي – ولذا فإني سأرسل هذا الطلب وحده مع عامل يرافقك ليسلمه إلي تفتيش الصحة ويحصل منهم علي توقيع بتسلمه حتى تتاح لك الفرصة التي تساعدك علي إنجاز ما تريد .

وهنا .. عليّ أن أقف وقفة أمام " الفرد " الفرد المسلم الكريم المعدن ، الذي يبدو كرم معدته في المواقف الساخنة التي تحترق في لهبها المعادن الخسيسة وتذهب هباءً حتى لا يبقي منها إلا الرماد .. إن هذا الموظف الشاب الذي فهم بسليقته الصافية ما أعانيه من حرج ، فتطوع بأداء دور ليس بالهين ، لم يكن يربطني به رباط قرابة ولا مصلحة ولا صداقة ولا حتى معرفة .. ولكنه رأي رجلاً ينكل به من أجل دينه ، فعزم علي أن يقدم إليه أقصي ما يستطيع أن يقدمه ، غير منتظر جزاءً ولا شكورًا ، بل قد يتوقع إذا انكشفت الخدعة عذابًا شديدًا . لم يكن هذا الموظف من الإخوان المسلمين الرسميين – وما أكثر أمثاله في صفوف المسلمين – ولعل في هذا ردًا علي من يظنون حين يضعون أيديهم علي من سجلت أسماؤهم في عضوية الإخوان المسلمين أنهم قد وضعوا أيديهم علي كل العاملين للإسلام .

.. وما هي إلا دقائق .. حتى كنت في تفتيش الصحة .. وكان في انتظاري الأخ محمد الرشيدي الذي رافقني إلي الطبيب – وكان مسيحيًا – وكنت قد عرفت أن الأطباء يحبون الأخ محمد لتفانيه في عمله ولأنه يقدم إليهم خدمات تعود عليهم بالنفع ، ولذا فإنهم يتمنون أن يردوا إليه بعض الجميل .. وكان من نتيجة ذلك أن منحني الطبيب أطول إجازة ممكنة في ذلك الوقت وهي سبعة أيام علي أن يتاح لي مدها بعد ذلك عن طريق القومسيون الطبي . وتركت الأخ الأستاذ محمد الرشيدي مودعًا ، واتجهت إلي محطة السكة الحديد وأخذت أول قطار إلي القاهرة وأنا أتلفت حولي كأنما أنا هارب من جريمة اقترفتها .


الباب الثاني عشر : إلي القاهرة في أحلك الأيام


الفصل الأول : محاولة للإنقاذ

وصلت إلي القاهرة ، واتجهت فورًا إلي دار المركز العام ، فراعني ما رأيت . رأيت دارًا غاب عنها أهلها ، ولم يبق بها إلا عدد ضئيل . وهذا العدد الضئيل هم الإخوة الذين أطلق عليهم " مجموعة الروضة " ورأيت بجانبهم الدكتور محمد خميس حميدة – رحمه الله – وما كان بي حاجة للسؤال عن الغائبين فأنا أعرف أين غابوا ولم غابوا ، فبعضهم غيبته المعتقلات والبعض الآخر عرفوا أنهم متعقبون فحاولوا الاستخفاء حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً . ولكن الذي سألت عنه هو الأستاذ المرشد العام ، لأنني كنت حريصًا علي الالتقاء به لأتبادل معه الرأي ، وأستنير بتوجيهه ، وأبثه ما عندي – سألت عنه الدكتور خميس فقال لي إنه مختف . فسألته عن سبب اختفائه فقال لي : إنه مهدد بالاغتيال .. فسألته عما إذا كانت الاتصالات مستمرة بيننا وبين جمال ، فقال لي : إنها انقطعت تمامًا .. ووجدت الرجل في حال من الأسى والحزن كما رأيت ذلك مرتسمًا علي وجوه العدد القليل الموجود بالمركز العام .

وقد جلست إلي الإخوة " مجموعة الروضة " وحدثتهم عما كان من أمري حتى استطعت أن أحضر إلي القاهرة ، لأنني أحسست أن الحالة في تفاقم مستمر – وقد وجدتها كذلك – فالحالة تتلخص في أن الإخوان في القاهرة والمركز العام يعيشون في ظل سلطة إرهاب لا حدود لها . وقد وجدت أن الإخوان بالمركز العام يغذون إخوان الأقاليم بسيل من المنشورات ، منها خطابات موجهة إليهم من المرشد من مخبئه . ولاحظت أن هذه المنشورات والخطابات مما يرفع من حرارة الالتهاب في أعصاب الإخوان ضد الحكومة حتى إن بعض هذه المنشورات رمت رجال الثورة بما تستباح به الدماء ، كما وجدت حملة الصحف المصرية قد وصلت في إثارتها للإخوان بنشر الأكاذيب واختلاق التهم ، وقلب الحقائق ، واستعداء الشعب عليهم إلي الحد الذي لا يستطيع الإخوان أن يملكوا أعصابهم معه . وهنا وجدتني مطالبًا – أمام ضميري ومن أجل دعوتي وإخواني – بالقيام بعمل ما يضع حدًا لهذا التفاقم المستمر ، والغليان الذي لن يملك أحد أن يسيطر عليه بعد ذلك . كان لابد لي من الإقدام علي ما كنت أنفر منه من قبل ، وهو أن أقوم بلقاء مع الطرف الآخر لإجراء تفاهم بعد أن انقطعت الاتصالات . وأنا أعلم أنني شخص غير مقبول عند رجال الثورة ، بل إنهم يعتبرونني من ألذ أعدائهم ولكن لابد مما ليس منه بد .

ومن نكد الدنيا علي الحر أن يري عـدوًا له مـا من صداقته بد

لقد كنت أري صدامًا عنيفاً مدمرًا يوشك أن تسيل الدماء فيه أنهارًا ، تتجمع سحبه في سماء مصر .. ولن تكون أرواح الألوف وحدها صحبة هذا الصدام ، وإنما سيأتي هذا الصدام علي الأخضر واليابس ويحيل هذا البلد الطيب إلي حطام – فحكومة الثورة وراءها الجيش المصري بكل إمكاناته بعد أن أخرجت منه كل الأحرار وذوي المبادئ .. وأنا في نفس الوقت أعرف قوة الإخوان الروحية والمادية ، ولاحظت أن جمهور الإخوان يشحنون شحنًا مضاعفًا ، ففي نفس الوقت الذي تقوم النشرات السرية التي يصدرها المركز العام بالشحن ، تقوم الحملة الصحفية الاستفزازية بمضاعفة هذا الشحن .. فكان لزامًا علي كل مكن يستطيع أن يصنع شيئًا لتخفيف هذا التوتر أن يتقدم دون توان ولا تأخر ، فإن كل ساعة لا تزيد النار ألا اشتعالاً .. وقد رشحت نفسي لهذا الأمر دون أن يرشحني أحد ، ورأيتني مسئولاً أمام نفسي وأمام الله عز وجل إذا تخلفت عن هذا الموقف ..

ولكنني فكرت ، كيف يتم لي ما أريد ؟! وأطلت التفكير حتى كان ينتهي بي إلي ما يشبه اليأس .. ولكن بريقاً من الأمل لاح في الأفق حين تذكرت صديقاً من أعضاء الهيئة التأسيسية هو الأخ الحاج محمد جوده وهو الأخ الذي سبق لي ذكره في الصفحات القليلة الماضية ، وقلت إنه كان زميلاً لي في المدرسة الابتدائية في رشيد ، وإنه صديق شخصي حميم لجمال عبد الناصر وزملائه الضباط من قبل قيام الثورة لأنهم كانوا عملاءه في محله لتجارة الأرز الرشيدي في شارع الموسكي ، وقد ظلت صلتهم به بعد قيام الثورة علي ما كانت عليه قبلها – وقد رأيت فيه خير سفير بيني وبينهم . وكانت حاشية جمال عبد الناصر التي لا تكاد تفارقه حيث كان حتى وهو في بيته مكونة من ثلاثة ضباط هم الصاغ إبراهيم الطحاوي والصاغ أحمد طعيمة واليوزباشي عبد الرحمن نصير . وهذا الأخير كانت مهمته مهمة حراسة ، أما الآخران فكانت مهمتهما مهمة سياسية .

وتحدثت مع الأخ محمد جودة في العلاقات بين الثورة والإخوان وما آلت إليه من تدهور ، وأبديت رأيي في أننا يجب أن نعمل علي تلافي هذا الأمر . فقال لي : هذا واجب ولكن من الذي يقوم بهذا من الإخوان بعد أن امتنع المكلفون منهم بهذا الاتصال عن الاتصال ؟ فقلت له : إن جمال عبد الناصر هو الذي رفض مقابلتهم . فقال : نعم لقد رفض مقابلتهم لأنه وجد أعضاء اللجنة المختصة بالاتصال سيئي النية ولا يريدون الإصلاح بل هدفهم هو زيادة العلاقات سوءًا لأنهم لا ينقلون ما يتفق عليه بأمانة ، يقصد إيغار صدور الإخوان . قلت له : إن الأستاذ المرشد – توخيًا لتحسين العلاقات – نحي هذه اللجنة وكلف الدكتور خميس نائب المرشد بالقيام بمهمتها . فلما قام الرجل بالمهمة مرة ومرتين رفض جمال مقابلته بعد ذلك فما السبب ؟ قال : السبب أن جمال كان يعتقد أن الدكتور خميس وهو نائب المرشد العام يستطيع أن ينفذ ما يتفق عليه في هذه الاتصالات . ولكنه تبين أنه مجرد لقب بدليل أنه لم يستطع أن ينفذ شيئًا مما اتفق عليه ، فلقد تعهد في أحد الاتصالات لجمال بأن يوقف إصدار النشرة السرية فترة من الزمن اتفق عليها .. ولكن النشرة صدرت في مواعيدها .

ومن حق التاريخ أن أقف هنا لأقرر صحة هذه الواقعة فلقد شكا إليّ الأخ الدكتور خميس من هذا التصرف مر الشكوى . وقد تحدثت في ذلك مع المسئولين من أعضاء النظام الخاص معاتبًا ، وذكرتهم بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد علي من سواهم " وقلت لهم : إذا كنا مطالبين بأن ننفذ عهدًا قطعه لأعدائنا أذنانا منصبًا ومكانة في مجتمعنا فكيف إذا كان الذي أعطي العهد من أعلانا منصبًا ومكانة . كما ذكرتهم بموقف أبي عبيد أحد قواد جيش المسلمين في فتح فارس حين كان جيش المسلمين محاصرًا أحد المواقع ، وكان " جابان " قائد جيش الفرس فاجرًا عنيدًا تمني المسلمين أن يظفروا به ليقتلوه . وكان أن أسره أحد صغار الجند ثم أمنه فرآه المسلمون فأخذوه إلي قائدهم أبي عبيد ليقتله . فلما علم أن أحد صغار جنده مطر بن فضة أمنه بي أن يقتله وقال : لا أغدر . وتركه . وأنا حين أذكر هذا الذي أذكره لا أدعي أن تنفيذنا لما تعهد به الأخ الدكتور خميس كان سيغير الوضع – فهذا شيء كان في قبضة القدر – ولكنني كنت حريصًا علي أن لا نتصرف تصرفاً يتعارض مع مبادئ ديننا ودعوتنا ، ونضع في يد خصمنا حجة بشهرها في وجوهنا ، ويستطيع أن يذيع بها علي أنها دليل علي تخبطنا واضطراب أمرنا .

فقلت للأخ محمد جوده : هل هناك مانع من أن أقوم أنا بمهمة الاتصال ؟

فإذا به يتلقي هذا السؤال بدهشة كأنها مفاجأة .. وسكت لحظة ثم اتجه إليّ كأنه كذب سمعه قائلاً : أنت تقوم بهذه المهمة ؟! قلت : نعم أنا . قال هذا شيء لم يكن يتوقع . قلت : يا أخ محمد .. ليس في هذا غرابة ، إننا جميعًا جنود في هذه الدعوة ، نستجيب لندائها في أي لحظة ، ومن حقها عليّ في هذا الموقف – وقد انقطعت الاتصالات بيننا وبين رجال الثورة وتأزمت الأمور – أن نحاول معالجة الأمور ، ونضع حدًا لهذا التفاقم الذي لا يعلم إلا الله مدى ما يخلفه من أثار علي البلاد .

قال الأخ محمد : إنني أرحب بهذه الخطوة . ولكن ما الذي تقترح عليّ أن أفعله ؟

قلت : تهيئ لي في محلك اجتماعا لي مع الطحاوي وطعيمة .

جاءني الأخ محمد جودة في اليوم التالي وأخبرني بأن الطحاوي وطعيمة تلقيا نبأ رغبتك في الاجتماع بهما بدهشة واستغراب وقالا : إننا نعتبر فلانًا هذا أشد من الهضيبي نفسه . ولكنهما رحبا بالاجتماع . وسيكونان عندي مساء اليوم في الساعة السادسة إن شاء الله في انتظارك . رتبت في خاطري الطريقة التي أدير بها المناقشة بيني وبينهما ، وكانت تدور علي محورين ، أولهما أن أشعرهما أنني أتكلم من موقع قوة . والآخر أننا نحن الإخوان مع ما نملك من قوة نؤثر السلام علي أن يقوم علي دعائم أخوية متكافئة .


الفصل الثاني : المفاجأة المذهلة

ذهبت في الموعد المحدد إلي محل الأخ محمد جودة والتقيت بالرجلين – وكان أول لقاء لي معهما – فتلقياني بترحيب وود – وما إن تبادلنا عبارات التحية والترحيب حتى ألقيا في وجهي بقنبلة مدوية ، أذهلتني وأذهبت صوابي ، ونسفت كل ما كنت أعددته في خاطري ، وغشت علي عيني فظللت برهة لا أكاد أري شيئًا أمامي .. لهول الصدمة ، وفظاعة المفاجأة .. لقد تبددت أفكاري ، وانعقد لساني ، وأرتج عليّ .. ولولا بقية من إيمان لجأت بها إلي ربي لما استطعت أو أواصل جلستي معهما .. ولكنني استلهمت ربي الذي عودني أن يكون بجانبي في لحظات تدلهم فيها الأمور وتنقطع أسباب الرجاء . وكانت المفاجأة هي أنهما في أثناء ما أزجيا لي من عبارات الترحيب قال أحدهما – ولا أذكر من منهما – موجهًا السؤال إليّ : ولكن يا فلان لماذا لم تقبل المنصب (الفلاني) الذي عرضه عليك الأستاذ الهضيبي يوم كذا عندما اجتمعتما علي انفراد بمكتبه بالمركز العام ؟ ولا أعتقد أن القارئ يجد في هذا السؤال معني من معاني المفاجأة التي تزلزل أركان من يوجه إليه .. ولهذا يكون لزامًا عليّ أن ألقي شعاعًا من ضوء ما يكتنف هذا السؤال من ظروف توضح مدى خطورته :

أولاً : لعل القارئ يتذكر الفتنة التي كادت تطيح بالدعوة من أساسها والتي ابتدأت بتمرد قيادة النظام الخاص وعلي رأسها عبد الرحمن السندي ، وانتهت بفصله وثلاثة معه وبفصل ثلاثة من أعضاء الهيئة التأسيسية .

ثانيًا : كان الاجتماع الذي ضمني والأستاذ المرشد علي حدتنا لا ثالث معنا إلا الله في حجرة مكتبه بالمركز العام ، وأبواب المكتب كانت مغلقة – كان هذا الاجتماع عقب انتهائنا من معاناة هذه الفتنة ، وخروج الدعوة منها سالمة في أتم عافية .

ثالثًا : طلب إليّ الأستاذ المرشد في هذه الجلسة الثنائية طلبًَا بموضوع يعد في دعوة الإخوان المسلمين هو أدق أسرارها ، ذلك أنه طلب إليّ أن أنولي قيادة النظام الخاص . فلم أتوان عن الاعتذار عن إجابة هذا الطلب . فقال لي : أنت موضع ثقتي ، ولك صلة قديمة بهذا النظام ، والعاملون فيه يكنون لك الحب والثقة والاحترام ، وأراك خير من يصلح لهذا المنصب . فقلت له : إنني أعتز بثقتك في ، ولعلك تحس بأنني أبادلك هذه الثقة ، وإنني علي استعداد أن أكون حيث تريد في هذه الدعوة .. ولكن الظروف التي وضعت فيها أصبحت تحول بيني وبين هذا المنصب .. لقد كنت طيلة حياتي أتحاشى الظهور والشهرة ، ولقد اعتذرت لهذا السبب عن عضوية مكتب الإرشاد حين عرضتها عليّ من قبل – ولكن الظروف والاستجابة لنداء الدعوة في أحرج مواقفها أجبرتني أن أتولي عملاً – لم يكن لي خيار في تفاديه – كان سببًا في توجيه أنظار الجميع إليّ في أنحاء البلاد أعداءً وأحباء ، وذلك بنشر اسمي تحت قرارات خطيرة في جميع الصحف – ورجل أصبح اسمه علي كل لسان لا يجوز أن يتولي عملاً طبيعته السرية .

رابعًا : اقتنع الأستاذ المرشد برأيي ثم استشارني حول أسماء أخري ، وانتهي الاجتماع الثنائي – وكان الأستاذ المرشد طيلة هذه الجلسة يجلس بجانبي علي أريكة بجوار مكتبه .

خامسًا : الأستاذ حسن الهضيبي من الشخصيات ذات الخبرة بالأمور السرية ، وذات المقدرة علي كتمان الأسرار ولا يمكن أن يكون قد باح بما دار بيني وبينه من حديث لأي إنسان .

إذن فكيف وصل نبأ هذا السر الدفين – الذي لا يعرفه أقرب الناس إليّ ولا أقرب الناس إلي المرشد العام – إلي هذين الضابطين ، حتى وجها إليّ هذا السؤال المحدد بالتاريخ والمكان علي سبيل التحدي بل عي سبيل التهكم ؟ .. إنهما أرادا أن يفجعاني في أعز ما نعتز به ، وهو مقدرتنا علي حفظ أسرارنا .. إنهما إشارة واحدة ، وكلمات وجيزة ، أراد أن يقولا لي : أبدأ كلامك معنا كما تشاء بعد أن تعلم أن كل أسراركم عندنا . لقد ضاقت الدنيا في وجهي ، واسودت أمام عيني ، وكاد يغشي عليّ نمن هول المفاجأة وهما يطلقان نحوي هذه القنبلة مبتسمين ، زيادة في التهكم والتحدي والسخرية . موقف عدو ملك من أمرك كل شيء ، وأصبحت بكل إمكاناتك في قبضة يده أو بين فكيه ، وصدق القائل :

احـذر عـدوك مـرة واحـذر صديقك ألف مـرة

فلـربما انقلب الصديق فكـان أعلـم بالمـضـرة

إن وجوه جمال عبد الناصر في تشكيلات الإخوان ، وإلمامه بأدق أسرارها ، جعله علي علم يأمضي سلاح فيها ، وأعظم رصيد من القوة بها .. فوجه كل إمكانات ما يملك من مقدرات الدولة للإحاطة بهذا الرصيد ، ووضع أهم ما فيه تحت رقابة فعالة تجعله علي علم بأدق تفاصيله ، أعمق أسراره . ولكن كيف استطاع أن يصل إلي أسرارنا ؟ وأهم من هذا السؤال سؤال آخر وهو : كيف وصل إلي هذا السر بالذات الذي كان بيني وبين الأستاذ المرشد في حجرة مغلقة ليس معنا ثالث ، ولشدة حرص الأستاذ المرشد علي سرية الحديث ترك مكتبه وجلس بجانبي علي الأريكة المجاورة للمكتب .. ومن ناحيتي فأنا أثق في نفسي والحمد لله إلي حد أن أسرارًا أقل من هذا السر أهمية يبلغ بي الحرص علي كتمانها درجة تجعلني أنساها ، ولا تقل ثقتي في هذه الناحية في الأستاذ المرشد عن ثقتي فيها في نفسي .. إذن فكيف وصلوا إلي هذا السر ؟ . لم أجد لهذا السؤال إجابة إلا إجابة واحدة هي أن يكون ذلك عن طريق جهاز من أجهزة التسمع ولكن كيف استطاعوا أن يضعوا في حجرات المركز العام أجهزة التسمع ؟ .. وهذا السؤال تجيب عليه الفصول السابقة من هذه المذكرات التي تكشف للقارئ عن مدى تغلغل جمال عبد الناصر بنفوذه وبإغراءاته في صفوف الإخوان في القاهرة .

قرائن مذهلة عن التصنت لم نعرفها إلا أخيرًا

قرأت في كتاب " جمال عبد الناصر " للأستاذ أحمد أبو الفتح في صفحة 59 في هذا الصدد ما يلي :

" وفي إحدى زياراتي لعبد الناصر التفت إليّ وهو يضحك : هل سمعت بالمؤامرة الجديدة ؟ فقلت : آية مؤامرة ؟ ونظر عبد الناصر إلي حسن إبراهيم وجمال سالم الضابطين بسلاح الطيران وعضوي مجلس الشركة . وقال : لقد اكتشفنا أن أحد صولان الجيش يعد انقلابًا " فقلت : صول بالجيش ؟ فرد عبد الناصر : نعم صوب بالجيش . فقلت : إنك لا شك تهزل فمن غير المعقول أن يقدم صول علي عمل انقلاب ، إذ ما هي القوة التي يملكها هذا الصول حتى يستطيع القيام بانقلاب ، ثم ما هي سلطاته التي ستمكنه من القيام بتدبير انقلاب ضدكم ؟ ورد جمال عبد الناصر بقوله : لقد اتصل ببعض صولات الجيش وقال لهم لماذا ينفرد الضباط بآمر البلاد ؟ إننا نستطيع أن نقوم بما قاموا به .

وأمسك عن الكلام لحظة ثم استمر قائلاً : وقد استطاع بعض الضباط دخول مسكنه ووضع آلات تسجيل داخل المنزل ، وسجلوا بذلك كل ما كان يدور داخل المنزل من اجتماعات ، وقد كان بين هذه التسجيلات بيان أعده ليذيعه عن طريق الإذاعة علي الشعب المصري . وعندئذ أشار إلي حسن إبراهيم الذي أحضر جهاز تسجيل وأدار الشريط فإذا بصوت رجل يقول : " نحن رأفت شلبي رئيس الحركة الجديدة " . كان عبد الناصر فخورًا بالعمل الذي قام به ضباطه الذين دخلوا مسكن رأفت شلبي وأن يضعوا آلات تسجيل داخل المنزل .. وكانت هذه الحادثة هي بدء تطور جديد في الحياة المصرية ، إذ أصبح من المستطاع بل من المباح لضباط الجيش وعملائهم أن يتسللوا داخل المنزل للتجسس علي حياة الناس .. وكانت هذه الحادثة بدء دخول أدوات التجسس علي الناس ، ألا وهي آلات التسجيل . ومنذ هذه الحادثة بدأ عبد الناصر يهتم بآلات التسجيل ، فأرسل يشتري منها كل ما هو حديث . وكان من أهم هذه المسجلات المسجلة . وهي عبارة عن جهاز تسجيل صغير يوضع في الجيب الداخلي للجاكتة وتتصل بسلك رفيع بساعة اليد . فإذا ما تحدث إنسان إلي من يحمل آلة التسجيل سجلت الآلة كل ما يقول .

وقد انتشرت الساعة المسجلة انتشارًا غريبًا بين خدم الفنادق الكبرى والنوادي الهامة وعملاء وجواسيس مجلس السيادة في المصانع وفي دور الحكومة وبين الطلبة ، وقد عرف الشعب المصري بأمرها حتى بات كل إنسان يتجنب الحديث مع آخر في السياسة ، ويوجه نظره إلي يد زميله ، وحركتها خشية أن يكون زميله أو صديقه حاملاً لها . ومنذ الأسابيع الأولي اهتم جمال عبد الناصر بتكوين شبكة ضخمة من رجال المخابرات ، وأسند مهمة تنظيم هذه الشبكة والإشراف علي أعمالها ورياستها إلي البكباشي زكريا محيي الدين عضو مجلس الحركة – وتخصص زكريا بهذا العمل فنظمه تنظيمًا واسعًا داخل الجيش ، ثم مد نطاقه إلي المدنيين ، وأصبحت مصر تعيش في جو من الجاسوسية التي نمت وازدادت إحكامًا يومًا بعد يوم . ونمت شبكة الجاسوسية نموًا خطيرًا في الشهور الأولي لقيام الحركة . وكان أهم الوسائل التي جاء إليها زكريا في تنظيم جاسوسيته الاعتماد علي طبقة الخدم في المنازل والفنادق والنوادي وسائقي السيارات وماسحي الأحذية . وروعت مصر ذات يوم ، إذ عملت أن مجلس قيادة الحركة قد قبض علي وكيل وزارة سابق وعلي لواء سابق بالجيش بتهمة التحدث ضد الحركة . وبإحالة الموظفين الكبيرين إلي محكمة الثورة ، وكانت أدلة الاتهام جميعها تنحصر في أجهزة مسجلة لأحاديث دارت علي لسان المتهمين .

وأثناء نظر القضية تبين أن وكيل الوزارة السابق كانت قد جرت عادته علي أن يشتري السجاير من تاجر مجاور ، وأن كثيرًا ما كان يقابل صديقه اللواء عند هذا البائع فتدور بينهما بعض الأحاديث نوعًا من عدم الرضا علي ما يقوم به الضباط – وكان يقف إلي جوار دكان بائع السجاير رجل رقيق الحال في ملابس فقيرة ، وقد أحاط مساعده بجبيرة . وفي بعض الأحيان كان يعطف وكيل الوزارة أو اللواء السابق علي هذا الرجل فيمنحانه بعض المال أو يسمحان له بتنظيف حذاءيهما مقابل بعض المال . واتضح بعد ذلك أن هذا الرجل لم يكن مكسور الساعد كما كان يدعي ، بل قد خبأ في ساعده آلة التسجيل العبارات التي يفوه بها الناس عند شراء السجاير . وعلي ضوء هذه " البينة " وحدها قدم مجلس قيادة الحركة " الثورة " وكيل الوزارة السابق واللواء السابق للمحاكمة وحكمت عليهما العسكرية بخمسة عشر عامًا أشغالاً شاقة . هذا ما صادفني من قرائن مذهلة عن التصنت وأنا أقرأ في كتاب " جمال عبد الناصر " للأستاذ أحمد أبو الفتح وقد نقلت ما قرأته في صفحة 59 .. ومعذرة للقراء إذا ما أنا استطردت في هذا الموضوع بعض الاستطراد لما له من دلالات خطيرة بعيدة المدى فنقلت سطورًا أخري من هذا الكتاب قرأتها في صفحة 228 حيث يقول الأستاذ أحمد أبو الفتح نقلاً عن صديقه جمال عبد الناصر :

" وعلي الرغم مكن أن إدارة المخابرات كانت تخضع لوزير الداخلية ، فإن عبد الناصر قد كون لنفسه إدارة مخابرات أخري تخضع له شخصيًا . وكانت مهمة هذه المخابرات أن تجمع له تقارير عن أعضاء القيادة . ولم تكن في بادئ الأمر إدارة بالمعني الصحيح بل كانت عبارة عن عدد من الضباط يعمل كل واحد نمنهم في مكتب عضو من أعضاء القيادة ، ثم توسعت شبكة الجاسوسية علي أعضاء مجلس القيادة فضم إليها عبد الناصر جواسيس آخرين يراقبون حياة زملائه الخاصة . وقد تجمع لدي عبد الناصر في السنة الأولي مئات التقارير عن جميع حركات وتصرفات زملائه . وقد أفاد منها فائدة كبرى في إخضاع هؤلاء الزملاء لسلطانه ، فكان يشهر ما تحويه تلك التقارير من تصرفات غير كريمة في وجه العضو الذي تبدو منه أية بادرة لمعارضته .. وساعده علي ذلك أن حياته الخاصة كانت خالية من الفضائح والمغامرات لتحفظه في حياته الاجتماعية الخاصة .

ومن القصص التي رواها لي وتأكدت من صحتها قصة عن أحد أعضاء مجلس قيادة " الثورة " الذي زار أحد الباشوات في مدينة الإسكندرية ، وكان قد أشيع عن هذا الباشا أنه سيقدم إلي إحدى محاكم الغدر بتهمة التلاعب في الماضي بسوق القطن . وذكر عبد الناصر القصة مستهجنًا زيارة عضو مجلس القيادة لشخص منهم . وذكر لي التفاصيل الكاملة لما حدث في تلك السهرة ، حتى الكلمات التي تبادلها زميله مع إحدى السيدات بعد أن لعبت برأسه الخمر ، تلك الكلمات التي ضايقت السيدة فدفعتها إلي قذف الويسكي الذي كان في كأسها في وجهه . وقد تحريت هذه الواقعة فعلمت أن هذه السهرة لم يحضرها من الضباط سوي عضة مجلس القيادة سالف الذكر ، الأمر الذي جعلني أفهم أن عبد الناصر لا يقتصر في تجسسه علي زملائه من أعضاء مجلس القيادة علي الضباط فقط بل يستعمل في ذلك المدنيين أيضًا وخصوصًا السيدات .

وجمال عبد الناصر لا يكتفي بتطبيق هذه القواعد علي الأمور الداخلية بل إنه ليستغل الحياة الخاصة لأعضاء البعثات الدبلوماسية في تحقيق أغراضه إلي أقصي حد . وللأسف فإن بعض الدول لا تدقق تدقيقًا واجبًا في اختيار أعضاء بعثاتها الدبلوماسية خصوصًا رؤساء هذه البعثات ، فقد حدث أن علي رأس بعثتين دبلوماسيتين لدولتين من أكبر دول الغرب سفيران مصابات بالشذوذ الجنسي . وقد حدث بالنسبة لأحد السفيرين الذي لم يكن كزميله مشهورًا بهذا الداء ، حدث أن اكتشفت إدارة المخابرات أن هذا السفير يستأجر شقة خلاصة لممارسة الشذوذ فيها . وبينما كان السفير يمارس شذوذه في هذه الشقة إذ ببوليس الآداب يداهم الشقة ويقبض علي من فيها . وقد حرص البوليس علي أن لا يشعر السفير بأنه قد اكتشف شخصيته بل قاده إلي مركز البوليس هو ومن معه علي اعتبار أنهما قد استأجرا شقة لأغراض مخلة بالآداب العامة . وحاول السفير بادئ الأمر أن يخفي شخصيته ولكن بعد أن فتح البوليس المحضر للتحقيق أحس السفير بأنه لا مفر من الفضيحة ، وأبدي ضابط البوليس المحقق بادئ الأمر شكه في ادعاء السفير بأنه سفير لدولة كبرى . وبعد أن أثبت الرجل حقيقة ما ادعاه بادر الضابط إلي الاعتذار وقفل المحضر وأطلق سراح السفير .

وفي اليوم التالي وصل إلي السفير محضر التحقيق مع اعتذار الحكومة عما قام به البوليس . وبطبيعة الحال أخذت الحكومة صورًا لهذا المحضر قبل إرساله إلي السفير . وكان من نتائج ذلك أن تقارير هذا السفير وزميله الآخر المشهور بشذوذه الجنسي تحمل لحكومتيهما كل ما يماشي رغبات عبد الناصر " .


الفصل الثالث : تكتيـك جديـد

إن وقوف أصحاب الدعوات أما المفاجآت – التي لم تكن في حسبانهم – مشدوهين جامدين هو نوع من الغفلة والبله .. لابد لهم من أن يتصرفوا ويغيروا من خططهم تواؤمًا مع هذه المفاجآت .. ولا أقصد من هذا أن يتناول التغير مبادئهم ولا أهدافهم ، وإنما أقصد أن يكون التغيير في وسائلهم وأسلوبهم . فإذا وضعت خطتك للقاء عدوك في ساحة القتال ومعلوماتك عنه أنه غير كامل العدة والعتاد ، ثم تبين لك في آخر لحظة قبل اللقاء خطأ معلوماتك عنه وأنه كامل العدة والعتاد ، فمن الخطأ الفادح أن تتمسك بخطئك دون تعديل . وهذا هو ما ألهمته بعد أن أفقت من صدمة المفاجأة ، فلقد كنت معدًا نفسي علي أساس أني سأتحدث من موقع القوة إلي قوم هم في رهبة مني لأنهم لا يعرفون ما ورائي – ولكنني فوجئت بأن أدق أسراري عندهم .. فعليّ إذن أن أغير أسلوب حديثي معهم .

وقد فعلت .. إذ قلت لهما : دعونا نتكلم فيما جئنا من أجله . إني رأيت الخلاف بيننا وبينكم قد تفاقم أمره مع أننا جميعًا إخوة ، وقد علمت أنكم تتهمون لجنة الاتصال التي بيننا وبينكم بأنها مغرضة وليست أمينة علي نقل ما يقال في الاتصالات . ولما كنت حريصًا علي أن لا يأخذ الخلاف هذا الوضع الخطير ، فقد رأيت أن أقوم أنا بهذا الدور ، آملاً أن أوفق فيما لم يوفق فيه غيري ، وأنا ليس لي من هدف شخصي كما تعلمون .. فما رأيكم ؟ قال الرجلان : إننا نرحب بكل ما يقري بين وجهات النظر . قلت : أما وقد وافقتما علي هذا المبدأ ، وعلي أن أقوم بهذه الوساطة ، فالخطوة التالية هي أن أعرض عليكم مذكرة أعددتها ولكني أثرت قبل أن أعرضها عليكم أن أعرف مدي استعدادكم للتفاهم .. فإلي موعد آخر قريب إن شاء الله في بيت الأخ الحاج محمد جودة .

• المذكرة :

لم أكن أعددت مذكرة كما ذكرت ، وإنما هي إحدى الأفكار التي نشأت في خاطري حين أفقت من المباغتة التي واجهني بها الضابطان ، وكان عليّ إذن أن أعد هذه المذكرة في أقرب وقت ، فذهبت إلي المركز العام الذي كان في ذلك الوقت شبه مهجور ، فكل حجراته خالية ماعدا الحجرة التي يجلس فيها الدكتور خميس والإخوة المسمون " بمجموعة الروضة " .. وعكفت في إحدى حجراته علي كتابة المذكرة . وقد شغلت المذكرة نحو ثلاثة صفحات من الفلوسكاب ، وكانت علي صورة خطاب موجه مني إلي الأستاذ المرشد العام . ولم تكن هذه المذكرة متعددة الصور بل كانت من صورة واحدة ، ولذا فإنها فقدت أو أحرقت ضمن ما عبث بإحراقه مأجورو جمال عبد الناصر فيما بعد المركز العام – ومع طول المدة التي كانت كفيلة بإنسائي ما كتبته بها ، إلا أنها كانت ذات أهمية خاصة عندي فعلق في خاطري ما بنيت عليه من أفكار.. وتدور هذه الأفكار علي النحو الآتي :

بدأتها بالتنويه برباط الأخوة الإسلامية بين رجال الثورة وبين الإخوان المسلمين ، ثم أشرت إلي دخول شياطين الإنس والجن بين الطائفتين ، مما نشأ عنه اختلافات بدأت صغيرة ، وأخذت في الكبر حتى تفاقمت ، وكادت تنذر بشر مستطير ، ولا أعفي طائفة من الطائفتين من ملام علي انسياقها لداعي التباعد وتوسيع شقة الخلاف ، حتى وصل الأمر إلي حد لا يليق أن يصل إليه الطائفتان من المسلمين ، فإحداهما استباحت إلصاق التهم بالأخرى وعاملتها معاملة العدو , والأخرى رمت أختها بالكفر لأنها نكلت عن الحكم بكتاب الله وما يستتبع ذلك من استباحة الدم . ثم قلت : إنني أري أن الانسياق مع داعي الخلاف قد خرج بكلتا الطائفتين عن الجادة ، وعلي كل منهما أن تعيد النظر في موقفها وفي حكمها علي الأخرى ، لتصب إلي حكم صحيح غير ناشئ عن ثورة الغضب . فعلي الإخوان أن ينظروا إلي رجال الثورة علي إنهم إخوان لهم (    •       •    ) .. وسردت الأعمال الطيبة التي قاموا بها من الإفراج عن الإخوان المسجونين وإعادة التحقيق في قضية اغتيال الإمام ، وعزمهم علي إقامة السد العالي وغيرها مما أذكره الآن – وقلت إنهم لم يرفضوا الحكم بكتاب الله صراحة ، ومثل هؤلاء لا ينبغي رميهم بالكفر ، وهناك مندوحة ..

ثم نعين علي الطرف الآخر إلصاق التهم بالإخوان واعتبارهم أعداء ينالون بما ينال به الأعداء ، وقلت : إن علي رجال الثورة أن لا يستجيبوا لدواعي الغضب فينسوا أن الإخوان هم الذين تحملوا ما تحملوا في سبيل تمهيد لقيام هذه الثورة ، وهم الذي آزروها ووقفوا بجانبها ، وهم وحدهم الذين يستطيعون أن يبثوا روح الإيمان والجهاد في نفوس هذه الأمة ، وهو ما لا غني عنه لثورة تريد أن تنقذ هذه البلاد من وهدتها . ثم قلت : إنني أري أن يراجع كل طرف من الطرفين نفسه ، وينظر إلي الآخر النظرة التي صورتها متجردًا من ثورة الغضب وهياج الانفعال . ثم نبحث عن طريقة للتقريب بين الطائفتين وإصلاح ذات بينهما .

واقترحت لذلك الإعداد لاجتماع بين الطرفين لا يكون في المركز العام ولا في دار من دور الحكومة ، بل يكون برضاء الطرفان . ورشحت لذلك منزل الأخ الحاج محمد جودة علي سبيل المثال – علي أن يحضر هذا الاجتماع ممثلون عن الإخوان لا من القاهرة وحدها ولكن من جميع محافظات القطر ، واقترحت أن يمثل كل محافظات اثنان من الإخوان – يجتمع هؤلاء الإخوان بالبكباشي جمال عبد الناصر ومعه من يشاء من رجاله .. ويقوم كل طرف بعرض وجهة نظره – ويناقش الطرفان في جو من التفاهم والرغبة في الوصول إلي نقطة التقاء .. وبذلك لا يدعي أحد الطرفين أن رسا الطرف الآخر أساءت فهم ما صدر عنه أو حرفت نقله بحسن نية أو بسوء نية .. وبذلك نقطع الشط باليقين ، ونكون قد وضعنا ممثلي الطرفين وجهًا لوجه .. و الوصول إلي نتيجة طيبة شيء مأمول بإذن الله .

• أضواء علي المذكرة :

هذا هو ملخص ما جاء في هذه المذكرة ، ويحسن أن ألقي بعض الضوء علي ظروف أحاطت بهذه المذكرة أوجزها فيما يلي :

1 – كان صدور هذه المذكرة مني شيئًا مفاجئًا للجميع ، أما مفاجأته للطرف الآخر أي رجال الثورة فقد أومأت إلي ما صدر منهم من عبارات التعجب والدهشة لا للمذكرة فحسب بل لمجرد تعرضي للوساطة .. وقد وضحت الظروف المؤلمة التي رأيتها في المركز العام بعد رجوعي من قناة ، مع اختفاء المرشد العام خشية اغتياله – وأما مفاجأته لطرفنا نحن الإخوان فكانت أشد .. لأنني كنت دائمًا أنأي بنفسي عن الاتصال بالطرف الآخر لعدم ثقتي فيه .

2 – كان الإخوان لاسيما إخوان الأقاليم في موقف لا يحسدون عليه ، فقد وقعوا تحت تأثير شحن متواصل لا ينقطع من جميع الجهات ، فالحملة الصحفية المضللة المستفزة تحملها الصحف وتنقلها الإذاعة كل صباح ومساء إلي أعينهم وأسماعهم ، فتلهب لها صدورهم ، وتشتعل مشاعرهم ثم يذكي هذه النار ويؤججها ما يصدر عن المرشد العام من مخبئه بين يوم وآخر من منشورات لاهبة .

3 - لمست الأسلوب الناري الذي يصدر به المرشد العام منشوراته أنه يصدرها بإحساس الذي يشعر أنه في موقع قوة .. وهو ما كنت أنا شخصيًا أعتقد أنه موقفنا جميعًا نحن الإخوان قبل أن تتكشف لي الحقيقة المرة عند لقائي بالضابطين – وقد وجدت لزامًا عليّ! أن أتصل بالأستاذ المرشد لإحاطته علمًا بهذه الحقيقة .. فطلبت من الإخوة " مجموعة الروضة " أن يسهلوا لي مهمة الوصول إلي المرشد في مخبئه لإحاطته علمًا بتطورات هي في غاية الخطورة تتصل بسر بيني وبينه ، فكان ردهم عليّ ردًا لم أكن أتوقعه من مثلهم لمثلي ، وهم يعلمون مدى ما أُدين به من إخلاص للدعوة وقائدها . ولكنهم كانوا يتصورون في ذلك الوقت أن مجرد اتصال أخ أيًا كان بالطرف الآخر – بعد انقطاع الاتصال الذي أشرت إليه – يعد انحرافًا بل خروجًا علي الدعوة وقيادتها .. ولذا فإنني مع شدة تأثري من ردهم عليّ بإنكارهم معرفة مكان المرشد ، فإنني التمست لهم العذر لا يعلمون ما أعلم .. ولولا بقية ثقة منهم فيّ لرموني بما كانوا يرمون به أي أخ غيري من الخروج علي الدعوة والقيادة .

4 – من العجيب أن الدكتور خميس – وهو نائب المرشد العام – لم يكن يعرف مكان المرشد . وقد طلبت منه قبل أن أطلب من إخوة الروضة أن يصلني بالمرشد فأقسم لي أنه لا يعرف مكانه ، ولم يكن رده مفاجأة لي بل كنت أتوقعه ، فقد سبق أن ذكرت أنه حين كان مفوضًَا في الاتصال بجمال عبد الناصر تعهد لجمال بتعهدات خذله فيها الإخوان . ومع ذلك فقد ظل الرجل مرابطًا بدار المركز العام ليل نهار تاركًا بلده – المنصورة – وأسرته ومصدر رزقه – صيدليته – علي أمل أن يستطيع أداء خدمة لدعوته وإخوانه في أحرج الأوقات وأعقد الظروف .

5 – سلمت المذكرة التي أعددتها للدكتور خميس باعتباره نائب المرشد وطلبت إليه أن يقرأها ويبدي لي رأيه فيها . كما طلبت إليه أن يطلع عليها الإخوة " الروضيين " باعتبارهم المسئولين الفعليين عن الدعوة في غياب المرشد . وقد فعل وقال لي إنه يؤيد كل ما جاء فيها . فطلبت إليه عرضها علي أعضاء الهيئة التأسيسية في جلسة الهيئة المقرر عقدها في 24 سبتمبر 1954 والتي ستعقد بعد أيام قلائل .

• لقاء عاصف مع حبيب :

6 – في صبيحة اليوم التالي حضر إلي المركز العام – حيث كنت أقضي أكثر وقتي فيه – الأخ الأستاذ عبد القادر عودة .. وكانت تربطني به غير الأخوة العامة صداقة حب متبادل .. وبعد أن صافحني طلب إليّ أن نجلس معًا جلسة علي انفراد ، فجلسنا في إحدى حجر المركز العام التي كانت كلها خالية وأغلقنا علينا الباب .. ثم سألني عن الدافع الذي دفعني إلي كتابة هذه المذكرة ، فقلت له إن الذي دفعني إلي ذلك هو الآتي :

أولاً : انتقالنا من مركز القوة إلي مركز الضعف بتضييعنا الفرصة بعد خروجنا من المعتقل في مارس 1954 ، حيث أضعنا الوقت في تبادل التهاني بخروجنا منتصرين حين استطاع جمال عبد الناصر أن ينتهز هذه الفرصة وبعد مظاهرات الحكومة – سواء بالرشوة أو غيرها – مما أحبط كل الجهود ، وقضي علي كل الآمال ، فقد أمكنه بذلك تبادل المواقف ، فاحتل موقفنا الذي هو مركز القوة . ونقلنا إلي موقعه الذي كان مركز الضعف – وبذلك انتقلنا منذ ذلك اليوم من موقف المهاجم إلي موقف المدافع . وهذا التغيير في الأسلوب لا يمس أفكارنا ولا أهدافنا ، ولكنه يتيح لهذه الأهداف وهذه الأفكار الفرصة .

ثانياً : أن استمرا شحن الإخوان عن طريق منشورات المرشد الملتهبة – وهو بعيد عن مجريات الأحداث – وعن طريق حملات الاستفزاز بها جميع الصحف كل يوم لابد أن ينتهي بكارثة – في الوقت الذي أري فيه المركز العام خاليًا من الإخوان ، فالمرشد غائب خشية أن يغتال ، وصفوة الإخوان بين معتقل وهارب من السلطة .. هذا وضع لا ينبغي السكوت عليه ، ولا تركه يزداد كل يوم تفاقمًا دون وضع حد له يتيح لهذه الجموع الضخمة اللاهثة من الإخوان أن تتنفس بحرية ، وتدرس الموقف دراسة متأنية مستبصرة ، قبل أن تقدم علي معركة لا يقدر أحد مدى ما تنتهي إليه ، ولا ما تتمخض عنه – لاسيما إخوان الأقاليم الذين لا يعرفون الكثير مما يعرفه إخوان القاهرة من ظروف وتطورات .

ثالثًا : أن التقائي بالضابطين الطحاوي وطعيمة كشف لي عن حقيقة ما كنت أتصورها هي أن أدق أسرارنا عندهم بتفاصيلها ، فلقد واجهاني بأسرار خطيرة تتصل بي شخصيًا لا يعرفها إلا المرشد ، وأنهم متمكنون منا تمكنًا يلزمنا أن نعيد النظر في جميع خططنا . ولن نستطيع ذلك إلا إذا عملنا علي إيجاد فرصة نتخلص في خلالها من حالة التشنج والثورة والعصبية التي صرنا فريسة لها .. وهذا هو ما أسعي إليه .

فلما أنهيت كلامي اتجه إليّ الأخ الأستاذ عبد القادر وقال لي : أطمئنك بأننا لسنا في مركز ضعف ، بل إننا في مركز قوة وهم في مركز ضعف ، وستظهر الأيام ذلك إن شاء الله ، وسيعلمون أن الإخوان قوة لا تقاوم .. وعلي ذلك فلا داعي لهذه المذكرة التي تطلب عرضها علي الهيئة التأسيسية ولا لهذه الجهود التي تبذلها . فقلت له : يا أخي عبد القادر .. أنت صادق فيما تطمئنني به مما يعده الإخوان من قوة ، وأنا لا أجهل ما تشير إليه من هذه القوة .. ولكن الجديد في الأمر أنني اكتشفت أن القوم – بكل الوسائل التي أتيحت لهم من خزائن الدولة ، وولاء بعض الإخوان لهم ، ووسائل التسمع الحديثة – استطاعوا أن يعرفوا أسرارنا مما يتصل بهذه القوة ، فلا ينبغي لنا بعد ذلك أن نتعامى عن هذه الحقيقة المرة ، ونكون كالنعامة التي تظن حين تدفن رأسها في الرمال فلا تري الصائد أن الصائد لا يراها .. أنا أطالب بأكثر من أن نعطي لأنفسنا فرصة للتنفس فيها الصعداء ، ونعيد فيها ترتيب بيتنا .

لما يئس الأخ عبد القادر رحمه الله من استجابتي لأسلوب المناقشة والإقناع ، لجأ إلي أسلوب آخر كريم ، فهو يعرف مكانته في نفسي ومدى ما يربطني به من صداقة وحب فقال لي : من أجل خاطري ، وبحق ما بيني وبينك من أخوة وحب وصداقة أستحلفك بالله إلا عدلت عن هذه المذكرة وعن جهود الوساطة التي تقوم بها ، فإن هذه المذكرة ستعوق خطة الإخوان ، وستكون عقبة في طريقها .. ثم قال كلمة أبكتني هي قوله : إنني علي استعداد أن أقبل قدمك . ولقد أدت هذه الكلمات الأخيرة إلي انفجاري قائلاً :

يا أخي عبد القادر .. أنت أعز عليّ من هذا الذي تقول ، وأثر عندي من أن ألجئك إلي هذا الأسلوب إن الموضوع الذي نعالجه ليس موضوعًا شخصيًا حتى ترجوني فيه . إنه موضوع سيتعلق بألوف الإخوان في الأقاليم . إنه يتعلق بألوف الأسر ، والنساء والأطفال .. إنه يتعلق بدماء هؤلاء الألوف التي ستهدر دون ترو ولا تبصر ودون إحكام خطط .. إن دماء هؤلاء أمانة في أعناقنا نحن الذين اختارونا قادة لهم ، يتلقون منا دون مناقشة ولا مراجعة .. فمن حقهم علينا أن نطلعهم علي ما عندنا ، وأن نظهرهم علي ما جد مما كشفته لنا الظروف . أو علي الأقل أن لا نخاطر بدمائهم مادام قد جد من الأمور ما يلقي علي خططنا ولو بظلال باهتة من الشك – لأن هذه الدماء أعز من أن تهدر دون أن تكون علي بينة من الأمر لا يخالطها شائبة من شك . يا أخي عبد القادر .. إنني كنت حريصًا علي لقاء الأستاذ المرشد في مخبئه لأطلعه علي ما عندي وأنا موقن أن الرجل – بثقته فيّ وبما أعرضه عليه من ظروف كشفتها تتصل بأسرار بيني وبينه – سيغير من خطته كما عودني ، لأنه ليس بالرجل المستبد – ولكن الإخوة الذين يستطيعون ذلك حالوا بيني وبين لقائه .. فلا أقل من أن أعرض رأيي علي الهيئة التأسيسية في أقرب اجتماع لها ، حتى أكون قد رضيت ضميري ، وأعذرت إلي الله ، وبرئت من أبرياء ستهدر دماؤهم .

وأقسم لك الله يا أخي عبد القادر إنني لن أتراجع عن تقديم هذه المذكرة ، ولا عن مواصلة وساطتي ، ولو كان في ذلك سفك دمي .. لأنني إذا لم أفعل فسأظل طول حياتي مؤرق النفس تحت تأنيب ضميري .. وهنا لم يكن بد من إنهاء الجلسة ، وخرج كل منا وهو في حالة من الثورة النفسية تكاد تعصف قلبه . وجلست بعد ذلك إلي نفسي ساعة .. حتى هدأت العاصفة النفسية التي استبدت بي . وأخذت في مراجعة ما كان من أمر هذه الجلسة العاصفة .. وكيف تمت ؟ .. ولم تمت ؟ ومن الذي اختار الأستاذ عبد القادر ورشحه للقيام بهذا الدور معي ؟ .. ولم اختير هو بالذات دون غيره ؟ وقد وضح أمامي أن الإخوة " الروضيين " هم الذين اختاروا الأخ الأستاذ عبد القادر للقيام بهذا الدور . وقد اختاروه دون غيره لما يعرفون من حسن صلتي به أولاً ، ولأنه كذلك بعد تحول اتجاهه – إثر أحداث شهر مارس 1954 – كان متوائمًا في أفكاره رحمه الله – مع أفكارهم – وينبغي هنا أن أعيد ما سبق لي الإشارة إليه من أن الأستاذ عبد القادر رحمه الله كان علي علو كعبه في العلم ، وسمو نفسه في الخلق ، وعمق عقيدته في الإيمان .. كان إذا أحب أفرط في الحب ، وإذا أبغض أفرط في البغض .. وليس من السهل عليه إلزام نفسه بالموقف الوسط الذي حث عليه الحديث النبوي " أحب حبيبك هونًا ما ، عسي أن يكون بغيضك يومًا ما .. وأبغض بغيضك هونًا ما ، عسي أن يكون حبيبك يومًا ما " .

ويجب عليّ أن أقرر هنا قبل أنا أغادر هذه النقطة ، أنني مع اختلافي في وجهة النظر في تلك الآونة في وسيلة معالجة الموقف الذي كانت تعانيه الدعوة بعد توالي الأحداث المناوئة لها والمواتية لأعدائها .. مع اختلافي مع الإخوة " الروضيين " فإنني لم أشك لحظة في إخلاصهم بل في تفانيهم في عملهم للدعوة ، كما لم يتطرق إلي نفسي أثارة من شك في ذلك حتى بعد أن نصبت المشانق ، وسفكت الدماء ، ومثل بالجثث .. وقد كانوا هم من أوائل من ذاق هذه المرارات وتجرع هذه الغصص ، وعاني أهوال التنكيل . أما ظنهم بي ، واعتقادهم فيّ ، فمما لا أدريه ، ومما لم أكن أحسب له حسابًا .. فلقد عاصرت هذه الدعوة منذ لم تكن شيئًا مذكورًا .. وعملت لها في ذلك العهد كما عملت لها بعد أن صارت أعلي الهيئات صوتًا .. وأغلظها ساقاً ، وبعد أن صارت مجالاً لذوي الأطماع ، ووسيلة للبروز والظهور .. وما راعيت في عملي لها في كلتا الحالين غير وجه الله ، لا أبغي سواه ، ولا أحفل بغيره ممتثلاً أمر الله تعالي (        ) .

ولو كان التماس رضا المخلوقين يشغل خاطري أو هو شيئًا من أهدافي ، لكان سكوتي علي الأقل ، ومسايرتي لآراء الإخوة " الروضيين " محققاًَ لذلك كل التحقيق ، فلقد كنت أعلم أن رأيهم هو رأي الإخوان لاسيما إخوان الأقاليم وهم الأكثرية – ولكنني والحمد لله لم يكن يعنيني رضاهم عني ، ولا غضبهم مني هم أو سواهم ، وإنما كان الذي يعنيني هو أن أعمل علي حقن دمائهم ، وأن أتفادي جرهم إلي حرب غير متكافئة تبين لي أن العدو كاشف أغلظ عوراتهم وهم لا يشعرون .


الفصل الرابع : هل كان اختفاء المرشد العام في ذلك الوقت إجراءً سليمًا ؟

هذا موضوع تجب مناقشته قبل المضي في سرد ما توالي من الأحداث . لأن له من الدلالات ومن المقدمات ومن النتائج مالا بد للقارئ أن يلم به حتى ينظر إلي الأحداث التي وقعت في تلك الحقبة من الزمن نظرة كاملة .

كانت الأحداث تتوالي ، وكلها في غير صالح الإخوان ، وكان جمال في كل يوم يكسب أرضًا علي حساب الإخوان ، بما سيطر عليه من وسائل الإعلام ، وسلطة الحكم ، وخزائن الدولة ، وكان الإخوان يتلقون الضربات الظالمة صابرين ، كاظمين غيظًا يكاد شرره يقفز من عيونهم .. ولكن حتى نفذت أمر النقل وسافرت إلي قنا ، لم يدر في خلد أحد من الإخوان أن يختفي المرشد العام . فلما رجعت من قنا أنبئت بأن المرشد العام مختف لأن الإخوان علموا أن هناك تدبيرًا لاغتياله .. ولكن كيف وصل نبأ عزم الحكومة علي اغتيال المرشد إلي الإخوان ؟ .

لقد كان الإخوان في تلك الفترة واقعين تحت تأثير ثورة نفسية عارمة ، وتوتر عصبي قد بلغ أقصي حدوده – وهو ما رتب جمال عبد الناصر خططه بحيث يوقع الإخوان فيه ، ويحيطهم به حتى يستطيع بعد ذلك استغلال هذه الحالة في جر الإخوان إلي اتخاذ مواقف معينة ، تزيدهم ارتباكًا ، وتفقدهم السيطرة علي مقدرات دعوتهم ، وتقذف بهم في صحراء التيه والضياع أو تلقي بهم في هاوية التخبط والظلام . وما من شك في أن وجود المرشد العام بشخصه بين الإخوان هو في ذاته أقوي عوامل الأمان في نفوسهم أو هو ما يسمونه صمام الأمان ، وقلما تتمكن قوة معادية للدعوة مهما توفر لها من وسائل أن تنال من الدعوة نيلاً مؤثرًا في وجود شخصية قائدها بين ظهرانيها ، وعلي رأس أجهزتها ، وفي مركز إدارتها .. ولهذا كان هدف من رأوا في دعوة الإخوان خطرًا يهدد نفوذهم ، أو يختصروا الطريق في القضاء عليها بحرمانها من قائدها بأية وسيلة من وسائل الحرمان .

ويخيل إليّ أن هذه الأفكار دارت في خلد عبد الناصر ،وأنه استعرض وسائل الحرمان التي يستطيعها – وأخاله كان يستطيعها جميعًا – كلنه استبعد وسيلة الاغتيال – لا تعففًَا ولا نبلاً – وإنما لأنه إذ ذاك لم يبرح خاطره بعد كيف اغتالت دولة لفاروق المرشد حسن البنا ، وكيف استغلت جمع إمكانات الحكومة في التستر علي هذه الجريمة حتى إن سلطات التحقيق والقضاء لم تجد إلي إثباتها دليلاً فنفضت يدها منها .. ولكن ذلك لم يدم طويلاً فقد تطورت الأمور تطورًَا كشف ما طمس من معالمها ، وأوضح ما كان خافيًا من حقائقها .. ووضع القضاء يده علي الجناة ، وأشار إلي المحرضين عليها حتى يأخذ الحكام الجدد – وكان منهم جمال عبد الناصر – بتلابيبهم ، وأن يصموهم بالخزي والعار . كل هذا لابد أنه دار في خلده فاستبعد هذه الوسيلة ، وبحث عن وسيلة أخري .. فكانت الوسيلة أن يعمل علي يحجب شخص المرشد عن الإخوان بطريقة طواعية بحيث تبدو وكأن المرشد نفسه هو الذي احتجب ، وهو الذي قرر الاحتجاب .. ولا أعتقد أن عبد الناصر قد تحمل كبير عناء في تحقيق هدفه هذا ، فالحالة التوترية التي أوجدها في أعصاب الإخوان لم تكن في حاجة – لإتمام تحقيق ذلك – إلي أكثر من بث شائعة في أوساط الإخوان المحيطين بالمرشد بأن الحكومة عازمة علي اغتياله .. فسارع هؤلاء الإخوة إلي إخفائه بعيدًا عن متناول الحكومة وبالتالي عن أوساط الإخوان .

ومن المعروف أن شخصًا ما إذا قرر اغتيال عدو له ، فإنه لا يكتفي بتجنب التنويه بعزمه هذا ، بل إنه يتظاهر بنسيان العداء ، ويتقرب إلي عدوه بعبارات الود ، أملاً أن تتم الجريمة في يسر وشبه الاتهام بعيدة عنه منصرفة إلي غيره . وأنا لا أبرئ نفسي بهذا التحليل من أنني كغيري من الإخوان واقعًا تحت نفس التأثير التوتري العصبي ، وأنني لم أكن أري في اختفاء المرشد العام ما يعد خلاف الأولي ؛ لأن أي بشر نستهدفه حملة استفزازية مسعورة كتلك التي سلطها جمال عبد الناصر في تلك الآونة علي الإخوان .. لا يملك إلا أن يقع فريسة لها ، وأن تكون استجاباته في التفكير والتصرف في حدود ما تمليه حالته العصبية . ولكن هدفي من هذا التحليل هو أن أوضح مدي ارتباط تصرفات وقعت في ذلك هذا الاختفاء ، حتى يكون الحكم عليها أقرب إلي الصواب ، وأدني إلي العدل ، وأدخل في نطاق النتائج منها في حدود التصرفات بذاتها .

وأضرب لذلك مثلاً ما اتخذته شخصيًا من خطوات بعد رجوعي من قنا ، تحدثت عن بعضها وسأتحدث إن شاء الله عن البعض التالي لها .. فالذي أملي عليّ اتخاذ هذه الخطوات أنني لم أجد أمامي المرشد العام لأتحدث إليه ، وأتبادل معه الرأي ، وأفضي إليه بكشف الطرف الآخر للسر الذي لم يكن يعلمه بعد الله سواي وسواه – وأعتقد لو أن الحديث جري بيني وبينه لتغير وجه التاريخ ، ولسارت الأمور في مجري غير الذي جرتن فيه ، ولحقنت دماه ، ولتجنبت البلاد ويلات لا يعلم إلا الله متى تخرج منها .. ولكن عدم وجود المرشد العام ألزمني أن أتابع طريقاً هو – في الوقت الذي رأيته هو الأسلم للدعوة – رآه غيري غير ذلك ، وظن أن تصرفي إنما أملاه خوف ألم بي أو فزع خلع قلبي .. وهذا الغير بلا شك معذور فيما يري وفيما يظن ، فإن الشخص الوحيد في الدعوة المحيط بكل جوانبها ، والذي تلتقي في نفسه أفكار كل ذي فكر ، والذي تجتمع كل أسرار الدعوة عنده هو المرشد العام .. ولذا فإن التفاهم معه هو التفاهم المجدي والمثمر .. أما من سواه من الإخوان ، فتغيب كثير من زوايا الدعوة وأسرارها عن خاطره ، فلا يكون التفاهم معه سهلاً ولا مثمرًا .. ولعل هذا هو ما هدف إليه جمال عبد الناصر من حجب المرشد العام عن الإخوان .

والمثل الآخر الذي أضربه ، أو قل هو إحدى أخطر نتائج اختفاء المرشد العام في ذلك الوقت أن هذا الاختفاء مع توالي الأحداث وتفاقمها ، جعل تقييم هذه الأحداث خاضعًا لتقدير شخصي ، مما كان سببًا في تشتت أفكار الإخوان وتشعب آرائهم ،مما أفضي إلي إشاعة الفرقة والانقسام بينهم – وكان الذي يحسم هذا دائمًا هو وجود المرشد العام بينهم ، تمر عليه الأحداث كما تمر عليهم ، ويحس بآثارها كما يحسون .. وبمناقشة كل ذي وجهة نظر منهم تجتمع عنده كل الآراء ، فيصل في نهاية الأمر إلي قرار مبني علي إحاطة كاملة يخضع له الجميع غير راغمين ولا متحرجين . كما أن غياب المرشد العام عن موقع الأحداث مع ظهور منشورات صادرة منه بين الفينة والفينة عن طريق غير شرعي – والطريق الشرعي أن تكون عن طريق نائب المرشد – جعل بعض الإخوان يتشككون في هذه المنشورات ، كما هز إيمانهم وضعضع ثقتهم بكفاءة البناء الإخواني ، وجعل الكثيرين منهم يتهامسون لم هذا التخطي ؟ وما المقصود منه ؟ وما الداعي إليه ؟ .. وهل توجيهات المرشد العام التي تتضمنها المنشورات الصادرة عنه صدرت عن إحاطة بكل الظروف والملابسات أم صدرت عنه بناء علي ما وصل إليه عن طريق الفئة التي تتصل به في مخبئه وحدها ؟ .. فإذا كان الأمر كذلك فإن هذه التوجيهات لم تبن علي إحاطة كاملة ، فهي إذن توضع موضع المناقشة وهي غير ملزمة . ونتائج احتجاب المرشد العام في ذلك الوقت كانت كثيرة وخطيرة ، وتعدت في خطورتها ما ذكرنا من أمثلة مما يأتي إن شاء الله في سياق الحديث – وقد قصدت من ذكر بعض الأمثلة هنا أن أقرر أن الأمر الواقع الذي حدث من اختفاء المرشد كان سببًا في وقوع تصرفات ، واتخاذ أوضاع ، بل واقتراف أخطاء في صفوف الإخوان لم يكن بد من وقوعها ، وأن النظر إلي هذه التصرفات والأوضاع والأخطاء نظرة مجردة هو بمثابة الاقتصار علي نظر إلي رد الفعل دون النظر إلي الفعل الذي أنتجه وأدي إليه .

• سؤال آخر :

وبعد ذلك كله نعود إلي السؤال الذي وجهناه في أول البحث الذي يقول : هل كان اختفاء المرشد العام في ذلك الوقت إجراءً سليمًا ؟ .. ونقول إن الإجابة علي هذا السؤال قد وردت في سياق ما ذكرنا تحت هذا العنوان . ولكن – إحقاقًا للحق ، وإنصافاً للتاريخ – يجب أن نلحق هذا السؤال بسؤال آخر يقول : هل كانت هناك مندوحة لتفادي هذا الإجراء الذي وقع ؟ والإجابة علي هذا السؤال يقررها الجو النفسي الذي أحاط بهذا الإجراء – فالذين حضروا هذه الملحمة ، وعاشوا في جوها ، واكتووا بنارها ، يقرون أن هذا الذي حدث إنما كان خطأ لابد منه وتجاوزًا لا معدي عنه .

وقد يقول قائل اليوم إنه كان علي المرشد أن يثبت في مكانه ليقارع الأحداث وهو بين إخوانه مهما طاردته أساليب التهديد ، حتى ولو بلغ التنفيذ – فإن اغتياله وسط إخوانه كان سيجنب الدعوة كثيرًا مما أصابها فيما بعد .. قد يقول اليوم قائل هذا الكلام ، ولكن قوله هذا مبني علي علم بما وقع فعلاً بعد الاختفاء من أحداث ، وما حاق بالدعوة فعلاً وبالبلاد من ويلات ، مما لم يكن المرشد العام ولا أحد من الإخوان ولا أحد أيًا كان يعلم أنه سيحدث (         ) ومن هنا جاء قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من اجتهد فأصاب فله أجران ، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد " .

وعلي ضوء هذا التفصيل الحكيم ينبغي أن يكون نظرنا إلي ما كان من إجراء وتصرفات وقعت في تلك الظروف .. وهي نصيحة أقدمها إلي كل من أراد أن يقيم أحداث تلك الفترة وما وقع فيها من تصرفات ليصدر حكمًا عليها .


الباب الثالث عشر : خطوات عملية للإنقاذ


الفصل الأول : حشد إخواني يتبني المذكرة

حاولت مع الإخوة " الروضيين " أن يوصلوا هذه المذكرة إلي الأستاذ المرشد في مخبئه ، ولكنهم أصروا علي ما أعلنوني به من قبل من أنهم لا يعرفون مكانه . أخذ نبأ المذكرة يطرق أسماع عدد من قادة الدعوة في القاهرة ، وأعطيت المذكرة للأخ الحاج محمد جودة ليسلمها إلي السيدين الطحاوي وطعيمة لعرضها علي جمال عبد الناصر لإبداء رأيه في الاقتراح الذي تضمنته ، علي أن نلتقي في مساء اليوم بهما في بيته أي في بيت الأخ جودة . ذهبت مساء ذلك اليوم إلي منزل الأخ الحاج محمد جودة بالموسكي ، فوجدت في انتظاري به مجموعة من قادة الدعوة في القاهرة تبلغ نحو الأربعين بعضهم أعضاء بمكتب الإرشاد والباقون من أعضاء الهيئة التأسيسية – وهذه المجموعة فيما أري تمثل أعلي المستويات في الدعوة ثقافة وعلمًا وفكرًا وتاريخًا وسابقة فيها ، كما أنها – بحكم وجودها الدائم في القاهرة – أكثر الإخوان القياديين اتصالاً بالأحداث ، وأدقهم فهمًا لها وأشدهم إحساسًا بوقعها ، وألمسهم لآثارها ، وأوسعهم إحاطة بظروفها ، وأحسنهم تقديرًا لقيمتها .. ولا أري داعيًا لذكر أسمائهم ، وحسبي أن أذكر أن منهم من كان أستاذًا لي في أيام الطلب ، وسيأتي في سياق الحديث إن شاء الله أسماء بعضهم مما يستطيع القارئ أن يري في ضوئه قدر هذا المستوي الذي وصفت .

كان لقاءً رائعًا أن ألتقي بهذا العدد الكبير من عيون الدعوة وأئمتها في هذا البيت الرحب الفسيح الذي كانت الحجرة الواحدة منه تسع لضعف هذا العدد جلوسًا علي أرائكها الدائرة مع جدرانها الأربعة والملتصقة بهذه الجدران من الطراز الفاره القديم .. فكان لهذا اللقاء حلاوة مسحت من حلوقنا – ولو إلي حين – ما تجرعناه من مرارة طيلة شهرين كاملين .. تعانقنا طويلاً ، وبث كل لكل شوقه وحزنه وآلامه .. وأخبرني هؤلاء الإخوة أنهم لما سمعوا بنبأ تعرضي لمحاولة الإصلاح هشوا لهذا النبأ لأنه جاء في أحرج الأوقات ، وفي موقف كادت فيه السماء تنقض علي الأرض بعد أن أظلمت وأبرقت وأرعدت ، ولزم كل داره .. ثم جئنا للقائك لتسمعنا نص ما حوته مذكرتك لنناقشها ثم نصل بعد ذلك إلي قرار ، لعله ينقذ الدعوة مما هو محيط بها من أخطار ، نتيجة البلبلة والتشتت الذي نعيشه لاسيما بعد غياب المرشد العام .

وأحب أن أنبه هنا قبل أن أسترسل في الحديث إلي أن الدافع الحقيقي الذي دفعني إلي انتهاج طريق الإصلاح هذا ، قد احتفظت به لنفسي ، ولم أبح به لإخواني هؤلاء ولا لغيرهم ، وظل ذلك حبيس أحناء ضلوعي حتى بحت به لهذه المذكرات ؛ لأن هذا الدافع كان سرًا بيني وبين المرشد العام لم يكن من حق أحد سواه أن أطلعه عليه أو أبوح له به .. ولقد شاءت الظروف منذ ذلك الحين أن لا تجمعني به رحمه الله إلا في مواقف المصائب والأهوال ، حيث لا مجال حتى لمجرد النقاء ولو من بعيد .

• اقتراح بخلع المرشد :

وحضر الضابطان الطحاوي وطعيمة ، وأخبرانا بأنهما أطلعا جمال عبد الناصر علي المذكرة ، فقرأها ووافق علي ما جاء بها موافقة مبدئية علي أن يلتقي غدًا صباحًا في منزله بوفد يمثل الإخوان للتباحث معه في هذا الموضوع . وقرأت المذكرة علي الاجتماع فنالت منهم موافقة إجماعية ، وأمضينا معظم الليل في مناقشات حول الموقف وتقدم بعض الإخوان بمقترحات كان أهمها وأخطرها اقتراح للأخ البهي الخولي بإعلان الإخوان خلع الأستاذ الهضيبي من منصب المرشد العام ، وقد استغرقت مناقشة هذا الاقتراح أكثر الوقت وكان الأستاذ البهي جادًا أشد الجد في عرض اقتراحه هذا ، وجمع توقيعات أكبر عدد من إخوان الهيئة التأسيسية بالموافقة عليه ، حتى إنه بعد أن طالت المناقشة في شأن اقتراحه ، طلب إليّ أن ننتحي معًا في حجرة أخري ، وطلب إليّ التوقيع بعد أن شرح لي وجهة نظره ، وهي تتلخص في أنه يري أن الأحداث تتفاقم يومًا بهد يوم ، وقد بلغت حدًا لم يعد في طاقة الإخوان تحمله ، وأن كيان الدعوة أضحي في خطر لاسيما بعد اختفاء المرشد العام – الذي يعده الأستاذ البهي هروبًا من المسئولية ،ودليلاً علي أن الأحداث قد وصلت في تفاقمها إلي الحد الذي لا يستطيع هو شخصيًا (يقصد المرشد) الثبات أمامها .. ويقول الأستاذ البهي إن المسئول عن وصول الحالة إلي هذا الحد هو الأستاذ المرشد .. وإذا كنا نريد إنقاذ الإخوان مما ينتظرهم من أهوال فعلينا أن ننحي المرشد العام لننهج نهجًا جديدًا .

كانت هذه وجهة نظر الأستاذ البهي – وهو من الأشخاص القلائل في دعوة الإخوان الذين تربطني بهم صلات خاصة من الحب والاحترام منذ جمع الأستاذ الإمام بيني وبينه وآخي بيننا ، وكان إذ ذاك مدرسًا بمعهد طنطا الديني ومقيمًا بها ، وكنت وإياه منذ ذلك العهد علي وئام دائم في الرأي ، يأنس كل منا إلي صاحبه ويقضي إليه بما في نفسه ، ويلجأ إليه فيما يعترضه من عقبات – وأظنني قد أشرت في فصول سابقة إلي ما قمت به من تقريب بينه وبين الأستاذ الهضيبي في وجهات نظر قد تباعدت حتى أدت إلي جفوة بينهما .. وهكذا كنا معًا يدًا واحدة ، وقلبًا واحدًا . ومثل الأستاذ البهي لا تحوم حوله أثارة من شك حول حسن نيته وبراءة قصده .. ولم يشب اختلافي معه في هذا الموضوع ثقتي فيه أدني شائبة من الشك ، وإنما هي وجهات نظر في محاولة الوصول بالدعوة إلي بر السلام .

قلت له : يا أخي إن تنحية المرشد العام في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة سيكون لها من الأخطار والأضرار ما يتضاءل أمامه أشد ما نخشاه علي الدعوة من أخطار وأضرار لأنها ستشقق الإخوان شيعًا وأحزابًا يقاتل بعضها بعضًا حتى يقضوا بأنفسهم علي دعوتهم ، ويوفروا بذلك علي غيرهم الجهد في محاولة ذلك .. قلت له : إن محاسبة القائد علي أخطاء يري بعض الجنود أنه مسئول عنها لا تكون وسط المعركة وهي تدور رحاها ، وإنما يجب أن نتماسك حتى تنتهي المعركة ، فإن كان حساب فليكن حينئذ .. وقلت له إن علاج ما نعانيه لا يكون بهذا الأسلوب . والذي أراه – وأختلف معك فيه – هو أن هذا الرجل لا عيب فيه ، وهو قائد كفء وله في أعناقنا بيعة . ودعني أواصل طريقتي في الإصلاح التي عرضتها عليكم وحظيت منكم جميعًا بالقبول .

ورجعنا بعد ذلك إلي الاجتماع فطلبت إلي الإخوة الحاضرين أن يختاروا من بينهم وفدًا يمثلهم في مقابلة جمال عبد الناصر – رئيس الحكومة آنذاك – في بيته صباح الغد فاختاروا من بينهم الأخوة : الدكتور خميس والأستاذ عمر التلمساني والدكتور عثمان نجاتي والأستاذ حلمي نور الدين والشيخ أحمد شريت ومحمود عبد الحليم . وبتنا جميعًا تلك الليلة عند الأخ الحاد محمد جودة .. وأصبحنا حيث وافانا السيدان الطحاوي وطعيمة وتناولا معنا طعام الإفطار . ثم اتجه الوفد في رفقتهما إلي منزل جمال عبد الناصر في منشية البكري حيث التقينا به في الساعة التاسعة صباحًا .


الفصل الثاني : اجتماع تاريخي . جلسة طويلة مع عبد الناصر في منزله

كانت هذه أول مرة التقي فيها بجمال عبد الناصر ، وكنت حريصًا في هذا اللقاء أن استكشف الكثير من شخصية هذا الرجل – وكان إذ ذاك في ربيع عمره ، لم تنعقد أمامه الحياة بعد ، ولم تأخذ منه الأيام ، فهو أقرب أن يكون علي طبيعته – رأيت شابًا فارع الطول ، عريض المنكبين ، وهي إحدى مؤهلات من يرشح نفسه للزعامة ، فالجسم القوي المتين مطلوب لمقارعة الخطوب وسهر الليالي وتلقي الضربات .. وكان حتى ذلك الحين منتسبًا إلي منصبه العسكري فهو مرتد بزته العسكرية . وكان مجلسنا في حجرة صغيرة في الدور الأرضي علي يسار الداخل من باب المنزل ، مؤثثة بأثاث كأثاث بيوتنا لا يزيد عنه شيئًا . وقد شغلنا نحن الستة ومعنا الطحاوي وطعيمة كل مقاعد هذه الغرفة إلا مقعدًا قرب الباب جلس عليه جمال . وجئ بكرسي من خارجها ووضع بجانب جمال وعلي يساره جلس عليه الضابط عبد الرحمن نصير الذي كان حارسه الذي لا يفارقه .. وجاء ولداه الصغيران خالد وعبد الحكيم وجلسا بجانبه بعض الوقت .

وبدأ هو الحديث فقال : أنا قرأت مذكرة فلان وأري فيها روحًا طيبة ، ولهذا طلبت أن ألتقي بوفد يمثل الإخوان لمناقشة أسباب الخلاف بيني وبين الإخوان ..

فقلنا له : أليس من الممكن أن نتجاوز أسباب الخلاف ونتجه إلي وسائل الإصلاح ؟ .

فقال : إن هذا ليس بالطريق السليم لمعالجة الخلاف .. لابد أولاً من معرفة أسباب الخلاف حتى نبحث بعد ذلك عن وسائل تلافي هذه الأسباب .

فقلنا : إذن ما هي أسباب الخلاف ؟

أخذ جمال عبد الناصر يشرح أسباب الخلاف في حديث طويل لم يبق في خاطري منه بعد هذا الأمد الطويل إلا نقاط وإن كانت قليلة إلا أنها تعد رءوس المواضيع لأهم ما جاء في حديثه أسوقها فيما يلي : • أسباب الخلاف كما يرويها عبد الناصر :

أولاً : بدأ حديثه بالإشارة إلي اتصاله بالجهاز السري للإخوان (النظام الخاص) وإلي تعاونه معهم وذكر في سياق هذا التعاون أنه كان يسرق لهم السلاح والذخائر من الجيش – ثم ذكر أنه في آخر مرة أعطاه الإخوان 2500 جنيه لهذا الغرض فاتصل بالمسئولين من مخازن السلاح (وذكر الجهة التي بها هذه المخازن ولكني نسيتها) وأعطاهم هذا المبلغ كاملاً ، وملئوا له عربة قطار بالأسلحة والذخائر أوصلها إلي الإخوان .. ثم قال : والآن تصدر نشرة الجهاز السري للإخوان تتهمني بأنني استوليت علي هذا المبلغ لنفسي ولم أحصل لهم علي أسلحة إلا بجزء يسير منه .

ثانيًا : تكلم بعد ذلك عن اتصالاته بالمرشد العام فقال : إنني كنت حريصًا منذ قيام الثورة علي أن أتشاور مع المرشد العام في الشئون الهامة للدولة (وشرح المناقشات التي دارت خلال بعض هذه الاجتماعات) ولكنني لاحظت أن المرشد العام لا يهتم بلقائي وزملائي معه بل ينظر إلينا نظرات لا تشعرنا بالتقدير ؛ حتى إنني عقب كل اجتماع لنا معه كنت أشكو هذا الشعور إلي صلاح سالم الذي كان يرافقني في أكثر هذه الاجتماعات ، وكان صلاح يهوّن عليّ الأمر ملتمسًا الأعذار للرجل لطبيعته . ولكنني عقب إحدى هذه الاجتماعات التي كانت تتم عادة في بيت المرشد شعرت بمهانة وعدم مبالاة بي لم أتعودها في حياتي ، إلي حد أنني قررت أن أقطع اتصالاتي بهذا الرجل . وقلت لصلاح : إن الاجتماع القادم تذهب إليه وحدك ؛ لأنني لم أعد أطيق هذه المعاملة .. ولكن صلاح رجاني أن أحضر معه الاجتماع القادم علي أن تكون هذه آخر مرة إذا حدث فيها ما يحدث عادة لن أرغمك بعد ذلك .

قال جمال : وذهبنا أنا وصلاح إلي منزل المرشد ، وجلسنا في حجرة الصالون حتى دخل علينا وألقي السلام وجلس دون أن يتكلم ، وطال صمتنا وصمت الرجل الذي كنا ننتظر أن يبتدرنا بالكلام كما هو معتاد باعتباره صاحب البيت ونحن ضيوفه ، إلا أن الرجل اعتصم بالصمت حتى تصبب العرق من وجوهنا خجلاً ؛ لأننا شعرنا كأنما نحن دخلاء اقتحمنا علي الرجل بيته دون رغبته مع أننا كنا علي موعد . قال جمال : فإنقاذًا لموقفنا ، وحفظاً لماء وجوهنا بدأت أنا بالكلام فقلت : يا فضيلة المرشد جئنا اليوم لنناقش موضوع كذا (وحدد الموضوع ولكني نسيته) فما رأيك ؟ قال جمال : وبعد أن ألقيت السؤال انتظرنا أن يتكلم الرجل ولكنه لم يتكلم فقلن إننا نري في هذا الموضوع كذا وكذا . ولم يرد الرجل بأكثر من كلمة " لا مانع " ممزوجة بنظرات معناها أنه غير مبال بنا . وهكذا مر الاجتماع ونحن نعاني هذا الشعور ، وأنا أنتزع من الرجل الألفاظ القلائل انتزاعاً حتى استطعت إنهاء الاجتماع وخرجت أنا وصلاح عازمين علي أن لا نضع أنفسنا بعد اليوم هذا الموضع المزري بالالتقاء مع هذا الرجل .

ثالثًا : ثم تكلم مرة أخري عن الجهاز السري للإخوان (النظام الخاص) وقال : كان وجود هذا الجهاز للإخوان المسلمين فيما قبل الثورة ضرورة لا غني عنها ، لمقاومة الظلم ، ولحماية الدعوة من ظلم الملك وظلم أذنابه الحكام . أما وقد قامت الثورة فلم يعد هناك داع لوجوده ، حيث إن الإخوان والثورة شيء واحد – وقال إنني سبق أن تحدثت مع المرشد العام في هذا الشأن وقلت له إن الواجب يقتضي من الإخوان أن يحلوا تشكيلاتهم التي في الجيش ويحلوا الجهاز السري حيث لا مبرر لوجودهما الآن بعد أن قامت الثورة ، فكان رد المرشد قوله : إننا ليس لنا تشكيلات في الجيش نحن بصدد حل الجهاز السري فقلت له يا فضيلة المرشد أنا أعرف أن تشكيلات الإخوان في الجيش لازالت موجودة ولكنه أصر علي الإنكار .

رابعًا : وتحدث عن اتفاقية الجلاء وقال إن هذه الاتفاقية تضمنت كل ما تريد وهي تضمن لنا الجلاء . وإن معارضة الإخوان لها هي نوع من التحدي لا أقبله . وأخذ في شرح محاسن الاتفاقية ووجهة نظره ، متجاوزًا النقاط التي تولاها الإخوان بالنقد – وشدد علي أن أتحدي الإخوان له في هذه الاتفاقية أمر خطير لن يسكت عليه .

خامسًا : أثار ما يطالب به الإخوان من إجراء انتخابات . وقال إن إجراء انتخابات الآن معناه أن يحصل الإخوان علي أغلبية مقاعد المجلس المنتخب إن لم يحصلوا علي جميعها – لأن الإخوان تستطيع بتشكيلاتها العلنية والسرية أن تحصل علي ذلك – ولذا فإنني لن أسمح بإجراء انتخابات تحت تأثير التشكيلات الإخوانية لأن هذا يتعارض مع مناخ الحرية الذي يجب توفيره لإجراء هذه الانتخابات – وسمي جمال إجراء الانتخابات الفورية انتخابات في ظل الإرهاب الإخواني .

سادسًا : وتكلم عن حركة مارس 54 وأثرها في الجيش . وألقي مسئولية علي عاتق الإخوان إنها كانت لعبة خطيرة ، ولن أسمح بتكرارها مرة أخري . وقال في معرض حديثه عن تفصيلات هذه الحركة .. " وحين ذهبت إلي سلاح الفرسان جاءني الولد الشيوعي (وذكر في وصفه لفظاً يعف القلم عن كتابته) خالد محيي الدين يطالبني بالاستقالة " – ثم أعاد عدة مرات أنه لن يسمح بإعطاء الفرصة للإخوان لإثارة مثل هذا الذي حدث في مارس ولذا فإنه مصمم علي أن يصفي الإخوان تشكيلاتهم في الجيش وفي خارج الجيش إما من تلقاء أنفسهم وإما رغمًا عنهم .

سابعًا : وتحدث عن تسلط الإخوان علي الجامعات وقال : إنني لن أقف مكتوفاً أمام هذا التسلط ، فسأعتقل كل من يقف في وجهنا من الطلبة . وقد كلفت كمال الدين حسين (كان وزير التعليم في ذلك الوقت) بفصل الأساتذة الذين يعارضوننا مهما كان عددهم . وقد أعددت لهم معتقلاً من نوع جديد . إن المعتقلات التي تكلف الدولة إطعامهم وإسكانهم وكسوتهم لن نلجأ إليها ، وإنما سنعد لهم معتقلات في الوادي الجديد يعملون فيها في إصلاح الأرض وفلاحتها ، ويأكلون ويلبسون من عرق جبينهم . وقد أمرت فعلاً بإعداد هذه المعتقلات – أما أعضاء الجهاز السري والتشكيلات العسكرية فهؤلاء سيحاكمون بتهمة الإعداد لقلب نظام الحكم .

وقال : إن الإخوان ينظرون إلي الثورة علي أنها جمال عبد الناصر الذي يعرفونه ويعرفهم ، ويظنون أن الضباط الأحرار من الإخوان كجمال عبد الناصر .. هذا ظن خاطئ .. إن أكثر الضباط الأحرار ليسوا من الطراز الذي يتوهمه الإخوان .. إن أكثرهم علي دين ولا علي خلق .. ولولا كبحي جماحهم لانطلقوا كالكلاب علي الإخوان بلا رحمة .. وقد حاولوا مرارًا أن ينطلقوا عليكم ولكنني كنت في كل مرة أكبح جماحهم وأقول لهم : اتركوا لي التعامل مع الإخوان . ولكن إلي متى أكبح جماحهم وأقول لهم ذلك ؟ لن أستطيع ذلك إلي الأبد .. إنني ألقي أشد المقاومة منهم في منع شرهم عنكم .. وإذا انطلقوا فسيكونون كالكلاب الهائجة .

هذا هو تلخيص لما بقي في خاطري الآن من حديث جمال عبد الناصر في هذه الجلسة – أما نص الحديث فكان من التفصيل والاتساع بحيث شغل قرابة ست ساعات متواصلة من الساعة التاسعة صباحًا حتى الساعة الثالثة بعد الظهر ، لم يقطعه إلا أداء صلاة الظهر حيث أديناها نحن الإخوان جماعة في حديقة المنزل وكنا جميعاً علي وضوء ، وإلا مكالمة أو مكالمتان في التليفون أجراهما جمال وهو جالس معنا مع نائبه في رياسة الوزراء جمال سالم لم يستغرقا إلا دقائق وإلا بضعة أسئلة وجهناها إليه في أثناء الحديث . وكان مما وجهناه إليه في أثناء الحديث حين تحدث بعنف عن الجهاز السري للإخوان ومزج هذا العنف الشديد بالتهديد والتوعد إذا لم يوقفوا أعمالهم العدوانية ضده من إصدار النشرات وغيرها أن قلت له : إنك تعلم أن هؤلاء الأفراد في الجهاز السري شباب ، ومن صفات الشباب الاندفاع ، ولا يمكن وقف هذا الاندفاع فجأة ، وأنت أعرف الناس بهم – فيجب أن تعطي لنا فرصة كافية لإقناعهم .

وقلت له : إنك تقول في حديثك إنك لا تطاوع من وراءك من الضباط فيما يريدون أن يوجهوا به الإخوان من عنف ، ولكنني أري أن السياسة المتبعة في مواجهة الإخوان هي سياسة العنف والإثارة .. فكيف نستطيع أن نقنع هؤلاء الإخوان بوقف ما يواجهون به هذا العنف والإثارة .. ؟ فقال لي جمال : وكيف كان ذلك ؟ إن تعليماتي كانت غير ذلك . فقلت له : لازالت سياسة الاعتقال سارية ، فكل يوم يعتقل عدد من الأفراد . ولازالت سياسة تشتيت الموظفين سارية . فقال لي : هذا شيء لا يمكن أن يحدث وقد تكون مبالغًا . فتذكرت أن برقية نقلي إلي قنا لازالت في جيبي فأبرزتها له وقلت له : لن أقول لك إن فلانًا وفلانًا نقل ولكن ما رأيك في هذه البرقية ؟ . فأخذها وقرأها .. وأبدي ما يشعر بالاستغراب .. ومال علي من كان بجانبه من الضباط كأنما يطلب إليهم مراجعة هذه الأمور .

• ملامح من شخصية جمال عبد الناصر :

لم أكن قد التقيت بجمال عبد الناصر من قبل ، حيث كانت هذه الجلسة هي أول لقاء لي معه كما قدمت وكنت حريصًا علي أن أحدد ملامح الشخصية ؛ لأن أول ما يجب أن يتوفر لك للتعامل مع أي إنسان تعاملاً مثمرًا هو أن تحدد ملامح شخصيته ؛ لأن التعامل مع إنسان هو في الحقيقة التعامل مع ما بني عليه من طبائع وصفات وأخلاق .. وكان قد وقر في صدري حين رأيت الاتصالات التي تتم بيننا وبين جمال عبد الناصر لا تثمر دائمًا إلا تباعدًا وتفاقمًا أن إخواننا الذين يقومون بهذه الاتصالات ؛ إما أنهم لم يعرفوا ما بنيت عليه شخصيته من طبائع وخصائص ،وإما أنهم يعرفون ذلك ولكنهم لا يحفلون بمراعاتها ولا يجعلونها عنصرًا أساسيًا يقيمون علي دعامة منه تعاملهم معه .. ولذا كان همي الأكبر أن أعرف مقومات هذه الشخصية حيث هي مفتاح التعامل معه .

وقد وضحت لي هذه الجلسة كثيرًا من الملامح الأساسية لشخصية جمال مع أنها جلسة واحدة وهي اللقاء الأولي للأسباب الآتية :

1 – أن الجلسة كانت من الطول بحيث لا يستطيع متحدث فيها أن يسيطر علي أحاسيسه سواء منها السطحي طول هذا الوقت .

2 – أن جمال شغل بحديثه أكثر من تسعة أعشار هذا الوقت .

3 – أن حديثه كان متصلاً لا يكاد يقطعه إلا أقل القليل .

4 – أن موضوع الحديث كان بطبيعته مثيرًا للعواطف لأنه يدور حول محاور كلها تعتمد علي أسس من الارتباط النفسي والامتزاج الروحي .

5 – أن الحديث يمس شخصية المتحدث والمتحدث إليه في الماضي والحاضر والمستقبل ، فهو يعالج أمورًا قد يتوقف عليها مستقبله .

6 – حكمة الإمام علي كرم الله وجهه حيث يقول : " من كثر كلامه كثر خطؤه " أفهم منها فضلاً عما يفهم من ظهرها أن الإنسان قد يستطيع تحضير كلام يحدث به قومًا فيتحكم في عواطفه ليبرز منها في أثناء الكلام ما يريد ويخفي منها ما يريد .. ولكنه إذا طال به الحديث فإن عواطفه التي أراد أن يخفيها ستظل في أثناء حديثه بأعناقها رغم أنفه ودون إرادته ..

أما الملامح التي وضحتها هذه الجلسة في شخصيته فهي :

أولاً : أنه يتمتع بذاكرة وحافظة قويتين ، فقد كان في سرده للأحداث التي كانت بينه وبين الإخوان يذكر كل حدث منها بتاريخه محددًا مع أن منها أحداثًا كان قد مضي عليها أكثر من خمسة أعوام .. وإذا فرضنا أنه كان قد عكف علي تحضير هذا الحديث الذي تضمن عشرات الأحداث قبل أن تلقي به ، فإن حفظ تواريخ هذه الأحداث إلقاءها إلينا دون خلط أو خطأ ، ينهض دليلاً علي قوة ذاكرته ومتانة حافظته .

ثانيًا : أنه يتمتع بشخصية قيادية بدليل تزعمه لمجموعات متباينة من الضباط وكلها تدين بالخضوع له والائتمار بأمر .

ثالثاً : أنه ذو شخصية متماسكة ذات أعصاب قوية ثابتة ، لا تكاد تستجيب للمؤثرات الخارجية مهما قويت هذه المؤثرات – وقد شعرت بذلك في أثناء إلقائه حديثه الطويل دون أن يجرفه الموقف المثير جرفاً يخرج به عن سياق حديثه أو ينسيه ما رتب في ذهنه من نقاط .. كما شعرت بذلك حين كنا نتحدث إليه ونحن مجموعة لها وزنها في الإخوان ، وكان حديثنا في ذلك اليوم حديثًا عاطفيًا فياضًا تثور له وتستجيب له عاطفة كل سامع .. ومع ذلك فإن ذلك لم يحرك عواطفه حركة توائم ما نغمره به من عواطف ، بل كانت إجاباته تتمشي مع المنطلق الذي اختاره لنفسه – وتماسك الشخصية قد يكون نتيجة الثقة بالنفس أو قد تكون الثقة بالنفس وليدة تماسك الشخصية ، أو قد يكون التعبيران لصفة واحدة .

رابعًا : هناك ملمح من ملامح شخصيته كشف لي عنه حديثه الممتزج بالمرارة حين كان يتحدث عن لقاءات مع المرشد العام . وهذا الملمح لازلت في حيرة من تسميته ، ولكني أشير إليه بما كان يبعث هذا الحديث في ملامح جمال وفي قسمات وجهه ، وفي تقطيب جبينه ، وفي توقد عينيه ما يكاد يخيل إلينا أن لو كان الأستاذ المرشد أمامه لأطاح برأسه شفاءً لما يتأجج في صدره من غضب منه وحقد عليه ..

وهو يرمي المرشد العام بصفات لم نعهدها فيه ، ولم نسمع أن أحدًا نسبها إليه – وفحواها أنه يتجاهل جليسه ويحقر ضيفه – ولست أدري لماذا يشكو جمال وحده دون غيره – علي كثرة سواء منهم العدو والصديق .. وأراني إزاء هذه الشكوى أمام أحدج نمن هذه الافتراضات :

1 – أن يكون احتفال الأستاذ المرشد به وبزملائه كاحتفاله بسائر الأفراد من الإخوان في حين أن جمال يري نفسه أعظم من أن يقتصر المرشد في احتفاله به علي القدر الذي يبذله في الاحتفال بسائر الإخوان – وحينئذ يري هذا القدر من الاحتفال به نوعًا من الإهانة لأنه ليس كسائر الإخوان ، ولا يري حتى كسائر الناس ، بل هو القابض بيديه علي مقاليد السلطة في البلاد ، ويري نفسه متفضلاً في زيارته للمرشد في بيته .

ونحن نري فيمن نخالط من الناس أشخاصًا في بعض المناصب يرون في عدم مثول مرءوسيهم أو ذوي المصالح عندهم قيامًا إذا مروا إهانة لهم تستحق أن يجأروا بالشكوى منها وتستحق أن يوقعوا علي من صدرت منهم هذه الإهانة العقوبة .. فكيف بمن يري نفسه رئيس البلاد والمتصرف في مقدراتها ؟! .

2 – أن لا يكون احتفال المرشد به أقل مما يتناسب مع منصبه ، ولكن شيئًا في نفس جمال جعله لا يري إلا المساوئ ، أما المحاسن فإنه لا يراها .. وهذا داء شائع بين الناس في كل زمان ومكان ، ولا ينجو منه إلا الأقلون ممن صفت نفوسهم ، وظهرت قلوبهم ، وهذا الداء هو الذي أشار إليه الشاعر الحكيم الذي ذكرناه من قبل ونعيده الآن :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

3 – أن يكون المرشد العام قد تجهمه فعلاً أو تجاهله .. ولكن هذا التجهم الذي هو ليس من كبيعة الرجل لابد أن يكن حلقة في سلسلة أحداث أغفل التحدث – جمال – ذكرها لأنه يعلم أن ذكرها في غير صالحه – وفي هذا الصدد يتمثل بالقول المأثور : قبل أن تقول للباكي لا تبك قل للضارب كف عن الضرب – والقول الآخر : إذا جاءك أحد الخصمين يشكو فقء إحدى عينيه فلا تعجل بالحكم ، فقد يكون المشكو قد فقئت كلتا عينيه .. وقد يكون في سياق ما نقلناه في أول هذا الجزء عن الإخوة صالح وصلاح وفريد ما يلقي أضواء علي خلفيات هذه الشكوى إن كان لهذه الشكوى من أساس .

هذه أوضاع ثلاثة لا أعتقد أن تعليل هذه الظاهرة المشكو منها يخرج عن أن يكون واحدًا منها . وقد يكون خليطاً منها ، لأن النفس البشرية بطبيعتها متشعبة المسالك ، قد تستوعب الأوضاع الثلاثة معا ، بالرغم مما يبدو فيها من تعارض في بعض أجزائها . وإذا كنت قد أجهدت نفسي في البحث عن تعليل لشكوى جمال من المرشد ، فإنما أردت بذلك أن أجدى تفسيرًا لحالة نفسية استبدت بجمال نحو هذا الرجل الذي يشغل منصب المرشد العام – وكنت أعرف من قبل أن عنده هذه الحالة ، ولكنني لم أكن أعتقد أنها قد بلغت إلي الحد الذي لم يعد يستطيع معه السيطرة عليها أو إخفاؤها .. ولقد تحدثت عن تماسك شخصية جمال وثبات أعصابه ، فقد كانت هذه الصفة واضحة ملموسة في حديثه الطويل المتنوع الذي مس الكثير من الأمور الشديدة الحساسية التي من طبيعتها أن تثير الأعصاب ، ومع ذلك كان في أثناء الحديث عنها والمناقشة حولها ثابت الأعصاب ، ولكنه كان حين يتكلم عن المرشد العام ولقاءاته معه تتغير حاله بالوصف الذي أوردته فيما يبدو في لهجة حديثه ، ونبرات صوته ، وتقاطيع وجهه وبريق عينيه .

ولقد شعرت أنني وصلت إلي ما كنت أسعى إلي الوصول إليه من معرفة العقدة الأصيلة التي انبثق منها هذا الخلاف المتشعب بين جمال وبين الإخوان ، وهو الخلاف الذي لا يزداد علي الأيام إلا تشعبًا ، ولا يثمر أمام المعالجة إلا تفاقمًا – لقد فهمت أن كل ألوان الخلاف إن هي إلا مظاهر وأعراض لداء واحد متغلغل في نفس جمال عبد الناصر هو كراهيته بهذا الرجل وحقده عليه .. ولكن التخلص من هذا الرجل في ذلك الوقت هو هدم لكيان الدعوة ، وتقويضها من أساسها ، والخروج بها عن دائرة الدعوة الإسلامية وتحويلها إلي لعبة في أيدي الحكام .. وهو مالا يستطيع أن نسمح به .. (     •    ) وإذن فليس أمامنا إلا المصابرة ، ومحاولة كسب الوقت للخروج من المآزق القاتل الذي حصرنا فيه حتى نسترد أنفسنا ، ونتصرف في ظل جو نسيطر فيه علي أعصابنا فيكون تصرفنا سليمًا ومنتجًا .

خامسًا : والملمح الخامس والأخير في شخصية جمال هو عدم مبالاته بالقيم ولا بالعلاقات وهو ما يعبر عنه بمبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " . وهذا المبدأ يستبيح الدم والعرض مادام ذلك يحقق هدف الشخص .. والهدف في هذه الحالة عادة يكون هو السيطرة والاستئثار بالسلطة . وصاحب هذا المبدأ مادام يملك القوة فإنه لا يرحم ولا يرعي إلاً ولا ذمة .

ولقد وضح هذا الملمح حين كان جمال يتكلم عن طلبة الجامعة وأساتذتها وما أعده لهم من معتقلات أخذ يصف بشاعتها .. كما وضح حين كان يتكلم – وهو يشعر أنه في مركز قوة – فتراه يرفض عروضنا عليه ، وهي عروض كان هو يتمناها من قبل ، وطالما سعي هو إليها . وحين سعي وجد منا قلوبًا مفتوحة ، وعواطف فياضة ، وتغاضيًا عن الإساءة .. وناهيك ما كان منا عقب خروجنا من المعتقلات في مارس 1954 ونحن في أوج القوة وهو في حضيض الضعف ،وطلب أن يزور المرشد في بيته ، فرحب المرشد بلقائه ونسينا ما كان من إساءته التي بسطنا الحديث عنها من قبل . وعلي كل فإن الملمح الذي بدا لنا منه ما بدا في هذا الاجتماع وكان مجرد كلام وتهديد ، مما جعلني أتشكك في أصالة هذه الصفة المرذولة في نفسه ، وأحسن الظن فأتصورها مجرد عارض نفسي تنزع إليه بعض النفوس في أثناء الحديث لتظهر أمام مستمعيها بمظهر يتسم بالقوة والبطش .. ولكن الأحداث بعد ذلك أبانت عن أن حسن ظننا لم يكن في موضعه ، وأثبتت أصالة هذه الصفة في نفسه ، بل وضحت أنها الصفة المسيطرة عليه ، والتي تتحكم في جميع تصرفاته وخطواته .

• القرارات التي اتخذت :

في نهاية هذه الجلسة الطويلة المضنية كان لابد لنا من الوصول إلي اتفاق محدد ، وكان أملنا جميعًا – نحن الإخوان – أن يكون اقتراحي الذي ذيلت به مذكرتي هو الذي يتم عليه الاتفاق . وتكون مهمتنا – نحن المجتمعين – أن نبحث تفاصيل تنفيذه – ولكن جمال فاجأنا في نهاية الجلسة برفضه هذا الاقتراح بل رفض أي اقتراح للصلح قائلاً :

" إن الدعوة إلي إجراء صلح بيني وبينكم فات أوانها . ولم تعد الثقة التي هي أساس الصلح موجودة " . وتناقشنا معه حول هذه النقطة نقاشًا طويلاً غير أنه أصر علي الرفض ، وما كنا نملك شيئًا بعد أن صار هو يملك جميع أوراق اللعب في يده ونحن لا نكاد نملك منها شيئًا . قلنا : إذن لم كان هذا الاجتماع ؟ ولو علمنا أنك ترفض الصلح لما أتعبنا أنفسنا . ولكن الأستاذ الطحاوي والأستاذ طعيمة أبلغانا أنك قرأت المذكرة ووافقت علي ما جاء بها .. وعلي هذا حضرنا ، فقال : أنا وافقت علي المذكرة كمبدأ . فالصلح هدف . ولكنه الآن ليس الهدف المباشر . ولكن الهدف المباشر الآن سيكون مقدمة الصلح ، وإذا استطعتم أن تقوموا بأعباء الهدف المباشر انتقلنا إلي الصلح .

قلنا : ما هو الهدف المباشر ؟

قال : كل الذي أستطيع أن أبذله لكم الآن أن أعقد معكم هدنة ، فإذا نجحتم فيها كان لكن أن تطلبوا الصلح .

قلنا : وما شروط هذه الهدنة ؟

قال : هما شرطان :

1 – أن توقفوا حملتكم علي اتفاقية الجلاء .

2 – أن توقفوا إصدار النشرات .

قلنا : ولنا شرطان مقابلان هما :

1 – أن توقف الاعتقالات والتشريد .

2 – أن توقف الحملة الصحفية .

قال : أنا موافق علي شروطكم إذا وافقتم علي شروطي .

قلنا : نحن موافقون .

قال : إذا نفذتم الشروط فلنا اجتماع آخر بعد اجتماع الهيئة التأسيسية – أما إذا لم تستطيعوا تنفيذ الشروط فلا اجتماع ولا تلوموني بعد ذلك .

وهنا اختتمت الجلسة وخرجنا وكلنا أمل في الوفاء بما اشترط علينا لنخرج بالدعوة من هذا المأزق الخطير الذي وضعت فيه .

كان مبيتي عادة حين أكون في القاهرة عند الأخ الحبيب – رحمه الله – الدكتور جمال عامر زميلي القديم في الدعوة وعضو الهيئة التأسيسية وصاحب صيدلية الصليبة بالقاهرة .. فلما ذهبنا في تلك الليلة إلي البيت وجدنا في انتظارنا الأخ عبد العزيز كامل ، الذي ابتدرني قائلاً : إنني كنت في انتظارك علي أحر من الجمر ، لأنني أقدر أهمية هذه الجلسة وأؤمل فيها خيرًا للدعوة ، وقد قدمت لأعرف منك ما تم وأعرف رأيك شخصيًا في جمال عبد الناصر فحدثته بكل ما تم في الجلسة كما شرحت له وجهة نظري في شخصية جمال عبد الناصر علي الوجه الذي أجملته في هذه المذكرات ، ولكنني أقرر أن ما حدثت به الأخ عبد العزيز لابد أنه كان أوفي وأشمل لاسيما وأنا أثبت ما أثبته في هذه المذكرات بعد مرور اثنين وعشرين عامًا علي هذه الأحداث .. وأذكر أنني أنهيت حديثي إلي الأخ عبد العزيز بقولي : إنني أري أن شخصية جمال عبد الناصر كانت تستحق منا دراسة أكثر وعناية في التعامل معها أكثر مما كنا نوليها .


الباب الرابع عشر : اللغم الذي دمَّر واضعيه ودمَّر الجميع


الفصل الأول : اجتماع الهيئة التأسيسية

ما يعد باقيًا في خاطري التاريخ الذي انعقدت فيه الهيئة التأسيسية ،و لكنني أقرأ في الكتب التي تصدر في أيامنا هذه أن تاريخ هذا الاجتماع كان في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1954 . وعلي العموم فالذي أذكره أن اجتماعنا بجمال عبد الناصر كان قبل اجتماع الهيئة التأسيسية بيومين أو ثلاثة علي الأكثر . وكنت متفائلاً بعد خروجنا من بيت جمال لثقتي في أن يؤدي اجتماع الهيئة إلي معاونتنا في تحسين الموقف أو في التخفيف من حدته للأسباب الآتية :

أولاً : أن الوفد الذي مثل الإخوان في الاجتماع بجمال كان فوق الشبهات إذ يضم أعرق الإخوة في الدعوة ، وأعلاهم ثقافة ، وأشدهم غيرة ، وأقدرهم علي تقدير الموقف ، وهم موضع احترام الجميع .

ثانيًا : أن الذي سيرأس الجلسة ويدير النقاش فيها هو الدكتور خميس نائب المرشد وهو أحد أعضاء الوفد .

ثالثا : أنني اتفقت مع الدكتور خميس في ترتيب بنود جدول أعمال الجلسة أن يكون عرض مذكرتي أول هذه البنود ، وأن يتيح لي فرصة قراءة هذه المذكرة وشرحها – وكان هو واثقًا بأن قيامي شخصيًا بهذا الدور كافٍ أن يقنع إخوان الأقاليم وهم الكثرة الغالبة من أعضاء الهيئة ، وكان ثقة الدكتور خميس هذه مبنية علي ما كان يعرف من حب هؤلاء الإخوان لي ، وتقديرهم لآرائي ، لحسن ظنهم بي في عزوفي عن المناصب ، وإيثاري البعد عن مواطن الشهرة ، ولأنهم يعلمون أنني ملم من أسرار الدعوة بما لا يلم به أكثر قادتها .

هذا هو ما كان يبعث في نفسي التفاؤل بما قد يتمخض عنه هذا الاجتماع أما العقبات التي كانت مائلة أمامي ولابد من اقتحامها لإنجاح الاجتماع فهي :

أولاً : أن إخوان الأقاليم من أعضاء الهيئة التأسيسية يكادون أن يكونوا في عزلة عن حقائق ما يجري في القاهرة فهو خالو الأذهان عنها ، وكل ما يصل إلي أسماعهم هو نشرات تشحنهم شحنًا يعدهم لدخول معركة فاصلة .

ثانيًا : أن الظروف لم تنح لنا فرصة للمرور علي هؤلاء الإخوان في الأقاليم لشرح حقائق الموقف لهم حتى يحضروا الجلسة وهم ملمون بكل أطراف الموضوع . وكان هذا الإجراء ضروريًا لولا أن ما وصلنا إليه من نتائج لم نصل إليه إلا قبل يومين فقط من موعد انعقاد الهيئة المحدد من قبل .

ثالثًا : أن المرشد العام مستمر في إصدار النشرات والبيانات من مخبئة لتزيد النار اشتعالاً ومعلوماته ناقصة عن حقائق الموقف وما استجد بعد اختفائه من معلومات تدل علي أننا مكشوفون للطرف الأخر دون أن ندري .

رابعًا : أن الإخوة المسيطرين علي المركز العام والمتصلين بالمرشد في مخبئه لا يريدون أن يقتنعوا بوجهة نظرنا ، بل إنهم يرون في تحركنا تخاذلاً وانحرافًا ، وإن كانوا لا يبدون به ، ولكن تصرفاتهم إزاءنا كانت توحي بذلك . كما توحي بانعقاد عزمهم علي أن يخوض الإخوان المعركة علي أساس من معلوماتهم القاصرة ، ولا قبل لهم بسماع آراء أخرى ، ولا بالسماح بتوصيل هذه الآراء إلي المرشد العام ، اعتقادًا منهم بأن هذه الآراء تفت في عضد الإخوان ، وتعوق الخطة التي وضعوها لشحن الإخوان وإعدادهم لخوض المعركة . مفاجأة المفاجآت أو انفجار اللغم

كنا قد أبلغنا إخواننا المسئولين بالمركز العام بنص ما تم الاتفاق عليه من قرارات في اجتماعنا بجمال عبد الناصر فور انتهائنا من هذا الاجتماع . وكان أملنا أن يعاوننا إخواننا هؤلاء في النهوض بما يخصنا نحن الإخوان من هذه الشروط أو القرارات ، وأهم ما فيها إيقاف النشرات ، وهم وحدهم القادرون علي تنفيذ هذه الشروط ، لأنهم هم المتصلون بالأستاذ المرشد . ولكن الذي حدث كان عكس ما توقعناه ، ففي الليلة المقرر عقد جلسة الهيئة التأسيسية فيها وفي أثناء توارد وفود إخوان الأقاليم ، وقبل موعد الاجتماع بنحو ساعة فوجئنا بمنشور صادر عن المرشد العام يوزع علي هؤلاء الإخوان ، يحرضهم فيه علي مواجهة رجال الثورة ويرميهم بما يشبه الكفر . ومع أن هذا المنشور كاف أن يقوض كل ما بنيناه ، فإننا لم نيأس لأن آمالنا كانت معقودة علي جلسة الهيئة التأسيسية التي نشرح للأعضاء فيها الموقف شرحًا يبصرهم بما خفي عنهم من جوانبه ونواحيه ، ثم نكلهم بعد ذلك إلي عقولهم وضمائرهم .. وهم نعم الأكفاء . رأينا الأخ الأستاذ عبد القادر عوده يصعد هو الآخر إلي المنصة ، وينحي الأخ الدكتور خميس – رحمهما الله – في غير رفق ويقول له : أنا أحق منك بإدارة الجلسة . ولشدة المفاجأة ، وهول المباغتة ، وخشية أن يُؤَوَّل الموقف علي أن الإخوان يتنازعون المناصب ، تنحي الدكتور خميس .. وسكتنا – نحن الحاضرين – ونحن في ذهول من هذا التصرف المفاجئ وما فيه من تعد علي الحقوق وخروج علي النظام . وقلنا في أنفسنا : ربما كانت في نفس الأخ الأستاذ عبد القادر بقية من تأثر لما اتخذه الأستاذ المرشد إزاءه حين كان مفتونًا برجال الثورة .. فلعل تبوأه منصب رياسة هذه الجلسة يمحو من نفسه هذه البقية .

• خطة مدبرة :

ولمن ما لبثنا بعد برهة أن فهمنا أننا قد تورطنا بحسن الظن ، وعملنا أن المسألة لم تأت عفوًا ، ولا جاءت بدافع شخصي ، وإنما هي خطة مدبرة .. تكشف لنا أن إخواننا المسئولين في ذلك الوقت عن المركز العام لما يئسوا من أن أسحب مذكرتي أو أن أتراجع عن خطتي ، رتبوا خطة أخري لإحباط جهودي وجهود من معي .. وكما كان الأخ الأستاذ عبد القادر – رحمه الله – هو رسولهم إليّ في محاولتهم الأولي ، فقد اتخذوا منه هو نفسه الأداة المنفذة للخطة الجديدة . وهي خطة مضمون لها النجاح ، لاسيما وقد احتفظوا لها بالسرية التامة ، وأحاطوها بستار كثيف من الكتمان – كما أنهم كانوا واثقين من أننا مهما قلبنا الأمور ، واستعرضنا مختلف الاحتمالات – لأننا في استعراضنا للاحتمالات لم ولن نخرج بها عن حدود ما يمكن أن يحدث في المجتمع الإخواني القائم علي المثل العليا والخلق الرفيع – فلن يخطر ببالنا هذا الذي بيتوه . ولكن يبدو أن إخواننا هؤلاء في هذه المرة – وإني أعدها منهم سقطة – قد استباحوا القاعدة الميكافيلية التي تقول : إن الغاية تبرر الوسيلة .. فأمام ما اعتقدوا أنهم علي الحق ، وأن طريقهم هو الطريق الأمثل لمصلحة الدعوة ، وعلي أساس أن التيار لهم صار من القوة بحيث لا يستطيعون التصدي له بالأساليب المشروعة .. لجئوا إلي أسلوب وإن كان غير كريم إلا أنه يضمن لهم تحقيق ما يأملون .

• تفاصيل الخطة :

والذي أكد لنا أن هذا الذي فوجئنا به إنما هو خطة مدبرة ، وخطوات مدروسة ، وأسلوب تمخض عن بحث مستفيض ، هو أن الأستاذ عبد القادر حين استوي علي المنصة تناول من الدكتور خميس الورقة المكتوب فيها جدول الأعمال ، وكان أول بند فيها عرض مذكرتي وقيامي بشرح الموضوع من جميع جوانبه ، ويلي هذا البند بنود أخري عادية .. فإذا بالأستاذ عبد القادر يبدأ مخاطبة أعضاء الهيئة بقوله :

" يشتمل جدول الأعمال علي البنود الآتية : بند موضوع العلاقات بيننا وبين رجال الثورة ، وهناك لجنة وكل إليها أمر الاتصال بهم منذ قامت الثورة ويجب أن نسمع منها ما تم في هذا الصدد . فقام بعض أعضاء الهيئة القاهريين الذين يعلمون أهمية قراءة مذكرتي وقالوا : نسمع أعضاء اللجنة ، ولكن يجب أن نسمع مذكرة فلان أيضًا لأنها في غاية الأهمية . فقام آخرون قاهريون – وهم من الإخوة المسئولين عن المركز العام في ذلك الوقت – وقالوا : لا داعي لقراءة مذكرة فلان .. وكانت نبرات صوتهم بأن زمام المبادرة أضحي في أيديهم . ويبدو أن اتصالاً كان قد تم بين هؤلاء وبين إخوان الأقاليم ألقي في روعهم أن مذكرتي ومن يؤيدها ليست في مصلحة الدعوة .. وإذا لم يكن قد تم هذا الاتصال فيكفي لإثارة شعورهم ولإشعال حماسهم ضد كل ما فيه معني تقريب وجهات النظر ما تلقوه صادرًا عن الأستاذ المرشد ساعة حضروا لي المركز لحضور الاجتماع . وطال الخلاف بين أعضاء الهيئة ، واحتدم النقاش ، وتعالت الأصوات حول موضوع المذكرة .. وكان الفصل الأخير من المسرحية التي وضعت بدقة ، وأخرجت بإحكام أن قال الأستاذ عبد القادر واثقًا :

" حسمًا للخلاف نلجأ إلي الهيئة ونأخذ الأصوات هل تقرأ مذكرة فلان أم لا تقرأ " وأخذت الأصوات فكانت الأغلبية في جانبهم ، وهو ما كانوا واثقين منه ، وإلا لما لجئوا إلي هذا الأسلوب .

• تم إجهاض جهودنا :

وبذلك تم إجهاض جهودنا ، وبدأ اليأس يدب إلي نفوسنا ، وفكرنا في مغادرة الاجتماع ، ولكننا خشينا أن يؤخذ ذلك علي أنه نوع من التمزق في صفوف الإخوان . ومع أننا نحن وحدنا دون بقية إخوان الهيئة الذين كنا نعلم ما سوف يحيق بالإخوان من التنكيل بعد إهدار آخر سهم في جعبتنا لإنقاذ الموقف ، فإننا قررنا أن لا ننجو دونهم من أن نكون معهم حطامًا لنيران أوقدوها أو ساعدوا علي إيقادها ثم حالوا بيننا وبين محاولة إطفائها . وقد يسأل سائل ما الذي قبل في الاجتماع وما القرارات التي انتهي إليها ؟ ونجيب هذا السائل فنقول : إنك تستطيع أن تستنتج كل ذلك من اجتماع كانت مقدماته ما عرفت ..

• الأسلوب الحكيم :

لمات تم الفصل الأول من المسرحية ، وانتقلت إلي فصلها الثاني وعنوانه التهاتر بين الممثلين والمشاهدين – الذي لم يخرج عن كونه تراشقًا بالألفاظ ،وإن كانت الصحف ظهرت في صبيحة اليوم التالي تصوره علي أنه كان تماسكًا بالأيدي – اقترح عليّ بعض إخواننا أن أطلب الكلمة وأعراض فكرتنا ولكنني رفضت وكان رفضي يقوم علي الحجة التالية :

كان الجو في أعلي درجة من درجات التوتر .. وفي مثل هذا الجو لا ينبغي لصاحب رأي معارض أن يعرض رأيه ارتجالاً ، وإنما لابد من أن يكون العرض عن طريق مذكرة مكتوبة .. وهو ما قصدت إليه من كتابة المذكرة ، ومن أن أبدأ عرضي لرأيي بقراءتها عليهم ، لأن المذكرة حين كتبتها راعيت فيها تنظيم الأفكار وتسلسلها ، ومراعيًا فيها مخاطبة العواطف تارة ، ومخاطبة العقول تارة أخري ، كما راعيت أن تكون موجهة مني للمرشد العام وفي هذه طمأنة للسامعين . ويبدو أن هذه المعاني كانت بعض ما دفع إخواننا هؤلاء إلي الحيلولة دون سماع إخوان الهيئة هذه المذكرة مني ، فلا يكون أمام إخواننا المناصرين لفكرتنا في الإصلاح إلا الارتجال الذي – في هذا الجو – لا يكاد يبين .. وقد تنبهت لهذا فرفضت أن أتكلم في هذا الجو مرتجلاً .

• القـرار :

وخلاصة ما كان ، أن ظل الاجتماع ما ظل لا تسمع إلا تهاترًا ، هذا يطلب محاولة الإصلاح ، وآخرون يردون عليه بصوت أعلي يرفضون الإصلاح ثم كان القرار وهو : " تكليف اللجنة التي كان موكولاً إليها الاتصال برئيس الحكومة ، وإخطار الهيئة بنتائج هذا الاتصال في اجتماع الهيئة التأسيسية القادم " ولا أذكر التاريخ الذي حدد له .

• معني هذا القرار :

ومعني هذا القرار هو أنك تريد أن ترغم الجانب الذي أضحي بيده زمام المبادأة علي التحدث مع لجنة أعلن رفضه الاتصال بها من قبل ، متهمًا أعضاءها بتهم مختلة منها سوء النية ومنها عدم الأمانة في نقل الأحاديث .. تريد أن ترغمه علي استقبالها والتحدث معها وإلا فلا كلام معه . وأنا أعود هنا وأقرر أنني شخصيًا لا يخامرني شك في هؤلاء الإخوة أعضاء لجنة الاتصال في حسن نيتهم وفي أمانتهم في النقل ، ولكنني مع ذلك أري أن هناك بواعث نفسية لا يمكن إغفالها ، تتدخل في العلاقات بين الناس بعضهم مع بعض ، فتجعل إنسانًا مقبولاً عند شخص من الأشخاص ، ولا تجعله هو نفسه مقبولاً لدي شخص آخر .. وكل من الشخصين ينتحل أسبابًا يبرر مسلكه نحو هذا الإنسان .. وقد لا تمت هذه المبررات إلي الواقع بصلة . أما في الصلات الفردية . فقطع الفرد صلته بفرد آخر لا يقبله أمر سهل . فقد يجد الفرد عشرات من الأفراد آخرين يقبلون ويرحبون ، وفي هذا يقول الشاعر :

كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا

أما أصحاب الدعوات في علاقاتهم مع الحاكم – إذا ما أريد تحسين العلاقات أو التخفيف من التوتر أو تفادي أزمة – فعليهم أن يكونوا من المرونة بحيث لا يصرون في جميع الظروف ومختلف الأحوال علي أن يكون الاتصال مقصورًا علي أشخاص معينين ، مهما أظهر الحاكم ضيقه بهؤلاء الأشخاص – بل عليهم أن يبادروا من تلقاء أنفسهم باختيار آخرين وآخرين حتى يصادف وفد منهم قبولاً نفسيًا من الحاكم فيصل معه إلي حلول للمشاكل المستعصية . وأذكر في هذا المقام ما سبق لي قوله في الجزء الثاني من هذه المذكرات حين كنت أتحدث عن حسن البنا فقلت إنه كان من المرونة وسعة الأفق بحيث كان لديه لكل موقف الكثير من البدائل ، وحسبك أن تعلم أنه أمام محنة 1948 لم يكتف بتوسيط الأحباب والأصدقاء بينه وبين الحكومة بل لجأ في بعض الأحيان إلي الأعداء متغاضيًا عن سابق مواقفهم – وأعتقد أن المرشد العام حسن الهضيبي لو أن الظروف أتاحت له أن يلم بما جد من تطورات لما وافق علي سياسة الجمود التي مثلها قرار الهيئة ولو جد في سياسة البدائل ما يعين علي الخروج من المأزق .

• أخطر المشاكل سببها العقد النفسية :

وتبرئة لإخواننا هؤلاء من أعضاء لجنة الاتصال مما رماهم به جمال عبد الناصر من تهم أقول : إن بعض هؤلاء كان من الإخوان الذين شاءت الأقدار أن يتصلوا بجمال عبد الناصر ، ويتعرفوا عليه ، ويتعرف عليهم قبل الثورة .. وهم الذين شهدوه وهو في أضعف أحواله ، وهم الذين يشعرون أنهم أصحاب الفضل عليه ، ويشعر هو نفسه حين يلقاهم أنه يتكلم مع أشخاص يشعرون نحوه بهذا الشعور .. وجمال عبد الناصر لا يطيق – وقد ملك – أن يري إنسانًا تذكره رؤيته بسابق فضل له عليه ، لأن طبيعته تأتي أن يري إنسانًا أعظم منه ، ولعل هذا كان الدافع الحقيقي الذي دفعه إلي :

1 – إخراج القائمقام يوسف صديق من مجلس الثورة لأنهما أعلي منه رتبة عسكرية ، وللثاني فضل إنجاح الثورة بإلقائه القبض علي هيئة قيادة الجيش ليلة الثورة .

2 – إخراج اللواء محمد نجيب من مجلس الثورة ومن جميع المناصب واعتقاله لأنه أعلي منه رتبة وأكثر منه شعبية .

3 – إخراج جميع الضباط تقريبًا – الذين تعلو رتبتهم العسكرية رتبته – من الجيش وإلحاقهم بأعمال مدنية .

4 – وضع خطة لإخراج بقية زملائه في مجلس الثورة إذا ما بدا من أحدهم ما يشعر معه أن له كيانًا بجانبه .

.. ومن أصدق ما يعبر عن هذه الحالة النفسية في جمال عبد الناصر ما جاء في كتاب : " صفحات من التاريخ " للأخ الأستاذ صلاح شادي في صفحتي 196 ، 197 ، حيث يقول :

" عجيبة هذه النفس البشرية إذا أصابها الكبر ، ولم تعوزها الحاجة إلي الله ، وكنت أعلم أنه (يقصد جمال عبد الناصر) لا يحب مني أن أبدو أمام الناس معه علي المستوي الذي تنهض عليه علائقنا الحقيقية ، فالناس من حوله يقومون ولا يقعدون ، وترتعد فرائصهم ولا تسكن ، وتنحني جباههم ولا تنهض ، وتسره هذه الانحناءة لشخصه فيضفي علي صاحبها حينئذ رضاء . وعلي العكس كان يري في كل من يرفع رأسه عدوًا ولا يسأل بعد ذلك ماذا يقدم ، فكل ما يقدمه مرفوض لأن رأسه المرفوعة كانت تعني عنده عدم الولاء . وكنت أسمع شعاره الذي أطلقه " ارفع رأسك يا أخي " فأوقن أنه شعار بلا مضمون ، بل انفعالة معكوسة لحقيقة ما يضمر من كبر . ولم يفت عني أنني أستطيع وده بقليل من الإغضاء ومزيد من الإطراء .. ولكن لا أكون في هذه الحالة منسقا مع نفسي وكرامتي وفضائلي " .

.. وأرجع إلي السياق فأقول : لذا لم يكن غريبًا من جمال عبد الناصر أن يضيق ذرعًا بلقاء إخواننا هؤلاء باعتبارهم الممثلين الدائمين للإخوان في التفاهم معه . وهو طبعًا لا يستطيع أن يذكر السبب الحقيقي لضيقه بهم ، فيبرر ذلك باختلاق أسباب هو نفسه ينكر صحتها في قرارة نفسه .

كل هذه المعاني كنت أحب أن أشرحها للأستاذ المرشد العام الذي حيل بيني وبين الالتقاء به ، وهو وحده كان القادر علي استيعاب هذه المعاني لأنه رجل دقيق الفهم ، حسن التقدير ، يعرف كيف ينتفع بما يسمع .. لاسيما إذا كان يسمع من إنسان لم يجرب عليه انحرافاً مع هوى أو جريًا وراء منفعة شخصية .. ومن حق التاريخ عليّ أن أذكر هذا الرجل أنني ما أشرت عليه برأي إلا درسه معي دراسة انتهت بالأخذ به ، مع أنني إذ ذاك أكاد أكون في سن أبنائه ، فهو لم يكن رحمه الله بالرجل المستكبر ولا بالمستبد بل يتوخي دائمًا الرأي الأصوب عن طريق المناقشة والمشورة .


الفصل الثاني : في انتظـار الكارثـة

لم يكن إخواننا هؤلاء ولا إخوان الأقاليم يتوقعون ما كنا نتوقعه من أهوال ستنصب علي رءوسنا صبًا ، لأنهم حجبوا أنفسهم عن الحقائق ، ورضوا أن يعيشوا سابحين في الأوهام ، ولم يصدقوا ما أذرتهم من أن أسرارنا مكشوفة لهؤلاء الناس .. وأرادوا أن يفرضوا علي الواقع ما تخيلوه من أوهام . والتضحية بالنفس والمال لا تغلو علي الدعوة ، بل إنها أمنية ترنو إليها نفوسنا جميعًا – ولكن ليس معني هذا أن يطالب الإخوان بتقديم تضحيات دون مبرر ، فإذا كانت هناك مندوحة لإرجاء هذه التضحيات أو لتقليص حجمها فيجب أن نضن بكل قطرة دم بل وبالخدش مجرد الخدش يصيب أخا من الإخوان ، ما لم يكن الضن به عقوقاً للدعوة ، وتضييعًا لحقها ، وفي الحديث " ما خُير رسول الله صلي الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثمًا " . ولقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم حريصًا علي حقن دماء أصحابه ، فلم يقاتل بهم مكشوفين للعدو ، ولم يقدهم إلي زحف إلا بعد أن يتحسس لهم الطريق ، ويرسل السرايا لتعرف له قوة العدو ، ومواضع الضعف فيه ، وقد يبعث إليهم من يعطيهم معلومات مضللة عن جيش المسلمين .. فإذا اطمأن بعد كل ذلك باغت العدو بالزحف باذلاً من جيش المسلمين أدني حد من التضحية محققاً أعظم قدر من النصر .

وهكذا كان يفعل الإمام الشهيد .. وسبق أن أوضحت في أبواب سابقة إلي أي حد كان حرصه علي دماء الإخوان وعلي مالهم ووقتهم – وما أخال المرشد العام حسن الهضيبي إلا كان فاعلاً مثلما فعل الإمام – إلا أن اختفاءه حال دون تزويده بمعلومات لو أنه علمها لما اتخذ من الإجراءات ما اتخذ . غادرنا اجتماع الهيئة التأسيسية ونحن نقول : وداعًا أيتها الدار .. كنا نعرف ما نحن مقبلون عليه ، وما ينتظر الإخوان في كل مكان من ظلم وصف وتنكيل – ولكننا أو أقول في نفسي بالذات إنني كنت مرتاح الضمير لأنني بذلت آخر ما في وسعي لدفع النكبة عن إخوان لي في القاهرة والأقاليم ولكنهم رفضوا فكنت وإياهم كما قال الشاعر العربي :

أبتغي إصلاح سُعدي بجهدي وهي تسعى جهدها في فسادي

وقد أيقنت أن لن يكون هناك اجتماع بعد اليوم .. فقررت أن أترك عملي وأسافر إلي بلدتي رشيد أطلب إجازات حتى أستنفذها ثم أظل بها حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً . وسافرت إلي رشيد أنتظر ما تتمخض عنه جهود إخواننا الذين نجحوا في إجهاض مساعينا – فكان أول خطوة قاموا بها أنهم ذهبوا يطلبون مقابلة جمال عبد الناصر ، ولكنهم انصرفوا حين جاءهم رسول منه يقول لهم : إن الرئيس يرفض مقابلتكم .

• في رشيد :

كانت إقامتي في رشيد إقامة الثاكل المحزون .. كلما انتهت إجازة مرضية طلبت أخري في انتظار حلول الكارثة التي لا أعرف كنهها ولا أعرف مداها .. ولكني كنت ألمح مقدماتها في الحملة الصحفية المكثفة التي كنت اعتبرها أمضي سلاح يشهر في وجه الإخوان ، لاسيما ووسائل الإعلام كلها محتكرة للحكومة ومحرمة علي الإخوان .. وقد كان هدفي من جهودي كلها هو إتاحة فرصة للإخوان يفلتون فيها من براثن هذه الحملة الظالمة الشديدة التأثير ، في النفوس والعقول ، والتي تهيئ النفوس والعقول لتصورات خاطئة . والكلمة المقروءة والمسموعة أشد تأثيرًا في العقول ، كما أنها أشد فتكًا للنفوس ، من الجيوش الجرارة والبندقية والمدفع .. وإذا كان جمال عبد الناصر قد ضج واستغاث من نشرة صغيرة يصدرها الإخوان سرًا كل شهر .. فكيف بالإخوان وثلاث صحف تصدر كل يوم تسيل أنهارها بفيض زاخر من الأكاذيب والافتراءات ضدهم ومقالات بأقلام مشاهير الكتاب ، فضلاً عن الإذاعة المسخرة لنفس المهمة ، ثم مجلات وكتيبات تطبع مزينة بالصور وتوزع عن طريق الحكومة وعن طريق هيئة التحرير ، كل ما بين دفتيها سم ناقع .. حتى المساجد سخرت للنيل من الإخوان وسبهم وتشويه سمعتهم في خطب الجمعة . فإذا علمت أن هذه الحملة يواكبها حملة استفزازية أخري من الاعتقالات والتعذيب والتشريد والإهانة التي لا تقيم للإنسانية وزنًا .. في الوقت الذي انقطعت فيه الصلات بين شباب الإخوان وبين القيادة التي خطط لها أن تختفي في أحوج الأوقات إلي وجودها .. إذا وضعت كل هذه الظروف المستفزة كلها معًا .. وتصورت أعصاب شباب وصلت من التوتر إلي أقصي حالات التوتر مع الضرب القاسي المستمر عليها .. إذا فعلت ذلك تصورت مالا بد أن يؤدي إليه هذا الاستفزاز من أخطر النتائج .. وهو ما كنت أتوقعه وهو أيضًا ما كان جمال عبد الناصر يسعي إليه ويهدف له .

• شر متوقع :

خلاصة ما أريد أن أقول : إنني ذهبت للإقامة في رشيد وأنا أتوقع شرًا مستطيرًا ولكني لا أدري كيف يقع ولا كيف يكون . فالحملة الاستفزازية الجائحة التي دأبت علي شنها وسائل الإعلام علي الإخوان ليل نهار ودون انقطاع . يقابلها أن للإخوان رصيدًا ضخمًا من الأعمال والسمعة التي لا تطاول يعتز بها الشعب في مصر وفي خارج مصر . وكان اعتقادي أن جمال عبد الناصر بالرغم من تملكه خزائن مصر وجميع وسائل الإعلام ، كما أن طوع أمره وزارة الداخلية بما فيها من أساليب القهر والاستبداد ، فإنه لن يستطيع مهم استعمل من أساليب الإرهاب مع الإخوان فلن يصل بذلك إلي قهرهم القهر الذي يقضي به عليهم ، ولقد جرب ذلك معهم من قبل ففشل . ولكنني لا أنسي أنه هذه المرة في موقف أقوي مما كان عليه في المرة الأولي ، فقد استطاع هذه المرة أن يسيطر علي الصحافة بالذات سيطرة تامة ، باستيلائه علي جريدة " المصري " التي كانت الصحفي الوحيد المتحرر من أسر السلطة ، والتي كانت عاملاً لا يمكن إغفاله في تأييد المطالبين بالحرية .. كما أنه في هذه المرة سيكون أشد حذرًا منه في المرة السابقة ، فقد تعلم من فشله في المرة السابقة الكثير مما لابد أنه سيتجنبه هذه المرة ، فهو مثلاً تعلم أن إلصاق تهم مفتراة علي الإخوان لا يهز ثقة الشعب بهم ، كما تعلم أيضًا أن قرارات الحل التي تصدرها الحكومة لا قيمة لها ولا تنال من البناء الإخواني في قليل ولا كثير . لهذا كنت في حيرة من الأسلوب الذي سيتخذه جمال عبد الناصر هذه المرة بحيث يتجنب أخطاءه التي ارتكبها في المرة السابقة .. ولكن الذي كنت واثقًا منه أن الأسلوب أو نوع الشر المتوقع لابد أن تكون حملة الاستفزاز الجائحة التي شنها منذ حوالي الثلاثة أشهر مقدمة له .. وأنه لابد أن يستثمر هذه الحملة أسوأ استثمار . الأسلوب المبتكر أو حادث المنشية

مع كل ما ذهبت إليه تصوراتي كل مذهب ، ومع إطلاق مخيلتي للسبح في أجواز الخيال لاقتناص أفظع صورة فيه من صور الهول والفزع ، فإنني لم أصادف الصورة التي أعدها جمال عبد الناصر ولا حتى ما هو قريب منها .. ولا أدري حتى اليوم هل هذه الصورة التي انتهت إليها خطته هي نفسها التي كان يعد لها ثم التقي تخطيطه مع الواقع ، أم أنها كانت رمية من غير رام ؟ وقد يبدو هذا التساؤل غريبًا . ولكن القارئ إذا علم أن لكل مقدمة نتيجة لتبددت هذه الغرابة . لقد سبق لي أن ذكرت أن أهم هدف لي في حملتي الإصلاحية كان إزاحة أعصاب الإخوان من الحملة الإعلامية المستفزة التي يشنها جمال عبد الناصر عليهم ليل نهار – ذلك أنني أعلم أن لهذه الأعصاب حدًا من التحمل لا تستطيع أن تتعداه ، ولا تطيق أكثر منه – دأب البشر جميعًا مهما بلغوا من الإيمان والصبر – فإذا تعدي الاستفزاز هذه الحد ، فقد الإنسان السيطرة علي أعصابه .. ومن فقد أعصابه كان مهيئًا أن يكون ألعوبة في يد عواطفه ، وفي يد من يستغل عواطفه .

وقد كان خوفي أن تصل الإثارة بالإخوان إلي هذا الحد في الوقت الذي كانت فيه سيطرة القيادة غائبة عن الساحة .. وهذا هو الذي دفعني أن أقول لجمال عبد الناصر بالحرف الواحد عن إخوان النظام الخاص حين حمل عليهم " أنت أدري الناس بنفسيات هؤلاء الشبان وأنها لا تتحمل كل هذه الإثارة ، فأعطني فرصة لأهدئ من روعهم ، وأنا أستطيع ذلك بإذن الله " .. ولكنه فيما يبدو كان حريصًا علي أن لا يعطي هذه الفرصة لغرض في قرارة نفسه ، فهو يريد أن يصل بالإثارة إلي منتهاها .. ولا يخفي علي أحد أن محاولة تهدئة هؤلاء الإخوان في خلال هذا الجو الصاخب محاولة فاشلة ولا يقدم عليها عاقل .. وهذا الأسلوب لم يكن يجهله جمال عبد الناصر ومن حوله من المخططين ، ولذا فإنه أصر علي أن لا يتيح لنا الفرصة . وحين اضطر قيدها بشروط كان يعلم مسبقًا أننا سنعجز عن إنقاذها .

في مساء 26 أكتوبر 1954 وضح أن خطة جمال عبد الناصر قد وصلت إلي الهدف الذي كانت تسعي إليه وتوجه الأحداث نحوه .. ذلك أن إذاعة مصر وإذاعات العالم نقلت إلي الناس نبأ مفاجئًا بأن جمال عبد الناصر نجا من محاولة اغتياله ، وهو يخطب في دار هيئة التحرير بالإسكندرية ، وأنه قد تم القبض علي الجاني . كان هذا النبأ مفاجأة للناس جميعًا ، ولكنه كان بالنسبة لي لم يبلغ مستوي المفاجأة ، لأنني كنت أتوقع حدوث شيء .. وإن كان الذي أتوقعه شيئًا أقل من ذلك مثل تفجير قنابل أو نحوها .

• تحليل هذا الحادث :

وإذا كان ينبغي لمن يستعرض الأحداث أن لا يدع هذا الحادث دون تحليل ، فإنني أري الغناء كل الغناء فيما ورد من تحليل في مدخل هذا الجزء من الكتاب علي لسان الإخوة صلاح وصالح وفريد .. وإذا كان لي أن أضيف شيئًا إلي ذلك فإنني أقول :

1 – إذا كان الإخوان يريدون إتيان عمل كهذا ، أفلم يكن الأولي بالقيام به إخوان الإسكندرية ، والمثل يقول " أصحاب الدار أدري بمسالكها " والمفروض فيمن يرشح نفسه لمثل هذا العمل أن يرتب لنفسه خطة الهرب ، ولا يستطيع هذا إلا من له دراية كاملة بمعالم هذا البلد وأدق تفاصيل مسالكها .

2 – لا شك في أن جمال عبد الناصر ومن حوله من حرس حكومي يدخل فيه المباحث العامة والمباحث الجنائية والشرطة العسكرية والمخابرات العسكرية والمخابرات العامة وغيرهم – كانوا يتوقعون كل شيء من ناحية الإخوان لاسيما النظام الخاص كرد فعل لحملاتهم الاستفزازية ، وهم في نفس الوقت ملمون إلمامًا تامًا بجميع شعب الإخوان في القطر كله وبأفراد " النظام الخاص " علي وجه الخصوص ، بدليل أنهم بعد حادث المنشية مباشرة ألقوا القبض علي جميع أفراد هذا النظام فضلاً عن اعتقال غيرهم من الإخوان .. فلو أنهم أرادوا منع محمود عبد اللطيف – وهو معروف لهم بالذات ومعرف لجمال نفسه – من السفر إلي الإسكندرية في ذلك اليوم لفعلوا – فعدم منعهم إياه يشتم منه رائحة التواطؤ أو علي الأقل التغافل لحاجة في نفس يعقوب .. فقد كان يعلمها محمود وقد لا يعلمها وهو يعلمها من يرأسه في النظام الخاص .

3 – لو كان الإخوان يريدون اغتيال جمال عبد الناصر ، فقد كانت أمامهم عشرات الفرص لتنفيذ ذلك دون مخاطرة تذكر – ولو فرضنا أن كل الفرص فاتتهم وأرادوا أن ينفذوها بعد ذلك لما وقع اختيارهم علي تنفيذها في حفل عام يضمن هذا العدد الضخم وهم يعلمون أن رجال المباحث مندسون وسط كل صف من صفوف الجالسين والواقفين ، ولما اختاروا أن يصوبوا إليه مسدسًا من أسفل إلي أعلي علي بعد لا يقل عن عشرين مترًا .. ولكان تصرفهم غير هذا التصرف الذي هو أشبه أن يكون عملاً استعراضيًا منه بأن يكون عملاً جادًا .

4 – إذا افترضنا جدلاً أن هذا العمل قام به أفراد من الإخوان ، فإن إتيانهم إياه بهذه الطريقة يدل علي أنه ليس من تدبير هيئة كهيئة الإخوان المسلمين فيها من المعقول ومن الخبرة مالا يتمخض عن مثل هذه الخط الصبيانية .. وبهذا كان ينبغي اعتباره عملاً فرديًا لا علاقة له بدعوة الإخوان المسلمين ، ولا بهذه الهيئة المترامية الأطراف ، وما كان ينبغي أن تؤخذ هذه الهيئة بجريرة فعل فردي ، بل يؤخذ هؤلاء الأفراد وحدهم بجريرة ما فعلوا .. ولكن يبدو أن الهدف كان مبيتًا لدي أصحاب السلطة .


الفصل الثالث : في أعقاب حادث المنشية

كان حادث المنشية ذروة الحملة الجائحة التي شنها جمال عبد الناصر علي الإخوان المسلمين ، وكانت من وجهة النظر المجردة ذروة انتصاره علي الإخوان الذين كانوا المنافسين الوحيدين له ، والفئة الأخيرة التي تقف عقبة أمام آماله وأطماعه التي لم يكن قد تكشف منها الشعب شيء بعده .. وافتتان الشعب به غشي علي أعين الناس في مصر وخارج مصر ، حتى إنهم حملوا ما تدفقت به أبواق الدعاية المصرية من تحريم الإخوان المسلمين علي محمل الصدق ، ولم يحاولوا أن يعرضوا علي عقولهم ظروف الحادث وما أحاط به من ملابسات .. وأنشئت المحكمة التي كانت محاكمتها للمتهمين بأكبر جريمة أقصر محاكمة في التاريخ وأشدها غموضًا ، ونفذت الأحكام فور صدورها مما يشعر بأنهم يتسترون علي أسرار يخشون أن تتسرب إلي الشعب لو أن هؤلاء المتهمين طال بقاؤهم أحياء .

• قضية من الواقع تعرض نفسها علي العقل :

وبدأت في نفس الوقت بل في نفس الساعة بل في نفس اللحظة حركة مجنونة للقبض علي الإخوان في كل مكان ، بطريقة توحي هي وحدها بأن حادث المنشية كان حادثًا مدبرًا ، رسمه واضعو خطته ، ووضعوا معه خطة القبض ، وأعدوا أسماء من يقبض عليهم ، وسلموا القوائم إلي المسئولين من الأمن ، حتى إذا جاءت ساعة الصفر ألقوا القبض علي الأشخاص الذين تضمنت أسماؤهم القوائم . وإلا فبأي تعليل يمكنك أن تعلل الآتي :

" تقابلت صدفة في السجن الحربي بعد بضعة أشهر من اعتقالي مع الأخ الأستاذ محمد سالم عضو الهيئة التأسيسية وهو من أهالي سوهاج وكان مفتش وزارة التربية والتعليم بها فقال لي : إن حادثة المنشية أذيعت علي الهواء في الساعة الثامنة مساءً .. ,في الساعة الثامنة والنصف وصل إلي بيتي مفتش المباحث العامة بسوهاج وفي يده كشف به اسمي واسمك واسم الأخ الأستاذ طاهر عبد المحسن – وثلاثتنا أعضاء بالهيئة التأسيسية – وقال لي مفتش المباحث إنه قد اعتقل الأستاذ طاهر عبد المحسن ، وجاء لاعتقال ، وقال إنه لا يعرف عنوان إقامة محمود عبد الحليم فأين هو مقيم ؟ فقلت له : إنني لا أعلم أنه جاء إلي سوهاج لأنه لو كان وصل إلي سوهاج لزارني أو علي الأقل لعلمت بوصوله " .

ولموضوع اعتقالي ظروف معينة سأعرض لها بعد ذلك إن شاء الله – ولكنني أوردت هذه المناقشة ليعلم القارئ أن كشوف الاعتقال كانت معدة من قبل ، ولكن تنفيذها كان مرهوناً بوقوع حادث المنشية أو قل موقوتاً بها أو مرجاً حتى تتم إجراءات وقوعه . وهنا يجب أن نوضح ما أشرنا إليه من قبل أن اعتقال الحكومة للإخوان في يناير 1954 بعد حل هيئتهم ، وما تكشف بعد ذلك من براءتهم مما نسب إليهم من تهم – ومن هنا كان لابد من ترتيبات محكمة لوقوع حادث المنشية بهذه الطريقة المسرحية المثيرة التي يراها الشعب كله بعينيه فقد كان الجميع في أنحاء البلاد في تلك الليلة أمام أجهزة الراديو مرهفين أذانهم لسماع خطبة الزعيم التي روجت وسائل الإعلام لها طيلة أيام قبلها .

حتـى تم اعتقـالـي

قدمت في فصل سابق أنني بعد ما تم في اجتماع الجمعية التأسيسية من إجهاض خطتنا لتفادي الصدام أو تأجيله ، قررت أن لا أتخلي عن إخواني وإن كنت أراهم قد تنكبوا طريق الصواب ، حيث أديت واجبي وأرضيت ضميري . وما كان لي بعد ذلك أن أتخلف عن الركب وإن كنت أعتقد أنه متجه إلي ملاقاة المصائب والأهوال ، وقديمًا قال عليّ كرم الله وجهه : " كدر الجماعة خير من صفو الفرد " وكنت وإياهم كما تمثل في هذا الموقف عليّ كرم الله وجهه مع أصحابه بقول أخي هوازن :

أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النضح إلا ضحي الغد

ما كان لي أن أتخلف عن الركب وألاقي ما يلاقي راضي النفس مستريح الضمير ، موقنًا علي كل حال بوعد الله الذي لا بتخلف حين قال : (  ) والإخوان مهما اخطئوا فإن أخطاءهم لا تمس صميم دعوتهم ، ولا تنال من صلابة مبادئهم ، ولا من عمق إيمانهم ، ولا من جلال إخلاصهم سالك والآخر شائك ، فإذا اختلفنا حول أيهما نسلك ، واتفق الأكثرون علي الطريق الشائك فلابد أن نسلكه جميعًا ونصل إلي الهدف أخيرًا ، ولكن بعد أن تتقطع أقدامنا وتتمزق ثيابنا وتدمي وجوهنا وجلودنا .. وهكذا سرنا مع الركب ونحن نعرف ما وراء هذا السير من أهوال .. هكذا كان سفري إلي موطني الأصلي رشيد .

• الصداقات في الريف :

الصداقات عمومًا عامل مؤثر في حياة الناس ، ولكن تأثيرها في الريف أبعد مدى منه في العواصم والمدن الكبيرة .. وحين رأيت بعد اجتماع الهيئة التأسيسية الأخير أن آوي إلي مسقط رأسي رشيد ، شعرت بالتأثير العميق للصداقات بين الناس من أهالي الريف .. وقد تجلي هذا التأثير العميق خلال فترة إقامتي في رشيد علي الوجه الآتي :

   أولاً : مع احتجابي معظم الوقت في البيت فإنني في الفترات القليلة التي كنت أقضيها خارج البيت كنت أشعر بتعاطف كبير ممن ألقي من أهل بلدي – ولعل ذلك نابع من أنهم يعرفون عنا أننا أهل بيت عريق في التدين والتعليم الديني ، ومن الخطب والأحاديث التي كنت ألقيها عليهم في مقتبل أيامي في دعوة الإخوان المسلمين . 

ثانيًا : أن الصداقات التي كانت تربط بين والدي وعمي وبين رجال الإدارة في مركز رشيد ، جعلت هؤلاء الناس يحاولون التستر علي وجودي في رشيد ويحاولون أن يدفعوا عني كل خطر يستطيعون دفعه .. وقد قاموا في هذا الصدد بمجهود كبير لا أنساه وأسأل الله أن يحسن جزاءهم عليه ، فكم كتبوا ردودًا علي المسئولين عند استفسارهم عني .

ثالثًا : صداقة عمي مع مفتش صحة المركز أتاحت لي فرصة إجازة مرضية امتدت نحو خمسة وأربعين يومًا .. ولولا ظروف طرأت سأذكرها إن شاء الله لامتدت أكثر من ذلك . ولولا هذه الإجازات لتغير الوضع بالنسبة لي .

رابعًا : علي أثر وقوع حادث المنشية جاءني أحد أقربائي موفدًا من رجال الإدارة بالمركز – الذين كانوا حريصين علي عدم الاتصال المباشر بي إيثارًا لمصلحتي ومصلحتهم – وقال لي : إن رجال الإدارة يطلبون منك أن تستنكر حادث المنشية وتعلن تبرؤك ممن دبروها .. وقال لي : اكتب هذا الاستنكار وسيصل إلي الصحف عن طريقهم دون أن تعرف الصحف المكان الذي جاءهم منه .

ولما كنت في جميع مواقفي منذ عرفت دعوة الإخوان أوثر التجاوب دائمًا مع العقل والمنطق دون العاطفة ، فقد وجدت ما طلب إليّ وإن كان يلذع قلبي ويتجافي مع عواطفي فإنه يتجاوب مع العقل ويتمشي مع المنطق .. فالحادثة وإن كان لها من الظروف ما يوحي بأنها مسرحية حكومية إلا أن الشعب في مصر وفي خارج مصر خالي الذهن من هذه الظروف ، ولا يعرف إلا أن الذي حدث هو اعتداء غاشم علي رجل لا يزالون يرون فيه تحقيق أمالهم .. فعدم استنكاري للحادث وتبرئي من مدبريه لا يغير من فهم الشعب للحادثة علي الصورة التي تصوروها وإنما سيحرجني ويحرج هؤلاء الرجال الذين يحاولون أن يدفعوا عني خطرًا هو في نظرهم عظيم ، ولكنني كنت أعلم أنه خطر أعظم مما يتصورون ، لأنني أعلم أنني أطوي أحناء ضلوعي علي أسرار كنت ابتهل إلي الله أن يعفيني من موقف اضطر فيه إلي إفشائها لا حرصًا مني علي نفسي وحسب بل حرصًا علي هذه الدعوة .. ولهذا استجبت لما طلبوا وكتبت الاستنكار ونشر في الصحف ، ولا أدري كيف وصل إلي الصحف .

• إشاعة هروب الأخ يوسف طلعت إلي رشيد : بصدد تأثير الصلات أراني مدينًا بدين كبير إلي زملاء لي كرامًا بمصلحة القطن التي كنت أعمل بها ولاسيما للأستاذ حسين الخضري مدير مراقبة القطن وإلي الأخ العزيز الأستاذ أحمد عبد اللطيف نجيب مدير المستخدمين بالمصلحة فقد عملا أولاً علي تعديل نقلي وإرجاعي من مصلحة الأموال المقررة بقنا إلي مصلحة القطن بجرجا وقد قاما بإبلاغي هذا النبأ عن غير الطريق الرسمي – عن طريق صديق – حتى لا تستدل وزارة الداخلية علي مكان وجودي . وقد تبين لي فيما بعد أن وزارة الداخلية حين أرسلت إلي رجالها في سوهاج .. حيث كان يجب أن أكون – لاعتقال ليلة حادثة المنشية وردوا عليها بأنني غير موجود – اتجهت وزارة الداخلية إلي مصلحة القطن تسألها عني وعن مقر إقامتي ، وأرسلت إليها أكثر من خطاب في هذا الشأن ، فكان الأخ الأستاذ أحمد عبد اللطيف باعتباره المسئول عن المستخدمين بالاتفاق مع الأستاذ حسين الخضري يرد عليهم في كل مرة بقوله : إن هذا الشخص ليس بالمصلحة بالاتفاق مع الأستاذ حسين الخضري يرد عليهم في كل مرة بقوله : إن هذا الشخص ليس بالمصلحة .. ومع أن هذا الإجراء خطير ومجازفة من هذين الرجلين الكريمين إلا أن الله الذي كان إرضاءه هدفهما قد سلَّم ، وقد ساعد علي ذلك طبيعة الروتين الحكومي الذي يخفي كثيرًا مما يراد إخفاؤه . وقد نجح هذا الأسلوب نجاحًا كبيرًا فيما يختص بي ، فقد ظللت مجهول المكان قرابة شهر ونصف شهر حتى حدثت الحادثة التالية :

كان مأمور مركز رشيد حين قدمت إليها الأستاذ الحبال وكان رجلاً فيما بلغني طيباً ، وإن كانت الخدمات التي قدمت إليّ في أيامه لم تأت عن طريقه مباشرة ، بل كانت تأتي عن طريق مرءوسيه من رجال الإدارة وهو قد لا يدري عن وجودي برشيد ، حتى طرأ علي الموقف طارئ لم يكن يخطر علي البال .. اضطرب معه حبل الصلات ، بل تقطعت تحت عنف شدته وسائل الصداقات ، واكفهر الجو فجأة حتى صار كالليل البهيم ، ذلك أن القبض علي الأخ يوسف طلعت باعتباره رئيس النظام الخاص كان هدفاً سياسيًا من أهداف حملة الإرهاب التي شنتها الحكومة علي الإخوان عقب حادث المنشية .. وقد قبضوا عليه فعلاً من الإسماعيلية – كما شاع – وأركبوه القطار المتجه إلي القاهرة مع حرسه . ثم قالوا إنه غافل الحرس وقفز من شباك القطار في أثناء سيره وهرب . ثم قالوا : إن بعض الأشخاص أبلغوا وزارة الداخلية أنهم رأوا شخصًا تنطبق عليه أوصافه في ناحية رشيد . وهنا قامت قيامة وزارة الداخلية علي رشيد .. وحينئذ تذكروا أن رشيد هي مسقط رأس محمود عبد الحليم ومقر أسرته . فطلبوا في هذه الحالة الهستيرية لم يكن بد من أن يبلغ رجال المباحث رغم أنفهم عن وجودي برشيد ولكنهم قالوا : إنه كان في رشيد وغادرها منذ فترة .

وكان من أثر ذلك أن اعتبروا هذا إهمالاً من مأمور المركز ونقلوه في الحال وطلبوا من محافظة البحيرة موظف كبير للقيام بمهام مركز رشيد في خلال تلك الفترة العصيبة ، فانتدب المحافظ لهذه المهمة مأمور ضبط المحافظة الذي قدم في الحال وتولي مهمته . ولقد كانت مصادفة طيبة أن اختير لهذه المهمة هذا الرجل بالذات ، فإن الأستاذ عبد العزيز منصور مأمور ضبط المحافظة كان قبل ذلك بسنوات طويلة معاون إدارة مركز رشيد وكان صديقاً حميمًا لوالدي وعمي وكانت بيننا وبينه صلة عائلية ، وهو يعرفني شخصيًا أيام كنت صغيرًا .. وما كادت تطأ قدمه رشيد حتى أرسل في طلب والدي وعمي وأسرّ إليها الحديث التالي :

   قال : إن وزارة الداخلية في حالة هستيرية لما بلغها أن يوسف طلعت رؤى في ناحية رشيد ، وقالت الوزارة لمحافظ البحيرة إنها تعتقد أن يوسف طلعت اختار رشيد لأنها بلد محمود عبد الحليم ،  ولابد أنه يعلم أن محمود عبد الحليم في رشيد ، ولهذا جاء إليه ليختفي عنده .. فإننا نطلب إليك انتداب موظف كبير ليذهب إلي رشيد ويلقي القبض علي محمود عبد الحليم في الحال .. ثم قال الأستاذ عبد العزيز : لما بلغني هذا الموضوع سارعت إلي ما طلبه إليّ المحافظ من القيام بهذه المهمة لإنقاذ ما أستطيع إنقاذه .. ثم قال : أنتم إخوتي ومحمود ابني . وأنا لا أستطيع أن أقبض عليه لسببين : 

أولهما : عاطفتي نحوكم ونحوه .. وثانيًا : لأنه إذا قبض عليه في رشيد فستوجه إليه تهمة إيواء يوسف طلعت ويعتبر حينئذ شريكاً له . ثم قال : ولهذا فرجائي أن يسافر محمود اليوم إن أمكن أو صباح غد علي الأكثر إلي مقر عمله في جرجا ليعتقل من هناك – لأنني سأبلغ الداخلية أنه ليس موجودًا في رشيد وأنه بمقر عمله في جرجا ،وسأرتب مع المباحث تقريرًا بأنه غادر رشيد إلي مقر عمله قبل أن يشاع أن يوسف طلعت رؤى في رشيد . وجاء والدي وعمي ، وأبلغاني ما قاله الأستاذ عبد العزيز منصور ، فقمت في الحال وأعددت حقيبتي إلي جرجا وسافرت في الحال .

• في جرجا :

وصلت إلي جرجا . وكانت أول مرة أنزل فيها ذلك البلد الذي كان في يوم من الأيام عاصمة المحافظة وكان لي في جرجا ابن خالة من أبر وأكرم أقاربي ، هو الحاج سيد أحمد عثمان تاجر الحبوب . ولكنني كنت حريصًا علي أن لا أنزل في بيته . فنزلت في أحد الفنادق . وذهبت في المساء لزيارته فاستقبلني بما طبع عليه من كرم وحسن وفادة وأقسم لأنزلن عنده ، ولكنني أصررت علي الاعتذار وشرحت له الظروف وقلت له في صراحة : إنني قدمت إلي جرجا لأعتقل ، وأنا في انتظار ذلك بين لحظة وأخري ، ولا أحب أن يعرف أنني اعتقلت من بيتك فأسبب لك متاعب بدون داع ولا مبرر . وبعد بضعة أيام لا أذكر عددها الآن ولكنها لا تعدو الثلاثة حضر إلي المحلج حيث هو مقر وظيفتي مأمور المركز وطلب مقابلتي فقابلته فعرفني بشخصيته وقال لي إنه يأسف لأنه كلف بالقبض علي .. وكان الرجل يعتقد أنها مفاجأة لي .

ركبت السيارة مع مأمور المركز . وقد سألني عن محل إقامتي فأخبرته بالفندق الذي أقيم فيه فصعد معي إلي حجرتي ، ولم يكن لي متاع سوي حقيبتي ففتشها ثم ذهبت معه إلي مبني المركز حيث قدمني إلي نائب المأمور حيث بقيت معه في حجرة مكتبه وجلست علي " كنبة عربي " في هذا المكتب في انتظار وصول أول قطار يصل إلي القاهرة .. وقد أمضيت في مكتب نائب المأمور ساعتين قدم لي خلالهما بعض من تعرفت عليهم من العاملين بالمحلج فغمروني بعواطفهم التي لا أنساها حتى اليوم لأن المجاملة في موقف كالذي كنت فيه تعد شجاعة أصيلة وكرمًا بل ومجازفة .. وشعبنا – بالرغم مما رزح تحته من كلاكل الظلم والاستبداد – فإنه لا يزال كثيرون منه محتفظين بما طبعوا عليه من نبل ووفاء .. أما ابن خالتي الحاج سيد فأكل إلي الله وحده حسن جزائه علي ما قدم لي في هذه الفترة العصيبة فقد أرسل إليّ نجله الأستاذ محمد رحمه الله بطعام فاخر وفاكهة ، وظل بجانبي حتى تحرك القطار بل وقد حاول أن يرافقني إلي القاهرة لولا أن أقسمت عليه أن لا يفعل .

   ويحق لي هنا أن أسجل موقفاً يدل علي أن نفوس الكثيرين من هذا الشعب الأصيل هي كالذهب الذي انهال عليه التراب والأقذار حتى طمست معالمه ، وخبا تحت ظلامها نوره .. بينما كنت جالسًا عند نائب المأمور أدخل عنده مجموعة من الناس تمثل فريقين بينهما خصومة ، وقد اعتاد هؤلاء الناس علي الكذب والاختلاق لنفي تهم موجهة إليهم .. وأخذ الرجل يستجوبهم بالحسنى ولكنهم لجوا في أساليبهم الملتوية مما جعله يلجأ هو الآخر إلي معاملتهم بأسلوب خشن استعمل فيه بعض الألفاظ النابية والسباب مع التهديد . لم يكن في كل ما حدث أمامي شيء يستوقف النظر لأنه التصرف المألوف في مثل هذه الحالات ولكن الذي استوقف نظري أنني رأيت نائب المأمور يلتفت إليّ قائلاً : " يا أستاذ لا تؤاخذني في هذه الألفاظ التي لا تليق أن أتفوه بها في وجودك ، وليست هي من طبيعتي ، ولكن معذرة ، فكثرة احتكاكنا بالأشرار علمتنا ألفاظاً كهذه .. وسأل الرجل الله أن يتوب عليه من هذا العمل الذي يؤدي به إلي التفوه بمثل هذه الألفاظ " . 

كان لهذه الواقعة أثر عميق في نفسي لأن لها دلالتين :

الأولي : أن الدنيا لازالت بخير ، وأن في هذا الشعب معادن نفيسة تتمني أن ترفع عن نفسها ما تراكم عليها من أقذار .

الثانية : أن المجهود الذي بذله جمال عبد الناصر لتلويث سمعتنا – نحن الإخوان – سيضيع هباءً بإذن الله .. فنحن في ذلك الوقت كنا تحت نير حملة التلويث ، وكانت هذه الحملة قد وصلت إلي ذروتها ، ثم إنني مقبوض عليّ باعتباري من أئمة الفساد ورءوس الضلال كما كان مكتوبًا في الصحف ، ومع ذلك فالمكلف بالقبض عليّ ينظر إلي نظرة الإجلال والاحترام ، ويعتبرني ممثلاً للطهر والنقاء إلي الحد الذي جعله يعتذر إليّ من ألفاظ وجهها لغيري أمامي .


الباب الخامس عشر : في السجـن الحـربي

الفصل الأول : إلي السجن الحربي

لما جاء القطار الذاهب إلي القاهرة ، ودعني قريبي وعدد من العاملين بالمحلج حتى قام القطار ، وكنت في صحبة معاون بوليس جرجا . وكان إنسانًا لا يقل نبلاً عن زملائه ورؤسائه في المركز – وكان المعتاد في تلك الأيام – مظهرًا من مظاهر الإهانة والتنكيل – أن توضع القيود في يدي المعتقل حتى يسلم إلي السلطات في القاهرة ، ولكن هذا الرجل ورؤساءه رفضوا أن يعاملوني هذه المعاملة .. حتى وصل القطار بنا إلي محطة القاهرة فكان في انتظارنا سيارة من سيارات البوليس أوصلتنا إلي وزارة الداخلية ، حيث سلمني هذا الضابط الكريم إلي المسئولين فيها الذين سلموني بدورهم إلي إدارة المعتقل الذي كان هو السجن الحربي بالعباسية .

(1) الاستقـبال

والاستقبال في السجن الحربي كان مفاجأة ؛ لأنه كان شيئًا غير الذي سمعناه من جمال عبد الناصر وهو يتوعدنا وظنناه يومئذ أنه قد تخطي بوعيده هذا حدود اللائق والمعقول .. ولكن الذي استقبلنا به في السجن الحربي ، كان شيئًا جديدًا في تاريخ مصر .. وكان عارًا لطخ سمعة هذه البلاد تلطيخًَا لن يمحي علي مر الزمن ، لأنه كان إهدارًا للإنسانية والآدمية . عند دخول باب السجن الحربي يقابل المعتقل بعاصفة من الصفع بالأيدي والركل بالأقدام والضرب بالعصي في كل مكان من جسمه ، ثم تحلق رأسه حلقاً يكاد يزيل كل ما بها من شعر ، ثم يؤمر بحمل أمتعته والجري بها إلي زنزانته تحت عاصفة أخري من الصفع والركل حتى يدخل باب زنزانته وتغلق عليه – أما السباب والألفاظ البذيئة التي نغفلها لأنها لا تعد إهانة إذا قيست بما سواها من الإهانات .

(2) الزنـزانـة

أما الزنزانة فهي حجرة صغيرة تقل مساحتها عن ثلاثة أمتار في مترين . أرضيتها من الأسفلت . وبابها قطعة واحدة من الحديد ليس به إلا ثقب صغير في مساحة العين يمكن إغلاقه من الخارج . ومزلاج الباب من الخارج . وليس بهذه الحجرة نوافذ إلا طاقة صغيرة قرب سقفها مساحتها نحو 60 سم × 30 سم شبه مسدودة بأعواد من الحديد . بالزنزانة جردلان أحدهما للتبول والآخر للشرب ، ونظرًا لضيق الزنزانة بنزلائها من المعتقلين رفع جردل شرب الماء منها وأعطي لكل معتقل قلة من الفخار ، فقد وصل عدد المعتقلين في الزنزانة إلي ثمانية أفراد . ومصروف لكل معتقل بطانيتان سوداوان من بطانيات الجيش وعليه أن يدبر لنفسه وسادة يضعها في النوم تحت رأسه ، وكانت الوسادة عادة هي الحذاء المغطي بجزء من إحدى البطانيتين – وهذه الزنازين كانت مجردة من أي شيء ينام عليه ، فليس بها أسرة طبعًا ، ولا ألواح من الخشب ولا حتى " البرش " الذي اعتاد الناس أن يتندروا به رمزًا لمعني الإهانة ، هذا البرش لم يكن موجوداً بل كان النوم علي الأسفلت مباشرة فكنا ننام علي إحدى البطانيتين ونتغطى بالأخرى . وتظل الزنازين مغلقة طول اليوم والليلة ولا يفتح بابها إلا خمس مرات في الثالثة صباحًا أي بعد منتصف الليل قبل الفجر ، وفي الساعة السابعة صباحًا لتقديم الإفطار وفي الواحدة بعد الظهر لتقديم الغداء ، وفي الخامسة مساء لتقديم العشاء ، وتفتح وقت الضحى للخروج إلي الطابور اليومي .

وإذا تصورت ثمانية أشخاص نائمين في هذه الحجرة الصغيرة المغلقة والمحكمة الإغلاق ولا منفذ لها إلا الطاقة الصغيرة قرب سقفها فإنك لا شك تعتبرهم غارقين في عرقهم .. يأتي العسكري فيفتح باب الزنزانة في الساعة الثالثة صباحًا سواء في الصيف أو في الشتاء ، فإذا كان الوقت شتاء فإن الفرق بين الحرارة في داخل الزنزانة وفي خارجها كان أن يصيب أي إنسان بمرض يقضي عليه إذا تعرض فجأة لهذا الفرق مرة واحدة .. فما بالك إذا تعرض له كل يوم .. وإذا فتح الباب فالويل لمن أبطأ في الخروج إلي العراء حيث السقف هو السماء .. يجب أن يكون الجميع في خارج الزنزانة وفي يد كل منهم قلته وفي قدميه قبقابه أمام دورة المياه ، حيث لا يسمح للشخص أن يمكث داخل المرحاض أكثر من دقيقتين ثم يخرج .. والمسموح له بعد ذلك أن يغسل وجهه ويملأ قلته ثم يصعد إلي زنزانته ، ولكننا كنا نتوضأ وضوءًا سريعًا خاطفاً . وكان علينا أيضًا في هذه المرة من الفتح أن نصحب معنا جردل البول لصبه في دورة المياه فكنا نتناوب هذه المهمة – وكان مسموحًا لنا بالاستحمام في هذه الفترة قبل الفجر مرة كل أسبوعين تقريبًا ولكن بدش بارد تكاد تكون برودته في ليالي الشتاء إلي ما يقرب من التجمد ، علي ألا يستغرق الاستحمام أكثر من ثلاث دقائق . والعجيب في هذا أننا قضينا في هذا السجن ما قضينا تحت هذه الظروف القاتلة التي أشرت إلي القليل منها ، ومع ذلك لم يمت أحد منا بل ولم يمرض والحمد لله ، وكان منا الشيوخ والشباب .

• وصف السجن الحربي :

وينبغي قبل أن استرسل في شرح الأسلوب الذي كنا نتعامل به أن أصف السجن الحربي حتى يستطيع القارئ أن يتصوره .

هذا السجن مبني علي ربوة في منطقة العباسية . وهو معد لاستقبال المحكوم عليهم من جنود الجيش وضباطه في جرائم عسكرية خطيرة . وظل منذ إنشائه لا يدخله إلا العسكريون حتى جاء جمال عبد الناصر فجعله لأول مرة معتقلاً للمدنيين . والسجن مكون من عدة أبنية ، كل بناء منها مستقل عن غيره ، ويسمي كل بناء منها سجنًا ، ويميز كل سجن عن الآخر إما برقم وإما بصفة معينة . فهذا سجن (4) وهذا السجن الكبير ، وهذه الشفخانة أي المستشفي – وهناك سجون من دور واحد كالشفخانة وسجون أخري من عدة أدوار وكان الإخوان يشغلون سجن (4) والسجن الكبير . ويبقي بعض السجون وبعض أرض فضاء واسعة جدًا . كما أن داخل كل سجن فناء تتناسب سعته مع سعة السجن . وبجانب البوابة العمومية للسجن توجد المكاتب وهي عبارة عن عدة حجرات متلاصقة من دور واحد بها القائمون علي إدارة السجن وهم مجموعة من الضباط كان علي رأسهم في ذلك الوقت ضابط برتبة بكباشي (مقدم) اسمه حمزة البسيوني هو قائد السجن الحربي .

والسجن الكبير الذي كنت نزيله هو مبني علي أرض مربعة الشكل ومقام علي كل ضلع من أضلاعه المربع بناء من ثلاثة أدوار ، كل دور عبارة عن صف من الزنازين المتلاصقة أمامها ردهة بعرض متر تقريبًا تفتح عليها أبواب الزنازين ، وللردهة سور يطل علي فناء السجن . وبهذا السجن ثلاثمائة زنزانة وبالدور الأرضي توجد دورتان للمياه كما توجد عدة مكاتب – وسجن (4) الذي يشغله الإخوان أيضًا هو علي نسق السجن الكبير وصورة مصغرة منه . وأما فتح الساعة السابعة فهو لتقديم طعام الإفطار ، وقد نسيت ما كانوا يقدمونه لنا في الإفطار ولكن الذي أذكره أنهم كانوا يقدمون لنا الشاي في أقدام من الألمنيوم القذر ، وإني أذكر هذا الشاي دون غيره لأنني لم أكن أشربه لا لأنه في إناء قذر وإنما لأنني أقاطع الشاي من قبل أن أدخل السجن الحربي بسنين طويلة لأسباب ذكرتها في الجزء الأول من هذه المذكرات . وأما فتح الساعة الواحدة بعد الظهر فلتقديم طعام الغداء ، ويتكون عادة من رغيف وحلاوة طحينية وتكاد تكون الحلاوة الطحينية هي أحسن ما كان يقدم لنا من طعام – وفتح الساعة الخامسة مساءً كان لتقديم وجبة العشاء وهي عادة عدس أو خضار مطبوخ مع رغيف وأرز وقطعة من اللحم .

وعلي العموم فإن الطعام الذي كان يقدم لنا كان هو نفسه الذي كان يقدم للجنود مع ملاحظة أن الجنود هم الذين كانوا يتولون طهي الطعام وتقسيمه وتوزيعه فكانوا بطبيعة الحال يؤثرون أنفسهم علينا مستبيحين ذلك نحو قوم يرون في اضطهادهم زلفى إلي رؤسائهم وسادتهم .. وقد رأوا بأعينهم رؤسائهم وسادتهم يرغمون هؤلاء المعتقلين علي أكل الطعام ممزوجًا بالتراب ، ولا يجد هؤلاء المعتقلين خونة للوطن وسفاكو للدماء . وقد علمنا بعد أن ألقي بنا في غياهب السجن الحربي الذين يختارون للعمل بالسجن الحربي يختارون عادة من المشهود لهم بالغلظة والفظاظة والقسوة والجهل ، مع المقدرة علي كيل السباب وبذاءة اللسان . ويميزون علي زملائهم الذين لم يصلحوا للعمل بالسجن الحربي بعلاوة يمنحونها تسمي علاوة الإجرام . وطعام العشاء – والمفروض أنه الوجبة الرئيسية في اليوم لأنه طعام مطهو – لم يكن طهيه أكثر من إلقاء الخضار كما هو تقريبًا في ماء مغلي ولا تستطيع أن تميز أي نوع من الخضار هو ، لأنه لا طعم له .. ومع ذلك كنا نقبل عليه بشهية .

• نسمة وسط الضيق :

ولا يفوتني أن أذكر أننا عند دخولنا هذا السجن عندما استقبلونا بعواصف الإجرام ، كان هؤلاء الجنود حريصين علي سؤال كل منا علي بلده ، فلما ذكرت بلدي تقدم جندي منهم نحوي وأسر في أذني أنه " بلدياتي " أي من رشيد وأنه سيحاول الاتصال بي بطريقة غير مكشوفة .. وقد فعل ,, وكان هذا الجندي " محمود " تخفيفًا من الله عني في هذا الجحيم الملتهب .. وكثيرًا ما كان يحمل مني خطابات لأسرتي ومنها إليّ حتى نقل من السجن بعض بضعة أشهر – ولقد كان هذا الجندي معرضًا لأخطر العقوبات في مجازفته بحمل خطابات مني وإليّ . ومع ذلك فقد كان يجازف هذه المجازفة بغير مقابل .. وفي هذا دلالة واضحة علي أن أبناء هذه البلاد تنطوي جوانحهم علي مشاعر من النبل تختفي تحت ظواهر – قضت بها الظروف السيئة – تتنافي مع النبل والكرم والمروءة .

• فتح الضحى والأغنية المشئومة :

أخرت الكلام عن فتح الضحى وتكلمت عما قبله وعما بعده ، لأن فتح الضحى هذا كان له وضع خاص ، إذ كان هو الهوان الذي ما بعده من هوان ، فإن الكريم يصبر علي الجوع والعطش وعلي العرى وعلي النوم علي التراب ، ولكنه لا يصبر علي أن توجه إليه كلمات تطعن شرفه وتمتهن كرامته .. فما بالك إذا أرغم علي أن يوجه إلي نفسه بنفسه هذه الكلمات .. لقد كان فتح الضحى سحقاً لكرامتنا وتحطيمًا لنفوسنا .. لقد كان السجن أحب إلي نفوسنا من الخروج من ظلام الزنازين وقارس جوها إلي هذا الفناء المترامي الأطراف حيث الهواء النقي والشمس الساطعة والجو الدافئ المطلق الذي هو أعز أمنية يتمناها مسجون .

كنا في السجن الكبير نحوًا من ثلاثة آلاف . وربع هذا العدد كان في سجن (4) .. كانت تخرج في فتح الضحى هذه الآلاف وتصطف صفوفاً .. وتحت سياط الجلادين كان علي طائفة منا أن تنشد بأعلى صوت نشيدًا أو أغنية كانت تغنيها أم كلثوم بعد حادثة المنشية تمجيدًا لجمال عبد الناصر وتحقيرًا للإخوان المسلمين .. وعلي بقية هذه الآلاف المصطفة أن تردد فاصلة واحدة معينة بعد كل فاصلة تنشدها الطائفة الولي . وكل هذا بنغمة الأغنية ، ويظل هذا الإنشاد أكثر من ساعة وقد يصل إلي ساعتين – يتخلله تحول هذه الصفوف إلي طوابير جري سريع تحت وطأة السياط الملتهبة . وكان أشد ما يمزق قلبي أن يقع نظري في أثناء هذه الطوابير علي الأستاذ المرشد العام وهو يجري في الصف كما يجري أصغر شاب منا ، مع أن سنه في ذلك الوقت كان نيفاً وستين عامًا .. ودع عنك أمر السن ، وانظر إلي مكانة هذا الرجل الذي يجري وهو يلهث ويناديه الجلاد في أثناء الجري باسمه المجرد في استهزاء وسخرية . واستمر فتح الضحى علي هذا الأسلوب المهين المتهتك في فنون الإهانة حتى انتهت محاكمات ما سموه محكمة الشعب ونفذوا حكم الإعدام في الإخوة الأعزاء الشيخ محمد فرغلي والأستاذ عبد القادر عودة والأستاذ يوسف طلعت والأستاذ إبراهيم الطيب .

وفي هذا الصدد أنقل من كتاب " جمال عبد الناصر " للأستاذ أحمد أبو الفتح فقرة يتحدث فيها عن صفة حب الانتقام المتأصلة في نفس جمال عبد الناصر إلي حد شاذ جاء في صفحة 238 : " وقد حدث بعد ذلك حوادث كثيرة تثبت هذا الشذوذ لدي عبد الناصر ، فقد حدث في فترة شهر مارس 1954 أن اشترك اثنان من المحامين في المطالبة بالحريات ، وكان أولهما المغفور له عبد القادر عودة الذي انضم للمتظاهرين ترحيبًا بعودة نجيب بعد إبعاده وخطب في الجماهير ، والثاني هو أحمد حسين المحامي وكان قد أرسل برقية شديدة اللهجة إلي عبد الناصر يطالب بتحقيق الحريات . وأمر عبد الناصر باعتقالهما . وفي اليوم التالي للاعتقال طلبت عبد الناصر تليفونيًا فرد عليّ بقوله : أهلاً أحمد .. تعرف العساكر عملوا إيه بعبد القادر عودة وأحمد حسين في السجن ؟ .. فلما سألتنه عما فعلوا بهما قال : ضربوهما بالأحذية حتى كان صراخهما يسمعه جميع من في السجن . لقد كان جمال يروي لي القصة وصوته يحمل كل معاني الفرح والنشوة والسرور .

وفي مقابلة لي معه بعد ذلك عاد إلي ذكر المغفور له عبد القادر عودة فقال إنه لن يستريح حتى يسفك دمه " يسيح دمه " وفعلاً عقب حادث المنشية اعتقله عبد الناصر ضمن من اعتقل من الإخوان المسلمين ، قدمه للمحكمة العسكرية التي شكلها من أعضاء مجلس قيادته وسماها " محكمة الشعب " وأصدرت المحكمة حكمها بإعدامه .. ورغم تدخل جميع رؤساء الدول العربية لمنع تنفيذ أحكام الإعدام ، أصر عبد الناصر علي التنفيذ ونفذ حكم الإعدام " .

أما المرشد العام والأستاذ عبد العزيز عطيه فقد خفف عنهما حكم الإعدام إلي الأشغال الشاقة المؤبدة لتخطيهما سن المعاش – وسحب هؤلاء الإخوة وهم ومن حكم عليهم بأحكام مختلفة إلي السجون المدنية .. وحينئذ بذلوا في تغيير أسلوب فتح الضحى بأن جعلوه طابورًا يجمع نزلاء كل سجن في فنائه علي الجري السريع الممتزج بالإهانة اللفظية والمادية الجسدية .

• هل اجتاز عبد الناصر امتحان الأصالة أم سقط ؟

ولقد كنت أتحدث مع نفسي وأنا واقف في طابور الضحى قبل تنفيذ هذه الأحكام وأقول : إن جمال عبد الناصر قد ظفر بنا بعد المعركة التي دارت رحاها بيننا وبينه ، وها هو ذا قد أخذنا أسري تحت يده . فهل يلهم هذا الرجل ما يلهم الكرام فيسجل لنفسه مجدًا يخلده الزمن ؟

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن

فلازالت الدنيا بأسرها منذ أربعة عشر قرنًا وستظل إلي الأبد تقرأ تمجيد محمد بن عبد الله حين دخل مكة منتصرًا وجئ بأعدائه الذين أخرجوه من مكة بعد أن حاولوا قتله .. جئ بهم إليه ليفعل بهم ما يشاء ، ولينتقم منهم انتقامًا يشفي صدورهم .. فقال لهم : ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم .. فكان رده عليهم أن قال لهم : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " . كنت كل يوم أتحدث مع نفسي وأسائل نفسي هذا السؤال : هل يلهم هذا الرجل ما يلهم الكرام ؟ هذه فرصة ذهبية قلما تتاح للرجال ، وهي فرصة إذا أفلتت فلن تعود . إنه امتحان ينصهر في أتونة النفوس لتظهر علي حقيقتها .. فنفوس معدتها الذهب ، والذهب سيد المعادن فهو لا يخشي من معدن آخر أن يتفوق عليه فيسلبه السيادة ، فهو إذن في غير حاجة إلي إظهار تفوقه بسحقه للمعادن الأخرى ، بل إنه قد يدعوها ، ويوسع لها بجانبه .. فيكون في ذلك تجلَّ لمزاياه ، وتلألؤ لجماله ، وسطوع لرونقه ، وتوهج لبريقه يزيد الناس إعجابًا به وإقرارًا بسيادته . ونفوس معدتها الحديد فهو دائب الغيرة مما حوله من معادن ، يحاول أن يطفئ مل لمعان يبدو منها ، بل إنه يتمني لو تتاح له الفرصة ليوريها التراب ويهيل عليها من تلاله ما يحجبها عن العيون فلا يبقي أمام عيون الناس غيره .. وحينئذ يستطيع أن يدعي إنه ليس حديدًا وإنما هو الذهب .. وإذا فقدت العيون كل معدن نفيس ، لم يعد أمامها إلا أن تقنع بالحديد .

ولكن البلاد إذا اشمخرت وصـوّح نيتها رعي الهشيم

كل هذا كان حديث نفس مع إقرارها بالهزيمة . كانت تتوق إلي أن تري من انتصر عليها وعلي زملائها قد انتصر علي نفسه .. كانت تتوق بل كانت تتحاشى أن تتحول هزيمتها إلي هزيمة لهذا الشعب أمام نفس تعالت عن الخضوع للمثل العليا والمروءة ، وغلبت عليها خستها فأعمتها عن سلوك طريق الكرام الذين قدروا عفوا ، وإذا ملكوا أسجحوا .. وكان من وصية خلفاء الإسلام لقوادهم : " وألا تجهزوا علي جريح " لأن الإجهاز علي الجريح لا ينبئ إلا عن خسة نفس المجهز ولؤم طبعه ووضاعة أصله ؛ لأنه يعلم أن الجريح لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، وهذه من صفات اللئام .. وقديمًا قال الشاعر المسلم :

ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح

وكثيرًا ما ينشب بينك وبين صديق لك من أسباب العداء ما يؤدي إلي القطيعة ، وإلي نيل كل منكما من أخيه ، ولكن حين يتدخل بينكما القضاء ، ويقضي لك علي أخيك فتظفر به ويصير في قبضتك وتشعر بأنه قد سقط في يدك .. حينئذ تنضح عليك أصالتك فتتعفف عن أن ترغم أنفه وهو ملقي بين يديك ، وبدلاً من أن تمد يدك إلي وجهه بصفعة ، تمد يدك إلي وجهه تمسح عنه التراب ، ثم تمد يدك مرة أخري تأخذ بيده لينتصب واقفاً ، وتجلسه بجانبك .. وتظفر الدموع من عيونكما تغسل قلبيكما من آثار ما دب بينكما من شقاق .. ويعتبر الذي كسب الجولة هو الذي فتح ذراعيه لعدوه القديم بعد أن انتصر عليه وأحاط به وملكته الظروف أمره .. ولكن هذا الموقف لا يقفه إلا الكرام الأصلاء وهم الأقلون ذوو القلوب الكبيرة (    ) .

كل هذه الأحاديث كانت تدور في خاطري وأقول لنفسي : لو أن بجانب هذا الرجل أناسًا مخلصين وذوى بصائر لما فاتهم أن يسدوا إليه النصيحة بأن يقتص هذه الفرصة السانحة التي إن فاتت فلن تعود ، وأن يمد يده وهو منتصر فيسجل لنفسه مجدًا خالدًا ، ويجنب البلاد أخطارًا لا يعلم مداها إلا الله . ولكن يوم أعلنوا أمامنا فخورين أحكام الإعدام بعد تنفيذها أيقنت ألا أحد حول هذا الرجل إلا جاهل أو منافق ، وأن الرجل ذاته رجل قصير النظر غلب كبره علي عقله ، والتهمت آماله دينه وخلقه .

سبكناه ونحسبه لجينـًا فأيدي الكبر عن خبث الحديد


الفصل الثاني : مـآثـم لا تـنـسي

1 – أول الآثام ابتداع أن يكون السجن مكانًا للاعتقال :

إن مجرد إيداع المعتقلين في سجن هو خروج عن العرف والقانون . فإذا كان هذا السجن سجنًا حربيًا مخصصًا لمن صدر ضده حكم في جريمة بالغة الخطورة من العسكريين فإنه اعتداء آخر علي القانون .. وكان معروفاً أن العسكري الذي كتب عليه أن يقضي مدة سجن في السجن الحربي هو إنسان كتب عليه الشقاء ؛ لأنه سيقضي مدة سجنه في جهنم العليا . ومحال أن ينسي معتقل دخل هذا السجن ما قوبل به لحظة دخوله مما أشرنا إليه من قبل – وقد يلقي باقي داخله بعد ذلك أشد مما لقي في هذه اللحظة ، ولكن الذي لقيه في هذه اللحظة لا ينسي مهما نسي ما بعدها ؛ لأن المفاجأة المذهلة ، والمفارقة المزلزلة جرحت في القلب جرحًا عميقاً غائرًا لا يندمل .

وقد يتبادر إلي الذهن أن هذا الاستقبال إن هو إلا نوع من التعذيب ، ولكن الواقع ليس كذلك ، فالتعذيب أمر شائع في كل عهود الظلام ، يطلب من الرجل الاعتراف بأمور معينة لمصلحة الحاكم ، ويكون الحاكم نفسه أو معاونوه هم الذين يتفاوضون مع هذا الرجل ، فإذا لم يعترف أمروا بضربه أو تعذيبه بمختلف ألوان التعذيب .. فيكون التعذيب حينئذ نتيجة لمقدمات مهدت النفس لما سوف ينتابها من عنت وإرهاق وإهانة ، ويشعر الذي يحيق به ذلك أنه إنما يحيق به لقاء ثمن هو استمساكه بالحق وصبره عليه .. ثم إن الذين فاوضوه وأمروا بتعذيبه هم أفراد من مستواه الاجتماعي ، أما الاستقبال فهو إهانة بغير مقدمات ، وصادرة من أدني المستويات إلي أعلي المستويات ، أدني المستويات سنًا وثقافة ومكانة في المجتمع إلي أعلاها في كل ذلك .. وقديمًا قالوا : " لو ذات سوار لطمتني ؟! " .

2 – طوابير الإهانة :

أشرت إلي هذه الطوابير التي كانت في أوائل أيامنا بالسجن الحربي ، وقد أعتبرها امتدادًا لإهانة الاستقبال . وأحب أن أزيد علي ما قلت أنني حتى بعد أن انتهت مدة اعتقالي وخرجت إلي الحياة كنت لا أطيق أن تطرق سمعي هذه الأغنية اللعينة لأم كلثوم .. إنها كانت تشعل في صدري نارًا ، لأنها كانت تذكرني بالإهانة التي لحقت بنا في الأيام السوداء التي أومأت إليها .

3 – طوابير الإرهاب :

لقد كانوا في كل يوم وقت الضحى يقتحمون لنا الزنازين ويأمرون بالنزول في أسرع جري إلي فناء السجن حيث نصطف طوابير ، ولفظاعة ما كان ينتابنا في هذه الطوابير من إرهاب وإجرام كنا نخرج من زنازيننا ولا نعرف هل نعود إليها أحياء أو لا نعود حيث نضرب بالرصاص وندفن في سفح الجبل . إنني لا أزال أذكر أننا بعد أن نستمر ساعة علي الأقل في جري مستمر تحت وابل من السياط التي لا تبالي علي أي جزء من أجسامنا تقع ، نؤمر بالوقوف في ثبات كثبات التماثيل ثم يوجه إلينا كلام فحواه أننا لم يعد لنا قيمة ، وأن الأوامر صدرت باستئصالنا من الوجود ، وأن علينا أن نزل في هذه الوقفة حتى تأتي إلي هذا القائد (وهو باشجاويش) الأوامر بما يفعله فينا , ونظل في هذه الوقفة ونحن نتوقع أن نضرب بالنار من خلفنا أو من أن يأتينا الموت من كل مكان .

لقد كنت في هذه الوقفة أتذكر وقفة يوم القيامة , لقد جعلتني هذه الوقفة أقدر فظاعة وقفة يوم القيامة حق التقدير ، وأقدر كيف أن الناس من شدة الموقف يتمنون أن يصرفوا ولو إلي جهنم ، وهنا كنا نتمنى أن ينهوا حياتنا مرة واحدة فينقذونا من هذا الانتظار الذي هو أشد ألف مرة من الموت ، لقد حببت إلينا الطوابير الإرهابية الموت ، بل إنه صار لنا أمنية من أعظم أمانينا . كنت في تلك الأثناء في سن تناهز الأربعين أو تظل عليها ، وكان أكثر من معنا في المعتقل في أسنان تقارب هذا السن ، ولكن كان معنا عدد لا يستهان به ممن هم في سن آبائنا ممن تخطوا الستين ، ومع ذلك فإن زبانية السجن الحربي لم يكونوا يعتمدون أن يسوقوهم بالسياط فيجروا كما تجري تمامًا .. ولا أدري كيف نجا هؤلاء من الموت ، فلقد كنت أتوقع في كل طابور أن يقعوا صرعي ولكن عناية الله كانت أعظم من كيد الظالمين .. ولا أنسي بهذه المناسبة أن أذكر أن شابًا من إخوان قنا كان إذ ذاك طالبًا أزهريًا بالقسم الثانوي ويحضرني من اسمه الآن لقبه " العناني " أجريت له عملية استئصال الزائدة الدودية وجئ به بعد ثلاثة أيام فلم يرحموه من هذه الطوابير اللعينة وكان يجري معنا تحت وابل من السياط وجرحه يدمي .. ولا أدري كيف نجا هذا الشاب من الموت .

4 – مهزلة المحاكمات :

إذا أردنا الحديث عن المحاكمات في السجن الحربي فلا يمكن فصل الكلام عنها عن التعذيب ؛ لأنهما كانا ملازمين تمام التلازم ، ولا ينفصلان أبدًا ، وإذا كان تصور الفصل بينهما جائزًا في خاطر الذين كانوا يعيشون خارج السجن الحربي ولم تلق بهم المقادير يومًا داخل أسواره ، فإن الذين عاشوا داخل هذه الأسوار وكانوا يرون ما يجري فيها ، ويسمعون ما ينبعث من حجرات التحقيق من صراخ واستغاثات تفتت الأكباد ، وتقطع نياط القلوب .. هؤلاء لا يعرفون المحاكمات إلا أنها الفصل الأخير من مسرحية التفنن في انتهاك آدمية الإنسان ، والتوحش الذي انحدر إليه العاملون بهذا السجن وسادتهم حتى أتوا من الوحشية ما تعاف أن تأتيه الكلاب والذئاب . وهؤلاء الذين كانوا يعيشون معًا في زنزانة واحدة مغلقة عليهم .. فيأتي ناعق اليوم ويفتح الباب في هدأة الليل فيهبوا من نومهم واقفين ، فينادي علي أحدهم فيتقدم إليه وهو صحيح معافى فيأخذه ويغلق الباب ويمضي به .. وفي غسق الفجر يفتح الباب مرة أخري فيهبون من نومهم واقفين مذعورين فإذا بصاحبهم الذي خرج ماشيًا علي قدميه أتي به محمولاً علي نقالة والدماء تنزف من كل مكان من جسمه وهو فاقد الوعي ، ولا يدري أين هو ولا من هم الذين حوله .

ولن أثير موضوع جيران هؤلاء الذين يعيشون في الزنزانة المجاورة ، والذين أخذ واحد منهم بنفس الأسلوب وفي نفس الوقت من الليل ، ثم جاء الفجر ولم يجيئوا به ،و طلع النهار وأقبل الليل التالي وتوالت الأيام ولم يجيئوا به .. ثم أعلنوا أنه هرب من السجن .. وهم يعلمون وكل مكن دخل السجن الحربي في أيامنا يعلم أن الهروب من السجن الحربي نوع من المحال بل هو المحال نفسه .. فلهؤلاء قضية أخري لن يحكم فيها إلا الزمن .

قصدت من هذا الذي ذكرت أن أوضح أن محاكمات السجن الحربي لم يكن التعذيب منفصلاً عنها بل كان جزءًا منها وهي جزء منه .. وأنا لازلت أعجب من قوة في بلادنا هذه إذا أرادوا أن يستشهدوا علي ما ارتكب الإنسان من ظلم ، وعلي تجريد الذين قدموا للمحاكمة من حق الدفاع عن أنفسهم ومن ضمانات العدالة ، استشهدوا بمحاكم التفتيش التي جرت في القرون الوسطى بأوروبا ، مع أن محاكم التفتيش هذه لم تعد في ميزان الظلم في حق الإنسان شيئًا يذكر بجانب محاكمات السجن الحربي عامي 1954 ، 1955 .. ولكنني مع ذلك ألتمس عذرًا لهؤلاء الذين لم يزالوا يستشهدون بمحاكم التفتيش " فمحاكم التفتيش مع ما كان فيها من مآثم فإنها كانت محاكمات علنية سجلها التاريخ بل سجل كل ما فيها كما سجل أحكامها . لقد أبقت محاكم التفتيش علي بعض ضمانات لم تبق عليها محاكم السجن الحربي .. أبقت محاكم التفتيش علي العلانية وعلي إعلان مكان المحاكمة وزمانها ، فكان الذي سيحاكم يعلن بمكان المحاكمة وزمانه كما كان يعلن ذلك لغيره من الناس .. أما محاكم السجن الحربي فإنها لم تبق علي شيء ، جعلت المحاكمة سرية ، فالمتهم لا يعلم أنه سيحاكم إلا قبل موعد المحاكمة بساعات ، كما جعلت مكان المحاكمة وزمنها سرًا لا يعرفه لا الذي سيحاكم ولا أهله ولا أي أحد داخل البلاد ولا خارجها . ثم إنها جعلت الدفاع محرمًا كما جعلت إصدار حكمها علي المتهم سرًا .. كأنما يحس هذا الحاكم وزبانيته الذين جعلهم قضاة أنهم لا يجرون محاكمة بل يدبرون مؤامرة ،ويأتون أمرًا إدا . وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم : " الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " .

ولكن الناس حتى يومنا هذا لازال أكثرهم يجهلون حقيقة ما كان يجري في هذا السجن بالرغم مما كتب في هذا الشأن من كتب ؛ لأن المسيطرين علي وسائل الإعلام في بلادنا لازالوا يعملون جاهدين علي ستر مآثم ذلك العهد وحجب حقيقته .. ولا أدري ما الذي يدفعهم إلي ذلك ، فإن كانوا من الضالعين في هذه المآثم فقد تابوا وإن كانوا برءاء من هذه المآثم فماذا يضيرهم من كشف النقاب عن الحقيقة .. ومهما يكن من أمر فإن الأيام كفيلة بإماطة اللثام عما يريد إخفاؤه .

ومهما يكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفي علي الناس تعلم

5 – التعذيب علي نغمات أم كلثوم :

ومن تغالي المشرفين علي هذا السجن في التهتك أنهم كانوا يبدأوا عمليات التعذيب الذي يسمونه التحقيق بعد عشاء كل يوم ، وكنا نعرف أنهم بدأوه حين كانت تنطلق ميكروفونات السجن بأعلى صوتها الذي كان يصم الآذان بأغاني أم كلثوم ، وتظل علي هذا الضجيج حتى الفجر . والناس الذين يمرون بجانب السجن الحربي أو الذين يسكنون قريبًا منه ، معذورون حين يسمعون هذه الأغاني تذاع أن يحسنوا الظن بإدارة السجن ويعتقدوا أنهم من الرحماء الذين يريدون أن يخففوا عن السجناء مرارة السجن فلجأوا إلي إذاعة هذه الأغاني ترفيهًا عنهم وشفقة بهم . وما علم هؤلاء أن هذا الذي يسمعون إن هو إلا تمويه ليستروا في ضجيجه صراخ من يسامون ألوان العذاب .. وهي حيلة شيطانية ماكرة ، وأسلوب فاجر مبتكر ، ونسيان تام لوجود إله يسمع ويري . ويجدر بي في هذا السياق أن أسجل ظاهرة عجيبة طيلة فترة التحقيقات ، تلك هي ما كان الله تعالي يلقيه عليّ من النوم الذي لا أستطيع مغالبته في كل ليلة بعد انطلاق المكبرات فلا أكاد أسمع منها نصف ساعة حتى أكون مستغرقا في نوم عميق لا أستيقظ منه إلا حين تفتح الزنازين علينا قبل الفجر .. وكلما تذكرت هذه الظاهرة تعجبت لرائع صنع الله وسابغ فضله عليّ .. فأنا الذي كنت لا أستطيع أن أنام إلا في هدوء وفي أمان ، أنام في مكان النوم في غابة الذئاب والنمور والضباع والثعابين مما حولي لا يحدث .. هذا فضل من الله عليّ لا أنساه .. ولولا هذا الفضل لا أقول لتحطمت أعصابي بل أقول لفقدت أعصابي ولفقدت نفسي .

6 – لجنة حقوق الإنسان :

في كل يوم كان يرسل إلي قاعة المحكمة – التي لا يعرف مكانها أحد حتى المتهمين – عدد يتراوح بين العشرة والعشرين ممن تم التحقيق معهم بالأسلوب الذي أشرنا إليه . وكانت المحكمة السرية تحكم عليهم جميعًا بأحكام تتراوح بين خمسة أعوام وخمسة وعشرين عامًا ، حتى إنه في يوم من الأيام تقابلت في دورة المياه – وكانت الفرصة الوحيد للمقابلة – مع الأخ الأستاذ محمود عبده ، وكان إذ ذاك ناظر مدرسة ثانوية ومن الإخوان الذي أبلوا بلاءً حسنًا في حرب فلسطين سنة 1948 – فقال لي : تصور يا فلان أن الأحكام التي أصدرتها هذه المحكمة ضد الإخوان بلغت حتى الآن كذا ألف عام ( ولا أذكر الآن عدد الآلاف الذي قاله ) – قال : إن هؤلاء الناس لا يعلمون أن العالم ينظر إلي هذه الأحكام باعتبارها مقياسًا لمدى استقرار الحكم فكلما زاد عددها نقصت ثقة الدول في الحكومة التي أصدرتها .

وبالرغم من الحجاب الحديدي الذي كان يعيش الإخوان في السجن الحربي من ورائه والرقابة الصارمة حتى علي أنفاسهم ، فإن الإخوان استطاعوا أن يتصلوا ممن يعيشون خلف الأسوار من الإخوان المستخفين .. وعن طريق هذا الاتصال استطاع إخوان السجن أن يعرفوا أن إخوانهم في الخارج أرسلوا إلي هيئة الأمم المتحدة وإلي لجنة حقوق الإنسان بها برقية يشرحون فيها عمليات التعذيب الذي يقع الإخوان فريسة لها في السجن الحربي ، والمحاكمات السرية التي تعقد لمحاكمتها ، فاستجابت لجنة حقوق الإنسان وقررت إرسال مندوب عنها إلي القاهرة . وقد طلب هذا المندوب من الحكومة المصرية أن يحدد له يوم يحضر فيه المحاكمة ، واضطرت الحكومة أن تحدد له اليوم .. وقد أمكن تبليغ اليوم المحدد إلي الإخوان في السجن الحربي .

• الخطوات المتبعة في المحاكمات :

وكانت الخطوات المتبعة في المحاكمات هي :

أولاً : يسحب المطلوب محاكمته من زنزانته سرًا بعد العشاء ويقاد إلي المكاتب .

ثانيًا : يكون المحققون قد كتبوا محضرًا كاملاً للتحقيق مع هذا الشخص قبل حضوره بما فيه من أسئلة وأجوبة كما يريدون .

ثالثًا : يقدم الأخ المطلوب إلي المحقق الذي يجلس بجانبه قائد السجن الحربي وضباط المخابرات وضابط علي الأقل من رجال جمال عبد الناصر الشخصيين – ويقرأ المحقق علي الأخ التهمة المطلوب اعترافه بها فينفيها الأخ لعدم معرفته بها ولا بالأشخاص الواردة أسماؤهم فيها .

رابعًا : يأمر الزبانية عساكر التعذيب بخلع ملابس الأخ عن جسمه فيفعلون .

خامسًا : يبدأ بضربه بالكرابيج علي جميع أجزاء جسمه وهو طبعًا يصرخ ويستغيث .

سادسًا : يؤمر بإيقاف الضرب ويطلب منه الاعتراف بالتهمة فيقول لهم كيف أعترف بشيء لم يحصل ولا علاقة لي به .

سابعًا : يؤمر بمعاودة تعذيبه فتستعمل طرق أخري من التعذيب غير الضرب ؛ لأن جسمه لم يعد فيه سنتيمتر واحد خال من آثار الكرابيج – فنستعمل وسائل أخري كالإحراق بأعقاب السجائر والكي بالنار في أماكن متباينة وحساسة من جسمه – أو يعلق منكسًا مع ضربه في هذا الوضع – أو يضرب مرة أخري حتى يلتهب جسمه كله وينزف من جميع أجزائه ثم يلقي وهو في هذا الالتهاب في زنزانة مجهزة تجهيزًا خاصًا ومملوءة بالماء المثلج بحيث يغمر الشخص حتى رقبته – أو يلجأ إلي أحط الوسائل بإحضار زوجته أو بناته وأخواته وتهديده بهتك أعراضهن أمامه أو وسائل أخري لا تقل انحطاطًا ووحشية عن هذه الوسائل .

وهكذا يجرب معه من هذه الوسائل حتى يضطر إلي التوقيع علي المحضر الذي عرضوه عليه من أول الأمر إنقاذًا لحياته وعرضه .

ثامنًا : تضمد جراحه النازفة ، ويلقي به في زنزانته .. حتى إذا توقف النزف واستطاع المشي علي قدميه ، اعتبروه صالحًا للتقديم إلي المحكمة .

تاسعًا : ينادي عليه وعلي زملائه الذين مروا بكل ما مر به . وتكون المناداة ليلاً ، فيقابلهم قائد السجن الحربي أو من ينيبه ممن هم علي شاكلته ، ويخبرهم بأنهم سيذهبون غدًا إلي المحكمة في الصباح ، ويحذرهم من أن يذكر أحد منهم شيئًا مما هو متهم به أو أن يشكو أي نوع من التعذيب وإلا عادوا إلي تعذيب أشد .

عاشرًا : يذهب بهذه المجموعة إلي المحكمة التي لا يعرفون مكانها ولا زمانها ولا أشخاصها ، فيجدون أنفسهم أمام حجرة داخل ثكنات الجيش ليس فيها أحد مطلقاً إلا ثلاثة ضباط ممن يسمون الضباط الأحرار ، فيشعر هؤلاء المتهمون أنهم – بوقوفهم أمام هؤلاء – لم يخرجوا عن حدود السجن الحربي ، وأن هؤلاء ليسوا إلا فصلاً من المسرحية المجرمة الهازلة – ويسأل رئيس المحكمة الهازلة كل واحد من المتهمين : أهذا توقيعك ؟ فيقول :نعم فيحكم عليه مما طلب إليه الحكم به . ثم يرجعون إلي زنازينهم بالسجن الحربي كما كانوا .

هذه خطوات المحاكمة – فلما علم الإخوان بالسجن الحربي باليوم الذي سيحضر فيه مندوب الأمم المتحدة جلسة المحاكمة أخبروا الإخوان الذين سيقدمون إلي المحاكمة في ذلك اليوم بهذا النبأ وطلبوا إليهم أن يكشفوا للمحكمة أمام الحاضرين فيها عن شيء من آثار التعذيب في أجسامهم . ودعي هؤلاء الإخوان فعلاً للذهاب إلي المحكمة حيث وجدوا – علي غير المعتاد – أشخاصًا حاضرين منهم مندوب الأمم المتحدة . ونودي علي أول المتهمين فسأله رئيس المحكمة كالمعتاد :

هل هذا توقيعك ؟

قال : نعم ولكنني لم أرتكب التهمة المكتوبة .

قال : فلم إذن وقعت عليها ؟

قال : سأريك لماذا وقعت عليها .. وخلع ملابسه التي كشفت عن ظهره فرأي جميع الحاضرين ظهره مشرحًا بطريقة مثيرة .. وقال لهم إن هذا الأثر هو أثر تعذيب مضي عليه الآن خمسة أشهر .

فتنبه " القاضي " إلي الترتيب الذي وضعه الإخوان في غفلة من " آلهتهم " الذين ظنوا أنه قد أحاطوا بكل شيء علمًا . فأوقف المحاكمة مدعيًا تأجيلها لتحقيق ما زعمه المتهمون من التعذيب . وأمر برجوع هؤلاء المتهمين إلي المعتقل .

• أنا القانون :

وفي مساء ذلك اليوم حين أرخي الليل سدوله ، فتحت الزنازين كلها فجأة وعلي غير المعتاد وبطريقة هستيرية . وصدر أمر في مكبر الصوت بخروج المعتقلين جميعًا من زنازينهم والوقوف أمامها في الطرقة من السور الحديدي الذي أمامها ، فخرجنا وهالنا ما رأينا .. رأينا حول السارية العالية التي تتوسط فناء السجن نارًا تتأجج وقد علا لهيبها حتى كان أعلي من سقف الدور الثالث في السجن ، وحولها عساكر السجن يمدونها بقطع ضخمة من جذوع الأشجار لتزداد تأججا – فأحسسنا بأن شرًا مستطيرًا يقترب منا وأننا علي وشك خطر داهم .. ورأينا بجانب السارية قائد السجن حمزة البسيوني بشاربه المتهدل الذي تصل ذؤابته إلي ما تحت ذقنه ، ويشعر رأسه المشعث ، وكرباجه تحت إبطه .. ورأينا أمام حمزة البسيوني طابورًا من المعتقلين – هم الذين كانوا يحاكمون صباح هذا اليوم .. ثم انطلق حمزة يقول بصوت المغضب الحانق المتغطرس :

اسمعوا .. إن كنتم تريدون القانون فأنا القانون .. انظروا إلي هؤلاء الكلاب (أشار إلي الطابور الذي أمامه) لقد ظنوا أنه يستطيعون أن يشكوني .. ولكن هيهات .. لقد رجعوا إليّ وها هم أولاء في قبضتي وتحت قدمي وسأسحقهم حتى لا يفكر أحد منكم أن يتجرأ ويفعل مثلما فعلوا .

• أنا أحيي وأميت :

ثم أخذ يتوعد بألفاظ وعبارات لم يفه بأخطر منها قارون ، ولكنها تشبه ما قاله النمرود لإبراهيم حين كان يحاجه إذ قال " أنا أحيي وأميت " .. والنمرود كان ملكًا لا معقب لحكمه كما زين له غروره ، ولكن هذا الحمزة البسيوني كان إذ ذاك " مقدمًا " يرأسه من الضباط العقداء فالعمداء فالألوية فالفرقاء فالمشير ، هذا في قطاع الجيش ، ثم هناك رياسات أخري في أبنية الدولة الأخرى .. فإذا وصل الغرور بمثل هذا الصعلوك إلي حد ادعاء ما استأثر الخالق جل وعلا به لنفسه من خصائص الإحياء والإماتة ، فإنه يكون بذلك قد جاوز غروره غرور النمرود . أما ادعاؤه أنه هو القانون ، فهذه قضية لم تكن موضع خلاف بيننا وبينه ، فإننا كنا نعلم علم اليقين أن لا قانون في البلاد منذ تمكن جمال عبد الناصر من السلطة . ومعني عدم وجود قانون في البلاد هو أن يدعي كل من بيده أي قدر من السلطة أنه هو القانون .. وإذا أردت توضيحًا لهذا المعني يصل بك إلي لبه ، فإن القانون في هذه الحالة يكون هو الأهواء .

وإذا كان النمرود ملكًا ادعي الخصائص الإلوهية ، فإن هذا الصعلوك ادعي خصائص الإلوهية في الوقت ال1ذي اتخذ له إلهًا من البشر هو جمال عبد الناصر .. ولقد كنا نعجب أشد العجب لهؤلاء الناس .. كيف يظنون بأنفسهم هذا الظن وهم يعلمون أنهم سوف يموتون ؟

• أربعمائة كرباج :

وبعد أن هدد توعد وأفاض في تأليه نفسه ناسيًا خالقه وبارئه ، قرر تأديب هؤلاء الإخوة الكرام . فدعا بأولهم فتقدم إليه ، فأمر بربطه في السارية . فربطوه ربطًا قاسيًا وكان ظهره عاريًا . ثم قرر بصوت جهوري هز السجن بمن فيه أنه صرف له أربعمائة كرباج ومعذرة في استعارتي هذا اللفظ " صرف " فإنه كان هو الاصطلاح المعمول به في السجن الحربي – كما أنه قرر – شفاءٌ لنفسه – أنه سيقوم هو بنفسه بضربه . واستل المغرور الكرباج من تحت إبطه ، واعتدل منتفخًا ، وأخذ يضرب الأخ بكل ما أوتي من عزم وقوة .. وقد سألت دموعنا من هول الضرب الذي لا يعرف الرحمة . ولكن كانت مفاجأة .

المفاجأة هي أن المغرور قبل أن يوفي علي المائة الأولي رأيناه قد انهار ، وكاد يسقط السوط من يده ، في حين أن الأخ الكريم لم يصدر منه ما يشعرنا ولا يشعر من حوله من الزبانية بالألم فلا صراخ ولا استغاثة ولا حتى مجرد تأوه . بل ثبات وصمت .. وكل الذي سمعناه في هذه اللحظة قول المغرور له : يا ابن الكلب (بمد الكاف للتعجب الشديد) كل ده وأنت لا تحس دا أنا فرهدت . وأعطي المغرور السوط لأمين – وأمين هذا هو الآدمي الذي وكلت إليه الآلهة المغرورة تدريب المعتقلين تدريب الإذلال والإهانة ولإشراف علي التنكيل بهم داخل السجن الكبير ، كما كانت مهمته تنفيذ ما تقرره هذه الآلهة من وسائل التعذيب لمن يحقق معهم في المكاتب . وهو شاب نحيل لا يجاوز الثلاثين ورتبته باشجاويش بأربعة أشرطة علي ذراعه . وأمين هذا شخصية وإن كانت ضئيلة القدر إلا أنها تستحق مع ذلك أن نتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله .. وتسلم أمين السوط واستأنف ما انهار دونه سيده ، ولكنه بدا عليه علائم الانهيار وهو في أواسط المائة الثانية .

ولقد رأيت بنفس آثار التعذيب في ظهر أحد\ ال1ذين كشفوا ظهورهم في المحكمة ، فقد استطاع الأخ أن يتسلل إلي زنزانتنا ، وكشف لنا عن ظهره فرأينا آثار الضرب في ظهره بعد خمسة أشهر من شفائه ، ومع ذلك فلازالت آثار السياط متلاصقة زرقاء . ومع أن مندوب لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة رأي بعينه آثار التعذيب الوحشي .. فماذا فعل ؟ إنه لم يفعل شيئًا .. وهذه اللجان ما هي إلا أسماء سماها رؤساء أمريكا والدول الكبرى ليضحكوا بها علي الناس ويوهموهم بوجود شيء هو في الحقيقة غير موجود . ومما يذكر أن جمال عبد الناصر اعتبر حضور مندوب الأمم المتحدة المحاكمات اعتداء علي كرامته وتدخلاً في شئونه الداخلية فلم يستطع منعه من الحضور ولكنه أراد أن يعاقب أمريكا فأعدم اثنين من اليهود .

7 – ضرب الأخ محمد مؤمن :

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فلنعرض هنا لأخ كريم كان إذ ذاك في مقتبل شبابه . وقد هاله ما يلقاه كرام الإخوان علي يد هذه الوحوش الآدمية التي تسمي العساكر .. رأي الأخ محمد مؤمن وهو من إخوان دمياط منظرًا حز في نفسه ، ولذع كبده .. وكثر تكرر هذا المنظر أمامه فهانت عليه الحياة ، وأسر في نفسه أن يمنع تكرار هذا المنظر أو يموت دونه . والمنظر المثير يتلخص في أن يأمر العساكر أن يصفع الإخوان بعضهم وجوه بعض وبطريقة قاسية وإلا أذاقهم هؤلاء العساكر ألوان العذاب . وطوي الأخ محمد جوانحه علي هذا العزم . وطرأ طارئ جديد زاد نار هذا العزم اشتعالاً ، ذلك أن إدارة السجن منعت الماء عن الإخوان ، واتخذت من الإجراءات التعسفية ما يكاد يصل إلي حد منعهم من قضاء حاجتهم في دورة المياه .

وفي خلال هذه المأساة استطاع أحد الإخوان وهو الأخ حسن عبد الفتاح من إخوان كرداسة وأحد زملاء الأخ محمد مؤمن في الزنزانة أن يحصل علي قليل من الماء ، وبينما هو في دورة المياه ضبطه أحد العساكر فأخذ منه الماء ،وأخرج زملائه في الزنزانة وأمرهم بصفعه علي وجهه . وتصادف أن كان الأخ محمد مؤمن هو أول الصف ، فامتنع عن تنفيذ الأمر .. فهجم عليه العسكري ليصفعه ويضربه كالمعتاد ، فقاومه الأخ محمد مقاومة شديدة انتهت بوقوع العسكري علي الأرض .. وكان في نية الأخ محمد أن يقتل العسكري دفاعًا عن كرامة الإنسانية أو حتى الآدمية ، ولكن الإخوان حالوا بينه وبين العسكري .. فما كان من العساكر الآخرين إلا أن اجتمعوا علي الأخ محمد لينتقموا منه ، فجاءوا به إلي السارية وأرادوا أن يربطوه إليها بحبل فرفض الأخ محمد وقال لهم إنني سأحتضن السارية دون حبل واضربوني كما تشاءون .

واحتضن الأخ محمد مؤمن السارية ،وجاء كل عسكري بكل ما يضرب به من كرابيج وقطع من الخشب وعصي ،وظلوا يضربونه حتى تعبوا جميعًا .. فألقوا ما بأيديهم متعجبين ذاهلين .. والذي أذهلهم وأدخل اليأس في نفوسهم هو أن الأخ محمد مع كل هذا الضرب القاتل لم يتأوه ولم ينبس ببنت شفة وهو أمر لا عهد لهم به .. بل إننا نحن الإخوان كنا في دهشة من هذا الصبر العجيب .. حتى إننا سألنا الأخ محمد بعد ذلك كيف استطاع أن يصبر علي هذا الضرب المميت دون أن يصرخ أو يتأوه ؟ فقال : إن الذي أقدم علي ما أقدم عليه وهو ينتظر الموت ، فإذا جاء ما هو دون الموت فإنه لا يكاد يحس له بألم . واعتقد هؤلاء العساكر – بسذاجتهم – أن الأخ محمد وليّ من أولياء الله ، ولهذا لم يحس بألم الضرب واعتقدوا أنهم إذا لم يعتذروا إليه ، ويطلبوا منه الصفح عنهم فسيصيبهم شر الأخوين الدكتور أحمد الملط والدكتور كامل سليم فضمدا له جروحه .

8 – قانون الحرمان :

سميت هذا البند بقانون الحرمان ؛ لأن القائمين علي إدارة السجن الحربي – بوحي من سادتهم – قرروا حرمان المعتقلين بهذا السجن من كل الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها المسجونون حتى المحكوم عليهم بالإعدام :

أولاً : نصيب الحيوان الناطق من المكانة للإقامة :

من المعروف أن الزنزانة في السجون المصرية لا يزيد عدد نزلائها علي ثلاثة أفراد . علمًا بأن نزلاء السجون هم عادة من المجرمين والعوام .. أما نزلاء السجن الحربي في خلال تلك الفترة فكانوا من أعلي طبقة في الشعب ثقافة وعلمًا ومكانة اجتماعية ومع ذلك فإن المسئولين استباحوا أن يحشروا في كل زنزانة عددًا وصل إلي ثمانية أفراد . وظل هؤلاء الثمانية في الزنزانة مغلقة عليهم أكثر من عام . نعم كان العدد في أول الأمر أقل من هذا ، ثم وصل إلي هذا الرقم ثم نقص ثم عاد نقص ثم عاد ثم استمر علي ذلك أكثر من عام . وتفسيرًا لذلك أقول : إن الأفواج كانت تأتي تباعًا فيكثر العدد ، ثم يطلب إلي المحاكمة بعض أفراد ويحاكمون ويحكم عليهم فينتقلون إلي السجون المدنية كسجن مصر وسجن طره وغيرهما فيقل العدد ، ثم تأتي أفواج أخري فيرتفع العدد مرة أخري . ثم يحاكم آخرون وينقلون إلي السجون المدنية فيقل العدد ثم .

• الدرك الأسفل : حين قال تعالي : (•      • ) فهمنا أن في النار دروكًا كلها سافلة وأن هذا الدرك الذي فيه المنافقون هو أسفلها جميعًا .. وقياسًا علي ذلك نقول : إن أساليب جمال عبد الناصر التي عامل بها الإخوان كلها أساليب سافلة ولكن أسفل أسلوب اتبعه هو الأسلوب الذي يأتي بعد كلمة " ثم " التي انهينا بها الفقرة الماضية ، وهو ما تكمل به الفقرة السابقة فنقول :

ثم تأتي أفواج أكثرهم ليسوا من الإخوان ، وإنما هم قوم هزتهم المروءة حين رأوا أبناء المعتقلين يتضورون جوعًا وعريًا فمدوا إليهم يد المساعدة .. فاعتبرت الحكومة حكومة الثورة ذلك جريمة يعتقل صاحبها ويعذب ويحاكم ويحكم عليه عشر سنوات . وننقل في هذا الصدد فقرة من كتاب " جمال عبد الناصر " للأستاذ أحمد أبو الفتح في صفحة 238 يقول : " ولعل المثل الصارخ علي حب جمال عبد الناصر للانتقام وشذوذ مزاجه في التنكيل بخصومه ، وهو الإجراء الشاذ الذي اتبعه مع أسر المعتقلين من الإخوان المسلمين ، ذلك أنه حرم علي أي إنسان أن يمد يد المعونة إلي هذه الأسر . ولما كان الإخوان المسلمون من الطبقات الشعبية التي لا تملك رأس مال مدخر ، فقد حدث اعتقالهم وانقطاع المال عن أسرهم مصائب لا حصر لها . فأخذت الشفقة بعض المصريين الذين راحوا يتبرعون ببضع دراهم لهذه الآلاف من الأسر التي نكبت إما الإعدام أو سجن أو اعتقال عائليها ،ونكبت بانقطاع المال عنها . فلم يرق هذا التبرع لعبد الناصر فأمر بتصيد كل من تسول له نفسه مساعدة أية أسرة من أسر المعتقلين من الإخوان .

وفعلاً استطاع أعوانه من رجال المخابرات إلقاء القبض عليهم – وقد لا يصدق القارئ أن هؤلاء الناس قد قدموا لمحاكمات عسكرية سرية دون حضور محامين أو شهود أو ممثلي الصحافة وصدرت ضدهم جميعًا أحكام تتفاوت بين الأشغال الشاقة المؤبدة والسجن مع الشغل خمس سنوات – والأعجب من ذلك أن تصدر هذه المحاكم أحكامها بمصادرة المبالغ المضبوطة مع هؤلاء وينص الحكم علي أن المصادرة " لصالح الشعب " .

   ثم نرجع بعد ذلك إلي السياق فنقول : فلما جاءت هذه الأفواج من الناس أهل المروءة ضاقت بهم الزنازين فأسرعوا في محاكمتهم ونقلهم إلي السجون المدنية . فاستقرت الزنازين بعدهم علي هذا العدد . ولقد كان وجود هذا العدد في الزنزانة الواحدة هو وحده تعذيبًا ومأساة . ففي الزنزانة ثمانية أفراد معهم بطاطينهم ومتاعهم وجردل الماء وجردل البول وثمانية قباقيب وثماني قلل ، ثم إنهم يتناولون الطعام ثلاث مرات في اليوم داخل الزنزانة . 

• جيوش البق :

ولن أتعرض لأثار هذا الوضع الشاذ علي الصحة ولكني سأعرض علي القارئ شيئًا بلوته بنفسي : في خلال هذه الفترة ، وفي أواخر السنة التي استقر هذا الوضع عليها ، فتحت حقيبة ملابسي وكانت حقيبة كبيرة من الجلد وأخرجت الملابس منها ، وبدأت لأول مرة أنظر فيها فهالني ما رأيت . رأيت أسرابًا من البق تجري هنا وهناك في جوانبها ، فتعجبت لكثرتها وأخذت أتصيدها في قطعة من الورق حتى اصطدت منها عدة مئات ، ولكن بعضها كان سريع الجري بحيث يسبق أصابعي ورأيته يدخل تحت الكرتون الذي يبطن الحقيبة من الداخل . فتتبعت الأفراد التي اختفت تحت البطانة ، واضطررت إلي أن أفصل حروف البطانة التي كانت ملصقة بجدر الحقيبة ، فذهلت لما رأيت . رأيت البطانة شبه مفصولة عن الجلد وقد رصت رصًا تامًا بالبق – فاضطررت إلي نزع البطانة كلها حيث قتلت ما يزيد علي بضعة آلاف من البق غير الذي هرب دون أن أدركه ، واضطررت إلي أن ألقي بالبطانة بعيدًا . و ظلت الحقيبة بغير بطانة حتى أفرج عني .. ولازلت أحتفظ بهذه الحقيبة بهذه الحالة ذكرى لهذه الأوضاع الشائنة التي كنا نعيشها .

ولا يفوتني هنا أن أقول : إن وجود هذا الازدحام داخل الزنزانة كان وحده كافيا – إذا كان نزلاؤها من غير الإخوان المسلمين – أن يثير المتاعب بين هؤلاء النزلاء بعضهم وبعض ، وأن يخلق مشاكل لا نهاية لها ، بل قد يؤدي إلي جرائم .. لكن هذا الازدحام مع ما فيه من مضايقات تفوق كل تصور ، لم يثر في الإخوان إلا أسمي المعاني وأنبل العواطف . فلقد أنشأت هذه الزنازين تعارفًا بين إخوة لم يكونوا متعارفين من قبل ، وأوجدت تعاونًا علي البر والتقوى ، فكانت مجالاً لتلاوة القرآن الكريم وحفظه ، وكانت فرصة انتهزها الإخوان للاستزادة من العلم ، فالمتعلم علّم الأمي ، والحاصل علي الشهادة الجامعية أخذ بيد المبتدئ الذي استطاع بعد الإفراج عنه أن يحصل علي شهادات أعلي مما كان بيده – وكان بعض الوقت يقضي في مناقشات علمية وأدبية نافعة .


ثانيًا : حق المراسلة والزيارة :

وأعني بذلك حق المعتقل في الاتصال بأهله بأن يزوروه ويراسلوه – وهذا حق مقرر في جميع سجون الدنيا وفي سجون مصر . ولكن إدارة السجن الحربي بوحي من سادتهم حرموا المعتقلين من هذا الحق فمنعوا زيارة أهليهم لهم كما منعوا المراسلة فيما بينهم وبين أهليهم .. وفي هذا من التعنت والإرهاق النفسي ما فيه ، ولكن هذا الحرمان لم يتعب الإخوان كما يتعب غيرهم ؛ لأن كل واحد كان يشعر وهو بين إخوانه أنه بين أهله وذويه . كما أنهم بفضل ما يستمتعون به من ثقة في الله وإيمان به كانوا مطمئنين علي أهليهم ؛ لأنهم قد نزعوا من بينهم وتركوهم وديعة في يد الكريم الرحمن .

ثالثًا : منع الطرود :

وكان هذا النوع من الحرمان هو أقسي أنواع الحرمان .. وقد يحجب القارئ حين أعد منع الطرود أقسي أنواع الحرمان ويقول في نفسه : لابد أن المعتقلين كانوا مترفين ، إذ يعدون حرمانهم من الطرود بهذا القدر من القسوة .. ظنًا من القارئ أن الطرود إنما تطلب لما فيها من ألوان الطعام والحلوى .. وهذا الظن في محله إذ اعتاد الأهلون أن تكون الطرود التي يرسلونها لذويهم في السجون لونًا من ألوان الترفيه . ولكن الطرود التي منعوها في السجن الحربي لم تكن طرودًا من هذا النوع المألوف وإنما هي طرود تحتوي علي ما يطلبه المعتقل من أهله أو ما يرسلونه إليه من ضروريات الحياة ، فهي طرود لا تحتوي عادة إلا علي الملابس الداخلية والبيجامات والبلوفرات التي يستعان بها علي تحمل برد الشتاء .

• بيجامتي بها ستة وثلاثون رقعة :

ولم يكن أحد حتى ذلك العهد يتصور أو يخطر بباله أن يعتقل إنسان ليمكث في الاعتقال أكثر من بضعة أشهر . ولذا فإن أحدًا من المعتقلين لم يصحب معه يوم اعتقل أكثر من غيارين .. ولكن الموكول إليهم أمر التنكيل بعباد الله وقد رأوا كل معتقل يبادل بين هذين الغيارين يغسل هذا ويلبس الآخر .. زين لهم الشيطان أن يحولوا بين المعتقلين وبين أن تصلهم الملابس من أهليهم ، فلا يكون لهم إلا هذان الغياران .. وتطول المدة فيهلك الغياران ، فلا يجدون منهما بديلاً فيرقعونهما .. ثم يستعرضونهم بهذه الملابس المرقعة فتهنأ بذلك نفوسهم ، وتشفي من الغل صدورهم ، ويضحكون منهم ملء أشداقهم ، ويطلبون من سادتهم الحضور لمشاهدة هذا المنظر المضحك المبكي ، فنسخوا كفهم لهم من مال الدولة بالعطاء ، ويجزلون لهم الجزاء ، لقاء ما ابتكروا من أساليب الإهانة والسخرية والتنكيل .

وكان لهم ما أرادوا ، فجاء الوقت بعد أن طال الزمن ، حيث هلكت الملابس ، وأعطي من كان عنده فضل من الملابس إخوانه المحتاجين .. ولكن لم يثبت أمام طول الوقت وقذارة المكان ، وشدة الحر ، وكثرة الجري ، وغزارة العرق .. فتهلهلت الملابس . وكنت تري كرام الناس من الإخوة الفضلاء ذوى المكانة العالية في المجتمع المصري والعربي العلمي والأدبي والمادي تراهم يلبسون أسمالاً بالية ، تناثرت فيها الرقع من كل شكل وكل لون . ولازلت أحتفظ حتى الآن ببجامة كنت أرتديها وبها ست وثلاثون رقعة .. ومع ذلك كانت تعد من أسلم ما يلبسه الإخوان من البجامات .. ولا أنسي أن أشيد بمجهود إخواننا الخياطين في عملية الترقيع التي كانت إسعافاً لا غني عنه لكل أخ في هذا المعتقل . وهلكت كذلك البلوفرات الصوف وتهلهلت ، وهي مما لا يصلح معها الترقيع ، ولكنها كانت ترتق من كل ناحية حتى لم تعد صالحة للرتق ، ولما كان الإخوان حريصين علي أن ينتفعوا بكل شيء ؛ لأنهم يعلمون أن لن يعوض فلم يلقوا بهذه البلوفرات كما كان منتظرًا ، بل تخصص عدد منهم في فك خيوطها ونسجوا منها بأيديهم الماهرة طاقيات رائعة تضاهي أحسن ما يعرض من طرازاتها في السوق ، حتى إن بعض المشرفين علي إدارة المعتقل كلفوا هؤلاء الإخوة بصنع عدد منها لهم . ولازال عندي إلي اليوم طاقية من هذا الطراز صُنعت لي في خلال هذه الفترة .

• مسنا وأهلنا الضر :

ولقد تجسم لي معني التعبير القرآني الدقيق في قوله تعالي : (   ) فكنت كلما نظرت إلي خواني في هذه الملابس المهلهلة والرقع المتصلة رأيت هيأتي في هيأتهم ، ومنظري في منظرهم فيهتف في نفسي القول الكريم : (   ) . إن إخواننا في السجون يلبسون ملابس السجون وهي ملابس علي كل حال سليمة ليس بها خدش واحد ، تستر أجسامهم .. ولكن هنا .. كثيرًا ما كانت في أثناء الجري في الطوابير تتهتك بعض الرقع فيظهر من تحتها جسم بعض الإخوان فيكاد هؤلاء الإخوة يبكون ونكاد نحن الذين رأينا أجسامهم تنكشف تظفر دموعنا بل كثيرًا ما طفرت . كان الإخوة الذين تصدر عليهم أحكام من المحاكم السرية ، وينادي عليهم ليرحلوا إلي السجون المدنية ، كنا نهنئهم ،وكانوا يتقبلون هذا الترحيل بفرحة ويعدونه إفراجًا ؛ لأنهم سيذهبون إلي سجون تحكمها قوانين ، وكانوا يتركون لنا ملابسهم المهلهلة لعلها تعيننا في ترقيع ملابسنا بقطع منها .


رابعًا : منع الحلاقة وإزالة الشعر :

كان أمرًا مألوفاً أن تجرد إدارات السجون المسجونين من الأمواس والآلات الحادة ، خوفاً عليهم من أن يستعملوها في ذبح أنفسهم للتخلص من الحياة . فإذا عاملونا هذه المعاملة فلا تثريب عليهم . وقد فعلوا .. ولكن الدافع لهم لم يكن الخوف منها علي حياتنا ؛ لأنهم يعلمون أننا معتصمون بإيمان تتزلزل دونه الجبال .. أما الدافع الحقيقي لهم فهو نفس الدافع الذي يدفعهم إلي كل إجراء يتخذونه حيالنا ، وهو الإهانة والإيذاء والتنكيل بصور مختلفة يتبارون في ابتكارها تزلفاً إلي سادتهم ، وتقربًا إلي من يعتقدون أن بيده مفاتيح الخير فمن تقرب إليه ضمن الخير الذي لا ينفذ ولا يزول . إن إدارات السجون تفعل وتأمر في نفس الوقت الحلاقين التابعين لها بقص شعر المسجونين وحلق ذقونهم ، ولكن السادة المشرفين علي السجن الحربي سلبونا الأمواس وأمروا الحلاقين بحلق رءوسنا وترك لحانا لتستطيل وتتشعب وتتشعث كل تشعث حيث لا أمشاط ولا حتى ماء لتنظيفها .. واستطالت لحانا بطريقة غير مهذبة وغير نظيفة وصارت في مناظر منفرة .. وكان يلذ لهم بين يوم وآخر أن يستعرضونا في زنازيننا ليمتعوا أنظارهم بثمار غرس أيديهم من وسائل الإهانة . وأذكر بهذه المناسبة أننا في يوم من هذه الأيام نودي علينا بالوقوف " انتباه " في الزنازين ؛ لأن لجنة من كبار المسئولين سيمرون علينا , ووقفنا وفتحت الزنازين ومرت اللجنة ولما مروا بزنزانتنا تقدم كبيرهم يستعرضنا فردًا فردا ثم تقدم نحوي وقال : ألا تعرفني ؟ فقلت : لا ، قال : ألست محمود عبد الحليم ؟ قلت : بلي . قال : ألم تكن طالباً بالمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية ؟ قلت : بلي . قال : أنا حسن طلعت الذي كنت أجلس بجانبك في السنة الثالثة بالمدرسة .. فرحبت به ثم انصرف مع اللجنة لإتمام مروره علي بقية الزنازين .

وقد فهمت من هذه الواقعة أن تشويه هيئتنا باللحى القذرة المشعثة ليس الأمر به صادرًا من المشرفين المحليين ، بل هو صادر من السادة الكبار .. وإلا لكان مثل حسن طلعت أن يتصرف نحوي تصرفاً يخفف من هذا المنظر الشاذ ، ولو بالإذن لي بفرصة أغسل فيها هذه اللحية بالماء والصابون ، وقد كان هذا يحتاج إلي نحو عشر دقائق علي الأقل حتى أزيل ما تحمله هذه اللحية من قذارة ودهون وبقايا طعام . ولما وصلت اللحى إلي طول لا تكاد تطول بعده ، نودي علينا بالنزول إلي فناء السجن ثبات ثبات ، نجلس علي الأرض ، ثم ينادي علي كل فرد منا ليقف أمام كاميرا تلتقط له صورة بهذه اللحية .. وقد سمعت أحد ضباط المباحث المشرفين علي تصويرنا يقول : إن هذه الصور أخذناها لكم بلحاكم حتى إذا هرب واحد منكم وهام علي وجهه ، وأراد أن يغير من منظره بترك لحيته ، فسنعرفه من هذه الصورة التي نأخذها لكم الآن .. وقد قلت في نفسي حين سمعت ذلك : يا عجبًا .. إن هؤلاء الناس اعتقدوا أننا وضعنا في أيديهم ولا مفر لنا منهم إلا إليهم ألم يقرأوا قول الله تعالي : (       ) وليتهم قرأوا قول الشاعر :

تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضـي منها وما يتـوقع

ولمن يغالط في الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع


خامسًا : جمع المصاحف :

فاتني أن أذكر أننا كنا محرومين من أول يوم في هذا السجن من الكتب .. ولم يبق مع المعتقلين بعد ذلك إلا مصاحفهم ، التي كانت خير مؤنس لهم ومعلم وهاد ، وخير ملجأ يلجأون إليه حين تدلهم الخطوب ، وما أكثرهم ما تدلهم داخل أسوار هذا السجن الرهيب .. وقد استطاع الإخوان أن يجنوا ثمرات طيبة من وجود المصاحف الكريمة معهم ، فقد تفقهوا وأحسنوا التلاوة وحفظوا ، ولقد من الله تعالي عليّ في هذه الفترة فحفظت القرآن كله . ويجدر بي في هذا الصدد أن مداومة الإخوان علي مصاحفهم تلاوة وحفظًا وتفقهًا مع طول المدة قد أوهن من تماسك أوراقها ، كما أدي إلي بلي أغلقتها ، فتفصصت المصاحف وكادت تتبدد أوراقها .. وفي نفس الوقت كانت حقائب بعض الإخوان المصنوعة من الكرتون أو الفبر قد أصابها بطول الأمد أيضًا مع الاستعمال اليومي ومع الاحتكاك بالأرض الأسفلت والحوائط الخشنة حيث هي الوعاء الوحيد لمتاعنا ، أصابها البلى كذلك – فقام إخواننا الذين مهنتهم التجليد والطباعة ، وأخذوا علي عاتقهم إصلاح المصاحف ، فكانوا يعيدون خياطة أوراقها ، ويصنعون لها من كرتون الحقائب البالية وفبرها أغلفة ، حتى إنها صارت أشد تماسكًا مما كنت عليه ، كما صارت أجمل شكلاً . ولازال عندي مصحفي الذي كان معي في تلك الأيام وأجري عليه هؤلاء الإخوة الكرام هذا الإصلاح شاهدًا علي تضامن الإخوان وبراعتهم .

أحس السادة المسئولون الذين يرفع إليهم المشرفون علي إدارة السجن كل ما يحدث بالسجن حتى الهمسات ، أحسوا بحقد حين علموا أن الإخوان يجدون في الكتاب الكريم سلوى من كل ما يلقون من عنت وظلم وإهانة فقرروا حرماننا من الأنيس الوحيد . وجاء ناعق اليوم ينادي في ساحة السجن : جاء أمر بسحب المصاحف من المعتقلين .. وعلي كل معتقل أن يسلم مصحفه لإدارة السجن – ومن يعثر معه بعد ذلك علي مصحف سيقدم للتحقيق .. وما أدراك ما التحقيق . وجمعت المصاحف .. وكان هذا الإجراء أشد إجراءات الحرمان التي اتبعت إيلامًا لنفوسنا .. وكان الواحد منا وهو يسلم مصحفه ويرجع كأنما وتر أهله وفقد كل أحبابه ورجع وحيدًا لا أنيس له ولا جليس ولا معين يعينه علي نوائب الزمن . ولم يبق للإخوان إلا ما يحفظون من هذا الكتاب . فصار كل يستعيد ما يحفظه ، ويحاول أن يتصل بأخ يكون أوثق حفظًا ليراجع عليه ما يحفظ .. وكان هذا متعذرًا لندرة الفرص التي يتلاقي فيها الإخوان .. وعلي العموم فقد كانت هذه الفترة هي أشد الفترات وأشقها علينا ، وقد كنا نحس خلالها بأننا أصبحنا يتامى نستحق الرثاء والمواساة .


سادسًا : منع العلاج :

كان بالسجن الحربي كسائر السجون طبيب معهود إليه بالإشراف علي علاج المرضي من نزلاء هذا السجن كما كان بالسجن الحربي بناء منعزل من دور واحد يسمي " الشفخانة " وهي كلمة تركية معناها بالعربية المستشفي . وبالرغم مما عليه هذه الشفخانة من تواضع في حجراتها ووسائل الراحة بها فإنها كانت تعد متعة وترفهًا حين تقاس بزنازين السجن الحربي . وكانت هذه الشفخانة في أكثر الوقت الذي قضيناه بالسجن الحربي شبه محرمة علي الإخوان مهما اشتد به المرض ؛ لأنها كانت معدة لذوي الخطوة لدي حكام البلاد ، فكان يقيم فيها أفراد من اليهود الذين كانوا يظهرون نحونا – حين يرون ما نسامه من ألوان العذاب – شعورًا من الإشفاق والله أعلم بالسرائر . كما أن العلاج كان محرمًا علي من يمرض من الإخوان ، ومحظور علي طبيب السجن أن يمد أي مريض منهم بدواء ، في الوقت الذي حظروا فيه ورود أدوية علي حساب المرضي من خارج السجن ؛ لأن الطرود ممنوعة .

وهذا أسلوب لا يقف عند حد الإذلال والتنكيل ، إنما يتعدي ذلك إلي تأديته بهذه الجموع الغفيرة من المعتقلين إلي الموت ، وحينئذ لا يقال إن المشرفين علي السجن قتلوهم بل يقال إنهم مرضوا فماتوا شأن كل إنسان . ولقد لمست يد الله تمتد إلينا حين انقطعت بنا جميع الوسائل ، فالمريض الذي أثخنه المرض ، ويعجز الطب في الحياة الحرة الطليقة عن علاجه ، تمتد إليه هذه اليد الكريمة القادرة وتمسح علي موضع الألم فيصبح معافى سليمًا . كأنما نشط من عقال دون طبيب ولا علاج ولا دواء ، اللهم إلا ما يلجأ إليه إخواننا الأطباء المعتقلون معنا من أسلوب الطمأنة والدعوة إلي الصبر والتهوين من شأن المرض ،وهو ما لا يملكون سواه . أما الإخوان ذوو الأمراض المزمنة من أمثالي ، حيث كانت نوبات الربو قبل دخولي المعتقل تنتابني طيلة الشتاء وعند انتقال الفصول ، ولا أفيق منها إلا بدواء منفث معين كان لا يبرح منزلي طيلة أيام السنة .. أما هؤلاء تولاهم السجن لم يمسسني ضر هذا المرض المزمن قط .

فإذا أضفت إلي أنواع الحرمان هذه التي ألمحت إليها الحرمان من الأمن والحرمان من الغذاء تصورت أن الهدف الذي كان يرمي إليه جمال عبد الناصر وأعوانه إنما هو القضاء علي هذه الجموع باعتبارها حملة الفكرة الإسلامية ، فإذا قضي عليهم قضي علي هذه الفكرة واستراحوا منها إلي الأبد . ولقد كانت هذه الخطة قمينة أن تؤدي إلي ما هدفوا إلي لولا أن التحدي كان موجهًا هذه المرة إلي الله صاحب الفكرة التي آمن بها هؤلاء الناس وعاهدوا علي الدفاع عنها .


الفصل الثالث : طغيـان الأقـزام

لم يقتصر الطغيان علي جمال عبد الناصر باعتباره قد احتل الموقع الذي قاتل صاحبه من قبل وإنما سرت روح الطغيان منه إلي كل من هم تحته تلبست بأصغر جندي من جنوده . وسنعرض في هذا الفصل لونًا من طغيان قزم من الأقزام بلغ به الطغيان أن نسي نفسه وظن أنه مارد اخترق بقدميه الأرض وتطح برأسه السماء .

• الحبس الانفرادي وبدائع صنع الله :

في أحد أيام هذه الفترة العصيبة نعق ناعق البوم بأن تفتح الزنازين ويصطف المعتقلون وقوفاً بداخلها ؛ لأن القائد – قائد السجن الحربي – سيمر ، وفتحت الزنازين وامتثلنا للأمر ، وأخذ حمزة البسيوني ومعه كلبه الذي قد يبلغ ارتفاعه قامة الرجل والذي يعتبره حمزة البسيوني أشرس وسائل التعذيب حين يطلقه علي معتقل لينهش لحمه ، وهو يكاد لضخامته أن يكون في قوة الأسد وبطشه . ومر الرجل . ولا أدري كما لم يكن أحد يدري لماذا كان يمر ، ولا نزال حتى هذه اللحظة لا ندري لم كان يمر .. ذلك أن مروره هذا قد أسفر عن شيء عجيب لا يفهم له معني ، ولا يدرك له مغزى ،ولا يقوم علي أية قاعدة .

أما الذي يخصني في هذا الشيء العجيب أنه حين مر علي زنزانتنا وهي في الدور الثالث من السجن ، وكنا في الزنزانة ثمانية أفراد .. فإنه نظر في وجوهنا ثم أشار إليّ فتقدمت إليه ، فأمر أحد الجنود الذين معه بمصاحبتي إلي فناء السجن حيث وجت ستة من الإخوان لا أذكر منهم إلا أخًا واحدًا هو الدكتور مصطفي عبد الله .. وكان الدكتور مصطفي عبد الله إذ ذاك إما أنه بالمعاش وإما أنه كان قد شارفه . وكان آخر منصب له قبلا الاعتقال مفتش صحة محافظة القليوبية . وكانت لي صلة قيمة بالدكتور مصطفي ترجع إلي الفترة ما بين عامي 1937 ، 1939 حيث كنت لا أزال طالبًا وكنت أقضي أكثر إجازة الصيف في ربوع محافظة البحيرة لنشر الدعوة ولجمع الأسلحة لمجاهدي فلسطين . وكان الدكتور مصطفي في ذلك الوقت مفتش صحة مركز كفر الدوار ، وكان من الإخوان العاملين بشعبة كفر الدوار وكان ممن لا يدخرون شيئًا دون دعوتهم ، ولذا فإن كان من أوائل من اختيروا أعضاء للهيئة التأسيسية عند تكوينها ، وظل الرجل علي ولائه وتفانيه للدعوة دون صخب ولا جعجعة ؛ لأنه كان يعتبر أن المسلم لكي يكون بارًا بإسلامه يجب أن يكون جنديًا في دعوة الإخوان المسلمين .. والرجل في ذاته تقي صالح ورع ممن قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " لو لم يطع الله لم يعصه " .

وخصصت لنا سبع زنازين متجاورة في أحد أضلاع الدور الثاني من السجن أخليت من سكانها حيث وزعوا علي عدد آخر من الزنازين ، حشروا فيها حشرًا مع من تزخر بهم من سكانها الأصليين . وأذهل كل واحد منا – نحن السبعة – زنزانة وحدة أغلقت عليه . وليس بالزنزانة إلا بطانيتان رقيقتان وجردل الماء وجردل البول . لم توجه إلينا تهم ، ولم نؤخذ بذنب ولا جريرة . مع ذلك كان لابد لنا من الامتثال لأوامر من يعتبر نفسه إلهًا في هذا السجن . وقد فهمنا أنه قرر لنا سبعة أيام في هذا السجن الانفرادي .. وفي حالتنا هذه بلغ الفجور بهذا الرجل حدًا لا يعبر عنه إلا بأنه تحد مباشر لذات الله سبحانه وتعالي ، ذلك أنه لم يكتف بحبسنا حبسًا انفراديًا بغير جرم ولا مبرر، بل إنه اختار أضعفنا جسمًا ، وأكبرنا سنًا ،وأقربنا إلي الشيخوخة ، وأمر أن يوضع معه في الزنزانة كلبه المتوحش ، وكان هذا الأخ هو الدكتور مصطفي عبد الله .. وكان معني هذا الأمر الفاجر إلا يصبح الصباح علي الدكتور مصطفي عبد الله إلا وقد فتك به ، ومزق إربًا إربا .. وما كنا نملك له ولا لأنفسنا شيئًا .

واختير لحراستنا حارس يبدو أن الذي اختاره ليس هو ذلك الفاجر ؛ لأنه كان الحارس الوحيد الذي كنا نلمس في تصرفاته معنا الأدب والرحمة وقد نسيت اسمه ولابد أن بعض من زاملونا في خلال تلك الفترة في هذا السجن من الإخوان يذكر اسمه . وقضينا الليلة الأولي ونحن أقرب ما يكون من الله حيث كان التجرد كاملاً .. ولم أكن في تلك الليلة مشغولاً بنفسي وإنما كنت مشغولاً بالدكتور مصطفي عبد الله ذلك الشيخ الضعيف الذي حكم عليه بأن يعيش مع الكلب الكاسر في زنزانة مغلقة وكنت أتذكر في تلك الليلة قول الشاعر :

من جاور الشر لم يأمن عواقبه كيف الحياة مع الحيّات في سفط

وكان قلبي يهلع كلما تذكرت في أثناء تلك الليلة كيف أتلقي في الصباح حين يفتح الحارس الزنزانة ليلقي إليّ بلقيمات الإفطار نبأ وفاة الدكتور مصطفي ممزقاً كل ممزق .. وأصبح الصباح ، وفتح الحارس باب زنزانتي ليقدم لب اللقيمات فابتدرته سائلاً عما إذا كان قد فتح زنزانة الدكتور مصطفي فأجابني بالإيجاب ، وفهمت منه أنه لازال علي قيد الحياة .. فتعجبت وقلت : لعل الكلب لازال شبعان ، ولكنه بعد انقضاء يوم وليلة لابد أنه سيجوع ، وإذا جاع كلب كهذا دون أن يقدم له طعام فلن يجد غذاءً له إلا لحم الإنسان المكلف بشئوننا . وأحب في هذه المناسبة أن أقرر حالة شعورية كانت مستحوذة علينا – نحن نزلاء هذا السجن في تلك الأيام – تلك هي أن استقبال الموت كان من الأمور المتوقعة في كل لحظة ، ثم إنه من الأمور العادية بل أكاد أكون أصْرَح فأقول إنه كان من الأمور المحببة ؛ لأننا وجدنا أنفسنا قد وضعنا في أيدي قوم متخلين عن الدين والخلق والإنسانية والحياء ، غير مقيدين بعرف ولا أدب ولا قانون . ولا فرق في ذلك بين أكبرهم رئيس الجمهورية وبين أصغرهم وهو جندي الحراسة في هذا السجن .. ولذا فقد كان كل منا يتوقع الموت في كل لحظة ، ولكنه يجهل الطريقة التي يزهقون بها روحه .

وقضينا الليلة الثانية في الحبس الانفرادي . وفي الصباح فتح باب الزنزانة وجاء الحارس ليلقي إليّ بلقيمات الإفطار ، وهممت أن أسأله عن الدكتور مصطفي ولكنه بادرني بقول : ألا تعرف ما حدث للدكتور مصطفي ؟

قال : لقد كنا جميعًا متوقعين أن يصرعه الكلب ، وينهش لحمه وعظمه . ولذا كان همي طول الليل أن أنظر إليه من ثقب الباب بين لحظة وأخري .

قلت : فماذا رأيت ؟

قال الحارس : لقد رأيت عجبًا .. لعلك لا تعلم أن الباشا (قائد السجن الحربي هكذا كان يلقبونه) كان قد أمر بألا نقدم طعامًا للكلب طول الأسبوع .. فلما أدخلت للدكتور طعام العشاء أمس ثم نظرت من ثقب الباب فرأيت الكلب جاثيًا أمام الباب ووجهه نحو الباب ، لا يتحرك كأنه يحرس الزنزانة من داخلها .. ورأيت الدكتور يقدم الطعام للكب والكلب لا يقربه ، والدكتور يكلم الكلب كأنه إنسان ، ويعزم عليه أن يأكل والكلب يرفض – ويأكل الدكتور ثم يقدم للكلب بقية الطعام فيأكله الكلب .. ويقدم له الماء فلا يمد فمه في الجردل ، وينتظر حتى يتوضأ الدكتور فيلحس الكلب الماء الذي وقع في أثناء الوضوء علي الأرض . ويقضي الدكتور الليل يصلي والكلب جاثم أمام الباب يحرسه .. والدكتور حين يغلبه النوم فيضع جنبه أنظر فأري الكلب في حالة تحفظ نحو الباب ، كالحارس الذي يخشي أن يقتحم عدو الباب علي صاحبه وهو نائم .. وكنت أري الدكتور في بعض الأوقات يكلم الكلب كأنه إنسان ، ويضع يده علي ظهره فينيخ الكلب ويبسط أقدامه بجانب الدكتور كأنه ولده الصغير .

• ملاحظة :

( ما ذكرته هنا علي لسان الحارس ليست هي ألفاظه التي حدثني بها ؛ لأنه رجل أمي ولكنني عبرت عنها بألفاظ عربية وعبارات عربية فصحى ) وما من شك في ن الذي أدهش هذا الحارس قمين أنم يدهش كل إنسان .. ولكن لا يلبث صاحب القرآن أن يجد فيه ما يرد هذا الأمر المثير للدهشة إلي قواعد قررها في قوله : (                               ) وقوله : (             ) وقوله : (       •    ) .

وجاء الحارس بعد انتهاء الليلة الثالثة ليقول لنا : إن الباشا (قائد السجن) سألني عما كان من شأن الدكتور مصطفي فأخبرته بما رأيت فاغتاظ ثم أمر بإنهاء الحبس الانفرادي لكم . وقد يعجب القارئ حين يعلم أن هذا الفاجر بعد أن رأي كيف رد الله كيده في نحره ، وكيف تحطمت وحشيته الدنيئة علي صخرة إيمان رجل ضعيف لا يملك إلا الإيمان .. كيف لا يفيق من غفلته ، ويفئ إلي رشده ، وينحني ساجدًا أمام عظمة الله وقدرته ، ويكفر بمن دونه من المخلوقين ؟ .

وقد تكون إجابة هذا السؤال التعجبي في قوله تعالي : (                         ) وفي قوله تعالي : (                           •        •                •                     •        ) وفي قوله تعالي : (      •     •       •   ) .

وإلي الذين فتنهم العلم المادي وبهر عيونهم بما حقق من تقدم ومخترعات وازدهار ، فوقفوا عند حدوده وظنوا أنها آخر الحدود ، وأن ليس وراءها شيء ، فإذا قيل لهم إن وراءها أشياء لا شيء واحد قالوا ، هي خرافات .. إليهم نسوق هذه الواقعة التي عشناها وعاشها معنا آلاف علي أنها ثقب في الجار المادي الذي حجب عنهم ما وراءه ، لعلهم ينظرون منه فيرون أنهم ليسوا علي شيء وأن عالمهم المادي بكل ما فيه ليس إلا ذرة من بحر علم الله ومحيط قدرته ، وأعيد هنا ما أردده دائمًا وما كان يكثر من ترديده إمامنا حسن البنا من تائبة ابن الفارض حيث يقول :

ولا شك ممن طيشته طروسـه بحيث استقلت عقلـه واستبـدت

فإن وراء العقل علمًا يجل عن مدارك غايـات العقول السليمـة

ثم أرجع إلي السياق فأقول : وكان خروجنا من السجن الانفرادي لي زنازيننا كما يفرح المسجون بالإفراج عند رجوعه إلي أهله . وقبل أن أصل في هذه الواقعة إلي نهاية الحديث عنها أحب أن ألفت النظر إلي القدرة الإلهية لا تتدخل في شئون البشر إلا بالقدر الضروري الذي لا غني عنه ، حتى تدع للسنن الكونية أن تأخذ مجراها في حياة الناس .. فهذا الكلب الذي وقف حارسًا للدكتور مصطفي هو نفسه الذي سلطه صاحبه علي بعض من حقق معهم من الإخوان فنهشهم .. فإذا سأل سائل لم هذا الاختلاف في سلوك الكلب بين الحالتين ؟ فنقول إن هذا الاختلاف في سلوك الكلب لم يكن لأن من حقق معهم كانوا أضعف إيمانًا من الدكتور مصطفي ولا أقل إخلاصًا ، وإنما السبب أن الذين كان يجري معهم التحقيق كانت لا تزال أمامهم فرصة (      ) فالاعتراف بما هو مطلوب أن يعترفوا به ينجيهم من فتك الكلب بهم .. أما الدكتور مصطفي فكان في وضع انقطعت فيه كل الأسباب فهو مجرد من كلا سلاح والكلب معه والباب مغلق من خارجه عليهما ، فكان تدخل القدرة الإلهية ضروريًا لا غني عنه .

ويشبه هذا الموقف إبراهيم عليه السلام حين قالوا : (              ) ويشبه موقف يوسف وامرأة العزيز وهو غلام مشتري بالمال ليس له حق التصرف حتى في نفسه وليس أمامه طريق للهروب من بيت يعتبر هو فيه من متاع البيت ، وقد استطاعت امرأة العزيز أن تنال تأييدًا من مؤتمر النسوة اللائي كن يلمنها فقالت : (  •                  ) حينئذ بعد أن سدت أمامه جميع السبل لجأ إلي السبيل الآخر حين قال : (                  ) وهنا كان تدخل القدرة الإلهية ضروريًا لا غني عنه (           ) وينبغي التنبيه إلي أن المشكلة المستعصية التي كان يعانيها يوسف عليه السلام لم تكن أن يلقي به في السجن أو لا يلقي ، وإنما كانت المشكلة أنه وضع وسط فتنة لا يمكن مقاومتها ولا يمكنه الهرب منها ، فكان صرف كيدهن عنه بالسجن هو الحل الوحيد .

• التكدير والتنكيل بالكرام :

لست أدري علي أية قاعدة قانونية أو عرفية أو عقلية بني هؤلاء العسكريون تصرفهم المسمي " بالتكدير " .. ونظرتهم في ذلك أنه إذا أخطأ فرد ينتمي إلي جماعة أخذوا الجماعة بجريرة الفرد ، حتى بعد أن يستوفي جزاء جريرته . والسجن الكبير الذي كنا نزلاءه يضم نحو ثلاثمائة زنزانة ، والزنزانة وحدة مستقلة ومعزولة عولاً كاملاً عن بقية الزنازين بفضل الإغلاق المستمر ، والتعليمات الصارمة التي كانت تعتبر اتصال فرد من زنزانة بفرد من زنزانة أخري جريمة يعاقب عليها باعتبارها تآمرًا علي الدولة وإعدادًا لقلب نظام الحكم ، وتهديدًا خطيرًا للأمن العام .. مع أن هذا الفرد وزنزانته والسجن كله معزولا عزلا تامًا عن المجتمع المصري وحده بل عن العالم كله . هذا السجن بنزلاته المقاربين الثلاثة آلاف كانوا يعاقبون جميعًا إذا ما بدو من فرد واحد منهم ما يعتبره السادة المشرفون علي السجن خطأ – ولست بصدد مناقشة هذا التصرف الذي اعتبروه خطأ وجريمة هل هو حقاً جريمة أم أنه مجرد الحصول علي أدني حقوق الإنسان ، من محاولة دخول دورة المياه في حالة مغص شديد ، أو ملء قلة بالماء لإسعاف مريض أو ما شابه ذلك .. لست بصدد هذه المناقشة وسأفترض أن الذي بدر من الفرد جريمة ، فما ذنب ثلاثة آلاف لم يرتكبوا الجريمة ولم يشتركوا فيها ، ولم يعلموا بها ؟ لم يحشد هؤلاء الآلاف في صعيد واحد ، ويعاقبون عقابًا تهدر فيه كرامتهم ، وتؤذي أجسامهم ؟ . ألم يقل خالق الخلق (     ) كما أن القوانين علي اختلاف نزعاتها لم تخرج عن القاعدة التي قررها خالق الخلق ؛ لأنها هي العدالة وهي ما لا يقول العقل بغيره .

ولقد كانت حياتنا في هذا السجن سلسلة من حلقات التكدير ، لا نكاد نلخص من تكدير حتى يبدأ تكدير .. وناهيك بمجتمع من ثلاثة آلاف هل يمكن أن تمر أيام دون أن يرتكب فرد منهم جريمة ؟ باعتبار الجريمة عندهم من مخالفة أهواء صعاليك جهال موكول إليهم الإشراف علي أرقي مجتمع لا أقول في مصر بل في العالم كله . وإذا كنت قد تحدثت في سياق ما قدمت عن ألوان من التنكيل التي تناولوا بها المجتمع الإخواني ، فإني أخص بالذكر الآن لونًا معينًا من التنكيل بالكرام كبار السن والمقام الذين تواضع الناس علي احترامهم وتوقيرهم .

الأخ الحاج حامد الطحان ، رجل من كرام الناس ، مرموق في المجتمع ، بسط الله تعالي له في الرزق ، فبسط كفه في الإنفاق علي كل ذي حاجة وعلي الدعوة الإسلامية .. لا أقول لا يتخلف عن سد ثغرة بل إنه سباق إلي البذل فوقته وجهده وماله لله .. لا أنسي أنني زرته في بلدته " كفر بولين " مركز كوم حمادة في عام 1937 وكنت إذ ذاك لا أزال طالبًا في كلية الزراعة ، فسألته بسذاجة عن مقر شعبة الإخوان المسلمين في كفر بولين ، فأخذني إلي مبني مكون من ست عشرة غرفة وقال لي : هل يعجبك هذا المبني ليكون مقرًا للشعبة ؟ .. وقال لي : إننا جميعًا هنا رجالاً ونساءً وأطفالاً من الإخوان المسلمين ، وبيوتنا كلها دور للدعوة وكلنا ملك لها . وأذكر أنني في أواخر الثلاثينات بعد أن فتحنا شعبًا كثيرة في محافظة البحيرة اقترحت علي الأستاذ الإمام أن يزور شعب الإخوان في المحافظة . وكانت البحيرة في ذلك الوقت من أعسر بلاد القطر مواصلات ، فإذا بالحاج حامد يأتي بسيارته ويقضي بها أكثر من أسبوعين يسوقها بنفسه مع أن عنده أكثر من سائق ، لكنه كان حريصًا أولاً علي أن يغير وجهه في سبيل الله ، وثانيًا علي أن يكون بجانب الأستاذ الإمام ليفديه بنفسه عند الخطر ، وثالثًا لتتسع لراكب آخر من الإخوان يأخذ مكان السائق .

والحديث عن الحاج حامد وعن كرمه ونبله يطول ويتشعب . وخلاصة القول فيه أنه كان عثمان هذه الدعوة . لم يستطيعوا أن يلفقوا للرجل تهمة يأخذونه بها فاعتقلوه ، وجري عليه ما جري علي إخوانه من المعتقلين مما أشرنا إلي طرف منه من التنكيل العام والإهانات العامة – ولكنهم لم يكتفوا بذلك فأرادوا أن يخصوه بتنكيل يشفي غلهم ويرضي حقد قلوبهم ، فرأينا الرجل الفاجر (حمزة البسيوني) الذي طوق فضل الحاج حامد جيده وجيد أسرته يأمر به أن يحمل جردلاً ليفرغ به ماء بركة الماء التي فرجها لنا إلهنا جل شأنه – وهي باعتبارها عينًا لا تفرغ – ووكل به سفهاء السجن ليوالي العمل دون هوادة . ولو كان نزح هذه البركة أمرًا مطلوبًا إنجازه ، فإن مئات من الإخوان الشبان كانوا علي أتم استعداده لإنجازه .. ومع أن هذا النزح كما قلت من قبل لا داعي له لأن أخذ الإخوان حاجتهم من هذا الماء يجدده ، فإن كل شباب الإخوان في السجن كانوا علي استعداد أيضًا لنزحه بدلاً من أخيهم الكبير الحاج حامد .. ولكن الأمر صدر لا لإنجاز عمل وإنما لإهانة شخص معين وإذلاله وإرهاقه .

وبهذه المناسبة أذكر أن أخوين كريمين قد رضيا أن يقوما بعمل قد يأنف الكثيرون من مزاولته ، ذلك هو تنظيف دورات المياه .. وكان بالسجن الكبير هذا دورتان متقابلتان يفصلهما فناء السجن .. عهد بإحداهما إلي الأخ الكريم الشيخ منصور وهو جواهرجي من إخوان القاهرة وكانت ورشته في شارع الموسكي وعهد بالأخرى إلي الأخ الكريم حسني كوتش من كرام إخوان الإسكندرية . ولقد كان لهذين الأخوين – فضلاً عن مهمة التنظيف – أعمال جليلة في خدمة المجتمع الإخواني في هذا السجن فقد استطاعا بمهارة ولباقة يستغلا وجودهما خارج الزنازين أحسن استغلال بحكم اتصالهما بجنود السجن . فمن طريقهما كان الإخوان يعرف بعضهم أخبار بعض . وعن طريقهما أرسلت رسائل هامة إلي خارج السجن ، وعن طريقهما وردت رسائل هامة إلي الإخوان في السجن . وعن طريقهما خفف تنفيذ كثير من الأوامر الإجرامية . ويلحق بهذين الأخوين عدد آخر من الإخوان ممن يتقنون أعمال الرسم والزخرفة . كانوا يطلبون لإعداد أعمال فنية لحساب السيد القائد .. فكان خروجهم خارج الزنازين وخارج السجن الكبير يعود علي المجتمع الإخواني بمنافع مختلفة – كما أن إخواننا الطباخون الذين يشتركون مع العساكر الطباخين في إعداد الطعام هم الآخرون يقومون بدور كبير في تحسين الطعام وفي إتاحة الفرصة للاتصال بخارج السجن في بعض الأحيان – ولقد قام إخواننا الفنانون هؤلاء بإنجاز أعمال فنية رائعة استحل هذا الرجل الفاجر أن يستغل جهودهم فيها أسوأ استغلال ، وأن يزود بيته وبيت ألهته بها سجنًا دون مقابل .

• الواعـظ :

ومن أساليب التخبط والهزل التي تمخضت عنها عقولهم التافهة أنهم في خلال إقامتنا بهذا السجن أرسلوا إلينا واعظًا من وعاظ الأزهر ومن حسن الحظ أن هذا الواعظ واسمه الشيخ محمد عثمان كان رجلاً عاقلاً . فقد فهم الرجل أنه رشح لمخاطبة أعلي المستويات ، كما أنه فهم الظروف المحيطة بهذه المهمة ، فكان الرجل في حديثه في غاية الحذر . وبالرغم من شدة حذره ومحاولته تفادي مواطن الحرج ، فإن سفالة حرس السجن أوقعته في حرج كبير ، ولذا فإن أيامه لم تظل معنا ، مما يشعر بأنه استطاع أن يفلت من مهمة قد تنتهي به إلي أن يصبح هو الآخر نزيلاً معنا . فمهما كان الإنسان ثابت الجنان ، ملكًا لأزمة شعوره ، مسيطرًَا علي أعصابه .. فقد تجدُّ مواقف لا يستطيع أقوي الناس سيطرة علي نفسه إلا أن ينفجر غضبه بكلمات لا يجد من يعذره عليها من هؤلاء الأوغاد الذين يلتمسون للبرءاء العيب . ولا أنسي بهذه المناسبة موقفًا لهذا الرجل – وهو من أهل إسنا – عندما وجه الحديث إلي الأخ البكباشي معروف الحضري إجابة عن سؤال وجهه .. والبكباشي معروف الحضري ضابط له شهرة في مختلف الأوساط المصرية والعربية لمواقفه التي طيرتها وكالات الأنباء في حرب فلسطين عام 1948 – فاستعمل الرجل الكريم في الإجابة عن السؤال أسلوبًا يشعر باحترام الأخ معروف .. فما كان من الحراس السفهاء إلا أن اعترضوا علي هذا الأسلوب بطريقة مجرمة ، جعلت الرجل لا يعرف ماذا يقول وماذا يفعل وكيف يخرج من هذا المأزق .. وأذكر أن الرجل قد انقطع عنا بعد هذه الحادثة .


الفصل الرابع : دراســات

وسط هذا الجو الخانق الذي كان الإخوان يعانون وطأته في هذا السجن الذي انعدمت فيه القيم الإنسانية وديست فيه بالنعال الكرامة الأدبية ، ولم يعد لإنسان فيه عاصم يعصمه أو يحتكم إليه أو يحتمي فيه من عرف أو قانون ، وكان كل فرد فيهم مهددًا بفقد كرامته ورزقه بل وحياته في كل لحظة تنمر عليه .. وسط هذا الجو لم يفقد الإخوان ثقتهم بأنفسهم ، ولا إيمانهم بفكرتهم ، فكانوا لا يفتئون يتدارسون كل جديد يصل إليهم نبأه مما يتصل شئون أمتهم ، ناسين ما هم فيه من كروب وآلام ، وما يسامون من ظلم وعذاب . فكانت اللحظات النادرة التي تتيح للأخ منهم أن يلقي أخاه لا يستغلها في استعانة به علي تخفيف عبء عنه من أعباء الحياة القاسية التي يعيشها ، بل يستغلها في مناقشة أمر من الأمور وصل إليه نبأه ، هادفين من ذلك إلي أن يكون المجتمع الإخواني دائمًا إزاء كل جديد ، علي رأي سواء في ضوء الفكر الإسلامي . كسـر احتكـار السـلاح

جريًا علي أسلوب الطغمة الحاكمة في محاولة عزل المجتمع الإخواني عن الحياة ، كان محرمًا دخول الصحف إلي السجن ، كما كان محرمًا وجود الراديو .. إلا أننا فوجئنا في يوم من الأيام الزنازين ووجود جهاز للراديو بمكبر للصوت في فناء السجن ، وسمعنا الإذاعة المصرية لأول مرة منذ وصولنا إلي عتبة هذا السجن .. وقد توقعنا من هذا الإجراء المفاجئ أنهم يريدون أن يسمعونا خيرًا ذا بال . وكان ما توقعناه ، فسمعنا المذيع يلقي إلي المستمعين في أسلوب ينم عن الزهو والتفاخر أن الرئيس جمال عبد الناصر استطاع أن يكسر احتكار السلاح . وموضوع احتكار السلاح موضوع قديم . وكان دائمًا إحدى الدعائم الأساسية التي يقوم عليها صرح السياسة الغربية ، حيث كانت صلاتنا مقصورة علي الكتلة الغربية دون الكتلة الشرقية التي لم نكن نعترف رسميًا ، ولم نعترف بها إلا قبيل الثورة .. وكانت سياسة الدول الغربية ألا تبيعنا من السلاح إلا ما تشاء لا ما نريد حتى تضمن أن تكون في حدود معينة من القوة لا تتعداها لنظل دائمًا دائرين في فلكها .

وقبل إذاعة هذا النبأ علينا كان قد تسربت إلينا أنباء عقد مؤتمر باندونج . و قد نوقشت أنباء هذا المؤتمر علي أساس ما تصل إلينا من قصاصات من الصحف تحمل بعض أنبائه . ولم تكن صورة هذا المؤتمر واضحة في أذهاننا لأن الدول التي اشتركت فيه لم تكن تبلورت مواقف كثير منها بعد . ولكننا مع ذلك لم نحسن الظن به ؛ لأن الدول الشيوعية الكبرى كانت مشتركة فيه . وقد لاحظنا أن رئيس وزراء الصين شوايين لاي – وهو أحد دهاقين السياسة – كان محتفيًا بجمال عبد الناصر احتفاءً أحسسنا أن له مغزى ، وأن له هدفاً . وكانت الصين لا تزال بعد خليفة لروسيا ، وكانت يدها اليمني كما يقولون . ويبدو أننا كنا علي صواب في نظرتنا إلي هذا المؤتمر .. فقد تمخض هذا المؤتمر عن قرارات رائعة ، ولكنها جميعًا كانت حبرًا علي ورق مثل وثيقة حقوق الإنسان التي أصدرتها الأمم المتحدة – أما النتائج العملية المحسوسة التي أسفر عنها فكانت فتح أبواب مغلقة في وجه الشيوعية الدولية .

وجاءت خطوة كسر احتكار السلاح مفاجأة لنا وللعالم كله . وبدا بها جمال عبد الناصر بطلاً تاريخيًا حيث صار أول حاكم لمصر استطاع أن يخرج ببلده من النطاق المضروب عليها من الغرب ، إذ وصل السلاح الذي تريده مصر إليها من تشيكوسلوفاكيا أولاً ثم من روسيا بعد ذلك . ولا شك في أن هذه الخطوة أغضبت دوائر الغرب قاطبة باعتبارها إفلاتاً من قبضتها . ووقف الإخوان في السجن حائرين أمام هذه الخطوة يريدون أن يصلوا فيها إلي رأي وكثرت المناقشات حولها ، واختلفت الآراء .. ولاحظت أن أكثر الاختلاف كان ناشئًا من تحكيم العاطفة بدلاً من تحكيم العقل والمنطق . وجاءني فريق من الإخوان يسألونني الرأي في الموضوع فكانت إجابتي علي الصورة التالية :

أولاً : نحن الإخوان المسلمين كنا أول من دعا منذ عام 1937 إلي تسليح الجيش وتسليح الأمة بأحدث الأسلحة مُتَخَذَّين في ذلك إرادة الحكومة المصرية والقصر والانجليز ، مثيرين بذلك الدهشة والاستغراب في أوساط الأحزاب المصرية بما فيها حزب الوفد .. وقد نشرت جريدة " المصري " حديث المرشد العام حسن البنا في ذلك الموضوع علي أنه إحدى المفاجآت والأعاجيب . ( وقد أشرنا إلي ذلك في الجزء الأول من هذه المذكرات ) .

ثانيًا : كراهيتنا لجمال عبد الناصر أمر مقرر ومفروغ منه وأسباب ذلك كلها تتصل بالله ، ولكن هذه الكراهية من الثناء علي عمل نافع إذا صدر عنه . فكراهيتنا لشخصه لا تحملنا علي الغض من كل ما يصدر عنه من عمل ؛ لأن المسلم يجب أن يكون متخلفاً بخلق القرآن الذي يقول : ( •            •        ) .

ثالثاً : إذا نظرنا إلي العمل في ذاته وجدناه عملاً نافعًا ؛ لأنه إخراج للبلاد من الدائرة المفرغة التي تدور فيها منذ بدء الاحتلال البريطاني – وتقوية الجيش وتسليحه بأسلحة حديثة أمر مطلوب شرعًا وهو مطلبنا من قديم نحن الإخوان .

وهنا توجه إليّ هؤلاء الإخوة بسؤال آخر فقالوا : أما وهذه الخطوة خطوة نافعة فلماذا لم يقدم عليها أحد من حكام مصر السابقين وأقدم عليها جمال عبد الناصر ؟ فكانت إجابتي علي سؤالهم هذا كما يلي :

جمال عبد الناصر بالرغم من أننا يلونا منه النفاق والكذب والغدر والخديعة والتجرد من الشرف والأخلاق ، فلا نستطيع أن ننكر أن فيه لمحة من عبقرية ، وأن له طموحًا يفوق كل تصور . وهو يعلم أن الذي منع سابقيه من الإقدام علي هذه الخطوة ، هو خوفهم من الفشل دون إتمامها لأنه سيواجهون العالم الغربي كله .. والرجل إذا كان له مجد شعبي يحرص عليه ، يحسب ألف حساب لكل خطوة يقدم عليها ؛ لأن مخاطرته إذا لم يكتب لها النجاح فلن تودي به وحده ، بل ستودي به وبمن وراءه ومن هو مرتبط بهم ..أما إذا لم يكن له مجد شعبي فعلي أي شيء يخشي إذا هو فشل ؟ وتوضيح ذلك أن الذين حكموا مصر قبل جمال عبد الناصر أحد رجلين ، إما رجل ارتبط بالشعب وهو الوفد ، وإما رجل ارتبط بالملك وهم الأحزاب الأخرى – أما الوفد فإنه كان يمثل تراثاً شعبيًا ضخمًا تم بناؤه في شعرات السنين ، وتحت وطأة ظروف قاسية .. فإقدامه علي مثل هذه الخطوة مخاطرة ، إذا قدر لها الفشل تحطم هذا البناء وضاع هذا التراث العزيز – وأما الأحزاب الأخرى فما كان لها أن تقدم علي خطوة فيها إغضاب المستعمر الذي هو سند القصر الذي هم سدنته وخدمه .

لهذا رأي جمال عبد الناصر أمامه فرصة سانحة ، إذا أقدم عليها ففشل فلن يخسر شيئًا لأنه هو نفسه لم يكن شيئًا حتى يقال إنه فقد شيئًا ، كالمفلس إذا قامر يقامر وهو مطمئن لأنه إما أن يكسب فيغتني من العدم ، وإما أن يخسر فلا تضيره الخسارة . والمثل العربي يقول : أنا الغريق فما خوفي من البلل ؟! كان هذا هو ملخص رأيي الذي أدليت به إلي الإخوة الذين جاءوا يسألونني .. ويبدو أن هؤلاء الإخوة أذاعوا هذا الرأي في أنحاء المعتقل حتى وصل إلي أسماع جبهة إخواننا الكبار ، الذين ساءهم أن يصدر هذا الرأي عني ، فأرسلوا إليّ يطلبون الالتقاء بي ، وتم الالتقاء بهم ، وكان الأخ البكباشي معروف الحضري أشدهم غضبًا . ولم أكن من قبل علي صلة بالأخ معروف ، فكانت هذه أول مرة نلتقي فيها ونتعارف . وفهمت من إخواننا هؤلاء أنهم كانوا يريدون ألا يصدر عني ما فيه إطراء لعمل يأتيه رجل فعل بنا ما فعل مهما كان العمل في ذاته جليلاً – وقد رددت عليهم بأن هذا يتعارض مع الخلق الإسلامي الذي قرره القرآن الكريم . وقرره عمر بن الخطاب حين التقي بالرجل الذي قتل أخاه ضرارًا – وكان الرجل قد أسلم فقال له عمر : والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم ، فقال له الرجل : وهل يمنعك هذا أن تؤدي إليّ حقي ؟ قال عمر : لا . قال الرجل : فلا عليك إذن فإنما يبكي علي الحب النساء .

أما الأخ معروف فكان اعتراضه منصبًا علي ما وصفت به عبد الناصر في هذا التصرف من أنه عبقري . وقد غضب أشد الغضب من وصفي جمالاً بالعبقرية في هذا التصرف ، وقال : كيف تصف بالعبقرية رجلاً لا وفاء عنده ولا خلق ولا شرف .. ولم يستطع الأخ معروف أن يستسيغ أن يكون إنسان موصوفاً بالذكاء والتفوق الفكري والنضج العقلي وهو في نفس الوقت فاقد كل ما يتعلق بالنفس من صفات خلقية كالصدق والوفاء والمروءة والشرف .. ثم أخذ يدلل علي صواب رأيه وخطأ رأيي فقص عليّ القصة التالية :

قال : " بايعنا الأستاذ الإمام حسن البنا علي المصحف والمسدس باعتبارنا عسكريين في عام 1941 وكان معنا في المبايعة جمال عبد الناصر . وكانت تربطني بجمال صداقة شخصية وعائلية ، كما كانت تربطنا كلينا رابطة صداقة من نفس الدرجة بالأخ عبد المنعم عبد الرءوف الذي اختير مسئولاً عن تنظيم الإخوان في الجيش .. ثم علمنا أن جمال أنشأ تنظيمًا آخر خاصًا به لا يتقيد بمقاييس الإخوان .. وحاول استغلال صداقته لي في جذبي إلي تنظيمه فرفضت ، وحاول إغرائي بكل وسائل الإغراء ولكنه فشل .. فلجأ إلي أسلوب الإحراج بأن انتهز فرصة مناسبة من المناسبات فدعاني إلي حفلة في منزله فوجئت بأنها تضم أعضاء تنظيمه ، وقدمت المرطبات ، ثم وقف جمال ليتكلم فرحب بالذين لبوا الدعوة وشكرهم ثم خصني بالشكر وقال : وأبشركم بانضمام الأخ معروف الحضري إلي تنظيمنا .. ففهمت في الحال إنما أقيم وافتعلت له المناسبة وكان المقصود منها إحراجي ووضعي أمام أمر واقع .. ولكنني بالرغم من المفاجأة ومن الإحراج الذي أحكمت حلقاته حولي تمالكت أعصابي وشكرت جمالاً علي تقديره لي وشعوره نحوي ، وأبديت اعتذاري بأنني لا أستطيع أن أتخلي عن تنظيمي ، ولا أستطيع أن أعمل في تنظيمين معًا .. وكانت هذه آخر محاولة لجأ إليها لجذبي إلي تنظيمه .. ولكنني عرفت بعد ذلك أنها لم تكن آخر ما في جعبته من أساليب .

جاءني جمال بعد ذلك إلي منزلي ، وأفهمني أنه يريد أن يسر إليّ بحديث خاص دفعه حبه لي إلي الإفضاء به إليّ ، قال لي : يا معروف : هل بينك وبين عبد المنعم سوء تفاهم ؟ قلت : لا – فأبدي تعجبه وقال : إذن فلم هذا الكلام الذي يقوله عنك ؟ يبدو أنه يخشي علي منصبه في التنظيم من وجودك فيه . لقد كنا معًا بالأمس ، وجاءت سيرتك فقال : أنا لا أستخف دم هذا الشخص لأنه يعمل في هذا التنظيم لشخصه ، وسأحاول بتره من التنظيم . يقول معروف : ووقع مني كلام جمال موقع المفاجأة وكدت أشك فيه لولا أنني في أول لقاء لي مع عبد المنعم لاحظت أنه معرض عني ، وينظر إليّ شزرًا ، مما أكد لي صدق جمال فيما نقله إليّ . فما كان مني – وأنا بشر – إلا أن قابلت إعراضه بإعراض وتجاهله لي بتجاهلي له ، واستمر الخصام بيني وبين عبد المنعم لا أكلمه ولا يكلمني حتى قامت الثورة . وجمعني وإياه السجن الحربي حيث اعتقلنا جمال ، فأخذنا نستعيد الأحداث ونتعاتب .. وفي هذه اللحظة فقط فهمنا أن جمالاً استطاع أن يوقع بيننا بأن أسر إلي كل منا علي انفراد حديثًا مختلفاً يوغر صدر كل منا علي أخيه . وقد نجحت حيلته في شل حركتنا بعد أن يئس من اجتذابنا إلي تنظيمه " .

وهنا قال لي معروف : فهل مثل هذا الرجل الذي يستبيح الكذب ويوقع بين الناس ويسعي بينهم بالنميمة يقال إنه عبقري ؟ .

فقلت له : يا أخي معروف : العبقرية صفة تتصل بسرعة الخاطر ، وإحكام التدبير ، وبعد النظر ، وبراعة التخطيط للوصول إلي الأهداف التي يسعي صاحبها للوصول إليها ، ولا تتصل بالأخلاق والنبل والوفاء والمروءة والضمير .. فقد يكون الرجل عبقريًا وليس علي شيء من الخلق والضمير ، وقد يكون الرجل وفيًا صادقًا نبيلاً ولا نصيب له في العبقرية – وقد يجمع بعض الناس بين العبقرية والخلق هؤلاء هم الذين جمعوا أطراف الكمال الإنساني وهم القلة دائمًا . وأنا حين وصف جمال بالعبقرية وصفته وأنا أعلم أنه من الصنف الأول الذي ليس له نصيب من خلق ولا دين ولا شرف ولا ضمير – واسمح لي يا أخي معروف أن أقول لك إنك بما قصصته الآن علي ، قد أضفت برهانًا آخر علي عبقرية جمال كما أضفت برهانًا جديدًا علي سذاجتنا ، ورسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : " المؤمن كيس فطن " وعمر بن الخطاب يصف نفسه فيقول " لست بالخب ولكن الخب لا يخدعني " .

هذه قضية عرضت لنا في أثناء وجودنا بهذا السجن أردت بإيرادها أن أثبت أن حيوية الإخوان لم تستطع كل أساليب القهر والكبت والإذلال أن تحتويها ولا أن تنال منها ولا أن تحد منها ، ثم إنني قصدت عرضها علي جمهور القراء ليناقشوها وهم متمتعون بالحرية كما ناقشناها ونحن تحت وطأة ظروف قاسية ربما كان لها بعض التأثير في حكمنا علي الأمور . وقد قرأت في هذه الأيام في كتاب " جمال عبد الناصر " للأستاذ أحمد أبو الفتح في صفحة 262 مما يمس هذا الموضوع حيث يقول : " إن صفقة الأسلحة في الحقيقة كانت بمثابة العصا السحرية التي مست قلوب الشعوب العربية فحولتها بسرعة فائقة إلي حب وتقدير بل تقديس لشخص جمال عبد الناصر – لقد كانت الأسلحة الروسية نقطة تحول حاسمة في سياسة عبد الناصر ، فقد أوضحت له معني لم يكن يعرفه من قبل ، ورسمت له الطريق نحو زعامة لم يصل إليها أي زعيم عربي من قبل – لقد أوضحت له معني وهو أن مشاعر العرب يمكن إثارتها وكسبها عن طريق مناهضة الغرب والوقوف في وجهه .

وقد رأيت أن أنقل رأي الأستاذ أبو الفتح في هذا الموضوع ، لأن الأستاذ أحمد أبو الفتح وإن كان ليس من الإخوان المسلمين فإنه من الكتاب المنصفين ، وقد ناله من ظلم جمال عبد الناصر وغدره مثلما نالنا .

علي أن هذه القضية لم تكن القضية الوحيدة التي دار حولها نقاش في خلال وجودنا في السجن ، وإنما كانت هناك قضية ، ولكنني اخترت هذه القضية لأنها كانت أهم القضايا ، وكانت مناقشتها علي أوسع نطاق . كما أنني لم أكن وحدي الذي يستطلع رأيه بل كان هناك غيري من الإخوة تستطلع آراؤهم . وقد أكون أنا أضيقهم نطاقاً في إسماع رأيه ، فقد كان غيري حريصًا علي إسماع رأيه فكان ينتقل من زنزانة إلي أخري مع ما في ذلك من مجازفة . أما أنا فكنت معتصمًا بزنزانتي لا أغادرها إلي غيرها ولا أبدي رأيي إلا لمن ينتقل إليّ .. لأنني كنت أعتقد أن وقتنا في هذا السجن متجردين التجرد التام لا ينبغي أن يستغل أي جزء منه في غير العكوف علي كتاب الله . وقد وفقني الله عز وجل كما أشرت من قبل فحفظت القرآن كله والحمد لله قبل ومن بعد .

• الثمانية عشر شهرًا :

قضي الإخوان في هذا السجن ثمانية عشر شهرًا تحت وطأة لا تحتمل من الضنك والضيق والإرهاق لا يكاد الواحد منهم يستطيع حتى التنفس ، فكل همسة معدودة عليه ، وكل لفتة محاسب عليها ، بل إنه يكال له العذاب علي ما لم تحن يداه ، ولم يفه به فمه بل ولم يخطر علي باله . وقد أثبت الإخوان في خلال هذه الفترة جدارتهم باعتبارهم المجتمع الفاضل الذي تحدث عنه الفلاسفة وتخيله المثاليون ، فقد اعتصموا بجميع الفضائل في الوقت الذي كان الاعتصام فيه بفضيلة واحدة يكلف صاحبها حياته . ففضيلة الصدق كلفت الكثيرين من الإخوان حياتهم نفسها . ومنهم من كلفته من الصبر علي الأذى ما كان الموت أهون منه . ولقد كانت لهم رخصة في مثل قوله تعالي : (            ) ولكنهم اختاروا العزيمة خوفاً من أن يوقعوا إنقاذ إخوانهم مما يريد الطغاة أن يلصقوا بهم من تهم .

وفضيلة الوفاء لدعوتهم التي عاهدوا الله عليها ، هان عليها في سبيلها مفارقة الأهل والزوجة والأبناء وهجر التجارة وانقطاع موارد الرزق ، فلقد كان أكثر من نصف نزلاء هذا السجن من ذوي المهن الحرة من صناع وزراع وتجار .. وهؤلاء انقطعت مواردهم من أول يوم اعتقلوا فيه . ولم تقف حقارة الطغاة عند هذا الحد بل إنهم اعتقلوا من هزتهم الأريحية من كرام الناس – الذين ليسوا من الإخوان – فمدوا يد المعونة إلي أسر هؤلاء المعتقلين الذين انقطعت مواردهم . واعتبر الطغاة هذه المعونة جريمة يعاقب عليها القانون وأوقفوهم أمام المحاكم المستخفية التي حكمت عليهم بعشر سنوات . وقد حقق الإخوان بذلك قول الله تعالي : (                                 ) وقوله تعالي : (          •    •     ) .

   ولقد التقيت بعد خروجنا من هذا السجن بأخ كان معنا وكان عنده منحل كبير يدر عليه ربحًا عظيمًا ، وسألته عن منحله فقال لي : إنني خرجت فلم أج للمنحل أثرًا ، لا النحل ولا العسل ولا الخلايا حتى الأرض التي كانت خضراء حوله وجدتها جرداء . وفضيلة التعاون والإيثار جعلت الشاب يحمل العبء عن الشيخ ، والقادر علي الشيء يمد به غير القادر سواء كان هذا الشيء مالاً أو علمًا أو فناً أو فضل قوة ، ولا يري القادر لنفسه فضلاً علي أخيه بل يشعر بسعادة أنه يحقق معاني الإسلام التي آمن بها ودعا الناس إليها . 

• الأشهر الستة الأخيرة :

استفرغ الطغاة كل ما في طاقتهم من وسائل الظلم والقهر والإرهاب .. وأخيرًا تنبهوا فوجدوا أن سمعتهم وصلت إلي الحضيض سواء في داخل البلاد وخارجها .. فأخذوا في تعديل أسلوب تعاملهم فأمروا بما يسمونه " تحسين المعاملة " . وكان مظهر تحسين المعاملة فتح الزنازين وترك الحرية للمعتقلين للتنقل فيما بينها ، والسماح بالمراسلات وإرسال الطرود والزيارات والسماح بالعلاج – كما بدأوا في تنظيم عملية الإفراج ، حيث قسموا المعتقلين أقسامًا وأفواجًا يفرج عنهم تباعًا علي أن يتم الإفراج عن آخر فوج في شهر يونيه 1956 . والظاهرة العجيبة التي أسجلها هي أن أبرز ما كان من شأن المعتقلين في خلال هذه الفترة ظهور الأمراض بينهم ، وهذا مصداق للمعادلة المعروفة التي يمثلها القول الشائع : " إن الله يعطي البرد علي قدر الغطاء " ، وكنت أنا شخصيًا أحد الذين مرضوا في هذه الفترة وعولجوا .

• استغلال الحرية داخل السجن :

وقد رأينا أن نستغل هذه الفترة بما فيها من حرية التنقل داخل السجن في عمل نافع . فقسم الإخوان أنفسهم جماعات ، تضم كل جماعة المشتغلين بمهنة واحدة ، فهذه جماعة الأطباء ، وهذه جماعة الصيادلة ، وهذه جماعة التجار ، وهذه جماعة العاملين في صناعة الطباعة ، وهذه جماعة العاملين في الزراعة وهكذا .. وعلي كل جماعة أن تنظم لنفسها اجتماعات دورية تناقش فيها شئون مهنتها من الوجهة العلمية والوجهة العملية . ولقد كان لهذه الدراسات المهنية نتائج طيبة في إيجاد فرصة للتعارف الشخصي فيما بين الإخوان المعتقلين بمهنة واحدة ، وفي تزويد كل ذي مهنة بما ليس عنده من شئونها ووسائلها مما عند الآخرين . وأستطيع أن أجزم بأن الإخوان المهنيين قد أفادوا إفادة كبيرة من هذه الندوات . وقد كنت المسئول عن ندوة الزراعيين وكان عددنا نحو العشرين ، وكان منا الزراعيون ذوو المؤهلات الزراعية ، وزراعيون غير ذوي مؤهلات زراعية ولكنهم يباشرون العمل الزراعي . وقد تقدم كل منا بالمشروع الذي باشره بنفسه وما كلفه القيام به ، وما أنتجه وما اعترضه من عقبات وكيف تغلب عليها ، وكيف كان يسَّوق إنتاجه ، وكل ذلك من واقع التجربة .

فخرجنا بمحصول لا بأس به من المشاريع المدروسة في زراعة المحاصيل وزراعة الخضر والفاكهة والأشجار ، وفي تربية النحل وتربية دودة القز وفي الألبان وفي إصلاح الأراضي وفي تربية الماشية وفي الدواجن , خرجنا من هذه الندوة بمعلومات علمية وعملية وخلاصات تجارب قلما تجتمع لدارس . وكان من نتيجة هذه الندوة أن خرج عدد من هؤلاء الإخوان فأسسوا أعمالاً علي أساس من هذه المشاريع فرادي ومتشاركين ونجحت أعمالهم نجاحًا كبيرًا . ولما قارب المعتقل علي الانتهاء اجتمع إخوان الهيئة التأسيسية الذين بالمعتقل وناقشوا قضية كان لابد من مناقشتها ، تلك هي أنهم حين يخرجون إلي الحياة سيجدون مجتمعًا ذا صبغة معينة ، وسيجدون حكومة هي وليدة الصراع الذي كان بينهم وبين الثورة .. فما موقفهم منها ومن هذا المجتمع ؟ هل يقفون منها موقف المقاومة أم موقفاً سلبيًا أو يتجاوبون معها ؟ . وقد تمخض نقاشهم عن قرار مؤداه : أننا مهما كان رأينا في الحكومة فإن الشعب الذي تحكمه هو شعبنا ، ومسئوليتنا عن مصالحه لا تقل عن مسئوليتها ، فعلينا أن نتعاون معها فيما يعود علي هذا الشعب بالخير ، منحين جانبًا ما بيننا وبينها من خلاف سياسي ، وبذلك تكون في كل أحوالنا متجاوبين فيما عدا الاتجاه السياسي . وتوالت الإفراجات .. وكلما غادرتنا دفعة أفرج عنها تخلخل المجتمع الذي عشنا فيه سنتين وأحسسنا بلوعة الفراق .. حتى أهَلَّ علينا شهر يونيه 1956 ولم يبق بالمعتقل إلا مائتان وخمسون من الإخوان وكنا الدفعة الأخيرة التي خلا السجن بعدها من المعتقلين .. وانتقلنا من السجن الحربي إلي سجن القلعة حيث مكثنا أسبوعين تم بعدها الإفراج عنا .

• بعد الإفـراج :

لم تعد القاهرة في نظري بعد الذي حدث مكانًا تهوى إليه نفسي ، بل صادرت من أبغض البلاد إليّ بقدر ما كانت أحبها إلي نفسي وصدق الشاعر الذي يقول :

وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

ورأيت أن أقطع آخر خيط من صلة لي بها حيث كانت لي حقيبة تركتها قبل أن أعتقل عند الأخ الكريم الدكتور جمال الدين عامر رحمه الله فسافرت إلي القاهرة وأخذتها . وكان المقر الرسمي لوظيفتي هو مدينة جرجا ، ولكنني رأيت ألا أذهب إلي البلد الذي اعتقلت منه ، وعزمت علي أن أسلم نفسي إلي الرياسة العليا للقطن بالإسكندرية حيث علي رأسها الزميل العزيز والصديق الوفي والأخ الحبيب الأستاذ حسين الخضري رحمه الله .

وصلت إلي الإسكندرية وسلمت نفسي للرياسة فتلقتني بالعناق كما تلقاني بقية الزملاء . وكانت قد أنشئت بكلية الزراعة بالإسكندرية قبل عام من خروجي من المعتقل دراسات عليا في القطن فرأيت أن أتزود بها وتقرر نقلي إلي الإسكندرية التي رأيت أن أجعلها لي مستقرًا بعد الرحلة الطويلة التي جبت خلالها القطر من أقصاه إلي أقصاه . وفوجئت حين تسلمت عملي بأن زملائي جميعًا السابقين لي واللاحقين بي قد رقوا إلي الدرجة الرابعة دفعة واحدة سواي ، وأسرَّ إليّ الأخ العزيز الأستاذ أحمد عبد اللطيف رحمه الله مدير المستخدمين بأن أعضاء لجنة شئون الموظفين جبنوا جميعًا عن الموافقة علي ترقيتي مع أن أسمي مثبت في الكشف المقدم لهم وسط الدفعة ظنًا منهم أن في هذا إغضابًا لرئيس الدولة فأثروا إرضاءه بهضم حقي .. ولكنني عن طريق الأخ الأستاذ أحمد عبد اللطيف والتهديد برفع الأمر إلي القضاء استرددت حقي .

ومعذرة في ذكر أمر يعد من أشد خصوصياتي ولكنني أردت أن أعرض للقارئ صورة من جو الإرهاب والرعب الذي كان الشعب في مصر يعيشه ويعانيه .


الباب السادس عشر : بـيـن المعتـقلـين


الفصل الأول : مسئولية الأسير أمام العواطف الثائرة

خرجنا من المعتقل في 26 يونيه 1956 . وكان المقصود من إخراجنا أن تكون مظاهرة سياسية تبدو بها حكومة مصر أمام العالم في صورة حكومة ديمقراطية ، بدليل أنها أفرجت عن عدة آلاف من المعتقلين ، ولم تبق في داخل السجون إلا من صدرت ضدهم أحكاما من محاكم . وقد اعتمدت الحكومة علي جهل من يعيشون خارج مصر بل وأكثر من بداخلها بحقيقة هذه المحاكم وبحقيقة الإفراج الذي تتباهي به هذه الحكومة .. أما المحاكم فقد عرضنا لها بإشارات في فصل سابق تكشف عن شيء من حقيقتها البشعة .. وأما الإفراج فإنه لون من الخداع لأن هؤلاء المفرج عنهم خرجوا من سجن إلي سجن ، ومن معتقل إلي معتقل ، ومن قيد إلي قيد ، و لكن القيد الجديد يجمع إلي القيد قيدًا آخر هو الحرج . ففي المعتقل الرسمي كنا متخففين من المسئولية ، وكان الذي نسأمه من العذاب محجوباً عن أعين الناس ، أما المعتقل الجديد الذي انتقلنا إليه ويسمونه إفراجًا فإن المسئولية التي كنا متخففين منها عادت إلينا بثقلها ، كما قيدت حركتنا بقيود ثقال ، وأصبحنا ملاحقين في كل لحظة وفي كل مكان .

ثم أنشأت الحكومة نظامًا مستحدثًا في صورة قانون ، سرعان ما أقره مجلس الأمة سموه " قانون العزل السياسي " . هذا القانون يحرم من أفرج عنهم المعتقلين من الحقوق السياسية ، فلا يكون من حقه أن يرشح نفسه للانتخابات ولا أن يدلي بصوته لانتخاب غيره ، ولا أن ينتسب إلي الحزب السياسي الوحيد وهو الاتحاد الاشتراكي .. ثم جعلوا عضوية الاتحاد الاشتراكي شرطًا لتولي أي شخص منصبًا قياديًا في العمل الحكومي مهما بلغ هذا الشخص من الكفاءة والأمانة والإخلاص وحسن الأداء والمقدرة الإدارية . ومع ما في قانون العزل السياسي هذا من الغبن والإجحاف ، فقد كنت سعيدًا به لأنه حرمني من الانتساب إلي الاتحاد الاشتراكي الذي لو فتحوا بابه لما ولجته ، ولو أغموني علي الدخول فيه لحاولت الفرار منه ، وأرجو ألا يفوتني في فصل قادم أن أتعرض لهذا الموضوع بشرح مسهب إن شاء الله . وإجمالاً أستطيع أن أقول إن هذه الفترة التي بدأت بخروجنا من السجن الحربي كانت من أحرج الفترات التي مررنا بها ؛ لأن أشد المواقف إحراجًا للرجل أن يعيش في مجتمع يعتقد أنه حر كغيره من الأفراد وهو في حقيقة أمره مقيد ولا يستطيع أن يقول إنه مقيد .. وكثيرًا ما ثارت النفس وتمنيت أن لو كان الاعتقال أعفاها من ذلك الحرج .

• مسئولية الأسير :

لعل في هذه المقدمة من إشارات من بعيد إلي بعض معاناتنا بعد الإفراج ما يعين القارئ علي تقييم الوضع الذي وضعنا فيه ، والذي سلبنا فيه حرية التحرك حتى في شئوننا الخاصة ، والتحرك الذي تتطلبه هذه الشئون . ولكن مجموعة من الإخوة الكرام كانوا في خلال هذه الفترة في حيرة من أمرهم ، فهم يرون حكومة لا ترعي للإسلام حرمة ولا كرامة ، ولا تبالي باقتراف أضعاف سيئات العهد الملكي من الإباحية والتهتك تقتحم بها علي الناس بيوتهم عن طريق وسائل الإعلام ، وتشيع الفاحشة في المجتمع بتشجيعها المتفحشين ومطاردتها أصحاب الفضائل والمتدينين .. ويرون الحال لا يزداد كل يوم إلا سوءًا .. ولا يرون مع ذلك أحدًا يقف في وجهها أو يرفع صوتًا بمعارضتها . وكان أكثر هؤلاء الإخوة من الشباب الغض الذي كان في أوائل الخمسينات لا يزال نبتًا ثم ترعرع واستوي في أواخر الخمسينات وفتح عينيه علي الصورة التي أومأت إليها ، فهاله ما رأي ، وذهب يتلمس الطريق .. كما أن قليلاً منهم كانوا من الإخوة الأكبر سنًا والذين حجبتهم ظروف أقرب إلي الصدفة عن أعين الظالمين فنجوا من ظلمهم .. وسار هؤلاء في ثورة نفسية يبحثون عن قيادة ترشدهم إلي الطريق الأقوم لإصلاح هذا الفساد فلا يجدون ؛ لأن القيادات تعيش وراء القضبان حتى من كان منهم في مظهره خارج القضبان كان مضروبًا عليه حصارًا من كل جانب . أما الذين كانوا لا يزالون وراء القضبان فقد التمس هؤلاء الإخوة لهم العذر ، وأما الذين كان مضروبًا عليهم الحصار – وهو حصار في الخفاء – فلم يلتمس لهم هؤلاء الإخوة العذر وحملوهم المسئولية كاملة وطالبوهم بقيادتهم إلي ميدان العمل .

جاءني نفر من هؤلاء الإخوة ، وبثوني ما في صدورهم من حرج ، وما في نفوسهم من ضيق ،وطالبوني بعمل إيجابي ، فقلت لهم : إن الذي بين حنايا ضلوعكم من ألم ولوعة وحزن هو بعض ما عندي . لأنكم غاضبون وليس في أيديكم قيود ولا في أرجلكم أصفاد ، بدليل أنكم جئتموني وتتحركون كما تشاءون . أما أنا وأمثالي فنحس ما تحسون ، ولكن الأغلال جعلت في أيدينا وأرجلنا ، وإذا كنتم لا ترون السور المضروب من حولنا فإننا نراه محيطًا بنا ، والسجانون يلاحقوننا في كل مكان وفي كل وقت . وكانوا في السجن الحربي بملبسهم العسكري ظاهرين ولكنهم هنا بالملابس العادية غير معروفين .. إننا أسرى معركة ، والأسير غير مطالب بما يطالب به الجندي الحر ، وقد أعفاه الله وأعفته القوانين لأن أمره لم يعد بيده بل صار بيد آسريه .

فقالوا : إذن نقعد ونستكين ويستمر الظالمون في ظلمهم ولا يجد الشعب المسكين من ينقذه ؟! قلت : إنني لم أنهكم عن العمل ، ولم آمركم بالاستكانة .. فالمسلم مطالب بالعمل في كل الظروف ولكن في حدود استطاعته . وأدني درجات العمل أن يعكف المسلم علي القرآن عكوفاً يربط قلبه به ويأخذ نفسه وذويه بأحكامه وآدابه ، وأن ينشر مبادئ هذا الكتاب الكريم وهي ما سماه الناس مبادئ الإخوان المسلمين عن طريق القدوة ، وهي أقرب طريق إلي قلوب الناس .. وهذا هو القدر المطالب به أسري المعارك من أمثالنا . وليس في هذا القدر من العمل ما يمت إلي الاستكانة بسبب ، فالقلب العاكف علي القرآن لا تبرحه الحياة ولا تجتمع الحيوية والاستكانة في قلب فإحداهما تطرد الأخرى . والتاريخ يحدثنا – وهو صادق – والتاريخ ليس إلا سنة الله في خلقه .. يحدثنا أن الدنيا دول (    •• ) فدولة تدوم إلي الأبد أمر محال .. تبدأ الدولة بدءًا صالحًا ثم يدب الغرور في نفوس حكامها فيظلمون فتزول دولتهم (       •) .

والذي يكاد يدخل اليأس إلي نفوسكم أنكم تظنون أن هزيمة الظالمين لابد أن تكون بأيديهم وإلا فلا أمل في الإنقاذ . وهذا الظن يبين خطؤه حين ترجعون إلي صفحات التاريخ ، وليكن تاريخ أمتنا ، فسترون بني أمية قد انتزعوا السلطة من بني هاشم ، ودانت لهم الدنيا من أدناها إلي أدناها ، وظل يهتف لهم بالدعاء علي منابر الدولة الإسلامية مائة عام ، فتكوا في خلالها بكل من رفع رأسه من بني هاشم ، فقتلوا الحسين بن عليّ ، كما أعملوا القتل في أنصاره ، وقضوا علي عبد الله بن الزبير ومن كان معه .. ولم يعد في جزيرة العرب ولا في خارجها من لا يدين لهم بالولاء .. فظنوا أنهم قد استأصلوا شأفة منافسيهم وقضوا عليهم إلي الأبد .. وطلبت لهم الحياة ، واستقرت الدولة ، وباتوا آمنين .. ولكن بعد مائة عام قام من بني هاشم – الذين استؤصلوا – من انتزاع السلطة منهم ، وتشتت شملهم ، وأسس الدولة العباسية التي تتبعت الأمرين تتبعًا اعتقدوا معه أنهم لم يبقوا لهم في الدنيا علي أثر .

وتوطد الأمر لبني العباس ، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يخضعوا الأيام لإرادتهم ، فما لبث الأمويون – الذين أيدوا في ظنهم – أن أنشئوا دولة في الأندلس تضارع دولة العباسيين وظلوا يحكمونها سبعة قرون . وإذا كانت السنة ذات الثلاثمائة والستين يومًا في حياتنا زمنًا ذا بال ، فإن عشرات السنين في حياة الأمم وفي حركات التاريخ لا تعد زمنًا يذكر .. وأصحاب الدعوات الذين يريدون أن يلووا عنق الزمان ، لا يلبثون أن تدككهم الأيام بأقدامها الثقال .. أما الذين يفهمون التاريخ فإنهم يخطون بخطي وئيدة ثابتة ، ولا يدعون يومًا يمر دون أن يملؤه بعمل يناسبه ، لا يحاولون أن يبثوا عليه وثبًا .. يفعلون ذلك وهم واثقون من أن الغد غدهم ، وأن اليوم الذين يأملون أن يأتي سوف يأتي ، ولكنه قد يكون من أيام حياتهم وقد يكون من حياة جيل يأتي بعدهم وسنة الله لا تتخلف . إنني واثق كل الثقة أن دعوتنا التي حبكت لها المؤامرات ودبرت لها المكايد ، وحوصرت من كل مكان ، وعمل الحاقدون الظالمون علي إطفاء جذوتها واستئصال شأفتها ، ستنتصر آخر الأمر ، وستعود لها الكلمة العليا والصوت الأعلى والصدى المستجاب .. ولكن كيف يتم ذلك ومتى يتم ؟ هذا هو مالا أعلم ، وهذا هو ما استأثر به علم الغيب .

نعم إن الظروف التي نعيشها الآن لا توحي بذلك ، ولا تسلمنا إلا إلي اليأس .. ولكن الله تعالي شأنه وجلت قدرته صاحب هذه الدعوة أخبرنا أنه : (    ) فهو الذي يخلق فيما يخلق مالا نعلم ، ومالا يدور في خلدنا ، ومالا يدخل في حساباتنا ولا في حسابات أعدائنا من الظروف والأحوال .. وهذا النوع من الظروف التي تعجز الحسابات البشرية عن الإحاطة به هو الذي يفاجأ به الطغاة ، وتدول من هوله الدول . ومجرد إيماننا بالله وبدعوتنا يطرد كل خاطرة من خواطر اليأس من نفوسنا ، ويملؤها بالثقة المطلقة بحيث يكون في استغلال الظروف ، فإنه عاجز عن أن يخلق الظروف ؛ لأنه هو نفسه ليس إلا بعض هذه الظروف التي تفرد الخلاق العليم بخلقها . وإذا كنا نقول ذلك ونؤمن به ونثق في تحقيقه ، فلسنا نقوله كما يقوله الموتى القاعدون ، الذي آثروا متع الحياة وتمنوا علي الله الأماني ، وإنما نقوله الآن بعد أن قدمنا لدعوتنا كل ما في وسعنا ، فمنا من قضي نحبه ومنا من ينتظر .. ولكن الكرة كانت هذه المرة علينا لا لنا فوقعنا في أسر العدو .. وليس أمامنا الآن إلا أحد الأمرين ، إما أن نقدم أعناقنا لمقاصلهم دون مقابل ، وإما أن ننتظر وعد الله تعالي وما سوف يخلق من ظروف واثقين في وعده آملين في نصره (                        ) .

وتحضرني الآن صورة المسلمين في المدينة وقد بوغتوا بمالا قبل لهم به من قدوم جميع قبائل الجزيرة العربية حيث ضربوا حصارًا خانقاً حول المدينة في تحالف سوي بينهم وبين يهود المدينة ، وما عاد هناك ما يمنعهم من أن يمسكوا المسلمين بالأيدي دون أن يجد واحد منهم لنفسه مهربًا .. ورأي المسلمون الموقف علي هذه الصورة فماذا فعلوا .. إنهم فعلوا ما في طاقتهم وتركوا ما فوق طاقتهم للقدرة الإلهية . كل الذي فعلوه أنهم حفروا الخندق حول المدينة ولجئوا إلي حيلة فصمت عري التحالف المعقود بين العرب واليهود .. ولم يكن في استطاعتهم أن يفعلوا أكثر من ذلك .. ولكن هل كان الذي استطاعوا أن يفعلوه كافيًا لرد هذا البحر المتلاطم من قبائل العرب .. لا . ولا هذه يقولها كل من له عقل ، فالتكافؤ مفقود في كل مقومات الحرب ولكن الذي (    ) لا يطالب المدافعين عن دعوته بأكثر من أن يراهم قد بذلوا ما في استطاعتهم وعليه هو أن يتولي الأمر .. فماذا خلق مما لا يعلمون ؟ خلق ريحًا نسفت المهاجمين نسفًا وأنزل جنودًا لا تراها أعين البشر – وهذا الموقف من المواقف البالغة الدقة التي لا يمكن التعبير عنها إلا بالنص القرآني نفسه (                     •                         ....                               •    •      .... •                  ) .

كانت هذه صورة من صورة النقاش الذي دار بيني وبين بعض الإخوة الشباب المتعجلين الذين هالهم وأفزعهم ما يسأم الشعب من هوان ، وما تنتهك له من حرمات ، باسم الشعب وباسم الحرية وباسم الكرامة ، والشعب في حال من الذهول . وإذا كانت حججي قد أقنعت عقول هذا الشباب لم تتجاوب مع عواطفهم الثائرة التي لم يستطيعوا لسيلها الدفاق دفعًا ، فذهب كثير منه ليعمل عملاً يرضي هذه العواطف ، ولكنهم كانوا كالفأر الذي يبيت خطة الهرب ولم يدر أن جدران المصيدة تحيط به من كل جانب ، فالبلد لم تكن إلا سجنًا كبيرًا سجانه هم حاكم البلد ، وقد وزع زبانيته علي الأبواب والأسوار .. فلم يشعر هؤلاء الإخوة بعد قليل إلا وهم في قبضته ليفعل بهم الأفاعيل .


الفصل الثاني : فصائل الإخوان .. إلي أين

• فصائل الإخوان :

عزلنا الحديث عن السجن الحربي ومصائبه ومآسيه عن متابعة الحديث عن الآثار المدمرة لمؤامرات جمال عبد الناصر في صفوف الإخوان وما انتهت به من انقسام الإخوان إلي فصائل يمكن إجمالها في ثلاث فصائل ، فصيلة انتمت إلي عبد الناصر وعلي رأسها قيادة النظام الخاص والمفصولون من أعضاء الهيئة التأسيسية ، وفصيلة رأت آخر الأمر في عزل المرشد العام إنقاذًا للدعوة ، وفصيلة رأت في تماسك الدعوة بمرشدها هذا الإنقاذ . أما ثالثة الفصائل فتضم سواد الإخوان المسلمين وإن كانت قيادتها قد انقسمت في أول الأمر قسمين اختلف وجهة نظر كل منهما عن الأخرى ، فقسم وكنت منه اكتشف مالم يكتشفه القسم الآخر من إطلاع جمال علي أدق أسرارنا فرغب في تعديل خطتنا لتتواءم مع الوضع الذي اكتشف ، والقسم الآخر رفض إجراء تعديل . وقد صاحب عملية هذا الرفض بعض تجاوزات .. وساد رأي هذا القسم الآخر ، فكان أن تخلي أصحاب فكرة التعديل عن فكرتهم وساروا في الركب عملاً بقول عليّ كرم الله وجهه : " كدر الجماعة خير من صفو الفرد " .

وهذه الفصيلة هي التي اعتبرها عبد الناصر الألداء ورسم خطة لإبادتهم وعرضنا في فصول سابقة لنماذج من هذه الخطة . وأما الفصيلة الثانية التي رأت في عزل المرشد العام إنقاذًا للدعوة ، ففي اعتقادي أنها قد تلحق بالفصيلة الثالثة لسببين : أولهما أن أعضاءها هم من خيرة الإخوان ولم يؤثر عنهم من قبل انحراف عن الدعوة ولا ارتياب في القيادة . والسبب الآخر أن إعلانهم بهذا الرأي كان وليد ظروف قاسية ألمت بالدعوة أشرنا من قبل إلي طرف منها ، وصار كل غيور علي الدعوة يتلمس أي وسيلة للخروج بها من المأزق القائل الذي وضعت فيه .. وحين يكفهر الجو ، ويسود الظلام ، تتعذر الرؤية الصحيحة لاسيما والقائد غير موجود فكانت هذه الرؤية التي لا أشك في صدورها عن حسن نية ، وإن كان الطرف الآخر قد استغلها لصالحه . وأما الفصيلة الأولي فقد طال الحديث عنها في هذه المذكرات لأنها هي أصل البلاء وسر الداء ، ولكن الذي يعنينا في هذا التلخيص للموقف أن نلم بمواقفها إزاء التطورات التي حدثت ونستطيع أن نجمل هذه المواقف فيما يلي :

1 – كان لهم موقف عدائي عند اختيار المرشد العام ، ثم تراجعوا عن هذا الموقف وساروا مع الركب .

2 – بعد قيام الثورة بدأ الخلاف بينها وبين الإخوان اتخذوا مرة أخري موقفًا عدائيًا من دعوتهم وظاهروا عبد الناصر علي إخوانهم .

3 – لما حل عبد الناصر الإخوان واعتقلهم في يناير سنة 1954 وفشلت خطته وخرج الإخوان من المعتقل منتصرين وصاروا سادة الموقف وصار عبد الناصر في أضعف حالاته ، جاءوا مرة أخرى إلي دعوتهم تائبين .

4 – لما غدر عبد الناصر بما أعلنه مجلس الثورة من قرارات في 25 مارس 1954 ودبر المظاهرات المأجورة وتبادل المواقف مع الإخوان ثمرة هذا الغدر فصار هو في الموقف الأقوى والإخوان في الموقف الأضعف اتخذ إخواننا هؤلاء موقف السكون والانتظار .

5 – لما أعلن عبد الناصر الأسس التي قامت عليها اتفاقية الجلاء التي عقدها وحده مع انجلترا دون الرجوع إلي الشعب وجاءت مخيبة للآمال ، فقام الإخوان بنقدها ، وكان عبد الناصر يريد أن يجعل منها تراثًا شعبيًا لنفسه .. وكان تساهله في شروطها المجحفة بحقوق الأمة ثمنًا لقبول الانجليز التفاوض معه مما يكسب حكومته دائمًا في عقد معاهداتهم مع مصر ألا يتفاوضوا ولا يوقعوا علي اتفاق إلا مع من يمثلون الأمة حتى تكون لاتفاقياتهم قوة وثبات .

وقد اعتبر جمال عبد الناصر كما قدمنا نقد اتفاقية بمثابة إعلان الحرب عليه فعزم علي إبادتهم ، ووضع كل إمكانات الدولة في خدمة خطط هذه الإبادة .. وبدأت الحرب غير المتكافئة وأشرنا في الفصول السابقة إلي أقل القليل مما ارتكب فيها من مظالم وما اقترف فيها من إجرام وما اندفعوا فيه من فجور .. فماذا كان موقف إخواننا هؤلاء ؟ . هذا ما كنت اجهله ولكنني قرأت في مذكرات للأخ الكريم الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي يعدها للطبع نبأ أستمحيه عذرًا في نقله للقراء لعله يلقي شعاعًا من الضوء نستبين معه إجابة لهذا السؤال :

يقول الأستاذ عبد الحفيظ في مذكراته : " سألت الأستاذ أحمد عادل كمال – وكان من قيادة النظام الخاص التي فصلها مكتب الإرشاد – سألته : لماذا اعتقلت مع أنك كنت أحد المفصولين ؟ فرد قائلاً : إنه هو أيضًا كان في حيرة من الأمر .. لماذا .. ؟ إلي أن عرف أخيرًا السر في ذلك .. يقول الأخ أحمد عادل كمال إنه كان في زيارة لأقارب له ليقوم بواجب العزاء ، والتقي عندهم بضيف يقوم بنفس الواجب . وعندما قام بعض أقاربه بتقديمه لهذا الضيف فوجئت أنه يقول لهم : إنني أعرفه – وعرض عليّ أن يكشف لي عن موضوع ربما يكون خافيًا عليّ دون أن يعرفني بشخصيته . وعندما سألته عن الموضوع أجابني : هل تعرف السر في اعتقالك بعد أن فصلت مع آخرين من الإخوان ؟ فقلت : إنني في حيرة من هذا الأمر بالفعل . فقال : هل تذكر يوم اجتماع الهيئة التأسيسية الأخيرة ؟ وحضرت إلي دار المركز العام .. وفي الميدان قابلك أحد الإخوة من النظام الخاص ، وعرفت منه أن هناك مجموعة من النظام في بيت القلعة – وهم مسلحون – وفي النية مهاجمة أعضاء الهيئة التأسيسية في حالة صدور قرارات منها لا تؤيد الجماعات المعارضة للمرشد العام الأستاذ الهضيبي والقيادة الشرعية للجماعة .. وبعد أن استمعت للأخ الذي تحدث معك سارعت متوجهًا إلي المنزل المجتمع فيه بعض إخوة النظام المسلحين طلبت منهم إنهاء اجتماعهم وفض هذا التجمع المسلح ، وقلت لهم : كفاية ما نحن فيه . وفي الحال بلغ جمال عبد الناصر ما قمت به فقرر يومها أن تكون في قائمة المعتقلين ، بل في قائمة من ينالهم التعذيب في السجون والمعتقلات وكان ذلك بالفعل " .

ويقول الأستاذ عبد الحفيظ : ويظهر أن عبد الناصر قد وضع تحت تصرف هؤلاء المنشقين كثيرًا من إمكانات الحكومة وأجهزة مخابراتها وإشاعاتها ورسائلها بل صحافتها التي كانت في ذلك الوقت أكبر أداة في يد مجلس الثورة لتسميم الأفكار وتضليل الرأي العام .


الباب السابع عشر : اعتقالات سنة 1965


الفصل الأول : في سجن أبي زعبل

ولعل التوقيت الذي اختير لهذه الحملة قد بني علي أساس حسابي بسيط ، فالإخوان الذين اعتقلوا عام 1954 أنشئ لهم قانون يجردهم من حقوقهم السياسية ، ويجعل لأجهزة الأمن حق مراقبتهم وتقييد حريتهم ، ورصد كل ما يصدر عنهم ، ومحاسبتهم علي ذلك بوسائل لا تخضع لسلطة القضاء – وخلاصة القول : يجعلهم ألعوبة في أيدي هذه الأجهزة . ولما كان هذا القانون أو القرار الجمهوري صادرًا علي أساس استثنائي فإنه كان لابد من تحديد فترة لسريانه . وقد حددت هذه الفترة بعشر سنوات ابتداءً من عام 1956 .. ومعني هذا أن القانون تنتهي فترة سريانه في عام 1965 . فخوفاً من إفلات الإخوان من قبضتهم رأوا أن ينشئوا ملحمة جديدة يضمنون عن طريقها تجديد هذه الفترة تجديدًا إلي أجل غير مسمي ، بحيث يظل الإخوان في قبضتهم ، وتحت رحمتهم حتى تفنيهم الأيام ، وتعفي علي آثارهم ، وتطمس معالم تاريخهم . وقد رأوا أن يجعلوا هذه الفترة عشر سنوات ، علي أساس أن هذه الفترة كافية أن تعدم آية هيئة مهما عظم شأنها إذا ما وجهت الدولة كل إمكاناتها للقضاء عليها .

• أسلوب جديد :

كان الأسلوب الذي اتبعه جمال عبد الناصر مع الإخوان في سنة 1954 أسلوبًا إجراميًا ، ولكنه كان بدائيًا أو كما يعبرون عنه بالعامية " أسلوب فلاحي " . فهو باعتباره ضابطًا يعرف أن السجن الحربي هو أشد السجون معاملة ، ويعرف أن القائمين علي إدارته أفراد من الجيش ، وطبيعة عملهم السرية ، فارتكاب جرائم التعذيب في ظل هذا السرية يحقق المطلوب .. ثم إنه سبق أن أجري في الجيش حركة تطهير ضمن معها أن الباقين فيه علي ولاء تام له ، لاسيما بعد أن أخرج منه كل ذي مبدأ أو شخصية . ثم إن أسلوب التعذيب يتلخص في عدة طرق مألوفة من الحبس في الزنازين والحبس الانفرادي والإجاعة والضرب بالكرباج والحرق بأعقاب السجاير والنفخ والتعليق والإلقاء بعد الجلد في ماء مثلج ، ثم التعذيب الجماعي بالطوابير المرهقة ومنع الملابس وما إلي ذلك مما أشرنا إليها آنفاً .

أما في حملة 1965 فقد تغير الأسلوب حيث كان التقارب المصري السوفيتي ، الذي أخذ في التطور السريع حتى صار تحالفاً ثم صار تلاحمًا .. وإذا كان الغرب قد سبق السوفييت في تكنولوجيا الحضارة الحديثة ، فإن السوفييت قد سبقوا الغرب في نوع من التكنولوجيا التي لم يفكر فيها الغرب حتى الآن ، وهي تكنولوجيا إهدار الكرامة الإنسانية والتعذيب ، التي قامت عليها الفكرة الشيوعية سواء في داخل روسيا أو خارجها من عمليات الإفناء والتدمير الجماعي والفردي بأساليب متطورة وحديثة . وقد أفاد جمال عبد الناصر من التقدم التكنولوجي للروس في هذه الناحية أعظم إفادة – فقد استورد من روسيا أجهزة للتعذيب تعمل بالكهرباء واللاسلكي والخلايا الضوئية والالكترونية ، ومنها أجهزة التعذيب البدني ، وأخري للتعذيب النفسي وتحطيم الأعصاب . وأجهزة تحطيم الأعصاب منها ما يسلط علي شخص واحد منها وما يسلط علي جماعة .

• وصف سجن " أبو زعبل " :

هو سجن بني حديثًا بجانب سجن " أبو زعبل " القديم . وقد بناه جمال عبد الناصر علي طراز السجون الحديثة ، فهو يشبه السجن الحربي في كونه ذا أربعة أضلاع تحصر بينها فناءً واسعًا لا سقف له . إلا أنه يختلف عن السجن الحربي في كون فنائه ببلاط أسمنتي مضلع . وهو وإن كان مكونًا من ثلاثة طوابق كالسجن الحربي إلا أن الطابقين الثاني والثالث مكونان من عنابر واسعة يزيد طول العنبر منها علي عشرة أمتار وعرضه نحو ستة أمتار ، والعنابر مبلطة وذات نوافذ واسعة وإن كانت مرتفعة ، ولكل عنبر باب ليس من الحديد المصمت كأبواب زنازين السجن الحربي بل مصنوعة من عيدان من الحديد بين العود والآخر نحو عشرة سنتيمترات .. والسقوف عالية ، والتهوية صحية ، وملحق بكل عنبر دورة مياه علي طراز حديث . فهذا السجن من طراز آخر غير السجون المصرية قديمها وحديثها ، بحيث يصلح أن يكون منتجعًا للسياح الذي يفدون إلي بلادنا جماعات يرتبط بعضها ببعض ، فكل وسائل الراحة متوفرة فيه . وقد أنشئ في منطقة رائعة الجو ، بعيدة عن المدن وضجيجها ، وهو مطلق الهواء من جميع نواحيه الأربع لا تحجب عنه الشمس والهواء حواجب من أبنية أو غيرها . فإذا زود كل عنبر بعشرة أسرة ودولابين للملابس وبعض الأدوات اللازمة للمعيشة فإن المقيمين به من السياح يشعرون بالمتعة والسعادة ، لاسيما وتصميم المبني يسمح بوصول الموسيقي الهادئة إلي جميع الحجرات إذا ما أذيعت من الدور الأرضي فكأنها مذاعة من داخل الحجرة .. كما أن المقيمين في هذه الحجرات إذا ما أطلوا من الطرقات الممتدة أمام الأضلاع الأربعة فإنهم يستطيعون أن يشاهدوا عروض التسلية التي تعرض في الفناء .

• لماذا استغل عبد الناصر هذا السجن معتقلاً للإخوان ؟

من الوصف الموجز الذي قدمته لهذا السجن يتبين للقارئ أن مثل هذا السجن ما كان ينبغي لحاقد مثل جمال عبد الناصر أن يستعمله معتقلاً لأعدائه .. فلم استعمله ؟ وكيف استعمله ؟ وقد تفهم الإجابة علي هذه الأسئلة مما يلي :

1 – هذا السجن بعيد عن العمران ، ويمكن اعتباره منعزلاً عن البلاد . فالذي يجري بين جدرانه لا يسمع به أحد ولا يدري به أحد . وهذا يحقق هدفاً أساسيًا في العملية .

2 – استعمال هذا السجن فيه إرضاء لمشاعر العاملين بوزارة الداخلية الذين يريدون أن يثبتوا ولاءهم للحاكم ، ليغترفوا من الخزانة التي فتحت من قبل علي مصراعيها للذين أثبتوا ولاءهم من العاملين بالجيش في سنة 1954 – والحكم في ذلك الوقت قد أيقن أنه لا يقوم علي سند من الشعب بعد فشل هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي ، ولم يعد له سند إلا من الجيش الذي صنعه علي يده وإلا من رجال الشرطة الذين كان عليهم أن يستميلهم بالوسائل التي ترضيهم .. ومعروف طبعًا أن السجن الحربي تابع للجيش وأن السجون الأخرى تابعة لوزارة الداخلية .

3 – يبدو أنه بعد أن ساءت العلاقات بين جمال عبد الناصر وأمريكا ، وأصبح الروس حلفاءه الوحيدين ، تبادل معهم البعثات فأوفد إليهم واستوفد منهم ، وكانت أكثر البعثات الموفدة من مصر بعثات من رجال القوات المسلحة ومن رجال وزارة الداخلية ، كما أن بعثاتهم إلي مصر كانت من نفس النوع .. وقد بلغنا أن بعثات رجال وزارة الداخلية اطلعوا هناك علي أجهزة إلكترونية للتعذيب أذهلت هؤلاء الرجال ، وأظهرتهم علي مدى تقدم تكنولوجيا التعذيب في هذه البلاد وعلي مدى تخلفنا في هذا المضمار ، فقرروا اللحاق بهم مهما كلفنا ذلك من جهد ومال .. واشتريت الأجهزة وقدمت إلينا كما قدم معها وفود من الأخصائيين في التعذيب .. وقد وقع اختيارهم علي سجن " أبو زعبل " لتركيب هذه الأجهزة فيه لميزات رأوها فيه قد تتضح للقارئ في سطور تالية .

4 – إذا صرفنا النظر عن كل ذلك فإن استعمال هذا السجن كان أمرًا لا مفر منه ؛ لأن الخطة التي وضعت هذه المرة كانت تقضي باعتقال عدد كبير جدًا من الإخوان قد يفوق أضعاف من اعتقل في المرة السابقة .

5 – مكاتب هذا السجن مكاتب فسيحة جميلة صحية مزودة بوسائل الراحة والترفيه مما يربح المحققين المطلوب منهم هذه المرة أن ينشئوا من القضايا ما يكفي للقضاء التام علي البقية الباقية من هذه الدعوة .. وكان في جمال هذه المكاتب ما يغري المحققين بطول البقاء فيها بخلاف مكاتب السجن الحربي التي كانت تشبه الزنازين أو تقاربها .

6 – الدور الأرضي – باعتبار هذا المبني سجنًا – مجهز بعدد لا بأس به من الزنازين كان المفروض أنها معدة لينقل إليها من سكان العنابر من المسجونين من تمرد منهم علي لوائح السجن ونظمه والذين انحرفوا يستحق التأديب العنيف بأن يحبسوا في زنزانة من هذه الزنازين لمدة محددة .

وقد وجد علماء تكنولوجيا التعذيب من السوفيت وتلاميذهم المصريين في هذه الزنازين وفي بعض الصالات والمنشآت في الدور الأرضي مكانًا مناسبًا لتثبيت بعض آلات التعذيب أو لوضعها بدلاً من آلات الموسيقي التي أنشئت هذه الأماكن من أجلها .. وعن طريق استغلال هذه الأماكن استطاعوا أن يصدروا من آلات وضعوها بها أصواتًا تبعث الرعب في نفوس سكان هذا السجن جميعًا ، تبعث ليلاً وتخترق سمع كل فرد فيه بطريقة معينة تخلع القلوب ، وتصور للسامع أن قوة ضخمة من الهمجيين من جلادي السجن منطلقة نحوه بالكرابيج والبنادق لإبادة ساكني السجن دون رحمة ولا تمييز .. ولا يملك معتقل مؤمن بالله وأعزل من كل سلاح في هذه الحالة إلا أن يبتهل إلي الله أن يقبض روحه التي قد تفيض بعد لحظات علي الإيمان .

ولم ينتبه إلي أن هذه الأصوات مجرد خداع من آلة إلا بعد عشرات المرات في عشرات الليالي وكنا نعتقد أنها تجريدة حقيقية ، وأنها تجتاح كل ليلة عددًا من إخواننًا ، وأننا – نحن نزلاء الدور الثالث – لابد أن يأتي دورنا إن عاجلاً وإن جلاً .. ومع علمنا بعد ذلك بأنها آلة فإنها كانت بأصواتها المنكرة تبعث فينا الكآبة والخوف والانقباض .

7 – يبدو أنه كان من أهداف استعمال هذه الآلة أيضًا أن تغطي بصوتها علي ما يصدر فعلاً من تأوهات الإخوة الذين يعذبون بآلات أخري .. فكان سماعنا صوتها في كل ليلة نذيرًا ببدء عمليات التعذيب التي تستمر طول الليل حتى الفجر .. وقد تناول التعذيب في هذا السجن عددًا كبيرًا جدًا يفوق عدد الذين عذبوا في عام 1954 .

8 – لم يقتصر الاعتقال هذه المرة علي الإخوان المسلمين بل تناول معهم الذين يعملون في الحقل الإسلامي وكل من ينتسب إلي الدين الإسلامي بصلة ، فالجمعيات الإسلامية حتى تلك التي لم يكن أسلوبها يمس الحكام من قريب ولا من بعيد كالجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة وجمعية التبليغ الإسلامي ، كل هؤلاء اعتقلوا وكلهم عذبوا وكلهم نكل بهم وكلهم ووجهوا بتهمة التدين . ولقد سمعنا في بطون الليالي أنات زعماء هذه الجمعيات وهم يتقلبون علي جمر آلات التعذيب الإلكترونية ، وكلما استغاثوا قائلين يارب ، قال لهم الجلادون : أين هذا الرب ؟ لو كان موجودًا لجاء لينقذكم من أيدينا .. ثم يوضحون علي آلات تصدر ما يشبه الصواعق الكهربائية فتسمع صراخًا شديدًا متصلاً ثم يخفت مرة واحدة .

9 – أما العنابر الفسيحة التي أشرت إليها فقد استغلت أسوأ استغلال ، ومسخت كل المسخ حتى فقدت كل مزاياها وصارت لونًا من ألوان العذاب ، ذلك أن العنبر الذي كان مفروضًا أن يسكنه عشرة أشخاص حشر فيه مائة صارت بعد ذلك مائة وعشرين يصرف لكل منهم بطانية واحدة يفترش نصفها علي البلاط ويتغطي بالنصف الآخر ، ولا يكاد يجد الفرد منا مكانًا يضع فيه جنبه ومع ذلك فلا يستطيع أن يغير وضعه طول الليل .

أما الأبواب شبه المفتوحة التي نعمت بها هذه العنابر فقد تمنينا من أول ليلة نمناها أن لو كانت سدًا مصمتًا لا ينفذ منه حتى الهواء ؛ لأنها استغلت أسوأ استغلال في توصيل أصوات الإرهاب وصرخات المعذبين التي كانوا يريدوننا أن نسمعها وأن تخترق أذننا حتى لا نحظى بفرصة تغفو فيها عيوننا طول الليل .. كما أنهم كانوا حريصين علي تسليط الأضواء الباهرة علينا . طول الليل .

10- كنا نعامل في السجن الحربي معاملة جنود الجيش في الطعام فكان لنا مثل تعيين (نصيب من الطعام) الجنود تمامًا . أما في هذا السجن فكان طعامنا طعام المساجين .. وفرق شاسع بين الطعامين سواء في النوع أو في التجهيز أو في الكمية ، حتى الخبز .. ولم يكن مسموحًا لنا بشراء طعام آخر أو الحصول عليه بآية وسيلة أخري . وأذكر أن الخبز الذي كان يصرف لنا لم يكن إلا قطعاً من العجين أدخلت النار ثم أخرجت في الحال لدرجة أن بعض الإخوان كانوا يصنعون منه قطع الشطرنج ويتركونها أمام الهواء حتى تتماسك وتجمد .

11- كان هذا السجن يدار بجهاز من رجال الشرطة . وكنا نعتقد أن عملاً تديره الشرطة لابد أن يكون في ظل القانون والنظام ، فرجال الشرطة يدرسون القانون ومهمتهم المحافظة علي القانون .. ولكن تجربتنا في هذا السجن أثبتت لنا أن التربية التي يتلقاها الفرد في منزله هي وحدها التي تميزه في كل موقع يكون فيه في المجتمع . فلقد رأينا ضباطًا شبابًا في هذا السجن كانوا كالملائكة وزملاء لهم كانوا شياطين ، وكلاهما يتلقي أوامر واحدة ، ولكن منهم من يزعزعه إيمانه ، ويحجزه حياؤه عن أن يكون أداة بطش وتنكيل ، في حين تري زميله يلذ له أن يكون كذلك ، ولا يجد لديه من إيمان ولا حياء ولا تربية تكفه عن ذلك أو تحجزه عنه .. وكنا إزاء النوعين في حيرة ، ماذا يبغي هذا المتجبر السفيه من وراء هذا التجبر والسفه والبذاءة ؟ وليست هذه المفارقات بين الضباط فحسب بل إنها كانت موجودة بين الجنود أيضًَا .. والواقع هو أن الموظف أيًا كانت وظيفته مدنية أو عسكرية ، وأيًا كان موقعه في سجن أو في مدرسة ، يستطيع أن يكون كما يشاء أن يكون ، فهؤلاء الذين نراهم في المدارس معاول إفساد للخلق ، هم أنفسهم الذين نراهم في السجون أدوات البطش بالأبرياء .. قلوب خاوية ، ونفوس دنسة حاقدة .. وادعاء هؤلاء أنهم كانوا مكرهين أو مسلوبي الإرادة ادعاء باطل ومحض افتراء ( ••                          •          •   •          ••           ) .

أسلوب جديد مستورد

كما استورد السادة الحكام من حليفتهم روسيا آلات التعذيب ، استوردوا منها أسلوبًا جديدًا إذا لم يعد من أساليب التعذيب فنه من أساليب الإرهاب التي لم يكن لنا بها عهد .. فلقد عاشرنا هؤلاء الحكام سنوات 1954 ، 1955 وردحًا من 1956 استعرضوا خلالها كل ما في حوزتهم من أساليب الإرهاب وطرق التعذيب ، ولكن هذا الأسلوب لم يكن من بينها . ونستطيع أن نجزم بأنه لم يدر بخلدهم ولم يخطر ببالهم ، ولو خطر لاستعرضوه أمامنا ولاستعملوه معنا فهم لم يتورعوا عن شيء عرفوه أو سمعوا عنه – وكما أننا جزمنا بعدم خطوره علي بالهم فإننا نقرر أنه لم يخطر ببالنا نحن أيضًا مع أننا كنا نتوقع منهم أسوأ ما يخطر علي بال .

بدئ بالحملة الجديدة في شهر يوليو 1965 حين اعتقلت السلطات عددًا محدودًا من الإخوان من بلاد متفرقة . وقد عرفنا فيما بعد أنهم كانوا يرسلون إلي السجن الحربي في القاهرة . ولم تكن الصحف تشير إلي هذه الاعتقالات ولا عن المكان الذي يوجدون فيه – ثم قامت حملات بمهاجمة منازل عدد آخر من الإخوان في بلاد متفرقة وتفتيشها تفتيشًا دقيقًا بعد منتصف الليل ، وكان منها بيتي الذي أقيم فيه بالإسكندرية ، وقد سألت الضابط الذي كان علي رأس القوة إن كان هناك أمر بالاعتقال – وكنت أعرف هذا الضابط – فقال لي : إن أمرًا بالاعتقال لم يصدر ، ولكن التفتيش إجراء لابد منه .. وأخذت القوة كمية ضخمة من المجلات والرسائل والصور والكتب .

وفي أواخر أغسطس وأوائل سبتمبر بدأت حملة مركزة من الدعاية الصحفية المنظمة ضد الإخوان المسلمين ، ناسبين إليهم تهمًا لا تكاد تختلف في كثير ولا قليل عن تلك التي نسبوها إليهم في 1954 ، ولا عن تلك التي نسبت إليهم في 1948 ، 1949 ، وهي تهم تحتفظ بها وزارة الداخلية في أرشيفها ، وتخرجها عند الطلب وتوزع نسخًا منها علي الصحف والإذاعة التي عليها أن تخصص أكثر صفحاتها ، ومعظم وقتها لتكون أبواقاً لهذه الوزارة . وشعبنا المصري شعب أمي مغلوب علي أمره ، دأب علي تقبل ما يصل إلي سمعه دون تمحيص ، كما أن القارئين منهم أميون دينيًا وسياسيًا يصدقون ما يقرأون ناسين أو متناسين أن الذي يسمعون أو يقرأون إنما هو صادر من طرف واحد ، وأن الطرف الآخر مُحُِول بينه وبين الكلام . والعنصر الجديد الذي أدخلوه هذه المرة من عناصر الاتهام كتاب أصدره الأخ الشهيد الأستاذ سيد قطب " معالم في الطريق " ضمنه آراءه وأفكاره فيما يعتقده من المعاني الإسلامية العليا والمقاييس التي تقاس بها المجتمعات المختلفة . ومع أن الكتاب هو مجرد أفكار وآراء فإنهم اعتبروا هذه الآراء جريمة ، وهو ما لم يحدث في أي مجتمع متمدين .

ومع الحملة الصحفية والهجوم الإذاعي بدأت الاعتقالات الجماعية في جميع بلاد القطر بتخطيط منظم وأسلوب موحد . ففي الساعة الثالثة صباحًا بعد منتصف الليل يطرق الباب طارق عنيف ، يستيقظ علي طرقته أهل البيت مذعورين ، فيرون وراء الطارق قوة مدججة بالسلاح كأنما جاءوا يفتحون عكا كما يقولون – وتقتحم القوة البيت وتعبث فيه فسادًا يبعثرون محتوياته .. ثم يصحبون معهم رب البيت إلي حيث لا يدري – ثم يلقي بمعتقلي كل مركز أو قسم في حجرة من حجر مركز الشرطة أو قسم الشرطة . وتزدحم الحجرة حتى لا يجد الفرد مكانًا يجلس فيه فضلاً عن أن ينام فيه . وتطول الإقامة في هذا المكان حتى تصل إلي أسبوع .. ثم تصدر الأوامر بجمع معتقلي كل محافظة في مقر مديرية الأمن حيث يعبئون في سيارات نقل مغلقة تنقلهم جميعًا إلي مكان مجهول في حراسة مشددة من جنود الشرطة .

• المفاجـأة :

بعد انتقال رتل السيارات المغلقة تمام الإغلاق علي من فيها من المعتقلين بحيث لا يرون شيئًا من الطريق الذي تنطلق فيه .. وبعد أكثر من ساعة توقفت السيارات وفتحت أبوابها ، وأمر المعتقلون بالهبوط منها ، وهبطوا ومع كل منهم قليل من المتاع يحمله ، ثم أدخلوا مبني قديم مهدم حيث أوقفوا الطوابير ، وتقدم شخص مجهول ومعه مجموعة مما يشبه المناديل الكبيرة ، وبدأ بالمعتقل الذي يقف في أول الصف فعصب عينيه بمنديل من هذه المناديل ، ثم أخذ في عصب عيني الذي يليه والذي يليه وهكذا حتى عصب عيون الجميع . ووقفنا بعد ذلك في هذا المكان تحت شمس محرقة حاملين أمتعتنا معصوبي العيون ، وطال الوقوف .. ولم نكن ندري أنهم يأخذون عددًا من المعصوبين يقودونهم إلي حيث لا يعرفون ثم يجدون أنفسهم أمام شخص يسألهم عن أسمائهم وألقابهم ومهنهم وعناوينهم وسنهم . ثم يأمر بهم فيقادون إلي مكان آخر حيث ترفع عن أعينهم العصابات فيرون في هذا المكان زملاء لهم من الإخوان سبقوهم إليه بعد أن عوملوا نفس المعاملة . وتبين بعد ذلك أن هذا المكان هو سجن" أبو زعبل " الذي تحدثنا عنه آنفًا .

كانت المفاجأة هي هذا الأسلوب الجديد المستورد من عصب العيون ، والذي لم يقتصر استعماله علي دخول المعتقلين السجن ، بل كان كل انتقال لفرد أو مجموعة من المعتقلين من مكان لآخر داخل السجن أو خارجه لا يتم إلا بعد عصب العيون .. وكان كل تحقيق يجري مع معتقل لا يتم إلا بعد أن تعصب عيناه ، فلا يعرف أين يحقق معه ولا من الذي يحقق معه ولا من الذين يوجدون في المكان الذي يجري فيه التحقيق ، كما أنه لا يعرف ماذا يحدث له بعد لحظة أو ماذا ينزل به أو ينزل عليه . كانت عملية عصب العيون هذه كارثة وحدها تهون أمامها كل كوارث التنكيل والتعذيب ؛ لأنها كانت تفقد المعصوب كل عناصر الأمن من أول لحظة يؤخذ فيها من عنبره ، فهو يتوقع الموت في كل لحظة ، ويتوقع أن يلقي به من عل ليصل إلي الأرض محطمًا ، ويتوقع أن تضرب عنقه ، ويتوقع أن تصيبه رصاصة تأتيه من أية ناحية ، ويتوقع أن تنهال عليه الكرابيج ولا يدري من أية ناحية تأتيه ، ولا إلي أي موضع من بدنه توجه . ثم هو لا يعرف من الذي يحقق معه . وإذا واجهوه بشخص لا يعرف إن كان هذا الشخص هو صاحب الاسم الذي أطلقوه عليه أم هو شخص آخر قصد به التضليل .

• ما الذي دفعهم إلي هذا الأسلوب ؟

ولجوؤهم هذه المرة إلي هذا الأسلوب يثير التساؤل . هل دفعهم إلي محاولتهم حجب شخصية المحققين والجلادين عن المعتقلين ؟ إن الذين يحرصون علي عدم الكشف عن شخصياتهم للمعتقلين لابد أن يكونوا غير واثقين في مركز الحكومة التي يعملون لحسابها ، فهم يؤدون المهمات الموكولة إليهم علي وجل ، ويحتفظون لأنفسهم بخط رجعة يلجئون إليه حين تتغير الظروف وتتبدل الأحوال . ولكن يرد علي هذا بأن جمال عبد الناصر لم يكن في يوم من الأيام يشعر بالقوة والثبات والتمكن كما كان في تلك الفترة . كما أن جميع من كانوا يعملون معه كانوا يشعرون بأضعاف هذا الشعور من الثقة والتمكن . بل إنهم وصلوا في هذه الثقة إلي الحد الذي جعلهم في أثناء إجرائهم التحقيقات يفوهون بألفاظ تشعر بعدم إيمانهم بوجود إله , غير خاطر ببالهم أن هذا الحكم معرض أن تتزلزل أركانه لأنه – في نظرهم – قد استكمل كل أسباب البقاء ، فهو حكم قوي مسيطر ، استطاع أن يسيطر علي الناس حتى في بيوتهم ، وعلي الألسنة في أفواه أصحابها ، وعلي الكلمة التي تقال أو تكتب ، ثم استطاع أن يسيطر علي أرزاق الناس ، فلا عمل لعامل إلا في مصانعه أو أرضه أو دواوينه .. فكل ذلك صار ملكًا خالصًا له . ثم إن أحدًا لا يستطيع أن يدخل البلاد أو يخرج منها إلا بإذنه ، فمفاتيح أبوابها صارت كلها تحت يده .. وبعد كل هذا هو مستند إلي دولة كبرى تسنده بجيوشها وأساطيلها وطيرانها .. فكيف ينال هذا الحكم ؟ ومن الذي يقوي علي النيل منه أو حتى علي التصويب نحوه ؟ .

هكذا كانت نظرتهم إلي الأمور .. وكانت هي أيضًا النظرة التي ينظرها سائر الناس .. ولم يكن يشذ في نظرته إلي الأمور في ذلك الوقت عن ذلك إلا قلة من المؤمنين الذين يؤمنون بقول الله عز وجل : (    •• ) وبقوله : (    ) وهي النظرة التي شرحت في صفحات سابقة بعض نواحيها . فكيف إذن يكون الخوف هو دافع هؤلاء العملاء إلي اللجوء إلي هذا الأسلوب الجديد أسلوب عصب العينين ؟ .. لابد أن يكون الدافع أشياء أخري .. إنه أسلوب الحليف الذي نتتلمذ علي يديه في مبتكراته التكنولوجية التي يعتبرها أسرارًا لا يفضي بها إلا للحليف المقرب الذي يريد أن يبني حكمه بنفس الأساليب التي بنت بها الدولة الأم دعائم حكمها ، ولازالت تثبت هذه الدعائم وتحميها بنفس الأساليب .

إن هذا الأسلوب في ظاهره هو أسلوب عصب العينين . ولكنه في حقيقته هو أسلوب محق الشخصية ؛ لأنه الأسلوب الذي يجعل المتهم ألعوبة في يد المحققين الذين يريدون أن يحصلوا منه علي اعترافات بما يشاءون ، مهما أدت اعترافاته هذه إلي الإعدام ؛ لأن مواجهة الموت أخف وطأة من توقعه لا تدري من أي ناحية يأتيك ولا في أي لحظة تأتي . وكانوا لا يتورعون عن استعمال هذا الأسلوب ليلاً أو نهارًا ، حتى أصبح من الأمور العادية أن يأتي مبعوث من قبل مجهولين ينادي علي أحد الإخوان فيتقدم إليه فيخرج المبعوث من جيبه عصابة يعصب بها عينيه قبل أن يغادر باب العنبر ، ثم يقوده معصوبًا إلي هؤلاء المجهولين . وقد يرجع بعد ساعة ، وقد يرجع بعد يوم ، وقد يرجع بعد أيام .. وقد لا يرجع .


الفصل الثاني : أحداث وملاحظات وخواطر في هذا السجن

كان اعتقالنا في عام 1954 أكرًا طبيعيًا متوقعًَا ؛ حيث كان معركة بين طرفين – مهما قيل فيها فإنها معركة – وقد انجلت عن انتصار طرف وانهزام الطرف الآخر ، فكان من حق المنتصر أن يأسر المهزومين .. ولهذا فإنني في خلال اعتقال 1954 لم أكن أشعر بمرارة الاعتقال في ذاته ، وإنما كنت أشعر بمرارة الهزيمة . وكنت طيلة مدة الاعتقال أفكر في أخطائنا في المعركة ومن أين أتت الهزيمة ، ولا أفكر في الطرف الآخر واعتدائه علينا ؛ لأننا كنا حتى آخر لحظة ندين متكافئين ، وكنا كفرسي رهان . أما اعتقال 1965 طرازًا آخر ولونًا جديدًا لم تسبقه معركة فتكسب منتصرًا حقاً علي مهزوم ، بل كان اعتداءً علي أسير ، وإجهاز علي جريح ؛ لقد وصفت في صفحات سابقة كيف كان الفرد منا يعيش محاصرًا في بيته محاصرًا في عمله محاصرًا في طريقه ، محصيًا عليه كل لفظ ينطق به ، معدودًا عليه أنفاسه .. فإذا أتي بعد ذلك آسرك مشهرًا نحوك سلاحه وأنت أعزل ، لا بل وأنت في قبضته ، فإن ذلك لا يكون منه اعتداء فحسب بل يكون خسة ونذالة .

إنني في 1954 وفي أثناء اعتقالنا لم أكن أوافق من كان حولي من الإخوان حين كانوا يعدون مجرد اعتقال جمال عبد الناصر إيانا اعتداءً ؛ للمعني الذي أشرت إليه الآن ، وقد كان هذا يغضب بعض الإخوان .. أما في 1965 فقد أحسست في جمال عبد الناصر الخسة التي يحسها كل إنسان في حارس مدجج بالسلاح يريد أن يتفاخر بقوته ، ويزهي بسلاحه ، فلم ير سبيلاً إلي ذلك إلا أن يغمد سلاحه في ظهر أسير أعزل مريض مقيد اليدين والرجلين . ولذا فقد استقبلت هذا الاعتقال بشعور مخالف تمامًا للشعور الذي استقبلت به اعتقال 1954 .. استقبلته بغضب عارم ، وثورة نفسية مضطرمة ، وحزن شديد لازمني طيلة مدة اعتقالي ، ولم يفارقني بعدها ساعة من نهار .. حتى قضي الله أمرًا كان مفعولاً . وقد يحسن بي أن أثبت هنا بعض ما مر بنا في فترة إقامتي بهذا السجن مما لا يزال عالقاً بالخاطر ، ومما يجلي للقارئ صورة لهذه الفترة :

1 – في هذا السجن رأيت إخوانًا لم أمن رأيتهم من زمن بعيد . كما رأيت إخواناً ما كان يخطر ببالي أن يعتقلوا في يوم من الأيام ، فعجبت أشد العجب . وأكد لي ذلك المعني الذي أحسسته نحو جمال عبد الناصر من النذالة والخسة ؛ إذ لم تكن الاعتقالات عادة تتناول إلا قادة الإخوان في القاهرة والإسكندرية وبعض العواصم ، أما هذه المرة فقد امتدت إلي المراكز والقرى ، وإلي إخوان يعدون من أطراف الإخوان .

• إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدي :

2 – كان قد مر علي قرار حل الإخوان حتى ذلك الوقت اثنا عشرة سنة انقطعت خلالها الصلة بين هذا الشعب وبين دعوة الإخوان المسلمين تمام الانقطاع . وسلط خلالها تيار جارف مستمر من الأكاذيب والأراجيف والافتراءات علي الإخوان لاقتلاع الدعوة من جذورها ، وإحلال شعارات جديدة في نفوس النشء تقدس شخصية القائد لهم ، وتغرس أفكاره ، وتفرش طريق المستقبل بالورود والرياحين لمن يتبني هذه الأفكار ، كما تفرش هذا الطريق بالشوك لمن يحاول اعتناق أفكار أخري .

في خلال هذه الأثنتي عشرة سنة نشأ جيل جديد ، فتح عينيه فلم يجد أمامه إلا القيم المقلوبة ، والأفكار المسمومة والشعارات الزائفة التي عرضها عليه جمال عبد الناصر وزبانيته الذين احتكروا وسائل الإعلام والتعليم وحجبوا ما عداهم .. وما كان لجيل كهذا إلا أن ينشأ كما شاء له هؤلاء أن ينشأ ، فمن أين له أن يعلم الحقيقة وأصحابها مكممة أفواههم ، ومعزلون عزلاً كاملاً عن المجتمع ؟! وكانت المفاجأة أن رأينا معنا في هذا السجن صبية في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة لا يعدون ذلك . وهذه المفاجأة لم تكن مفاجأة لنا وحدنا بل كانت مفاجأة أيضًا لعبد الناصر الذي وجد هذه الدعوة قد نبتت من جديد بعد أن أحرق كل أشجارها ،واقتلع كل جذورها .. فكيف نبتت ، ومتى وضعت بذورها ، ومن الذي تعهدها ؟ كل هذه الأسئلة سألها عبد الناصر لنفسه ووجهها لمن حوله ، وسألناها نحن لأنفسنا ولمن معنا ، ولكن سرعان ما عرفنا الجواب حين تذكرنا أنها دعوة الله الذي قرر من قبل خلق السموات والأرض قرارًا لا رجعة فيه ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) .. وأروع الروعة حين تعلم أن هؤلاء الإخوة النابتين كانوا أصبر علي البلاء من كثير ممن يكبرونهم سنًا .

• التلاعب بمشاعر المعتقلين :

3 – لما كان عدد المعتقلين من الإخوان الذين ضمتهم المعتقلات هذه المرة كبيرًا يكاد يفوق الحصر ، وكان أكثرهم ممن لم يجربوا الاعتقال من قبل ، فقد شاعت بينهم شائعة أن الحكومة ستفرج عنهم بعد أسبوع ، وكان اعتمادهم في ذلك علي ما تنشره الصحف – التي كانت تظهر في يد بعض الضباط ، كل يوم مما يفهم منه ذلك ، ولم يتصور إخواننا هؤلاء أن هذه خديعة تلجأ إليها الحكومة لتخدير الرأي العام وإقناعه بأنها لا تبغي من الاعتقال إلا مجرد التحفظ حتى تجري تحقيقاتها الأمنية العادلة .. وقد تعلق هؤلاء الإخوة بهذه الشائعة واعتبروها حقيقة لا مرية فيها .. فلما انقضي الأسبوع الأول دون تحقيق الأمل ، وجدوا في الصحف ما أقنعهم بأن الإفراج تأجل إلي أسبوع آخر وهكذا .. وقد حاولت عبثًا أن أصرف بعضهم عن التعلق بمثل هذه الأساليب الخادعة .. ومع ذلك فقد أظلمهم إذا قلت : إنهم في هذا التعلق لم يكونوا علي شيء من الواقعية ، فالإنسان الذي يحس في نفسه البراءة لم يجرب الخداع من قبل جدير أن يصدق من يقول له : سيفرج عنك .. ولما كان جميع المعتقلين هذه المرة – سواء منهم من سبق اعتقاله ومن لم يسبق – قد أخذوا بغير جريرة ، وكلهم يحسون في أنفسهم البراءة ، فقد سرت شائعة الإفراج إليهم جميعًا ولا شاغل يشغلهم إلا الحديث عن الإفراج وتوقعه في صباح كل يوم وظهره ومسائه .

• رؤيـا :

4 – ولقد بلبلت كثرة الحديث عن الإفراج أفكاري ، حتى صار هذا الموضوع عبثًا علي نفسي ، ولجأت إلي الله عز وجل أن يرفعه عني ، ونمت بعد اللجوء ، فرأيت فيما يري النائم أن والدي رحمه الله – وكان إذ ذاك علي قيد الحياة – قد أرسل إليّ خطابًا . ففتحت الخطاب فوجدت فيه قصاصة من الورق نحو ثلاثة سنتيمترات وطولها نحو اثني عشر سنتيمترًا وقد كتب لي فيها هذه العبارة بخطه الذي أعرفه :

ديسمبر

" الإفراج 27 سنة 1965 "

نوفمبر

فلما قرأت ذلك سري عني ، واستيقظت من النوم فوجدتنا قبيل الفجر . وتذكرت نص ما كان مكتوبًا فوجدتني أذكر كل ما فيه إلا شيئًا واحدًا وجدتني لا أذكره ، ذلك أن العبارة جاء بها اسم الشهر مشطوبًا ومكتوبًا فوقه اسم الشهر الآخر فأيهما المشطوب وأيهما المكتوب فوقه ، هذا ما وجدتني مرتابًا فيه هل هو " 27 ديسمبر " أم " 27 نوفمبر ؟ " . كنا إذ ذاك في أوائل العشرة الأخيرة من سبتمبر ، ووجدت أنني إذا أخبرت إخواننا الذين معنا في العنبر والذين يبيتون علي اعتقاد أن الإفراج في الصباح .. ويصبحون علي اعتقاد أن الإفراج في المساء .. إذا أنا أخبرتهم بالرؤيا التي رأيتها فإنها ستكون صدمة عنيفة لهم ، فعزمت علي كتمانها عنهم رأفة بهم وإشفاقاً عليهم .

• أعظم منن الله عليّ :

5 – قدمت من قبل أن السنوات العشر التي مضت منذ الإفراج عنا في عام 1956 قد أنستني ما كان قد أكرمني الله به من حفظ القرآن كله خلال إقامتي بالسجن الحربي – فلما جاء هذا الاعتقال عزمت علي أن أسترد أثمن ما فقد مني وهو الكتاب الكريم ، فعكفت علي حفظه من جديد . وقد تضاعف نشاطي في الحفظ بعد أن رأيت في الرؤيا أن إقامتي في الاعتقال قد حددت إما بثلاثة أشهر وإما بأربعة .. وقد ساعدني علي الحفظ وجود أخوين كريمين معي في العنبر هما الأخ مصطفي عناني من إخوة فوة – الأوفياء – والأخ الشيخ محمد (نسيت لقبه) من إخوان قلين ومن الحفاظ الجيدين ، فكنت كلما حفظت قدرًا سمعه مني الأخ مصطفي ثم قرأته مع الأخ الشيخ محمد قراءة متناوبة مجودة ، وأقرأ كل يوم الجديد علي الأخ مصطفي ثم أقرأ الجديد والقديم مع الأخ الشيخ محمد – ولم أزل كذلك حتى حفظت أو استعدت حفظ العشرين جزءًا الأولي حفظًا مثبتًا والحمد لله . ثم افترقنا وأنا عازم أن أجعل هذه العشرين جزءًا وردي لا أنقطع عنه يومًا حتى ألقي الله آملاً أن يعينني علي ذلك .

وقد يكون مستغربًا أن أقول : إنه بالرغم مما كنا نقاسيه في هذا السجن من عنت وإرهاب لا ينقطع ليلاً ولا نهارًا ، فإنني يوم فوجئت بانتهاء أيامي بهذا السجن وجدتني متألمًا متمنيًا أن لو طالت أيامي به حتى أتم استعادة حفظ القرآن كله .. وإذا كان هذا الشعور يقع من القارئ موقع الاستغراب ، فربما زال هذا الاستغراب حتى يعلم أنني ما أتقلب فيه من فضل الله في هذه الحياة ، فإنني أشعر أن أعظم نعمة لله عليّ هي نعمة توفيقه إياي لحفظ ما حفظت من كتابه ، ولازلت أسأله وألح في السؤال أن يحفظ عليّ هذه النعمة حتى ألقاه بها غير مفرط ولا مبدل . ونصيحة أقدمها إلي من يريدون أن يحتفظوا بما وفقهم الله إليه من حفظ القرآن كله أو بعضه هي أن وسيلة ذلك أن يرتبوا لأنفسهم وردًا يوميًا دون انقطاع مما يحفظون يقرأونه علي أنفسهم . وهذه هي الوسيلة الوحيدة ، وإلا تعرضوا لمثل ما تعرضت له فيما بين معتقلي 1954 ، 1965 وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث يقول : " تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها " .

6 – وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن هذا الحديث الذي سقناه عن التجرد يذكرنا بأخ كريم كان معنا في العنبر وكان أكبرنا سنًا ، وأعظمنًا بلاءً ، وأجملنا صبرًا .. كان الرجل إذ ذاك قد جاوز العقد السابع من عمره ، وكان مع ذلك أكثرنا نشاطًا ، وأوسعنا أملاً ، وأنشطنا في العبادة .. ذلك هو الأخ الكريم الدكتور أحمد القاضي . ومع أن الطعام الذي كان يقدم إلينا لا يقيم أودًا ، فإن هذا الرجل ظل طول مدة اعتقاله في هذا السجن صائمًا لا يفطر ، حتى إن بعض زملائنا من الشبان في العنبر أخذوا يقتدون به ويصومون معه ، ولكنهم لم يستطيعوا المواصلة في حين أنه لم ينقطع . أما أنا فقد وجدت الصيام مع هذا الطعام التافه سيحول بيني وبين إتمام مقصدي الأسمى من التوفر علي حفظ الكتاب الكريم ، فلم اشترك مع إخواننا هؤلاء إلا قليلاً ولكنني عزمت علي أن آخذ نفسي بشيء من هذه العبادة بعد الإفراج عني ، وكان هذا الشيء أن أصوم يومًا واحدًا في الأسبوع لا أزيد عليه ولا أنقص عنه اهتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم : " خير الأعمال أدومها وإن قل " . وقد وفق الله عز وجل إلي تحقيق هذه العزيمة ، وأسأله أن يعنني علي المواظبة حتى ألقاه .

• المباحث والمخابرات :

7 – أشرت في صفحات قريبة إلي أنني قبل أن اعتقل هذه المرة بفترة قصيرة ، حضر إلي منزلي ضابط المباحث المرحوم الأستاذ عبد العزيز الصوابي وفتش المنزل وأخذ كميات كبيرة من الصحف والمجلات والكتب . وقد سألته في تلك الليلة عما إذا كان هذا التفتيش مقدمة لاعتقالي حتى أستعد وأحضر حقيبتي فنفي ذلك ، وقال لي : إنني قمت بهذا التفتيش حتى لا أجعل للمخابرات حجة علينا ، فلا يصح أن تقوم المخابرات باعتقال زوج أختك الأستاذ مصطفي كمال من منزلكم برشيد ثم لا يفتش منزلك بالإسكندرية . فقلت له : إنني كنت معتقدًا أن الأستاذ مصطفي اعتقل بواسطة رجال المباحث العامة في دمنهور فقال : لا .. إن المخابرات العامة أرسلت عددًا من رجالها من القاهرة إلي رشيد لاعتقال الأستاذ مصطفي دون أن نعلم أو نتدخل .. كل دورنا أنهم سألونا عن مقر الأستاذ مصطفي فأجبناهم بأنه في منزل أنسبائه في رشيد .

كانت هذه المناقشة التي دارت بيني وبين المرحوم الأستاذ عبد العزيز الصوابي أول شيء لفت نظري إلي أن المخابرات هذه المرة ضلعًا في الاعتقالات . وتعجبت من قوله : إنهم لم يكونوا يعلمون شيئًا عن اعتقال الأستاذ مصطفي . ثم جاء اعتقالي شخصيًا بعد ذلك – وقد نفي الأستاذ الصوابي حدوثه – مفسرًا لما جاء بحديثه .

ولما نقلنا إلي سجن " أبو زعبل " وأقمن به فترة من الزمن ، جاء إلي عنبرنا موظف مدني يبدو أنه كان مرموقاًَ ، لأنه كان يمشي خلفه جندي من جنود السجن ؛ مما يشعر بأنه ذو حيثية ومكانة ، ثم تقدم الجندي إلي باب العنبر وسأل عن اسم أحد المعتقلين فأجابه الأخ فإذا بهذا الموظف يتقدم نحوه ويصافحه ويعانقه ثم رأيت عددًا من " بلديات " هذا الأخ من زملائنا بالعنبر يتقدمون ويصافحون الموظف ، ثم طلبوا إليّ أن أصافحه وأجروا التعارف بيني وبينه / فتبين لي أنه من أسرة كريمة من أسر هذا البلد وأنه موظف بمخابرات رياسة الجمهورية .. وقد تحدث إلي مواطنيه حديثًا طويلاً ، ولكنني كنت حريصًا علي أن أتحقق مما فهمته من مناقشتي للأستاذ الصوابي . ولم يكتمني هذا الشاب ما عرف أنني أنوق إلي معرفته ، فقصَّ عليّ القصة التي مؤداها أن المخابرات اتهمت المباحث العامة بالكسل والتراخي في أداء مهمتها ، وكادت بالتغافل عما يدبر من مؤامرات ضد الدولة .. واقتنعت الجهات العليا بصحة هذا الاتهام بالرغم من دفاع المباحث عن نفسها .. ونقلت قيادة الكشف عن المؤامرات من يد المباحث العامة إلي يد المخابرات العامة ، ثم نقلت إلي فرع أساسي من فروعها هو مخابرات رياسة الجمهورية .

ثم قال : إن دور المباحث العامة هذه المرة هو الدور التنفيذي الذي ترسمه لها مخابرات رياسة الجمهورية ؛ لأن هذه المخابرات هي التي كان لها الفضل في كشف المؤامرات التي كانت تدبر ضد الدولة ، وهي التي أمرت باعتقال كل من اعتقل هذه المرة . وقال : إنني موفد من قبل مخابرات رياسة الجمهورية لإعداد العدة لعقد اجتماعات لجميع المعتقلين بهذا السجن ، تقدم إليهم فيها أسئلة مكتوبة ويطلب إليهم الإجابة عليها كتابة . وكان فعلاً ما قال هذا الشاب .. فبعد حديثه هذا ببضعة أيام عقدت هذه الاجتماعات وقدمت الأسئلة وأجبنا عليها . والأسئلة تدور حول صلة المعتقل بالإخوان المسلمين ، وأسباب اعتقاله ، وتاريخ الاعتقال ، وتاريخه في الإخوان المسلمين ، والأماكن التي يغشاها بعد الإفراج عنه ، ونحو ذلك . وكان واضحًا مما يجري في هذا السجن أن الجهة المسيطرة عليه جهة أعلي مركزًا وأقوي نفوذًا من المباحث العامة ، ومن أدلة ذلك أنه في أثناء وجودنا في هذا السجن جئ بشخصيات لم يكونوا ممن يدخلون في أفق المباحث العامة ، وعذبوا وشرحت أجسامهم بالسياط وسمعنا صراخهم كصراخ النساء ، ومنهم صلاح الدسوقي الذي كان أحد عتاولة الثورة المتصدرين في سنة 1954 لتعذيب الإخوان بالنفخ والكي ، والذي كان منذ استقرت الثورة محافظًا القاهرة ، منحوه هذا المنصب نكاية في زميله الأخ الضابط صلاح شادي .

• قضية سنفا :

8 – كتبت تحت هذا العنوان لأن العنبر الملاصق لعنبرنا كان يطلق عليه " عنبر سنفا " وكان لسنفا هذه ضجة في عام 1965 . وقد تابع الرأي العام اتساع نطاق الاعتقالات علي ذمة هذه القضية باعتبارها قضية خطيرة لقلب نظام الحكم بالقوة . ويكفي لنصور مدى اتساع الاعتقالات لحساب هذه القضية أن العنبر الملاصق لعنبرنا وعدد نزلائه أكثر من مائة كلهم اعتقلوا علي ذمة هذه القضية ، ومع ذلك فهناك عدد آخر أودعوا السجن الحربي .

أما نحن – نزلاء سجن " أبو زعبل " – فقد كان لكل عنبر شأن يغنيه عن الالتفات إلي من يجاوره .. ولكن وجود أبواب العنابر بالوصف الذي وصفته هو الذي لفت نظرنا إلي هذا العنبر المجاور لنا بالذات .. لأنه لم يكن يمضي يوم تقريبًا حتى تقوم إدارة السجن بتكدير هذا العنبر. وإحدى صور هذا التكدير التي لابد منها عادة هي إخراج نزلاء هذا العنبر في طابور جري بالخطوة السريعة في الطرقة الممتدة أمام عنابر الدور الثالث الذي نسكنه ، وملاحقتهم بلذعات من سوط أو ضربات بعصا .. وقد كنا نعتقد أن تخصيص هذا العنبر بالذات لهذا التكدير المستمر يرجع إلي أن نزلاءه متهمون علي ذمة القضية المسماة بقضية سنفا .

وقد لفت نظري والطابور يجري أمام بابنا أن لمحت زوج شقيقتي الأستاذ مصطفي كمال بينهم .. وكان قد اعتقل قبلنا بفترة حيث اعتقل في أواخر يوليو 1965 .. ومع أنني رأيته والعنبر ملاصق لعنبرنا فإنني لم أستطع أن اتصل به طيلة الفترة التي قضيتها في هذا السجن ؛ لما كان في ذلك من مخاطرة فضلاً عن الاستحالة . ولكنني كنت في حيرة ما الذي جاء به في هذا العنبر ؟ وما علاقته بقضية سنفا ؟ وسنفا هذه قرية من قرى محافظة الدقهلية ، بعيدة كل البعد عن القاهرة التي هي موطنه وعن رشيد التي هي موطن زوجته .. ولم استطع أن أصل إلي حل لهذا اللغز حتى التقينا بعد أن أنقشع ظلام الإرهاب الحكومي فسألته . وقبل أن أنقل للقراء حل هذا اللغز أذكرهم بما كان قد دار بيني وبين المرحوم الأستاذ عبد العزيز الصوابي ضابط المباحث العامة حين حضر لتفتيش منزلي بالإسكندرية ، وأخبرني أنه يفعل ذلك لأن زوج شقيقتي اعتقل من منزلنا في رشيد . فلما سألته عن سبب اعتقاله أخبرني بأنه لا يعرف عن هذا الموضوع شيئًا ؛ لأن الذين اعتقلوه أرسلتهم المخابرات العامة من القاهرة إلي رشيد لاعتقاله . ثم أرجع بعد ذلك إلي ما كنت بصدده من استفساري من الأستاذ مصطفي كمال في سبب اعتقاله حيث أجابني بقوله :

كنت بمنزلكم برشيد في إجازتي الصيفية استمع إلي خطاب جمال عبد الناصر بالراديو في ذكري 26 يوليو 1965 ، وكان يتوعد في خطابه أعداء الشعب ، ولم أكن أتصور وقتها أنه يقصد الإخوان .. ولم يمر يومان حتى حضر إلينا زبانيته إلي رشيد ليلقوا القبض عليّ دون أن أعرف لذلك سببًا .. وفورًا رحلت إلي مديرية دمنهور حيث قضيت الليل .. وفي أول قطار صباحًا رُحلت إلي القاهرة وإلي إدارة المباحث العامة . وبقيت مع حارسي علي باب اللواء حسن طلعت حوالي ثلاث ساعات كان يخرج من مكتبه كل فترة ليتفرس في وجهي ثم يدخل مغيظًا دون أي سؤال .. وبعد ذلك أحضر حارس آخر شخصين لا أعرفهما ، وحوالي الظهر رحلنا ثلاثتنا إلي السجن الحربي واستقبلنا بما هو معروف عن هذا المكان البغيض .

وقد نال أكبرنا سنًا أشد الإهانة في الاستقبال من الصول صفوت الروبي وبأمر من اللواء حمزة البسيوني ، وكان ذنب هذا الرجل أنه لم يكن يعرف نظام وأدب الدخول .. ثم ساقونا نحن الثلاثة إلي سجن رقم 4 حيث أودع كل واحد منا في زنزانة – سجنًا انفراديًا – وبقينا هكذا حوالي 25 يومًا .. وكانت الزنزانة المجاورة لزنزانتي معدة لاستقبال الذين يحقق معهم بوجبات من الضرب بالكرابيج ما بين 200 ، 300 كرباج ثم يلقي بالمتهم جثة تنزف دمًا من جميع أجزائها وتئن أنينًا موجعًا .. وكل يوم كان يمر أتوقع دوري قد قرب . ولم أستطع في هذا الجو أن أتبين شخصية أحد من نزلاء سجن 4 . وبعد 25 يومًا أخرجونا من الزنازين وساقونا إلي مبني السجن الكبير حيث حبسنا حبسًا انفراديًا لمدة أسبوع ، ثم نودي عليّ ضمن مجموعة من الأفراد حيث ساقونا مجتمعين إلي مخزن كبير في مدخل السجن الكبير وجدت به عددًا كبيرًا من الأشخاص تبينت منهم بعض الإخوة أصحاب موظفي شركات والتوكيلات التجارية للنقل ، والأخ سعد كمال والأخ محمد الجريسي ، أما الأشخاص الآخرون فكانوا كثيرين وعرفت أنهم من قرية سنفا بجوار ميت غمر دقهلية . وقد أخبرني هؤلاء الأشخاص أنهم عذبوا عذابًا شديدًا خلال الأيام الماضية ، وأنهم كانوا يسألونهم عن أشياء لا علم لهم بها ولا يعرفون عنها شيئًا . وبالتحدث معهم وجدت أنهم مجموعة من الشباب ؛ منهم فلاحون أميون ، ومنهم مدرسون ، ومنهم طلبة في الجامعة كانوا يقضون إجازاتهم في قريتهم كما كنت أنا الآخر أقضي إجازتي في رشيد .. وقد فوجئت بأن رأيت في وسطهم الرجل الكبير الذي دخل معي السجن الحربي في يومه الأول وعرفت أنه ناظر مدرسة ، وكان قد حضر من القرية إلي القاهرة لزيارة ولده الطالب بكلية العلوم . ولما جاء الزبانية في ذلك اليوم للقبض علي ولده فلم يكن موجودًا في ذلك الوقت فأخذوا الوالد ولقي ما لقي من عذاب وإهانة .

وبعد حوالي أسبوع في هذا المخزن جاءوا ليقولوا لنا : ليس ضدكم تهم وقد صدر أمر الإفراج عنكم ؛ فاعتقدنا أنه إفراج حقاً . وأركبونا ومعنا الحرس وأنزلونا في مبني وزارة الداخلية .. وبعد عدة إجراءات ركبنا ثانية وإذا بنا نري أنفسنا في سجن " أبو زعبل " . وحشرنا حشرًا داخل إحدى الحجرات التي لا تتسع لأكثر من 30 شخصًا حيث بلغ عددنا أكثر من مائة .. ولأن معظم الموجودين بالحجرة من قرية سنفا ، ولأنهم ليسوا من الإخوان المسلمين ولم تكن تجمعهم فكرة ولا مبدأ ، وكل الذي يجمعهم أنهم أبناء قرية واحدة ، فقد كانوا كثيري العراك بعضهم مع بعض وترتفع أصواتهم مما آثار ضباط السجن ، فكانوا يخرجوننا يوميًا ليذيقوننا من ألوان الإيذاء والإهانة . ولم أكن قد عرفت لماذا اعتقلت ، وما هي قضية سنفا بالذات .. حتى جمعتني الظروف أخيرًا بأحد الذين كان قد وجه إليهم الاتهام وهو الأخ يحيي القللي وكان موظفاً في شركة التوكيلات التجارية للنقل .. وعرفت سر اعتقال موظفي هذه الشركة ، فقد عرفت منه أنه كان ينقل بضاعة بسيارة من سيارات الشركة لأحد الأشخاص – ولا أذكر اسمه الآن – وكان لهذا الشخص معاملات مع بعض أشخاص في قرية سنفا . وتخيلت أجهزة المخابرات أن هذه الصلة مقصود منها العمل علي قلب نظام الحكم بالقوة ، لاسيما وأن البضاعة التي كنا ننقلها لعب أطفال وتحتوي علي ما يلعب به الأطفال من بمب وصواريخ ونحوها .

يقول الأستاذ مصطفي كمال : ودارت القضية حول نشاط يحيي القللي مع بعض من تعامل معهم في قرية سنفا من التجار ومن حولهم . وكان من نصيبي أن اعتقل لا لشيء إلا لأنني كنت متهمًا مع يحيي في القضية التي لفقت ضدنا في عام 1954 . كما اعتقلوا جميع من كان يعمل في شركة التوكيلات من أول مديرها إلي أصغر سائق فيها وتباع . ثم يقول : كان الذين قاموا باعتقال المجموعات الأولي في عام 1965 هم رجال المخابرات ، وكانوا يتفاخرون علي رجال المباحث العامة بأنهم أصحاب السبق في كشف الكثير من القضايا والمؤامرات – في زعمهم – ضد نظام الحكم ؟؟ ومع ذلك لم تسفر جهودهم عن شيء رغم ما لقي الناس في السجن الحربي والمعتقلات من ظلم وعذاب وآلام .

• قضية كرداسـة :

9 – ويمكن أن يكون هذا العنوان " مذبحة كرداسة " كما يمكن أن يكون " مهزلة كرداسة " ، أما العنوان الأخير فإنما يقصد به وصف للعهد ، وقد وحدثت هذه المهزلة وصهري الأستاذ مصطفي في السجن الحربي ، وقد راعه ما رأي حين جاءوا إلي السجن بأهل كرداسة وفعلوا بهم الأفاعيل .. وقد قص عليّ الأستاذ مصطفي ما رآه بعينيه ثم ما سمعه منهم ، وقد وجدته مطابقًا لما قرأته في كتاب " الموتى يتكلمون " فرأيت أن أنقله تمامًا للفائدة :

كان من بين الأسماء التي ذكرها علي عشماوي (أحد المتهمين في قضية قادة التنظيم سنة 1965) اسم " السيد نزيلي " علي أنه مسئول عن مجموعة الإخوان في إمبابة .. ويقيم في كرداسة .. وتوجهت مع غروب الشمس يوم 21 أغسطس مجموعة من زبانية المباحث الجنائية العسكرية بملابسهم المدنية إلي القرية الهادئة في إمبابة .. كان عددهم ثمانية .. وسألوا عن منزل السيد نزيلي .. وتوجهوا إلي المنزل .. واقتحموه عنوة .. ولم يكن السيد نزيلي موجودًا .. كانت عروسه فقط هي التي بالمنزل مع شقيقه عبد الحميد .. وسألوا عن السيد ، ولما علموا بعدم وجوده تفرقوا في غرف المنزل يفتشون وينهبون .. وكانت هذه عادتهم بجانب البحث عن أي أدلة ، يبحثون عن المال والمصوغات .. يقدمون الأدلة إن وجدت وأغلبها الكتب الدينية إلي رؤسائهم ، ويخفون في جيوبهم المال والمصوغات .

واعتقد عبد الحميد أن الثمانية عصابة من اللصوص .. خرج إلي الشرفة يستغيث ، وتجمع أهالي القرية .. وأراد الثمانية اصطحاب عبد الحميد وعروس شقيقه إلي السجن الحربي ليضطر السيد نزيلي إلي تسليم نفسه .. واعتقد الأهالي أن الثمانية يخطفون ابن قريتهم وعروس شقيقه .. وتصدي كل أهالي القرية الثمانية .. ونشبت معركة رهيبة انتهت بهروب سبعة من الثمانية أما الثامن فقد سقط قتيلاً . وبعد ساعة .. تحرك موكب من المصفحات إلي القرية الساكنة وأكثر من ألفي جندي من جنود الجيش في حملة تأديبية للقرية وأهلها الذين تجرأوا علي " ضرب الحكومة " ، وكانت أوامر الحملة صادرة من شمس بدران (الذي استطاع الهرب حاليًا إلي انجلترا لينعم بالملايين التي سرقها من مال الشعب وتمكن من تهريبها) وتحولت القرية إلي ساحة معركة .. واستمر دوي الرصاص طول الليل .. والصرخات .. صرخات الرجال والنساء والأطفال تنطلق إلي السماء تحمل الأنين والشكوى إلي الخالق العظيم .

وتم تفتيش كل منازل القرية .. ونهب كل قرش في كل بيت ، ثم تم جمع الرجال وربطهم بالحبال كقطيع ماشية ، واقتادوهم إلي اللوريات لتنقلهم إلي السجن الحربي .. وفي لوريات أخري تم تجميع الزوجات والأمهات واقتدن أيضًا إلي السجن الحربي . وفي فناء السجن .. جمعوا الرجال .. ووقف الفريق محمد فوزي يستعرض " السبايا " وكأنه قائد جيش يستعرض أسري جيش الأعداء .. وكان الرجال وقوفاً .. وصرخ فيهم مايسترو التعذيب صفوت الروبي أن يركعوا أمام القائد ويسجدوا .. وانهالت الكرابيج علي ظهورهم .. ثم صدرت الأوامر أن تمتطي كل امرأة من كرداسة ظهر زوجها أو أبيها أو جارها .. وأن يحبو الرجال – والنساء فوق ظهورهم – في الفناء .. بينما اصطف عدد آخر من أهالي كرداسة علي هيئة دائرة وصدرت إليهم الأوامر أن يصفع كل منهم جاره ، ويبصق في وجهه . ولاحظ السجانون أن بعض الصفعات ضعيفة .. فكانوا يلهبون أصحابها بالكرابيج .

وكانت تلك صورة ما تعرض له أهالي كرداسة الذين اقتيدوا إلي السجن الحربي ليبقوا بداخله تسعة وعشرين يومًا يكررون فيها المشاهد السابقة .. أما نفس القرية فقد احتلتها قوات من المباحث الجنائية العسكرية وأصدرت أوامرها أن يلزم الكل منزله لا يغادره أبدًا .. وأغلقت المساجد وأمرت بتعطيل الصلاة .. وتصادف أن مات أحد شيوخ القرية وهو محمد عبد العزيز حيدر .. ورفض رجال المباحث الجنائية العسكرية دفنه .. وبقي في فراشه ثلاثة أيام حتى تعفنت جثته .. وعندما صادرت الأوامر بأن يتم دفنه خرج نعش الرجل يحمله أربعة رجال فقط ولا يتبعه أحد إلي المقابر .

• إفراجـات :

10 – في خلال فترة إقامتنا في " أبو زعبل " نودي مرتين ، كل مرة علي عدد من الإخوان نحو الخمسين أو الستين من الإخوان الكرام الذين ذكرت أنهم لم يكونوا في يوم من الأيام هدفاً للاعتقال .. وسلموا أماناتهم وهنأناهم بالإفراج . وفي منتصف أكتوبر نودي علي عدد كبير من الإخوان يبلغ بضع مئات ، أكثرهم من الإخوان ذوي النشاط وفيهم مجموعة كبيرة من إخوان الإسكندرية وكنتم منهم ، كما كان منهم الإخوة الأساتذة نجيب عبد العزيز ومحمود السعدني ومحمد فهمي القراقصي وغيرهم من خيرة إخوان الإسكندرية والقاهرة وبعض الأقاليم .. وأمرنا بتحضير حقائبنا ، وسلمتنا إدارة السجن أماناتنا ، وقدمت لنا التهنئة للإفراج كما فعلوا مع المجموعات السابقة . وجلسنا في فناء السجن ننتظر حضور السيارات التي تقلنا . وجلس الإخوان من حولي يتحدثون ولمحات السرور علي وجوههم وفي ثنايا حديثهم للإفراج الذي جاء مبكرًا .

وجلست أنا شارد الذهن ، أحدث نفسي حديثًا لا أجرؤ أن أبوح به ؛ لأنه يعكر صفو إخواننا المسرورين بالإفراج . وحديثي لنفسي دار علي نحو قريب من هذه المعاني : هل صحيح أن هذا إفراج ؟ إن هذا يتعارض مع سياسة الحكومة نحونا .. إذا كانوا يريدون الإفراج عنا بعد نحو شهر فلم إذن كان الاعتقال ؟ وهل هناك ضغط علي الحكومة ؟ ممن يكون الضغط وكل حلفاء الحكومة أعداء لنا يتربصون بنا الدوائر ؟ وإذا كانوا يريدون بالإفراج الدعاية لكسب الرأي العام فقد حصلوا علي هذا الكسب بالإفراج عن الذين ليس لهم معهم تاريخ .. أما هذه الدفعة فأكثرها ممن كان لهم دور معهم .. إنني عقلاً لا أتصور أن يكون هذا إفراجًا . ثم إن هناك الرؤيا ، والرؤيا كما يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " الرؤيا الصالحة جزء من سنة وأربعين جزءًا من النبوة " .. هذه الرؤيا حددت تاريخ الإفراج باليوم والشهر والسنة ، والشك الوحيد في تفاصيلها محصور في اسم الشهر الذي يقع فيه الإفراج فهو إما نوفمبر وإما ديسمبر ونحن الآن في أكتوبر .. وإذن فلم يكون هذا إفراجًا بحال .. إذن فماذا يكون ؟ هذا ما أقف أمامه حائرًا .

ومضت الساعة تلو الساعة ونحن في انتظار السيارات .. حتى جاءت فتهللت وجه إخواننا ، ولكنني كنت حائرًا لا يرتسم علي وجهي شعور إلا شعور الريبة والشك والحيرة ، وشعور آخر هو شعور الحرج من المكاشفة بما يدور في داخل نفسي . وركبنا السيارات .. وكانت بضع سيارات ، وكان معنا عدد لا بأس به من الطلبة والشباب الذين لا يستطيعون في كل موقف إلا أن يظهروا شعورهم . ولما كانوا يشعرون بالسرور ، فقد أظهروا ذلك في عدة أساليب من المرح المباح . وبقدر ما كانت هذه الأساليب تثير البهجة في نفوس زملائنا من الإخوان الكبار وتشيع المتعة في جميع السامعين ، كانت تثير الألم في نفسي لإشفاقي علي هؤلاء الإخوة الكرام حين لا يتحقق لهم ما ينتظرون ، وحين يفاجئون بما لم يكونوا يحتسبون .

وسارت السيارات ، وواصلت السير ، وقطعت بنا وقتاً طويلاً ، ومسافات شاسعة ، والإخوان مستغرقين في لهو برئ .. حتى تنبه بعضهم فجأة فنظر في ساعته ، فوجد أن الوقت الذي مضي كان ينبغي أن يوصلنا إلي طريق كذا وإلي بلدة كذا ، ولكن معالم الطريق الذي نحن فيه تختلف عن ذلك كل الاختلاف فما هذا الالتواء في السير ، وإلي أين نحن سائرون ؟ . وهنا بدأت عقارب الشك تدب في نفوس الإخوان .. وخفتت أصوات الشباب المبتهج وأخذ الجميع يتهامسون ، وبدأت أدعو الله أن يربط علي قلوب إخواني حتى يتحملوا هذه الصدمة .

• ابتكار شيطاني جديد :

ويبدو أن السادة الجدد الذين ألقي إليهم بقيادة الحملة الجديدة علي الإخوان من رجال مخابرات رياسة الجمهورية – تهتكًا منهم في فنون الإيذاء والتنكيل - أرادوا أن يبهروا سيدهم الكبير بابتكارات يعجز الشيطان عن مثلها .. وكان من ابتكاراتهم التلاعب بالنفس الإنسانية ، وإيصال الإيذاء إلي صميم هذه النفس مباشرة بدلاً من توقيع الأذى علي البدن ، فلا يصل هذا الأذى إلي النفس وإنما يصل إليها مجرد شعور بالألم ، فإذا طاب البدن – وسرعان ما يطيب . برئت النفوس من شعورها بالألم واستوت علي ما كانت عليه .. أما إذا وقع الأذى علي النفس توقيعًا مباشرًا تمرض .. وإذا مرضت النفس فقلما تبرأ ، وقلما ترجع إلي ما كانت عليه .. ومن هنا كان الفرد من الإخوان الكرام يعذب بمختلف ألوان التعذيب بإيذائه في بدنه بكل وسائل الإيذاء حتى يتقطع لحمه ويتناثر هنا وهناك ويعلق مقلوباً .. فيتحمل كل هذا ولا يعترف بما يريدون .. فإذا يئسوا من الوصول معه إلي ما يريدون لجأوا إلي التعذيب النفسي ، بأن يحضروا زوجته ويهددونه بهتك عرضها ، فتري هذا الذي تحمل من التعذيب البدني ما تنوء به الجبال لم يقر علي تحمل مجرد التهديد بهذا اللون من التعذيب النفسي ، فيذعن في الحال ويوقع ما يشاءون من اعترفات تؤدي به إلي الإعدام .

ومن هذا الباب قولهم : " إن أعظم مصيبة تصيب الإنسان هي الفقد بعد العطاء ، فالفقير مهما طال به الفقر حتى لو قضي حياته فقيرًا ، فإن نشوءه في الفقر وتقلبه في رغامه ، وإلفه معاشرته لا يكاد يشعره بمرارة .. أما إذا افتقر الموسر فإنه يحس لهذا الضيف الذي حل بساحته بمرارة قد تقضي عليه .. وكذلك المسجون مهما طالت أيامه في السجن فإنه لا يكاد يحس بمرارة سجن ألفه أنه ممس فيه ومصبح .. أما إذا منّي بالحرية ، وأوهم بالإفراج ، وطلب إليه أن يعد نفسه للذهاب إلي بيته ، وانهال عليه المهنئون حتى قدم إليه التهاني هيئة إدارة السجن .. فإذا تبين له فجأة أن كل هذا لم يكن إلا خدعة ، فإن ذلك يجرح نفسه جرحًا عميقاً يعز علي البرء ، ويستعصي علي الشفاء ، ويولد في نفسه حسرة تستقر في سويداء قلبه ، وتكسو نظرته إلي الأمور لوناً أسودًا قائمًا . وحين يستولي عليه اليأس فيري الدنيا كلها سوادًا ، يسلمه هذا الشعور إلي التخلص من الحياة بأسلوب أو بآخر .

هذا ما أراده السادة الجدد وما هدفوا إليه من أسلوبهم هذا المستحدث .. ولكنهم نسوا أنهم يتعاملون مع مؤمنين وصفهم ربهم بقوله : (  •          ) . ظل الإخوان في سياراتهم في حيرة من أمرهم وهم لا يكادون يصدقون أن الوعود التي وعدوها كانت برقاً خُلَّباً وخداعًا ماكرًا إلا بعد أن رأوا السيارات تدخل بهم في بناء متهالك قديم ، وطلب منهم أن ينزلوا من السيارات ومعهم متاعهم . ففعلوا وهم لا يعرفون أين نزلوا وما هذا البناء القديم . وبعد نحو ساعة من نزولهم والحسرة تقطع قلوبهم علموا أن هذا البناء القديم هو سجن مزرعة طره . وهنا ازددت بالله إيمانًا حيث سارت الأمور حتى ذلك اليوم مصدقة الرؤيا التي قال عنها النبي صلي الله عليه وسلم : " إنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة " .


الفصل الثالث : في سجن مزرعة طره

دخل الإخوان هذا المبني وهم لا يكادون يستطيعون الوقوف علي أقدامهم من شدة هول المفاجأة ، لاسيما بعد أن علموا أن المبني سجن آخر .. كادت تتمزق نفوسهم ، وتطير قلوبهم شعاعًا لولا بقية من إيمان بالله تتبدد علي عتبته سحائب اليأس ، وتتحطم علي صخرته جيوش الهموم . بدأوا المشوار من جديد .. أخذت بياناتهم ، وتسلمت أماناتهم ، قيدت أسماؤهم ، وقسموا أقسامًا في عنابر ، علي أن يشغل كل عنبر مجموعة اعتقلت من محافظة واحدة ، وكان نصيبي هذه المرة أن أكون في عنبر إخوان الإسكندرية وإن كان إخوان الإسكندرية قد شغلوا أكثر من عنبر ، والعنبر يضم مائة معتقل .

ولست أدري هل كان العاملون في إدارة السجن ملمين بظروف هؤلاء النزلاء الجدد الذين وردوا إليهم في تلك الليلة ، أم أنهم ألموا بها من أفواه هؤلاء النزلاء حين واجهوهم لأول مرة فلاحظوا أنهم في حالة هي أقرب إلي أن تكون انهيارًا عصبيًا ، وبالتفاهم معهم ألموا بما حاق بهم من كيد وما دبر لهم من صدمة .. علي أي حال لقد كان الضباط المسئولين عن إدارة هذا السجن يتحدثون معنا حديث المقدرين لما أصابنا والمواسين في المصيبة التي نزلت بنا .. وقد يكون هذا إلهامًا من الله لهؤلاء الناس حتى يخففوا من وطأة الصدمة ، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل . ألقي الضباط في روعنا أننا إنما حضرنا إلي هذا المكان لقضاء أسبوع واحد تمهيدًا للإفراج النهائي .. وفي الوقت الذي كلام الضباط علي أعصاب إخواننا بردًا وسلامًا فاستطاعوا أن يخلدوا إلي النوم بعد أن كان قد طار من عيونهم ، تلقيت هذا الكلام علي أنه نوع من المواساة يستحق عليها الضباط كل الثناء ، لأن الرؤيا عندي هي الأصدق وهي قد حددت الميعاد أدق تحديد .. ولكنني مع ذلك ظللت حريصًا علي ألا أكاشف الإخوان بها حتى لا أدخل اليأس في قلوبهم ، لاسيما والميعاد ليس بالقريب وأكثرهم لم يعد يستطيع أن يتحمل أن يسمع عن تأجيل الإفراج يومًا واحدًا .

معالم هذا السجن

وهل اختير للإخوان عفوًا ؟

وقبل أن أسترسل في حديث الترجمة عن مشاعر الإخوان التي كانت هي الوتر الحساس الذي يضرب عليه عارفو قطع العذاب بدون رحمة ، يحسن بي أن أتحدث عن معالم هذا السجن حتى تكون صورته واضحة في مخيلة القارئ . لاسيما وفي هذا السجن من المعالم ما لا يتصوره قارئ يعيش في القرن العشرين ، بل ما قد لا يصدقه القارئ إذا صورته له ولا يحمله إلا علي أنه نوع من الأساطير . صورة هذا السجن مغايرة تمام لسجن " أبو زعبل " ومضادة له كل التضاد .. فهذا سجن قديم مضي علي بنائه ما يربو علي مائة عام ، أرض فسيحة شاسعة من الأراضي الزراعية ، مبني عليها صف طويل من دور واحد من العنابر المتلاصقة العالية السقوف ذات النوافذ القريبة من السقوف ، وأمام هذه العنابر صف من حجر مختلفة المساحات منها ما يشبه العنابر وما يشبه الزنزانات ، وفي بعض هذه الحجر مكاتب لإدارة السجن وبجانبها شفخانة السجن ، كما يوجد قريبًا منه المطبخ . ويحيط بهذه المباني أرض شاسعة مزروعة ، يبدو أن السجن قد اكتسب اسمه منها .. وفي جانب من هذه المزارع تري مبان جديدة تشبه أن تكون صالات .

وعنابر هذا السجن في سعة عنابر سجن " أبو زعبل " إلا أنها بناء عتيق من طبيعته ألا يكون نظيفاً . جدران وسقوفاً وأرضًا . فإذا علمت أن وسائل التنظيف منعدمة لا وجود لها فلك أن تتصور مدي قذارتها – وأرضية العنابر من الإسفلت الخشن – ولا داعي لتكرار ما قلته من قبل من سعة مثيلاتها في سجن " أبو زعبل " وما حملته أكثر من سعتها من النزلاء ، حيث كان هذا هو العيب الوحيد فيها ، ولكن عنابر هذا السجن لا تصلح حتى أن تكون اصطبلات للخيل والحمير ، ولا داعي بعد ذلك إلي القول بأن الواحد منها يصلح لسكني عشرين مسجونًا ولكننا حشرنا فيه مائة .. والضوء في هذه العنابر شديد الخفوت مهما كانت الشمس مشرقة ؛ لأنها دور أرضي . ويخيل إليّ أن السجن في مجموعه منخفض عن أرض الطريق العام . وباب العنبر صغير ومن الخشب المصمت ، وهو مغلق دائمًا إلا في لحظات معينة . وكان الباب في " أبو زعبل " يلعب دورًا هامًا في التهوية حيث ينطلق الهواء من النوافذ إليه في تيار متجدد .

ومهما يكن من أمر فإننا نحن الإخوان المسلمين قد أخذنا أنفسنا من أول أيامنا في هذه الدعوة علي أن نعيش في مختلف الظروف والبيئات ، ننام علي الأرض وعلي البلاط وعلي الإسفلت بدون فراش ولا وسادة ولا غطاء ، كما ننام علي الأسرة الوثيرة الفراش الدافئة الغطاء ، لا نكاد نحس للتغير ما يحسه المترفون . ولذا فإن السطور التي أومأت فيها لوصف المكان الذي انتقلنا إليه لم يكن الهدف منها أن أشعر القارئ بأن شيئًا من الامتعاض قد ألم بنما ، وإنما قصدت أن أقدم إليه صورة المكان الذي انتقلنا إليه ؛ حتى يتمشي بمخيلته معنا في كل خطوة تمهيدًا لسماع ما أشرت إليه في السطور الأولي من هذا العنوان مما قد لا يتصوره ولا يخطر له ببال .

• إذلال مهين :

قدمت أن الإخوان لا يضيقون ذرعًا بضيق المكان ولا بسعته ، ولا بخشونة العيش ولا بنعومته ، ولا بقلة الطعام ولا بكثرته ، ولا برداءته ولا بحسنه . كما لا يضيقون ذرعًا بالجوع ولا بالعرى ولا بالحر ولا بالبرد ، فإن هذه أمور أخذوا أنفسهم بها من قبل واستطاعوا أو يوطنوا أنفسهم علي كل الأحوال في معسكرات الجوالة وفي ليالي الكتائب وفي رحلات الدعوة ، وغيرها من الأساليب التي عالجوا بها نفوسهم حتى أسلمت لهم قيادتها .

والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلي قليل تقنع

وأعداء الإسلام من الحكام والجدد جربوا ذلك في الإخوان وأيئسهم صبرهم وجلدهم علي كل ما تعرضوا له من سهل وصعب وحلو ومر .. فلجأ فريق المتخصصين في فنون التنكيل والتعذيب إلي ابتداع أسلوب جديد ، ليس فيه ضجة التعذيب بالضرب والكي بالنار والنفخ بالمنفاخ ، ولا يبذل القائم بالتعذيب فيه جهدًا ولا وقتاً ولا انفعالاً ، ولا يتكلف حتى في الآلات التكنولوجية الحديثة ثمنًا لكهرباء ولا إهلاكًا للآلات ، كما أنه لا يترك في أجسام المعذبين آثارًا تشهد في يوم من الأيام علي التعذيب وتفضح الطغاة . لقد لقينا في السجن الحربي ما لقينا ، ولقينا في سجن " أبو زعبل " ما لقينا ، ووصل التعذيب إلي الموت أو ما يقارب الموت .. ولكن حاجات الطبيعة البشرية كانت ميسرة باعتبار ذلك مرًا متفقاً عليه يخرج من دائرة العداء بين الأطراف المتنازعة .

كان بالسجن الحربي دورات مياه صحية كتلك التي في بيوتنا ، وكان في سجن " أبو زعبل " دورات مياه ضحية تفوق مثيلاتها في السجن الحربي إعدادًا ونظامًا ونظافة ، فهي علي نظام أحدث .. والمقصود بدورة المياه الصحية أن يكون لها تهوية خاصة تفصل هواءها عن مكان المعيشة وتصله بالجو الخارجي المطلق ، كما أن فضلات الإنسان التي يتخلص منها في هذه الدورات تنصرف بنظام خاص له طرق مختلفة تختلف باختلاف درجة العمران . وحتى قبل انتشار العمران وتقدم فن البناء ، كان مراعي فيما يسمي الآن دورات المياه توافر الشرطين الضروريين المشار إليهما ، فلقد كانت أماكن قضاء الحاجة بعيدة عن المساكن حيث يقضي الناس حاجتهم ويتخلصون من فضلاتهم في الخلاء ، حتى سمي قضاء الحاجة " الذهاب إلي الخلاء " . وفي الخلاء المنفصل تمامًا عن المساكن التهوية الكاملة التي تتكفل أيضًا بما فيها من رياح وأتربة بمواراة هذه الفضلات حيث تحلل ولا يبقي لها أثر .

وليس الإنسان وحده هو الذي إذا تخلص من فضلاته لم يعد مسئولاً عنها ولا مطالبًا بشيء نحوها ، بل إن الحيوان أيضًا اكتسب هذا الحق .. حتى القائمون علي عملية الصرف الصحي وهم عمال المجاري لا يتعاملون مع هذه الفضلات إلا بعد تحللها وتحولها إلي مادة أخري تختلف عن الفضلات في اللون والقوام والرائحة .. ولن يقبل عامل من هؤلاء العمال مهما أجزلت له الأجر أن يتعامل مع فضلات أي إنسان وهي في حالتها الأصلية ولا حتى في فضلات نفسه . ما في سجن مزرعة طره فإنهم اقتطعوا من كل عنبر من عنابره جزءًا في أحد أركانه ، وأقاموا حائطًا بارتفاع قامة الإنسان وجعلوا هذا المكان لقضاء الحاجة دون باب ولا نافذة ولا سقف ، وليس بالعنابر مياه إلا ما يحضره المعتقلون في صباح كل يوم من مياه في جرادل من حنفيه في فناء السجن . وعلي من يريد قضاء حاجته أن يأخذ قدرًا من هذا الماء ويدخل هذا المكان وهو لا يكاد يستطيع التنفس ، كما أن عدم وجود تهوية إلي خارج العنبر تجعل ما ينبعث منه من روائح تنتشر في أرجاء العنبر .. وكان الإخوان في أول الأمر يعانون مشقة استنشاق هذه الروائح ، ولكنهم – بطبيعة حاسة الشم باستمرار هذه الروائح – فقدوا الإحساس بها .. وهذا من تخفيف الله عن الناس الذين لا متنفس لهم .

ثم يأتي بعد ذلك الدور الخطير .. أين تذهب هذه الفضلات ؟ هل لها نظام للتصريف كما يوجد في كل مكان في الدنيا ، حتى ولو كان هذا النظام بدائيًا ؟ لا .. ليس لها من تصريف .. وليس لها خزان كبير أو صغير يتشربها ويحللها .. ليس لها شيء من ذلك .. تحيرنا في أول يوم وسألنا السادة مديري السجن . فقالوا : عليكم أن تحملوها كل يوم وتنقلوها إلي أرض خالية في آخر السجن . في هذه اللحظة فقط فطنا إلي السبب الذي من أجله اختاروا لنا هذا السجن بعد سجن " أبو زعبل " لمن كانوا في " أبو زعبل " وبعد السجن الحربي لمن كانوا في السجن الحربي . هذا هو الإذلال الذي لم تتفتق عنه أذهان الذين سبقوا بالإساءة والظلم ، وتفتقت عنه أذهان أخلافهم الذين ظنوا أن الدنيا دانت لها ، فاستباحوا ما لم يستبحه الظالمون من قبلهم . هل كانت الدولة عاجزة عن توصيل هذه الدورات بالمجاري العمومية أو عن إنشاء نظام صرف خاص بها ؟ إن هذا لن يعجز عنه فرد واحد لو كان يملك هذه المباني ، ولكن الدولة أبقت عامدة علي هذا الوضع القذر الوقح كما تبقي عصابات اللصوص ومحترفو الإجرام علي إظلال الشوارع لتسهيل سطوهم علي بيوت الآمنين .. أبقت عليها لإذلال رقاب لم يستطيعوا إذلالها بكل وسائل العنف والقهر والإرهاب .

إن الأخ المسلم وقد مر بمختلف وسائل القهر والتنكيل والتعذيب طيلة شهور وسنين ، قد ينسي علي مر الأيام كل ما مر به من ذلك .. ولكنه لا ينسي هذا الإذلال الذي يحني له رأسه كل صباح ، والذي يعاني طول يومه وليلته من العيش في جواره وفي الجو المشبع به ، والباب مغلق عليه ثلاثًا وعشرين ساعة أو يزيد . لقد كان المقصود بجانب الإذلال القضاء علي هذه الفئة المؤمنة بالأوبئة والأمراض التي هي النتيجة المنتظرة لهذا الأسلوب من المعيشة الملوثة بكل أوبئة الموت والهلاك .. ولكن كان من عناية الله بأهل دينه وبالمدافعين عن كلمته أن حال بين هذه الأوبئة – المحيطة بهم – وبينهم كما فعل مع جدهم إبراهيم عليه السلام : (             ) كان المقصود بعد الإذلال أن تموت هذه الجموع ، فلا يقال : إنها ماتت من الضرب ولا من التعذيب ، ولكن شاء الطغاة وشاء الله ، فكانت مشيئة الله هي الغالبة (       ) .

إن الإخوان المسلمين الذين سيموا الخسف وعذبوا ونكل بهم ، إذا سألهم سائل عما لاقوا من مشقات ، سواء أكان هذا السائل صديقاً أو قريبًا أو محققًا بعد انتهاء عهد الظلام ، قد يقولون الكثير والقليل عما لاقوه .. ولكنهم يستحيون أن يثيروا إلي هذا اللون من الإذلال ولو مجرد إشارة ، لأن ألسنتهم لا تستطيع النطق به ، ولأن حياءهم يمنعهم من الحديث عنه ، وهذه مشقة نفسية قاتلة لا يقدرها حق قدرها إلا من عاشها وعاناها .

• وصل ما انقطع من الحديث :

مضي الأسبوع الأول الذي علل ضباط السجن به الإخوان حين رأوهم في حالة انهيار نفسي خطير . واشرأبت أعناق الإخوان يسألون هؤلاء الضباط وعدهم الذي وعدوهم ، فقالوا لهم : إن الجهات العليا رأت قبل الإفراج عنكم أن تحضروا محاضرات نوعية تستغرق أسبوعًا .. فتقبل الإخوان هذا الوعد الجديد علي مضض ضائقين ذرعاً بهذا التأجيل

• محاضرات نوعية :

تحقق ما قاله ضباط السجن ، فقد دعيت مجموعتنا الموجودة بهذا السجن في ذلك التاريخ إلي الاستماع إلي ثلاثة محاضرين يلقي كل منهم ثلاث محاضرات . وكان إلقاء المحاضرات في قاعة المحاضرات التي بنيت حديثًا بالسجن ، وكان الإخوان خلالها يجلسون علي الأرض والمحاضر يلقي محاضرته من فوق منصة . وكان المحاضر الأول هو الأستاذ كمال رفعت . وكان إذ ذاك وزيرًا في الوزارة ، وإما رئيسًا للجنة الفكر في الاتحاد الاشتراكي . وكان هذا الرجل من عتاولة التعذيب في عام 1954 ، ولكن قد يعجب القارئ حين أقرر مبتغيًا وجه الحقيقة أن الرجل خلال محاضراته كان ملتزمًا بحدود الأدب في حديثه إلينا ، وكان حريصًا علي أن يشعرنا بأنه لا يخاطبنا من علٍ . كما كان حريصًا حين يتكلم عن دعوة الإخوان ألا يسمها بكلمة نابية أو يجرحها بأسلوب من أساليب التجريح .. وكان كل اهتمامه موجهًا إلي أن يظهر فكر رجال الثورة علي أنه فكر إسلامي ولا داعي إذن لوجود شقاق بين إخوة أفكارهم كلها نابعة من مصدر واحد هو الإسلام .

وكان المحاضر الثاني مفاجأة لنا إذ وجدنا المحاضر هو الأخ عبد العزيز كامل . وكانت محاضرته تدور علي محورين ، المحور الأول : " الميثاق " وإثبات أن نصوصه مستقاة من الفكر الإسلامي . والمحور الثاني : هو نفذ كتاب " معالم في الطريق " للأخ الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – نقدًا يبرزه منافيًا للفكر الإسلامي خارجًا علي حدود الدعوة الإسلامية . ويجدر بي في هذا المقام أن أذكر أن أكثر الإخوان أصيبوا بصدمة حين سمعوا عبد العزيز في هذا الموقف وأساءوا به الظن . إلا أنني كنت أتصوره مكرها يظله قول الله تعالي : (      ) .

وكان المحاضر الثالث والأخير هو الدكتور الشيخ محمد سعاد جلال وكان أستاذًا بجامعة الأزهر ، ومن العلماء الذين يساهمون بلسانهم وقلمهم في الحياة الاجتماعية ومن ذوي الشخصيات والرأي .. ولعله اختير لهذه الميزات . وقد تكلم الرجل في محاضرته الأولي فأحسن الكلام ، وتحدث حديثًا مثيرًا عن الإسلام وعما آلت إليه حال الأمة الإسلامية مما أهاج الشجن في نفوسنا ، فاشترك عدد منا في الحديث إليه في صورة أسئلة في نهاية المحاضرة .. وكان ممن ساهموا في توجيه الأسئلة إليه الأخ الكريم الأستاذ صالح أو إسماعيل .. وكان منظره وهو يوجه السؤال منظرًا مؤثرًا . فقد كان إذ ذاك شابًا طويلاً وسيمًا ، وكان الجو باردًا ولم يكن معه ما يحتمي به من غوائل البرد فارتدي ما قد يسمي جاكتة السجن ، وهي نوع من الجيش أو اللباد السميك الشديد القذارة فهي من منظرها أشبه ببردعة الحمار ، ولم يكن هو وحده الذي يرتديها وإنما كان أكثر الإخوان يرتدونها كارهين .. فوقف يوجه السؤال إلي الشيخ وهو في هذا المنظر المثير ، ثم كان السؤال علي سبيل الاستفهام الاستنكاري :

فضيلتك تشكو إلينا حال المسلمين ، وتطالب كل ذي جهد أن يبذل جهده في سبيل إنقاذهم .. فهل تري أن هذا الوضع الذي وضع فيه أكرم رجال الأمة وصفوة شبابها المثقف الواعي مما يعمل علي الإنقاذ ؟! .

وهنا لم يملك الرجل سوابق دمعه التي انهمرت علي خديه لا يملك لها دفعًا ، ولا يستطيع لها منعًا .. بكي الشيخ محمد سعاد جلال فكشف بكاؤه عن أصالة نفسه وكرم محتد ، وقوة إيمانه . ورد إلينا ما كنا قد فقدناه من ثقة في الأزهر ورجاله ، وعلمنا أن هذه الأمة بخير مهما طفا علي سطحها من شر ، وأن الإيمان الذي غرس في النفوس منذ ثلاثمائة وألف عام هو منها في مكان آمين . لا يصل إليه بطش الجبارين ولا إغراء الذين يملكون خزائن الأرض من المغرورين والظالمين .


الفصل الرابع : أحداث وملاحظات وخواطر في هذا السجن

• انتفاعي بشعور الاستقرار :

كان إخواننا يستمعون إلي محاضرات التوعية كما سميت وعيونهم معلقة بآخر يوم من أيامها حيث وعدوا بالإفراج بعده .. ولما كان هذا المعني الذي شغلهم غير وارد علي خاطري ، فقد شعرت بالاستقرار الذي في ظله يستطيع الإنسان أن ينتفع بالوقت أكمل انتفاع . كان الذي يشغل بالي ويملأ خاطري هو لا أضيع لحظة من لحظات وجودي في هذا السجن دون أن أشغلها بالقرآن .. لقد لاحظت أو استعدت في " أبو زعبل " حفظ عشرين جزءًا فعليّ إذن في هذا السجن أن أثبت هذه العشرين جزءًا .. جعلت هذه الأجزاء العشرين وردي أقرأه علي نفسي ليلاً ونهارًا ، وعلي غيري إن وجد من يسمع مني وقلما يوجد . كنت أقرأ هذا الورد ابتداء من وقت السحر قائمًا في الصلاة ، ثم أقرأ بعد الفجر وأنا في هيئة النائم ، ثم أقرأ بقية النهار حتى النوم في كل وقت فراغ .. لازلت أذكر أنني كنت في فترة اضطجاعي بعد صلاة الفجر وصل ما كنت أقرأه علي نفسي خلالها في بعض الأيام إلي تسعة أجزاء . كنت حريصًا علي ألا أشغل نفسي بغير القرآن . وكان الإخوان – أكرمهم الله – قد لاحظوا ذلك عليّ فكانوا يعينونني عليه ، ولا يتحدثون إليّ إلا الحديث الضروري الذي لا مناص منه . إما إخواننا الذين يتعلقون بوعود الإفراج فقد انتظروا بعد انتهاء أسبوع المحاضرات أيامًا دون أن يتم الإفراج ، فراحوا يسألون ضباط السجن الذين وعدوهم فلم يجدوا عندهم إجابة ، فتولتهم الحيرة من جديد وطفقوا يضيقون بهذه الحياة ذرعًا .

• زائر يبعث الأمل :

وبينما إخواننا في هذا الضيق القاتل طلب أحدهم للخروج من العنبر لمقابلة زائر حضر لزيارته ، وكان معروفاً أن الزيارات والمراسلات ممنوعة سواء في " أبو زعبل " أو في هذا السجن .. وإذن فلن يسمح بزيارة منا إلا إذا كان الزائر شخصية كبيرة من الشخصيات ذات الصلة بدوائر الجهات العليا في الحكومة .. وكان مفهومًا كذلك أن مثل هذا الزائر لابد أن تكون رابطة قرابة تربطه بالمزور ، وأنه لا يقوم بالزيارة إلا إذا كان لإبلاغ قريبه بأمر ذي بال .

وتعلقت آمال إخواننا بهذا الزائر ، وقعدوا علي أحر من الجمر في انتظار زميلهم بعد انتهاء الزيارة ليسمعوا منه الأنباء الهامة .. ورجع الأخ الكريم من الزيارة مبتهجًا ، فتهللت وجوه إخواننا والتفوا حوله ينصتون إليه .. وبعد قليل هتفوا مسرورين .. وجاءوا يخبرونني بأن الزائر أخبر الأخ الكريم بأن قد تقرر الإفراج يوم 25 نوفمبر ، فقلت في نفسي : إذن المشطوب هو ديسمبر والمكتوب هو نوفمبر .. وكنا إذ ذاك علي مقربة من هذا اليوم فقضي إخواننا هذه الفترة الباقية في سرور وفرح . وأقبل يوم 25 نوفمبر وترقب الإخوان من يناديهم مناداة الإفراج الموعود . ومرت ساعات النهار الساعة تلو الأخرى وهم ينتظرون الفرج في كل ساعة حتى مضي اليوم بطوله وهم حيث هم مما أعقبهم همًا وحزنًا .. وكان نبأ هذا اليوم قد وصل إلي أسماع ضباط السجن ، وهم يعرفون أن مصدر النبأ من المصادر العليمة المطلعة فتعجبوا لعدم وصول الأمر المعهود بالإفراج ، والذي كانوا هم الآخرون يترقبون وصوله إليهم لحظة بعد أخري . ولشدة ثقة ضباط السجن في مصدر النبأ طلبوا من الإخوان أن يتعدوا للإفراج ويحزموا أمتعتهم حتى إذا ورد الأمر بالإفراج لم يستغرقوا وقتاً في حزن المتاع , وقد فعل الإخوان . ومضي يوم 26 ، ويوم 27 ، وأقبل يوم 28 نوفمبر وقد سقط في أيديهم ، ولكن ضباط السجن لم يفقدوا الأمل ، وطلبوا من الإخوان أن يظلوا علي أهبة الاستعداد .. ولم يكن هؤلاء الضباط هازلين ولا مغررين بالإخوان بل كانوا واثقين وتواقين أن يتم الإفراج علي أيديهم ، فكانوا يتناوبون الوجود أمام التليفون ليلاً ونهارًا لاستقبال إشارة الإفراج .

• مكاشفة الإخوان بالرؤيا :

ولما رأيت يوم 28 نوفمبر قد مضي دون إفراج ، ورأيت الإخوان في حرج شديد من أمام ما يعدهم به ضباط السجن يومًا بعد يوم ، وأمام ما يعانون من فقد الاستقرار النفسي ، طلبت الأخ الحاج نجيب عبد العزيز باعتباره قائدًا للعنبر ، وقلت له : يا أخي مادام قد فات يوم 27 نوفمبر دون إفراج فنبئ الإخوان بأن الإفراج سيكون بإذن الله يوم 27 ديسمبر . فسألني عن السبب فقصصت عليه الرؤيا وما دعاني إلي كتمانها طيلة المدة السابقة حتى لا أدخل اليأس في نفوس كانت تترقب الإفراج في كل يوم . ولا أدري هل أبلغ الحاج نجيب إخوانه بما سمع مني أم تصرف بأسلوب رآه أنسب لحالتهم ولكنني لاحظت أنهم حلوا أمتعتهم ورجعوا لي متكئهم وزاولوا أعمالهم اليومية كعادتهم . وأذكر بهذه المناسبة أن الحاج نجيب قص علي رؤيا رآها أيضًا إلا أنها لم تتحقق إلا في عام 1970 حين بارح جمال عبد الناصر بآثامه هذه الدنيا .

• إحالة اليأس بالنفوس :

لم أر اليأس أحاط بالنفوس كما رأيته ، وقد طلب علي أكثر المجموعة التي كانت معنا في هذا العنبر لاسيما بعد مرور 25 نوفمبر الذي كانوا قد أعدوا أنفسهم للإفراج فيه .. رأيت هؤلاء الإخوة وقد أنهكت نفوسهم من كثرة الوعود وخلفها ومن كثرة الجذب والإرخاء التي تعرضوا لها ، فبدأوا يكلمون أنفسهم ويكلم بعضهم بعضًا . ومما زاد الطين بلة أن فوجئنا بشيء لم يكن في الحسبان ، فقد ظللنا طيلة مدة وجودنا في هذا السجن وفي سابقه منقطعين عن العالم الخارجي ، فلا صحف ولا راديو ولا زوار ولا خطابات .. وفي مساء يوم 20 ديسمبر إذا بصوت مذياع مزود بميكرفون يذيع ، فتعجبنا من هذه المفاجأة ، ولكن لا ندري لم اختاروا هذا اليوم بالذات ، ولم يكن بد من الاستماع فالصوت قوي يخترق الأذان .. وبعد قليل فهمنا أن الحكومة قررت إذاعة جلسة تعقد هذا المساء لمجلس الأمة .. فقلنا : لعل الحكومة فاءت إلي رشدها ورأت أنها قد ضلت الطريق فأرادت أن تتلافى التعسفية التي اتخذتها ضد الإخوان هذه المرة لا مبرر لها ، وتبدو مفتعلة لا أصل لها .. وأنصتنا إلي المذياع لعلنا نسمع خبرًا يعود علي البلاد بالنفع ويجمع الكلمة علي الإصلاح .

قـانـون فـرعـون

وكان الذي سمعناه عجبًا .. خيب الظنون لمن يحسنون الظن ، وقطع خط الرجعة علي من قد تحدثهم نفوسهم بالدخول بين الطوائف بالإصلاح ، وأعلن الحرب قاطعًا كل أسباب المودة . سمعنا هذا المجلس يتباري أعضاؤه في النهش في عرض جماعة لا تملك أن تدافع عن نفسها ، ولا أن تلوذ من عرضها ، ولا أن تعلن حجتها .. وهذا لون من المجالس النيابية يسجل علي نفسه دون أن يدري الضعة والحقارة والخسة ؛ لأنه يرتع في غير مرتع ، ويعب من دماء جريح مثخن .. كل عضو من أعضائه ينظر إلي ما يعود علي نفسه من نفع من توطيد للصلة بينه وبين من يعتقد أنه هو وحده المانع المانح المذل المعز ، فيفرح بذلك ويسعد ظنًا منه أنه حقق الفوز وحاز النصر ، ولا يدري أن يد التاريخ تسطر عليه وعلي زملائه الخزي والعار والفضيحة ، سيذهب هو وزملاؤه وسيدهم وتبقي هذه السطور لا تمحي ولا تنسي علي مر الأيام والأعوام والدهور .

كان رئيس الجمهورية قد أصدر قانونًا في غفلة من مجلس الرياسة في 24 مارس 1964 وهو القانون رقم 119 لسنة 1964 ، وقد زوره علي هذا المجلس الذي كان إذ ذاك بحكم الدستور هو صاحب الحق في إصدار القرارات والقوانين ، فانتحل جمال عبد الناصر شخصية هذا المجلس في غيبته – مع أن أعضاءه موجودون – وأصدر هذا القانون باسم المجلس . " وهذا القانون يخول رئيس الجمهورية في غير الحالات الاستثنائية والطارئة المقررة في قانون الطوارئ ، وبدون إبداء الأسباب ، أن يقبض علي المواطنين ، وأن يحتجزهم فيما أسماه بمكان أمين . وأن يفرض الحراسة علي أموالهم وممتلكاتهم ، وأن يكون للنيابة العامة لدي تحقيقها سلطات مطلقة وغير مقيدة بما ورد في قانون الإجراءات الجنائية من قيود وضمانات للأفراد . كما يخول رئيس الجمهورية الحق في أن يأمر بتشكيل محاكم استثنائية من العنصر العسكري الخالص لمحاكمة المواطنين عما هو منسوب إليهم من جرائم ، بل وأنه أعفي هذه المحاكم من أي تقييد إلا بما ينص عليه في أمر تشكيلها من إجراءات .. وحظر في النهاية الطعن بأي وجه من الوجوه في أحكامها " .

لم يكتف جمال عبد الناصر بهذا القانون الفاجر الذي تبرأ منه أعضاء مجلس الرياسة ، والذي كان مخالفاً لوثيقة إعلان حقوق الإنسان وكافة المبادئ الدستورية بل وللقوانين العادية .. بل أصدر وحده أيضًا قانونًا أخر في 9 نوفمبر 1965 خص به الإخوان المسلمين ، وكان هذا القانون من ثلاث مواد :

المادة الأولي : لرئيس الجمهورية أن يستخدم الحق المخول له بمقتضي المادة الأولي من القانون رقم 119 لسنة 1964 بالمشار إليه بالنسبة إلي أي شخص من الأشخاص الذين سبق لسلطات الضبط والتحقيق ضبطهم أو التحفظ عليهم .. وذلك في جرائم التآمر ضد أمن الدولة والجرائم المرتبطة بها والتي تم اكتشافها في الفترة ما بين مايو 1965 وآخر سبتمبر 1965 . وله أن يطبق في شأنهم التدابير الخاصة بوضع أموالهم وممتلكاتهم تحت الحراسة . ولا يقبل الطعن قبل العمل بهذا القانون .

المادة الثانية : تنص علي أنه لا يجوز الطعن بأي وجه من الوجوه أمام أية جهة كانت في قرارات رئيس الجمهورية الصادرة وفقاً لأحكام هذا القانون .

المادة الثالثة : هي المادة التقليدية وتنص علي ما نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية ويعمل به من تاريخ نشره .

ولكي يقطع خط الرجعة علي زملائه أعضاء مجلس الرياسة الذين شغبوا عليه حين تجاهلهم وأصدر القانون رقم 119 لسنة 1964 ، لجأ بقانونه الجديد إلي صنائعه وعبيد إحساناته الذين أطلق عليهم أعضاء مجلس الأمة للموافقة عليه وإصداره .. فلم يكتفوا بمجرد الموافقة عليه بل أصدروه مجللاً بالعار المتمثل فيما يسمي بتقرير اللجنة التشريعية . ذلك التقرير الذي يندي له الجبين خجلاً مما تضمن من إفك وكذب وافتراء . وعلي من يريد أن يطلع علي هذا التقرير أو يرغب في مزيد من التفصيل في هذا الموضوع أن يرجع إلي كتاب " الموتى يتكلمون " للأستاذ سامي جوهر ، الذي استطاع أن يجمع في كتابه هذا نصوصًا لقوانين وتقارير ومحاضر تحقيقات ومحاكمات قبل أن تتمكن الأيدي الآثمة من سحبها من مظانها لطمس معالمها وإخفاء جرائمها .. وهذا الكتاب في مجموعه وثيقة تاريخية سوف يرجع إليها في يوم من الأيام حين تحين ساعة المحاسبة .

وقعت إذاعة هذه الجلسة علي إخواننا موقع الضربة القاضية التي قضت علي البقية الباقية من آمالهم وأسلمتهم إلي يأس عميق . وبدا ذلك جليًا في قسمات وجوههم وفي حركاتهم وسكناتهم وفي أثناء أحاديثهم . وكأنما كان بينهم وبين الحرية مائة باب مفتوح فجاءت هذه الجلسة فأغلقتها جميعًا دون رحمة ولا هوادة .. فزاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، وظنوا بالله الظنونا . أما موقع هذه الإذاعة عليّ فقد كان غير موقعها علي إخواننا . فلقد كنت كلما سمعت عبارة عن عبارات القانون تضع قيدًا جديدًا علي حرية الإخوان أشعر كأن هذه العبارة فكت قيدًا عنا ، وكلما سمعت الحاكم يضيق الخناق حول رقابنا أشعر كأنما ينقله من رقابنا إلي رقبته . وكلما جرفه الغرور فانزلق إلي مهوى جديد من مهاوي الاستبداد شعرت أنه إنما ينزلق إلي ما فيه نهايته .

كنت أسمعه وقصة فرعون مع بني إسرائيل ماثلة في خاطري . فكلما قال كلمة مما قاله فرعون أقول في نفسي : ليته يقول الكلمة التالية فيقولها . فأتمنى أن يتبعها بالتالية لها وهكذا حتى إذا قال الكلمة الأخيرة التي قالها فرعون كدت أصفق فرحًا ؛ لأنه أصبح أمام نهايته (   • •    •      •  )

كان إخوان• كلمتي الوحيدة إلي إخوان العنبر :

نا في العنبر يقضون الكثير من الليالي في شبه ندوات تلقي فيها الكلمات النافعة . وكنت محجمًا عن الاشتراك معهم عازفاً عن التحدث إليهم .. ولكنني في الليلة التالية لهذه الإذاعة وجدت أن لهؤلاء الإخوة حقاً في أن أتحدث إليهم وأن أبثهم ما في نفسي ؛ لعلي أرفع عن قلوبهم ما أحاط بها من أسداف اليأس ، فما كدت أدعي للكلام حتى سارعت ، وقلت لهم كلامًا لا أنساه ، لأن معانيه كانت ممزوجة بدمي وزالت تجري في عروقي ، فهي مستمدة من سنن الكون التي سجلها القرآن فصارت جزءًا من إيماننا .. تضمنت كلمتي المعاني الآتية :

أولاً : أنني حين اعتقلت هذه المرة كنت حزين القلب خلافاً لما كنت عليه في اعتقالات 1954 .. لأن اعتقالنا هذه المرة كان أشبه بالاعتداء بالسلاح الآثم علي أسير أعزل مقيد اليدين والرجلين .. وهذه حالة تمثل أحط معاني الخسة والنذالة ، فهي اعتداء بلا مبرر ، لا يدفع إليه إلا غريزة الاستعلاء والغرور وغرائز نابعة من حقارة النفس ودناءتها .

ثانيًا : أن قصة فرعون مع بني إسرائيل لم تبرح خاطري منذ نشب الخلاف بين الإخوان وبين جمال عبد الناصر عندما استوي علي ملك مصر وصارت هذه الأنهار تجري من تحته .. كلما خطا خطوة رأيت لها مثيلاً في قصة فرعون .

ثالثا : كان اعتقالنا هذه المرة بهذا الأسلوب المنصف الغاشم خطوة في طريق القصة ولكنها لم تكن الخطوة الأخيرة .. ولما كانت رحمة الله تسبق غضبه فقد أحسنت الظن بالحاكم وقلت : لعل الله – من أجل إنقاذه وإنقاذ البلاد – يوفقه لتوبة تمحو حوبة ما ارتكب من مظالم ، ولا عجب في ذلك فقد قال الله تعالي في سورة البروج : (              ) فكأن الذين ألهموا التوبة ممن فتنوا المؤمنين والمؤمنات تشملهم رحمة الله وعفوه ومغفرته .. وظللت أنتظر منه ما يشعر بهذه التوبة حتى كانت الليلة الماضية .

رابعًا : تسمعت إلي المذياع لأول مرة منذ ألقي بنا في هذه السجون آملاً أن أسمع منه ما أتمناه له .. فكان كما يقول المثل : سكت دهرًا ونطق كفرًا .

خامسًا : أنه قبل الذي سمعناه بالأمس كان علي مفترق طريقين ، طريق التوبة وطريق التردي إلي الهاوية بالخطوة الأولي . وقد اختار الخطوة الأخيرة ليتم بها خطوات فرعون مع بني إسرائيل حين قال له الملأ من قومه : (                ) . والقانون الذي سنه هذا الحاكم لنفسه واستخف قومه فأطاعوه وأصدروه وسمعناه بالمذياع أمس هو ترجمة باللغة العصرية وبالأسلوب الركيك لهذه الآية الكريمة التي سجلها القرآن الكريم علي فرعون حين استبد به الغرور فختم علي سمعه وقلبه وجعل علي بصره غشاوة .

سادسًا : أقسم لكم أيها الإخوة : إنني لم أشعر بسعادة وسرور منذ شملنا هذا الظلم الأخير إلا بعد أن سمعت ما سمعت في الليلة الماضية ، فلقد أتم الحاكم الخطوات ، ولم يعد أمامه إلا النهاية (                    •     •    •     •          ) .

لقد أراد فرعون – وقد أحس بأن نواصي الشعب أصبحت في يده – أن يستأصل شأفة بني إسرائيل من الوجود ، فأصدر قانونًا تقتل الدولة بمقتضاه كل رجالهم وتستبقي رهن الأسر النساء ، ويظل هذا الشعب من بني إسرائيل دائمًا تحت سطوة قانون الإرهاب حتى يفني عن آخره . أليس المعني واحدًا ، والهدف واحد بين ما سنه فرعون للقضاء علي بني إسرائيل ، وبين ما سنه حاكمنا للقضاء علي الإخوان المسلمين ، واستئصال شأفتهم وإفنائهم ؟! (•                                           •   ) .

سابعًا : وأخيرًا فإني أصارحكم بشعور غمرني ، وكأنما كشف الله حجب الغيب فرأيت هذا الحاكم علي حقيقته ، رأيته مسكينًا قضي الله عليه – جزاء ما شارك الله عز وجل في كبريائه وجبروته – أن ينكل به فسخره للإيذاء والشر (•         ) فهو يعمل ما يعمل ويظن – وهو سادر في ظلمه مخدوع في نفسه – أنه فعال لما يريد .. وهو في حقيقة أمره أداة يسرت للشر ؛ لأنه لم يعد يستحق عند الله – بعد الذي اكتسب من الإثم – إلا أن يضعه هذا الوضع حتى إذا أخذه لم يفلته .. لقد حددت المواعيد ، ولن يستطيع هو إلا أن يدور فيما حدد له من دائرة حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً .. وإني والله أيها الإخوة لأنظر إليه نظرة الرحمة والإشفاق ، وأتمنى لو استطاع أن يعرف حقيقة نفسه حتى يتدارك أمره .. ولكن أني له ذلك وقد خطا الخطوة الأخيرة ؟! .

أما نحن .. ففي كنف الله وعنايته .. مظلومون مجردون من جميع وسائل الدفاع .. ما الذي يقلقنا ؟ ما الذي يقض مضاجعنا ؟ ما الذي يخيفنا ؟ هل ارتكبنا جرمًا ؟ هل اقترفنا ظلمًا ؟ هل اجترحنا إثمًا ؟ هل باشرنا اعتداءً ؟ . مادمنا نشعر بأننا برءاء من ذلك كله فلنهنأ بالاً ، ولنقر عينًا . ولنطمئن قلباً .. هل يؤلمنا أننا مظلومون ؟ إذن فلتبكوا علي الظالمين (                    ) وإذا كنا نخاف علي أبنائنا وأهلينا ، فلسنا رازقي أنفسنا حتى ن رزقهم ، ولسنا كالتي شئوننا حتى نكلأهم (    •         ) (•    •     ) (            ) . إنني أيها الإخوة أصبحت أنعم بشعور فياض من السعادة والاستبشار ، فالظلم هذه المرة بيّن وكله في جانب ، والبراءة البيضاء البينة كلها في الجانب الآخر ، وليس بينهما اختلاط ولا تداخل ، ولقد بلغ الظلم منتهاه بما سمعنا بالأمس ، وسنة الله لا تتخلف .. فاصبروا أيها الإخوة وكونوا علي بينة من أمركم ، وانتظروا وعد الله الذي لا يتخلف وترقبوا الخير وتجلدوا (      •   ) .

شعرت بعد إلقائي هذه الكلمة براحة ضمير . كأنما هي أمانة كانت في عنقي أدينها إلي أصحابها .. ولاحظت ولله الحمد من قبل ومن بعد أن قلوب إخواني قد استراحت كأنها ألقت عن نفسها حمالاً وثقالاً من الهموم . وساد العنبر جو من الراحة النفسية والاطمئنان ، فقد استردوا الثقة في أنفسهم بعد أن ازدادوا ثقة في الله (  •          ) وما أبلغ الكلام وأعمقه تأثيرًا في النفس إذا ما كان شعورًا صادقاً يبث ، وأحاسيس يضطرم بها القلب ، ويجيش بها الصدر .

• هل هذه إشاعـة ؟

وقبل أن نبلغ الكلام في موضوع هذا القانون إلي نهايته ، ينبغي أن أسجل مقالة سرت بين الإخوان عند مقدمنا إلي سجن مزرعة طره ، وتناقلتها الألسنة ، ولكنني كنت أحملها علي محمل الإشاعة التي تختلق من عدم ، ثم تثار فتسري . إلا أنني حين سمعت نصوص هذا القانون أيقنت أنها لم تكن كما ظننت إشاعة وإنما هي خبر أصيل تسرب إلينا ، وإن كنت لا أدري كيف تسرب .. وكانت هذه المقالة هي أن الحكومة في هذه المرة قررت اعتقال جميع من كانت له صلة في يوم من الأيام بالإخوان ، حتى إنها اعتقلت الباقوري وعبد العزيز كامل في هذا السجن أيامًا قبل مجيئنا إليه . ولست أدري حتى هذه اللحظة التي اعتقل الباقوري وعبد العزيز كامل اللذان خصوهما بالذكر أم لا . ولكن الذي أعلمه ورأيته بعيني أنهم جمعوا في هذه المرة كل من وصل إلي علمهم أنه كان من الإخوان في يوم من الأيام ، وكنت في دهشة من هذا التصرف الذي حملته علي التمزق . ولكن بعد أن سمعت نصوص هذا القانون فهمت أنه لم يكن نزفاً من الطغمة الحاكمة بل كان ترتيبًا منطقيًا متمشيًا مع ما أعدوه من خطة وتدبير . فالمادة الأولي من القانون تبدأ بهذا النص :

" لرئيس الجمهورية أن يستخدم الحق المخول له بمقتضي المادة الأولي من القانون رقم 119 لسنة 1964 المشار إليه بالنسبة إلي أي شخص من الأشخاص الذين سبق لسلطات الضبط والتحقيق ضبطهم أو التحفظ عليهم . وذلك في جرائم التآمر ضد أمن الدولة والجرائم المرتبطة بها والتي تم اكتشافها في الفترة ما بين مايو 1965 وآخر سبتمبر 1965 " . وإذن فيجب أن يسبق هذا القانون ضبط لأكبر عدد ممكن من هذه الفئة حتى يستطيع رئيس الجمهورية أن يستعمل حقه القانوني معهم ، الحق الذي لا يخضع لقانون ولا يحده دستور ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه .. وهذا لعمري إجراء لا يقدم عليه إلا إنسان اتخذ إلهه هواه ، والحاكم إذا اتخذ إلهه هواه جره ذلك إلي أن يجعل من نفسه إلهًا .

في شـهر رمضـان

أقبل علينا شهر رمضان ونحن في سجن مزرعة طره ، ويبدو أنهم أرادوا أن يشعرونا بأنهم يقدرون هذا الشهر . ولما كانوا حريصين علي ألا يدخلوا علي الطعام تحسينًا في النوع أو في الكم أو في الطهي ، فقد رأوا أن يجعلوا ميزة الشهر في أن يفتتحوا في السجن " كنتينًا " ويسمحوا لنا بالشراء منه . ومع أن الظروف كانت لا تسمح لنا بالاستمتاع بهذا الكنتين فإننا هششنا لنبأ افتتاحه . أما هذه الظروف فكان منها ما يتصل بالكنتين نفسه فإنه لم يكن مسموحًا للعاملين فيه بأن يحضروا فيه إلا بضاعة معينة . وأما ما يتصل بنا نحن النزلاء فجيوبنا كانت خاوية ، ولم يكن مسموحًا حتى ذلك الوقت بالكتابة لأهلينا حتى يرسلوا إلينا نقودًا . كان الذين معهم بعض النقود في العنبر عددًا قليلاً ، ومع كل منهم النزر اليسير وكنت من هذا العدد ، وكانت إدارة العنبر – الإدارة الداخلية من الإخوان – قد قسمت الإخوان فيه إلي مجموعات كل مجموعة تضم أربعة أو خمسة . ويوزع الطعام علي هذه المجموعات ، وتقوم كل مجموعة بالأكل معًا ، وتتكفل بتنظيف الأطباق الخاصة بها وما إلي ذلك .

• إلي المترفين والمتبطرين :

كان الطعام خشنًا ورديئًا قليلاً كما قدمت من قبل ، ولم يحاولوا أن يقللوا من رداءته ولا أن يزيدون من كميته ولا أن يغيروا من أنواعه . وجاء الشهر المبارك وافتتحوا الكنتين وجاءوا فيه بالبرتقال ، وقرروا بيعه بالثمن الذي أرادوا ولم نكن نعترض علي الثمن ولكن الذي بأيدينا من النقود قليل ، وأكثر المجموعات في العنبر خاوية الوفاض من النقود ، فكانت المجموعة التي مع أفراد منها نقود لا تستطيع أن تشتري إلا ثمرة واحدة من البرتقال أو ثمرتين ، وعليها أن تقسم ما حصلت عليه علي نفسها وعلي من حولنا من الإخوان ، ومع ذلك فإن مجموعات من العنبر لا يصل إليها شيء .. ولم يكن امتلاك النقود دليلاً علي أن الذي يمتلك أثري من أخيه الذي لا يمتلك ، وإنما امتلك الذي يمتلك لأنه تصادف حين ألقي القبض عليه أن كان في جيبه نقود ، في حين أن أخاه لم يكن حين القبض عليه في جيبه نقود .

ونظرًا لشدة خشونة الطعام وخلوه من الطعم أراد الإخوان أن يبتكروا شيئًا يخففون به من هذه الخشونة ولو كان هذا عن طريق الإيحاء والإيهام .. فتمنوا أن لو كان لديهم طماطم أو أي نوع من الخضرة ليصنعوا منه " سلاطة " .. ولكن شيئًا من ذلك لم يكن من سبيل إلي الوصول إليه .. وانتهي تفكير بعضهم إلي هذه البرتقالة .. إن الذي يؤكل منها هو ما بداخل قشرتها ، أما القشرة فيلقي بها بعيدًا .. ولكن هنا يجب أن ننتفع بكل شيء .. إن هذا القشر يصلح أن نصنع منه " سلاطة " . ومن أول يوم حصلنا فيه من الكنتين علي البرتقال قام الإخوان بإعداد السلاطة من قشر البرتقال ، أما كيف يصنعون هذه السلاطة ؟ فشيء في غاية البساطة ، يقطعون القشر قطعًا صغيرة ثم يخلطوها بقليل من الملح .. أما لماذا لا يخلطونها بأشياء أخري ؟ فلأنهم لا يملكون إلا هذا .

وفي يوم من أيام الشهر المبارك ، وكنا قبيل أذان المغرب ، وكنا جالسين ننتظر الأذان وكان أحد إخوان مجموعتنا ينزع القشر عن جزء من البرتقالة التي نملكها ، ونزع قطعتين من القشر فعلاً ، وأخذ في تقطيع القطعة الأولي .. أقبل في هذه اللحظة أخ كريم من مجموعة أخري – وكان هذا الأخ مهندسًا كبيرًا في أحد مصانع الإسكندرية وإن كنت الآن قد نسيت اسمه – وطلب من الأخ الذي كان يصنع السلاطة لنا القطعة الأخرى من القشرة التي لم تقطع بعد .. ويبدو أن صاحبنا الذي بيده القشرة رفض إجابة طلبه قائلاً : إننا محتاجون إليها . هنا التفت إليّ الأخ المهندس فرأيت الدموع تترقرق في عينيه وقفل راجعًا إلي مجموعته ، فناديته ، وأعطيته قطعة القشر التي طلبها .. فإذا بالفرح يتهلل في وجهه ، وذهب إلي مجموعته فتلقت منه قطعة القشر وكأنها قطعة من الشواء الشهي .

عيـد النـصـر

كانت الليلة الثانية أو المرة الثانية التي شنفوا آذاننا بصوت المذياع هي ليلة 26 ديسمبر التي تسمي عبد النصر . سمعنا الحاكم يتكلم في عيد النصر .. ويبدو أنه نسي المناسبة التي دعي للحديث عنها فقد قصر كلامه علي الحديث عن الإخوان وأخذ يكبل لهم التهم ويصب عليهم الشتائم واللعنات كما أخذ في الاستهزاء بمرشدهم .. وكرر نظريته التي يحاول بها التملص من المسئولية عما انحدر إليه الشعب من انحلال أخلاقي ، فيقول : إن مسئولية هذا الانحلال تقع علي كاهل رب الأسرة . والحكومة غير مسئولة عن ذلك وغير مطالبة بالتدخل لوضع حد له ، يقول هذا وهو يعلم أن الحكومة ضالعة في إفساد الشعب والأسرة والفرد بما تطلقه عليهم في مسارحها وسينماتها وصحفها وإذاعتها من تيارات الإلحاد والفسق والفجور . وأخذ يكرر ما سئمنا من سماعه من أن المرشد العام الأستاذ الهضيبي الذي طالب بحجاب المرأة ، ابنته تعمل أستاذة في معهد التربية ، وأخذ يشنع علي الرجل المحتجز وراء القضبان بذلك ، وهو يعلم أن ابنة المرشد العام تعمل أستاذة في معهد التربية وهي متحجبة الحجاب الإسلامي . وأن الحجاب الإسلامي لا يمنع المرأة من أن تتعلم وتُعلم ، وأن تباشر الأعمال التي تناسبها موفورة الكرامة . كانت كلمته في تلك الليلة تحاملاً علي الإخوان ، وتملصًا من المسئولية عن الفساد الذي استشري في الشعب ، وقد ذكرتني كلمته هذه بالمثل العربي الذي يقول : " رمتني بدائها وانسلت " .

• الإفـراج :

لم يكن الإخوان في عنبرنا مشغولين بما كانوا مشغولين به من قبل من التعلق بالإفراج والتفكير فيه ، بل كانوا ينعمون باستقرار واطمئنان .. ولكن الذي كان يشغلني ويشغل مجموعة من الإخوان معي تصديق الرؤيا ، لا توقًا إلي الإفراج ولكن لأن في تصديق الرؤيا شيئًا للإيمان في قلوبنا ، وبرهانًا جديدًا علي استئثاره سبحانه وحده بعلم الغيب (                 ) لا أنكر أنني شخصيًا قد تولاني كثير من القلق فأنا بشر ولم تكن هناك دلائل ولا قرائن ولا علامات ولا إشارات أن سيكون إفراج قريب .. بل إن إذاعة كلمة رئيس الجمهورية علينا في ليلة 26 ديسمبر قد باعدت بين تفكير كل إنسان وبين الأمل في إفراج .. ولم يكن هذا القلق عدم ثقة في وعد الله ، ولكن البشرية تفتقر دائمًا إلي ما يشبه علاقة بين المادة والروح لتبث الاطمئنان في قلبها ، كما كان من شأن أبينا إبراهيم عليه السلام حين قال : (                                    •    ) . ولا أنسي في تلك الليلة أن الأخ الكريم الأستاذ محمود إبراهيم وكان جاري في العنبر ، كان بين الفينة والفينة بعيد عليّ هذا السؤال :


هل أنت متأكد من المعلومات التي أخبرتنا عنها في هذه الرؤيا ؟


فأقول له : نعم .. فيبتسم وكأنه يريد أن يقول لي : ولكن الظروف التي نعيشها لا توحي بشيء من ذلك .

وانبلج الصباح .. وما كادت تشرق الشمس حتى سمعنا مكبرًا للصوت ينادي علي أسماء ويصمت فترة ثم ينادي علي عدد آخر من الأسماء .. وهكذا حتى سمعنا أسماءنا ينادي عليها ، وفتح باب العنبر ، وجاء يقول لنا : حضروا أمتعتكم فإنه الإفراج .

• إيمان باللمس :

حين جاء بشير الإفراج حمد الله أعظم الحمد ، لا علي الإفراج في ذاته – فقد كان شوقي إلي إتمام استعادة حفظ ما بقي من القرآن يجعل بقائي في السجن أحب إليّ من الخروج منه – بل علي ما منحني الله عز وجل من برهان جديد علي الإيمان بوجوده ، وعلي الثقة بإحاطة علمه ، وعلي قدرته علي إتمام مشيئته . وقد سميت هذا النوع من الإيمان بالإيمان باللمس ، لأنه جل شأنه قرّب الإيمان الذي هو روح منه إلي عقولنا وقلوبنا بما يشبه المزج بين روحانيته تعالي وماديتنا ، فالأرقام والمواعيد مادة ، وإحاطته جل شأنه بالغيب روح (                 ) (          •                             ) . أشهد أنني خرجت من هذه المحنة بكسبين لا يعدلهما كسب كسبته في حياتي ، ولا أعتقد أن يعدلهما كسب أكسبه ما حييت ، ذالكما هما حفظ ما استعدت حفظه من القرآن ، وتجديد إيماني بالله عز وجل إيمانًا باللمس .. والإيمان باللمس لا يزعزعه ما يزعزع الجبال ، ولا تنال منه المصائب والأهوال . وأحمد الله علي ما أكرم به وأسأله الثبات عليه والمزيد منه حتى ألقاه عليه ، إنه علي ما يشاء قدير وهو بعباده خبير بصير .


الباب الثامن عشر : بـعـد الإفـراج


الفصل الأول : حالة المجتمع المصري وقتئذ

خرجنا إلي ما يسمونه الإفراج . فلما جربناه تمنينا أن لو عدنا إلي السجن ، فهو أهنأ بالاً من هذا الإفراج الذي قصد منه إفراغ أماكن السجون لاستقبال أفواج أخري ثم اعتبار المساكن التي يسكنها المفرج عنهم سجونًا ، ومقار أعمالهم سجونًا ، والشوارع التي يمشون فيها سجونًا ، فأينما كنت تري من يتبعك ، وحيثما استقر بك القرار تجد من يطرق الباب عليك ويجري معك تحقيقًا . وإذا زارك استدعيت للمثول بين يدي ضابط المباحث للاستفسار منك عن أسباب الزيارة وعما دار فيها .. ثم يقدم إليك النصيحة في صورة إنذار أو إنذار في صورة نصيحة ألا تستقبل زوارًا . وأنت حين كنت بين جدران سجن من السجون فأنت أمن أن تؤخذ بجريرة لم تجنها ؛ لأنك في مكان مغلق ، أما في حالة الإفراج المدعاة فإنك معرض أن تؤخذ بجرائر لم ترتكبها ، وبتصرفات لم تصدر منك ، ولكن المكلفين بمتابعتك قد حلو لبعضهم أن يخترع قصة من محض خياله ينسبها إليك أملاً في أن ينال عند سيده الضابط حظوة ، ولا يبالي ما يصيبك ويصيب أهلك من جرائها من قلق وعنت وإهانة .

وقد تقابل صديقًا عزيزًا عليك أثيرًا عندك وأنت مشتاق إليه ، فتحاول أن تتفادى اللقاء به وأنت في شوق إليه ، وقد يلاحظ ذلك فيسيء بك الظن وهو لا يعلم أنك تفعل ذلك خشية أن يكون لقاؤك به سببًا في إثارة المتاعب له ، وقد تلتقي بمثل هذا الصديق مصادفة وجهًا لوجه فلا تملك إلا أن تصافحه وتعانقه وتتحدث معه ، ثم يطالبك في نهاية الحديث بزيارة له في منزله ، فتعتذر بأعذار تلفقها ، فيعدك هو بزيارة منه ، فيسقط في يدك .. فإذا استطعت أن تجمع كل ما تملك من شجاعة رأيت نفسك توجه إليه النصح بألا يفعل .. والله وحده يعلم وقع هذه النصيحة في نفسه ، وعلي أي محمل حملها .. وهكذا تجد نفسك محاصرًا حيثما كنت ولا تضمن في كل مرة أن يكون محاصروك ممن لا يزالون يحتفظون ببقية من ضمير . أذكر بهذه المناسبة واقعة حدثت لي ، وإن كانت قد وقعت بعد انتهاء عام 1970 حين أتيح للناس أن تتكلم .. كنت في انتظار الترام صباحًا للذهاب لي مقر عملي ، فوجدت أخاً عزيزًا لي علي محطة الترام ، وكان هذا الأخ قد قدم حديثًا من بلد عربي غاب فيه بضع سنوات فكم مشوقاً إليه . فأقبلت مصافحًا ومعانقاً .. وما كدت أبدأ حديث الشوق حتى قدم الترام الذي كان في انتظاره فستأذن مني واستقله . ووقفت انتظر ترامي متمنيًا لو كان ترامه تأخر حتى أروي غلة الشوق من لقائه الذي لم يستمر إلا دقيقتين . وفي مساء اليوم التالي استدعيت لمقابلة ضابط المباحث الذي بدأ حديثه بتوجيه هذا السؤال إليّ : هل قابلت بالأمس صباحًا السيد (فلان) وقرأ لي اسمه من ورقة بيده اسمًا رباعيًا أي : اسمه واسم أبيه واسم جده والد جده – ثم قال : واستمرت المقابلة بينكم ساعتين ؟

فأجبته : نعم قابلته .. ولكن المقابلة لم تستمر إلا دقيقتين ، وكنت أتمني لو طالت إلي أكثر من ذلك .

ثم قالت له : من الذي جاءت بنبأ هذه المقابلة ؟

قال : هو أحد رجالنا المكلفين بمراقبتكم .

قلت : إذن تسمح لي بمواجهته ؟

قال : لماذا ؟

قلت : لأنني مصمم أن أصفعه ؛ لأنه مجرم وكذاب .

فلما رآني مغضبًا قال : لا داعي لكل هذا . قلت : إن صفع مثل هذا الكذاب قد يكون رادعًا له وقد يكون عبرة لغيره .. ثم قلت للضابط : إذا كنتم تستقون أخبار الناس من أمثال هذا الكذاب المختلق لا ضمير له فكيف تستقيم الأمور ؟! قال : لا تهتم بالأمر إلي هذا الحد . قلت : كيف لا أهتم وأنت قد\ بلغ من اهتمامك بهذا التقرير أنك استدعيتني ، ثم إنك تقره لي كأنه مستند خطير تعتز به ، فتقرأ اسم الصديق الذي قابلته اسما رباعيًا ، أنا شخصيًا والله لا أعرف كل أجداده كما تعرفون .. وكنا إذ ذاك في أوائل عهد جديد بعد العهد الذي طال ظلامه .. فما كان من الضابط الفاضل – وأقول الفاضل ؛ لأنه رجع إلي الحق ، والرجوع إلي الحق فضيلة – إلا أن اعتذر لي ووعد\ني بألا يتكرر هذا الإزعاج

• السجل والدليل وما يرمز إليه :

كنت قد تحدثت – كما قدمت – إلي إخواني في العنبر بسجن مزرعة طره عقب صدور القانون الذي أسمعونا موافقة مجلس الأمة عليه ، حديثا مستفيضًا أثبت لهم فيه أن هذا الحاكم قد استكمل بهذا القانون آخر حلقات القهر والجبروت التي أحكم بها سلسلة الغل حول أعناقنا يطبق علي هذه الأعناق في أي لحظة يشاء فتفارق الحياة . وقلت : إنني بذلك أتربص به ما حل بفرعون .. قلت ذلك ولم أكن أعلم بأن هذا الشعور نفسه هو شعور السيد كمال الدين حسين حتى إنه أطلق هذا القانون " قانون فرعون " ، ولم أعلم بهذه التسمية إلا من كتاب " الموتى يتكلمون " للأستاذ سامي جوهر الذي أشرت إليه من قبل والذي صدر في عام 1977 . وقد استلزمت المادة الأولي من هذا القانون لتنفيذها إعداد سجل أو دليل يثبت فيه أسماء كل الذين تناولهم الاعتقال عام 1965 حتى ولو كان الاعتقال ليوم واحد .. مع بيانات مستفيضة عن كل معتقل . ولم يكتفوا بالبيانات التي تطلب من أي مواطن حتى في أخطر الظروف بل تعدوها إلي بيانات لا تخطر علي بال ، وقد لا يعرف الغرض من ورائها إلا من درس هؤلاء القوم وألم بأهدافهم ومراميهم .

وكان معني هذا أنه قد استقر في خاطرهم أننا نحن الإخوان المسلمين قد أحيط بنا ، وقد وضعنا في أيديهم ، ولم يعد لنا من مفر إلا لهم ، ولا من مهرب إلا إليهم ، واعتبروا ذلك حقيقة مادية تمخضت عنها جهودهم طيلة اثني عشر عامًا ، فلما وصلوا إلي هذه الحقيقة المادية اطمأنت قلوبهم ، وأمنوا بذلك صروف الزمان ، وما كان لهم بعد ذلك إلا أن يرتقوا في الأسباب .. وما كان علينا نحن إلا أن ننتظر ألوان الكوارث وأسباب الفناء .

• الحال التي آل إليها المجتمع :

ولا ينبغي أن نخدع الناس ونخدع أنفسنا فتدعي أن اليأس لم يحُوم علي قلوبنا . فالإخوان صاروا في ذلك الوقت بين غائب وراء أسوار السجون ، وبين حاضر يشتهي أن يلحق بإخوانه الغائبين ، والكل بأهله وأقاربه وذويه في سجل حافل بين يدي الجلادين الذين لا يرحمون .. الأنفاس تعد ، والنظرات ترصد ، والكلمات يحاسب عليها ، ويوم يري إله الجلادين أن يجمعوا جمعت هذه الألوف المثبتة في السجل في أقل من ساعة .. وله حينئذ أن يلصق بهم من التهم ما يشاء ، وأن يحكم عليهم بما يشاء ولا معقب لحكمه .. لم يعد في البلاد من يستطيع أن يرفع رأسه أو يبس ببنت شفة إلا أن يكون مادحًا أو منافقًا . حالة يعذر من يغلبه اليأس فيها . وأقسم لقد كنت أجلس إلي نفسي فأتمنى أن أغيب مع إخواني وراء الأسوار ، لأن الله تعالي وإن ابتلاهم بالسجن فقد أعفاهم من كثير مما لو رأوه وشاهدوه لتفطرت نفوسهم حزنًا وآسي .. فمرافق البلاد تحولت إلي الصور التالية :

• المدارس :

لم تعد المدارس هي تلك الأماكن التي يتلقي فيها أبناؤنا أصول التربية ومكارم الأخلاق ، فالقدوة انعدمت ، لأن المدرس رأي بعينيه أن أهل الدين والفضيلة يدسون بالنعال ، فكيف يتمسك بما لو تمسك به لوضع في نفس الوضع ، ورأي بعينيه أن أهل النفاق والمتزلفين هم الذين يرفعون إلي أعلي المناصب . فصار همه أن يبحث عن وسائل الزلفى ليتقرب . ومن هذا الطريق تسربت إلي مناهج الدراسة أشياء مسخت عقول التلاميذ ونفوسهم .. امتدت يد الريف إلي التاريخ الوطني فحفرت من شأن كل ذي شأن لتظهر أن الفترة الوحيدة المشرقة في تاريخ البلاد هي الفترة التي سعدت البلاد فيها بأعظم رجل في التاريخ .. حتى اللغات التي اعتاد واضعو مناهجها أن يتخيروا النصوص ومواضيع القراءة لها من أبلغ التراث العربي لفصحاء العرب ، مسخوها فاتخذوها خطب الحاكم وبياناته – وهو أمي من الناحية اللغوية – نصوصًا ومواضيعًا للقراءة .. فنشأ الشباب معوج اللسان سوقي العبارة ، ضعيف الأسلوب .. وسري هذا المسخ إلي الصحف وإلي الكتب .. و لم ينج من هذا الطوفان الغث من الكتاب إلا القليل الذي اعتصم بكتاب الله وحديث الرسول وروائع المراجع الأدبية . ونشأ الشباب غير ذي عهد يقيم ، فرأيناه يملأ الشوارع يلعب بالكرة لا يبالي من أصابته الكرة من المشاة رجالاً ونساءً ، ورأينا الطلبة يضربون مدرسيهم ، ويضربون آباءهم ، ويتبادلون الشتائم علي قارعة الطرق بألفاظ نابية .. ورأينا الشباب يطاردون الفتيات ، والفتيات كاسيات عاريات . قلما نجد من يخدم كبيرًا أو يعين عاجزًا .. كل همهم المظهر حتى لم تعد تميز الولد من البنت .

• وسائل الإعلام :

لا عمل لها إلا أمران : إطراء الحاكم بنسبة كل المحاسن إليه ، وإلقاء المساوئ جميعًا علي سواه ، ونفث السموم في عقول الشباب من فتيان وفتيات بما تعرض من مقالة وتمثيلية وفيلم وأغنية .. فمن نجا من مسخ المدارس لأفكاره ونفسيته لم ينج من وسائل الإعلام التي تلاحقه حيثما كان .

• المجتمعات :

أما المجتمعات التي لابد لكل فرد أن يساهم فيها ، كالأعمال في دور الحكومة والمصانع والشركات والنوادي والمقاهي والجمعيات والنقابات ودور العلاج وغيرها ، فإن الناس أصبحوا لا يأمن أحدهم علي نفسه إذا هو تكلم أن يجد نفسه في مكان سحيق حيث لا يصل إليه قريب ولا صديق .. لأن الحاكم قد بث في كل مجتمع مهما صغر أو كبر أذناً من آذانه ، لا تنقل إليه جرائم المجرمين بل تنقل إليه كلام أصحاب الفكر علي أنه اعتداء عليه ومؤامرة تعد للإطاحة به ؟ أذكر بهذه المناسبة أن أحد الإخوان بالإسكندرية تعود في خلال تلك الحقبة أن يؤدي صلاة المغرب في زاوية صغيرة بجانب منزله ثم يلقي درسًا بين المغرب والعشاء . وفي أحد هذه الدروس تكلم عن عدالة عمر بن الخطاب .. وفي اليوم التالي جاء استدعاء لمقابلة ضابط المباحث الذي سأله : هل ألقيت درسًا أمس في زاوية كذا ؟ قال : نعم . قال : ماذا كان موضوعه ؟ قال : كان موضوعه عدالة عمر بن الخطاب . قال الضابط : إذن فتقرير المخبر في محله .. أنا أنذرك هذه المرة وبعدها أنا غير مسئول عما يحدث لك . قال الأخ : ولم هذا الإنذار ؟ قال الضابط : ألا تعلم أن حديثك عن عدالة عمر بن الخطاب معناه أنك تشير بذلك إلي ظلم جمال عبد الناصر .؟ يقول الأخ وهو يروي لي القصة : فضحكت في نفسي وتذكرت حكاية العسكري الذي سمع رجلاً يسب الحكومة (الكذا) فأمسك به وقال له : أنت تسب حكومتنا . قال الرجل : وما أدراك أنني أسب حكومتنا ؟ قال العسكري : وهل هناك حكومة(كذا) إلا حكومتنا .. وقد جاءني هذا الأخ عقب مساءلته في ذلك الوقت فعجبت لهذه الحساسية .

وكان أعوان الحاكم ينتدبون شبابًا غضًا للقيام بهذه المهمة في مختلف المجتمعات . ولما كان هذا الشباب قد نشأ في جو خال من القيم فإنه كان يسارع إلي الاستجابة ويري ف ذلك شرفاً ويظنه – كما علموه – جهادًا ووطنية .. وأذكر أن شابًا يافعًا جاء في تلك الحقبة يزور أصدقاء له وزملاء في مقر العمل الذي كنت فيه . فلما جلس وأخذ يتحدث صارحهم متفاخرًا أنه إذا سمع أحدًا منهم يذكر الحكومة بسوء أو ينقد عملاً فإنه سيرفع إلي الجهات المسئولة تقريرًا بذلك . فقال له بعضهم : ألا تري في مثل هذا العمل خيانة لزملائك ونذالة ؟ قال ؟ لا .. هذه هي الوطنية . فما كان منهم إلا أن أمسكوا عن الكلام حتى غادرهم . وأذكر أن كان لي صديق رئيسًا لشركة من الشركات الكبيرة ، وكنت في زيارته في تلك الأيام ، فدخل عليه شاب من موظفي الشركة فرأيته قد أولاه من الاهتمام ، وحباه بألوان من الاحترام ، مما لا يتناسب مع سنه ولا مع وظيفته . وكان صديقي هذا مشهورًا بجده في عمله وبأنه لا يبالي بمن يتعامل معه من موظفي شركته مهما علت وظيفته فهو رئيس والكل مرءوس .. فلفت نظري هذا التصرف الغريب منه مع هذا الموظف الصغير .. و قد عزمت علي أن أسأله في ذلك بعد خروج الشاب .. ولكنه كان أسرع مني ، فما كاد الشاب يخرج حتى قرب من أذني وقال لي : لعلك استغربت ما كان من مبالغتي في الاحترام لهذا الشاب ؟! فقلت له : لقد سبقتني فقد كنت عازمًا علي سؤالك في هذا الشأن . قال لا أستطيع أن أفعل إلا ما فعلن .. ألا تعلم هذا الشاب يستطيع بتقرير يكتبه عني أن أفصل من وظيفتي ؟! إنهما شابان في شركتنا اختيرا ليكونا عينًا علينا .. لم أعد استطيع أن أقطع في أمر من أمور الشركة إلا بعد أن أرجع إليهما . فإن أقراه أمضيته وإن رفضاه ألغيته . قلت : وهل هما من سعة العلم وطول التجربة بحيث يستطيعان أن يعرفا النافع من الضار في كل أمر من أمور الشركة ؟ قال : لا . قلت : إذا فقد يكون رأيهما في كثير من الأحيان خاطئًا . قال : نعم . قلت : وتمضي مع ذلك ما يريان ؟ قال : نعم . قلت : وقد يؤدي ذلك بمصالح الشركة . قال : نعم ، ولكن هكذا أرادت الحكومة .

وقد يلحق بهذا الذي سقناه لبيان ما آلت إليه حال المجتمعات أن أذكر واقعة تتصل بي شخصيًا ، ففي يوم من أيام تلك الحقبة كنت في منزلي فطرق الباب طارق ففتحت فرأيت شخصًا أمامي لا أعرفه فقال : سيادتك (فلان) ؟ قلت : نعم . قال : معي موضوع أحب أن أعرضه عليك فهل تسمح لي بالدخول ؟ فأذنت – قال : إنني من رجال المخابرات ، وقد بلغنا أنك من أهل الرأي في أوساط الإخوان ونحب أن نتبادل نعك الرأي . أستغفر الله لا بل أن نسألك الرأي في بعض الأمور التي تهم الدولة فهل لديك ما يمنع ؟ قلت : إذا كانت الأسئلة تتعلق بالإخوان فليس عندي ما أجيب به ؛ لأنني منقطع عن الإخوان ولا أعرف عنهم شيئًا . قال : لا .. إننا نريد رأيك في أمور أخرى , قلت : أجيبكم إذن علي ما أعرف . وتكرر ترددهم ، وما كان في وسعي أن أعرض عنهم ، ولكنني سألت الله تعالي أن يعينني عليهم ، وأن يخلصني من شرهم . وسألوا عن رأيي في الأعمال الحكومية التي نباشرها وعن العيوب التي أراها فيها ، فأجبتهم وأبرزت لهم عيوبًا ملموسة زعموا أنهم سيعملون علي إصلاحها .

وكان مما سألوني في شأنه وأظهروا اهتمامًا كبيرًا به موضوع الطرق الصوفية وهل من الصالح للدولة إلغاؤها ., وقالوا : إن الدولة الآن في سبيل إلغائها ، فإن كنت تري رأيًا آخر فادعمه بالحجج واكتبه لنا . وقد رأيتني بصدد هذا السؤال في حرج . فأنا أعلم أن أكثر الطرق الصوفية الآن ليست علي الصورة التي كانت عليها في صدر الإسلام ، وأنها في أمس الحاجة إلي من يردها إلي الطريق السوي ، وأن المآخذ عليها كثيرة ، وأن من المسلمين من يراها جديرة أن تحارب .. كل هذا علمته ، ولكنني رأيت هذه الحكومة قد قضت علي كل ما يمت إلي الإسلام بصلة ، حتى صار النشء الجديد تائها وسط بحر مائج من الترهات والأكاذيب الملبسة ثياب المبادئ والقيم ، وكلها تؤدي إلي الانحلال الأخلاقي والإلحاد ، ولا يجد هذا النشء من يأخذ بيده لي طريق أسلم ومبادئ أقوم . وأحسست بأن وراء الخطوة المعدة لإلغاء الطرق الصوفية قوة لا تبغي الإصلاح كما تتعمد أن تبدو ، بل هي قوة ملحدة .. بعد أن قضت علي القوة العاملة بلب الإسلام أرادت أن تمحو كل أثر إسلامي ، فلم يبق أمامها إلا المتزينين بمظاهر الإسلام المتشبثين منه بالقشور .

فقلت : قد يكون في الإبقاء علي هذه المظاهر والقشور ما يذكر الناس بالإسلام وسط هذا الليل الحالك البهيم المخيم علي البلاد .. فكتبت لهم عن الصوفية وتاريخها ما جعلهم يعدلون عن قرار إلغائها .


الفصل الثاني : إن الرواية لم تتم فصولا

خرجنا من المعتقل وكنت شخصيًا في حال من أسمي مراتب الروحانية ، وإن كنت – جسمًا – قد نقص وزني سبع كيلو جرامات حتى لم تعد كل ملابسي تصلح لي . ولكنني لبستها غير مبال بشيء فقد كنت في الحال التي قال فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم لصاحبه : " قد عرفت فألزم " ، فلقد آمنت بالله إيمانًا باللمس واطمأننت إلي وعد الله الذي سجله في كتابه حين قال : (          ) وحين قال : (          •        ) وحين قال : (                      •  ) كنت موقنًا أن النهاية آتية لا ريب فيها . ولكن كيف تأتي ومتى تأتي ؟ فهذا ما استأثر به علم الله . ويبدو أن نهاية الظالم لا تأتي إلا بعد أن يصل إلي الغايات .. فمادام يري علي وجه الأرض من أعدائه ومنافسيه ومن لا يزال فيه بقية من عرق ينبض ، فإنه يعتقد أن سلطانه الذي يريد أن يبسطه علي كل شيء لا يزال مهددًا .. فعليه إذن أن يقطع هذا العرق النابض لتكتمل له أسباب السلطان ، ولينعم بسلطة لم ينعم بمثلها أحد سبقه في حكم مصر .

• المحاكمـات :

ويوحي من الحساسية التي سيطرت علي أعصابه ، والتي وصلت به وبمن حوله إلي الحد الذي صورته الآية الكريمة : ( •   ) أخذ يجمع من خيالات الوهم المحيط به خيوطاً تكفي لنسج مؤامرة جديدة للإطاحة به ، واستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين كان مهمتهم أن يوجدوا من بين منافسيه ومخالفيه في الرأي أشخاصًا يلبسونهم ثياب المتآمرين ويوقعون بهم من الأذى والتعذيب ما يرغمهم علي الاعتراف بما أسند إليهم من أدوار في المؤامرة . وقد استمدت خيوط المؤامرة المتوهمة من سطور كتاب ألفه رجل من الإخوان تزخر المكتبة الإسلامية بالكثير من مؤلفاته .. ولم يفكر عهد من عهود الدولة الإسلامية أن يعتبر الآراء جريمة يعاقب عليها .. وإذا كان القرآن نفسه قد سجل حرية الرأي وقدسها حتى إذا بلغ الخلاف في الرأي مبلغاً يتناول العقيدة نفسها قال : (   ) فكيف تحاكم حكومة تدعي الانتساب إلي الإسلام وتدعي بلغة العصر أنها حكومة ديمقراطية إنسانًا علي آراء ضمنها كتابًا وهو لا يرغم أحدًا علي انتحالها ؟! ولكن " الملأ " كانوا يملكون الوسائل التي يحولون بها هذه الآراء إلي مؤامرة يعترف أصحاب هذه الآراء بتدبيرها . كان صاحب هذه الآراء هو الأخ الكريم الأستاذ سيد قطب وكان كتبه بعنوان : " معالم في الطريق " وينبغي هنا أن أذكُر بأن العداء قديم بين الأستاذ سيد قطب وبين جمال عبد الناصر ، منذ أنشأ هذا الأخير هيئة التحرير وطلب من الأستاذ سيد قطب أن يرعي هذه الهيئة وشاع في ذلك الوقت أنه يرشحه وزيرًا للتربية والتعليم .. فرفض الأستاذ سيد هذا العرض مؤثرًا أن يبقي حيث هو وفيًا لدعوته .. والأستاذ سيد قطب – رحمه الله – من العلماء الصرحاء الذين ينبذون إلي مخالفيهم بآرائه علي سواء .

ولن أتعرض للمحاكمات التي تمت في خلال هذه الفترة بشرح ولا بتفصيل فقد أُفردت لها كتب ، وسالت في التنديد بها أنهار الصحف , ولازال هذا كله قليلاً من كثير مما سيتناول هذه المحاكمات من شرح وتفصيل ؛ لأن هذه المحاكمات ليست مجرد قضايا نظرت مما تزخر به ملفات المحاكم فانتهت بانتهاء وقتها ، وكان إصدار الحكم فيها هو خاتمة المطاف ، وإنما هي قضية التاريخ التي يصدر الحكم فيها نمن التاريخ نفسه لا من الذين اتخذوا فيها شخصية القضاة .. وبصدور حكم التاريخ فيها يتحدد مصير هذا البلد ومستقبله . نعم هناك ذات شأن تعمل بكل جهدها علي طمس معالم هذه الفترة العصيبة من تاريخ البلاد ، وتحاول بذلك مصادرة التاريخ حتى لا يصدر حكمه . ولكن هذه الجهود ذاهبة سدي ، لأن التاريخ أقوي من أن يصادر ، وتياره أعني من أن تعترض طريقه عقبات .. ولكن التاريخ قد يؤجل نطقه بالحكم حتى تصل الأمور إلي مداها .

إن محاكمة " الدجوي " التي حاكمت الأستاذ سيد قطب وزملاءه – وأمثالها مما سميت زورًا محاكم – ستحاكم هي نفسها أمام محكمة التاريخ ، وستجر هذه " المحاكم " من كان وراءها من المجرمين الذين تواروا خلفها في أثواب حكام ، ويومئذ يأخذ هذا الشعب جلاديه بالتواصي والإقدام . لقد أعدموا في المرة الأولي سنة 1954 سنة من أكرم الإخوان ، وأعدموا في هذه المرة سنة 1965 ثلاثة آخرين من أكرم الإخوان ، وفعلوا ببقية الإخوان ما فعلوا وهم يحسنون أنهم أضحوا بذلك في مأمن من تقلبات الأيام ، وحسبوا أنهم قد آن لهم بعد ذلك أن ينعموا بهدوء لا تقطع سكونه الفواجع ، وينوم لا تؤرقه الأحلام .

• إزالة الآثار أو المحو من التاريخ :

والعجيب في تصرفات هذا الرجل هو أنه قد حقق لنفسه من السلطان كل ما كان يحلم به ، ومع ذلك فإنه كان يعيش في خوف دائم لا يفارقه من ليل ولا نهار .. وأبرز مظاهر خوفه أنه ينصرف كأنه منهم هارب من العدالة ، فأول شيء يحرص عليه هو أن يحرق الأوراق التي يعتقد أن فيها دلائل اتهامه ، فكل تفتيش كان رجاله يقومون به في دور الإخوان وفي بيوتهم كانوا حريصين فيه ألا يدعوا كتابًا ولا كراسًا ولا ورقة فيها كتابة إلا استولوا عليها ونقلوها إلي مقرهم وأحرقوها حتى لا يبقي منها إلا الرماد .

وتجلي هذا الشعور واضحًا فيما يتصل بالأخ الكريم الأستاذ سيد قطب وكان رجلاً كاتبًا وأديبًا . فكان جمال عبد الناصر حريصًا قبل كل شيء علي التخلص من كل ما كتبه الشهيد .. وقد أخبرني أحد الإخوة الكرماء – وكان مدرسًا إذ ذاك في مدرسة بنات إعدادية – أنه قرأ بنفسه الأمر الصادر إلي جميع المدارس والمعاهد والجامعات بتكوين لجنة في كل مدرسة وكل معهد وكل كلية مهمتها جمع كل ما كتب الأستاذ سيد قطب ثم حرق ما جمعته علي أن تحرر محضرًا بذلك موقعًا من أعضائها جميعًا . وقال لي الأخ الكريم : إن اللجنة الخاصة بمدرسته قد صدعت بالأمر . وأخبرني أيضًا أن هذه اللجان في المدارس الابتدائية كانوا يجمعون كتب القراءة المقررة وفي الكتاب ورقة واحدة فيها نشيد وطني من تأليف الأستاذ سيد فكانوا يقطعون هذه الورقة من كل كتاب ويحرقونها بمحضر .

   وقد ذكرني هذا التصرف البالغ الوقاحة والخوف معًا بقول الله تعالي في كتابه العزيز : (       ) . 


الفصل الثالث : اليـوم المـوعـود

سيطر علي الإخوان في تلك الحقبة الكئيبة ما يشبه اليأس وكادوا يظنون بالله الظنون ، فقد رأوا الظالم يبطش بأهل الحق وبالداعين إلي الله سنة 1954 فتربصوا به أن يصيبه الله بعذاب من عنده فلم يصبه بشيء بل زاده سعة في الملك ، وثباتًا في الحكم ، وتمكينًا في الأرض .. فلما سولت له نفسه أن يعيد الكرة مع المثخنين الذين باتوا كلهم في أسره منذ عام 1954 أعادها بوحشية تعافها الوحوش الكاسرة ، وتأنف منها الذئاب الجائعة .. وفي الوقت الذي يطأ بنعاله جثث القتلى والجرحى ممن طوح بهم ظلمه ، رأوه يعلو فتنحني لجبروته رءوس الشعب ، وتخطب ودّّه – اتقاء شره – مملوك العرب ، فيزداد علوًا في الأرض ، وعتوًا في الحكم ، واستهانة بالقيم . ولقد طالما صارحني بعض كرام الإخوة الفضلاء بما يوصف بأنه ليل لا فجر له ، فالرجل لا يزيد كل يوم إلا علوًا ، ولا يكتسب مع كل ظلم إلا تمكينًا فهل تبدلت كلمات الله ، ونسخت سنن الخالق ؟ وكنت أرد عليهم – واثقًا من سنن الله التي لا تتبدل ؛ مستندًا إلي الإيمان باللمس الذي من الله به عليّ – فأقول : إن اليوم والله لآت لا ريب فيه . ولكن متى يأتي وكيف يأتي ؟ فهذا ما استأثر به علم الله ولكنه أشار بقوله : (   ) وبقوله : (        ••   ) .. وأقول لهم : لا تظنوا أن نهاية الظالم لابد أن تأتي علي أيديكم فإذا عجزتم عن ذلك كان عجزكم هو نهاية المطاف ، فعند الله من القوي مالا يخطر علي بال ولا يجول بحسبان ، وتذكروا أن الله تعالي قال : (          ) فإذا عجزت أيدينا فالله عز وجل يتولي الأمر بنفسه وناهيك بأمر يتولاه الله بنفسه .. ولقد كنت مع ثقتي بالعاقبة التي وعد الله بها لا أتعجل هذه العاقبة فقد تطول الأيام ، ويوم التاريخ طويل ، فكنت أقول لهم : قد لا نري هذه العاقبة وقد يراها أبناؤنا ولكنها لا محالة واقعة .

• جاء اليوم مبكرًا :

ما كنت أحسب أن اليوم سيأتي قريبًا إلي الحد من القرب الذي جاء به .. بل إنه جاء مفاجأة لنا وللظالم نفسه ولكل الناس ، حتى إن الإنسان لم يكد يصدق ما سمع .. لما جاء النبأ المفاجئ المزلزل شخصت الأبصار ، وسهمت الوجوه ، وفغرت الأفواه .. لو قيل لك إن الهرم الأكبر قد أندك فلم يعد له أثر ، أو أن جبال المقطم قد ابتلعتها الأرض لكان ذلك أقرب إلي التصديق من هذا النبأ . إن الرجل أضحي في عنفوان قوته .. ولما وجد نفسه قد أخضع العرب لسطوته ، راح يتطاول علي حكام الغرب وأساطينه ودهاقينه . فعقد مؤتمرًا صحفيًا اجتمع فيه صحافيو العالم كله في مساء يوم 28 مايو 1967سمعنا في الإذاعة صحفيًا اسمه " ستيفن هاربر " محرر الديلي اكسبريس البريطانية يوجه إليه سؤالاً عجيبًا يقول له فيه :

" لقد مررتم كإنسان بمرحلة ضغط كبيرة في أثناء أزمة مشابهة تقريبًا للأزمة الحالية في خلال صيف عام 1956 – فهل تجدون من السهولة بمكان تحمل أعبائها كإنسان أكبر سنًا مما كان عليه من قبل بأحد عشر عامًا ، أم أنكم تجدون أصعب شأنًا .. وكيف تستريحون من مشاكلكم ؟ " فيجيبه المارد الجبار بقوله : بالنسبة للسن أنا معجزتش ، وأنا لسه ما بلغتش الخمسين وأنا مش خرع زي المستر إيدين أبدًا بأي شكل من الأشكال . يعني لازم تفهموا هذا الكلام وطمنهم في انجلترا إني أنا مكملتش الخمسين وقاعد لسه مدة طويلة موجود هنا في هذه البلد وفي هذه المنطقة من العالم . وأنا في هذه الأزمة بالذات وفي هذه الأيام باصحى بدري وصحتي كويسة ، والأزمة صحتي بتبقي فيها أحسن ، وبأنام وخري ، وأظن شايف إن صحتي كويسة وقادر إني استمر في هذه المعركة وفي معارك أخري " .

إجابة ليس لله فيها نصيب ، بل كلها غرور وإعجاب بالنفس ، واعتقاد صاروخ بأنه القادر الفعال .. هذا الكلام سمعناه بألفاظه ومعانيه منذ أسبوع واحد بآذاننا .. فهل يعقل أن مثل هذا الرجل يقال لنا إنه محي من الوجود ، وإنه أضحي يحمل عار الهزيمة والذل والضياع ، وإنه قد سجل علي نفسه وعلي أمته خزي الأبد وذل الدهر ؟! . لقد ابتغي الرجل بهذه الحرب ضد إسرائيل أن يمد رواق مجده وسلطانه علي ما بعد أرض العرب ليرضي كبرياءه الذي يلح عليه فلا يقنعه شيء ملكه حتى يملك غيره ، فكيف تكون هذه الحرب هي قاصمة ظهره وأكله كبده ،وماحية أثره ؟! .

إذا كان غير الله للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد

وصدق الله العظيم : (                         ) ليس هذا وصف الظالمين يوم القيامة فحسب ، بل هو وصفهم أيضًا يوم يأتيهم العذاب في الدنيا من حيث لا يحتسبون ، وتنزل بهم القواصم وهم منها بسلطانهم معتصمون . لقد كان غاية ما يرجوه من ذاقوا العذاب علي يديه أن يهديه الله إلي الحق أو أن يقبضه إليه فيريح الناس من ظلمه .. ولكن الله وهو مطلع علي ما ارتكب من جرائم في حق الناس ، وعلي ما انتهك من حرمانهم ، أبي أن يهديه ؛ لأنه قرر في محكم كتابه ألا يهدي من رأي آياته فلم يؤمن بها (•            ) والذي رأي وقرأ وسمع عن آيات الله في كونه وفي عباده فعلم نهاية الظالمين ، مثل هذا لا يقدم علي ظلم ،ولا يستبيح تعذيب الناس وقتلهم .. فأني يهديه الله إذا هو أعرض عن هذه الآيات وظلم وتمادي في الظلم .. أليس هو الله تعالي الذي قال : (     ) .

كما أن الله تعالي أبي أن يقبضه إليه فيذهب رجال دولته ، وسدنه عرشه ، في تمجيد أيامه كل مذهب ، فيكون موته أشد فتنة للناس من حياته .. واقتضت حكمته تعالي وسابغ عدله أن لا يقبضه إلا بعد أن يمحو تاريخه بيده ، وإلا بعد أن يشهده أهله وذووه ، ويشهده العالم كله وهو يسطر وثيقة الذل والهوان لنفسه ولبلده ، وإلا بعد أن ينطق بلسانه أمام شعبه وأمام العالم كله أنه هو وحده الذي يحمل تبعة هذا العار والخزي والهزيمة وأنه لا يستحق أن يبقي في دست الحكم بعد ذلك ساعة من نهار .. وإلا بعد أن يمد أكف الضراعة إلي الرجل الذي طالما تهكم عليه وهاجمه لأنه أراد أن يجمع كلمة المسلمين وذلكم هو الملك فيصل بن عبد العزيز . لقد أراد الظالم أن ينتصر بجيش هو حقاً كان جيشًا جرارًا مدججًا بأحدث سلاح ، ولكنه كان قد أخرج منه كل ذي دين وكل ذي مبدأ وكل ذي كرامة ، وحال بين هؤلاء وبين أن يتسربوا إليه ، فلم يعد في الجيش إلا أخشاب مسندة من أهل ثقته الذين كانت سمتهم المميزة الاستهتار بالدين ، والاستخفاف بالقيم ، فلم تغن هذه الحشود المدججة يوم الجد عنه شيئًا ، وفي أول لقاء فروا هاربين ، وتركوا أسلحتهم للعدو .

أسد عليّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر

ليت الظالمين يعتبرون ، فإن حرب يونيو 1967 ستظل إلي الأبد عظة وعبرة لكل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ، ليس الظالم في حاجة إلي من يحفر له قبره ، إن من تنكيل الله العلي القادر به أن يسخره هو نفسه لحفر هذا القبر لا ليدفن فيه جثته وحدها وإنما ليدفن فيه مع جثته تاريخيه وأمجاده التي كان يتيه بها علي الناس ، ولا يبقي له بعد ذلك إلا الخزي والهزيمة والذل والعار . أراد الظالم بهذه الحرب لا أن يستخلص فلسطين من أيدي اليهود ، وإنما أراد أن يحقق فيها نصرًا يتيه به علي منافسيه ، ويستكمل به عدة التسلط والجبروت ، ويستعيد به مكانة فقدها بانسلاخ سورية عنه وليكون في الموقع من القمة الذي يفتك فيه بالحفنة من الرجال في هذه الأمة الذين – بالرغم مما يرسفون فيه من الأغلال – لازالت في صدورهم قلوب تنبض ، وألسنة تنطق ولكنها تأبي أن تقدس غير الله . وترفض أن تقر بالذل لغير الله .

وتقدرون وتضحك الأقدار

وصدق الله العظيم إذ يقول : (                                      •                •      •                ) . حقا (• •  ) إنه لا يأخذ الظالم إلا من علٍ . حتى إذا وقع كان لوقوعه ضجة وصخب يلفت الأنظار ، ويوقظ النائمين ، ويتيه الغافلين ، ويقرع أقفاه السادرين في الضلال والموغلين في الظلم والظلام .. إنه إذا أراد أخذهم لم يهدم بنياتهم – كما عهد الناس الهدم – من فوق حتى يهوي به إلي تحت ، فإن هذه الطريقة في الهدم تستغرق وقتاً طويلاً تضيع فيه قيمة المباغتة ، وتترك فرصة للظالم ومن معه أن يهربوا أو حتى أن يفيئوا إلي رشدهم ، ثم إنها قد تترك قواعده وأسسه باقية مما يغري ظالمًا آخر يرفع هذه القواعد مرة أخري .. وإنما اقتضت إرادته أن يبدأ في هدم البناء بنسف أساسه وقواعده فيخر البُنيان كله دفعة واحدة علي من فيه فلا يجدون لهم مفرًا ولا منجى ، ويكون في هذا النسف الفوري معني الأخذ والمباغتة التي يريد بها التنكيل للظالمين ، والثأر للمظلومين والعبرة للناس أجمعين .

• بعد حرب يونيه 1967 :

لن أتعرض هنا أيضًا للمهازل التي تلت الهزيمة التاريخية والتي انتهت بالإبقاء علي جمال عبد الناصر في رياسة الدولة ، فهذا موضوع سالت به أنهار الصحف ، وزخرت بمناقشته بطون الكتب ، وسيظل علي مر الزمن موضوع مناقشة حتى يستطيع المصريون جيلاً بعد جيل فك رموز هذه المعادلة الصعبة المستعصية علي الفهم والتي تقول بأن هزيمة 5 يونيه الماحقة تساوي النصر الذي يستحق الإشادة به والفخر .. نعم ظل عبد الناصر في موضعه ولكنه رجع مصدوع القلب ، مفري الكبد ، محطم الفؤاد .. وكأنما أحس بنهايته – وقد اعتبر كتاب الغرب يوم 5 يونيه يوم وفاته – تقترب ، بجرائمه تطيق علي عنقه فأراد أن يتوب .. وكأني برب العزة يرد عليه قائلاً : (                •   ••   ) فلقد تقدم إلي الشعب ببيان مارس 68 ولا أعده إلا بمثابة توبة فقد اشتمل علي مبادئ طيبة لإصلاح المجتمع .. فاستبشر الناس وما كادوا يفعلون .. كأن رب الناس أبي أن يجري خيرًا علي يدين ملطختين بدماء الأبرياء .. غلبت علي الرجل طبيعته فابتلع كل ما جاء ببيان مارس ورجع إلي حكم الفرد .. ولكن بقلب كسير ، وجناح مهيض .. فالحكم بوليسي إرهابي كما كان ، ولكن اليد التي تعودت البطش تبطش وقد نزعت مخالبها .



الباب التاسع عشر :الدعوة المستهدفة بأمـكر الأساليـب


الفصل الأول : مراجعة عامة

من حق القارئ عليّ بعد استيعابه هذه الصفحات التي كان جل همي منصبًا علي تسجيل الأحداث بطريق أقرب إلي السرد منها إلي الإفاضة والتحليل ، أن أتناول في هذه الخاتمة بعض ما مر من أحداث بشيء من التعليل والتجليل والتعليق والإفاضة حتى تتألق الحقائق الهامة تألفاً يبدد كل إبهام :

أولاً : قامت دعوة الإخوان المسلمين منذ أول يوم علي أساس فكرة شاملة واضحة محددة . وإن هذه الفكرة ظلت كما هي تمامًا لم يطرأ عليها أي تغيير أو زيادة مع تغير القيادات وتطور الأيام وتباين الظروف .

ثانيًا : قد يقال إن هذا يعزي إلي أنها دعوة منزلة من عند الله . ولكن هذا ليس السبب ، فإن الذي تكفل الله تعالي بحفظه هو القرآن الكريم وحده إذ يقول : (  •     ) أما الفكرة الإسلامية المستنبطة من الكتاب والسنة فهي وإن كانت محددة المعالم بمقتضي هذين المرجعين إلا أن الناس من أتباعها ذهبوا في تصورها كل مذهب ، إذ دخلت عناصر أخري من الطبائع والأهواء .. فهؤلاء قعدت بهم الهمم فحصروها في نطاق ضيق حدوده جدران المساجد وصوامع العبادة ، وآخرون اعتبروها نظريات فلسفية ميدانها حلقات الجدل ، ومستودعها ما بين دفات الكتب ، فهي لون من الرياضات الفكرية ، وضرب فسيح من المتع العقلية ، وطائفة شط بهم الخيال فنأى بهم عن واقع الحياة فارتفعوا بها – غلوا فيها – ثم انقضوا بها علي هذا الواقع كما ينقض الصقر علي فريسته ، ونسوا أن هذه الفكرة لم تنزل من سمائها لتبيد من هم علي الأرض ، وإنما نزلت للأخذ بيدهم وإسعادهم .

وهكذا تناول أتباع الفكرة الإسلامية فكرتهم بالنقص تارة وبالزيادة تارة أخري ، وأخذ كل فريق يُلوَّنُها بلون نفسه وهواه . ولم تكن هذه الفكرة – فيما تناولها من تغيير وتبديل – بدعًا من الفكر المنزلة من السماء ، فمن قبل كان ذلك شأن الناس مع ما أنزل علي موسي وعيسي .. والقرآن مترع بالآيات الفاضحة لأتباع موسي وعيسي فيما غيروه وبدلوه ، وفيما اختلقوه ، ,فيما أخفوه من حقائق ، وفيما نسبوه إلي الفكرة الإسلامية زورًا وبهتانًا (                ) (    •   •  ) (•                            •                             ) (                      ) .

وفكرتنا الإسلامية الشاملة الخاتمة التي جاء بها خاتم الرسل محمد صلي الله عليه وسلم لم تسلم من تغيير وتبديل ، إلا أن ما تناولها من تغيير وتبديل لم يصل إلي أغوارها ؛ لأن جوهرها وهو القرآن الكريم تكفل الله بحفظه .. ولذا فإن التحريف الذي استطاعه المحرفون والمغرضون والقاعدون والمتعالون لم يزد عن أن يكون اعتسافاً في التفسير منشؤه في كثير من الأحيان حمل الأسلوب القرآني العربي علي ما لا يحتمله من الأساليب الأعجمية الدخيلة ، حيث يفضي هذا الاعتساف إلي خلق ألوان من التعقيد ما أنزل الله بها من سلطان ، وما كانت لتخطر علي بال قارئ يقرأ القرآن بسجيته العربية . وأضرب لذلك مثلاً بما فسره بعض المفسرين الأعاجم لقول الله تعالي : (  ) فالقارئ العربي سواء كان أميًا في أعلي درجات الثقافة والعلم يفهم من الآية نفي وجود شريك لله تعالي أو مثيل .. ولكن المفسر الأعجمي يحمل الآية ما لا تحتمل فيدعي أن الكاف حرف تشبيه ، وبذلك فإن الآية تنفي وجود شبيه لمثل الله .. ثم يبدأ في مناقشة فلسفية يحاول أن يدحض بها أن لله مثلاً ، ويبحث عن تأويل للآية لتفادي ما نشعر به من أن لله مثلاً .

وعن طريق هذا الاعتساف نشأت نظريات تناولت عدة قضايا تتصل بصفات الله وأعمال العباد وشروط الإمامة وغيرها أدت إلي تشتيت شمل الأمة الإسلامية ومقاتلة بعضها لبعض .. وانتهت إلي كوارث لازال العالم الإسلامي حتى اليوم يلعق جراحه من آثارها . كما نشأ التحريف من فهم سقيم لبعض أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم ، ومن التذرع بأحاديث تحتاج في سبيل استنباط حكم شرعي منها إلي الإلمام الواسع المتبحر بعلوم عميقة الغور كعلم تاريخ الرجال وعلم أصول الحديث وعلم أصول الفقه وعلوم اللغة مع قاعدة راسخة في علوم القرآن .. مع أساس من عقلية خصبة قادرة علي الاستنباط ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل .

وقد يصلح أن يكون مثالاً لهذا ما سبق أن أوردته في سياق هذه المذكرات من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي " فمن طريق فهم هذا الحديث فهمًا سطحيًا نشأ في هذه الأمة ضلال كثير ، واستطاع جاهلون ومغرضون أن يبطلوا من الإسلام ما شاءوا من شرائعه وأحكامه ، وأن يحملوا أتباعهم علي شرائع وأحكام ابتدعوها .. ولكن بالفهم المستنير القائم علي علم متبحر في العلوم مع عقلية ناضجة مستنيرة ، استطاع الإمام الشاطبي رحمه الله أن يفسر هذا الحديث – في ضوء ذلك – التفسير الصحيح الذي لا تضل معه العقول ، ولا تزيغ به الأهواء حيث قال : إن هذا الحديث موجه إلي فئة معينة هي فئة الصحابة الذين عاشوا مع الرسول صلي الله عليه وسلم ورأوه بأعينهم ، وبذلك صارت له صورة محددة واضحة في خواطرهم ، فإذا رأوه في المنام علي الصورة التي رأوها بأعينهم فإنه سيكون هو نفسه حقاً لأن الشيطان لا يتمثل به .. أما من عدا هؤلاء ممن لم يروا النبي صلي الله عليه وسلم رأي العين فأني لهم إذا رأوا في المنام من يدعي أنه النبي أن يعرفوا إن كان هذا الادعاء حقاً أو باطلاً .. لاسيما إذا علمنا أن من آيات الله عز وجل أنه لم يخلق اثنين من خلقه علي صورة واحدة (         •     ) .

فقد يتشابه اثنان حتى إذا دقق الناظر فيهما وأخال نظره في خلقتهما وجد اختلافاً لا تدركه النظرة العابرة من لون في البشرة ، أو طول في القامة ، أو قصر أو لون في العينين أو طول في الأنف أو اختلاف في شكل الأصابع أو فيما عدا ذلك مما يدركه من يمعن النظر .. ومن عاشر إنسانًا وأطال عشرته انطبعت صورته بكامل تفاصيلها في نفسه وعقله لا يمكن التلبيس عليه .. فهذه الفئة التي عاشت مع النبي صلي الله عليه وسلم وامتزجت به ، ولم تكن تصبر علي مفارقته ساعة من زمان ، هي التي تستطيع أن تميز صورته إذا رأتها في صحو أو منام .. أما غيرهم فإن ادعاءهم رؤيته في المنام , وأن الصورة التي رأوها هي صورته صلي الله عليه وسلم هو ادعاء مردود ، وكل ما ترتب علي هذا الادعاء من أمر أو نهي مردود . وبذلك تسلم الأمة من طائفة ادعاءات قد تنحرف بها عن شريعة الله ، وتنزلق بها إلي متاهات من الضلال والإفك والبهتان .

ثالثًا : الوسطية والقيمية :

هما سمتان من السمات المميزة للفكرة الإسلامية .. وسمة الوسطية هي التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله : (  • ) وسمة القيمية هي التي أشار إليها الكتاب الكريم في قوله (        ) وقد لفت نظري إلي علو شأن الوسطية في الإسلام أن رأيت الإسلام يلتزم الوسطية في نظرته إلي المجتمعات حتى في ناحية العقيدة .. فاقرأ في السيرة النبوية الشريفة أنه لما نشبت الحرب بين الفرس والروم انتهت بهزيمة الروم ، حزن المسلمون بمكة لهذا النبأ ، وتمنوا لو أن النصر كان حليف الروم باعتبار الفرس مجوسًا يعبدون النار ، والروم أهل الكتاب - وإن حرقوا فيه – فهم علي كل حال أقرب إلي المسلمين من عبدت النار . ولو أن الأمر وقف علي هذا الحد من العواطف ، لجار لنا أن نتشكك في صدق هذه العواطف من مسلمي مكة ، وفي سلامة اتجاهها .. ولكننا رأينا الوحي يتنزل علي رسول الله صلي الله عليه وسلم مزكيًا هذه العواطف ، ومؤيدًا هذا الشعور ، ومبشرًا بتحقيق أمنيات مسلمي مكة بنصر للروم قريب .. وقد افتتح سورة الروم بذلك فقال : (                                       ) .

وإذا كان للوسطية هذا القدر في الإسلام حتى تصنيف الناس عقديًا والتعامل معهم علي أساس هذا التصنيف الرحب الفسيح ، فلا شك في حرص الإسلام علي الوسطية وسيلة في تعامله مع ما هو دون العقيدة قدرًا وأهمية . ومقتضي ذلك أن لا يقف المسلمون أمام من يعيشون معهم في المجتمع موقف الجمود الذي ينظر فلا يري أمامه إلا الأبيض والأسود ، وإنما عليهم أن يوسعوا معهم من مجال نظراتهم ليجدوا حلولاً ما بين هذين اللونين .. وقد يتبدي ذلك واضحًا في صلح الحديبية وما تضمن من شروط رأي فيها عمر بن الخطاب وأمثاله من الصحابة تنازلات جعلت عمر يعترض ويقول : " لماذا نعطي الدنية في ديننا ؟ " .. وتمتد الأيام وثبت آخر الأمر أن هذا الصلح بشروطه كان خيرًا عظيمًا . ومن هذا يتبين أن نظرة بعض المنتسبين إلي الإسلام إلي المجتمع فيصنفونه صنفين ليس غير – إن هي إلا نظرة ضيقة بعيدة عن سمة الوسطية التي من طبيعتها أنها تترك الباب دائمًا مفتوحًا أمام التفاهم والتقارب والاتصال ، وتنتهي دائمًا بإثراء الفكرة الإسلامية بوفود متلاحقة ممن يقتنعون بها نتيجة لهذا التفاهم والتقارب والاتصال .

والقيمية وإن كانت من سمات الفكرة الإسلامية فإنها كذلك سمة كل فكرة نزلت من السماء أو تمخض عنها فكر بشري سوي ، فما من فكرة إلا ودعت إلي الصدق والوفاء والكرم والشجاعة والمروءة والرفق وما إليها من القيم – ولكن الذي اختصت به الفكرة الإسلامية دون سواها من الفكر هو امتزاج الوسطية بالقيمية ، فالقيم في ميزان الفكر الإسلامي إذا أفلت زمامها من يد الوسطية فإنها لا تُعَدّ من القيم في شيء وصار الفكر الإسلامي براءٌ منها . فالصدق دون أن تحكمه الوسطية قد يكون وقاحة ، والشجاعة قد تتحول إلي تهور ، والكرم قد يصل إلي إسراف ونزف ، والصبر قد ينتهي بصاحبه إلي الاستكانة .. وهكذا يتغير وجه القيم إلي وجه آخر كريه مرذول ، لا يقبله الطبع السليم ، ولا يستقيم من ميزان العقول . وقد جعل القرآن الكريم القيمية صفة للفكرة الإسلامية في ذاتها ( ) ولكنه جعل الوسطية للقائمين علي هذه الفكرة الحاملين لوائها (• ) ، لأن الاحتفاظ بقيم الفكرة في حدود الوسطية يحتاج إلي العامل البشري . ومن هنا كان العنصر البشري هو في حد ذاته جزءًا من الدعوة الإسلامية لا يمكن فصله عنها ؛ إذ بدونه تفقد قيمها ، .. ومن هنا نفهم لماذا قضي رسول الله صلي الله عليه وسلم ثلاث عشر سنة في مكة في تربية أصحابه ليكونوا أهلاً لحمل أعباء الدعوة الإسلامية دون أن ينحرفوا بها عن الوسط إلي يمين أو شمال . وقد يكون من أعظم إنجاز الإخوان المسلمين ، أنهم استطاعوا أن يحفظوا للفكرة الإسلامية وسطيتها دون انحراف أو انجراف وسط تيارات عاتية من طبائع شائهة ، وأهواء جامحة ، وظروف قاسية .

رابعًا : الداعية البصير :

فالفكرة إذن ليست شيئًا جديدًا ، بل إنها فكرة قديمة قدم رسالات السماء . ولكن الجديد هو إيجاد الأمة التي تؤمن بالفكرة ، وتعمل لها ، وتصوغ نفسها في قالبها .. هذا هو الجديد الذي تطلب الفكرة في كل زمان ومكان ، وتلح في طلبه من كل جيل .. تريد أن تري أمة تنادي بها ، وتقوم بأعبائها ، وتكون هي المتحكمة في حياتها .. وبديهي أن أمة لن توجد ، إلا بعد أن يوجد الداعية الذي يرفع اللواء ويدعو الناس إلي الالتفاف حوله . ودون وجود الداعية فلن تكون أمة . وقام دعاة اتخذ كل منهم رسائل لنشر دعوته ، ثم جاء حسن البنا فاتفق في الفكرة والهدف مع سابقيه ولكنه اختط في نشرها أسلوبا آخر .. كان هدفه أن تكون دعوته عالمية ، ولكنه رأي أن يخاطب بهذه الفكرة أول ما يخاطب عامة المسلمين وجماهيرهم ، بادئًا بأطراف البلاد وسكان القرى ، ثم قرر أن يكون له مركز في القاهرة لا ليتصل بالذين تتركز السلطات في أيديهم ،وإنما ليتصل بفئة أخرى من جماهير الشعب هم فئة الناشئة من طلبة المدارس والجامعة ، فقسم وقته وجهده بين هؤلاء في القاهرة وبين جماهير الشعب في بطون الريف ، فكون من هؤلاء جميعًا قاعدة عريضة آمنت بالفكرة ، وعاهدت علي العمل لها ، والبذل في سبيلها .

فلما جاء دور مخاطبة علية القوم وأصحاب السلطة بالفكرة الإسلامية – وهم بطبيعة تربيتهم وحكم مناصبهم يرون في هذه الفكرة منافسًا لهم ، ينتقض من سلطتهم ، ويحد من ترفهم .. فأرادوا – كدأبهم مع دعاة سابقين – أن يعصفوا بأصحابها ، ولكنهم وجدوا أنفسهم هذه المرة أمام مدَّ عارم هم عاجزون عن مواجهته ، من هذه القاعدة الشعبية الراسخة المتشعبة في قلوب أمة كاملة فاستعانوا بشياطين الأنس في داخلا البلاد وخارجها ، غير أن ذلك كله لم يتمخض عن شيء يذكر .. الفكرة هي الفكرة والدعاة هم الدعاة ، والمؤمنون بها في نمو علي مر الأيام وازدياد . وقد يكون هذا هو السر في ثبات هذه الدعوة – دعوة الإخوان المسلمين – واستمرارها ، ذلك أن حسن البنا بذر بذور هذه الفكرة في أصلح بيئة لها ، فتثبت نباتًا حسنًا ، تعهدها فيه عاكفاً علي تعهدها حتى أينعت وأثمرت وملأت الربي والوديان ، ضاربة بجذورها إلي أعماق الأعماق

خامسًا : الغلطة الكبرى لجمال عبد الناصر :

إذا استبعدنا سوء النية وحب الاستئثار بالسلطة ، فقد تكون الغلطة الكبرى لعبد الناصر هي أنه – تحديًا للإخوان المسلمين – أراد أن يثبت لهم أنه يستطيع أن يرسي دعائم حكمه دون الحاجة إليهم ، ظنًا منه أن الإخوان المسلمين هي مجرد فكرة ليس من الصعب علي حاكم أن ينتحل مضمونها فتستقيم له الأمور كما لو كان الإخوان المسلمون هم القائمين بأعباء الحكم . واستطاع فعلاً – عن طريق خزانة الدولة – أن يملأ مناصب الحكومة بأعظم الخيرات وأعلي المؤهلات . ولكنه ما لبث أن رأي الخلل والفساد يهز أركان الدولة ، ويهد في كيانها .. فأخذ بتلابيب هؤلاء الخبراء وذوي أعلي المؤهلات .. فقدمهم إلي المحاكم التي دمغتهم بفساد الذمة وموت الضمير . وكان المنطق يقضي – والحالة هذه – أن يقر الحاكم بخطئه ، ويفئ إلي رشده .. ولكن حاكمنا ما كان يستطيع أن يفعل ، فهو بحكم حقده أسير هذا الحقد ، ثم إنه كان قد قطع علي نفسه خط الرجعة ، بما ارتكب من فظائع ضد الإخوان ، وبما سفك من دمائهم وصار كما يقول المثل السائر : " ليس بعد حرق الزرع جيره " .

وهكذا لم يجد الحاكم الحقود أمامه إلا طريقاً واحدًا ليس غير ، هو الطريق الذي سلكه من قبل ووجد فيه الأفاعي والشياطين .. وظن أنه إذا لجأ إلي العسكريين الذين اعتادوا أن تحكم تصرفاتهم الأوامر والعقوبات ، فسيجد فيهم طلبته التي تدير شئون الدولة كما تدور الساعة ، فملأ المرافق والإدارات والشركات والمؤسسات بهم فلماذا كان من شأنهم ؟ كل الذي حققوه هو إحكام الشكليات لهذه الأعمال . فمواعيد الحضور ومواعيد الانصراف أصبحت تراعي بكل الدقة ، والعقوبات توقع علي من يتأخر عن الحضور دقائق ، كما أن التقارير والمذكرات تكتب ببراعة وإسهاب ، يضرب فيها علي الوتر الذي يطرب الرئيس العسكري .. وكل الذي يطربه أن نكتب هذه التقارير بأسلوب يقربه إلي سيده الحاكم ، الذي – يحكم رغبته في الاستئثار بكل شيء – أضحي لا يعرف شيئًا اللهم إلا ما يصله من هذه التقارير التي لا تمت إلي الواقع بصلة .. فإذا جاءت مناسبة من المناسبات يلقي فيها علي الشعب بيانًا ، ضمنه ما جاء بهذه التقارير .. والشعب يسمع ويضحك ،ويرسل النكات ، لأنه يسمع من الحاكم بيانات وأرقامًا ليس لها في واقع حياتهم أثرًا ، إذ هي مختلفة لا أصل لها .

وأخيرًا اكتشف الحاكم أن هؤلاء العسكريين ضللوه ، وأنهم أفسدوا مرافق البلاد . وتعجب كيف يقع هذا الإفساد من رجاله الضباط الأحرار ؟ .. ونسي الحاكم أن الضباط الأحرار – كما يسميهم – ليسوا إلا ناسًا كسائر الناس .. إن كانوا قد أدوا ما وكل إليهم من أعمال في الجيش علي الوجه الأكمل ، فإنما ذلك تحت سوط القانون العسكري الذي لا يرحم أما وقد رفع عنهم هذا السوط – بعد أن انخرطوا في سلك الحياة المدنية والوظائف المدنية – فلم يعد من رقيب عليهم إلا ضمائرهم إن كانت لهم ضمائر .. وأني يكون لإنسان ضمير وهو لا يعرف الله ، ولا يخطر بباله أن هناك حسابًا علي كل صغيرة وكبيرة بين يدي إله مطلع علي القلوب يعلم السر وأخفي .

سادسًا : الأمة المسلمة هي المعضلة :

يخطئ إذن من يظن أن مجرد المناداة بالفكرة الإسلامية وجعل الشريعة الإسلامية الأساس الذي تستمد منه الأحكام هو نفسه الأخذ بنظام الإسلام . فالنظام الإسلامي كل لا يتجزأ ، والأمة المسلمة جزء منه لا ينفصل عنه – والأمة المسلمة هي الأمة التي صيغت في بوتقة التربية القرآنية صياغة أنشأت من كل فرد منها صورة حية لهذا الدين بما فيه من خلق وآداب وعبادات ومعاملة ، وبحيث يكون هذا الفرد أداة إيجابية لها أثرها في الحياة وتترك طابعها علي كل من تخالطه أو تحتك به . ومن هنا كان تركيز الطغاة والمخططين لهم لا علي القضاء علي الفكرة الإسلامية في ذاتها ، وإنما كان تركيزهم دائمًا علي القضاء علي هذه الأمة التي أوجدها حسن البنا في هذا العصر والتي هي وحدها القادرة علي جعل الفكرة الإسلامية حياة سارية في أوصال الأمة ، ونبضًا دقاقًا في قلبها الواهن المخدر . وإن كان تحديد الفكرة الإسلامية ، وتوضيح معالمها قد تناوله القرآن الكريم بعشرات من آياته ، فإن آلاف الآيات خصصت لبيان خصائص الأمة المسلمة ، وكيفية تكوينها والحث علي إيجادها . والتحذير من آفات تفت في عضدها أو تهدد كيانها أو تقضي عليها .. وتري هذا واضحًا في سور القرآن الكريم طوالها وقصارها علي السواء ، ففي الوقت الذي تفتح فيه سورة البقرة ببيان أخص خصائص هذه الأمة فتقول : (                                           ) ثم تأخذ في بيان آفات الأمم والتحذير منها .. نري آخر سورة في القرآن تعلم هذه الأمة كيف تأخذ حذرها من وساوس شياطين الجن والإنس في قوله تعالي (   ••   ••   ••    • ••   •   •   • •• ) .

وحسبك أن تقرأ سورة كاملة كسورة التوبة لتري الروعة الأخاذة في كشف وسائل المخربين ، ودخائل المنافقين ، فضلاً عما جاء في صدر سورة البقرة في مفتتح الكتاب الكريم من إجمال ما فسرته سورة التوبة وسورة النساء وأكثر سور القرآن .. مما يدل دلالة واضحة علي أن المعضلة الكبرى ليست في مجرد تحديد الفكرة وتوضيحها ، وإنما هي في العمل علي إيجاد الأمة التي تحمل لواء هذه الفكرة ،وتأخذ علي عاتقها نشرها بالقول والقدوة والعمل وما يقتضيه ذلك من حكمة وجهاد وصبر . فالفكرة إذن بغير أمة متشربة لمعانيه . قائمة علي إبرازها وصيانتها ، متصدية لكل من يعتدي عليها ، ساهرة علي أطرافها وحدودها .. لا تكون شيئًا مذكورًا حيث تفقد كيانها ، وينعدم أثرها في الحياة .

لقد سمعنا من عبد الناصر في بيته في سبتمبر 1954 حين كان يقص علينا ما عده رغبة من الإخوان في الوصاية عليه بقوله : إن المرشد أرسل إلي فلانًا وفلانا (وذكر اسمين من الإخوان) يطلبان أن أعرض علي الإخوان كل قرار للحكومة قبل صدوره لكي أضمن تأييد الإخوان للثورة – وأنا لا أقبل هذه الوصاية وسأستغني عن الإخوان ، وسترون كيف سأحكم البلد بغير الإخوان .. وفي كفاءات البلد ما يغني عن الإخوان . وقد غاب عن الرجل أن المعضلة ليس حلها أن تجد الكفاءات فحسب ، وإنما المعضلة أن تجد الذين يجمعون إلي الكفاءات الأمانة والإخلاص – وهما ثمرة الخوف من الله – ولازالت كلمة عمر بن الخطاب دستورًا لمن يبغون الإصلاح : " أشكو إلي الله ضعف الأمين وخيانة القوي " . ورحم الله ابنة يوشع حين قالت لأبيها بعد تجربتها مع موسي : (         ).

سابعًا : تكاليف الوسطية :

التزام الإخوان حد الوسط في فكرتهم وسلوكهم كفلهم كثيرًا من المشقات والآلام والتضحيات . فلقد نكبت الإخوان بسبع فتن عمياء . وقد تحدثنا عن هذه الفتن في ثنايا الحديث الذي مضي في هذه المذكرات ونكتفي هنا بالإشارة إليها فيما يلي لحضرها :

1 – فتنة رفعت صديق .

2 – فتنو زواج عبد الحكيم عابدين من شقيقة الإمام .

3 – فتنة شباب سيدنا محمد .

4 – فتنة حسين عبد الرازق وأحمد السكري .

5 – فتنة ما بين الوفد والإخوان .

6 – فتنة تمرد رياسة النظام الخاص .

7 – فتنة ما بين الثورة والإخوان .

وليس معني حصرنا الفتن في هذه السبع أن الإخوان كانوا يعيشون فيما بين كل فتنة وأخري من هذه الفتن في هدوء واطمئنان ، ولكننا قصرنا الإشارة علي الفتن الجائحة التي كادت كل واحدة منها أن تطيح بالدعوة . ومادام التطرف والحقد والأنانية والغرور من الغرائز المتأصلة في الإنسان ، فلا مناص في أي مجتمع من ظهور آثارها ، وهذه الآثار هي ما نسميه الفتن .. إذ يريد أصحابها أن يكتسحوا كل ما يتعرض في طريقهم فيجدون في قبالتهم دائماً " الأمة الوسط " التي التزمت بتعاليم الإسلام وآدابه دون مغالاة ولا تقصير . ومن هنا يكون صدام . يتخلف عنه حطام ، كانت هذه المجتمعات أحوج ما تكون إليه لو أنه قاوم في نفسه هذه الغرائز والتزم حد الوسط . ولست هنا بصدد إحصاء الحطام الذي تخلف من وراء هذه الفتن في دعوة الإخوان المسلمين ، فحسبي ما قدمت من إلقاء الضوء عليها في سياق الحديث .. ولكنني أقرر أن الذين أوقدوا نار هذه الفتنة كانوا هم حطامها .. فبعضهم جني علي نفسه وذهب ضحية باردة بغير مبرر ولا ثمن ، وبعضهم صار رمادًا تزوره الرياح ، وبعضهم ظن أنه سيقيم الدنيا ويقعدها ، فلما واجه واقع الحياة تخاذل وتراجع وتضاءل حتى تقوقع وصار اسمًا بغير مسمي .

أما الذين بقوا من هؤلاء جميعًا علي قيد الحياة ، و رأوا بأنفسهم أن الهيئة التي رموها بالضعف والتخاذل لأنها لم تطاوعهم في آرائهم بالنبذ إلي الأعداء علي سواء وهي بعد بادرة غضة الإهاب .. رأوها في الوقت المناسب – وقد اشتد عودها – وقد صارت العقبة الكبرى أمام قوي الشر من طغاة ومستبدين ومستعمرين .. ووجدوا أن إخوانهم القدامى – الذين طالما رموهم بالضعف والخور – هم الذين يتصدون بصدورهم لسهام هؤلاء الطغاة لا يهابون ولا يخافون – ورأوا بأعينهم أن صلابة البناء علا بجدرانه حسن البنا في غفلة من قوي الشر هو الذي ثبت أمام الغارات الشرسة المتواصلة التي شنها العدو وزال يشنها دون هوادة .. ورأوا بأعينهم أخيرًا أن الفكرة التي كانوا يتسارون بها لغرابتها علي المجتمع في ذلك الوقت ، قد صارت فكرة عالمية وأصبحت الهيئة التي تنادي بها هيئة عالمية ، حتى من غير دور أو لافتات أو كيان رسمي .

عندما تفقد الدعوة قائدها ومؤسسها ، ويشب الأطفال عن الطوق ، ينسون أيام التدلل ، ويهرعون إلي حمل العبء ، والنهوض بالمسئولية ، فيسدون فراغ القيادة الشاغر باتحاد كلمتهم وائتلاف قلوبهم وتناسي أشخاصهم .

ثامنًا : كيف نؤمن بالقيادة ؟

قد يلاحظ قراء هذه المذكرات أنني لم أفرد بابًا أو فصلاً أسرد فيه صفات قائد هذه الدعوة سردًا . وهو ما اعتاد مسجلو تواريخ الدعوات أن يفعلوه – ومع تقديري لهذا الأسلوب في كتابة تاريخ الدعوات فإنني آثرت العدول عنه لسببين :

أولهما : أن صفات القيادة – مهما اختلفت الدعوات والفكر – صفات معينة . وجه الاختلاف بين قائد وآخر فيها منحصر في مقدار حظه من كل هذه الصفات ، بإفراد باب أو فصل لسرد صفات القائد – والحالة هذه – لن يعدو أن يكون شيئًا مألوفاً وكلامًا معادًا .. والسبب الآخر : هو أنني أري قائد الدعوة والدعوة شيئًا واحدًا أو قل هما شيئًان ممتزجان معاً لا تكاد تميز واحدًا منهما عن الآخر ، أو قل هما شيئًا متكاملان يكمل مكل منهما الآخر ، وتاريخ الدعوات مواقف ، والموقف هو طريقة في معالجة معضلة بأسلوب يحل هذه المعضلة دون مساس بالدعوة .. وطرق معالجة هذه المعضلات هي عرض تفصيلي وتطبيقي لمواهب قائد الدعوة ومقدار حظه من صفات القيادة . ولأن أترك للقارئ التعرف علي صفات القائد ومواهبه ومقدراته وخصائصه من أعماله ومواقفه ، خير من أن ألقنه هذه الصفات بسردها . كما لا يفوتني أن أقرر أنني لم أؤمن بقيادة الدعوة إلا بعد أن خضت معها المواقف ، وقد أحببت أن يكون قرائي علي شاكلتي في تعرفهم علي القائد .. وهذا هو أسلوب في نظري يجنب المؤمنين بالدعوات والفكر غوائل التطرف الذي يعبرون عنه في أيامنا هذه بعبادة الأشخاص ، وهو من أخطر ما يصيب مجتمعًا من المجتمعات ، لأنه يعمي أتباع القيادة عن أخطائها ، فتنحرف بهم هذه القيادة انحرافاً غير مأمون العواقب وهم لا يشعرون .

ولست أنكر أن الإيمان بالقيادة لا يتجزأ من الإيمان بالفكرة . ولكن هناك فرق بين الإيمان المطلق بالقيادة مهما انحرفت بالفكرة من طبيعتها ، وبين الإيمان المقيد بالتزام فكرة جديدة محددة المعالم ، واضحة الأسارير .. ولقد كان إيماننا بقيادتنا من هذا النوع المقيد .. وإذا كان النوع المطلق هو الإيمان الأعمى ، فإن الإيمان المقيد هو الإيمان البصير . ومن هنا كان الإيمان بالفكرة أساسًا لإيمان بالقيادة . فإذا لم تكن الفكرة واضحة محددة ، وارتضت فئة من الناس لنفسها أن تؤمن بها علي هذا الوضع الغائم الباهت المائع ، فإن المؤمنين بالقيادة علي أساس فكرة كهذه لن يشعروا في يوم من الأيام مهما انحرفت قيادتهم أن قيادتهم قد انحرفت .. لأن في ميوعة الفكرة التي آمنوا بها متسعًا لكل انحراف .. ولعل هذا بعض ما تعاني منه بلادنا في هذه الأيام .

وهنا تكمن خطورة أشخاص اختصتهم القدرة الإلهية بحظ لا بأس به من مواهب القيادة ، فاستعملوا هذا الحظ الذي أنعم الله به عليهم في غير ما شرع الله .. استغلوه في تحقيق أغراض شخصية ، وبناء زعامة لأنفسهم تثبت أقدامهم في أسباب السلطة ، مهما اقتضي ذلك من إغفال لمصالح الشعوب التي ائتمنتهم علي مصالحها .. فضلوا وأضلوا وانتهوا إلي كوارث حاقت بهم وببلادهم .. وأخال أن هؤلاء هم الذين أشارت إليهم الآية الكريمة : (                 ) .

تاسعًا : معايير للإيمان عند البلاء :

أصحاب الدعوات الجادة معرضون لألوان مختلفة من المشاق عليهم أن يخوضوها ويصبروا عليها . والقرآن الكريم يزخر بفيض من الآيات التي لا تدع لمؤمن عذرًا أن يهرب من الميدان ، بدعوي أنه بوغت بهذه المشاق التي كان خالي الذهن عنها ، فمثل هؤلاء يفضح كذبهم ما افتتحت به سورة العنكبوت : (   ••     •      •           ) ويصدعهم قوله تعالي : (    •   •      •               •    ) ولو شئنا أن نأتي بعشرات الآيات في هذا الصدد لما بذلنا أي جهد ، ولكننا نكتفي بهذه الإشارة ، وننتقل إلي السنة المطهرة فنقتطف من بستانها الوارف زهرة واحدة ، فهي بمثابة شرح ما أجمله القرآن الكريم .. يقول الأمام أحمد بن حنبل :

حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن صهيب أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : " كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبرت سني وحضر أجلي ، فادفع إليّ غلامًا لأعلمه السحر . فدفع إليه غلامًا فكان يعلمه السحر . وكان بين الساحر وبين الملك راهب ، فأتي الغلام علي الراهب فسمع من كلامه ، فأعجبه نحوه وكلامه ، وكان إذا أتي الساحر ضربه وقال : ما حبسك ؟ وإذا أتي أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلي الراهب فقال : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل : حبسني أهلي . وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل : حبسني الساحر . قال فبينما هو ذات يوم إذ أتي علي دابة فظيعة عظيمة ، قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا فقالوا: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلي الله أم أمر الساحر ، قال : فأخذ حجرًا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضي من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس . ورماها فقتلها ومضي الناس .. فأخبر الراهب بذلك فقال : أي بني ، أنت أفضل مني ، وإنك ستبتلي فإن ابتليت فلا تدل عليّ فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم .. وكان جليس للملك فعمي فسمع به ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : اشفني ولك ما هاهنا أجمع . فقال : ما أشفي أحدًا ، إنما يشفي الله عز وجل ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك ، فآمن فدعا الله فشفاه .

ثم أتي الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس . فقال الملك : يا فلان من رد عليك بصرك ؟ فقال : ربي .. فقال : أنا ؟ قال : لا . ربي وربك الله . قال : أولك رب غيري ؟ قال : نعم ، ربي وربك الله .. فلم يزل يعذبه حتى دل علي الغلام . فبعث إليه فقال : أي بني ، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء ؟ قال : ما أشفي أحدًا ، إنما يشفي الله عز وجل . قال : أنا ؟ قال : لا . قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله . فأخذه أيضًا بالعذاب ، فلم يزل به حتى دل علي الراهب ، فأتي بالراهب فقال : ارجع عن دينك . فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقاع شقاه . وقال للأعمى : ارجع عن دينك ، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلي الأرض . وقال للغلام : ارجع عن دينك . فأبي فبعث به مع نفر إلي جبل كذا وكذا وقال : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه من فوقه . فذهبوا به فلما علوا به الجبل قال : اللهم اكفنيهم بما شئت . فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون . وجاء الغلام يتلمس حتى دخل علي الملك فقال : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله .. فبعث به مع نفر في قرقور (سفينة صغيرة) فقال : إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر . فلججوا به البحر . فقال الغلام اللهم اكفنيهم بما شئت . فغرقوا أجمعون . وجاء الغلام حتى دخل علي الملك فقال : ماذا فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله . ثم قال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به ، فإن أنت فعلت ما أمرك به قتلتني ، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي . قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، ثم تصلبني علي جذع ، وتأخذ سهمًا من كنانتي ثم قل : " بسم الله رب الغلام " فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال : " بسم الله رب الغلام " فوقع السهم في صدغه ، فوضع الغلام يده علي موضع السهم ومات .. فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر ؟ فقد والله نزل بك ، قد أمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران . وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها . قال : فكان الناس يتعادون فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي : اصبري يا أماه فإنك علي الحق " .

وتعليقاً علي هذا الحديث الشريف نقول :

1 – هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده ، ورواه مسلم في صحيحه ، كما رواه النسائي ، وقد جوّده الإمام الترمذي .

2 – قرر هذا الحديث أن الحق والباطل لا يجتمعان في مكان واحد ، وأنهما إذا وجدا في مكان واحد فلابد من صدام ، يبدأه الباطل بالاعتداء ، بعد أن تعوزه الحجة فلا يجد أمامه من سلاح إلا البطش والتنكيل .

3 – يظن أهل الباطل أنهم يستطيعون بما أوتوا من وسائل القهر والبطش والتعذيب والإبادة أن يستأصلوا شأفة الحق ويمحوه من الوجود ، ولكن واقع التاريخ ينبئنا بغير ذلك ، فالعاقبة تكون دائمًا للحق وأهله (               ) .

4 – ليس شرطا علي الله أن يخرق العادات لينجي أهل الحق من بين براثن المبطلين فقد يترك سنن الكون تأخذ مجراها امتحانًا لأهل الحق وإملاءً لأهل الباطل ، حتى يأخذهم بجريرتين جريرة اعتناقهم الباطل ، وجريرة اعتدائهم علي أهل الحق ، وحتى يسجل عليهم الخزي في الحياة الدنيا .. فلا تزال الأجيال المتعاقبة تدرس ممارستهم للظلم ، واعتداءهم علي العزل من أهل الحق ، فتلحقهم بذلك لعنة هذه الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها (           ) .

5 – من أخطر أضرار السلطة ، أنها تبعث في نفس صاحبها أسباب الغرور . ولا يزال هذا الغرور يستبد بصاحبه حتى ينسي أنه مخلوق حقير ، فيدعي الإلوهية . ويظل يعيش في هذا الوهم ضالاً هائمًا لا يوقظه إلا قارعة تصيبه أو تحل قريبًا من داره .. وليته يفئ إلي الحق ، وقد امتلأ صدره بكبر ما هو ببالغه .

6 – هؤلاء المغرورون من أصحاب السلطة لن يعدموا أن يجدوا بطانة تؤمن بباطلهم ، تقدس أشخاصهم ، وتضع نفسها في خدمة ظلمهم ، وتزين لهم أعمالهم ، وتجد سعادتها في مشاركتهم في البطش والإرهاب . وهؤلاء هم الذين يقولون يوم القيامة : (                ) فيرد عليهم الله عز وجل بقوله : (     ) .

   7 – حين يخرق الله تعالي العادات لإنسان مقرب إليه ، لا يفعل ذلك تكريمًا لهذا الإنسان ، بقدر ما يفعله تحقيقًا لأمر عظيم يتغير معه مجري الأحداث ويتبدل به وجه التاريخ . فلم يكن خرق العادات للغلام مجرد تكريم له ، وإنما كان وسيلة لدخول أهل المملكة بقضهم وقضيضهم في الإيمان بعد أن كانوا كافرين . 

8 – لإيمان باللمس حلاوة تهون أمامها كل المرارات ، مرارة الإيذاء والإهانة ، ومرارة التنكيل والتعذيب وحتى مرارة الموت ، وهذا كان حال الراهب وحال الغلام وحال جليس الملك الأعمى وحال أهل المملكة الذين احتشدوا ليشهدوا قتل الغلام .. ولذا فإنهم كانوا يتسابقون إلي النار التي أججها الملك في الأخاديد غير هيابين ولا مترددين ولا جزعين . والإيمان باللمس هو النوع من الإيمان الذي لا يتطرق إليه الشك ، ولا يطرأ عليه الضعف ، ولا يتسرب إليه الوهن ،وهو النوع الذي طلبه إبراهيم من ربه سبحانه حين قال : (                                    •    ) .

   9 – حكم العقل والمنطق كان يقضي – وقد رأي الملك بنفسه صدق الغلام – أن يكون هو أول المؤمنين برب الغلام ، ولكن الذي حدث كان عكس ذلك . فقد جحد وتغطرس ، وازداد إمعانًا في الظلم والعسف فهل كان الملك فاقد عقله ؟ والرد علي ذلك يقرره القرآن في قوله تعالي : (                      ) وفي قوله : (              •              ) . 

فالإنسان ليس مسيرًا بعقله وحده ، وإنما تسيره مع العقل عواطفه وهواجس نفسه والظروف المحيطة به . وهواجس النفس وعواطفها إذا وجدت من البيئة المحيطة به ما يستجيب لها ويفسح المجال أمامها ، وتنطلق متضخمة معربدة حتى تكون لها السيطرة علي صاحبها ، فيقول العقل كلمته ، ولكن هذه تقذف بهذه الكلمة بعيدًا لتكون هي وحدها القاضية الحاكمة .. وأولئك الذين بوأتهم الظروف دست السلطة يجدون ممن حولهم عادة من ينفخون في أوداجهم ، وينفثون في روعهم ما ينسيهم – كما قدمنا – حقيقة أنفسهم ، وتستبد بهم الأوهام يومًا بعد يوم حتى يحملوا الناس علي عبادتهم – وقليل من الحكام من استطاع النجاة من هذا الإخطبوط اللعين .

10- طلب الراهب من الغلام إذا هو امتحن ألا يدل عليه . ولا شك في أن الغلام قد تعهد للراهب بذلك , ثم جاء الامتحان ، وأمر الملك بتعذيب الغلام حتى يدل علي الذي علمه .. وظلوا يعذبون الغلام حتى دل علي الراهب , وأتي الراهب فقتل .

وهنا قضية ينبغي تمحيصها وتتلخص في هذا السؤال :

هل إخلال الغلام بعهده للراهب ،وإفضائه باسمه تحت تأثير التعذيب ، وكشفه لهم عن مكانه . هل في هذا جريمة خلقية تمس الإيمان وتجرحه ؟

لا شك في أن الغلام كان يعلم أن ظفرهم بالراهب معناه قتله ، فهل باء الغلام بذنب مقاتل الراهب ؟ إن الحكم في هذه القضية يهمنا نحن الإخوان المسلمين باعتبارنا أصحاب دعوة تعرضنا لما تعرض له الغلام ،وكان من بعضنا ما كان منه ، وتسبب إفضاء بعضنا بأسماء آخرين في القبض عليهم وإرهاقهم وسجنهم وتعذيبهم وقتلهم .. واعتقد الكثيرون من الإخوان أن هؤلاء الإخوة الذين دلوا علي غيرهم تحت سوط التعذيب ناكثون بعهدهم ، مفرطون في حق دعوتهم ، واعتبروهم قد وهنوا واستكانوا .. وأخذوا يغضون عنهم الطرف حتى شعروا بأنهم منبوذون . إن قصة الغلام تقضي بأن علي الإخوة اللائمين أن يعيدوا النظر علي ضوء هذا الحديث .. فلو كان الإدلاء بشيء مما يرضي الأعداء تحت تأثير التعذيب يجرح الإيمان ، لرفع الله تعالي يده عن هذا الغلام الذي دل علي الراهب ، ولما أبقاه في كنفه ، وأجري علي يديه خوارق العادات حتى أسلم شعب المملكة بأسره علي يديه . علي ذلك أن لا يتناقض مع صريح القرآن حيث يقول تعالي : (             •           ) .

عاشرًا : بعد كل الذي حدث أين الإخوان المسلمون الآن ؟

والآن وقد وضعت التجربة بين يدي القراء الكرام بحذافيرها ، نريد – ونحن نطل الآن علي منتصف الثمانينات – أن نعيد النظر في هذه التجربة ونجبله فيها من أول يوم فيها حتى آخر يوم . ولقد استغرقت التجربة ربع قرن أو يزيد ، وأمكن عرضها في هذه الصفحات ، ويمكن إجمالها في النقاط التالية :

1 – نشأة في أحضان الإخوان المسلمين .

2 – قيام " بالثورة " في حماية الإخوان المسلمين بعد التعهد بجعلها لحساب الإسلام .

3 – نجاح " الثورة " والتملص من العهد .

4 – محاولات لاحتواء هيئة الإخوان المسلمين وتطويعها لإدارة عبد الناصر وأهوائه بوسائل منها :

أ – باللف والدوران حولها .

ب – بإنشاء هيئات ضرار بجانبها .

ج – باستغلال قيادة النظام الخاص في افتعال فتن داخلية .

د – بإصدار قرار بحل الهيئة واعتقال المرشد العام وقيادات الهيئة مع تسوئ سمعتها باللجوء إلي الكذب .

5 – فشل كل هذه الجهود ، واضطرار عبد الناصر للتظاهر بالإذعان مع تنويم الإخوان مستغلاً في ذلك ما هو معروف عنهم من تمسكهم بعهودهم – حيث دبر في ظل ذلك مظاهرات مأجورة قلبت الوضع وجعلته في موقف القوة وجعلت الإخوان في موقف الضعف .

6 – محاولة لتتدارك الموقف بعد أن أخذ في التدهور السريع ، في محاولة للحصول علي هدنة يسترد الإخوان فيها أنفاسهم ويراجعون فيها خططهم علي ضوء واقع جديد ، وفشل هذه المحاولة .

7 – محاولة عبد الناصر خلع المرشد العام ، وتسخير وسائل الإعلام لنشر الأكاذيب عن الإخوان مع حرمان الإخوان من جميع وسائل النشر .

8 – فشل هذه المحاولة وظهوره بنفسه علي المسرح .

9 – استخدامه جميع وسائل البطش والإرهاب عام 1954 ، مما لم يسبق له مثيل بقصد إبادة الهيئة مع تسخير جميع وسائل الدولة وإمكاناتها في ذلك .

10- أحكام الإعدام والسجن المؤبد وبآلاف السنين علي مختلف أفراد الإخوان مع استعمال كل أساليب التعذيب حتى الموت .

11- إعادة الكرة مرة أخري عام 1965 . وكانت الأولي لحساب الغرب أما هذه المرة فكانت لحساب السوفيت – هذه المرة كانت علي أوسع نطاق وبوسائل تعذيب وإبادة مستحدثة للقضاء هذه المرة لا علي الإخوان المسلمين فقط بل علي كل من يمتون إلي الفكرة الإسلامية بسبب من قريب أو من بعيد .

هذه هي خطوات التجربة مجملة غاية الإجمال . وقد فصلنا بجمعها في هذه السطور بعد أن قرأ القراء تفاصيلها لتوجه إليهم بعد ذلك سؤالاً :

هل نجح عبد الناصر فيما كان يريد تحقيقه فيما يتصل بهيئة الإخوان المسلمين ؟ - ولتوضيح هذا السؤال نقول : إن عبد الناصر كان يريد في أول الأمر أن يطوع هذه الهيئة لإرادته ، فلما فشل في ذلك نتيجة وجود حسن الهضيبي حول كل جهوده إلي إزاحة هذا الرجل من مكانه فلما فشل في ذلك قرر القضاء علي هذه الهيئة قضاءً مبرمًا لا قيام لها بعده ، وفعل في سبيل ذلك ما لا يخطر ببال إنسان من البطش والقتل والتعذيب والإرهاب . ومات عبد الناصر والمرشد وآلاف الإخوان في السجون .. فهل حقق عبد الناصر هدفه في إبادة الإخوان ؟ . هل انقرض الإخوان المسلمون .؟ سؤال يجيب عليه الواقع فيقول :

إن هؤلاء الذي ادعي عبد الناصر أنه أبادهم أصدروا مجلة الدعوة فكان توزيعها يفوق الثمانين ألف نسخة من العدد الواحد .. إن هؤلاء الذي ادعي عبد الناصر أنه أبادهم هم الذين رشحوا فردًا منهم في إحدى دوائر الإسكندرية ضد خمسة عشر مرشحًا أكثرهم من وزرائه في أول انتخابات حرة لمجلس الشعب فنجح هذا الفرد وسقط الباقون . هؤلاء الذين اعتقد عبد الناصر أنه أبادهم هم الذين تشهد المناسبات التي تتباري فيها كل الأحزاب والهيئات في إظهار مدي نفو1ذها الشعبي .. فتشهد هذه المناسبات بأن جموع المستجيبين لنداء الإخوان أضعاف المستجيبين للحكومة وحزبها مع ما في الاستجابة لحزب الحكومة من مغريات وما يرجي من حوله من مغانم – بل إن اجتماعاتهم الأسبوعية في بيوت الله – دون دعوة ولا تحضير – تفوق اجتماعات أنصار الحكومة التي تعد لها بكل وسائل الإعداد والإغراء .

لازال الإخوان يحتلون مكانهم المرموق في الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في مصر ، ولازالت تتحرك بإشارتهم عشرات الألوف في كل موقع من مواقع الحياة في مصر – ولازالت فكرتهم عالية شامخة ـ،ولازال تيارهم دفاقًا قويًا يشق طريقه وسط كل التيارات لا يتوقف لحظة واحدة مهما ووجه مده بمعوقات وعقبات . لا ننكر أن الإخوان فقدوا الكثير من الأرواح والأجسام ، ولكنهم لم يفقدوا ذاتهم التي أحاطوها بأرواحهم وأجسامهم فنال البطش كثيرًا من هذه الأرواح والأجسام ولكن ذاتهم لم تمس ، ولم تصل إليه اليد الباطشة ، مع أن الذات كانت هي المقصودة .. لقد كانت ذاتهم في ذلك الوقت متمثلة في مرشدهم ، فلو أنهم فرطوا فيه أو سلموا بتنحيته لذابت فكرتهم في محيط أهواء عبد الناصر ، ولخرجت آخر الأمر شيئًا آخر اسمًا علي غير مسمي ، ولفظًا بلا معني ، كأحزاب الحكومة ، معالم فكرتها ما تحدده لها أهواء رئيسها .. وإذن لحفر التاريخ بيده قبرًا يواري في رفاتها ، ولكانت لافتاتها بعد ذلك عند الشعب بمثابة شواهد لهذا القبر كتب عليها اسم صاحبه . ولكن صبر عشرين عامًا علي أشد ما يخطر ببال من القهر والعذاب والإذلال حفظ لهذه الفكرة تميزها . فلا زال يهتف بها اليوم بنفس الصيغة وبنفس الألفاظ التي هتف بها حسن البنا في أول هتاف له بها – ولازالت تزهي بطهرها وبراءتها ونقائها مثل صرة من الجواهر النفيسة ألقيت في القاذورات .. وأهيل عليها جيل من هذه القاذورات . فلما رفعت هذه القاذورات إذا بالجواهر النفيسة محفوظة داخل صرتها ، محتفظة بلمعانها وبريقها ونفائسها (             •       •• • ••                     •        ) .

إنك لتقابل الأخ المسلم الذي قضي زهرة شبابه في أتون البلاء .. فماذا تقرأ في ملامح وجهه ؟ وماذا تسمع من بنات لسانه ؟ .. إنك لا تلمح إلا الرضا ، وكأن هذا الوجه لم تسل دماؤه تحت أسواط العذاب ، وكأنه لم يضرج بدمائه في الرغام .. ثم إنك لا تسمع منه إلا حمد الله وشكره لا علي أنه نجا من أيدي الظالمين ، إنما علي دعوته خرجت من المعركة سالمة لم تستطع يد الظلم والإرهاب – التي نالت من أصحابها – أن تنال منها ولا أقل القليل .. حقاً صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم : " ألا إن سلعة الله غالية " . لقد فشل عبد الناصر فيما قيض لتحقيقه كل جهوده ،وبذل للوصول إليه كل حياته .. فراح إلي حيث يروح كل جبار عنيد .. راح تلحق به مظالمه .. ولكن دعوة الإخوان المسلمين بقيت كما كانت عزيزة شامخة . ومثل ما كان من أمر الإخوان المسلمين مع عبد الناصر ، كمثل رجل آلت إليه عن أبويه وثيقة يمتلك بها دارًا فارهة عظيمة فجاء أحد أقاربه – وقد نفس عليه أن يمتلك مثل هذه الدار – طامعًا في أن يضع يده عليه ، وحاول ذلك بوسائل وحيل ماكرة فاشلة .. فألب عليه خاصة أهله الأقربين ملوحًا لهم بأنه إذا آلت إليه الدار فسيكونون شركاء فيها – ولكن هذه المحاولة فشلت كذلك .. فراح واستأجر عصابة من المجرمين ، وهاجموا الرجل محاولين استخلاص الوثيقة منه ، ولكنهم وقد استفرغوا كل جهدهم معه وأذاقوه ألوان العذاب حتى شرحوا جسده ضربًا وتجريحًا .. ومع ذلك ظل مستمسكا بالوثيقة .. وخارت قواهم ومات مستأجرهم ففروا هاربين .. وقام الرجل مثخنًا بالجراح ولكن الوثيقة في قبضة يده .

وعند هذا الحد من الكتابة في هذا الفصل فكرت في عبارات أختمه بها ، وأرجأت ذلك بعض الوقت حتى قرأت ذلك بعض الوقت حتى قرأت في 29/7/84 بجريدة الأهرام تحت عنوان " ثرثرة مع الحكيم علي فراش المرض " وهو نقاش يديره الأستاذ صلاح منتصر مع الأستاذ توفيق الحكيم ينشره في حلقات أسبوعية بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو 1952 – وكان دور هذه الحلقة الرابعة من النقاش يدور حول كتاب " عودة الوعي " الذي أصدره توفيق الحكيم بعد وفاة عبد الناصر ، فرأيت أن أنقل منه فقرات تكون خاتمة لهذا الفصل :

يقدم الأستاذ صلاح منتصر لنقاشه مع الحكيم بهذه المقدمة : لماذا كتب توفيق الحكيم " عودة الوعي " لماذا قال عن عبد الناصر ما قاله بعد أن مات ، وهو الذي منحه حيًا أرفع الأوسمة وأعلاها ؟ ماذا يقول لعبد الناصر عندما يلتقي به في الآخرة ؟ ثم وجه إليه السؤال :

سؤال : ما الذي بهذا المفهوم أردت أن تقوله في " عودة الوعي " ؟

الحكيم : أن تفتح الملفات .. أن يكون هناك نقد موضوعي للنظام الذي استقبلته بالحماسة والذي تحول شيئًا فشيئًا إلي نظام بوليسي ، وأدي إلي هزيمة منكرة من عدو صغير . هزيمة أي دولة عسكريًا ليست مصيبة . ولكن المصيبة الأعظم والأكبر والأخطر في هزيمتنا من إسرائيل هي أن البرلمان المفروض فيه أن الشعب اختاره ليسأل ويستجوب ، لم يجرؤ نائب واحد من أفراده أن يقف ويقول : إنه مع حبنا وإجلالنا العميق لزعيمنا ، فإننا في إطار حبنا له وإخلاصنا له وللثورة فإننا نريد أن يوضح لنا أمرًا واحدًا .. كيف وقعت الهزيمة . مجرد سؤال يلقيه نائب واحد بكل الاحترام .. لم نسمعه .. وبدلاً من ذلك فإن الذي حدث في مجلس الشعب عندنا بعد الهزيمة هو الرقص ؟! نعم .. نائب يرقص ؟! . إذن كنا وكان نوابنا في حالة وعي وعي غائب ، أو في نظام جعل الناس يعتادون الهتاف والتصفيق . وغاب عنهم الوعي بضرورة السؤال والمناقشة .

سؤال : ماذا تقول لعبد الناصر عندما تلتقي به في الآخر ؟ لو سألك في هذا اللقاء عن أخطائه في الحكم فماذا سوف تقول له ؟ .

الحكيم : سأقول له : إنك حاولت أن تكون أبًا يفعل ما لا يجوز أن يفعله الأب ، عندما يحدد لابنه كل خطواته ، ماذا يأكل وماذا يشرب ، ومن يحب ومن يكره ، ومن يتزوج ، وماذا يقرأ ، وماذا يقول ، وأين يسهر ، ومن يصادق ، ومن يعادي . سأقول له : إنك جعلت البلد في إطار من صنع عبد الناصر . وهذا أدي بنا إلي فقد شخصيتنا ، ووصل بنا إلي فقد وعينا . وعندما وقعت الهزيمة لم يجرؤ واحد علي الوقوف وتوجيه مجرد سؤال بسيط عن سبب ما حدث . وسأقول له أيضًا : إنك حجبت قراءة تاريخ مصر عن الشعب ، وإنك أمسكت تاريخ مصر وضغطته ووضعته في جيب الثورة ،و هذا ما أضعف شخصية مصر ، بينما كانت مسئولياتك أن تثقف الشعب وتعلمه وتجعله يختار الطريق الذي يريده .

هذا .. وهناك نقطة هامة لا يفوتني أن أنبه إليها وأعدها غاية في الأهمية ، تلك هي أن الخطة التي وضعت بإحكام للقضاء علي الإخوان المسلمين – والله يعلم أين وضعت هذه الخطة هل في مصر أم في خارج مصر – كانت أن يقضي الإخوان المسلمون بأنفسهم علي أنفسهم حتى يكون القضاء بذلك قضاءً مبرمًا لا قيام بعده . ولكن الذي حدث أن كل الأساليب التي خطط لها ليكون القضاء عن طريقها لهذه الطريقة – باءت جميعًا بالفشل .. فلم يبق أمام المخططين والمنفذين إلا الطريق الوحيد الذي حاولوا تفاديه من قبل وهو طريق المواجهة ، وهو طريق بالرغم من كل ما فيه من قسوة وفجور ووحشية ، فإنه لا يؤدي إلي النهاية إلي القضاء علي هيئة تقوم علي أسس راسخة من المبادئ السامية ، والتربية الروحية الصافية والارتباط القلبي بخالق الكون .. وهم كانوا يعلمون ذلك ولكن لم يكن أمامهم من سبيل آخر بعد أن جربوا كل وسائل التفجير من الداخل . وهكذا تفادى الإخوان المسلمون – بتوفيق من الله وحده – قفزة الموت التي حوصروا من كل مكان حتى يقفزوها ، ولكن الحق تبارك وتعالي عصمهم وأبقي عليهم .

وهكذا وصلت إلي هذا القدر في المذكرات التي أنقلها من مسوداتها ، وجدتني كنت في هذه المسودات قد تجاوزت هذا القدر وكتبت عن عهد السادات إلي أواخر عام 1971 . ويبدو أنني حين كتبت عن هذا العهد إلي هذا التاريخ قد خطر لي آنذاك أن أضمن هذا القدر من عهد السادات الجزء الثالث فيه ، ولكن خطر لي في الوقت خاطرة أخري جعلتني أذيل ما كتبت بالعبارة الآتية التي أنقلها للقراء من المسودات : " ولابد أن القارئ واجد نفسه مشغوفاً إلي مواصلة قراءة التعليق علي ما جد من أحداث بعد ذلك ، ولكننا نقف في هذه المذكرات عند هذا الحد ، لأنه الحكم الصحيح لا ينبغي أن يجتزئ فترة من عهد من العهود فيحللها ويصدر حكمه عليها ، بل ينبغي أن يتريث المراقب حتى يتم العهد كاملاً بما فيه من سلب وإيجاب ، فينظر فيه نظرة شاملة تستوعبه جميعًا ، فإذا أصدر حكمه حينئذ كان أقرب إلي العدالة والصواب .


الفصل الثاني : كبح مؤامرة اشرأبت بعنقها مرة أخري

في الفصل الخامس من الباب الرابع من الجزء الثاني من هذه المذكرات ، وفي صدر الحديث عن " حسن البنا وكبار الدعاة في العالم الإسلامي في العصر الحديث " بعد أن استعرضت عددًا من أبرز هؤلاء الدعاة ، وألمحت بلمحة سريعة مجملة عن معالم أسلوب كل منهم في الدعوة ، وعقبت علي ذلك ببيان عن موقف حسن البنا من هؤلاء الدعاة .. وفي صفحة (300) كتبت نحو خمس صفحات تحت عنوان قصدت أن يكون بارزًا يلفت النظر ، نصه : " مزيد وتحذير من تدبير خطير – تجريح قادة الدعوة الإسلامية أسلوب خبيث لهدم هذه الدعوة في نفوس المسلمين " . والمطالعون لهذا الجزء من الكتاب قد يحسون – حين يقرأون هذه الصفحات الخمس – أن هذه الصفحات قد أقحمت علي السياق إقحامًا .. ولمن أحس بهذا الشعور من القراء العذر ، فلقد كان هذا الجزء من الكتاب معدًا للطبع دون أن يكون فيه هذا الموضوع . ولكن موقفًا طرأ في آخر لحظة ألزمني أن أقحم هذه الصفحات .

ومن حق القراء أن يحيطوا بهذا الموقف علمًا ، لاسيما وقد أثبتت الأحداث بعد ذلك أنني كنت محقاً في المسارعة إلي الكتابة فيه والتخدير من أخطاره . ذلك أنه بعد أن نشر الجزء الأول من هذه المذكرات جاءني أحد الأحباب يستأذنني في أن يزوروني أربعة من الإخوان ليعرضوا بعض ملاحظات لهم فيما يتصل بنقاط معينة فيه ، فرحبت وحضر الأربعة الذين لم أكن قد شرفت بمعرفتهم ومعهم إخوان وثيقا الصلة بي .. والإخوة الأربعة من الجيل الإخواني الحديث . المثقف المتطلع إلي المعرفة ويشغلون مناصب تعليمية مرموقة . وكانت أكثر ملاحظاتهم استفسارًا قمت ببيانه .. حتى داهموني آخر الأمر بملاحظة أذهلتني . وقد استغرقت ملاحظتهم هذه أكثر الوقت . وتبين لي أن هذه الملاحظة ليست مجرد ملاحظة ، بل هي اعتراض منهم علي نقطة معينة كانت هي بيت القصيد والغرض الأصيل من زيارتهم .. لأنني لاحظت في عرضهم لحججهم في هذا الاعتراض أنهم كانوا في أكثر الوقت يرجعون إلي ورقة بأيديهم يقرأون منها بعض نصوص كأنما نقولها من مرجع من المراجع .

وقد صبرت حتى أنهم ما عندهم .. فسألتهم عن هذا المرجع الذي استقوا منه هذه المعلومات ، فلما علمته تكاملت صور الموضوع في خاطري ووضح لي أن هؤلاء الإخوة الأربعة إن هم إلا ضحية مؤامرة محبوكة الأطراف للقضاء علي الدعوة الإسلامية وهدمها في نفوس المسلمين بطريقة ماكرة مبتكرة . وإذا كان هؤلاء إخوانًا مسلمين ووقعوا في حبائل هذه المؤامرة فما بالك بعامة المسلمين ؟! . وكان الذي أتم صورة المؤامرة في خاطري أنني أعرف عن مؤلف المرجع الذي يرجعون إليه مالا يعرفه غيري وغير أو خمسة من قادة الإخوان المسلمين حين كنا طلبة بالجامعة وكان هذا المؤلف زميلاً لنا طالبًا في كلية الآداب .

والعجيب في الأمر أن موضع الاعتراض الذي استغرق منهم في مواجهتي به أكثر الوقت وأطول الحديث – وكان الحديث كله من جانبهم فقد كنت في موقف المستمع عبارة وردت في صفحة من الجزء الأول في صدد حديثي عن مقال لي كنت كتبته في مجلة الإخوان المسلمين فقلت :

" وقد تحدثت في هذا المقال عن تسلسل قيادات الدعوة الإسلامية في العصر الحديث ومنها جمال الدين الأفغاني ثم الإخوان المسلمون ، ووزانت بين هذه الأطوار للدعوة الإسلامية ، وأثبت أن دعوة الإخوان استوعبت الدعوتين (دعوة جمال ودعوة السنوسية) وزادت عليهما بنظام أشمل ، وقيادة أشد إحكامًا وأبعد نظرًا " . فكان اعتراضهم منصبًا علي ذكر جمال الدين الأفغاني باعتباره أحد قادة الدعوة الإسلامية .. وأخذوا يكيلون له التهم ،و يصمونه بالماسونية ، ويتهمونه بالعمالة للمستعمرين ، ويشككون في إيمانه ، مستقين كل هذه التهم من المرجع الذي أشرت إليه ، والذي كان صاحبه ، يشغل في ذلك الوقت منصبًا مرموقاً في جامعة الإسكندرية . ولما أنهي إخواننا هؤلاء كل ما عندهم من " معلومات " في تحطيم شخصية جمال الدين الأفغاني ، اتجهوا إليّ ينتظرون مني جوابًا .. غير أني اعتصمت بالصمت لحظة وفي صدري مرجل من الغضب يغلي ويتأجج .. فلما ألحوا في سماع جوابي انفجرت قائلاً :

أيها الإخوة .. صدقوني إذا قلت لكم إن هذه الليلة هي من أسوأ ما مر بي في حياتي من ليال .. إن ما سمعته منكم الآن مصر قلبي وفتت كبدي .. إنكم أربعة من خيار الإخوان المسلمين ، وقد وقعتم مع ذلك في حبائل مؤامرة خبيثة حيكت بدهاء ومهارة للقضاء علي الدعوة الإسلامية بتشكيك المسلمين في قياداتهم ، و بإفقادهم الثقة فيهم .. وإذا كنتم لا تعرفون مؤلف المرجع الذي ترجعون إليه فأنا أعرفه .

وصدر الجزء الثاني من هذه المذكرات في أول يناير عام 1981 وقد أقحمت فيه الصفحات الخمس .. وكنت أعتقد أن المؤامرة قاصرة علي هذا المرجع الذي يرجع إليه أصحابنا ، وقد ألمحت في الصفحات الخمس إلي تاريخ مؤلفه وعلاقاته بالجهات المشبوهة مما قد يضئ الطريق أمام الباحثين والمطالعين فلا يأخذوا الكلام علي عواهنه دون أن يعرفوا ما وراءه وما حوله .. وقلت إنها مؤامرة دست علينا سمومها في هذا المرجع ، وحمدت الله أن أتاح لنا فرصة لقاء هؤلاء الإخوة فتنبهنا لها ووضعنا علامة الخطر علي رأس الطريق فلم يعد خطر يخشي بعد ذلك علي أحد .

وإذا الرواية لم تتم فصولاً !!

ولكن تنبين أننا كنا مسرفين في حسن الظن ، حين ظننا أننا قد لممنا بساط الفتنة من جميع أطرافه ، وأحطنا بوميض نارها من جميع جهاته .. فلقد فوجئنا بالفتنة تشرئب أعناقها من جديد ، وتنطلق ألسنة لهيبها من بعيد – وإن كان البعيد لم يعد في زماننا هذا ببعيد – فقد قصرت وسائل الإعلام الحديثة المسافات بل ألغتها ، فالكلمة تلقي في آخر الدنيا فتقتحم عليك في نفس اللحظة وأنت هادئ في بيتك في أول الدنيا .. ولم تعد لإنسان حصانة أمام وسائل إعلام اليوم إلا التحصن بوسائل إعلام مماثلة تدفع عنك غوائل أخواتها . جاء في شهر إبريل من عام 1983 فرأينا الدكتور لويس عوض الكاتب المصري يكتب " بحثا في مجلة التضامن " التي تصدر في لندن باللغة العربية تحت عنوان " الإيراني الغامض في مصر " ويقود في بحثه نفس الحملة الشعواء التي كنا قد تصدينا لها في الجزء الثاني من كتابنا .. ولكن الحملة هذه المرة كانت أشد خطرًا لأنها ليست بين دفتي كتاب قلّ من يفكر في اقتنائه ، وإنما تصدر هذه المرة في مجلة سيارة دورية تصدر في عاصمة من أعظم عواصم العالم ، تصل بكل سهولة إلي يد كل قارئ ، فتجد من يقرأها وتجد من ينقل عنها ومن فاته قراءتها هذا الأسبوع سيقرأها في الأسبوع التالي " والبحث " مسلسل .

ومهما قيل عن تقطع أوصال المسلمين ، وتشتت جماعتهم ، وغفلتهم عن دينهم ، وتفريطهم في حق تاريخهم ، فإن هناك ومضات تنبعث بين الحين والحين في ظلمات ليل هذه الأمة الطويل ، تضئ فتبعث الأمل من جديد .. ومن هذه الومضات انبعث فسطعت علي بحث الدكتور لويس عوض في مجلة " التضامن " فبددت ضبابًا اصطنع حول هذا البحث فكشفت عن حقيقته ، وانعكست هذه الومضة في صورة سلسلة مقالات ضافية دبجتها أقلام أعلام في الأدب والعلم والتاريخ أجهضت مؤامرة الدكتور لويس عوض ، وأظهرت زيفها ، وكشفت عن سوء النوايا من ورائها ، ونبهت الأذهان إلي خطورتها ، وحذرت – كما حذرنا – من الانخداع بأباطيلها . ولما كان الرد الذي تولته جريدة الأهرام لم يكن ردًا علي مجرد مقال ، وإنما هو التصدي لمؤامرة عالمية لم يكن الدكتور لويس عوض أكثر من مجرد اسم لكاتب رضي لنفسه أن يتخذه المتآمرون ستارًا يلعبون من ورائه فقد نشرت " الأهرام " عشرات المقالات ، وقد استغرق نشرها نحو ستة أشهر ، بدأت في أواخر أغسطس 1983 بافتتاحية للأستاذ أحمد بهجت ، وختمت بمقال في 17 سبتمبر 1983 ، ثم عاد في الشهرين الأولين من عام 1984 إلي الموضوع بتقديم كتاب للدكتور محمد عمارة عنوانه " حقيقة جمال الدين الأفغاني " . ولما كان التسجيل الكامل لهذه المقالات يقتضي أن يفرد له كتاب مستقل فقد رأيت أن اجترئ هنا نماذج من هذه المقالات مما هو في صميم موضوعنا . الأفغاني .. بين الحقيقة والافتراء

هذا هو العنوان العام لجميع المقالات التي كتبت في هذا الصدد في " الأهرام " وقد افتتحها الأستاذ أحمد بهجت في 29/8/1984 بالكلمة التالية :

أيها السادة المثقفون ، لقد كنا ضحية خديعة فاجعة .. كنا جميعًا مخطئين حين تصورنا أنم السيد جمال الدين الأفغاني رجل يوزع السعوط بيمناه ، وينشر الثورة بيسراه . كنا مخدوعين حين تصورنا أن جمال الدين الأفغاني ثائر إسلامي ، ومصلح اجتماعي ، ورجل عظيم أيقظ الشرق من سباته .. إن جمال الدين الأفغاني هو عكس ما كنا نتصور .. إن اسمه ليس هو اسمه .. إن اسمه أفغاني بينما هو إيراني .. وليته كان إيرانيًا فحسب . إنما هو الإيراني الغامض . وهو غامض لأنه أفاق مغامر متلون ..

هذا الاكتشاف " الهزلي " الجديد يدين بوجوده الدكتور لويس عوض . كشف عنه في سلسلة المقالات التي يكتبها لمجلة عربية تصدر في لندن .. ويسمي الدكتور لويس ما ينشره " بحثًَا جريئًا " .. والأصل في البحث أن يتحري الحقيقة ، ويحلل الأحداث والمواقف ، ويضئ جوانب كانت غامضة ، بهدف نهائي هو اكتشاف الحقيقة .. أما بحث الدكتور لويس ليس كالبحوث . فهو بحث جرئ .. ومن ثم فهو لا يلتزم بأصول البحث ، ولا يرجع إلي المراجع المحترمة أو المعتمدة ، وإنما يستند إلي مراجع تشبه تقارير المخبرين السريين التي يكتبونها عن ثائر ، فيصفونه بكل رذيلة وشر ، ويسندون إليه كل نقيصة وبلية .. وشر البلية ما يضحك . ويبدل الدكتور لويس عوض جهدًا كبيرًا في بحثه المزعوم ، بينما الحقيقة أنه يرسم صورة كاريكاتورية للأفغاني ، صورة تفتقر إلي الفن وإن كان هدفها السخرية والتشويه وإسقاط الاحترام ويبدو عبث المحاولة في الجهد الشديد الذي يبذله الدكتور وهو يلوي عنق الأحداث ويستشف منها ما يحاول به تشويه صورة الأفغاني والخميني . ولعله يفرد لنا بحثًا في بحثه الجرئ يربط بينهما ولو بأي رباط . لا يهم لنا أن يكون الأفغاني قد مات قبل ميلاد الخميني . فإن الدكتور لويس يكتب بحثه وفي وطنه أن الناس لا تقرأ ولا تكتب ولا تفهم .

إن تحطيم صور الثائرين المسلمين في تاريخنا يستهدف عزلنا عن الماضي ،ومحاصرتنا في الحاضر ، وتجريدنا من ثروتنا في الأبطال والزعماء ، حتى نصير إلي الفقر والوحدة ، فيسهل إقناعنا بأـي هراء يصبه أصحاب المصالح في عقولنا .. هذا هو هدف كما نري يصعب السكوت عليه . ومن هنا جاء جهد " الأهرام " في الرد . وبعد هذه الكلمة الافتتاحية ننقل مقالين للدكتور جابر قميحه بجامعة عين شمس نشرًا في يومين متتاليين يومي 5/9/83 ، 6/9/983 الأول تحت عنوان :

قصور البحث .. وغياب المنهج

ولد جمال الدين الأفغاني في قرية " أسد آباد " بالقرب من مدينة همدان في غرب إيران . وليس في قرية " أسد آباد " الأفغانية . ونشأ نشأة شيعية . وتلقي التعليم علي أيدي الشيعة والبهائيين " مجلة التضامن العدد الأول " .. ومعروف أن الشيعة يؤمنون بالتقية أي كتمان الآراء والمعتقدات وإظهار الإنسان خلاف ما يبطن .. وقد نشأ الأفغاني في هذه التقاليد الشيعية التي جعلت منه إنسانًا مزدوج الشخصية بل ومتعددها ، يفصل الكلام والتعاليم بحسب من يخاطبه ، وبحسب ظروف الزمان والمكان حتى بدت تعاليمه وأقواله مأثورة ومواقفه وتحركاته جملة من المتناقضات التي يصعب نسبتها إلي رجل واحد (التضامن العدد الثاني) ولم يكن الأفغاني متدينًا بالمعني المفهوم . ولكنه كان ينظر إلي الدين كمجرد دافع للجماهير الجاهلة لتحصيا الاستقلال السياسي أو بناء الإمبراطوريات (التضامن العدد الثالث) .

وفي شبابه كان متفرنجًا ، لا يعيش كالمسلمين ولكن يعيش كالأوروبيين . وفيما يبدو لا يتبع دينًا معينًا (التضامن العدد الرابع) – وكان يجاهر بعصيان الدين أثناء إقامته في كابول فكان يفطر علنًا في رمضان (التضامن العدد السادس) فلما جاء إلي مصر شدد ليه رياض باشا أن يهتم بشعائر الدين حتى تقبله بيئة الأزهر (التضامن العدد السابق) وقد ظهر في مصر لا في صورة المفكر والسياسي فحسب ، بل في صورة زعيم إرهابي يمكن أن ينظم الجمعيات للاغتيال السياسي علي غرار ما كان يفعله الفوضويون في أوروبا (التضمن العدد الثامن) .

عنوان البحث يبرر أمامنا نقاط مهمة هي :

1 – منطوق العنوان " الإيراني الغامض في مصر " . وهو بذلك يعد حكمًا قاطعًا – من ناحية – بأن جمال الدين إيراني الجنسية . مع أن الراجح كما سنري أنه أفغاني المولد . وهو من ناحية أخري يقطع بأن شخصيته " غامضة " ذات دروب خفية وخبايا . وذلك يعني أن ما كتبتنه عنه أقلام أخري من صراحة وجرأة ووضوح وتدين ليس بشيء .

والعنوان بهذا المنطوق المثير يذكرنا بعناوين القصص والأفلام البوليسية المثيرة مثل " القاتل المجهول " و " الرجل الخفي " .

2 – يأتي نشر حلقات البحث بهذا العنوان المثير في وقت أصبح فيه لكلمة " الإيراني " انطباع سيء في نفس القارئ العربي خصوصًا المصري ، فهو لا يطرق سمعه الآن عن الثورة الإيرانية وزعيمها إلا ما يحزن ويؤلم ويثير الأسى والنقمة فما بالك إذا كان هذا " الإيراني " إيرانيًا غامضًا . وكأني بهذا التوقيت الزمني يهدف إلي خلق لون من " اللقاء أو الربط النفسي " بين الحاضر والماضي القريب الذي عاشه جمال الدين " الإيراني " ، وأن يقرأ العربي عن جمال الدين وطيف الخميني لا يفارق خاطره ، وأن يتابع حركات جمال الدين وهو أسير الانطباعات التي تثقل كاهله عن الثورة الإيرانية .

3 – إن مجلة التضامن دأبت علي تصدير كل حلقة من حلقات البحث بعبارة " بحث جرئ عن جمال الدين الأفغاني " وهو وصف يعكس إيحاءً قويًا بأن هذه الحلقات فيها خروج وتمرد علي ما كتبه وعرفه الناس عن جمال الدين مع أن البحوث – وخصوصًا الأكاديمي منها – لا توصف عادة بالجرأة أو الجبن ، ولكنها توصف عادة بالموضوعية والتجرد أو بالهوى والتحيز .

واعتقد أن القارئ يشهد بالبراعة والتوفيق للمجلة والكاتب في نطاق هذه الثلاثية التي ذكرتها : فمنطوق العنوان : حكم جازم بالإدانة المسبقة علي شخصية " يعتقد " أنه قمة من قمم الشرق فكرًا ودينًا وخلقاً – وتوقيت النشر : أصاب المحز – كما يقولون – إذ جامع مع جو نفسي مهيأ لتقبل أي مذبحة فكرية – مهما كانت ضراوتها – لكل ما هو إيراني . والوصف بالجرأة بعد ذلك يعضد من قيمة البحث – ويمنح البحث وصاحبه شهادة بالتجديد والتحرر الفكر . ولكن دعك من هذا العنوان ولننظر إلي طبيعة الأحكام التي " خلعها " الدكتور لويس – بكرم فياض – علي جمال الدين الأفغاني . إنها في إيجاز – تقف علي طرف مناقض تمامًا لما كتبه علماء غربيون عرفوا بسعة الثقافة والقدرة علي التعمق والتحليل والتمحيص من أمثال : رينان وبراون وجولد زيهر ولوثر ستوردارد . ونكتفي بسطور قليلة مما قال براون عنه : " كان جمال الدين فيلسوفاً وكاتبًا وخطيبًا معًا . وكان يرمي إلي تحرير هذه الدول (الشرقية) من النفوذ الأوروبي واستغلال الأوروبيين ، والنهوض بها نهوضًا ذاتيًا من الداخل " .

وحتى ارنست رينان الذي هام الإسلام في إحدى محاضراته بالسربون . وتصدي له جمال الدين ناقضًا ما ذهب إليه في مقال نشره جمال الدين في الجريدة الباريسية " جورنال دي ديبا " – يقول رينان عن جمال الدين في رده علي مقاله : " تعرفت بالشيخ جمال الدين من شهرين ، فوقع في نفسي منه ما لم يقع إلا من القليلين ، وأثر فيّ تأثيرًا قويًا . وقد جري بيننا حديث عقدت من أجله النية علي أن تكن علاقة العلم بالإسلام هي موضوع محاضراتي في السربون .. والشيخ جمال الدين نفسه خير دليل يمكن أن تسوقه علي تلك النظرية العظيمة التي طالما أعلناها ، وهي أن قيمة الأديان بقيمة من يعتنقها من الأجناس . وقد خيل إليّ من حرية فكره ونبالة شيمه وصراحته – وأنا أتحدث إليه – أنني أشهد ابن سينا أو ابن رشد .. " . كذلك جاء ما كتبه الدكتور لويس مناقضًا تمامًا لما كتبه علماء شرقيون عدول من أمثال محمد عبده ورشيد رضا ومحمد باشا المخزومي وأحمد أمين وعبد الرحمن الرافعي والدكتور عثمان أمين والدكتور محمود قاسم وكذلك سليم العنحوري الشامي المسيحي المهاجر الذي اتهم جمال الدين بالإلحاد ثم تبين له وجه الصواب ، فكتب معترفاً بخطئه فيما رمي به الرجل العظيم ، ولم تأخذه العزة بالإثم .

وأعتقد أن أعدي أعداء جمال الدين وأعدي أعداء الشرق الذين فقدوا جمال الدين وشوهوا بعض جوانب شخصيته لم يبلغوا بعض ما بلغه الدكتور لويس في حلقات بحثه " الأكاديمي " من سلب جمال الدين كل محمدة من محامده ، وقذفه بكل هذا الفيض الغامر من النقائض والمثالب . حتى يظن من يجهل تاريخ الرجل أنه كان " مسخًا " في فكره ودينه وغاياته ورسائله . ولا أدعي أن جمال الدين فوق النقد ، فهو بشر يخطئ ويصيب ، ويخفق وينجح . كما أن أقوال السابقين وشهاداتهم للرجل لا تلزم الباحث أن يتبع نفس المنهج ، ويستقي من نفس المشرب ، فمن حقه أن يرفض بعض ما قيل عن جمال الدين بل كل ما قيل عنه ، ومن حقه أن يفجع الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي الناهض في شخصية كان لها أثرها البالغ العميق في البحث الفكري والنهوض السياسي والديني . من حق الدكتور عوض أن يفعل كل أولئك . ولكن من حقنا – وقد صدرنا مقالنا بأحكامه – أن نبحث عن ركائزه العلمية التي اعتمد عليها ، ومصادره التي استقي منه ، ومنهجه في التعامل مع المعطيات التاريخية التي أثرت في مجريات السياسة والفكر ، وتفاعلت مع شخصية جمال الدين وتأثرًا وتأثيرًا . وحتى أكون أمينًا مع نفسي وقارئي أعترف بأنه كان ثمة سؤال يلح عليّ أثناء قراءتي مقالات الدكتور لويس وبعد انتهائي منها وهو : ما حكمنا علي من يكتب السيد تاريخ السيد المسيح عليه السلام – معتمدًا اعتمادًا كليًا أو شبه كلي – علي أقوال الفريسيين واليهود " أبناء الأفاعي " و " خراف إسرائيل الضالة " كما كان يصفهم السيد المسيح عليه السلام ؟ " وما حكما علي من يكتب تاريخ النبي محمد – عليه السلام – اعتمادًا علي تصورات الكفرة من أمثال أبي جهل والمنافقين من أمثال عبد الله بن سلول واليهود من أمثال حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ؟ .

اعتقد أن السؤال في غني عن جواب . واعتقد أنه ما خطر لي أو ما فرض نفسه علي إلا لأني رأيت الدكتور لويس يجعل ركيزته الكبرى في بحثه الجرئ " الوثائق البريطانية " – وهو حين يتحدث عن هذه الوثائق يتحدث عنها بتقدير وإجلال وثقة كاملة بعبارات تجري مع النسق التالي : " وقد أثبتت الوثائق البريطانية .. " و " أكدت الوثائق البريطانية " وكأن الدكتور لويس يجهل أن هذه الوثائق إنما هي وثائق الرجال الذين عاش الأفغاني يحارب إمبراطوريتهم في كل مكان يحل به ، ويؤلب عليهم الشعوب ، ويلهب ضدهم المشاعر . وما يقوله كبار المسئولين الانجليز من أمثال السير فرانك لاسيز قنصل انجلترا العام في مصر عن جمال الدين من وصفه بالعمل علي نشر مبادئ الفوضى . وما يقوله مراسل التيمز في رسالة يصف فيها الأفغاني بأنه " ذو ماض مريب " (التضامن العدد الأول) . كل هذه الأقوال لها عند الدكتور لويس احترامها وقدسيتها . بل إن الدكتور لويس يفتح صدره في سماحة وكرم لتقارير الجواسيس فيكب (في العدد الأول من التضامن) بالحرف الواحد : " انظر إلي هذا التقرير الذي كتبه موظف في حكومة كابول سنة 1868 كان يعمل جاسوسًا لحساب الانجليز . والتقرير بعنوان : سجل بأوصاف السيد الرومي في كابول (يقصد جمال الدين) يشتبه أن يكون عميلاً روسيًا يخدم في دوبارة (بلاط) كابول " .

وتنتهي كل هذه التقارير والوثائق إلي أن الأفغاني كان عميلاً روسيًا مأجورًا بل وأكثر من ذلك كان عميلاً مزدوجًا ، وهذا ما يرجحه الدكتور لويس عوض ويطمئن إليه (التضامن العدد الرابع) . أما ما يقوله جمال الدين عن نفسه تعبيرًا عن فكره ومعتقده فهو مرفوض عند الدكتور لويس عوض . أما شهادة طلابه ومريديه ومعايشيه من أمثال محمد عبده ورشيد رضا والمخزومي فموضع شك كبير عند الدكتور لويس عوض . وإلي هنا انتهي المقال الأول للدكتور جابر قميحه ونبدأ في نقل الثاني بعنوان : "التزوير وأمانة الكلمة " .

استعرضنا بالأمس الصورة الممسوخة التي رسمها الدكتور لويس وتحدثنا عن الطبيعة العامة لأحكامه ، وكيف كانت في مجموعها متناقضة مع ما قاله غربيون وشرقيون أعمق فكرًا وأوسع ثقافة .. ورأينا كيف جعل الكاتب مصدره الأساسي تقارير الجواسيس ووثائق الحكومة البريطانية التي عاش الأفغاني حربًا عليها في كل مكان يحل به واليوم نري مع قرائنا كيف تعامل الأستاذ الأكاديمي مع النصوص وأحداث التاريخ . فلنسر مع هذا " الخط المنهجي " – إلي حين – ولننظر في نصوص الدكتور لويس ووثائقه ووقائعه ، وسنكتشف أنه – فيما يستخلصه ويستنبطه من نتائج وأحكام – يحملها – لا أقول أكثر مما تحتمل فحسب – بل يحملها – في كثير من الأحيان – مالا يمكن أن تحتمله إطلاقاً ، ولنعايش بعض الأمثلة :

1 – أغلب الأحيان شرقيها وغربيها – تؤكد أن جمال الدين أفغاني المولد – سُنَّي المذهب ، وأنه ولد في أسعد أباد وهي إحدى القرى التابعة لخطة كنر بالأفغان – ويرتقي نسبه إلي الحسين ابن علي . وممن حقق ذلك بدقة واستفاضة المؤرخ العظيم عبد الرحمن الرافعي في كتابه القيم عن جمال الدين . ولكن بعض الإيرانيين يزعم أنه ولد في قرية " أسد أباد " الإيرانية وهو قول لا دليل علي صحته . وإن كان هذا التنافس علي نسبة جمال الدين يعد في ذاته بعظمة الرجل وعذر مكانته . وجمال الدين نفسه قد حسم هذه القضية بما نقله عنه أقرب الناس إليه مثل محمد عبده وشكيب أرسلان وعبد القادر المغربي فمن أقوال جمال الدين : " ونظرت إلي الشرق وأهله فاستوقفتني الأفغان ، وهي أول أرض مس جسمي ترابها " . وقوله مرة أخري : " .. وقد اضطررت لترك بلادي الأفغان " .

2 – ويذهب الدكتور لويس إلي أنه كان يؤمن بالقضية ويظهر خلاف ما يبطن – مع أن التاريخ يقطع بأن حياة الأفغاني كلها كانت سلسلة متصلة الحلقات من الجرأة والشجاعة والصراحة .. وقد كلفه ذلك من جهده وصحته واستقراره الشيء الكثير . وكثيرًا ما كانت شجاعته تتحول إلي حدة وهياج في مواجهة القادة والزعماء يقول عنه محمد عبده : " وهو شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه . إلا أنه حديد المزاج ، وكثيرًا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة " – وحينما كتب محمد عبده من مصر كتابًا لجمال الدين وهو في الأستانة كتابًا غفلاً من " الإمضاء " ويظهر أن ذلك خوفاً من الرقابة – أرسل إليه يؤنبه في ذلك التصرف قائلاً : " .. تكتب ولا تمضي ؟؟ أمامك الموت ولا ينجيك الخوف ، فكن فيلسوفاً يري العالم " ألعوبة " ولا تكن صبيًا هلوعًا " .

ويسبب صراحته وجرأته " جرد " عليه شاه إيران ناصر الدين حملة من خمسمائة جندي وسحبوه مسلسلاً في الحديد وألقوا به خارج البلاد وهو مريض في يوم جليدي شديد البرد ، فأخذ يهيج مشاعر الناس علي الشاه في كل بلد يحل به .. ولما استقر به المقام في الاستبانة طلب منه السلطان عبد الحميد أن يكف عن مهاجمة الشاه ، فقال جمال الدين : " إني لأجلك قد عفوت عنه " . وكان يحدث السلطان وهو يلعب بحبات مسبحته فلما طلب منه بعض الحاشية أن يكف عن ذلك قال : " إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب بسبحته كما يشاء ؟؟ " .

ويطول بنا المقام لو رحنا نعدد الشواهد والوقائع التي تنفي عن الرجل القول بالجبن والتقية وإظهار خلاف ما يبطن ، فكم جابه الحكام في صراحة لا موارية فيها وخاصة بدعوته إلي الشورى والحكم النيابي ، ومن هؤلاء الخديوي توفيق وقيصر روسيا . والغريب أن الدكتور لويس نفسه عاد فنقض ما ذهب إليه من القول بتقية الأفغاني حيث يقول : " .. وكان الأفغاني يتحرك بوضوح في مرحلته المصرية في سنة 1871 إلي سنة 1879 أساسًا بين صفوف المجددين والديمقراطيين لأديب إسحاق : " فأجرت له الحكومة الخديوية رزقاً علي أن يكون من المدرسين فجرت بينه وبين علماء الأزهر مناظرة أفضت إلي المنافرة . فانقطع إلي منزله وصار له فيه حلقة تدريس (التضامن العدد السادس) . فالوضوح والمواجهة الصريحة لا يتفقان مع منطق القضية التي تعتمد علي التورية والمجاراة وإظهار خلاف الباطن .

3 – ويذهب الدكتور لويس إلي أن جمال الدين طرد من المحفل الماسوني (التضامن العدد الرابع عشر) . والثابت أن جمال الدين الأفغاني اشترك في المحفل الماسوني الانجليزي مشدودًا علي حد قوله بشعارهم الكبير الخطير " حرية مساواة إخاء .. " وكان المحفل يضم أشراف الناس وكبراءهم . وصدم جمال الدين حين رأي أن هذا الشعار لا وجود له في واقع هؤلاء الأعضاء ، بل لم يجد منهم إلا الجبن والسلبية والتزاحم علي المناصب . فاستقال . وأنشأ محفلاً آخر تابعًا للشرق الفرنسي ونجح في تنظيمه حتى بلغ عدد أعضائه ثلاثمائة عضو – وكان يبغي من ذلك إيصال دعوته الإصلاحية إلي كبار الناس وعظماتهم .

4 – ولم يكن الأفغاني يستحل لنفسه أتباع الوسائل الخسيسة في سبيل تحقيق غاياته النبيلة أو غير النبيلة .. فيكفي للرد علي ذلك ما جاء علي لسان محمد عبده إذ قال : " ماذا كان يضر السيد الأفغاني لو مهد لإصلاحه – وهو في الأستانة بالسعي عند السلطان في إعطاء أبي الهدي الصيادي خمسمائة جنيه ونيشانًا لابنه أو لأخيه . فإذا رأي أبو الهدي أن السيد يخدمه ، فإما أن يواتيه وإما ألا يناوئه ؟؟!! . ولكن ما كان للسيد الأفغاني أن يسلك مثل هذه الخطة التي لو حققت من النفع العام الكثير الكثير .. ولما دس له أبو الهدي الصيادي عند السلطان قال له عبد الله النديم : ليتك ذكرت للسلطان دسائسه وضرره ، فغضب جمال الدين وقال : " أعوذ بالله أن أكون من المنافقين ، أو أن أفعل ما أنكره علي الغير ، أو أن أكون همازًا مشاء بنميم " . فالغاية عنده لا تبرر الوسيلة . والنفس الكبيرة لا تستشرف إلا الغايات العلية ، ولا تتبع إليها إلا الوسائل الشريفة النبيلة .

5 – وهل كان جمال الدين متعصبًا دينيًا .. داعيًا إلي التعصب الديني في مرحلة " العروة الوثقى " التي عاشها في باريس ؟ (التضامن العدد التاسع عشر). إن واقع " العروة الوثقى " يفند هذا الادعاء .. فمما كتبه في إحدى مقالاته بـ " العروة الوثقى " : : لا يظن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحيانًا ومدافعتها عن حقوقهم – تقصد الشقاق بينهم وبين من يجاورهم في أوطانهم ويتفق معهم في مصالح بلادهم ، ويشاركهم في المنافع من أجيال طويلة ، فليس هذا شأننا ولا مما تدعو إليه ، ولا مما يبيحه ديننا ... " .

فمن أين جاءت تهمة التعصب التي خلعها الدكتور لويس علي الأفغاني في مرحلة " العروة الوثقى " ؟ اعتقد أنها جاءت من إلحاح الأفغاني – بعد أن رأي ما رأي من انكسار الثورة العرابية والاضطهاد الواقع علي المسلمين من حكامهم ومن المستعمرين – علي ضرورة التجمع في دولة واحدة أو دول متوحدة في شكل كومنولث إسلامي مع التمسك بدينهم والالتفاف حول كتابهم والاعتزاز بالعصبية الدينية " هي غير التعصب المقيت " الذي يقوم علي الشقاق والتطاحن بين أصحاب الديانات المختلفة ، والذي تبرأ منه جمال الدين في صفحات " العروة الوثقى " . وتاريخ جمال الدين يشهد أن من تلاميذه النجباء وأصدقائه المخلصين كثيرًا من غير المسلمين مثل أديب إسحاق المسيحي الدمشقي ويعقوب صنوح اليهودي . وقد شجع الأول علي إنشاء جريدتي مصر والتجارة ، وكان جمال الدين يكتب فيهما بنفسه . وشجع الثاني علي إنشاء مجلته الهزلية " أبو سارة " .

لقد عاش جمال الدين لفكره وعقيدته . ولم يتعيش بفكره وعقيدته – عاش عمره يضرب في أنحاء الأرض ينثر بذور الإصلاح ، ويلهب المشاعر ، وينتصر للعقل في وضوح دون موارية ، ولو تنازل عن قليل من كرامته ، ولو باع ضميره ولو للحظة واحدة لوجد آلافًا يغلونه الثمن .. بل كم من أمراء وحكام كانوا علي استعداد أن يشتروا سكوته .. بثروات باهظة .. ولكنه أثر عذاب الجهاد .. وجوع الليالي .. ومفارقة الأوطان .. علي استكانة الدعة وسلام الإذلال .. فعاش فقيرًا .. وظل قبره تائها مطموسًا بين القبور بلا معالم تدل علي صاحبه .. إلي أن جاء أمريكي – صديق للعرب – فتبني القبر وبناه وأظهر ما انطمس من معالمه .. ولن يضير جمال الدين أن تتطاول عليه ألسنة وأقلام .. فالبقاء للأصلح .. للأصلح دائمًا .. وبعد أن نقلنا هذين المقالين للدكتور جابر قميحه ننقل مقالاً نشر في 4/10/1983 للأستاذ عبد المنعم شميس عنوانه " تجريح التاريخ " .

عندا أراد المليونير الأمريكي عضو الكونجرس المستر كراين إقامة ضريح لجمال الدين الأفغاني علي نفقته ، اعتزازًا بشخصيته حدث نزاع بين إيران وأفغانستان . وادعت كل دولة منهما انتساب جمال الدين إليها وإقامة ضريح في عاصمتها بعد نقل رفاته من مقبرة المشايخ في اسطنبول حيث دفن . وقد أقام المستر كراين ضريحًا لأبي العلاء المعري أيضًا في النعمان بسورية علي مشارف حلب ، وعلي واجهة الضريح لوحة رخامية مكتوب عليها اسم منشئته – فقد أعجب هذا الرجل الأمريكي بعظيمين من عظماء الشرق هما الأفغاني والمعري وتبرع بإقامة ضريحين لهما علي نفقته . ولما ثارت مشكلة جنسية جمال الدين وادعي كل من الفرس والأفغان انتسابه إليهما تشرفاً بهذا النسب ، انتظر مستر كراين حتى يتم الاتفاق علي هذه المسألة ثم يقام الضريح في " طهران " أو " كابول " بعد أن يقدم الطرفان الوثائق والبراهين علي جنسيته .. وأخيرًا ثبت أنه أفغاني وأقيم الضريح الأول في كابول أمام مبني جامعتها كما أخبرني السيد محمد مرسي شفيق سفير أفغانستان الأسبق في القاهرة . وأقيم احتفال بنقل رفات الأفغاني من اسطنبول ومر موكبه بالعراق وإيران وسط الاحترام والتبجيل حتى عبر ممر خيبر إلي كابول حيث استقبله الملم محمد ظاهر شاه ملك أفغانستان الذي يعيش الآن في المنفي في إيطاليا .

ولذلك فإن قضية جنسية الأفغاني التي أثارها الدكتور لويس عوض ورد عليها كثيرون من الكتاب علي صفحات " الأهرام " ليست جديدة ، وقد وصلت إلي حد المشاكل الدولية التي تقدم فيها الدول كل المستندات والوثائق والدراسات . وقد تم حل المشكلة علي هذا المستوي الدولي ، واستقر الرأي أن جمال الدين أفغاني الجنسية ، ولم تعد هناك حاجة إلي مناقشة هذه القضية بالذات ؛ لأن أي باحث أو دارس أو مؤرخ لا يستطيع الوصول إلي وثائق وصلت إليها حكومة وافقت عليها حكومة أخري ، ثم أقام الطرف الثالث أي مستر كراين ضريح الأفغاني في كابول بناء علي هذا الاتفاق . ولكن المشكلة في جوهرها ليست هي محاولة الوصول إلي الحقائق التاريخية في حياة رجل مثل الأفغاني اعترف كل الدارسين من أهل المشرق وأهل المغرب بأنه فيلسوف الشرق في العصر الحديث ، ومفجر النهضات والثورات في أرجائه .. المشكلة هي محاولة تجريح التاريخ وإسقاط قيمة أعلام الرجال الذين كان لهم دور في يقظة الشرق . وقد لاحظت علي ما كتبه الدكتور لويس عوض من الأفغاني ، ومن الردود التي كتبت في الرد علي مزاعمه أنه علي عادته – لم يتحر أي منهج علمي في كتاباته . ولذلك تصبح كلها كتابات ساقطة لا قيمة لها من الناحية العلمية .. وقد اعتمد علي تقارير لبعض الجواسيس ورجال المخابرات والمخبرين السريين ، واستخدام أساليب الإثارة والكذب والتضليل والتزوير عند هذه الطائفة من العملاء .

ولذلك فإن كتابات الدكتور لويس مطعون فيها منذ البداية . وهو لم يستطع التعرض للقضايا الكبرى في حياة الأفغاني بل استخدام التهويش وإلقاء المهاترة والسباب علي الرجل الذي تعرض في حياته إلي أكثر منها ، ثم خرج من الحياة ذاتها طاهر الذيل نقي الصفحة . وقد ذكر الأفغاني نفسه ملاحظة الجواسيس له في كل مكان ، حتى إنه قال للسلطان عبد الحميد في اسطنبول إن نفقات هؤلاء الجواسيس لا داعي لها ، وأنه سيخبره بكل شيء يريد معرفته عنه ، لأن هذا خير من التقارير المكذوبة التي ترفع إليه ولكن الغموض الذي كان يسود كواليس السياسة انعكس علي حياة الأفغاني نفسه وهذا أمر طبيعي .. هذا الرجل لا يقال عنه إنه جاسوس لأن الجاسوس كما يعلم الدكتور لويس يتقاضي الثمن ذهبًا وهاجًا ، ولا يكون ثمن جاسوسيته طباعة مصحف القرآن .. وأنا لا أحاول الدفاع عن الأفغاني ، لأنه أكبر من أن يدافع عنه أحد بعد أن وضع في مكانه الصحيح من تاريخ الإسلام . وكذلك لا ينقصه أن يهاجمه الدكتور لويس فقد هاجمه من قبل كثيرون وذهبت كلماتهم أدراج الرياح ، ومنهم واحد اسمه ، سليم العنحوري قال : إن الشيخ جمال الدين يحب شرب الكونياك . وهوجم أيضًا الشيخ محمد عبده تلميذ الأفغاني بمثل هذه الأسلحة الفاسدة حتى وصل الأمر إلي اتهامه بالكفر والزندقة . ليس الأمر هو تفنيد أقوال الدكتور لويس عن الأفغاني ؛ لأنها في جملتها لا تستحق هذا العناء ، بل لا تستحق ثمن المداد الذي كتبت به – إن الأمر اخطر من ذلك كثيرًا ؛ لأنه يتعلق بالمحاولات الدائمة لتجريح التاريخ الإسلامي والمصري منه علي وجه الخصوص – طبقاً لحظة محكمة وموضوعة تهدف إلي تشكيك الناس في كل القيم ، حتى يصبحوا في شك دائم من أمر قادتهم وزعمائهم فتنهار نفوسهم ، وتتمزق عقولهم ، ويأكل الوهم الخلايا الحية في أجسادهم .

ولا يكتفي أصحاب هذا المخطط بما وصلت إليه حالة العالم الإسلامي والعربي من تمزق وانهيار ، فيمسكون بمعاولهم لهدم الشخصيات الناصعة في هذا العالم الإسلامي والعربي مستغلين ظروف الضعف والاستكانة والذل التي وصلت إليها هذه البلاد للإجهاز علي البقية الباقية من تاريخ وقوي ومشرف . وليس الدكتور لويس وحده هو الذي يتولي هذه المهمة ، ولو أنه دور قيادي فيها ، فقد كتب أحد تلاميذه هذا الكلام عن الأفغاني منذ سنوات في جريدة الجمهورية القاهرية وكتبت ردًا عليه أسكته ، ولكن أستاذه الدكتور لويس لم يسكت . وما قولكم في كاتب شهير جهير ومثقف عظيم مثل الدكتور لويس يزعم فيما كتب أن الجنرال يعقوب الذي انضم إلي حملة بونابرت علي مصر ، وجند حوالي ألف شاب من الأقباط ، وألبسهم ملابس عساكر فرنسية ، وحارب بهم أهله من الأقباط والمسلمين كان بطلاً قوميًا مصريًا في رأي الدكتور لويس . وهذا الجنرال يعقوب تبرأ منه أعيان الأقباط وأعلنوا أنه ومن معه ليسوا منهم . وعندما هزمت الحملة الفرنسية وغادرت مصر ، سافر معها يعقوب إلي فرنسا . ولكن الجنرال عبد الله جاك مينو لم يتركه يكمل رحلة الخيانة من الإسكندرية إلي طولون ؟ حتى لا يدنس أرضًا فرنسا وألقاه في البحر الأبيض المتوسط حيًا حتى يصبح طعامًا للأسماك . وهذا الجنرال يعقوب بطل قومي مصري وجمال الدين الأفغاني جاسوس سكير خائن ؟؟!! هكذا يكتب التاريخ علي طريقة الدكتور لويس عوض فهل يجوز الرد علي كلامه ؟! لا أعتقد .

ولكن القضية كما قلت أكبر من الرد ؛ لأنها قضية تجريح التاريخ . ولذلك فإن الدخول في تفصيلات ما يكتب الدكتور لويس عن هذه الموضوعات وغيرها يدخل في هذا النطاق – ونحن لا نحجر علي حرية الدكتور لويس ككاتب ، بل نرفض هذا الحجر رفضًا قاطعًا .ولكننا نجد أنفسنا أمام ظاهرة فكرية مريضة تحاول دائمًا إحداث فرقعات مثل بمب الأطفال لتلفت الأنظار أو تزعج المارة في طريق الحياة . وقد يمتد لهب هذا البمب فيحرق أطراف ثيابهم أو يعفر جبينهم بالتراب الذي ينبعث منه . إن كل ما يقال عن هذه الكتابات هو أنها فاسدة ومغشوشة ، ويجب النظر علي أنها فاسدة ومغشوشة ، مثل الأطعمة المسمومة التي كثرت وراجت أخيرًا ثم عرفها الناس بعد ذلك فابتعدوا عنها عندما تبينوا حقيقتها ، وقد كانت هذه الأطعمة الفاسدة المسمومة المستوردة توضع في أجمل غلاف شأنها شأن هذه الكتابات .

ثم نختتم هذه القطوف بالمقال الأخير في هذا الموضوع للأستاذ أحمد بهجت تحت عنوان : كلمة أخيرة عن جمال الدين الأفغاني

لو كان الخديوي توفيق حيًا لقر عينًت بما كتبه الأستاذ الدكتور لويس عوض من مقالات عن الأفغاني .. ولو كانت اللجنة المغرضة التي كتبت أسباب نفي الأفغاني من مصر قائمة وموجودة لقرت عينًا هي الأخرى بما يكتبه الدكتور لويس عوض عن الأفغاني . إنه يبرر لها قرار الطرد بعد مائة سنة من صدوره – لقد رفعت هذه اللجنة قرارًا رسميًَا لمجلس الوزراء المصري حينئذ قالت فيه مبررات طرد الأفغاني إنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش ، مجتمعة علي فساد الدين والدنيا .

وها هو الدكتور لويس عوض يحدثنا أن الأفغاني كان مجتمعًا علي فساد الدين والدنيا ، وكان عميلاً وجاسوسًا وزنديقاً وكان .. وكان .. هل هي محاولة جديدة لطرد الأفغاني من قلوب الشباب اليوم كما فشلت محاولات طرده من قلوب معاصريه .. ؟ هل هو خط واحد .. من خطوط مؤامرة هدفها تحطيم النماذج الثائرة في تاريخنا حتى نتوجه إلي أثداء أوروبا لنرضع عسلاً أذيب فيه السم .. لست أعرف .. كل ما أعرفه أن محاولات نفي الأفغاني مازالت مستمرة ، ولقد اكتشفوا أن أفكاره لم تزل حية ، وبالتالي فإنهم مازالوا يحاولون نفيه .. ولم يكن النفي هو الشيء الوحيد الذي تعرض له الأفغاني .. كان القبض عليه والسجن والتشريد ومصادرة الكتب أحداثاً يوميه في حياته .. سئل ذات يوم من سلطات الأمن – أيم كتبك ؟ .. أشار إلي قلبه وقال : إنها هنا .. سئل عن ملابسه وحقائبه فأشار إلي جبته التي يرتديها وقال : كنت أول عهدي بالنفي أستصحب جبة ثانية وسراويل ، ولكن لما تولي النفي في سبيل الإسلام سياحة . أما القتل في سبيل الله فهو شهادة وهذه أسمي مراتب الجهاد .. كان الأفغاني مجاهدًا مسلمًا .. كان روحًا إسلامية تجوب الأرض ، وتوزع الثورة الواعية علي الناس . كان يشبه أبطال الأساطير الحقيقية . لم يكن – لحسن الحظ – من أبطال الأساطير اليونانية الذين يسترضون " زيوس " ويشركون بـ " ديانا " ولو فعل لاستحق رضاء الدكتور لويس عوض .

كان الأفغاني حنيفاًَ موحدًا .. لا يريد سوي وجه الله وحده .. من هذا كان ضرام لحملة ضده .. ومن هنا استمرت هذه الحملة حتى موته .. بل إن الأفغاني بسبب جهاده .. صار رمزًا للثائر المسلم .. ومن هنا فإن كل السهام التي توجه للإسلام لابد أن تمر علي صدره .. وكل المؤامرات التي تستهدف تشويه الأبطال المسلمين لابد أن تعبر علي جسده أولاً .. وهكذا لم يسلم الأفغاني طوال حياته من الكيد ، يستوي في ذلك كيد اللجان الرسمية أو كيد البصاصين أو كيد أذناب الاستعمار من الحكام أو كيد الكارهين لانتشار الإسلام ، ثم ها هو كيد المثقفين أخيرًا . ما الذي فعله الأفغاني واستحق عليه هذا كله ؟ لقد كرس الأفغاني حياته لإنقاذ الروح الكامنة في الإنسان الشرقي .. وكرس حياته لمحاربة اليأس والنفوذ الأجنبي .. وكرس حياته لالتماس المنهج القرآني في بناء الأفراد والجماعات . وكان يري أن هذا هو الحل الوحيد أمام المسلمين . كما استهدف الأفغاني في حياته تنبيه الأمة الإسلامية إلي ذاتها الأصيلة التي أنشأت الحضارة . كما كان وجوده في الحياة حربًا علي الاستعمار والتبعية ومقاومة لذوبان الفكر الإسلامي في الفكر العالمي .

باختصار كانت حياة الأفغاني مصداقاً للحديث النبوي الشريف : " إن الله يبعث علي رأس كل مائة سنة لأمتي من يجدد لها أمر دينها " هذا هو عندنا وعند التاريخ .. لكنه عند الدكتور لويس عوض إيراني غامض عميل وجاسوس وزنديق يجوب الآفاق . إن الشيخ الإمام محمد عبده تلميذ الأفغاني يفسر لنا اختلاف الناس فيه بكلمة دقيقة تعبر بإيجاز عن حقيقة الأفغاني :

قال الشيخ محمد عبده : إن الناس قد اختلفوا في الأفغاني ، حتى لكأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه ، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله . أشيع عنه في حياته قوله : إن الشرق يحتاج إلي مستبد عادل .. وكان الذين أشاعوا هذه المقولة عن الأفغاني يحاولون تبرير الاستبداد بإضافة العدل إليه ونسبة العبارة كلها إلي السيد جمال الدين الأفغاني – سأل محمد باشا المخزومي السيد جمال الدين يومًا : إن المتداول بين الناس علي لسانك قولك : " يحتاج الشرق إلي مستبد عادل " .. قال الأفغاني : هذا من قبيل جمع الأضداد . كيف يجتمع العدل والاستبداد – وهكذا نفي الأفغاني ما نشره أعداؤه عنه زورًا .. ومثلما لم تسلم أفكاره لم يسلم شخصه . كان من الصعب علي العملاء والجواسيس والبصاصين الذين يقتفون أثره ويرصدون تحركاته أن يفسروا النيل والإيثار اللذين يصدران عنه بشكل طبيعي كما يصدر الدفء عن الشمس ..

ومن هنا كان تفسير كل شيء بعكس الواقع إذا رفض الأفغاني الجاه فإنما يرفضه كخطة لا تعففاً وإذا عرض عليه الملك ورفضه فإنما يفعل ذلك لأنه يريد الخلافة . وإذا أفطر في رمضان بعد المغرب قال البصاص الذي يتبعه كظله إنه رآه يفطر قبل المغرب .. وهكذا تمضي الحلقة . ولقد كان الرجل يدرك أن يحمل دعوة لها أعداء كثيرون .. وكان يعرف أن الابتلاء قدر مقدور علي حملة الدعوات العظيمة .. ومن ثم مضي في طريقه غير عابئ بما يتميز بما تثير أفكاره أو تصرفاته – كان وجه الله هو غايته .. ومن كانت هذه غايته لم يلتفت إلي حملة الأحجار والغوغاء والكائدين . كانت مشكلة الأفغاني أنه منحاز إلي الإسلام والعروبة والعدالة الاجتماعية والشورى وحرية الإنسان وكرامة الخلائق .. كان الاستعمار قوة من قوى الظلام المؤثر في عصر الأفغاني ، ومن هنا تحدد موقف الأفغاني بالوقوف ضد الاستعمار .. حين دخل الهند وجد الاستعمار الانجليزي يحتضن طائفة من المثقفين – كعادته – وكانت دعوى هؤلاء طرح الفكر الإسلامي والدعوة للثقافة المدنية .. وقف الأفغاني ضدهم وكتب لهم " رسالة الرد علي الدهريين " . وحين جاء الأفغاني إلي مصر أقام فيها أبًا روحيًا وموقظاً لحركة البعث والإحياء والثورة .. كانت الثورة العرابية شرارة من شرارات فكره .. كانت ثورة 1919 نتيجة من نتائج أفكاره .. كان من رجالات مصر من المثقفين والمتعلمين والصحفيين والدعاة في عصره من أصدقائه وجلسائه وتلاميذه – وحين خشي البعض في مصر من غضب الخديوي توفيق وآثر السلامة وتنكب طريق النضال قال الأفغاني كلمته عن توفيق : توفيق في غضبه ورضاه تابع لما يلقي إليه .

وبهذه الجملة لخص الأفغاني حقيقة الموقف السياسي في مصر ، وكشف عن تبعيته للاستعمار الغربي .. ولقد كان هذا كله يبلغ توفيق بشكل أو بآخر ، ومن هنا أصدرت اللجنة قرارها الشهير بزعامته لطائفة من الشبان هدفهم فساد الدين والدنيا . وطرد الأفغاني من مصر .. وحين ذهب إلي إيران وأبصر المظالم التي يجترحها الشاه ناصر في شعبه ، قاد ضده حركة شجاعة ،ووقف بالإسلام ضد احتكار الانجليز أصدقاء الشاه " للدخان " وأوحي الأفغاني إلي الشيرازي وكان مفتيًا أن يصدر فتوى يحرم فيها علي المسلمين شرب " الدخان " – وهكذا تراجعت شركة الدخان عن مشروعاتها الضارة بالبلاد ، واضطر الشاه إلي تعويضها عن الامتياز .. وبعث الشاه بخمسمائة من فرسانه ليقتحموا فراش جمال الدين وهو مريض يشكو من الحمى ، وقاده الفرسان وهو مريض إلي حدود إيران وأمروه أن يمضي ولا يلتفت أبدًا لإيران . ويذهب الأفغاني إلي تركيا فيخوض معركته الشهيرة ضد الجمود ، ويستمر في خوض معاركه ضد الاستعمار – ويذهب إلي باريس ويصدر هناك جريدة " العروة الوثقى " وهي جريدة تجاوزت أن تكون عملاً صحفيًا تجاريًا إلي صيرورتها مشروعًا دينيًا سياسيًا ثوريًا .. وتقض الجريدة مضجع الاستعمار . ويصدر نوبار باشا رئيس النظار في مصر قرارًا بتغريم كل من يقرأ : العروة الوثقى " 25 جنيهًا واعتبار قراءتها جنحة .

ولقد تغير فكر الأفغاني كما كشفت الدراسة المتأنية التي قام بها الدكتور محمد عمارة خلال تحقيقه لأعمال الأفغاني . تغير فكره في نهاية حياته عن فكره في بدايتها .. كان التغيير نحو النضج والثورة والتقدم ، لقد وقف الرجل مع العدالة الاجتماعية وقف مع التعليم الوطني ، وقف مع الجامعة الإسلامية . وقف مع الشورى . وقف مع الاستبداد . تغيرت بعض مواقفه كموقفه من النشوء والارتقاء والقومية والاشتراكية .. في بداية حياته كان ينظر إليها بارتياب ، فلما تقدمت به السن وزادت خبرته أعاد النظر في مواقفه السابقة وصححها بما تراءى له من قراءة وسياحة وحكمة .

كانت هناك متغيرات وثوابت في حياته .. كان الأمر الثابت أنه يتحرك كفارس من فرسان الدعوة الإسلامية .. وثائر عظيم من ثوار الحياة .. إن هدفه هو العدل والرحمة والحق والخير والجمال .. لقد أيقظ الشرق من سباته ولقد لبس البحث الجرئ الذي كتبته الدكتور لويس عوض عن الأفغاني ثوب البحث ، ولكنه لم يكن بحثًا .. إلا أن يكون بحثًا من قبيل أبحاث المباحث العثمانية أو الخديوية أو الإيرانية أو الانجليزية . إن مصادر بحث الدكتور تكشف عن تهافتها ، ومعظم ما يبنيه الدكتور حول الأفغاني رغم فخامته مزور – ولا أظن أن أحدًا ممن اشتركوا في الرد علي الدكتور لويس كان يريد تفنيد أقواله ؛ لأن أقواله في جملتها لا تستحق هذا العناء . إنما تصدينا بالرد حتى ننبه إلي محاولة تجريح التاريخ الإسلامي وتحطيم النماذج الرفيعة الثائرة .. حتى إذا تلوث تاريخنا وصار أبطاله عملاء وثواره جواسيس ونماذجه الرفيعة أقزامًا ومسوخًا .. حتى إذا وقع هذا تحولنا إلي الغرب وطرحنا ماضينا ، وقطعنا الصلة ببذورنا وتاريخنا .. وصرنا رجالاً جوفاً لا ماضي لهم ولا وجدان ولا عقيدة .

عندئذ ترضي عنا مراجع أبحاث الدكتور لويس عوض ويرضي هو عنا .. لقد تصدي " الأهرام " بجملة من الأساتذة المتخصصين البارزين للرد تصحيحًا لهذه الفكرة ، انبعاثًا من الأمانة الدينية والموضوعية العلمية . إن طبق الطعام الذي قدمه الطاهي الشهير لويس عوض عن الأفغاني كان طبقاً من الطعام الفاسد المغشوش . إن الطبخة كلها بغير ملح .. بغير صدق ..


الفصل الثالث : إلي هذا الحد يزيف التاريخ

جاءني صديق منذ نحو عام بنسخة من كتاب يسمي " الإخوان المسلمون والتنظيم السري " للدكتور عبد العظيم رمضان . وطلب إليّ الصديق أن أطالع هذا الكتاب وأتناوله بالرد . ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي أناقش فيهلا آراء لهذا الكاتب ، قد ناقشت له في الجزء الأول من هذه المذكرات رأيًا كان قد نشره في جريدة الأهرام فيما يتصل بترشيح الأستاذ البنا لمجلس النواب في عهد وزارة النحاس باشا عام 1942 .. ويؤخذ علي هذا الكاتب أنه يصر في كتاباته علي أنه مؤرخ ثم يتناسى ذلك بين صفة المؤرخ وصفة الكاتب المتحيز ، صاحب الفكرة المعينة ، يتصيد لها القرائن والمبررات لدعمها ، ثم يقدمها للناس علي أنها تاريخ .. وهذا الوصف الغالب عليه ينزلق به في كثير من الأحيان إلي الخلط وإلي تأويل النصوص وبترها وإلي تجاهل الأحداث وتسلسلها ، بل يصل في بعض الأحيان إلي قلب الحقائق .

وقد طالعت الكتاب ، ولا أراني في حاجة إلي تناوله بالرد ؛ لأن الرجل فعلاًَ – كما نصحه الأخ الأستاذ صلاح شادي وعملاً بالتوجيه القرآني الحكيم : (        ) – كان عليه قبل أن يبدأ الكتابة عن الإخوان المسلمين أن يطلع علي ما كتبه الذين عاشوا أحداث الإخوان المسلمين من داخلها ، ومارسوها وكانوا من صانعيها ومن حصادها .. لا أن يأخذ معلوماته عنهم من تصورات له وتخيلات أو من كتابات لذوي قلوب مريضة يرون في الإخوان المسلمين السد المنيع دون نجاح مخططات غربية وضعوا أقلامها في خدمتها . ثم إن الرجل بتجرئه علي ارتياد طريق يجهله دون دليل من أهله ، أخذ يخلط ويخبط خبط عشواء ، حتى إنه أخذ من أقوال لمجلة الدعوة – بعد فصل صاحبها من الإخوان – ما اعتبره حجة علي قيادة الإخوان كأنما قد صدرت هذه الأقوال عن هذه القيادة . هذا كله إذا أحسنا الظن بالرجل ، وإلا فإن في كتاباته ما يشعر القارئ الخبير بأن وراء هذه الكتابات إغراضًا يلح عليه إلحاحًا بإبراز الإخوان المسلمين في صورة معينة ، مهما كانت هذه الصورة مخالفة للواقع . وسنكتفي بمناقشة قسمتين من قسمات الصورة المشوهة التي أراد هذا الكتاب أن يضع الإخوان المسلمين في إطارها ، تاركين للسادة القراء الحكم من خلال هذه المناقشة علي قيمة المعلومات التي أوردها الكاتب في كتابه ، وعلي النتائج التي توصل إليها من خلال هذه المعلومات :

القسـمة الأولـي

أورد الأستاذ المؤرخ في صفحة 115 من كتابه ما يلي :

" وبالنسبة للمفاوضات بين الانجليز والإخوان ، فكما هي العادة في كل مفاوضات لا تستند إلي جبهة داخلية قوية ، فإن الصراع المكتوم بين الثورة والإخوان كان له تأثيره في موقف الاعتدال الذي وقفته الجماعة أثناء المفاوضات خوفًا من الحرب في جبهتين : جبهة الثورة وجبهة الانجليز . فقد وافقت الجماعة علي ما قبله عبد الناصر في اتفاقية الجلاء بعد ذلك بعام ، وهو بقاء خبراء انجليز في قاعدة قناة السويس ، وحق عودة القوات البريطانية إلي القناة ، واستخدام القاعدة في حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج علي أي بلد يكون طرفاً في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية أو علي تركيا . والتشاور علي العودة في حالة خطر الحرب (184) .

وتعليقاً علي هذا النبأ الذي أورده من يقرر مقدمة كتابه أنه مؤرخ يبحث بجد عن الوثائق ليستقي منها أنباءه التاريخية أقول :

1 – لما كان هذا النبأ مغايرًا بل مناقضًا للواقع التاريخي الثابت الذي نعرفه والذي كنا حضوره ومشاركين في صناعته ، قلت : لعل هناك مصدرًا آخر لا نعرفه يكون أوثق من صانعي النبأ أنفسهم ، ونظرت فوجدت المؤلف قد ذيل هذه العبارة التي تضمنت النبأ بهذا الرقم (184) ، فنظرت في هامش الصفحة وبحثت عن هذا الرقم فوجدت المصدر هو ( عبد العظيم رمضان : المرجع المذكور ص 130 – 136 ) .. فعجبت للمؤلف يورد النبأ المناقض للتاريخ ويجعل الوثيقة التي استقاه منها هي المؤلف نفسه .

2 – ونعتقد أن السيد " المؤرخ " قد استقي نبأه هذا من قرار جمال عبد الناصر الذي أصدره في 12 يناير 1954 بحل الإخوان المسلمين ، واتهم الإخوان فيه بالاتصال بالانجليز من وراء ظهره ، وقد تبين للناس جميعًا بعد صدور هذا القرار أن عبد الناصر كان كاذبًا فيما جاء في القرار من اتهامات ، بعد أن تحداه المرشد العام في ذلك وهو في السجن علي صفحات جريدة " المصري " – أوسع الجرائد المصرية اليومية انتشارًا في ذلك الوقت – ودعاه إلي المباهلة حتى تنزل لعنة الله علي الكاذبين .. فتراجع عبد الناصر في الحال .. وردًا لاعتبار الإخوان أفرج عنهم وقام بزيارة المرشد العام في منزله ونشر ذلك في الصحف .

ولجوء هذا " المؤرخ " إلي أمثال هذه المصادر المشبوهة والمدموغة بالكذب أمر قد ارتضاه لنفسه من قبل ، فلقد ناقشنا له في الجزء الأول من هذه المذكرات أنباء عن الإخوان المسلمين استقاها من البوليس السياسي ، ولم يخجل من نشرها في جريدة الأهرام منسوبة إلي هذا المصدر وإلي تقارير المستعمرين . فجل هم هذا " المؤرخ " هو أن يتسقط الأنباء من أي مصدر من المصادر – دون مبالاة بصدقها أو كذبها – مادام يجد في هذه الأنباء ما يبرز به محاولاته المستميتة في التهجم علي الإخوان والنيل منهم والانتقاص من مكانتهم وتشويه سمعتهم ، معتمدًا في ذلك علي خلو أذهان الأجيال الناشئة وما شاع في هذه الأيام من الأمية السياسية بين المواطنين نتيجة ربع قرن عاشوه تحت نير حكم يتسم بالقهر والاستبداد وحجب الحقائق . وهذا الأسلوب من أساليب التأريخ قد أشرنا إليه في الجزء الأول من هذه المذكرات في الفصل الثالث من الباب الرابع عند حديثنا عن خطط التآمر العالمي علي القضاء علي الدعوة من شاء فليرجع إليه .

القسـمة الثانـية

ويواصل الأستاذ المؤرخ تأريخه فيقول في صفحة 116 :

" وقد أدرك الانجليز من خلال هذه المفاوضات أن الإخوان ليسوا بالتطرف الذي كانوا يخشون ، فقد قبلوا التفاوض معهم – كما قبلوا الأسس السالفة الذكر للاتفاق . واثبتوا بذلك أنهم أكثر اعتدالاً من الوفد الذي ألغي معاهدة 1936 ونص في برنامجه عقب قيام الثورة علي نبذ المفاوضة نبذ النواة ، ونبذ الدفاع المشترك ومشروع قيادة الشرق الأوسط (185) . وكان الإخوان يسعون في الحقيقة إلي ترك هذا الانطباع لدي الانجليز . فقد ذكرنا أن موقف قيادتهم أثناء معركة القناة سنة 1951 – 1952 كان موقفاً متخاذلاً . قد تبرأت تمامًا من كل شبهة تتعلق بالاشتراك في العمل الوطني ، وتبرأت من دعوة شباب الإخوان إلي مقاطعة الانجليز ، وتبرأت من استخدام القوة أو النية استخدامها ، وتبرأت من مجلة " الدعوة " حين هاجمت تعيين حافظ عفيفي لضرب الحركة الوطنية . وفي الفترة التي أباح فيها بعض علماء الدين مثل الشيخ أبو العيون سكرتير عام الأزهر والشيخ علي الخفيف دماء الإنجليز علنًا في الصحف – كانت قيادة الإخوان المسلمين ترفض علنًا العنف كوسيلة لإخراج الانجليز – وقد كان قبول الإخوان المسلمين لأسس الاتفاق في صراحة تامة قائلاً : " أنا علي ثقة من أن الغرب سيقتنع بمزايا الإخوان المسلمين ، وسيكف عن اعتبارهم شيخًا مفزعاً كما حاول البعض أن يصورهم " .

ويكفي للرد علي ادعاءات السيد المؤرخ أن نسأله سؤالاً واحدًا فنقول :

جاء في سياق حديثك في هذه الفقرة ذكر ثلاث هيئات هي التي كانت في الساحة في ذلك الوقت : الإخوان المسلمون وحزب الوفد وعلماء الدين .. فما هي التضحيات التي قدمتها كل هيئة من هذه الهيئات في مقاومة الانجليز في الفترة من 1951 – 1952 ؟ . وإذا كان السيد المؤرخ لا يسعفه أسلوبه الذي ارتضاه لنفسه ولا يرتضيه التاريخ أن يجيب علي هذا السؤال ، فإننا نتطوع للإجابة عليه .. ونحيله في ذلك إلي الصحف اليومية وإلي جريدة " المصري " بالذات صحيفة حزب الوفد الذي كان الحزب الحاكم في ذلك الوقت ، فسيجد أن الجهة الوحيدة التي قدمت ضحايا هي هيئة الإخوان المسلمين ، فقد شيع الإخوان المسلمون في خلال الخمسة عشر يومًا الأولي من شهر يناير 1952 ثلاثة شهداء من طلبة الجامعات هم عادل محمد غانم الطالب بكلية الطب عين شمس وعمر شاهين الطالب بآداب القاهرة ، واحمد المنيسي الطالب بطب القاهرة – وكان تشييع جنازة الشهيدين الأخيرين في مدينة الزقازيق .. وقد وصفت جريدة المصري روعة الجنازة واشتراك جميع الطوائف فيها ، ونشرت في صدر صفحتها الأولي صورة للمشيعين يتقدمهم المرشد العام للإخوان المسلمين . ثم نحيل السيد المؤرخ أيضًا كتاب صديقه الأستاذ صلاح شادي " صفحات من التاريخ " الجزء الأول في صفحات 150 إلي 159 ليقرأ قصة جهاد الإخوان المسلمين في خلال هذه الفترة التي حلا " للمؤرخ " أن يرمي الإخوان فيها بالتخاذل ، وليقرأ عن قصة اللغم الذي أعده الأستاذ صلاح شادي لسد القنال به بناءّ علي أمر المرشد العام . ونقتطف نحن فقرات من هذه الصفحات لا لإقناع السيد المؤرخ وإنما لتطمئن قلوب القراء الذين لم يجحدوا هذه الجهود .. يقول الأخ الكريم الأستاذ صلاح شادي :

جرت أحداث هذا اللغم البحري الذي حاول الإخوان المسلمون تفجيره مرتين في قنال السويس ضمن سلسلة النشاط الفدائي الذي قامت به الجماعة ضد الانجليز في أثناء تولي فؤاد سراج الدين شئون وزارة الداخلية في وزارة الوفد بعد إعلانه إلغاء معاهدة 1936 في أكتوبر 1951 . وكان الجو الذي تعيشه مصر آنذاك مشحوناً بكراهية الانجليز وخاصة إعلان حظر تشغيل العمال المصريين بالقاعدة البريطانية ومنع تموينها من داخل مصر ،وبدأ الشباب يدرك واجبه في العمل الفدائي لإخراج الانجليز بإقناعهم بأن حجتهم في البقاء في مصر للمحافظة علي قناة السويس حجة داحضة ؛ لأنهم لا يستطيعون حماية أنفسهم فيها إزاء سخط الشعب فكيف يحمون القناة ؟ ولذلك كان مسرح الأعمال الفدائية الانجليز أنفسهم ومؤسساتهم في قناة السويس . وسرت الحماسة في الأجهزة الحاكمة التي دعت إلي ائتلاف قومي يضم أصحاب الرأي في مصر لتنسيق النشاط الفدائي . وكان عبء العمل الحقيقي الفعال يقع علي كاهل الإخوان المسلمين ، فقد قامت المعسكرات في الجماعة لتدريب الشبان علي استعمال السلاح والمواد المتفجرة والقنابل الحارقة والألغام ، بمباشرة الأخ محمد عاكف في جامعة القاهرة وغيره من الإخوان في الجامعات الأخرى ، وأعطتهم الجامعات ما يؤهلهم لهذا الدور .. وقام الضابط مجدي حسنين الذي بايع الإخوان من قبل بتدريب الإخوان علي استعمال الأسلحة وقذف (قنبلة الأنرجا) .. وسقط كثير من الشهداء وكان لكل منهم قصص بطولة تذكرنا بالسلف الصالح .

وفي هذا الجو المشحون بالرغبة في التحرك ضد المحتلين بالصورة المتاحة ، فكر الإخوان المسلمون في صنع لغم بحري لنسف إحدى المراكب الانجليزية المحملة بالبترول في داخل القناة . وفكرت في الأمر مليًا بعد تكليفي من الأستاذ حسن الهضيبي مرشد الإخوان المسلمين بصنع هذا اللغم وتفجيره ، ووجدت أن الاستعداد لصنع هذا اللغم لا يتوافر في إمكاناته العلمية فضلاً عن التصنيع إلا بمعاونة قسم الأبحاث في الجيش الذي كان يعمل فيه الضابط صلاح هدايت . وذهبت إلي جمال عبد الناصر وعرضت عليه الفكرة ، وقام من فوره معي وذهبنا إلي صلاح هدايت وتحدثنا في الأمر ، فكان رده مشجعًا لنا في المضي لإكمال هذا التخطيط ، ووعد بصنع لغم علي شكل كرة كبيرة مجوفة علي نصفين قطرها ، نحوًا من متر ، من معدن خفيف يسمح لها بالطفو داخل المياه وبداخلها مادة T.N.T المتفجرة بكمية مناسبة ، ويعلق بها ثقل محسوب الوزن لتبقي علي ارتفاع معقول أسفل سطح الماء بحيث تلاصق أسفل المركب المقصودة ويجري تفجيره في الوقت المناسب لمرور مركب " الاسترنة " حاملة الغاز المراد تفجيرها .

وبعد إتمام صنعه كان لابد من نقل هذا اللغم بأجزائه كلها إلي منطقة القنطرة شرق ، ورؤى تجربته فوضع الثقل الحديد الذي لا يؤدي كشفه إلي مخاطر ، فوضع في صناديق أوصلها السيد مجدي حسنين إليّ بمحطة القاهرة لشحنها بالسكة الحديد إلي القنطرة شرق ، حيث استقبلني في محطة القاهرة السيد وجيه أباظه ليعرفني بمأمور جمرك السبتيه الذي سيصحبني في القطار إلي القنطرة شرق ليسهل لي استلام صناديق الشحنة باعتبار أنها متفجرات . والذي علمته من وجيه أباظه أن فؤاد سراج الدين سيسهل نقل اللغم – وكان وقتئذ وزيرًا للداخلية – وأنه وعد تسهيل الشحن ، وبإيفاد مندوب الجمرك معي لهذا الخصوص . وطبعًا لم يعلم أحد وربما وجيه أباظه نفسه أن الموجود في الصناديق لا يعدو أن يكون " ثقل حديد " . ولكن مع ذلك أردت أن اختبر مدي الأمن في الشحن بالسكة الحديد إذا دعت الضرورة إليه بعد ذلك ، مع عدم التعرض لمخاطر افتضاح الأمر في أول تجربة لنا مع الحكومة الوفدية التي أثبتت الأحداث بعد ذلك صدقها في المضي مع الشعب في جهاده .

وهنا يتوقف صاحب المذكرات لحظة عن نقل ما ينقله من فقرات من كتاب الأخ الأستاذ صلاح شادي ليلفت نظر السيد المؤرخ إلي أمانة التاريخ وأدب التعامل مع أحداثه وهيئاته ورجاله ، فالوفد الذي كان بيننا وبينه من التنافس ما أدي إلي احتكاك شديد لم يمنعنا ذلك أن نسجل له الثناء في موقف يستحق الثناء .

ثم نرجع إلي ما نقله من كتاب الأخ الأستاذ صلاح شادي حيث يقول :

أما بقية أجزاء اللغم بما يحمله من متفجرات فقد نقلت بالطائرة إلي العريش ومنها بالسيارة إلي القنطرة شرق حيث قدم بها السيد / صلاح هدايت . وأودعناها بمنزل الأخ عبد الفتاح غنيم مأمور القنطرة شرق – الذي احتمل كثيرًا من المخاطر بسبب النشاط الفدائي في منطقته – لحين ربط أجزاء اللغم وتجهيزه للعمل من داخل هذا المكان . ثم أخذ الأخ الأستاذ صلاح شادي يصف كيف سهر هو وعدد من الرجال الكرام علي تركيب أجزاء اللغم ثم نقله إلي الضفة الشرقية للقناة ، ثم تحري التوقيت المناسب ، ثم وصولهم إلي مكان يبعد نحو ثلاثة كيلومترات عن كوبري الفردان الذي تقوم عليه نقطة حراسة انجليزية . ثم استعانوا بالضابط حسن التهامي لتفادي قوة خفر السواحل ثم يقول :

" واخترنا الليلة والمكان والساعة . ووضعنا اللغم في سيارة جيب ، واتجهنا بالسيارة إلي المكان المقصود تحرسنا من سيارات الجيش بقيادة الرائد حلمي السوده الضابط بالمعسكر المصري في الضفة الشرقية ومعنا الضابط حسن التهامي والإخوة رشاد المنيسي وإبراهيم بركات ويوسف عبد المعطي وصلاح عبد المتعال وآخرون نهضوا معنا بمسئولية تنفيذ هذه العملية . وكان وقت التنفيذ بعد منتصف الليل ، وحملت السيارة الجيب اللغم يستره غطاء السيارة ، ومضت القافلة برجالها إلي المكان المتفق عليه يحرسنا السيد / حسن التهامي ويساند ظهرنا من أي عدوان يقع علينا . وكان المتفق عليه قيامي بتفجير اللغم من مكان علي الشاطئ الشرقي يشبه الكهف الصغير ، ويبعد عن مكان الانفجار نحوًا من مائتي ياردة .

ولكن ..

قبل وصول السيارة إلي المكان المعد للتنفيذ ساخت في رمال الضفة الشرقية ، وتوقف الموتور ، ولم نتمكن من تحريكها .. وغير بعيد منا تقع نقطة الحراسة الانجليزية !! وتركنا السيارة ،وحملنا اللغم من " الشقة " التي تربط النصف العلوي منه بالنصف السفلي ومضينا إلي مكان الالتقاء ننتظر القارب القادم " بالثقل الحديد " من الضفة الغربية . ومضت نصف ساعة متثاقلة الدقائق والثواني .. وبدأنا نسمع أصواتًا تتصاعد من بعيد من الجهة التي ننتظر قدوم القارب منها . وكان شجارًا نشب بين الأشخاص علي الضفة الغربية . ولم نتبين تفاصيل الحديث ، فأرسلنا من يتحري الأمر فوجد أن القارب في مكانه من الضفة الغربية لم يتحرك ، وعلي الشاطئ جنود من حرس الحدود فأدركنا أنهم منعوا القارب من التحرك مخافة استعماله في تهريب مخدرات أو نحوها .. وكنا حريصين في الخطة علي إخلاء الشاطئ من أي دوريات حتى لا نواجه بهذه المفاجآت ، وعلمت من حسن التهامي الذي كان مكلفاً بهذا الدور أنه أبلغ القائد العسكري لهذه المنطقة بإخلائها من الدوريات ، ولكن يبدو أن قائد المنطقة تخوف من احتمال الإيذاء الذي يلحق به من الانجليز إذا تم التفجير فأخرج الدورية في نفس المنطقة التي رغبنا في إخلائها ، وأوقف القارب عن العبور إلي الضفة الشرقية لوضع الكرة التي تحمل المادة المتفجرة T.N.T وربطها (بالثقل) الذي بداخل القارب ثم إنزال الثقل بعد ذلك في جوف المياه مثبتًا به الكرة المتصلة بسلك ممتد إلي مائتي ياردة في العمق حتى أول الشاطئ إلي حيث مكان الكهف الذي يعتبر سائرًا لمن يقوم بمهمة التفجير .

وأسقط في أيدينا .. إذ لا شك أن تفجير اللغم لو حدث علي سطح الماء فلن ينتج شيئًا له أثره ، وفي نفس الوقت يجعله ظاهرًا للعيان ولا يمكن تثبيته في الماء ، لأنه سيسبح مع التيار ونعجز بالتالي عن ملاحقته .. وشهدت الألم والقنوط علي وجه حسن التهامي ، بل عجز عن حبس دموعه .. وجدت أن هذا الأمر يستقيم ومشاعرنا جميعًا فلم يشغل بالي .. ولكنه أصر علي تنفيذ العملية برغم ذلك .. وأصر علي تفجير اللغم في السفينة في الهواء لا وزن لها .. ولما يئس حسن التهامي أخبرنا أن جريدة " المصري " قد جهزت مانشيت بالخط العريض تحكي تفاصيل هذه العملية وأنها كانت تنتظر منه الإشارة بالتنفيذ لطبع المانشيت .. فما هو الموقف الآن ؟! . فقلت : لا شيء . لا يكتب شيء عن هذا الحدث علي الإطلاق ،ولا علم لي بذلك أصلاً : وإذا كان عبد الناصر قد رتب الإعلان عن هذا الحادث في جريدة " المصري " بدون أن يخبرني فعليه وحده علاج هذا الأمر مع الجريدة .

ونكتفي بهذا القدر من قصة اللغم ، وقد أوردناها بالذات ؛ لأنه شهودها لازال عدد منهم علي قيد الحياة ونهديها إلي أولئك المؤرخين العظام الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . هذا .. وإذا كان المرشد العام حين يسأله مندوب الصحف فلا يري أن الإخوان – مع كل هذا – قدموا شيئًا للقضية ، فإنما هو التواضع الذي يلتزم به القائد المسلم – أما الجعجعة وإصدار الفتاوى والتصريحات وإطلاق الشعارات والتهديدات فهذه ليست بضاعة الإخوان المسلمين ، وقد تركوها لغيرهم يتاجرون فيها .. والقائد في حرب مع الأعداء عليه ألا يكشف خططه مهما أحرجه السائلون بألسنتهم والحرب خدعة . وإذا كان الكاتب قد اعتمد طريقة الوقوف عند " ويل للمصلين " فاقتطع من كلام المرشد العام فقرات تناسب هذه الطريقة ، فقد نقلنا لقرائنا في هذه المذكرات نص الحديث الذي دار بين المرشد العام وبين وكالة يونيتدبرس كاملاً دون بتر ولا تقطيع أوصال حتى يتبينوا الحق من الباطل . ولا أعتقد أن " مؤرخًا " كهذا المؤرخ – هذا مدي تجنيه علي التاريخ ، وجرأته في قلب الحقائق ، واستخفافه بعقول مواطنيه يستحق في نقده أكثر من هذه السطور .

الباب العشرون : أضواء علي هذه الحقبة من الزمن


الفصل الأول : وشهد شاهد من أهلها – تصديق علي ملاحظاتنا

في البابين الثاني والخامس من هذا الجزء في الحديث عما يتصل بمشروع الإصلاح الزراعي وجمعية الفلاح ، وفي الباب الحادي عشر فيما يتصل بمشروع اتفاقية الجلاء ، داخلني شعور ببعض شكوك حول اهتمامات أمريكية ملفتة للنظر وجدت صداها بارزًا في تصرفات الحكومة المصرية .. ولم أكتم في نفسي هذا الشعور بل صارحت القارئ به ، غير أني في نفس الوقت لم أجرؤ أن أنقل الشعور من دائرة الشكوك إلي دائرة الحقائق . ولكنني بعهد أن أنهيت مسودة هذا الجزء ، وقع لي كتاب أعارنيه صديق ، فلما قرأت هذا الكتاب وجدت من الأمانة العلمية أن أعود علي هذا الشعور الذي بثثته القراء بمزيد من البسط وبشيء من المناقشة علي ضوء ما تضمنه هذا الكتاب من معلومات ، تاركًا للقراء بعد هذا البسط وهذه المناقشة أن يعيدوا تقييم هذا الشعور فيبقوا عليه في دائرة الشكوك أو ينقلوه إلي دائرة الحقائق .

والكتاب الذي وقع لي هو كتاب وضعه الدكتور محمد صادق دراسة وتحليلاً حول كتاب " لعبة الشعوب " وقد أحسست وأنا أقرأ هذا الكتاب بأن الدكتور محمد صادق قد بذل مجهودًا مضنيًا في تقصي نصوص كتاب " لعبة الشعوب " ودارستها وتحليلها دراسة العالم الخبير ، كما أنه كان من دقة الأمانة العلمية إلي حد أنه في نقله نصوص الكتاب من طبعته الانجليزية كان حريصًا علي إلحاق كل نص برقم الصفحة ورقم السطر . ولكننا فيما ننقل عنه للقارئ من هذه النصوص فسنكتفي بذكر الصفحة دون رقم السطر . ومع ذلك فلن نلجأ إلي تحليلات الدكتور محمد صادق إلا في القليل وسيكون همنا منصبًا علي نقل نصوص كتاب " لعبة الشعوب " نفسه ووضعها للقراء تحت عناوين ، ذلك أن مؤلف هذا الكتاب " مايلز كوبلاند " أحد الذين قاموا بدور هام في تأسيس المخابرات المركزية الأمريكية وفي نشاطها السري بمنطقة الشرق الأوسط منذ عام 1947 ، وكان يعمل بالمخابرات المركزية الأمريكية في مصر في بداية عهد عبد الناصر – يذكر ذلك عن نفسه ويقول إنه قام بدور هام في العلاقة بين المخابرات المركزية وحكام مصر العسكريين . ويروي في هذا الكتاب ذكرياته عن الفترة من عام 1947 إلي 1967 ويضيف إليها آراءه وتعليقاته – وإن كانت وجهة نظره في هذه التعليقات تصور التدخل الأمريكي علي أنه حتمية تاريخية ، و تصور نظم الحكم " الناصرية " علي أنها ثمرة هذا التدخل ، وأنها في نظره أحسن نظم الحكم التي تحقق أهداف السياسة الأمريكية ، وتلاءم المصالح الغربية في الدول الناشئة في آسيا وأفريقيا .

وهذا التصوير الذي يصوره للتدخل الأمريكي في بلادنا هو من حقه باعتباره أمريكيًا مسئولاً عن تقديم أعظم خدمات لبلاده ، وعن تهيئة الظروف حيث كان لإنجاز مصالحها .. ولا يعنيه بطبيعة الحال إن كانت تهيئة الظروف هذه هي في مصلحة البلاد التي تهيأ فيها هذه الظروف أم هي في غير مصلحتها لأنه يعمل في هذه البلاد لحساب بلاده وحلفائها الغربيين . وهو يقرر أن سياسة الولايات المتحدة ذات الوجهين ، وجه تمارسه الحكومة الأمريكية ووزارة الخارجية ، وهذا الوجه يتقيد بالمبادئ الدبلوماسية والأخلاقية . والوجه الآخر فيما يراه " كوبلاند " ويسميه " السياسة الخلفية " يري أن السياسة الأمريكية يجب أن يكون هدفها الأول مصالح أمريكا ذاتها ، وأنها يجب أن تعمل لحماية مصالحها " الجوهرية " بجميع الوسائل والأساليب ، حتى ولو لم تكن متفقة مع القواعد الخلقية ولا مع المبادئ الديمقراطية .. وهذا هو الاتجاه " الميكافيلي " ويمارس هذا الوجه " إدارة المخابرات المركزية " .

وبعد أن يذكر " كوبلاند " في كتابه مبررات هذه الإستراتيجية " ذات الوجهين " ويبين الأسباب التي دعت الولايات المتحدة إلي السير فيها بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط خاصة ، وشعوب العالم الثالث عامة ، ولا يخفي شعوره بما في هذه السياسة المزدوجة من نفاق وخداع يتعارض مع المبادئ الأخلاقية والمثل الأمريكية .. بعد ذلك أخذ يبرئ نفسه من الدفاع عنها ، وإن كان يقررها كحقيقة واقعة بقوله في صفحة 21 :

" من الطبيعي أنني لا أدفع عن هذه الازدواجية ، إنني لا أشعر بميل إليها ولا نفور منها ، إنما اكتفي بالقول إن هذا هو الواقع ، وإن علمنا (سواء في " مركز اللعب " أو في عالم الواقع الذي تقوم به دبلوماسيتنا وقواتنا المسلحة) أساسه وجود هذه " السياسة المزدوجة " . " .

ويلاحظ أن كوبلاند مؤلف هذا الكتاب عاش في المنطقة منذ عام 1947 وشارك بصفته أحد رجال المخابرات الأمريكية في " بعض " العمليات التي نفذتها في سوريا وفي مصر بصفة خاصة . وقد رأي بعد كارثة عام 1967 أن ينشر في كتابه " بعض " معلوماته عن تلك العمليات التي شارك فيها . وهو يصرح بأنه كان من خلصاء جمال عبد الناصر فيقول في صفحة 77 :

" من الراجح أنني رأيت عبد الناصر أكثر من أي " غربي " آخر حتى هذه اللحظة . ولو أنه لم يعد من الممكن لي أن أفاجئه بدون رسميات وأن أجلس للغداء معه ، فإنني أحرص علي أن تكون لي معه جلسة وحديث كل شهر أو شهرين علي الأكثر ، وذلك في ظروف يرتفع فيها التكليف ، وينطلق هو فيها علي سجيته وفطرته إلي أقصي حد ممكن – لقد كنت أذهب لهذه الأحاديث في بعض الأحيان لمجرد المودة الشخصية كصديق . ولكن في بعض الأحيان كنت أكلف بمهمة يكلفني بها أحد شركائي . وكان يسبق الزيارة في بعض الأحيان درس كامل يعطيه لي أحد " الأطباء " أو " المحللين النفسيين " أو مسئول عادي في المخابرات ، ويمكنني هذا الدرس من كشف الأعراض التي قد تدل علي انهيار صحي أو في القوي العقلية " .

كما أن " كوبلاند " يقرر بأنه صديق لعبد الناصر وانه يحبه شخصيًا ، يقرر ذلك في صفحة 239 ويذكر لنا صفاته الشخصية وأهمها في نظره أنه " شجاع ولا مبدأ له " . رغم أن كتابة 5قد حدث ضجة كبرى في الأوساط العربية التي اطلعت عليه ، إلا أنه مع ذلك لم يفض بكل ما عنده فقد قال في صفحة 14 من كتابه : " عندما قررت ماذا أكتب وماذا احتفظ به ، فإنني قد راعيت أن الهدف من كتابي هو .. ثم يقول : " لقد حذفت المعلومات التي تمنع نشرها قواعد الأمن الحكومي سواء بالنسبة للحكومة الأمريكية والبريطانية " ويذكر في صفحة 238 أنه هرب من مصر في أواخر مايو 1967 قبل الهجوم الإسرائيلي علي مصر بأيام معدودة .. ولعل لهذا التوقيت مغزى لدي بعض القراء .

• لماذا قرر " كوبلاند " نشر كثير من الوقائع السرية ؟

أما لماذا قرر " كوبلاند " نشر كثير من الوقائع السرية الخاصة بالمخابرات الأمريكية والعلاقات الدبلوماسية الأمريكية رغم أنه من المفروض أنه مازالت له صلات بأوساط المخابرات ، فتجيب عليه جريدتنا الكريستيان سيتس مونيتور ولوس انجلوس تيمز فتقولان : إن كوبلاند يقول إن الصحفي الجاسوس الانجليزي " كيم فلبي " كان يعلم أغلب هذه التفصيلات السرية ، وإن الروس الآن أصبحوا يعرفونها (بعد أن هرب فلبي إلي روسيا) . ولكن يوجد سبب آخر ظهر فيما بعد ، ذلك أن اثنين من المؤلفين كان يعدان كتابًا تثبت أن عبد الناصر كان عميلاً فعليًا للمخابرات المركزية الأمريكية أثناء صعوده سلك السلطة ، وأن المخابرات المركزية وجدت أن نشر وجهة النظر هذه سيضر بالمصالح الأمريكية . لذلك قررت أن تكشف بعض ملفاتها السرية علي أمل أن تظهر عبد الناصر علي أنه وطني مستقل حاول أن يستغل الولايات المتحدة من أجل تحقيق مصالح مصر الوطنية .

• " لعبة الشعوب " أو " مركز اللعب " :

يقول كوبلاند في صفحة 23 من كتابه إنه كان يلعب دور عبد الناصر في " مركز اللعب " ابتداءًا من صيف عام 1955 إلي ربيع عام 1957 . ويصف هذا المركز بأنه في الطابق الثاني عشر من إحدى ناطحات السحاب بواشنطن ، وأن اجتماعاته تبدأ من الخامسة بعد الظهر حتى الثانية عشرة ليلاً ، وأن هدفه هو أعداد التنبؤات بردود الفعل أو المواقف التي تتخذها بعض الشخصيات الأجنبية في ظروف معينة تقترحها إدارة المخابرات حتى تعرف مقدمًا ماذا ستفعله هذه الشخصيات عندما تتوفر تلك الظروف لها في الواقع العملي مستقبلاً " .

ويشرح الدكتور محمد صادق دور هذا المركز فيقول : " إن هذا المركز الذي صنعته المخابرات الأمريكية يقوم بدور مسرح صغير تجري فيه " بروفات " وتجارب ينوب فيها خبراؤها عن الشخصيات الأجنبية التي يمثلونها – ويتصرفون كما يعتقدون أنها سوف تتصرف إذا وجدت في الظروف المفروضة عليهم ، والتي يحتمل أو يتوقع أن تتحقق في يوم من الأيام في عالم السياسة الدولة في " المسرح الكبير " مسرح العلاقات الدولية والأحداث السياسية الذي تقوم فيه هذه الشخصيات الأجنبية فعلاً بأدوارها التي تنبأت بها المخابرات الأمريكية قبل وقوعها عن طريق تجاربها في المسرح الصغير . بهذه الوسيلة التمثيلية الدراسية تستطيع أجهزة المخابرات ومخططو السياسة الأمريكية أن يعرفوا الظروف التي يمكن إذا تحققت أن تدفع زعيمًا معينًا أو سياسيًا معينًا (كعبد الناصر مثلا) لاتخاذ قرار معين أو موقف معين (مثل قرار تأميم قناة السويس أو قطع العلاقات مع بريطانيا أو ألمانيا الغربية أو إعلان الحرب علي إسرائيل أو صفقة الأسلحة التشيكية إلخ) فإذا أرادوا بعد ذلك أن يدفعوه نحو اتخاذ مثل هذا القرار دون أن يظهروا ذلك عملوا علي خلق الظروف والأساليب التي يعلمون مقدمًا – من دراستهم في مركز اللعبة – أنها تدفعه إلي اتخاذ القرار المطلوب . وهكذا يحققون غرضهم في الوقت الذي يعلنون " معارضتهم " أو " احتجاجهم " علي ما وقع بتدبيرهم المبني علي التنبؤ " برد الفعل المعاكس " تمامًا كما يفعل لاعب البلياردو حتى يدفع كرته لتنصل إلي كرة أخري ، ولكنه لا يوجهها نحوها ، بل يوجهها نحو موقع مغاير يعلم أنه سيصدمها ويدفعها بعد ذلك في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي كانت متجهة إليه .

ونجاح المخابرات الأمريكية في هذه " العمليات " يتوقف علي دراسة الشخصيات التي تتعامل معها ، وفهم العوامل والاعتبارات التي تؤثر فيها ، علي مدي سيطرتها الفعلية علي " العوامل المؤثرة " في الشخصيات السياسية الأجنبية التي تتعاون معها أو تتعامل معها – وهذه العوامل المؤثرة هي " مفاتيح " شخصية الرجل السياسي التي تحركه . ومتى عرفتها المخابرات ، ووضعت يدها عليها ، أصبح في يدها الخيوط التي تحركه وتدفعه في اتجاهات معينة . تمامًا كما يمسك اللاعب المستتر في " مسرح العرائس " بالخيوط التي توجه الدمى وتحركها هنا وهناك ، لتقوم بأدوارها المرسومة لها أمام النظارة والمتفرجين كما لو كانت تتحرك وتتصرف من " تلقاء نفسها " . وقد أشار كوبلاند من غير قصد في صفحة 24 إلي حالة من هذا النوع حين قال : " أسبوع واحد قبل أزمة السويس (تأميم القناة) سألني " فرانك فزتر " نائب مدير قناة السويس فيما لو سحبت الحكومة الأمريكية معاونتها المالية لمشروع السد العالي (فضلاً عن قيامه بإجراءات أخري) ؟ - فأجبته :

" حقاً ، إنني في مكانه وأثناء قيامي بدوره في " اللعب " لقد قررت تأميم شركة قناة السويس منذ شهر سابق – ولكنه لم يفعل ذلك حتى الآن – ولذلك لا أعرف ماذا سيفعل الآن " .

يقول الدكتور محمد صادق : " إن المؤلف " كوبلاند " يستشهد بذلك علي أن مواقف عبد الناصر كانت دائمًا أقل ضررًا علي المصالح الغربية مما كان يتوقعه هو عندما كان يقوم بتمثيل دوره في " مركز اللعب " ولكن جوابه يؤكد أنه كان يعلم بأن العوامل التي تدفع عبد الناصر للتأميم قد توفرت منذ شهر ( وإن كان لم يذكر هذه العوامل) وأنه كان مندهشًا لعدم إقدامه علي ذلك ، حتى إنه سأل عبد الناصر بعد ذلك عن السر في هذا " التأخير " غير المتوقع – ففهم أنه كان يخشي أن يكون رد الفعل الانجليزي الأمريكي أعنف مما حدث – بسبب جهله ببعض " المعلومات " التي كانت لدي كوبلاند . (لا شك أنها معلومات تدل علي عدم عنف المعارضة الأمريكية للتأميم ولكنه لم يذكرها أيضًا) . هذه القصة تؤكد أن الحكومة الأمريكية عندما سحبت معاونتها للسد العالي كانت تتوقع أن يكون تأميم القناة أحد ردود الفعل التي سيتخذها عبد الناصر . وأن ما أظهرته من دهشة واعتراض علي التأميم عند صدور قراره لم يكن يتفق مع الواقع – بل إن القارئ يستطيع أن يتساءل هل كانت السياسة الأمريكية تهدف إلي دفع عبد الناصر لهذا القرار ، وأنها أوجدت الظروف التي تدفعه لذلك قبل سحب إعانة السد العالي بشهر كامل ، ولكنه تردد ولم يقدم ، فزادت عليها بعد ذلك قرارها بسحب الإعانة وهي تتوقع أن يقدم علي التأميم هذه المرة – وقد كان .. وثم ما أرادت رغم ظهورها بمظهر الاعتراض ؟! .

• لماذا تحولت الخارجية الأمريكية عن الاتجاه المثالي ؟

يربط " كوبلاند " بين تحول السياسة الأمريكية إلي الاتجاه الميكافيلي وبين التمهيد للانقلاب العسكري في مصر في أواخر عام 1951 وأوائل عام 1952 ، وهي الفترة التي وصلت فيها الأزمة بين مصر وبريطانيا أقصي درجاتها بتزايد العمل الفدائي الشعبي ضد القواعد الانجليزية بالقنال – وضغط الرأي العام المصري علي الحكومة وعلي الملك فاروق لدرجة أدت إلي إعلان إلغاء المعاهدة 1936 التي كان يعتمد عليها الوجود العسكري البريطاني في القنال في أكتوبر عام 1951 – فأصبح وجود القواعد العسكرية الانجليزية بغير " أساس " وأصبح العمل الفدائي واجبًا وطنيًا وكفاحًا شعبيًا مجيدًا . كان وزير خارجية أمريكا في ذلك الوقت هو المستر دين أتشيسون – ويظهر أنه تعرض لضغوط دولية لم يذكر لنا المؤلف كوبلاند مصدرها – وإن كان من المفهوم أنها آتية من ناحية بريطانيات أولاً ثم من ناحية إسرائيل أيضًا لأنها كانت تعتبر الجيش البريطاني في القنال هو خط دفاعها الأول ضد الحركات الفدائية المصرية .

ويصف كوبلاند موقف المستر أتشيسون في عام 1951 في صفحة 48 فيقول : " يظهر أن وزير الخارجية المسر دين أتشيسون في عام 1951 لم يكن علي كل حال ذا ثقة تامة في (الأساليب الديمقراطية) إنه عندما كان يتكلم علنًا لم يكن يذكر سوي أساليب " الدبلوماسية التقليدية " ولكن في أحاديثه الخاصة كان يبدي اعتقاده أن احتمال الالتجاء إلي بعض " النشاطات غير التقليدية " (المخالفة للمبادئ الديمقراطية والأخلاقية كتدبير الانقلابات والمؤامرات .. إلخ) – هو أمر يستحق الدراسة علي الأقل لمساعدة بعض "القوي الطبيعية " علي الظهور . ونتيجة لذلك فإنه في نهاية عام 1951 قررّ تشكيل " لجنة خبراء " سرية لدراسة العالم العربي فيما يتعلق علي الخصوص بالنزاع العربي الإسرائيلي لاستعراض المشاكل ، واقتراح الحلول سواء كانت تتفق مع أساليب العمل الحكومي " النظيف .. أم لا " . وقد استعار وزير الخارجية من الهيئة المركزية للمخابرات الأمريكية المستر " كيرميت روزفلت " ليرأس هذه اللجنة ، التي كانت تضم بعض رجال وزارة الخارجية وبعضًا آخر من وزارة الدفاع وبعض المستشارين من دوائر رجال المال ومن الجامعات . ولم يكن فيها من المخابرات إلا رئيسها .

• ما الذي قررته لجنة الخبراء ؟

يقول " كوبلاند " : إن أهمية هذه اللجنة هي أنها قد بحثت عن الوسائل التي تستخدمها مخابرات الولايات المتحدة لتمكين العناصر الموالية لها من الوصول إلي الحكم – وقد قررت اللجنة بصراحة أن لها أن تستعمل كل الوسائل دون تقييد بقواعد " الدبلوماسية التقليدية " أي لا تتقيد بالمبادئ الأخلاقية أو الديمقراطية – ويقول " كوبلاند " إن قرارات هذه اللجنة هي نقطة التحول من المرحلة التي استخدمت فيها الوسائل التقليدية من عام 1947 إلي عام 1951 وبين المرحلة التالية التي قررت السياسة الأمريكية فيها توسيع نشاط مخابراتها ليمتد إلي الوسائل الانقلابية والميكافيلية . ويشرح كوبلاند ذلك معبرًَا عن وجهة نظره في صفحة 21 فيقول :

" هناك حدود لما تفعله حكومة بلد ديمقراطي في شئونها الداخلية – ولكن لا توجد حدود لما نستطيع أن نعمله " في البلاد الأخرى " – أو علي الأصح ، فإن حكومتنا عندما تقرر ماذا سنفعل بالنسبة لبلد آخر ، فإن الحدود الوحيدة لذلك العمل هي استطاعتنا له وإمكانية تنفيذه – فكل ما نستطيع أن نفعله نفعله – أما الاعتبارات الأخلاقية فإنها ظهرت فكل ما يترتب عليها هو أننا لا نسأل أنفسنا فقط " هل نستطيع أن نفعل ذلك ؟ " بل يجب أن نتساءل " هل نستطيع أن نخفيه ونهرب به ؟ " . ويقول كوبلاند : إن اللجنة قررت أن " المشكلة المصرية " كانت قد حظيت بالأولوية علي ما سواها ، وأن اللجنة رأت وجوب تدخل الولايات المتحدة في " هذه المشكلة " بسرعة . وسمي هذا التدخل في مصر : " العملية الكبرى " .

• لماذا اختارت اللجنة مصر لتنفيذ العملية الكبرى ؟

يتجاهل كوبلاند عامدًا السبب الحقيقي مع أنه قد ذكره من قبل وهو " نجاح الشعب المصري والحركة الفدائية المصرية في إلغاء معاهدة عام 1936 ، ووقوف الشعب والحكومة الوفدية ، وخضوع الملك للإدارة الشعبية " . ومع أن كوبلاند تجاهل هذا السبب فإن كتابًا في نفس الموضوع ظهر قبل كتابه هو كتاب " هيئة المخابرات المركزية الأمريكية " الذي ألفه " أندرو كوللي " تكلم بكل صراحة ووضوح في صفحة 68 عن اتفاق بريطانيا مع أمريكا علي إبعاد فاروق بعد 26 يناير 1952 – مما يفهم منه أن مبدأ التدخل الأمريكي كان متفقاً عليه من قبل ، وأن حريق القاهرة جعل الدولتين تتفقان علي أن يصل التدخل حد تغيير نظام الحكم الملكي أو إقصاء فاروق علي الأقل . ومع تجاهل كوبلاند لكل هذا فإننا نسايره فنجده يقول في صفحة 49 : " إن اختيار مصر لأنها بلد يتمتع بأولوية ممتازة بسبب مزاياها الخاصة ، وبسبب نفوذها في الدول العربية الأخرى لدرجة تجعل كل اتجاه للتحسن فيها مؤثرًا في العالم العربي " ثم يقول : " ومن ناحية أخري أي ناحية " تنفيذ العملية " كان من المعتقد أن ذلك سهل ، ليس فقط بسبب طبيعة شعبها وطبيعة ساستها ، بل أيضًا بسبب أن عندنا منفذين مشهود لهم بالمهارة ، يعرفون البلاد معرفة جيدة ، ومن بينهم " كيرميت روزفلت " نفسه رئيس اللجنة " .

• هل كانت هناك جهود بذلها روزفلت في مصر من قبل ؟

يقول كوبلاند إن روزفلت كانت له اتصالات في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية ، وأنه اتصل بالملك فاروق إذ ذاك ، وأن فاروق كان يميل إليه . ويقول في صفحة 51 : " إن الملك فاروق قد توفر لديه ميل إلي روزفلت خلال الحرب أثناء الأزمة التي أجبره فيها الانجليز بقوة السلاح علي إبعاد العناصر التي تعطف علي " المحور " من الحكم ، وأن يضع مكانها أشخاصًا تختارهم بريطانيا (يقصد أزمة 4 فبراير 1942) . " في تلك الفترة كان فاروق يحترق غيظًا في قصره ، ولا حول له ولا قوة . وكان روزفلت يزوره يوميًا تقريبًا ليهدئه ويوحي إليه بأنه بعد انتهاء الحرب يحتمل أن توضع خطة جديدة لتتمتع مصر بسيادتها الكاملة ، وليكون فاروق أول حاكم لمصر المتحررة بعد ألفي عام " . ويعلق الدكتور محمد صادق تعليقاتً له دلالاته علي عبارة " بعد ألفي عام " التي جاءت في كلام روزفلت لفاروق حيث يقول في تعليقه : لا ندري من أين جاء روزفلت بهذا الرقم ؟ وأهم ما فيه أنه يفترض أن مصر لم تكن مستقلة طوال العصور الإسلامية كلها (2000 سنة) حتى إن عبد الناصر رددها في خطبة له في عهد قريب سنة 1966 في عيد الجلاء إذ قال : " منذ أكثر من ألفي عام ووطننا يحكمه الغرباء – أي المسلمون – والحلم الضائع لأبنائه أن يعود وطنهم إليهم .. وبعد عام واحد من هذه الخطبة وقعت الهزيمة والنكسة سنة 1967 .

ثم نرجع إلي السياق فنقول : إن كوبلاند لا يذكر لنا شيئًا عن اتصالات روزفلت أو غيره من خبراء المخابرات الأمريكية مع فاروق أثناء أزمة القنال قبل نهاية عام 1951 – وإنما ينقلنا مباشرة من عام 1942 إلي عام 1952 فيقول في صفحة 52 :

" بقي روزفلت في القاهرة الشهرين الأولين من عام 1952 (يناير وفبراير 1952) ثم يقول ما ملخصه أن روزفلت حاول مع فاروق تنظيم " ثورة سلمية " بإجراء حملة تطهير في الأجهزة الحكومية ، ولكن فاروق أبعد العناصر المعروفة بفسادها ثم وضع بدلاً منها رجالاً أكثر منهم فسادًَا اختارهم هو " . ثم يقول كوبلاند في نفس الصفحة بعد ذلك : " في شهر مايو 1952 رفع روزفلت يديه علامة علي اليأس من فاروق . ووافق علي رأي سفير أميركا في ذلك الوقت " جيفرسون كافري " وهو أن الجيش وحده هو الذي يستطيع أن يواجه الوضع " الفاسد " وإقامة حكومة تستطيع الدول الغربية أن تتفاهم معها " .

يقول الدكتور محمد صادق : هنا فقط ، وبصفة عارضة ، وعلي لسان السفير الأمريكي في القاهرة ، اضطر كوبلاند إلي ذكر المشكلة الرئيسية التي تفادي ذكرها طوال الوقت وهي مشكلة " التفاهم مع الدول الغربية " . ومعني هذا أن عناد فاروق وإصراره الذي ذكره كوبلاند لم يكن خاصًا بموضوع الرشوة والفساد كما يحاول أن يوهمنا بل امتد العناد إلي أكثر من ذلك هو موضوع " التفاهم مع الدول الغربية " . الأهم من ذلك أن هذا العناد من جانب فاروق ومن جانب جميع السياسيين التقليديين لم يكن اختيارًا منهم وإنما فرض عليهم فرضًا من التيار الشعبي الجارف المعادي للغرب – فلابد من وسيلة لتحطيم هذه " المقاومة الشعبية " وكان رأي كافري أن الجيش هو وحده الذي يستطيع أن يقوم بهذه المهمة . لكن هذه الفكرة لم تكن مرتجلة ، ولا بنت ساعتها .. لقد سبقتها دراسات وأبحاث في أوساط الجيش ، واتصالات بمجموعة من الضباط الذين أظهروا استعدادهم للتفاهم .

• ما سبب استعجال المخابرات الأمريكية لحل مشكلة " التفاهم مع الدول الغربية " ؟

يقول " أندرو توللي " الذي أشرنا إليه من قبل وكتابه " هيئة المخابرات الأمريكية " الذي نشر عام 1962 وطبع عدة طبعات . يقول في صفحة 86 : " وصلت موجة العداء للغرب إلي أقصاها في أكتوبر عام 1951 عندما أعلنت حكومة البريطانيين (حكومة الوفد برياسة مصطفي النحاس) إلغاء معاهدة 1936 مع بريطانيا ، وطرد البريطانيين من القنال والسودان المصري الانجليزي . وفي يناير عام 1952 (26 يناير) قامت مظاهرات عنيفة ضد الغرب وضد بريطانيا ، وسارت وسط القاهرة . وأحرقت فندق شبرد المعروف ، وكذلك أحرقت ممتلكات مصرية وأجنبية أخري ، ولقد كان من الظاهر أن فاروق شجع هذه المظاهرات ، ولكن عندما خرجت عن السيطرة ، وتحولت إلي نهب ممتلكات أصدقائه (الغربيين) استدعي الجيش لإعادة النظام .. والراجح أن هذا هو الوقت الذي قررت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا ضرورة التخلص من فاروق " .

أما تحول موجة العداء للغرب إلي ثورة شعبية فقد أشار إليه كوبلاند نفسه في كتابه صفحة 54 حيث يوضح أن خطورة هذه الثورة الشعبية كانت ترجع إلي أن المسيطر عليها هم الإخوان المسلمون فيقول :

" إن الحركتين الثوريتين في ذلك الوقت هما " الإخوان المسلمون " و " الحزب الشيوعي " كانتا تعتقدان أن الشعب المصري بما فيه الفلاحون والعمال والموظفون في المدن ، بل وذوو المهن الحرة أيضًا – كان قد وصل سخطه إلي درجة الغليان ،وأنه يمكن أن ينفجر إذا وجد التوجيه الصحيح " يقول الدكتور محمد صادق : إن صاحب " لعبة الشعوب " مُصِرّ علي أن لا يشير إلي الجهة التي تهددها هذه " الثورة الشعبية " ولكن يتضح مما ذكره سلفه " توللي " أن الثورة كانت موجهة ضد الغرب عمومًا ، وضد بريطانيا ومصالحها خاصة وإسرائيل من ورائها . فما هو العلاج الذي كانت تفكر فيه السياسة الأمريكية لمواجهة هذه " الثورة الشعبية " ؟! .

• اتفاق المخابرات الأمريكية مع " الناصريين " :

يقول كوبلاند في صفحة 53 : " كان روزفلت غير واثق من " الانقلابات العسكرية " بعد أن رأي ما أدت إليه في سوريا من فوضى . ولكنه " وافق : علي أن يقابل الضباط الذين قدمتهم له " المخابرات المركزية الأمريكية " علي اعتبار أنهم زعماء التنظيم السري العسكري الذي يدبر " انقلابًا عسكريًا " إنه فعل ذلك في مارس عام 1952 أي قبل أربعة شهور قبل " الانقلاب الناصري " . إن عبد الناصر قد علم (بأي طريق ؟) بالمحاولات الاستطلاعية التي قامت بها المخابرات الأمريكية لمنظمته ، وكان علي استعداد للاتصال ، ودبر الأمر لكي يجد روزفلت في طريقه عددًا من الضباط البعيدين عن مركز الحركة ليصرفهم كما يشاء ، والذي يثق في أنه يمكن أن يعتمد علي أنهم سوف يقولون " ما يجب قوله ويحتفظون بأسرار الضباط الأحرار " – لقد تمت ثلاث لقاءات . وكان يحضر ثالثها أقرب المقربين لعبد الناصر . وقد توصل روزفلت مع هذا الضابط الذي كان يتكلم باسم عبد الناصر شخصيًا إلي " اتفاق " واسع النطاق يستحق أن نذكره : هناك ثلاث مسائل عامة تم الاتفاق عليها فورًا . وهي .. " .

يقول الدكتور محمد صادق : لقد استطرد كوبلاند في شرحه لنقاط الاتفاق الذي تم بين روزفلت وبين جماعة عبد الناصر في شهر مارس 1952 بإفاضة وإسهاب مسود بها ست صفحات من مؤلفه (من صفحة 54-59) نكتفي هنا بتخليصها فنقول :

علي حد قول كوبلاند كانت النقطة الأولي هي : أن جماهير الشعب المصري لا يمكن أن تثور بسبب الحالة الاقتصادية .

أما النقطة الثانية : فهي أن المصريين لنم يثوروا لأي سبب من الأسباب ، وبالتالي فلا داعي لتخوف الأمريكيين من ازدياد نفوذ الحركة الثورية للإخوان المسلمين ، ولن تكون هناك ثورة شعبية ديمقراطية في مصر .

أما النقطة الثالثة : التي تمهد لها وتؤدي إليها النقطتان السابقتان فهي ما يلي (ص 55 وما بعدها) : " أخيرًا اتفق علي أنه في مستقبل العلاقات بين الحكومة المصرية " الجديدة " (الطبقة الجديدة) سيكون استعمال عبارات " إعادة الحياة الديمقراطية " أو " إقامة حكم نيابي صحيح " – مثل هذه العبارات ستكون مقصورة علي البيانات التي يطلع عليها الرأي العام – أما فيما بيننا فسوف يوجد تفاهم سري بأن الشروط اللازمة لقيام حكم ديمقراطي لم تتوفر ولن تتوفر لسنين عديدة " .

بعد هذه النقاط الثلاث العامة التي تم الاتفاق عليها – يشير كوبلاند إلي أن هناك " نقاطًا أخري " يدعي أنه لم يتفق عليها صراحة ، ولكنه كانت موضوع " تفاهم متبادل بين الطرفين " .

أول هذه النقاط " الخاصة " وأهمها في نظر كوبلاند هي : موقف عبد الناصر من إسرائيل – ويليها الموضوع الشائك وهو موضوع " القومية العربية " ثم " مرونة " موقفهم تجاه البريطانيين – وعندما يصل كوبلاند إلي هذه النقطة الأخيرة ، وهي موقف الضباط الأحرار من البريطانيين ومدي مرونته ، يختم حديثه بهذه العبارات (ص58 ، 59) : " لقد فهم روزفلت هذه النقطة . وعندما عاد من القاهرة إلي واشنطن شهرين قبل الانقلاب (أي في شهر مايو) قدم تقريره إلي دين أتشيسون وزير الخارجية . والنقطة التي فهمها روزفلت هي أن هؤلاء الضباط وإن كانوا يكرهون الانجليز إلا أنهم يحترمونهم احترامًا شديدًا ، فعداؤهم للانجليز ليس عميقاً ولا ثابتًا ولا دائمًا كعدائهم للكبار المصريين من ضباط وسياسيين " . يقول الدكتور محمد صادق : معني ذلك أن تحليل موقف الضباط من الانجليز كان نقطة حاسمة في إقناع روزفلت بأن الانقلاب العسكري بواسطة هذه الجماعة من الضباط هو أفضل وسيلة للوصول إلي اتفاق بين مصر وبريطانيا – وقد أشار لذلك روزفلت في تقريره كما أورده كوبلاند في صفحة 59 : " هؤلاء الضباط الذين سيقودون الانقلاب .. سيزدادون تعقلاً ومرونة في "المفاوضات " متى وصلوا للحكم " .

• ماذا في الاتفاق عن إسرائيل ؟

يقول كوبلاند في صفحة 56 : " إن عبد الناصر قرر لروزفلت بكل صراحة أنه هو وزملاؤه الضباط رغم ما لحقهم من مهانة الهزيمة علي يد الإسرائيليين – لا أنه أكد أن حقدهم موجه إلي رؤسائهم ، ثم إلي العرب الآخرين ، ثم إلي البريطانيين ، ثم إلي الإسرائيليين ، بهذا الترتيب " . ويعقب كوبلاند علي ذلك قائلاً في نفس الصفحة : " نتيجة لمحادثات روزفلت مع شخصيات مدنية كبيرة في مصر بما فيهم الملك فاروق – فإنه وصل إلي نتيجة أقنعته بالاتفاق مع عبد الناصر " . وعندما أورد كوبلاند خلاصة تقرير روزفلت الذي قدمه لوزير الخارجية عقب عودته لواشنطن اكتفي بما يعتقد أنه يهم وزارة الخارجية في الدرجة الأولي وهو" موقفهم من إسرائيل " فأكد كوبلاند في البند رقم (6) الذي أورده في صفحة 59 ما يلي :

" (6) فيما يخص كل هذه اللقاءات التآمرية (هذه هي كلمات كوبلاند) السابقة علي الانقلاب .. ففيما يخص " العدو " الذي يخشونه فلن يكون إسرائيل ، بل الطبقات العليا في مصر ، والانجليز .. " .

• شعور الضباط الناصريين نحو الشعب المصري :

في صفحة 54 يقول كوبلاند : " إن المتحدث باسم جماعة الناصريين ، في لقائهم مع مندوب المخابرات الأمريكية روزفلت ، مضي يقول : إن أغلبية المصريين عاشت عيشة الكفاف آلاف السنين . ويمكن أن تستمر علي ذلك ألف سنة أخري . إنهم لا توجد عندهم دوافع للثورة . وليست عندهم دوافع تحركهم للطموح نحو التمتع بحياة أفضل حتى بعد الثورة . ويعمل علي ذلك كوبلاند في صفحة 58 فيقول :

" وهناك انحراف فكري يتميز به ناصر وضباطه – وتميز به النموذج المصري من الحكام وأعوانهم علي العموم – فبينما يتكلمون بأعلى صوت ضد " العدو " الأجنبي (كالبريطانيين في هذه الحالة) نجد أن العداء الحقيقي المملوء بالمغزى والمعاني والذي يحركهم ويدفعهم للعمل هو العداء الذي يكنونه لأبناء شعبهم " . يقول الدكتور محمد صادق تعقيبًا علي ذلك : إننا لا نظن أن الأمريكيين قد صدقوا ما قاله لهم هؤلاء الضباط عن الشعب المصري ، أو أن ذلك شجعهم علي الاستخفاف والاستهتار بمقاومته ، بل علي العكس من ذلك ، فإن الذي استحق منهم الاستخفاف للتحقير هم هؤلاء الضباط الأحرار " المتزلفين لهم الساعين إلي استجداء تأييدهم ومساعدتهم وتدخلهم في شئون شعبهم – ويكفي لبيان درجة استخفاف الأمريكيين بهم أن نورد وصف كوبلاند لهم علي لسان الكولونيل " ميد " صفحة 65 الذي كتب إلي روزفلت يقول عنهم ما يلي :

" هؤلاء الصبيان " يظنون أنفسهم عصابة " روبن هود " المرحة – ويعجبهم أن يوصفوا بأنهم " أبطال الثورة " – إنهم لا تهمهم السياسة – ومن حسن حظنا وحظ عبد الناصر أنه يحتاجون إلي من يعلمهم كيف يفكرون وماذا يفعلون " .

ويواصل الدكتور محمد صادق تعليقه فيقول : هذا هو النوع الذي يشهر بأمته ، ويحقر تاريخها ومجدها . و هو الذي يصلح " للتعاون " مع القوى الأجنبية ذات المطامع والأهداف المناهضة لمطامح أمتهم وآمالها – وهذا يفسر لنا إسراع روزفلت إلي " الاتفاق " معهم وإصرار كوبلاند علي قوله بأن هذا النوع هو أحسن نوع من الحكام لمصالح الغرب .

• تحويل أنظار الشعب عن أعدائه الحقيقيين :

يقول الدكتور محمد صادق : إن وصول الطبقة الجديدة " الضباط الناصريين " للحكم معناه فتح الباب أمام معارك داخلية تحول أنظار الشعب عن المعارك الحقيقية – وبذلك تتم عملية " التحويل " . إن عملية " التحويل " ستجعل الشعب ينسي الانجليز المرابطين في القتال ، والإسرائيليين الذين وراءهم يحتلون فلسطين . وبدلاً من محاربة هؤلاء الأعداء الخارجين سوف تسير الجماهير تحت لواء " الطبقة الجديدة " في حروب داخلية ضد أعداء داخليين وهميين أو حقيقيين بحجة محاربة الفساد والرشوة أو الرجعية أو أي حجة أخري .

• خلاصة نتائج تجارب المخابرات الأمريكية في سوريا :

لقد أطال كوبلاند في دراسة أسباب فشل حسني الزعيم وفشل العمليات المحدودة التي قاموا بها في سوريا – ليستخلص منها الشروط التي يجب أن تتوفر في " اللاعب " أي الحاكم الذي يعتبره مثاليًا من وجهة نظر المصالح الأمريكية – والذي يجب أن يبحثوا عنه للقيام بـ " العملية الكبرى " التي كانوا ينوون الإقدام عليها . ويثير المؤلف (كوبلاند) إلي الدروس التي استقادوها من ذلك فيقول في صفحة 45 :

" ولعلنا نستوعب جميع الدروس التي كان يجب أن نتعلمها من تجربة حسني الزعيم – ومع ذلك فبالرجوع بذاكرتنا إلي الوراء نجد أن النتائج التي اتضحت منها بشكل كاف هي : .. وعقب ذلك يشير إلي ثلاث نتائج هي في الحقيقة الخصائص الأساسية المميزة للنظام " الناصري " وملخصها ما يلي :

1 – لا يكفي وقوع الانقلاب وتغير الحكومة ، بل الأهم هو بقاء الحكم الانقلابي إلي النهاية رغم إرادة الشعب ومعارضته .

2 – لابد من وجود " مجموعة " أو " طبقة " حاكمة وليس شخصًا فقط ، لأن هذا أضمن لاستمرار " النظام " المفروض .

3 – أن يكون لدي الحاكم صفات تبعد عنه تهمة عميلاً لنا ، بأن يتصرف بأسلوب لا يساير مصالحنا وأهواءنا بصورة كاملة ، ولا مانع من أن نتحمل منه " مبادرات سيئة ضدنا " متى كان وجوده في الحكم ضروريًا لحماية مصالحنا الأساسية ، وكانت هذه المبادرات ضرورية لبقائه في الحكم . وفي صفحة 44 يوضح كوبلاند أن وجود المجموعة أو الطبقة الحاكمة ليس معناه عدم وجود زعيم ، بل علي العكس من ذلك يجب أن يجمع الزعيم حوله جماعة أو طبقة " لا تستطيع أن تعيش بدونه " بأي حال من الأحوال فيقول :

" إن حسني الزعيم لم يتعلم نظريات " الزعامة الحديثة " وهي أن مهمة الزعيم الرئيسية هي أن يوجد الظروف التي تجعل معاونيه وأتباعه لا يجدون أمامهم أي حل بديل إلا التمسك به والتثبت ببقائه .. " .

ويقول في صفحة 50 : " وهكذا تبين لنا (أي للجنة) أنه إلي جانب دراسة احتمالات وجود زعيم محتمل – يجب أيضًا أن تدرس المجموعات المتعاونة المتدرجة التي تعمل تحت أمره – الطبقة الممتازة التي تليه ، ثم الطبقة التي تحتها ، والطبقة التي في القاعدة – لتتأكد من أنهم جميعًا يمكن أن يكونوا معًا كتلة واحدة منسجمة يربط بينها وحدة المصالح ووحدة الأغراض – " .

ثم تبين بعد ذلك أن أحسن طريقة لجعل هذه المجموعة متماسكة هو وجود خطر مشترك علي حد ما قاله الفيلسوف الانجليزي " برتراندرسل " – ولم تقصر اللجنة في دراسة ما هو " الخطر المشترك " الذي يجب أن يستغل لبقاء هذه المجموعة المتعاونة متماسكة تربط بينها وحدة المصالح ووحدة الهدف – ومن الغريب الذي سيدهش له الكثيرون أنه يؤكد أن اللجنة انتهت إلي أنه لا مفر من استخدام قضية النزاع العربي الإسرائيلي لهذا الغرض فيقول في نفس صفحة 50 ما يلي :

" في هذا الجزء من العالم ، لابد من تطبيق ملاحظات الفيلسوف " برتراندرسل " وهي " أنا وجود خطر مشترك " – هو أسهل طريقة لإيجاد التجانس والوحدة " – في خارج مصر يستعمل القادة العرب الخوف من إسرائيل لإيجاد نوع من الوحدة الوطنية في بلادهم . ونحن لم نجد طريقة تتفادى بها استعمال نفس الوسيلة في مصر (بعد الانقلاب المرتقب) بشرط أن يكون ذلك في نطاق الحد الأدنى تتفادى خطر إثارة العواطف التي يمكن أن تخرج عن سيطرة الحكام . وكان احتمال هذا الخطر يظهر ضئيلاً نظرًا لفداحة الهزيمة التي أصابت الجيش المصري أمام القوات الإسرائيلية في حرب عام 1948 – ومن ناحية أخري لم نكن هناك فرصة محتملة لإمكان إيجاد زعيم لا يستغل الخطر الإسرائيلي .. " .

• الاتفاق مع المخابرات الأمريكية قبل الانقلاب يشمل برنامج السياسة الداخلية :

ذكر كوبلاند عددًا من النقاط التي تم الاتفاق عليها والتي تكون في نظر الطرفين برنامج السياسة الداخلية الذي وافقت عليه أمريكا لكي يسير بمقتضاه الحكم العسكري بعد تنفيذ الانقلاب . وهذه هي أهمها – بعبارات كوبلاند نفسه :

1 – " إن حكومة الولايات المتحدة سوف تقبل خلع الملك فاروق ، وربما إلغاء الملكية تمامًا – ومع ذلك فلا مانع من أن تقدم احتجاجًا معتدلاً لإرضاء ذوي النفوس الطيبة . وسيكون من المناسب أن يظهر السفير كافري بعض الاهتمام لتأمين سلامة شخص الملك فاروق (صفحة 59) .

2 – " بعد تنفيذ الانقلاب بإجراء حكومتنا (الأمريكية) عن أية محاولة – فيما عدا المحاولات الكلامية – لإقناع الحكام الانقلابين بإجراء انتخابات أو بإقامة حكومة دستورية وما أشبه ذلك – وسوف تقوم علاقاتها مع الحكومة الجديدة (العسكرية) علي أساس أن النظم الديمقراطية يجب أن تبدأ من نقطة الصفر " (صفحة 59) .

3 – " تم الاتفاق علي أنه في مستقبل العلاقات بين الحكومة المصرية الجديدة (يعد الانقلاب) وبين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية فإن استعمال عبارات " إعادة الحياة النيابية " أو " إقامة حكم نيابي صحيح " سوف يكون مقصورًا علي البيانات التي تعلن للرأي العام – أما فيما بيننا فسيكون هناك تفاهم " سري " بأن شروط الحكم الديمقراطي لم تتوفر وأنها لن توجد لسنوات طويلة " (صفحة 55) .

4 – " ستكون مهمة الحكومة الجديدة هي إيجاد هذه الظروف وهي :

أ – محو الأمية وإيجاد طبقة مثقفة .

ب – إيجاد طبقة متوسطة مستقرة وواسعة .

ج – إشعار الجماهير بأن هذه الحكومة منهم – وأنها لم تفرض من جانب الفرنسيين ولا الأتراك ولا البريطانيين ولا الطبقة العليا في مصر .

د – تجسيم القيم والأهداف " المحلية " حتى يمكن إيجاد نظم ديمقراطية من نوع خاص (كالاتحاد الاشتراكي) مثلاً وتنميتها بدلاً من النظم المماثلة للديمقراطية الأمريكية أو البريطانية " (صفحة 55) .

5 – إن الثورة الشعبية التي تنبأت بها وزارة الخارجية الأمريكية والتي يسعي لها بجد الإخوان المسلمين – أو الشيوعيون – يجب استبعادها (صفحة 59) .

يقول الدكتور محمد صادق معقبًا علي بنود هذا الاتفاق :

ظاهر أن محور هذا البرنامج وهدفه (الموضح في الفقرة (5) .. هو استبعاد الثورة الشعبية التي إن نجحت ستكون نتيجتها حكمًا ديمقراطيًا نيابيًا – وقد أوضحت الفقرة (4) أن الحكم الديمقراطي المماثل للديمقراطية الأمريكية والغربية مستبعد بصفة نهائية في المستقبل القريب والمستقبل البعيد – وبدلاً من ذلك سوف يكتفي في المستقبل (بعد سنوات طويلة حسب الفقرة (3) بنوع آخر سموه " ديمقراطية " من نوع خاص (الفقرة 4/4 كالديمقراطيات الشعبية .

• من أسباب اختيار المخابرات الأمريكية لعبد الناصر :

قبل أن يقدم لنا كوبلاند في كتابه ملخص التقرير الذي قدمه روزفلت في عام 1952 إلي وزارة الخارجية الأمريكية عن نتائج اتصالاته ولقاءاته في مصر – قدم لها التقرير بالكلمة الآتية (صفحة 61) :

" إن التقرير المكتوب عن رحلة روزفلت إلي مصر وضع بأسلوب لا يفزع بعض لجان " الكونجرس " التي قد تكلف بالتحقيق في المستقبل . ولهذا لم يكن فيه تفسير صريح كامل لما بذلناه من مجهودات لكي نجد " زعيمًا " يقتله تعطشه الشفهية التي قدمها روزفلت فكانت أكثر صراحة – إذ قال للمسئولين : إن شخصًا ما يتحرق في تطلعه للسلطة ، وليس في حاجة للدبلوماسيين السريين الأمريكيين لتحريضه أو إلهاب حماسته للاستيلاء عليها " .

ثم يقول في صفحتي 59 ، 50 :

" إن سبب فشل حسني الزعيم أنه لم يكن يريد الحكم إلا من الحكم من أجل مظاهره . وكان يكفيه أن نناديه بصاحب الفخامة لكي نفعل ما تريده ويبقي عميلاً لنا .. إن هذا لم يكن يكفي لنجاح خطتنا ، لأننا نريد أن نوصل للحكم شخصًا لديه عقدة حب السلطة التي تدفعه ذاتيًا لكي يرتكب كل شيء ، ويعمل كل شيء ليبقي في السلطة بحكم حبه لها – ولا نكون نحن مسئولون عما يفعله ويرتكبه في سبيل بقائه في الحكم . كنا نريد شخصًا يكون سعيه للسلطة أقل مظهرية – لأننا كنا متأكدين بأننا متى ساعدنا مثل هذا الشخص للوصول للحكم ، فسوف نتخلص من كل مسئولية أدبية تزعج أنفسنا بسبب عقدة حب السلطة لديه – ومع ذلك فقد نضطر في يوم من الأيام طبعًا أن نفعل ذلك (أي نظهر الانزعاج) لأسباب تكتيكية (مثل تهدئة الرأي العام الأمريكي) .. " .

وفي الفصل الأخير من كتابه يؤكد كوبلاند في الصفحة 232 " أن عبد الناصر هو من ذلك النوع الذي يهتم بسلطته الشخصية ، وإلا لما وصل للحكم ولما تمسك به " . ثم تبين لنا أول النتائج التي يؤدي إليها هذا التعطش للسلطة ، وهي الاعتماد علي قاعدة البطش وصرف أموال كثيرة علي أجهزة البطش والعنف فيقول في نفس الصفحة :

" من المنطقي أن هذا النوع من القادة يجعل حكمه قائمًا علي قاعدة البطش والعنف . وهذه القاعدة الباطشة تحتاج إلي جهاز بيروقراطي وجيش تتجاوز تكاليفه طاقة مصر في الظروف العادية . وهذه النفقات الباهظة تجعله أكثر احتجاجًا إلي العون الخارجي " .

• موقف الحكومة الأمريكية من قوانين البطش والاضطهاد الناصرية :

يقول كوبلاند في صفحة 79 : " لا شك في أن الصحافة الأجنبية في خارج مصر انتقدت أساليب الحكم الناصري ، وكثير من السفارات الغربية أبدت في تقاريرها ظهور ما سموه (دكتاتورية عسكرية فاشستية في مصر) علي حد تعبير بعضهم . أما السفارة الأمريكية فكان لها رأي آخر يختلف عن السفارات الغربية الأخرى ، فإنها وإن وجهت بعض الانتقادات ، فلم يكن سبب ذلك بغضها لهذه الاعتقالات والمصادرات والحراسات والقيود علي الصحافة – كلا – بل بسبب الطريقة غير المناسبة التي فسرت بها الحكومة المصرية هذه الإجراءات للرأي العام – أي بسبب سوء الدعاية بمعني أدق .. " . ثم يتحدث – في صدد البطش – عن الشرطة المصرية فيقول في صفحة 80 :

" بالنسبة لوزارة الداخلية ، فإن رجال الأمن المصريين هم كرجال الأمن في غير مصر من البلاد ، ليسوا من أحسن طبقات الشعب – وإنما من الطبقة التي تلتحق عادة بإدارة الشرطة – لقد قال لي أحد كبار رؤسائهم مرة : إننا نسير علي اعتبار أن الناس جميعًا يخضعون للحكومة ، طالما فهموا أننا سوف نحطم رأس كل من يخرج علي طاعتها . " ربما يجئ يوم يستطيع فيه بعض الناس أن يجدوا طريقة تجعل ضباط الأمن أكثر تهذيبًا ورقيًا من ذلك – ولكن من المؤكد أن هذه الطريقة لم تكون موجودة في ذلك الوقت ولا معروفة لدي عبد الناصر ولا لدي مستشاريه الأمريكيين " . وفي صدد تعداد أنواع التعاون الأمريكي الناصري في توفير أحدث الأساليب البطش والإرهاب يقول كوبلاند في صفحة 82 :

" إن حكام مصر اشتروا أجهزة آلية ضخمة للرقابة . واشتروا مجموعة كاملة من الأجهزة الإلكترونية من أحدث ما وصلت إليه صناعة التجسس ومقاومة التجسس الأمريكي ، حتى إنه في عام 1960 أصبحت لديهم مسجلات سريعة وسهلة التركيب موضوعة تقريبًا في جميع غرف الفنادق أو يسجلوا المحادثات التي تجري في الشوارع من مسافة بعيدة ، فضلاً عن آلات تصوير بعيدة المدى تستطيع أن تصور في ظلام الليل وكانت هذه المعدات من الكثرة لدرجة أن رجال مصلحة السياحة بسبب ضرورات عملية اكتفوا باستعمالها في حالات جون أخري " . وفي صفحة 89 يعرض لرأي المراقبين الغربيين في أساليب البطش الناصرية ثم يعقب عليه برأيه الشخصي باعتباره المسئول الأمريكي لتوجيه عبد الناصر فيقول :

" لقد كان بغيضًا للمراقبين الغربيين أن يروا الملكية تصادر أو توضع تحت حراسة بهذه الطريقة المرتجلة ، وأن يروا الأفراد يسجنون ويعتقلون بناء علي مجرد الشكوك والظنون ، والصحافة مقيدة والمراسلين الصحفيين الأجانب يعاملون بخشونة في بعض الأحيان " . " ولكن من الناحية الأخرى ، ومهما تكن الصورة التي عرضت بها أساليب البطش الناصرية علي العالم الخارجي ، فإن أعمال البطش الناصرية لم تنفذ بطريقة عشوائية ، وإنما رسمت وحسب حسابها بكل برود (يظهر أن المؤلف يتكلم باعتباره قد اشترك بنفسه في عملية الحساب أو عملية التخطيط إلي جانب بعض المستشارين الآخرين) ومعني هذا أنه كان ضحيتها عناصر وأشخاص قليلون (لم يذكر العدد) ومن السهل تمييزهم (يقصد المعارضين للحكم العسكري) عن عامة الشعب . " إن عبد الناصر يبرز تصرفاته الدكتاتورية بحجة المحافظة علي نفسه وحب البقاء في الحكم ، وهي تشبه الحجة التي استعملها الإسرائيليون للقضاء علي الطوائف غير اليهودية في بلادهم " . ثم يزيد هذا الموقف إيضاحًا فيقول في صفحة 90 :

رغم أن الرسميين الغربيين الذين يكرهون عبد الناصر طالما رفعوا أصواتهم من وقت لآخر ليصفوه بالدكتاتورية والفاشية – رغم هذا – فالواقع الذي حدث هو أن الحكومة الأمريكية وإلي حد ما الحكومة البريطانية كانا يرقبان بكل انتباه عبد الناصر وهو يبني قوته الباطشة (ضد أبناء وطنه) ويتغافلون عن ذلك .

• تقرير إيخلبرجر اليهودي الأمريكي الذي اعتمده عبد الناصر دستورًا له :

استقدمت الحكومة الأمريكية الخبير " إيخلبرجر " ليشير علي عبد الناصر في كيفية " التجاوز " عن النظام النيابي (إلا ما يلزمه للتمويه) وكيفية إقامة دكتاتورية عسكرية ، لذلك اهتم هذا الخبير أول كل شيء بتوجيه عبد الناصر وجماعته إلي عدم المسالمة مع القوى الداخلية في مصر ، وإلي عدم الاعتدال في السياسة الداخلية ، وإلي وجوب الاعتماد علي قوة رادعة باطشة يكون الجيش أول أداة لها .. وكون الجيش عاملاً أساسيًا في سياسة البطش التي يتبعها الحكم الثورة معناه أن لا يكون صالحًا للحرب والدفاع عن الوطن . وقد أوضح كوبلاند أنه كان من المتفق عليه دائمًا بينهم وبين عبد الناصر أن الجيش المصري يعد فقط لأغراض داخلية – لا للحرب – وفي ذلك يقول في صفحة 85 :

" فيما يخص الموقف الأمريكي نحو استخدام عبد الناصر الجيش كقوة باطشة يجب أن نذكر ما يلي :

من أول يوم عندما كان عبد الناصر يطلب مساعدات عسكرية لم يكن هناك احتمال لأن يستعمل الجيش في أغراض عسكرية تقليدية ، ولم يكن الموضوع متعلقاً بمواد عسكرية كبيرة ، إن الموضوع أن نظامه يعتمد علي العسكريين لحمايته ، وأنه يعتقد أن الجيش إذا كان في حالة سيئة فإنه سيفقد ولاءه له " . وفي صفحتي 74 ، 75 يقول : " إن الظهور بمظهر " الاعتدال والمسالمة " من جانب عبد الناصر لم يكن سببه أنه لم يكن يعرف هدفه (أي الدكتاتورية) ولم يكن معناه أنه سيتخلي عن الدكتاتورية أو أنه سيتجه نحو نظام ديمقراطي ، كما ظن في ذلك الوقت كثير من المراقبين الغربيين – بل سبب التردد أنه لم يكن يعرف كيف يصل إلي هدفه وهو " تجاوز النظام النيابي " وبعد أن يعرض كوبلاند تقرير إيخلبرجر يقول في صفحة 77 :

" لقد كانت نقطة الانطلاق (في السياسة الناصرية) هي ضرورة وجود قاعدة للبطش(أي الدكتاتورية والإرهاب) حسب الخطوط التي رسمت لذلك في تقرير إيخلبرجر " . وفي صفحة 91 يقول كوبلاند : " يجب أن نذكر دائمًا في تعاملنا مع عبد الناصر أن قاعدة " البطش الداخلي " هي أهم شيء عنده . و لذلك لا نعجب إذا رأينا أنه – بعد أكبر هزيمة ساحقة في التاريخ العسكري الحديث – يجلس عبد الناصر وأعوانه لا ليبحثوا كيف ينقذون مصر ويبنونها ، بل ليبحثوا كيف يستعدون سيطرتهم علي الجيش . وسيبقي هذا هو الشغل الشاغل الأول لهم .. " . ثم يختتم الفصل الذي خصصه في كتابه لتبرير إرهاب عبد الناصر بقوله في صفحة 176 : " إننا – نحن الأمريكيين – نستفيد من نفوذ عبد الناصر لتنفيذ بعض مشروعاتنا مثل مشروع " أريك جونستون " الخاص بمياه نهر الأردن ، وهو مشروع لا ينمكن تنفيذه – كما يقول جونستون نفسه – لا بنفوذ من هذا النوع " الناصري " ومثال آخر : محاولاتنا المتكررة لجعل عبد الناصر يتولي زعامة " تهدئة التوتر " بين العرب وإسرائيل .. وإن حكومتنا قد بدأت عملية (علي الأقل) تضمنت تأييدنا لزعامة عبد الناصر لتمكينه من تنفيذ ذلك " . ويظهر أن هذا – في نظر كوبلاند – هو فصل الخطاب ، فمن أجل إسرائيل ومصلحة إسرائيل يباح كل شيء ويستباح كل شيء حتى " الإرهاب " .

• القاعدة الغوغائية لنظام عبد الناصر :

في ختام الفصل السادس من كتابه يقول كوبلاند :

" إن استعمال عبد الناصر للعناصر المكونة لقاعدته الغوغائية مثل الدعاية والإعلام ، والحزب و التنظيم السياسي ، والتضخم الحكومي – إنما يقصد بها إبقاء زعامته . وإذا كنا سنري في الفصل التالي كيف اتجه إلي " البونابرتية " إلا أن وجهة النظر الناصرية هذه كانت وستبقي أحسن شيء لخدمة أهدافنا ، طالما عملنا حسابنا للاستفادة من محاولاته للاحتفاظ بالتأييد الشعبي وتأثير ذلك علي تحركاته في لعبة الشعوب " .

• صفقة الأسلحة السوفيتية كنموذج " للعبة الشعوب " :

يقول كوبلاند في صفحة 46 : " إن الزعيم أو الزعماء الذين يستطيعون القيام بانقلاب للاستيلاء علي الحكم ، ويريدون أن يضمنوا البقاء فيه والقيام بدور " إيجابي " (من وجهة النظر الأجنبية طبعًا) يتحتم عليهم أن يكونوا من " نوع " يبعد عنهم شبهة كونهم عملاء لنا ، ويبعدهم عن التصرف بطريقة توافق مزاجنا بصفة كاملة . وبالاختصار ، فإننا عندما نساعد زعيما للوصول إلي الحكم لكي يحقق لنا " الخير " الذي نتطلع إليه يجب أن نستعد لمواجهة بعد المبادرات " السيئة " ضدنا التي يضطر إليها من أجل بقائه في الحكم بعد وصوله إليه . وإن الجهاز السياسي الذي يكون تحت سيطرته إذا كان طبيعيًا (يجب أن يكون كذلك ليضمن البقاء) سوف يكون بداخله عناصر معادية لمصالحنا . " إن النقطة الأساسية في هذا الكتاب هي أن " إستراتيجيتنا " علي الأقل في علاقتنا بالدول غير الغربية ، يجب أن تفترض أن مائدة " اللعب " عليها عدد من اللاعبين ، الذين يتحتم عليهم ألا يكونوا دائمًا علي مزاجنا ، ومع ذلك نكسب منهم بواسطة تكتيك مختلف عما نستعمله مع خصومنا في اللعبة ، مثل السوفييت والصينيين – وكذلك يختلف عما نستعمله مع أصدقائنا الذين نلعب معهم " لعبة تعاون " . " .

يقول الدكتور محمد صادق .. ولكي نعطي القارئ صورة عن كيفية حبك مثل هذه المبادرات المسرحية وكيفية إخراجها بتعاون الطرفين الذين يتقاسمان أدوارهما حتى تؤدي إلي غرضها " الديماجوجي " المطلوب (زيادة شعبية الحاكم الناصري) بموافقة القوي الأجنبية وتواطئها وتشجيعها ومساعدتها – ننقل له قصة " صفقة الأسلحة السوفيتية " التي عقدها عبد الناصر في سبتمبر 1955 ، واستغلت أحسن استغلال في الإعلام في داخل مصر وخارجها في جميع أنحاء العالم لإظهار عبد الناصر أنه أكثر زعماء آسيا وأفريقيا استقلالاً ، وأكثرهم جرأة وتحديًا للسياسة الأمريكية . ولكن الجماهير لا تعرف أن سبب هذه الجرأة وهذا الإقدام هو حصوله مقدمًا علي موافقة أمريكا وتأييدها لهذه العملية . بل إن الكاتب " كوبلاند " يشرح لنا كيف أن الأمريكيين قاموا بالدور الرئيسي في إخراج هذه العملية بهذه الصورة لمصلحتهم هم أولاً ، وعبد الناصر معهم .

ونستعرض الآن الكيفية التي أخرجت بها " المبادرة المسرحية " وعرضت عرضًا مثيرًا بتدبير المخابرات الأمريكية حسبما أوضح لنا المؤلف " كوبلاند " بإسهاب وتفصيل في كتابه :

1 – أول شيء يكشفه لنا " كوبلاند " أن المخابرات الأمريكية كانت علي علم بالمفاوضات الجارية بين عبد الناصر وبين موسكو لعقد هذه الصفقة ، وذلك قبل شهر أغسطس عام 1955 . إنه يقول لنا إنه وصل واشنطن عائدًا من مصر في أواخر أغسطس (صفحة 132) ، و هناك اطلع بوزارة الخارجية علي برقية من السفير " بايرود " عن العرض السوفيتي تضمنت ما يلي حسب روايته : " إننا الأمريكيين " يحسن أن نراجع أفكارنا عن إعطاء الروس مساعدات عسكرية لمصر – إننا إذا لم نقدم بعض المساعدات العسكرية بسرعة ، فإن عبد الناصر سوف يقبلا عرضًا روسيًا ذكرت المخابرات الأمريكية أنهم قدموه له .. وأنه إذا حدث ذلك فإنه يعتقد أن النفوذ الروسي سيزداد في المنطقة كما حدث فعلاً بعد ذلك (صفحة 133) .

ويقول كوبلاند تعليقاً علي هذه المسألة إنه رغم أهميتها فإنها لم تكن مثيرة لعله يقصد أنها لم تكن مفاجأة له أو لوزارة الخارجية – صفحة 133) وإن الموضوع عرض علي اللجنة التي كان يشترك فيها ، وأخذ طريقًا روتينيًا لا يشير إلي أي اهتمام من جانبهم له (صفحة 133) . معني ذلك أن الأمريكيين أهملوا الموضوع ولم يفكروا قط في منع المفاوضات بين عبد الناصر والروس ، ولم يطلبوا منه عدم الاستمرار فيها طول هذه المدة – من أغسطس إلي منتصف سبتمبر .

2 – الأمر الثاني الذي كشفه أن عبد الناصر نفسه قبل أن يتمم الصفقة ، وقبل أن يوقعها بعث لهم " يستأذنهم " في ذلك ويطلب من روزفلت يريد أن يعترض علي ذلك فإنه يرحب بهذا الاعتراض " .

3 – إن هذا " الاستئذان " لم يحدث أي اضطراب أو مناقشات أو دراسات ، كأن الأمر كان مدروسًا وكان الجواب حاضرًا معدًا – إذ قرر روزفلت وكوبلاند أن يسافرا إلي القاهرة ، وسافرا فعلاً في اليوم التالي لوصول رسالة عبد الناصر .

4 – إن الجواب الذي حمله الاثنان إلي عبد الناصر كان مفاجأة له – لأنه لم يكن لديهم أي اعتراض .. وهكذا قال (صفحة 133) :

" استقبلنا في المطار أحد أعوان عبد الناصر وأخذنا رأسًا إلي مسكنه في الطابق الأعلى من مبني مجلس قيادة الثورة ، فوجدناه في انتظارنا علي غاية السرور ، وكان يتوقع أن يناقشه روزفلت ويسمع حججه ، ولكنه فوجئ لأن روزفلت بدلاً من أن يناقشه ويحاول أن يقنعه بالعدول عن الصفقة ، لم يعترض عليها " .

5 – إن السبب الذي ذكره روزفلت لتأييد إتمام الصفقة يتضمن شقين : أولهما أن يستفيد عبد الناصر من الشعبية الناتجة عنها ، أما الثاني فهو المقابل الخفي له وه إعلانه بأنه علي استعداد للقيام بمجهود " مشترك " مع إسرائيل لإقامة سلك دائم في المنطقة .. وهذه هي عبارته (صفحة 133) : " قال روزفلت : إذا كانت الصفقة بهذه الضخامة فقد تزعج البعض (من الأمريكيين والغربيين) ، ولكنها علي العموم ستجعل منك بطلاً عظيمًا 0 فلماذا لا تستفيد (أنت) من هذه الشعبية المفاجئة لتقوم بعمل يليق بسياسي محنك (لصالحنا نحن) ، إنه لن يقلل من شعبيتك شيئًا إذا قلت علي سبيل المثال : - " لقد حصلنا علي هذه الأسلحة لأغراض دفاعية فقط ، وإذا أراد الإسرائيليون أن ينضموا إلينا في مجهود مشترك لقيام سلم دائم في المنطقة فسيجدونني علي استعداد لذلك " .. أو شيئًا من " هذا القبيل " .

6 – طبعًا لم يقل لنا المؤلف " كوبلاند " شيئًا عن موقف إسرائيل ، ولكننا نفترض أن الإجابة التي فاجأ بها روزفلت عبد الناصر لا يمكن أن تكون قد أعدت إلا بعد مشاورات مع إسرائيل قطعًا أن يتجه عبد الناصر والعرب إلي التسلح من الكتلة الشرقية لتستأثر هي وحدها بالتزود بالأسلحة من الدول الغربية – وهذا هو التعليل الوحيد لموافقة المخابرات الأمريكية علي الصفقة ومواجهتها بهذا البرود وعدم إيذاء آي محاولة لإيقافها أو الاعتراض عليها ، بل إن إعداد الخطة للاستفادة منها وتوزيع الفائدة بينهم وبين صديقهم عبد الناصر وصديقتهم إسرائيل فينال هو الشهرة ، وينالوا هم خطوة عملية للصلح مع إسرائيل ، وتنال إسرائيل أمريكية تفرض بها الصلح عند الضرورة بطرقتها الخاصة .

7 – لقد ربط روزفلت بين تطمين إسرائيل ، وبين فرصة الحصول علي شعبية مفاجئة ، ثم ربط بين الأمرين وبين ناحية ثالثة هي تدعيم مركز عبد الناصر في أوساط الدول المحايدة أو الدول الأسيوية والأفريقية – لإتمام دوره الذي بدأه في باندونج .. هكذا قال لنا (صفحة 133 الفقرة الأخيرة) :

" لقد ناقشنا الفكرة (التي عرضها روزفلت وهي تطمين إسرائيل بإعلان الاستعداد للسلم الدائم ..) حتى منتصف الليل ، ورأينا أن يكون " تصريح " عبد الناصر بهذا الصدد بأسلوب سياسي راق يكسبه هتاف الجميع ، ليس فقط الثوريين بل المحافظين أيضًا من أبناء وطنه بل من البلاد الأخرى وخاصة الكتلة الشرقية – ثم يتبع ذلك بتزعم حملة تدعو للحياد في السياسة الدولية تكون مؤيدة من جميع الجهات (الغربية والشرقية وغير المنحازة) " .

8 – أضاف روزفلت بأنه إذا تم ذلك فإن عبد الناصر فوق رضاء أمريكا موافقتها سيحصل منها علي مساعدات واقتصادية (صفحة 133) . " إلي جانب هذا يستمر عبد الناصر في إصلاحاته الاجتماعية والاقتصادية في الداخل بمساعدة أمريكا " .

9 – اتفق علي أن يقوم الكاتب نفسه (كوبلاند) بتحضير مسودة للفقرة التي اقترحها روزفلت متضمنة التصريح الخاص بالسلم مع إسرائيل (نهاية صفحة 133 وأول صفحة 134) – وفي مساء اليوم التالي عرضت المسودة علي عبد الناصر فوافق عليها مع تغير عبارة " السلم مع إسرائيل " بأن وضع بدلها " تخفيف التوتر بين العرب وإسرائيل " (صفحة 134) .

10- إن ذلك كله كان علي درجة كبيرة من السرية والتكتم في الأوساط الأمريكية ذاتها ، حتى إن أحدًا في وزارة الخارجية لم يعلم به سوي وزير الخارجية المستر " دلاس " بل إن السفير الأميركي نفسه المستر " بايرود " لم يعلم بوصولهم ولا بما تم بينهم وبين عبد الناصر وأصحابه ، وفوجئ برؤيتهم في مساء اليوم التالي أثناء حفلة عشاء (صفحة 137) .

11- في مساء اليوم التالي أثناء اجتماعهم في مسكن عبد الناصر فوجئوا بزيارة السفير البريطاني له . وقد قص المؤلف (كوبلاند) علينا قصة هذه الزيارة ليبين لنا كيف جاء السفير وقابل عبد الناصر وخرج وهم في الغرفة المجاورة دون أن يعرف (لا هو ولا السفير الأمريكي) شيئًا عن وجودهم ولا عما تم بينهم وبين عبد الناصر – وكانوا هم يتناولون الويسكي من زجاجة من نوع " الاسكوتش " يحتفظ بها عبد الناصر عادة بمنزله للزوار الممتازين (صفحة 134) " . ويصف لنا المؤلف (كوبلاند) مشهد حضور السفير البريطاني وخروجه وهم يرقبونه ويتضاحكون ساخرين منه فيقول في (صفحة 135) :

" كنا نرقب الأنوار المضاءة تشع علي مبني السفارة البريطانية في الجانب المواجه لنا من شاطئ نهر النيل .. وشاهدنا سيارة السفير البريطاني وهي تخرج به من السفارة إلي الشارع الرئيسي (الكورنيش) ثن تعبر الجسر (قصر النيل) ونحن نتحدث مع عبد الناصر في الموقف الذي يتخذه من السفير البريطاني (عندما يسأله عن صفقة الأسلحة) الذي كان مثل سفيرنا بايرود لا يعلم بوجودنا في القاهرة (ومن باب أولي لا يعلم برأيهم في الموافقة علي الصفقة وتشجيع عبد الناصر عليها) ، ذلك أن وزير خارجيتنا المستر فوستر دلاس لم يخبر أحدًا في وزارة الخارجية (لا بسفرنا ولا بالغرض منه طبعا) ، وكذلك لم يخبر البريطانيين وكذلك لم يخبر سفيره بالقاهرة لا عن دعوة عبد الناصر لنا ولا عن أننا حضرنا إلي القاهرة بناء علي هذه الدعوة لإقناعه بإتمام الصفقة صفقة الأسلحة التي تعد خطورة جريئة تؤدي إلي افتتاح مرحلة جديدة من الصداقة (معنا أو مع إسرائيل ؟) ومن التطور الاقتصادي (لاحظ كل هذه الاحتياطات لسرية الموضوع) .. لقد كنا نبحث ماذا سوف يقول (رئيس جمهورية مصر) للسفير البريطاني في هذه الظروف (ظروف السرية المطلقة) ، فقال روزفلت لكي تكسب الوقت إلي مساء الغد (حينما يعلن نبأ الصفقة في خطبه له) قل له إن الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا . وبهذا يكون تأثيرها أقل عنفًا حيث إن التشيكيين هم مصدر رئيسي للأسلحة بالنسبة لإسرائيل .. " .

ولم تستمر زيارة السفير البريطاني أكثر من خمس دقائق ، ولكنها كانت موضوع تعليقات ونكات طول الليل بين الأصدقاء وخاصة بين المؤلف (كوبلاند) وصديقه " زكريا محيي الدين " الذي سأله أن يتصور دهشة السفير البريطاني لو علم بأنكم هنا في غرفة مجاورة للغرفة التي قابل فيها عبد الناصر ، وكيف تكون ملامحه لو أن روزفلت أو كوبلاند دخل عليهما فجأة وبيده كأس الويسكي . وقال لعبد الناصر :

عفوًا .. صديقي جمال .. لقد انتهت الصودا .. فمن أين نحصل علي مزيد منها .. !! يقول الدكتور محمد صادق :

إن الذين عاشوا ظروف هذه المسرحية وعاصروها لم يسمعوا شيئًا مما ذكره المؤلف ، ولم يعرفوا إلا ما نقلته وكالات الأنباء من أخبارها ، وهم يذكرون أن الصورة التي عرضت بها في الصحافة المصرية والصحافة الأمريكية والصحافة العالمية كانت تقنع الرأي العام ورجال السياسة في كثير من الدول بأن هذه الصفقة كانت تحديًا للسياسة الأمريكية ، وأن عبد الناصر دخل بسببها في مجابهة مع أمريكا وفي مشكلة مع العالم الغربي ، وخرج منها منتصرًا ، وبذلك أصبح بطلاً في نظر الشعوب الأفريقية والأسيوية ، وبصفة أخص الشعوب العربية التي تكره الغرب بسبب موقفه المؤيد لإسرائيل . ولم يكن ذلك كله إلا نتيجة لاستعمال أساليب التمويه والخداع وبتعاون وتواطؤ من الجانبين اللذين أقنعا العالم بأنهما علي خلاف كبير في الوقت الذي كان الاتفاق بينهما علي أتمه .

• هل كان إنشاء هيئة التحرير وأخواتها توجيهًا أمريكيًا أيضًا ؟

يسمي كوبلاند هذه الهيئات التي تنشئها الحكومة " قاعدة غوغائية " . وإذا رجعنا إلي تقرير " إيخلبرجر " سنري كيف أن هذه " القاعدة الغوغائية " إنما هي وسيلة من وسائل التمويه لتمكين النظام الدكتاتوري من استعمال الألفاظ والمصطلحات التي يستعملها النظام الديمقراطي استعمالاً زائفًا مضللاً يصرف الجماهير عن المطالبة بحقوقها الديمقراطية وحرياتها السياسية كما يمكنه من استعمال وسائل البطش والعنف وراء هذا الستار الغوغائي اللفظي . وقد ألحق كوبلاند في آخر كتابه نص تحرير إيخلبرجر فنري هذا التقرير يقول في صفحة 252 :

" كل هذه المخاطر (مخاطر وجود منافس للحاكم الثوري أو شريك في السلطة) يمكن إبعادها إذا قامت الحكومة الثورية خلال الفترة التي تتمتع فيها باحتكار السلطة والنشاط السياسي (القانوني) – باستغلال الامتيازات التي تنفرد بها دون غيرها ، لتضع الأسس لنظام دستوري " يقوم علي سيطرة الحزب الواحد – وهذا الحزب هو الذي يرث " الثورة " – ثم يرسم للحكام الناصريين كيف ينشئون مثل هذا " الحزب " ويعملهم كيف يموهون ويداهنون ويتحايلون فيقول في نفس الصفحة وما بعدها :

" في فترة حل الأحزاب وتعطيل الانتخابات ، يجب أن لا تسمي هذه " المنظمة " حزبًا سياسيًا ، ولكن يجب أن تنظم في الواقع تنظيمًا حزبيًا حقيقيًا ، فيكون لها " وحدها " مركز رئيسي ومراكز الأقاليم وفي المدن والقرى ، ويكون لها ممثلون ومسيرون إداريون ذوو سلطات سياسية وإدارية ، ويكون لها سكرتاريات من أشخاص متفرغين تدفع لهم مرتبات ، ويكون لهم مرتبات ، ويكون لها أجهزة إعلامية ومطبوعات ونشرات .. إلخ – وزيادة في التمويه يكون لهذه المنظمة غرض علني غير غرضها الحقيقي " . " إن الغرض العلني لهذه المنظمة هو خلق مجتمع " أخوي " يضم المؤيدين لأهداف " الثورة " . ولكن الغرض " الحقيقي " هو إيجاد واجهة دعائية للحكومة لكي تنشئ حزبًا سياسيًا في المستقبل باجتذاب طوائف من الشعب للنشاط السياسي الموجه من الحكومة وتدريبهم علي هذا العمل .. " .

ويواصل إيخلبرجر عرضه لأساليب إنشاء هذا الحزب الحكومي فيقول في صفحة 253 :

" كيف تصل إلي هذه الأهداف هو ارتباطها الوثيق بالحكومة " الثورية " نفسها – علي أن تبقي هذه الصلة غير رسمية – إنها ستكون فقط منظمة " تسمح " بها الحكومة ، علي أن يكون قادتها هم ذاتهم قادة الحكومة في الغالب – وعندما يكون الوضع هكذا ، فإن " جماهير " الناس الذين استفادوا من " الثورة " والذين يدينون بالولاء لقادتها ، سوف تجذبهم عضويتها " أوتوماتيكيًا " ويمكن أن يتوفر عدد من المسيرين من بين موظفي الحكومة – لأن جميع موظفي الحكومة يمكن بل يجب أن ينضموا لها ويكون ذلك شرطاً لبقائهم في الوظيفة . " وزيادة علي ذلك ، فإن السلطة الواسعة التي تتمتع بها الحكومة في الإدارة ، وفي الأشغال العامة ، يجب أن توضع في خدمة هذه المنظمة . ففي حدود صلاحيات الإدارة والسياسة " الوطنية " تصبح مراكز المنظمة " وكالات أعمال " لخدمة الأفراد والطوائف الذين لهم مصالح عند الحكومة وموظفيها ، أو يريدون الوصول إلي المسئولين (عن طريق الانضمام إلي المنظمة الحكومية) .. يجب أن يصبح واضحًا للجميع أن التعاون مع هذه المنظمة هو السبيل المؤكد لقضاء المصالح من الجهات الحكومية – علي ألا يعلن ذلك بصفة رسمية . ومقابل هذه " المصالح " تحصل المنظمة علي انضمام كثير من الأفراد ، الذين قد يبقون بدون ذلك غير مهتمين بها – ويمكنها أيضًا أن تحصل منهم بسهولة علي اشتراكات أو معاونات لها في نشاطها (كالاستخبارات مثلاً) .. " . ويشير كوبلاند إلي نتيجة تنفيذ عبد الناصر لما جاء في تقرير إيخلبرجر في هذه الناحية فيقول في صفحة 108 :

" في أوائل عام 1967 ، كان عند عبد الناصر مليون من الموظفين المدنيين تقريبًا – فضلاً عن القوات المسلحة نصف مليون ، وموظفي الشركات المؤممة – في حين أن مؤسسة " ألن المصرية لا يمكن أن تستخدم أكثر من مائتي ألف موظف (الخمس) ، وكل زيادة علي ذلك تعطل عمل الإدارة الحكومية . وهكذا فإن عبد الناصر يحصل علي مليون من الأعضاء في حزبه من طبقة الموظفين المتوسطة لتدعيم سلطته – وأغلبهم مقيم في القاهرة والإسكندرية ، مقابل ذلك يلقي بالإدارة الحكومية في الفوضى .. " .

• مدي مساعدة أمريكا عبد الناصر في الدعاية ضد الإخوان المسلمين :

لكي نعرف مدي اهتمام القوي الخارجية بمساعدة عبد الناصر في توجيه أجهزة الإعلام لتحطيم الإخوان المسلمين نرجع إلي ما قاله كوبلاند في صفحتي 83 ، 84 حيث يقول :

" إن الدعاية الحكومية قد استخدمت علي كل حال بطريقة ناجحة كوسيلة لمحاربة خصوم النظام الناصري ، وإظهارهم بصورة بغيضة تبرر استخدام العنف والبطش ضدهم . وهذا الاتجاه قد حظي بمباركة الأمريكيين وتأييدهم الكامل ، فإن السفير " كافري " عمل الترتيب اللازم مع عبد الناصر لكي تستعير الحكومة المصرية أكبر الخبراء في العالم الغربي كله للدعاية " السوداء " (أي التشهير بالخصوم) والدعاية " السمراء " أو " الرمادية " (أي التشهير بالخصوم عن طريق مدحهم والثناء عليهم) – هذا الخبير اسمه " بول لاينبرجر " .. الذي علم المصريين الذين يعملون بالإعلام الحكومي كيف يحطمون الشخصيات التي تحيطها الجماهير بالقداسة والإعجاب (مثل اللواء نجيب مثلاً) عن طريق التظاهر بالثناء عليهن – وهو أسلوب مازال المصريون إلي اليوم يستعملونه ضد خصومهم في العالم العربي " .

يقول الدكتور محمد صادق : ويظهر أن المعاونة الخارجية للنظام الناصري في هذا المجال لم تقتصر علي المساعدة " الفنية " البحتة بل إنها تجاوزت ذلك إلي حد التنسيق بين أجهزة الإعلام الناصرية التي تقوم بها هذه الأجهزة للوصول إلي هدف واحد – ضد " عدو مشترك " . ومن أطراف نماذج هذا التعاون الأمريكي الناصري في ميدان الدعاية " السوداء " والدعاية " السمراء " هو ما ذكره كوبلاند عن الدور الذي قام به الأمريكيون بواسطة مخابراتهم لمعاونة الإعلام المصري في مهاجمة " الإخوان المسلمين " والتشهير بهم .

يظهر أن مهمة التشهير بالإخوان المسلمين التي كانت تقوم بها أجهزة الإعلام الناصري بطريق الدعاية " السوداء " كانت صعبة جدًا بسبب ما كانت تتمتع به حركة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت من هالة البطولة بسبب أعماقها الفدائية ضد القواعد الانجليزية في القنال ، وضد الإسرائيليين في فلسطين قبل ذلك – فضلاً عن مقاومتهم للشيوعية – ولم تجد الدعاية الناصرية " المواد " التي تستند إليها في اتهامهم والتشهير بهم – وكوبلاند قدم لنا الدليل علي أن المخابرات الأمريكية خفت نجدة النظام الناصري في هذا الصدد . إنه يذكر لنا كيف أن " المخابرات المركزية الأمريكية " تدخلت لدي المسئولين في واشنطن وطلبت منهم أن يتصلوا بالمسئولين في إسرائيل ، لكي تتولي الدعاية الصهيونية نفسها " معاونة " الدعاية الناصرية بطريقة غير مباشرة وغير ملحوظة – باستعمال الأسلوب الذي سماه المؤلف بالدعاية " السمراء " – والتي كان أكبر خبير فيها هو " لاينبرجر " الذي استعارته الحكومة المصرية ، والذي عرفنا به المؤلف وقدم له في صفحة 84 بقوله :

" إن " بول لاينبرجر " أكبر خبير في العالم العربي للدعاية السوداء والدعاية السمراء ، وكان يعمل أثناء الحرب العالمية الثانية بأجهزة الإعلام الأمريكية . وكان يذيع باللغة الألمانية ما يظنه الألمان العاديون في مصلحة ألمانيا ، ولكن كان هدفه الحقيقي تحطيم الروح المعنوية للشعب الألماني " . والغريب أن المؤلف (كوبلاند) يؤكد أن الدعاية الشيوعية قد سبقت الأمريكيين في استعمال هذا الأسلوب ضد الإخوان المسلمين عن طريق توجيه إذاعة موسكو للثناء علي الإخوان المسلمين وذلك لمعاونة عبد الناصر علي توجيه تهمة " التحالف " مع الشيوعيين إلي الإخوان المسلمين مما يترتب عليه أن يفقدوا أنصارهم (الذين يؤيدونهم لأنهم أكبر أعداء الشيوعية) – وعند ذلك سارعت المخابرات الأمريكية ووسطت " واشنطن " لإقناع إذاعة إسرائيل بأن تدخل العملية وتقتدي بإذاعة موسكو في استعمال هذا الأسلوب بالثناء علي الإخوان وإظهارهم بأنهم أكبر قوة شعبية في مصر وأنهم سوف يحطمون الحكم الناصري بما لديهم من قوة ونفوذ – وبذلك استطاعت أجهزة الإعلام الناصرية أن تستغل دفاع الإذاعة الإسرائيلية عن الإخوان المسلمين لكي تزعزع معنويات أنصارهم (الذين يؤيدونهم هل اعتبار أنهم أكبر أعداء إسرائيل) فيفقدوهم – كما فقدوا أنصارهم يؤيدونهم لأنهم أكبر أعداء الشيوعية .

هذه هي الصورة التي يقدمها لنا المؤلف " كوبلاند " في كتابه صفحة 156 وما بعدها ننقلها للقارئ لكي يري مدي الميكافيلية التي تصل إليها أجهزة الإعلام – وأجهزة المخابرات التي توجهها – وكيف تصل إلي تنسيق الأدوار فيما بينها إذا كان العدو الذي يريدون القضاء عليه في نظرهم " عدوًا مشتركًا " وكان خطره علي مصالحهم جميعًا يبرر تعاونهم في التشهير بهم لدي أنصارهم في الرأي العام المصري والعربي) . علي عبد الناصر . وهكذا تعاون السوفيتيون والإسرائيليون (بتحريض من المخابرات الأمريكية باعترافه) علي " مدح " الإخوان المسلمين . وهي العملية التي تنتج عما يسمي بأسلوب " مدح العدو " (للقضاء عليه وتشويه سمعته لدي أنصاره ..) " وهكذا يعترف لنا المؤلف " كوبلاند " الأمريكي بأن " المخابرات المركزية " كانت تعتبر " الإخوان المسلمين " عدوًا لها 0- في حين أن معارضة الإخوان للحاكم الناصري كانت مسألة داخلية بحتة في مصر – فضلاً عن ذلك فإنها كانت تعلم أن إسرائيل أيضًا كانت تعتبرهم كذلك " عدوًا " لها ، وكذلك الشيوعيون - إنه يؤكد لنا أن المخابرات الأمريكية قامت بدور التنسيق والوساطة بين أجهزة الإعلام الناصرية والإسرائيلية في هذا الموضوع – فضلاً عن أجهزة الإعلام السوفيتية – التي لا نعرف للآن من قام بدور الوسيط بينها وبين الأجهزة المصرية .

• كيف استغلت قضية فلسطين في الديماجوجية الإعلامية ؟

يقول الدكتور محمد صادق : ليس قراؤنا بحاجة إلي من يشرح لهم كيف استغلت قضية فلسطين في الدعاية للزعيم الناصري وإظهاره بمظهر البطولة الأسطورية ، بترديد أناشيد الحرب ضد إسرائيل " ومن وراء إسرائيل " وغير ذلك وأمثاله من " الهجومات اللفظية التي يقصد بها الاستهلاك الداخلي " . ولكن الغريب الذي يتحير أمامه القراء هو ما يدعيه " كوبلاند " من أن عملية الاستغلال الديماجوجي لقضية فلسطين نوقشت ودرست في بعض الأوساط التي تخطط للسياسة الأمريكية ، وتقرر أن يسمح بها للزعيم المنتظر الذي يتعاون معهم في الخطوات العملية المؤدية إلي " الاعتدال " في الوقت الذي يكون كلامه مؤديًا إلي الإثارة والاستفزاز والتهييج لعواطف الجماهير الساذجة . ويؤكد لنا كوبلاند أن ذلك كان من ضمن المسائل التي قررتها " لجنة الخبراء " في نهاية عام 1951 ، والتي أعدت الخطوط العريضة للعملية الكبرى ، عملية الانقلاب المصري .

وقد أورد " كوبلاند " في (صفحة 130) توضيحًا لهذه السياسة رأي السفير الأمريكي في مصر " بايرود " حيث يقول للخارجية الأمريكية : " إنه يري إمداد عبد الناصر بالمساعدات العسكرية لأنه من زعماء العرب الذين يمكن للدبلوماسيين أن يتفاهموا معهم وأنه يمكن له أن يناقش معه أي موضوع بما في ذلك احتمالات الصلح مع إسرائيل .. وإنه لذلك يري ضرورة بقاء عبد الناصر في الحكم " . هذا الأسلوب الناصري يحقق للحاكم هدفه الشخصي بالبقاء في الحكم معتمدًا علي قاعدتين متعارضتين – مساعدة خارجية من أعباء قضية فلسطين ، وحماس شعبي من شعبه الذي يصدق أنه سوف يسترد له فلسطين – ولكن الأخطر من ذلك هو كما قدمنا أن القوى الخارجية لا تترك الحاكم الناصري ينفرد وحده بثمار هذه الديماجوجية الاستغلالية لقضية فلسطين ، فإن لها أهدافها الخاصة وخططها التي بنيت لاستغلال هذه الديماجوجية لصالحها فعلاً . وإن كانت هي ضدها قولاً وظاهرًا .

إن الهدف الميكافلي للقوى الخارجية من الديماجوجية الناصرية وصفه " كوبلاند " ولمح إليه دون أن يوضحه – ولكن الكتاب كله في جميع فصوله وعباراته يكشف عنه ، إن هذا الهدف لا يخرج عن تصفية النزاع العربي الإسرائيلي – ولكن علي الصورة التي يريدها الطرف الأقوى (وهو أكبر دولة علي ظهر الأرض) ، والوسيلة الميكافيلية الخطيرة لتحقيق هذا الهدف ليس مقاومة الحماس الشعبي العربي ضد إسرائيل – بل علي العكس من ذلك قد أصبحت الوسيلة هي استغلال هذا الحماس لتمكين إسرائيل وحلفاؤها ؛ لأن عملية بسيطة يمكن أن تحول هذه الاستثارة لمصلحة إسرائيل إذا ترتب عليها استفزاز الشعوب ودفعها إلي عمل أهوج يترتب عليه صدمة عنيفة " تجهض " المقاومة العربية وتقتلها . إن مما أسفرت عنه تجارب " الخبراء " في الحرب النفسية ، وفي الأسلحة السيكولوجية هو أن القضاء علي حركات المقاومة يتم بصورة أتم وأكمل عن طريق " الإجهاض " الذي ينتج عنه تحطيم معنويات الجماهير ، زعزعة إيمانها بقضاياها وعقائدها ومبادئها ، وتحطيم ثقتها بنفسها . إنه يكفي لذلك استثارتها بالوسائل الديماجوجية . واستفزازها بالأساليب الغوغائية ، ودفعها بذلك إلي العمل قبل أوانه ، أو إلي التطرف والعنف في غير موضعه ، أو في غير وقته – وبذلك يأخذ حماسها للقضية صورة ارتجالية فوضوية همجية ، تؤدي إلي نتائج وخيمة وإلي " نكسات " وكوارث ، تصبح الجماهير أمامها مهيئة نفسيًا للعملية الجراحية التي يقصد بها (استئصال " القضية " أو " العقيدة " من نفوس الجماهير) عن طريق إقناعها التدريجي بأن الخطأ ليس من جانبها ، وليس من جانب قادتها (الذين دفعوها إلي العمل قبل أوانه أو يسيرون علي خطط خاطئة فاسدة) وإنما الخطأ في أصل القضية ، والعيب في جوهر العقيدة ، وما عليها إذا كانت تريد " علاج " القضية إلا أن تتخلص منها أو تدبر ظهرها لها ، وبذلك تتم عملية " الإجهاض " وتؤدي إلي استئصال القضية ودفنها .

وهكذا نري أن استغلال الديماجوجية هو من أخطر الأسلحة المعروفة في باب " الميكافيلية " السياسية .. ومما لا شك فيه أنه إذا كان مجرد فهم هذه " العمليات " الميكافيلية صعبًا علي الشخص العادي ، فإن التخطيط لها وإعدادها وتنفيذها أصعب من ذلك ، ويحتاج من المدبر والمخطط إلي أجهزة ضخمة من الخبراء والباحثين وذوي التجربة ، التي لا تتوفر عادة إلا في أجهزة تغذيها دول عظمى أو ما يماثلها من قوى عالمية . ولا شك في أن دراسة علمية لكارثة عام 1967 هي الكفيلة بأن تثبت لنا إلي أي حد كانت الشعوب العربية ضحية مخطط ميكافيلي من هذا القبيل ..

• ماذا يقول " كوبلاند " عن كارثة 1967 ؟ :

في صفحة 11 في مقدمة كتابه يوجه هذه الأسئلة للقراء :

• ما الذي جعل المصريين والبريطانيين يتخلون عن مواقفهم المتطرفة في مشكلة قواعد السويس عام 1954 ؟

• وما الذي أسقط حكومة "مصدق " في إيران عام 1953 ؟

• وما الذي جعل " الناصريين " يتسلقون إلي القمة في الحرب الأهلية اللبنانية عام 1958 ، في الوقت الذي كانت فيه جنود البحرية الأمريكية هناك ينظرون إليهم ولا يحركون ساكنًا ؟

• ولماذا امتنع عبد الناصر عن الدخول في حرب مع إسرائيل في أوقات كثيرة عندما كانت أمامه فرص للانتصار ثم يدفع بلاده إلي حرب خاسرة في مايو عام 1967 في وقت كان فيه غير مستعد لها علي الإطلاق ؟

والإجابة عما يخص عبد الناصر من هذه الأسئلة يجيب كوبلاند في صفحة 239 من كتابه فيقول : " إن عبد الناصر لا يعمل كما يظن كثيرون نتيجة استثارة أو نزوة أو أي دافع من البواعث السطحية ، إننا (نحن رجال المخابرات الأمريكية) ، قد رسمنا الطريق أمام عبد الناصر ، فسار فيه وقد تكون النتائج غير ذلك لو أنه أعد إعدادًا من نوع آخر " . إن " كوبلاند " يقول ذلك دفاعًا عن عبد الناصر أمام الأمريكيين ، وهو في سبيل هذا الدفاع لا يجد غضاضة في أن يصرح لقرائه بأن عبد الناصر لم يدفع شعبه للهزيمة والكارثة نتيجة نزوة أو استثارة عارضة ، ولا بسبب تطورات مفاجئة وغير متوقعة – بل إنه سار نحوها خطوة خطوة ، في طريق مرسوم ممهد ومعد إعدادًا محكمًا ، وأن الذي أعد الطريق وهيأه له هي جهة خارجية ، وهي رجال المخابرات الأمريكية ، وقد تكون هناك جهات أخري تعاونت معهم في ذلك – بل أن المؤلف لا يتورع عن أن يؤكد لنا أنهم لم يعدوا الطريق ويرسموه له فقط ، بل إنهم " أعدوا " عبد الناصر نفسه إعدادًا جعله يسير في هذا الطريق ، وأنهم لو كانوا " أعدوه " إعدادًا آخر لكانت النتائج غير ذلك .

ثم يومئ " كوبلاند " إلي أن " لعبة الشعوب " اقتضت آخر الأمر رفع يدها عن عبد الناصر والتنازل عنه طائعة مختارة للاتحاد السوفيتي فيقول في صفحة 232 وأوائل 233 :

" إنه ، في النهاية ، بعد أن يكون المحللون الدقيقون في واشنطن ولندن وموسكو أيضًا قد فهموا كل ذلك المسلم المنطقي (الذي يسير عليه عبد الناصر) ، وتكون بقية العالم قد تعبت منه – فإن إحدى الدول العظمى علي الأقل ، التي كانت تتنافس علي رضائه ، توقف هذه المنافسة وتقول : " يمكن لغيري من الآخرين أن يحظي به " . عند ذلك يصبح بإمكان الطرف الآخر أن يستولي عليه بثمن رخيص " . ثم في صفحة 235 يوضح لنا كوبلاند بصراحة أن الطرف الذي تخلي عن المنافسة وأوقفها هو أمريكا ، وإن الذي استولي علي عبد الناصر بثمن بخس هو الاتحاد السوفيتي فيقول : " في هذه المرة (أوائل عام 1967) ، علي كل حال ، كان من الواضح أن " الجمهورية العربية المتحدة " قد وصلت إلي قاع الهاوية (أصبحت مفلسة فعليا) ، ونظرًا لأن الغرب لا يقدم أي مساعدة ، وكان الاتحاد السوفيتي يعلم بأنه لم تعد هناك منافسة من جانب الغرب ، فقد اكتفي بتقديم مبالغ ضئيلة تافهة ، بالقدر الذي يراه هو (أي الاتحاد السوفيتي) مناسبًا

• رأي " كوبلاند " في عبد الناصر أهو مدح أم ذم ؟

بعد حرب يونيه 1967 أو كارثة 1967 وفي صدد تقييم الربح والخسارة في نتائجها نري " كوبلاند " يصر علي أن عبد الناصر لم يخسر هذه الحرب التي وصفها هو نفسه من قبل في صفحة 91 من كتابه بأنها " أشنع هزيمة عسكرية في العصر الحديث " ولكنه مع ذلك يصر علي القول بأن الانتصار الإسرائيلي لم يكن انتصارًا علي عبد الناصر لأنه لم يخسر بل إنه ربح وبنص عبارته وتفسيراته في صفحة 238 يقول :

" بحسب هذا التعريف ، فإن أي شخص يراقب النزاع العربي الإسرائيلي بعد هذه الحرب (أي حرب يونيه 1967) لابد أن يوافق علي أن الإسرائيليين لم " يربحوا " حرب الأيام الستة ضد عبد الناصر ، لأنه بعد أن انتهي كل شيء (بعد أن خسر العرب كل شيء) ظهر عبد الناصر وقد قويت شوكته كحاكم لمصر بصورة أكبر ، وبدرجة أقوي مما لو كان قد تفادى الكارثة " . ثم يوضح كوبلاند رأيه هذا ويذهب إلي أبعد من ذلك فيقول بعد ذلك في نفس الصفحة : " هذا هو جوابنا للسؤال الذي يتبادر إلي الذهن : ماذا لو أن عبد الناصر واجه ظروفاً مماثلة (لحرب يونيه عام 1967) في المستقبل : فماذا يفعل ؟ .. إن جوابي علي هذا السؤال واضح وضوحًا تامًا لكل من يقرأ هذا الكتاب بعناية " .

وصدق كوبلاند فعلاً فقد وضح هذا الجواب توضيحًا تامًا في صفحة 67 من كتابه حيث قال : " من حين لآخر ، وخلال سنوات عديدة ، كان هناك من يسألني السؤال الآتي : إذا واجه عبد الناصر ظروفاً تحتم عليه أن يختار بين التخلي عن سلطته من أجل إنقاذ بلاده ، وبين أن يدفعها إلي الدمار من أجل أن يبقي هو في الحكم ، فأي الطريقين يختار ؟ " إن جوابي هو أنه في التعامل مع عبد الناصر ، ومع أي حاكم لديه ما نعرفه لدي عبد الناصر من حب السلطة من أجل السلطة ذاتها ، فإننا يجب أن نفترض أنه سيجعل أي شيء من أجل البقاء في الحكم ، حتى ولو كان معني ذلك خراب مصر الاقتصادي ، أو حرباً خاسرة مستمرة مع إسرائيل .. " . النمـوذج النـاصـري

بعد أن نقلنا إلي القراء من كتاب " لعبة الشعوب " لمايلز كوبلاند فقرات ذات دلالات معينة نحب أن نلفت الأنظار إلي هذا العنوان " النموذج الناصري " الذي أولاه المؤلف عناية خاصة – لأنه أساس كتابه – فجعله في الصفحات الأولي من الكتاب .. غير أننا – ولنفس السبب ولنفس درجة الأهمية والخطورة – رأينا أن نجعله في خاتمة ما ننقله من فقرات : ذلك أن أهميته بالنسبة لنا نحن – العرب والمسلمين – تأتي من كوننا قد أصبحنا حقل تجارب لصناع السياسة الأمريكية الخلفية .. وقد جربوا فينا أول تجربة وثبت لهم نجاحها ، فهم إذن مواصلون خططهم معنا لاسيما والأرض بعد التجربة الأولي قد مهدت ولم تعد تحتاج منهم إلي جهد كبير .. كان إذن لابد من تحذير بعد أن كشف مايلز كوبلاند – مضطرًا بعد اكتشاف هذه الخطط لمنافسيهم الروس علي يد الجاسوس فلبي – كيف بحثوا عن شخصية ذات صفات معينة حتى وجدوها في عبد الناصر ، وكيف مهدوا له الطريق إلي الحكم ، و كيف رسموا له الطريق ووجهوه إليه طريقاً انتهي إلي تثبيت أركان حكمه وإلي تحقيق جميع مصالح أمريكا وإلي وصول مصر إلي الدمار التام في كل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .. وإذا كان كوبلاند والأمريكيون لا يقيسون شيئًا إلا بالمادة فإننا نورد وصفاً دقيقاً للحالة الاقتصادية التي انتهت إليها مصر مما ذكره كوبلاند في صفحة 235 من كتابه إذ يقول :

" في أول تلك السنة (1967) درس فريق من الخبراء العاملين بالمؤسسة التي كنت أعمل بها أهم المصادر الرسمية عن رصيد مصر من العملة الصعبة ومن الذهب الذي كانت تملكه في عام 1952 قبل الانقلاب العسكري . ثم أضافت إليه مجموع المساعدات الخارجية المالية (من قروض وهبات) التي حصلت عليها الحكومة ، وكذلك أضافت إليها مجموع ما حصلت عليه البلاد من صادراتها منذ منتصف عام 1952 إلي نهاية عام 1966 – ومن مجموع ذلك كله خصمت النفقات . " وقد أظهرت النتيجة أن العجز في تجارة مصر الذي كان يقارب أربعمائة مليون دولار سنويًا قد استهلك كل هذا المبالغ ، بما في ذلك القروض التي أصبحت الحكومة عاجزة عن سدادها. وعلي حسب قول الأستاذ " لاكور " لقد وصل احتياطي مصر من الذهب إلي أربعين مليونًا فقط ، ومن العملة الصعبة إلي ست وأربعين مليونًا من الدولارات . ولكن أي شخص يبحث في القاهرة لا يمكن أن يعثر علي هذه الملايين في مارس عام 1967 ولا يمكنه أن يعثر علي أكثر من مليونين أو ثلاثة ملايين من الدولارات يمكن استخدامها للمشتريات الضرورية العاجلة .

" لقد كانت هناك مصانع مغلقة بسبب عدم توفر قطع غيار لا تتكلف أكثر من بضعة آلاف من الدولارات . وكانت شركة الخطوط الجوية العربية المتحدة التي هي مورد رئيسي للعملة الصعبة لديها في بعض الأحيان أربع طائرات من طائراتها " الكوميت " (التي لا يزيد عددها عن سبع فقط) معطلة بسبب عدم توفر المال اللازم لشراء قطع غياراتها... وحتى لو باعت الحكومة كل ما لديها من ذهب فإنه لم يكن يكفي الاستيراد المطلوب في العادة لمدة شهر واحد . إن التقرير ربع السنوي للسفارة الأميركية قد تنبأ بأنه خلال مدة لا تزيد علي سنة ستكون مصر في حالة إفلاس فعلي .. " . هذا هو وصف الحالة التي انتهت إليها مصر في أوائل عام 1967 والتي واجهت بها الحرب مع إسرائيل فغي يونيه 1967 تلك الحرب التي أدت إلي أعظم كارثة في التاريخ الحديث كما يقرر ذلك كوبلاند الذي كشف لنا في كتابه عن أنها كانت تضمن " لعبة الشعوب " التي أعدوها وأعدوا عبد الناصر لها في " مركز اللعب " في الطابق الثاني عشر في إحدى ناطحات السحاب بواشنطن – ولم يقصر كوبلاند وهو " إجهاض " المقاومة العربية وقتلها . وتهيئة الجماهير لحالة نفسية يسهل معها إجراء عملية استئصال " القضية " من نفوسهم . والذي نحذر منه هو أن السياسة الأمريكية الخلفية كما يسميها كوبلاند حين عثرت في بحثها علي " جمال عبد الناصر " لم تكن تبحث عن عبد الناصر بالذات ، وإنما كانت تبحث عن شخصية ذات صفات معينة وجدتها هذه المرة في جمال عبد الناصر ولكنها دائبة البحث عن أشخاص آخرين تتوفر فيهم هذه الصفات ، وقد كان كوبلاند حريصًا في الصفحات الأولي من كتابه علي إبراز هذا المعني ، وتثبيته في أدمغة القراء فيقول في صفحة 26 :

" لابد أن أبعد كل فكرة بأن هذا الكتاب عن " عبد الناصر " – إنها مرحلة تاريخية تفتح الباب لدروس عامة في لعلاقة بين الولايات المتحدة وبين " نوع خاص " من الزعماء غير الغربيين ، اعتقد أنهم سيزداد نفوذهم في العلاقات الدولية في المستقبل " . ورغم أنني تكلمت كثيرًا عن " عبد الناصر " إلا أنني حاولت التركيز علي نواحي سلوكه التي يتوقع أن تصدر من زعماء آسيويين وأفريقيين آخرين – لدرجة أنني اعتبرت أن هناك " نموذجًا ناصريًا " من حكام .. " . ويقول في صفحة 21 مؤكدًا نفس المعني :

" إن صورة هذا النموذج ارتسمت لديه هو وزملاؤه من رجال المخابرات الأمريكية من خلال تجاربهم في سوريا وغيرها من البلاد العربية في الفترة من عام 1947 إلي 1951 ، أي قبل أن يلتفوا بعبد الناصر وقبل أن يعرفوه ، إنهم افترضوا أنهم حددوا أصول النظام الناصري ، ووضعوا خصائصه وشروطه وخططوا له ورسموا صورة الحاكم الذي يلعب دوره قبل الانقلاب الناصري " ثم يقول : " إن عبد الناصر لو لم يوجد ، فإن لعبتنا كان يختتم عليها أن تخلقه خلقاً ليوجد لديها " النوع " الضروري من الحكام الذي تحتاجه طبيعة " اللعبة " اليوم أو غدًا " . يقول الدكتور محمد صادق في تقديمه التعليق علي كتاب " لعبة الشعوب " :

إن الدراسة التي نقدمها للقارئ تساعد القارئ العربي علي أن يستقرئ الحوادث الماضية ، والأحداث المقبلة كذلك ، ليعرف نوع " المصالح " التي استلزمت " النموذج " الناصري في نظر كوبلاند ، وليعرف من خلال اهتمام الكاتب الأمريكي وحماسته ، إن كانت هذه " المصالح " التي تحركه هي مصالح المصريين أو العرب أو المسلمين – أم أنها مصالح " جهات خري " . إن تحديد هذه " المصالح " يفسر لنا السبب في حرص كوبلاند علي التمييز بين الشخص والنموذج . ذلك أن المصالح التي تهمه في بلاشك مصالح بعيدة المدى ، واسعة النطاق ، متعددة الأهداف ، إنها تتجاوز حياة الأشخاص أياً كانوا ، سواء حياة عبد الناصر أو حياة كوبلاند وروزفلت أو أي إنسان آخر .. إن الأشخاص أيًا كانوا ، سواء حياة عبد الناصر أو حياة كوبلاند وروزفلت أو أي إنسان آخر .. إن الأشخاص والحكام كغيرهم يمكن أن يموتوا ، أما النموذج الذي تحتاج له المصالح التي يتحدث عنها كوبلاند فهو باق ما بقيت هذه المصالح . وعلي ذلك يؤكد لنا المؤلف الأمريكي أن الذين رسموا " النموذج " الناصري كانوا يعرفون هذا الأمر ويحسبون حسابه مقدمًا . فهو يروي لنا أن روزفلت في تقريره لوزارة الخارجية الأمريكية بعد عودته من مصر قبل الانقلاب العسكري بأربعة أشهر قال : إن " الشخص " الذي اتفقوا معه – يقصد عبد الناصر – إذا لم يحقق لهم أهدافهم ، فلسوف يكون هناك آخرون من نفس " النموذج " .

فالتفرقة بين النموذج الثابت والأشخاص الذين يتغيرون كانت واضحة في ذهن روزفلت قبل الانقلاب الناصري . وكان واضحًا أيضًا أن " النموذج " سيطبق لا في مصر وحدها ، بل في دول أخري كثيرة . وعلي ذلك فإن القارئ سيري أن الغرض هو الكشف عن نموذج وعن خطة وعن أسلوب دعا إليه كوبلاند في كتابه وأعلن أنه تكرر وسوف يتكرر في مصر وفي غير مصر . وإن ما قاله كوبلاند يفسر لنا كثيرًا مما لاحظناه عقب وفاة عبد الناصر ، ففي الوقت الذي كانت جماهير غفيرة من المصريين والعرب ذاهلة أمام رهبة الموت ، حائرة أمام القدر المفاجئ – عجب الكثيرون مما رأوه في موقف القوى الخارجية التي لم يبد عليها أعراض الدهشة أو المفاجأة لقد كانت هناك جهات تتصرف بمنتهي الدقة والإحكام ، وتعمل بكل اطمئنان ، تنفيذًا لخطط أعدت من قبل . وكانت هناك جهات تقف بكل هدوء ويردد موقف المترقب الذي لا يري في الوفاة إلا أنها نهاية فصل من فصول اللعبة سيتبعه فصل آخر مكمل له , وأن المسرح خلا من لاعب لكي يحل محله لاعب أو لاعبون آخرون ،وكأن الستار قد أسدل علي مشهد لكي يرتفع بعد ذلك عن مشهد آخر . ولكن عملاء هذه الجهات كلها سارعوا فوضعوا أنفسهم في مقدمة مواكب البكاء والرثاء ، يرددون الأناشيد والألحان والشعارات ، إلا أن أناشيدهم وشعاراتهم وألحانهم كانت تدور حول أسطورة البقاء والخلود للنموذج " المقدس " قائلين إن " الرجل " هو الذي مات ، أما " النظام والنموذج " فهو " حي لا يموت " .

إن هذا النوع من الرثاء ليس إلا جزءًا من " اللعبة " وأسلوباً من أساليب الميكافيلية الخادعة الماكرة ، إنهم يتخذون رثاء الميت وسيلة لإعطاء الدروس لمن يريدون أن يخلفوه ، إنهم يذكرون للأحياء أهدافهم هم بأسلوب مدح الميت والإشادة به لينسبوها إليه ، فيصدق الطامعون والطامحون في وراثته بأن هذا هو الطريق الذي يجب أن يسيروا فيه ليحصلوا منهم كما حصل هو علي شهادات " عالمية " بالبطولة والشهرة والخلود . واكتفي بهذا القدر مما نقلته من تعليق الدكتور محمد صادق مما جاء في تقديمه كتابه لأقول : إن النسخة التي أعيرت إليّ من كتاب الدكتور محمد صادق " الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الأمريكية خلال عشرين عامًا 1947 – 1967 دراسة وتحليل حول كتاب " لعبة الشعوب " .. هذه النسخة نظرت فوجدت أنها الطبعة الأولي لهذا الكتاب وقد أرخ طبعها في عام 1971 .

وأصدق القارئ القول فأقول إنني لم أعن بالبحث وراء معرفة تاريخ طبع هذه النسخة إلا بعد أن قرأت ما كتبه الدكتور محمد صادق في مقدمة الكتاب مما نقلت منه هذه الفقرات للقراء .. لأن هذا التحليل الذي تضمنته المقدمة يوحي لقارئه بأن كاتبه قد كتبه بعد عاش أحداث ما بعد أكتوبر 1973 إلي ما بعد أكتوبر 1981 . وإني إذ أهنئ الكاتب علي نفاذ بصيرته ، براعة تحليله ، وصدق تنبؤاته ، استنباطه أعماق الأحداث وسبقها .. أرجو أن نكون قد أفدنا أعظم فائدة من هذه الدراسة العميقة المستوعبة وهذا التحليل البارع الدقيق ..


الفصل الثاني : شاهد علي العهد

ذكرت في مقدمة هذا الجزء من المذكرات أنني تركت الحديث عن التعذيب إلي مظانه التي تخصصت في الحديث عنه ونقل وقائعه وصارت بين أيدي القراء ، وقد وصل بعضها إلي القضاء الذي أصدر حكمه بدمغ هذا العهد بأبشع الجرائم ضد الإنسانية .. ولكنني رأيت قبل أن أنهي الحديث عن هذا العهد أن أنقل إلي القراء الكرام أنموذجاً واحدًا من نماذج التعذيب ليكون شاهدًا ناطقاً حيًا علي هذا العهد البغيض .. وقد نقلت هذا الأنموذج من كتاب " الموتى يتكلمون " للأستاذ الصحفي سامي جوهر رحمه الله يقول في صفحة 65 وما بعدها :

ولعل أصدق صورة لألوان التعذيب هي التي يرويها واحد ممن تعرضوا لها .. وفي الصفحات القادمة يروي العقيد متقاعد نصر الدين محمد الإمام كيفية تعذيبه حتى يعترف أنه وتسعة من زملائه كانوا يدبرون انقلاباً لنظام الحكم .. وكان نصر واحدًا من المتهمين فيما أسموه مؤامرة مدرسة المشاة . وزملاءه في الاتهام هم العقداء طه إبراهيم وبهي الدين مرتضي وعلي إبراهيم أبو ليمون ومصطفي كمال المساح وفاروق جمعة مناف وجمال الإتربي وإبراهيم الجندي والمقدم مهندس عادل المنياوي والملازم أول عبد الملك ميخائيل غطاس .. والمتهم الأخير وهو مسيحي وضع لإبعاد الشبهة عن حقيقة تدبير السوفييت للإطاحة ببقية المتهمين .. فقد كان المتهمون التسعة من المعروفين بشدة تمسكهم بتعاليم الدين ، وتأدية الصلاة في مواعيدها حتى وهم في مكاتبهم .. وكان ذلك يثير الخبراء السوفييت الذين انتشروا في مختلف وحدات الجيش بحجة تدريب قواتنا علي السلاح السوفيتي . واستطاع هؤلاء الخبراء السوفييت أن يحركوا أعوانهم في مكتب المشير وفي سكرتارية عبد الناصر ضد تلك المجموعة ، وخاصة بعد أن كان بعضهم بدأ يناقش حرب اليمن ، وهل من يموت يعتبر شهيدًَا أم لا ؛ لأنها حرب ليست لنشر العقيدة الإسلامية ، وإنما حرب يقاتل فيها المسلم أخاه المسلم ..

وكانت تلك هي الحقيقة التي كان يتناقش فيها المهتمون عندما فوجئوا بالقبض عليهم بتهمة تدبير انقلاب عسكري للإطاحة بالحكم .. ويروي العقيد نصر الدين محمد الإمام تفاصيل القبض عليه .. قال إنه فوجئ برجال المباحث الجنائية العسكرية يقتحمون مسكنه برياسة تلميذ له هو الرائد حسن كفافي .. كان الوقت بعد منتصف الليل .. أيقظوا أطفاله وزوجته وأمه المريضة التي لقيت ربها بعد ذلك بأسبوعين .. حبسوا الجميع في غرفة .. وبدأوا يفتشون مسكنه .. وعثر حسن كفافي علي مبلغ ألف وخمسمائة جنيه كان نصر قد ادخرها لشراء تاكسي يعاونه إيراده في مجابهة تكاليف المعيشة .. وأخذ حسن لنفسه المبلغ مدعيًا أنه سيعيده عندما يتأكد من مصدره .. وطبعًا اختفي المبلغ إلي الأبد .. وبعد أن مزقوا المراتب بالمطاوي بحثاً عن أدلة ، ولم يجدوا شيئًا اصطحبوه إلي السجن الحربي .

ويقول العقيد متقاعد نصر الدين محمد الإمام :

ولم أكن أعلم لماذا قبضوا عليّ .. حاولت أن أسأل حسن كفافي عن السرور وراء ذلك لم يجبني بشيء إلا بأنه تلقي الأوامر بذلك .. لم يجيبني بشيء إلا بأنه تلقي الأوامر بذلك ، وأن زملاءه تلقوا أوامر مماثلة للقبض علي آخرين من الضباط .. حاولت أن أعرف منه أسماء زملائي الذين قبض عليهم ولكنه لم يكن يعرف شيئًا . ودخلت السجن الحربي .. كنت أرتدي ملابسي المدنية . وقبل أن يغلق باب السجن . وجدت مايسترو التعذيب في السجن صفوت الروبي .. وكان برتبة رقيب أول ثم رقي في خلال عام 1966 ترقية استثنائية إلي رتبة مساعد .. وفي عام 1967 رقي ترقية استثنائية إلي رتبة الملازم لمهارته في تعذيب من يوقعه سوء حظه ويدخل السجن الحربي .. كان صفوت يقف ممسكًا بكرباج وحوله ثلاثة أشبه بعمالقة القرون الوسطي .. ولكل منهم اسم مستعار .. أحدهم يطلقون عليه " الديزل " والثاني " سامبو " والثالث " الأسود " .. وانهال الأربعة عليّ بالكرابيج .. وكنت كلما جريت ناحية واجهني أحدهم بكرباجه .. أحاطوا بي في شبه دائرة .. وسقطت من شدة الإعياء بعد أن تلقيت ما يزيد علي مائتي كرباج .

وأسعفوني .. وكان الذي يقوم بعمليات الإسعاف العقيد طبيب حاليًا ماجد حمادة وكان برتبة الرائد .. ثم حملوني إلي زنزانة مظلمة تمامًا .. ليس بها أي منفذ ضوء .. وألقوني داخلها .. وارتميت علي الأرض ورفعت عيني إلي سقف الزنزانة وصرخت " يارب " . وفتح باب الزنزانة بعنف ودخل " الديزل " وانهال علي جسدي المكوم في ركن الزنزانة بالكرباج وهو يردد " مستنكرًا " إنت بتقول يارب .. يا ابن .. هنا مفيش ربنا .. وإن جه حنحطه جنبك في الزنزانة . ثم أمرني بالجلوس القرفصاء ووجهي إلي الحائط وأن أرفع ذراعي إلي أعلي .. وامتثلت لأوامره . ولا أعرف كم من الوقت مضي عليّ وأنا في هذا الوضع .. ولكنني أفقت علي الكرابيج تلهب جسدي ، يبدو أنني من شدة الإرهاق غلبني النعاس فارتميت علي جانبي . وأمرني صفوت الروبي أن أخلع ملابسي .. وتوقفت عند ملابسي الداخلية وانهالوا عليّ بالكرابيج .. وأصبحت عاريًا تمامًا .. وألقوا إلي بأفرول أزرق ممزق به آثار دماء ممن سبقوني في ارتدائه .. واقتادوني إلي خارج الزنزانة إلي الفناء .. وعلي غرفة مدير السجن قال لي صفوت :

- حتقابل دلوقت شخصية كبيرة .. عايزك تجيب قدامه كل اللي في بطنك .. ماتخبيش حاجة ووجدتني وأنا العقيد أقول للرقيب أول : حاضر يا بك ..

ودخلت الغرفة .. وكان شمس بدران يتصدر الغرفة جالسًا وراء مكتب .. وعن يمينه مختار صالح رئيس المخابرات الحربية ،وعن يساره سعد زغلول عبد الكريم مدير المباحث الجنائية العسكرية ، وإلي جواره جلال الديب نائب الأحكام .. بادرني شمس قائلاً :

- أتكلم يا نصر عن كل حاجة .. زملاءك اعترفوا ومتحاولش تنكر ..

وتساءلت بصدق :

عن إيه يا فندم أتكلم .. أما معرفش حاجة .. أنا مخلص لبلدي وجيشي .. أنا .. ولم أكمل جملتي فقد شعرت بثقل جبل يسقط فوق رأسي فارتميت علي الأرض .. وفي ثوان كنت معلقاًِ من يديّ وقدمي .. رأسي إلي أسفل وقدمي إلي أعلي .. أشبه بالذبيحة في محل الجزار .. وصوت شمس بدران يأمر قائلاً :

-ألف ..

وانهالت الكرابيج علي قدمي .. وصوت بعد واحد .. اثنين .. وأغمي عليّ ولم أسمع شيئًَا بعد رقم 279 .. وعندما أفقت وجدت نفسي ملقي في نفس الزنزانة وأمامي الدكتور ماجد حمادة يضمد جرحي .. وبقيت في الزنزانة ثاني يوم .. بدون طعام أو شراب حتى الليل .. عندما فتح باب الزنزانة مرة أخري كنت في حالة من الإنهاك والانهيار التام .. وسحبوني إلي خارجها .. إلي فناء السجن حيث يوجد تمثال كبير لجندي ممسكًا بندقيته .. وحول التمثال علي شكل دائرة ستة جنود .. ثلاثة منهم ممسكون بالكرابيج وثلاثة ممسكون بسلاسل مقيد بها ثلاثة من كلاب الحرب .. والكلب منهم في حجم الحمار الصغير وفي منتهي الشراسة .. وأمرني صفوت أن أجري حول التمثال .. وحاولت أن أنفذ الأمر ولكن قدمي لم يستجيبا للأمر .. كانتا متورمتين .. وبدأت أمشي بخطوة سريعة .. وعندما أصل في دورتي إلي أحد الجنود الممسكين بالكرابيج يلهب ظهري أو صدري أو وجهي بكرباجه ، وعندما أصل إلي أحد الممسكين بالكلاب يطلق كلبه لينهش في جسدي بعد أن مزق ما بقي من الأفرول الأزرق . وبعد عدة جولات حول التمثال سقطت من شدة الإعياء فأطلقوا الكلاب لتنهش في جسدي ..ولم أشعر بشيء .

وعندما فتحت عيني .. ولا أعرف بعد كم من الأيام أو الساعات .. وجدت أنني لست بمفردي في الزنزانة .. وضعوا معي كلب " عنتر " وهو كلب أعرج من أشرس الكلاب وموجود حاليًا في معرض الطب البيطري بالعباسية .. ولكن قدرة الله سبحانه وتعالي حولت ذلك الكلب الشرس .. كلبًا وديعًا جداً معي .. بل كان أشد رحمة بي من الإنسان في السجن الحربي .

ويصمت العقيد نصر الإمام للحظة وقد اختنق صوته بالبكاء .. وهو يتذكر تلك الأيام الحالكة السواد ليست في حياته فحسب بل وفي حياة الأمة بأكملها ويقول :

شعر الكلب ما أقاسيه وكان يأتي يتمسح في جسدي . يلعق بلسانه جراحي .. وعندما كان يفتح باب الزنزانة لتقديم وجبات الطعام له وكانت في الصباح أنية بها لبن ، وفي الظهر آنية بها شوربة بجوارها لحم نيئ .. وفي المساء .. وكان يشرب من الآنية بعض اللبن ثم يدفعها بأرجله ناحيتي .. وكنت أشرب ما تبقي منه من لبن .. ومرت الأيام وأنا علي تلك الحال .. ثم اصطحبوني إلي التحقيق مرة أخري .. وقبل أن أدخل غرفة التحقيق سألني صفوت الروبي تعرف عفت ؟ قلت له : إن هذا اسم زوجتي . فقال لي ناصحًا : إنهم احضروها وسيهتكون عرضها إن لم ترح شمس بك وتوافقه وتحكي له كل شيء ..

ولم أصدق أن النذالة تبلغ بهم تلك الدرجة .. ودخلت غرفة التحقيق وقد قررت أن استغل بطولتي السابقة في المصارعة في إحداث عاهة لأي شخص يقترب مني محاولاً تعذيبي .. وكنت قد استرددت بعض قواي في الأيام السابقة التي تركوني فيها داخل الزنزانة مع الكلب عنتر .. وبدأ شمس بدران يسألني عن صلتي بالعقيد إبراهيم طه .. وقلت له إنني لم أره منذ عام وكان من تلاميذي في مدرسة المشاة .. ولم تعجب إجابتي شمس .. فانهال بالشتائم .. وفي لحظات وجدت نفسي ملقي فوق الأرض .. وفي لحظات معلقاً كالذبيحة والكرابيج تنهال عليّ حتى فقدت الوعي .. وأفقت بعد يوم أو أيام .. لأجد نفسي في نفس الزنزانة .. والكلب عنتر يلعق بلسانه جراحي .. ثم أخذوني إلي الخارج .. ووقف خلفي العسكري سعد درويش – وهو حاليًا عسكري مطافي بشركة الغزل والنسيج بكفر الدوار ومحبوس علي ذمة قضايا التعذيب .. وكان سعد يقوم بنفس دور " العسكري الأسود " الذي استخدمه إبراهيم عبد الهادي أحد رؤساء وزراء مصر .. وسأل سعد :

- هل اعتديت عليها يا سعد ؟ وجاب سعد : لسه يا فندم .

- ورد صفوت : طيب خده .

ودفعني سعد أمامه .. فارتميت علي يد صفوت الروبي أقبلها معلنًا استعدادي أن أقول أي شيء .. وأمره صفوت أن يتركني .. وأخذني إلي غرفة التحقيق .. وسألني شمس :

- إيه الاتفاق اللي تم بينك وبين محمد نجيب ؟

- وأجبته صادقاً : محمد نجيب لم أره منذ عام 1959 .. رأيته مصادفة آخر مرة وكانت معه حراسة في محل يشتري أطباقاً .. ورد شمس : أنت كذاب .. أنتم كنتم حتجيبوه رئيس للجمهورية لما تنجح حركتكم مع الإخوان المسلمين ..

- وأجبته صادقاً : أنا مليش دعوة بالإخوان أو بمحمد نجيب .

- ووقف شمس ثائرًا وتقدم منه صفوت سائلاً : اعمل له مولد يا فندم ؟ وأجاب شمس باقتضاب : طيب ..

وفي ثوان كنت معلقاً كالذبيحة .. ثم وضعوا بين أصابع قدمي ورق كرتون .. واعتقدت أن الرحمة نزلت في قلوبهم وأرادوا إبعاد أصابعي عن بعضها حتى لا تحتك الجروح التي بها .. ولكني فوجئت بهم يشعلون النار في الكرتون وتحترق أصابعي بالنار وهم ينهالون عليّ ضربًا بالكرابيج .. حتى فقدت الوعي .. وعندما أفقت .. بعد يوم أو أيام لا أدري .. وجدت نفسي في الزنزانة ، وشعر الحراس بأنني أتحرك .. وجاء لي صفوت الروبي واقتادوني إلي الخارج ، وأعلمني أنه صدر الحكم بإعدامي رميًا بالرصاص .. ولكن شمس بك قرر أن أدفن حيًا .. وفعلاً اقتادوني إلي حفرة كبيرة وألقوا بي بداخلها ، ثم بدأوا يهيلون الرمال فوقي حتى غطتني تمامًَا ما عدا رأسي .. وأغمضت عيني بعد أن ردتت الشهادتين .. وفجأة دوي صوت أعتقد أنه صوت شمس بدران أو حمزة البسيوني يأمر بإخراجي .. ووقفت أمام حمزة البسيوني وشمس بدران .. وقال حمزة : إزاي نبعته لربنا وفي في جسمه حته سليمة ؟ وقاموا بخلع ملابسي .. ووقفت عاريًا تمامًا .. وكانت أثار السياط والجروح تغطي كل صدري وظهري وقدمي .. ونظر حمزة البسيوني إلي عضوي التناسلي وأشار ضاحكًا ده لسه سليم ليه ؟ احرقوه .. وعلي الفور أحضروا سيجارة مشتعلة وبدأوا يحرقون العضو التناسلي في عدة مواضع ثم قيدوني وبدأ حمزة البسيوني بنفسه بواسطة آلة في يده ينزع أظافر أصابعي العشرين .. أصابع يدي ورجلي .. ونقلوني هذه المرة إلي المستشفي .. مستشفي السجن ، وعندما أفقت وجدت ذراعي وفيها " إبرة الجلوكوز " وجاءني جلال الديب نائب الأحكام – الذي استطاع الهرب هو الآخر حاليًا إلي الخارج .. ونصحني أن اعترف بكل شيء .. وطلبت منه أن يكتب أي شيء وأنا مستعد للتوقيع عليه ..

وتحسنت معاملتي .. وأحضروا لي طعامًا فاخر .. ولكنني لم أكن أستطيع أن أمضغ أي طعام لتورم شفتي وتهشم أسناني .. وكانوا يساعدونني في وضع كوب العصير في ناحية من فمي لأرتشف نقطة أو اثنتين وأتوقف من شدة الآلام عندما أحرك شفتي .. ثم جاءني جلال الديب بإقرار يتضمن قصة خيالية عن مؤامرة كنا ندبرها للقيام بانقلاب عسكري للإطاحة بالرئيس السابق .. ووقعت علي الإقرار .. ودخلنا السجن .. حتى جاءت النكسة وصدر قرار جمهوري بالعفو عنا وشطب القضية وكأنها لم تكن وأفرج عنا .. ولكننا عدنا إلي السجن مرة أخري بعد 43 يومًا حتى أفرج عنا في أيام السادات .

ولما كان الأنموذج الذي نقلناه إلي القراء اختص بتعذيب رجل عسكري ، وخشية أن يظن القراء أن هذا اللون من التعذيب كان من نصيب العسكريين وحدهم ، رأينا أن نورد أنموذجًا آخر يتناول التعذيب فيه أحد المدنيين ، وننقله هذه المرة من كتاب " محاكمات الدجوى " للأستاذ شوكت التوني من صفحة 392 وما بعدها ، يتكلم فيه الأستاذ محمد شمس الدين الشناوي المحامي عن الطريقة التي عذب بها في عام 1965 ، 1966 فيقول :

" خلعت ملابسي أمام شمس بدران وبحجرته التي كان يجلس فيها والتي كانت مخصصة من قبل لجلاد السجن الحربي حمزة البسيوني ثم تركها لما ل بدران بهذه السجون لطبخ التحقيقات والقضايا " .

وبهذه المناسبة فهناك أمر مهما كان سيئًا فهو ظريف ، فقد كان المتبع في خلع الملابس من يراد استنطاقه أن تخلع ملابسه قهرًا بتمزيقها .. ولكن عين الجلاد صفوت الروبي قد زاغت في القميص الذي كنت أرتديه ، فإذا به يمنع الجندي المكلف بتمزيق الملابس ويقوم هو بنفسه بفك الزراير برفق وأناة – وهذا شرف كبير لم يحظ به أحد – ثم وضعه في جانب الغرفة بعيدًا عن الدم والأعين ثم استصفاه لنفسه غنيمة سائغة .. ولم يكن ذلك غريبًا علينا فقد كانت دماؤنا وأموالنا وحريتنا مباحة لهم دون معقب ولا اعتراض . وبدأ التحقيق بأن قيدت يداي ورجلاي ثم مرر قضيب الحديد فوق يدي المقيدتين وتحت ركبتي ،ورفعت من قضيب الحديد ، وأسندت نهايتاه علي ظهري كرسيين وضعا وسط غرفة " التحقيق " . وكان رأسي مدلي إلي الخلف وعيناي إلي أعلي ، وتم السؤال وأنا علي هذا الوضع . وكان أول سؤال وجهه شمس بدران إليّ هو الآتي :

- أنا الآن بالسجن الحربي ولست بالمباحث العامة أو النيابة العامة ، وليس هنا قانون أو حقوق ، ونحن نفعل ما نشاء دون رقيب ، ومطلوب منك أن تقدر ذلك وتقول كل ما تعرفه .

- فأجبته بأنني لا أعرف ما يسأل عنه ، فإذا كان عنده سؤال محدد فأنا مستعد للإجابة عليه .. فانهال عليّ بالسباب الفاجر والقول البذئ ، ثم وجه كلامه إلي صفوت وقال : يا صفوت ده من العتاولة ومصروف له ألف كرباج .

فإذا بهذا الجلاد وأعوانه ينهالون عليّ بالسياط في وحشة وإجرام وأنا معلق علي الوضع الذي ذكرته كالذبيحة في حانوت الجزار لا أملك إلا أن أدعو الله أن يلهمني الصبر ، ويثبتني علي الحق ، وأن ينتقم من الظلمة .. ولما استمر الجلد وسال الدم وتهتك اللحم وتناثر ، لم أتمالك نفسي فانطلقت بسب بدران وسيده ، ووصفتهما بالكفر والجحود ، بأنهما حطب جهنم خالدين فيها .. وظللت أردد ذلك حتى غبت عن الوعي ، ولما أفقت بعد برهة صغيرة وجدتني ثانية داخل الغرفة ليكرر نفس السؤال : " قل ما تعرف عن أي شخص وعن أي شيء " . ولما أعجت عليه نفس الجواب : اسأل عن أي شيء وأنا أجيب .. تكرر نفس الجلد بالسياط ،وزاد عليه الكي بالنار ، وإطفاء السجاير حول عنقي ، ورأسي مدلاة إلي الخلف ثم كان صفوت ينتزع اللحم المتهتك من جسمي نتيجة ضرب السياط ويجمعه ثم يفتح فمي عنوة ويضع فيه هذا اللحم ويقول : دق لحمك النجس .. ولما يعمل أسياخ الحديد المحمي والسجاير في جسمي يقول : شم رائحة الكباب فأنت جائع ..

وهكذا استمر الحال حتى فقدت الوعي أكثر من مرة ، ووصلنا إلي مطالع الفجر ، فإذا به ينهض واقفاً لينصرف حتى ينال قسطًَا من الراحة ليستأنف نشاطه الإجرامي في " التحقيق " في اليوم التالي .. وكان آخر أمر وجهه إلي صفوت : خليه معلق حتى الصباح لحين حضوري . وبعد انصرافه هو وكاتبا التحقيق جلال الديب ومصطفي الجنزوري نائبا الأحكام اللذان كانا يجلسان معه في نفس غرفته مكتبين جانبيين .. حضر شخص أسمر ضخم الجثة أجش الصوت وقال لصفوت : ما هذا الذي تفعلونه .. ألا تدري من هذا .. دا راجل كبير وله مكانته فكيف تعمل معه ذلك ؟ فقال له : هذه أوامر سيادة العميد شمس وقد أمرني أن لا أنزله حتى يحضر في الصباح .. فقال له ذلك الشخص – الذي علمت فيه أنه سعد عبد الكريم مدير المباحث الجنائية العسكرية – نزله وأنا المسئول أمام سيادة العميد وسأضمن أنه سيقول كل ما يطلب منه في الصباح .. وأنزلت من التعليقة وألقيت علي الأرض حيث كانت قواي خائرة ورجلاي ممزقة متهتكة .. وأمكر سعد عبد الكريم بإحضار كوب من عصير الليمون من البوفيه المجاور لحجرته ، شربته وأنا لا أحس بالحياة .. وإذا بهذا الكوب كأنه أكسير الحياة ، فقد كان كالسحر ، سري في جسدي سريان الروح ، وكنت أحس باسترداد الحياة مع كل رشفة من هذا الكوب .. ولازلت أذكر هذه اللحظة حتى اليوم وما أظن أنني سأنساها ما حييت فقد كان ألذ كوب مشروب في حياتي ..

عودة إلي الحياة : ثم حملت بعد ذلك إلي حجرة كانت تعرف باسم مخزن رقم 2 ، كنت غادرتها مع العشاء ماشيًا علي رجلي حافي القدمين – وهذه هي الأوامر – ثم عدت إليها مع الفجر محمولاً علي محفة بين الحياة والموت . وقد علمت بعد ذلك من طبيب كان معنا في نفس الغرفة – بعد انقضاء هذه الفترة بثماني سنوات أنني أصبت بصدمة عصبية في تلك الليلة وأنني أسلمت الروح وأنه أسبل عيني وجذب الغطاء علي وجهي في الساعة السابعة صباحًا .. وفي تلك اللحظة ألهمه الله أن يطلب من بعض الإخوان أن يحملوني من رجلي لتكون رأسي إلي أسفل ، وليقوم هو ببعض إسعافات لتنشيط القلب ، فإذا بي لحظات أستعيد الحياة وأفتح عيني . وكان هذا الطبيب هو الدكتور فؤاد عبد المجيد الذي يعمل بمستشفي كفر الشيخ .. ولما سألني منذ مدة قريبة أثناء زيارته لي في شهر رمضان 1973 إن كنت أذكر ذلك فنفيت له علمي حيث لم أشعر بشيء من ذلك علي الإطلاق ولم يخبرني به أحد حتى هذه اللحظة . وقد حضر طبيب السجن الحربي كما هي العادة – وهو الرائد ماجد حمادة – ولما رأي حالتي بدا عليه التأثر الشديد وكتب لي حقن " ويفرين " ولأول مرة أسمع هذا الاسم ، وقد كانت هذه الحقن خير ضمان لعدم تلوث الجراح ولعدم حصول مضاعفات في هذا المكان القذر الذي كنا نعيش فيه فجزاه الله عني خيرًا .

ثم تركت ملقي مع غيري في هذا المكان أعاني من الجراح والضيق حيث كان المكان الذي يتسع لخمسة يوضع به ثلاثون مثخنون بالجراح يثنون مما بهم من سوء المعاملة والجوع والعطش ورائحة القيح والصديد والبول والبراز وجرادل الكوتش في الجو القائظ فقد كانت لها رائحة لا يمكن أن توصف أو تعرف لغير من شم رائحتها المنتنة . وانتهت " التحقيقات " التي كان يجريها بدران وأعوانه في شهر أكتوبر 1965 أي أنها استمرت أربعة أشهر كاملة – وذكرت الصحف المأجورة أن التحقيقات انتهت وأن المتهمين سيقدمون إلي محاكم خاصة تشكل لذلك – وصدر قرار جمهوري بتشكيل أربع دوائر جنايات أمن دولة عليا ، الأولي يرأسها الفريق الأول الدجوى ، والثلاثة برياسة علي جمال الدين التميمي . وقد علمت أن " التحقيق " ال1ذي أجري ثبت منه عدم صحة رواية عبد الفتاح الشريف ، وبذلك فلن يعاد الكلام بشأنه ، وخصوصًا وأن التحقيق كان قد انتهي وانقض سامره . ولكنني كنت واهمًا في ذلك ؛ فإن الحقد والضغينة التي ملأت قلب شمس بدران علي الشيخ محمد الأودن جعلته يصمم علي قتله وافتعال الأقوال التي يستند عليها لتنفيذ جريمته ضد هذا الشيخ الفاني الذي كان يبلغ الثمانين من عمره في ذلك الوقت .

وفي حوالي الساعة 10 مساءً يوم 6/12/1965 إذا بباب الزنزانة رقم 55 التي كنت بها يفتح مزلاجه الضخم فيحدث صريرًا تقشعر له الأبدان ، ثم يقف جندي كريه الصورة والصوت ينادي علي " الواد شمس الدين الشناوي " .. ثم أخذني خارج السجن الكبير إلي الحوش الذي نصبت فيه خيام النيابة ، وكانت جراحي لا تزال ناغزة ، وعليها ضمادات عليها الدم والصديد ، لم أكن أستطيع أن ألبس الحذاء لتضخم قدمي وتهتك لحمهما ووجود الضمادات عليهما فخرجت حافي القدمين أتحسس الأرض ولا أستطيع أن أطأها إلا همسًا ،ولم أكن أستطيع الجري كما تقضي بذلك تعليمات بدران حيث يمتنع علي أي شخص يسير إلا بالخطوة السريعة وكأننا مجندون في عنفوان الشباب – وكان سني حينئذ 43 سنة وأعاني من الآلام والجروح والجوع والعطش مما أنقص وزني أكثر من ثلاثين كيلوجرام .. فكان الجندي ينهال عليّ بالسوط لعجزي عن الجري .

وأدخلت إحدى الخيام المنصوبة بحوش السجن الحربي فوجدت شابًا في مقتبل العمر يجلس إلي مكتب متواضع وأخبرني أنه وجيه قناوي وكيل نيابة أمن الدولة ، وقد أكرمني وقدم إليّ مشروبًا ثم بدأ يسألني في بلاغ تقدم به شمس بدران ضدي وأطلعني علي البلاغ وكان يتضمن أنني اصطحبت محمد عبد الفتاح شريف إلي منزل الشيخ محمد الأودن – فقلت له : وما الجريمة في ذلك .؟ لا جريمة ولكنه أصر علي أن يحقق معك .. فقلت له : طالما أنك غير مقتنع بوجود جريمة وأرغمت علي الحضور والتحقيق ، فمعني ذلك أنك إذا قررت حفظ التحقيق وأصر بدران علي تقديمي للمحاكمة فإنه ينفذ كلامه .. ولكن السيد المحقق تحسس عندئذ لإنفاذ رأي النيابة .. وبعد إتمام الاستجواب أخبرني أنه سيكتب مذكرة بحفظ التحقيق ويطلب الإفراج عني فورًا .. ولكنني أوضحت له أن الأمر ليس بهذه السهولة التي يظنها .. وأصر علي قوله وقال : سوف تري .. وعدت إلي مكاني بالزنزانة رقم 55 .

وبعد خمسة عشر يومًا وفي صباح يوم 21/12/1965 حضر إليّ صف الضابط " سمير المسئول عن السجن الكبير " وقال : أنت مطلوب لإتمام إجراءات الإفراج عنك . ولما ذهبت إلي المكاتب وجدت عددًا من المعتقلين منهم أولاد الشيخ محمد الأودن الأربعة وتجري مراسم الإفراج ومنها حلق اللحى التي طالت حتى وصلت إلي الوسط واستلام الأمانات وكتابة إقرارات بأننا لم نعذب وليست بنا آثار تعذيب .. وهلم جرا . وأثناء إتمام الإجراءات حضر شمس بدران وكان ذلك حوالي الساعة العاشرة صباحًا ، ونظر إلينا ثم وجه الكلام إليّ " رايح فين يا ولد " فقلت له : بيقولوا مروحين .. فقال " هاته " .. وذهب إلي مكتبه وقال لي : إذا كنت تريد أن تخرج مثلهم فعليك أن تقول ما أطلبه منك عن الشيخ الأودن ثم تخرج .. فقلت له : مادام ذلك لم يحصل فلن أقوله .. فكرر كلامه وكررت ردي .. فاستدعي الأخ محمد عبد الفتاح الشريف وقال له إنه يطلب إليه أن يذكر رواية ضدي وضد الشيخ الأودن .. ولما قال له إن ذلك لم يحصل ، قال : أنا لم أسألك إن كان حصل أم لا إنما أطلب منك أن تقول ذلك وإلا أعدنا عليك كرة التعذيب ..ثم أذن له بالانصراف .

وقال لي : لابد أن تقول هذه الأقوال عن الأودن حتى تخرج .. ولما رفضت اتصل تليفونيًا بجمال عبد الناصر واستأذنه في عدم الإفراج عني ووعده أنه سيحصل مني في تلك الليلة علي اعترافات تدين الأودن – ففوضه في ذلك وأمر بأن أجلس علي باب الغرفة ووجهي للحائط للحين عودته مساءً ، وسيعرف إن كنت سأوافق أنم أقول ما يطلب .. وقضيت اليوم كله هكذا جالسًا علي الأرض ووجهي إلي الحائط في انتظار حضوره مساءً .. وقد حضر في حالة غير طبيعية ، أدخلت إليه فقال : " شاورت عقلك عشان تقول ما طلبت منك ، وتذهب إلي بيتك .. فقلت له : ليس عندي ما أقوله . فأمر صفوت الروبي بإحضار العدة وهي الحبال والسياط وقضيب الحديد وأمره أن يقوم بعمله ففعل وكان بالحجرة مع بدران جلال الديب ومصطفي الجنزوري نائبا الأحكام – وباشر صفوت ومن معه من الجنود عملهم بالقيد والتعليق والجلد في وحشية لا مثيل لها ، وكنت في هذه الحالة أدعو الله أن يثبتني وأن يعينني عليهم أو أن يريحني بالموت .. واستجاب الله الدعاء ، فلم أكن أحس بما يفعلون إلا قليلاً .. وزاد من غيظ بدران وحقده فأمر بإحضار الكلاب الشرسة المدربة ؛ فلم آبه لذلك ولم أحفل به ؛ فقد كان ما أنا فيه أشد من نهش الكلاب ، كنت صادق النية في لقاء الله ؛ فأراني هذا الجبار بدران في صورة فأر صغير لا يرهب ولا يخيف ، وأراني الله من آياته في تلك الليلة أشياء كثيرة لا أستطيع وصفها ولا التعبير عنها .

وكان بدران يرغب في أن يسمع عبد الناصر بالأقوال التي تدين الشيخ الأودن فأحضر معه شخصًا يحمل في كتفه جهاز تسجيل ، وقرب المايك من فمي ليسجل ، لكنه لم يسجل إلا أزيز السياط واللعنات التي كنت أصبها عليهم ؛ فتغضب وطرد حامل جهاز التسجيل من الغرفة ، ووقع في حرج شديد ؛ نظرًا لأنه رأي إصراري علي موقفي رغم إشرافي علي الموت وكان يقول : " أقول للراجل إيه وأودي وشي فين " وكان ذلك يزيده ضراوة وشراسة ، ويزيد الجلادين قسوة ووحشية .. وبعد مدة من العذاب والنزيف غبت عن الوعي ولم أعد أحس شيئًا وكانوا يفوقونني بالكي بالنار ، وإطفاء السجاير في جسدي ،والإلقاء بي في حوض الماء القذر الموجود أمام غرفة بدران ، فإذا أفقت بدأت المساومات والوعود والأماني التي لم تمكن لتثنيني عن موقفي ، وعزمت صادقاً في تلك الليلة أن ألقي ربي لأتخلص من عذابهم ولا افتري علي هذا الشيخ الكبير الصالح الشيخ الأودن . وكان الليل قد فات منتصفه ، ورأي بدران أن لا فائدة ترجي من التعذيب ، فإذا به ينهض واقفًا في عصبية وغيظ ، ويقذف بسلسلة مفاتيحه الذهبية ، وينهال بالسباب والشتائم البذئ ويردد " كسفتني يا ابن .. أقول للرجل إيه بعد ما وعدته .. " ثم قال لجلال الديب ومصطفي الجنزوري : كلموا معاه .. يا يقول ما يطلب منه يا يموت ونخلص منه ، ثم انصرف غاضبًا حانقاً أو لعله كان نادمًا علي هذا الوعد الذي بذله لسيده دون أن يستشيرني فيه . ولو استشارني لما أشرت عليه بذلك إذ الموت أهون بكثير مما يدعونني إليه .. وكيف لا وهو يدعوني إلي شهادة الزور يقتل بها رجلاً فاضلاً وشيخًا كبيرًا . وكان يحضرني في ذلك الوقت الحديث الشريف " شاهداك قاتلاك " .

وبعد أن انصرف بدران غاضبًا ألان لي الديب والجنزوري القول وأظهرا لي العطف والشفقة وقالا : ارحم نفسك مما أنت فيه ونحن نعرف مكانتك وقدرك ، ولكننا لا نملك إلا تنفيذ الأوامر ،وهذه أوامر عليا سمعتها بنفسك فأرحنا وأنقذ نفسك حرصًا علي حياتك ومصالح أسرتك .. ولما تمسكت بموقفي إذا بهذا الود واللين ينقلب إلي قسوة وضراوة ،وإذا بهما يقومان بما طلب منهما بهمة ونشاط فيأمران صفوت بإتمام المأمورية حتى الرضوخ أو القتل .. وكأنهم جميعًا أصيبوا بجنون القسوة ، وكأنما عز عليهم أن لا يستطيعوا إملاء رغبتهم الأثيمة علي شخص ضعيف أعزل خائر القوة ، متهتك اللحم ، يقف وقد غطي دمه أرض الغرفة حتى استحالت بركة حمراء قانية .

ولما استمر الضرب والنزيف ، فقدت كل أثر الحياة ، وخفتت أنفاسي ، وهدأت نفسي ،واستمروا في الضرب علي الجثة الهامدة التي هي جثتي .. وقد دعا ذلك أحد من العيادة أن يسرع إلي طبيب السجن الذي تصادف وجوده بالسجن في أواخر الليل لحكمة يعلمها الله وتخفي علي الناس ، فما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلاً – وأخبر هذا الجندي الرائد طبيب ماجد حمادة أنهم يضربون شخصًا مات منذ وقت طويل .. فحضر الطبيب وجس النبض والقلب وأنا معلق ثم قال لهم : ما تصنعون ؟ إنكم تضربون جثة والضرب في الميت حرام .. قالوا له : هذه هي الأوامر .. فقال : انزلوه وسأحاول إسعافه لإعادة الحياة إليه إن استطعت .. ففعلوا .. وقال لهم الطبيب .. احملوه إلي مستشفي السجن وكانت المسافة بين غرفة بدران وبين المستشفي حوالي نصف كيلومتر فإذا بصفوت يأمر الجنود أن يجروني علي الأرض حتى المستشفي . فثار الطبيب وأمر صفوت بإحضار السيارة الجيب لنقلي إلي المستشفي . فقال صفوت : السواق غير موجود يا فندم .. فطلب الطبيب من جندي العيادة إحضار النقالة والجنود لنقلي عليها .. وتم ذلك ،ووضعت علي سرير المستشفي ، وظل الطبيب إلي جانبي يحاول إعادة الحياة بالحقن والأدوية والتدفئة حتى أفقت وفتحت عيني في الصباح فقال لي : الحمد لله علي السلامة . فقلت له : لماذا تقول لي ذلك ؟ قال : لأنك عدت من سفر بعيد ..

ولست أدري إن كان الطبيب يذكر ذلك أم أن طول العهد وكثرة ما شاهد من أحداث وأشخاص قد أنساه .. ولما أفقت قلت للطبيب : أريد أن أعود إلي زنزانتي بالسجن الكبير . فلما استفهم عن سبب ذلك أخبرته أنني أريد أن أكون مع إخواني بها يساعدونني علي حاجتي ويسهرون علي صحتي .. وقد كانت العيادة مقسمة إلي زنازين كل واحدة لا تتسع إلا لشخص واحد .. وكنت لا أستطيع الحركة أو الكلام بسهولة . ولكن الطبيب رأي أن يستبقيني في العيادة لأنه علم أن التحقيق معي لم ينته بعد . وطالما بقيت في العيادة فإنه سيخبرهم أن حالتي لا تسمح بالتعذيب مرة أخري .

وفي الصباح حضر مصطفي الجنزوري ، وفتح باب الزنزانة بالمستشفي وسألني إذا كنت قد غيرت رأيي أم لازلت مصرًا عليه . ولوح لي أن الدولة من مصلحتها أن تتخلص من هذا الرجل المجرم (الأودن) وأنني إذا ساعدتها في ذلك فإنها ستكافئني وهي لا تنسي من يخدمها .. فقلت له إنني عاجز عن خدمة دولتكم ، وحسبي ما أنا فيه .. وقلت له : قل لبدران الذي أرسلك إنني لم أمت ولن أموت إلا بإذن الله ..

فلوح بتهديد من نوع جديد .. وقال فيه ناس ميهمهومش الضرب ولكن فيه طرق أخري تنفع معاهم .. وفهمت ما يرمي إليه ، فقد كان يريد أن يفهمني أنهم سيحضرون زوجتي لإكراهي علي ما يطلبون .. ولما كنت قد وطنت نفسي صادقاً علي الموت ، فلم يفزعني هذا التهديد واعتبرته لونًا من البلاء المبين الذي كتب علينا .. وقد طمأنني ربي بأمور رأيتها زادتني إيمانًا ويقينًا بأن الله معي ولن يخذلني ولن يتخلي عني أبدًا .

وفي اليوم التالي أحضر سيدة ووقف يكلمها أمام باب زنزانتي بالمستشفي والباب مغلق ،وهو يتكلم بصوته الأجش وهي تتكلم بصوت خافت حتى لا أستطيع أن أميز الصوت .. ثم أمر جنديًا باصطحابها إلي سجن رقم 4 .. وفعلاً أخذها الجندي خارج المستشفي .. فساورني القلق ،وأردت أن استقصي الأمر فأرسلت أحد جنود العيادة ليراها ويصفها لي ، فذهب ووصفها لي فوجدتها سيدة أخري ساقتها الأقدار إلي براثن هؤلاء الوحوش فأراد أن يوهمني أنها زوجتي . ولكن الله من ورائهم محيط .

  • * *