الإصلاح السياسي عند البنا (قضايا سياسية- الحلقة الثانية)
إعداد: طارق عبد الرحمن
المقدمة
وقفنا في الحلقة السابقة عند حديث الإمام البنا حول قرض القطن، بعد ذلك عقَّب الشيخ (محمد أحمد عثمان)- بجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية- على كلمة الإمام، فقال:
حول قرض القطن
جاءتنا هذه الكلمة من الأستاذ المفضال الشيخ محمد أحمد عثمان بجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، معقِّبًا على الكلمة السابقة حول قرض القطن، وقد عقَّب عليها الأستاذ المرشد العام بكلمة أخرى ننشرهما معًا:
حضرةُ صاحب الفضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإني أحمد الله إليكم، الذي ألهمكم وأعانكم على إخراج جريدة يومية، تذودون فيها عن الحنيفية السمحة، وحقوق الوادي، تلك الصحيفة التي لا أستريح يوميًّا حتى أتصفَّح ما فيها، ولقد حدثتني نفسي أن أهنِّئ، ثم حالت مشاغلي دون التهنئة في حينها، معتقدًا أن هذا واجب المسلمين جميعًا، وأن كل فرد منا جديرٌ أن يهنِّئ على هذا الخبر العظيم.
واليوم وفي الصفحة الثالثة من جريدتنا الغراء رأيت مقالكم (حول قرض القطن)، صدرُه تتفجَّر منه ينابيع الحكمة، ويحوطه النور السماوي، وخاتمته دفعتني إلى التحرير؛ إذ تقررون فضيلتكم "إن قرض القطن سينقذ الآلاف من المنتجين والتجَّار، ولكن ما الذي يمنع من التفكير في أن توضع هذه العمليات الاقتصادية في صور شرعية، كأن تُعتبر فوائد بنك التسليف أو الجمعيات التعاونية نفقات للموظفين والعاملين بالبنك، وتحتسب على هذا الاعتبار حسابًا دقيقًا يتراضى عليها الطرفان كما تُعتبر سهوم القروض سهومًا في شركات مثلاً؟!".
هذه الجملة- يا سيدي الأستاذ- أوقفتني، وقد يكون قصوري عن فهمها هو السبب؛ لأننا جميعًا نعلم أن قروض القطن وغيره لها فوائد من الحكومة، ربحت عملية التسليف على القطن أم لم تربح، وسواءٌ باعت الحكومة القطن بأقل من الثمن المقرر له أم لا، وفي بعض الصور التي اشترطتها الحكومات السالفة جعلت حصةً للمساهم في الربح الكبير، وليس للحكومة الرجوع عليه في حالة الخسارة.
فالعملية من أساسها باطلة ولا يصح لحكومة ينص دستورها على أن دين الدولة الرسمي الإسلام أن تقدِم عليها فضلاً عن دعوة الأمة إلى مشاركتها في هذا الإثم.
أما الزعم بأن هذه العملية ستنقذ الآلاف من المنتجين والتجَّار فهو يتنافَى مع القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: من الآيتين 2- 3).
أما طريقة الاعتبار الفرضي الذي ورد في المقال فإني لم أتفهَّمه على وجهه؛ إذ كيف يسوغ لي أن أفرض أن الليل قائم مع وجود الشمس ساطعة تلهب حرارتها الآذان؟ وهل يكفي- يا سيدي- الأستاذ أن يرضي الطرفان عن طريقة ما حتى يصبح الحرام الخالص حلالاً؟!
الذي كنت أنتظره من أستاذنا المرشد العام أن يوجِّه الحكومة وجهةً أخرى، وذلك بإيجاد شركة مساهمة لابتياع القطن من المزارعين، وتصريفه على أن توزَّع أرباح هذه الشركة أو خسارتها على المساهمين على غرار شركة المضاربة المعروفة في كتب الفقه.
ثم الذي آلمني أكثر، وهو- لا شك- يؤلم كل محب لفضيلتكم قولكم: "ولا شك أن بنك التسليف وجمعيات التعاون خير من التعامل بين المرابين بالربا الفاحش والفلاح المسكين"، فهل يسمح لي سيدي الأستاذ أن أفهم أن فضيلته يُجيز الربا القليل؛ لأن المقال صريح في أن التعامل مع بنك التسليف خيرٌ من التعامل مع المرابين بالربا الفاحش؟!
أملي كبير أن يُفصح فضيلة الأستاذ عن رأيه، وأن نرى جريدة الإخوان- وهي من الألسنة الناطقة بالمبادئ الإسلامية- وقَّافة عند حدود القرآن الذي اتخذناه جميعًا شعارًا لنا.
ومع إجلالي وإكباري لفضيلتكم أرجو أن تتفضَّلوا بقبول فائق احتراماتي.
محمد أحمد عثمان- جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية بالقاهرة.
وقد عقَّب الإمام البنا على هذا الكلام، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم..
قرأت الكلمة الطيبة التي عقَّب بها الأخ المفضال الشيخ محمد أحمد عثمان على كلمتي حول قرض القطن، وإني لأتقبَّل نصيحته، وأشكر لحضرته غَيرتَه، وأتمنَّى أن يوفقَنا الله جميعًا لخير أنفسنا في الدين والدنيا، وأضع بين يديه ويدي القرَّاء هذا التعليق اليسير؛ ذلك أن الغرض الذي رَمَيت إليه من كلمتي- كما لخصته في نهايتها- إنما هو لفت نظر الحكومة إلى الخروج من حيِّز التقليد وحجابه الغليظ، فلا نكون أسرى لما نتلقَّى عن الغرب بغير نظر أو تبصر، ثم دراسة هذه الشئون دراسةً دقيقةً، تخلِّص الأمة المؤمنة بدينها من الحرج الشديد الذي تلقاه، ولم أقصد إلى تحليل الموضوع تحليلاً علميًّا دقيقًا؛ إذ إنها مهمة تحتاج إلى اختصاص، ونسأل الله أن يوفقنا مع أهل الاختصاص بهذا الأمر لهذه الدراسة، من شرعيين أو اقتصاديين.. هذه واحدة، والثانية أن ما أشار إليه فضيلة الأستاذ الشيخ عثمان من إنشاء شركة للقطن هو بعض ما قصدتُه بأن يكون القطن سهومًا، فهو يخصص، وأنا أعمِّم، ونحن ملتقيان.
أما أمر بنك التسليف فالذي أقصد إليه أن تُحسب النفقات التي يتكلفها البنك، وتضاف هذه النفقات على القروض بنسبتها على أنها نفقات لا فوائد، وأظنُّ أن ذلك ليس فيه شيء من الربا، وإذا عمدت الحكومة إلى اعتبار البنك خدمةً عامةً كان ذلك أطيب، وقد فعلت ذلك بعض الحكومات الأجنبية، فالحكومة الإسلامية أولى وأحق.
أما تحليل القليل من الربا فلا أذهب إليه بحال، بعد أن حدَّدت الآية الكريمة التحديد الذي لا يدَع مجالاً للاجتهاد بعد النص: ﴿فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: من الآية 279) وكل ما يمكن أن يقال: إن هناك صورًا من التعامل قد لا تنطبق عليها أحكام الربا فهذه ليست في موضع البحث.
وأختم هذا التعقيب بما بدأنا به من شكر الأخ المفضال الشيخ عثمان وتقدير نصحه، والله أسأل أن يعيننا على النهوض بهذه الأعباء، وهو المستعان.
سيناء والسودان
لا ندري إلى متى يظل الساسة في مصر على جهل تام بالحقائق القريبة، بل القريبة جدًّا، التي يجب أن تكون أول المقررات التي تدرس للطلبة في المدارس؟!
وما ندري إلى متى نظل مخدوعين بالتعاليم الاستعمارية التي شوَّهت الحقائق بين أيدينا، وتعمَّدت إخفاء الكنوز الدفينة المنثورة في كل مكان من هذا الوطن الغني القوي العزيز؟!
ولا زلنا نذكر السورة الطويلة العريضة التي حفظناها- ونحن طلاب- من كتاب المستر هنري مارون عن مصر والسودان من أن مصر بلد زراعي، ولا يمكن أن تقوم فيه الصناعات لعدم ملاءمة جوّها، ولخلوّها من الخامات اللازمة والمواد الأولية الضرورية للنهوض الصناعي، إلى آخر هذه الأقصوصة التي كذبها الواقع أوضح تكذيب.
أكتب هذا بمناسبة ما ورد في بيان صدقي باشا على لسان أحد الساسة المصريين عن التعبير عن سيناء المباركة بلفظ برية سيناء، ووصفها بعد ذلك بأنها أرض قاحلة ليس فيها ماء ولا نبات إلا أربعة بلاد جعلت للتموين وقت اللزوم.
وقد أثار هذا المعنى في نفسي سلسلةً من المحاولات التي قام بها المستعمرون منذ احتلوا هذه الأرض؛ ليركِّزوا هذا المعنى الخاطئ في أدمغة السياسيين المصريين، وفي أبناء سيناء أنفسهم، فأخذوا يقلِّلون من قيمتها وأهميتها، ويضعون لها نظامًا خاصًّا في التعليم والتموين والحكم والإدارة، ويحكمها إلى العام الماضي فقط محافظ إنجليزي يَعتبر نفسه مطلقَ التصرف في كل مقدراتها، ويجعلون الجمرك في القنطرة لا في رفح؛ إيذانًا بأن ما وراء ذلك ليس من مصر حتى صار من العبارات المألوفة عند أهل سيناء وعند مجاوريهم من المصريين أن يقال هذا من الجزيرة، وهذا من وادي النيل كأنهما إقليمان منفصلان.
مرت بنفسي هذه الخواطر جميعًا، فأحببت أن أنبِّه الساسة الكبار والساسة الصغار وأبناء هذا الشعب إلى الخطر الداهم العظيم الذي تُخفيه هذه الأفكار الخاطئة، ولا أدري كيف نقع في هذا الخطأ الفظيع مع أن القرآن الكريم نبَّهنا إليه ولفت أنظارنا إلى ما في هذه البقاع من خير وبركة وخصب ونماء؟ وأنها إنما أجدبت لانصرافنا عنها وإهمالنا إياها، فذلك قوله تعالى: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (20)﴾ (المؤمنون).
إن سيناء المصرية تبلغ ثلاثة عشر مليونًا من الأفدنة، أي ضعف مساحة الأرض المنزرعة في مصر، وقد كشفت البحوث الفنية في هذه المساحات الواسعة أنواعًا من المعادن والكنوز فوق ما كان يتصوَّر الناس، واكتشف فيها البترول حديثًا، ويذهب الخبراء في هذا الفن إلى أنه في الإمكان أن يُستنبط من سيناء من البترول أكثر مما يستنبط من آبار العراق الغالية النفيسة، وأرض سيناء في غاية الخصوبة وهي عظيمة القابلية للزراعة، وفي الإمكان استنباط الماء منها بالطرق الارتوازية (3) وإنشاء بيارات يانعة على نحو بيارات فلسطين تنبت أجود الفواكه وأطيب الثمرات، وقد تنبَّه اليهود إلى هذا المعنى ووضعوه في برنامجهم الإنشائي وهم يعملون على تحقيقه إذا سنحت لهم الفرص، ولن تسنح بإذن الله.
فمن واجب الحكومة إذن أن تعرف لسيناء قدرها وبركتها، ولا تدعها فريسة في يد الشركات الأجنبية واللصوص والسرَّاق من اليهود، وأن تسرع بمشروع نقل الجمرك من القنطرة إلى رفح، وأن تقيم هناك منطقة صناعية على الحدود، فلعل هذا من أصلح المواطن للصناعة، ويرى بعض المفكرين العقلاء أن من الواجب إنشاء جامعة مصرية عربية بجوار العريش تضمُّ من شاء من المصريين، ومن وفد من فلسطين وسورية والعراق ولبنان وشرق الأردن وغيرها من سائر أوطان العروبة والإسلام، ويرون في هذه البقعة أفضل مكان للتربية البدنية والروحية والعقلية على السواء.
وحرام بعد اليوم أن تظن الحكومة أو يتخيل أحد من الشعب أن سيناء برية قاحلة لا نبات فيها ولا ماء فهي فلذة كبد هذا الوطن ومجاله الحيوي ومصدر الخير والبركة والثراء، ونرجو أن يكون ذلك كله بأيدينا لا بأيدي غيرنا.
ولقد امتد إهمالنا لهذا الوطن العزيز، وانصرافنا عن دراسة الحقائق عن طبيعته ووضعيته إلى الجزء الجنوبي منه (السودان) بعد الجزء الشرقي (سيناء)، فسمعنا دولة رئيس الحكومة في بيانه يعرض للسودان في موضعين، ويمر به فيهما مرورًا خاطفًا، ولكن يضمُّ تحته كثيرًا من المعاني التي تحتاج إلى تفكير، فيقول في الموضع الأول في صدد المحالفة والمعاهدة وإنها للحصول على جلاء عاجل: "ولتسوية مسألة السودان على قواعد الشرف والكرامة مع ضمان مصالح إخواننا السودانيين"، وهنا نرى أن صدقي باشا ما زال يسترسل مع النغمة الإنجليزية التي تفرق بين مصر والسودان، وتجعل منهما شعبين مختلفين ووطنين متباينين لكل منهما مصالحه الخاصة به، وذلك فهم عريق في الخطأ ومصر والسودان وطن واحد وشعب واحد ومصالح السودانيين هي مصالح المصريين تمامًا، وإذا كان السودانيون يرون أن تقوم في بلدهم حكومة سودانية داخلية تحت التاج المصري فليس ذلك منهم إلا مراعاةً لبعض الأوضاع الخاصة في السودان، كما تبيح الحكومة المصرية للقبائل العربية في مصر أن يكون لها مشايخ منها، لهم وضعيتهم الخاصة، وتقاليدهم الخاصة، ولا يقال: إن لهم بذلك مصالح تختلف عن مصالح الوطن العامة.
ويقول في الموضع الثاني: "ومصر الحريصة على كرامتها واستقلالها وحقوقها في النيل تعلم هي الأخرى مبلغ الفائدة لها من مصادقة دولة عظمى كبريطانيا"، وهذا كلام يحتاج إلى تفكير حقًّا، فماذا يقصد دولة الباشا بحرص مصر على حقوقها في النيل؟!
إن مصر لا تحرص على وحدة الوادي لمجرد حصولها على ما تحتاج إليه من هذا الماء، كما لا تحرص على الإسكندرية مثلاً؛ لأن ميناءها على البحر، فهذا التفكير المادي البحت بعيد عن الشعور المصري، وإن أراد الإنجليز دائمًا أن يصوِّروا الأمر بهذه الصورة، وجاراهم في ذلك رئيس الحكومة، ووقع في هذا الفخّ كثير من الساسة المصريين، ولكنَّ مصر حريصة على السودان لأنه جزء من حدود هذا الوطن، ولأن أبناءه مواطنون حقيقيون بدمهم ولغتهم وعقيدتهم وشعورهم وآلامهم وآمالهم وأنسابهم وألقابهم، وعلى الساسة المصريين أن يدركوا هذه الحقيقة ويؤمنوا بها مهما جهلها أو تجاهلها الساسة البريطانيون.
كم نتمنى أن نستقل ونتحرَّر في أفكارنا ومشاعرنا لنتحرَّر بحق في أوطاننا وتصرفاتنا ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ (الحج: من الآية 41).
دولة المساجد ووطنية الربانيين
من أخطاء الحكام المصريين أنهم متى أُسندت إليهم مقاليد الحكم شعروا بهوَّة سحيقة بينهم وبين الشعب، ونظروا إلى الأمة نظرةَ الحيطة والحذر، إن لم تكن نظرة الجفاء والخصومة، ولعل هذا أثرٌ من آثار الحكم الاستعماري الذي رزح الوطن تحت أعبائه أكثر من نصف قرن، كان فيه هؤلاء الساسة والحكام ما بين موظف أو صديق أو نصير حسن الظن بالغاصبين، فلا عجب أن تظلَّ رواسب هذا الحكم الغاصب في نفوس هؤلاء الحاكمين ولو في عهد الاستقلال كما يزعمون!!
والحاكم في الإسلام راعٍ يعلم، ووالد وقائد، وفي الديمقراطية نائب ووكيل وشريك ومساعد، ولن تتوافر هذه المعاني جميعًا إلا إذا توافرت المشاركة الوجدانية الكاملة، فأصبح الحاكم يحس بإحساس المحكومين، ويشعر بشعورهم، ويتألم لألمهم، ويسرّ بسرورهم، ويصبح قلبه هو القلب الكبير المحيط بكل شئونهم.
وأشد ما تكون الأمة حاجةً إلى هذه المشاركة الوجدانية التي تدفع إلى المشاركة الفعلية إذا واجهتها المصاعب وأحاطت بها الأزمات من كل جانب، ورحم الله عمر حين وقف على المنبر عام المجاعة ولبطنه قرقرة من الزيت، فضرب عليه بيده وقال: قرقِر أو لا تقرقِر، والله لن تأدم السمن حتى يخصب المسلمون (5).
هل للشعب في الأزمات من قائد أحنى عليه وأعطف وأعلم بمسالك الطريق وأعرف من حكامه؟! وهل للحاكمين من سند إذا أظلمت المسالك واشتدت الحوالك أقوى وأعز من الشعب إليه يستندون من روحه وحماسته يستلهمون، وعليه بعد الله يعتمدون؟!
ولكن الحكام المصريين سرعان ما ينسون أو يتناسون هذه الحقائق جميعًا، فيقفون من الشعب موقف المتوجس المترصِّد، ويحشدون له من القوى الظاهرة والخفية ما يتصوَّرون أنه كفيل بكبت مشاعره، وقتل عواطفه، وكبح إرادته، وخنق حريته باسم حماية القانون تارة،ً وبحجة المحافظة على الأمن والنظام تارةً أخرى.
ولو أراد هؤلاء الناس أن يضعوا الأمور في مواضعها لرسموا بأنفسهم لهذا الشعب طريق جهاده، ولاستطاعوا- إن كانوا مخلصين- أن يوفِّقوا بين واجباتهم الوطنية وتبعاتهم الرسمية، ولكنهم لم يفعلوا، ويبدو أنهم لا يريدون أن يفعلوا، بل لعل ذلك مما لا يخطر لهم ببال، ما داموا يستطيعون أن يتغلبوا ولو في ظاهر الأمر على المشاعر والعواطف بالقهر والجبروت.
لقد أصدر صدقي باشا أمره بتأخير الدراسة في المعاهد العلمية شهرًا في وقت هو أنسب شهور العام للدراسة والتحصيل.
وراقب الهيئات والأندية والجماعات- وبخاصة دور الإخوان المسلمين- وضيق الخناق على المجتمعين فيها والمترددين عليها، بل لقد وصل الأمر إلى أن أباح رجال البوليس لأنفسهم أن يقتحموا الأندية الخاصة، وأن يقبضوا على من فيها بدون إذن من النيابة أو أمر من القضاء.
وجلَّ الأمر، وفدح الخطب، فصدرت الأوامر إلى أئمة المساجد وموظفيها أن يمنعوا المصلين من الاجتماع بها عقب الصلوات، وأن يقوموا فورًا بمهمة تفريقهم كما يفعل رجال البوليس في المظاهرات، وإلا عرَّضوا أنفسهم لأثقل التبعات، ووُضع في كل مسجد مخبرٌ خاصٌّ يراقب الناس ويلاحظ تنفيذ التعليمات، كما وضعت على بابه قوةٌ تتفاوت بحسب موقع المسجد واتساعه والإقبال عليه لتستخدم عند اللزوم في البطش والعدوان.
لقد استبشرتُ بهذا وفرحت به؛ لأنه تصحيح للوضع الخاطئ الذي أخذ به الناس حينًا من الدهر، فبعدوا به عن الحق وبعدوا عن الله، فالمسجد كان وما زال مشرقَ النور، ومطلع الهداية، ومنبع المشاعر الصافية الكريمة في الروحانية أو في الوطنية على السواء.
ويوم يأخذ أهل المساجد بزمام الحركات الدينية أو القومية، فقد أخذ القوس باريها ورجع الأمر إلى نصابه، وبهذه المناسبة ألفت نظر الحاكمين والغاصبين معًا إلى أمرين: إلى أن هذه الوسائل كلها لن تجديهم نفعًا، فلم يعد الشعور الوطني مقصورًا على طبقة دون طبقة، أو مختصًّا بجماعة دون جماعة، فالطلاب والعمال والموظفون وغير الموظفين سواء في هذا الشعور، بل إني لأذكر لهم عن يقين أن هذا الشعور الغامر قد جرف ضباط الجيش وجنوده، وضابط البوليس ورجاله، ولم تعد تستطيع قوة بعد ذلك أن تكسر حدته أو تطفئ جذوته.
وإلى أن هذا الشعور الآن من نوع جديد ولون جديد؛ فهو شعور امتزج به حبُّ الوطن برسالة الإسلام، والجهاد في سبيل البلاد بالجهاد في سبيل الاعتقاد، وأخلص فيه أهله النية ل،له باذلين فادين مضحين، وقد انصهرت النفوس وأذابت فيها حرارة الإيمان كل معاني الوصولية والنفعية، وأصبح الواحد من هؤلاء المواطنين الآن يستعذب الموت ويتشهَّاه كما يستعذب أهل الحياة الدنيا طعْمَ الحياة، وستكشف الحوادث والأيام عن الفارق البعيد بين أحلاس (6) الأندية وعباد المساجد وبين وطنية السياسيين ووطنية الربانيين، ولن يقف شيء في سبيل العاملين والمجاهدين؛ ليرقب صدقي باشا المعاهد والمساجد أو ليدعها، فسيُقام للعمل في كل قلب محراب، وسيجد المجاهدون إلى جهادهم ألف باب إذا أغلق في وجههم الباب: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)﴾ (البقرة).
هذا الجنيه
"أتعهد بأن أدفع عند الطلب مبلغ جنيه واحد مصري لحامل هذا السند.. أصدر مقتضى المرسوم العالي المؤرخ في 25 يونيه سنة 1898".. هذا الجنيه سند على البنك الأهلي، يتعهد البنك بمقتضاه بدفع قيمته لحامله عند الطلب، والتصريح للبنك بهذا الامتياز، وهو بنك غير مصري خالص المصرية، احتلال اقتصادي أشدُّ وطأةً وأبعدُ أثرًا من الاحتلال العسكري الذي نلحُّ ونشدِّد، ونطالب بكل قوة بأن يرتفع كابوسه الثقيل عن كاهل البلاد، وإذا كانت ظروفنا في سنة 1898- التي منح فيها البنك هذا الامتياز- تضطرنا إلى ذلك، فما الذي يجعلنا نرضى بهذا الوضع والمخجل ونستمر عليه، وقد مضت ستون سنة تقريبًا؟!
هذه واحدة وليست على فظاعتها شيئًا مذكورًا إذا قيست بما بعدها، وذلك أن قانون إصدار الأوراق المالية يحتّم على البنك أن يكون لديه وفي خزائنه رصيدٌ من الذهب يوازي نصف ما يصدر من أوراق على الأقل، فإذا أصدر البنك أوراقًا بمليون من الجنيهات، وجب أن يكون في خزانته نصف مليون جنيه من الذهب، وإلا كان مخالفًا للقانون، ونتج عن تصرفه هذا تضخُّم مالي، ونقصت قيمة أوراقه العملية بقدر نقص هذا الرصيد.. فهل راعى البنك الأهلي هذه القاعدة؟!
قالوا: إنه صدر في يونيه سنة 1916 قرار من وزارة المالية المصرية بغير توقيع يُتيح للبنك أن يُصدِرَ أوراقًا بغير نظر إلى قيمة الرصيد؛ نظرًا لظروف الحرب القائمة حينذاك، وانتهز البنك هذه الفرصة فأصدر ما شاء من الأوراق المالية، وانتهت الحرب ومضى على نهايتها ربع قرن، وما زالت الرخصة قائمةً، ولا ندري لماذا وقد زالت كل الضرورات، وكان عجبًا أن تظل وزارات المالية المتعاقبة تغطّ في نوم عميق، ولا تسحب هذه الرخصة الفريدة من يد البنك حتى تجيء الحرب الثانية، فيعتمد عليها من جديد ويصدر الأوراق المالية بغير حساب؛ لتشتري بها القوات البريطانية في مصر ما تشاء من أقواتنا وأرزاقنا وملابسنا، وتستخدم ما تريد من مرافقنا، وكل ذلك بغير رصيد ذهبي، حتى بلغ ما أصدره البنك أكثر من 130 مليونًا من الجنيهات يقابلها 6 ملايين فقط من الذهب، والباقي بضمانة الخزانة البريطانية.
ومعنى هذا أن هذا الجنيه المصري الذي في يدي ويدك- أيها المواطن العزيز- صار لا يساوي في حقيقة الأمر أكثر من 19 (تسعة عشر قرشًا)، ونزلت قيمته الشرائية إلى الخُمس فقط، فهو ريال لا جنيه، وصار الموظف الذي يتقاضَى عشرة جنيهات إنما يعمل في الحقيقة بجنيهين فقط، والذي يتقاضى خمسين جنيهًا إنما يعمل بعشرة فقط، وصارت السائمة (8) التي كانت تُشتَرَى بجنيه في الماضي لا بد أن تُشتَرَى الآن بخمسة جنيهات، والتي كانت تُشترى بريال واحد لا بد أن تُشترى الآن بجنيه، ويبحثون عن سرّ غلاء المعيشة وعن علاج هذا الغلاء، وكيف يكون؟ ويغالطون أنفسهم، ويغالطون الناس، ويفر الجميع، ويهربون من الحقيقة لأن الخصم الحقيقي فيها البنك الأهلي أولاً، والخزانة البريطانية ثانيًا، والأرصدة الإسترلينية وارتباط مصر بكتلة الإسترليني، ومع هذا يقول المستر بيفن: إن بريطانيا فعلت ما لم تفعله دولة من الدول للرقي بهذه البلاد، وإنما تعمل دائبةً على رفع مستوى المعيشة فيها والترفيه عن أهلها، وأنها لا تفكر أبدًا أبدًا في استغلالها وأن هذا القول من الهراء.
لمستر بيفن أن يقول هذا، وللمستر تشرشل أن يتغنَّى بالعمل العظيم الذي قامت به بريطانيا في هذه البلاد منذ ستين سنةً، ولغيرهما من الإنجليز أن يدعي ما يشاء، ولكن ليس علينا نحن المصريين أن نصدق شيئًا عن هذا، بل واجبنا أن نفتح أعيننا على الحقائق، وأن ندفع عن أنفسنا هذا الخراب المحيط بعزيمة ومضاء، وأن نفقه الأمور على أوضاعها الصحيحة.
إن على الحكومة المصرية واجبًا ثقيلاً في هذا الشأن، وفي يدها سلاح ماضٍ فتاك تستطيع أن تفهم به بريطانيا الفرق الواضح بين الصداقة والعداء، وهو مع هذا حق قانوني لها لا ينازعها فيه منازع لو وجدت في نفسها الشجاعة والوطنية التي تدفعها إلى العمل النافع المفيد.
تستطيع الحكومة المصرية أن تعلن خروجها على قاعدة الإسترليني، وانفصالها عن كتلته، وتؤسس حالاً بنك الدولة ليحلَّ محلَّ البنك الأهلي، وتجمع الرصيد من الذهب بقرض أو دين على الخزانة المصرية، وترفع قضية عاجلة على بريطانيا في محكمة العدل الدولية؛ تطالبها برصيدنا الذهبي، وبسداد دينها البالغ قدره خمسمائة مليون من الجنيهات تقريبًا في أسرع وقت.
فإذا لم تفعل أية حكومة مصرية هذا فقد أثمت في حق الوطن، وتنكَّب أفضل الطرق لمحاربة الجهل والفقر والمرض، وعلى الأمة أن تعمل عملاً سريعًا حاسمًا للجلاء الاقتصادي وللقضاء على الاحتلال الذي هو أشد وأنكى من كل احتلال.. ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ (النساء: من الآية 5).
21 فبراير
في مثل هذا اليوم من العام الماضي ضاقت الأمة المصرية ذرعًا بتصرفات حكامها وزعمائها على السواء ووقوفهم من قضية البلاد موقف الذي لا يقدر الفرصةَ السانحةَ، ولا يدرك عامل الزمن في لحظاته الفاصلة التي تتقرر فيها مصائر الأمم، وغلبها هذا الشعور الغامر من الضيق والألم، فتنفست وتحركت، وأرسلت زفرتها الحارة الملتهبة في هدوء وسكون ووقار، معلنةً أنها لن تستطيع صبرًا بعد اليوم على هذا التسويف والإهمال لحقوق الوطن، وأظهرت الحكومة رضاءها على هذا الشعور الكريم الذي لم يعمد إلى إيذاء أحد أو الاعتداء على أحد، ولكن السائقين الإنجليز هزئوا بهذه المشاعر الصادقة، وسخروا من هذه الوطنية المتدفقة، ووطئوا بعجلات سياراتهم الضخمة أجساد هؤلاء الوطنيين الكرام، فأهدروا دماءهم، أزهقوا أرواحهم وانطلقوا في طريقهم آمنين، وجرت الحوادث بعد ذلك سراعًا في طريقها المعلوم.
ورأى الإخوان المسلمون ألا تمر ذكرى هذا اليوم العزيز على الأمة دون أن تحيي شهداءها فيه بعمل، فقرر مكتب الإرشاد أمورًا كلها في حدود القانون وليس فيها ما يخل بالأمن والنظام في شيء، ولم يقصد الإخوان بقرارهم هذا أن يثيروا شغبًا، أو أن يحضوا على ثورة، أو أن يدفعوا أحدًا إلى التظاهر ضد حكومة أو حزب، أو يشجعوا الاعتداء على دم أو عرض أو مال، فإن ذلك كله يذهب جلال الذكرى وروعة التحية الواجبة للشهداء، فضلاً عن أنهم يعلمون أنه يضر قضية البلاد في هذا الموقف الدقيق الذي تسلك فيه طريقًا دوليةً جديدةً في سياستها العامة، وتقف وجهًا لوجه موقف التحاكم والتخاصم أمام دولة كل تاريخها السياسي سلسلة من الفتن، والمآسي، والمشاغبات، وانتهاز الفرص، وخلق الحوادث لتعكير صفو الآمنين، والصيد في الماء العكر ولو بعد حين. لهذا لم يكن الإخوان المسلمون- ولم يزالوا- يقصدون بقرارهم معنى من هذه المعاني بحال، ولكنها- كما قلت- تحية واجبة ليوم عزيز، ولشهداء أبرار قضوا فداء الحق، وفي سبيل الوطن المفدى.
ولم نكن نشك أن الحكومة- وهي أشد ما تكون حاجة إلى مؤازرة الشعب لها، وإلى العمل بكل وسيلة على تغذيه بالشعور القومي، والعلو بمعنوياته بكل وسيلة على تغذيته بالشعور القومي، والعلو بمعنوياته السياسية، وتقدير مشاعره البريئة- ستسر لهذا الاتجاه، وتتعاون مع الإخوان المسلمين على تحقيقه، لا أن تقابله ببلاغ ومذكرة لا أثر فيهما لتحية الشهداء، ولا لتقدير الدافع الكريم الذي دفع بالإخوان إلى تقرير هذا الإحياء.
والشعب المصري بحمد لله وقد بلغ وعيه القومي درجة عالية، فهو ليس في حاجة إلى من يدفعه بالقوة أو يحمله بالإجبار على أداء واجب من واجباته الوطنية.
"والإخوان المسلمون" يربئون بأنفسهم وبأمتهم عن هذا الوضع، وضع الإكراه والإجبار، لأنهم مطمئنون تمام الاطمئنان إلى حسن تقديرها وعالي شعورها، ولأنهم يعلمون أن مهمتهم التوجيه والبلاغ: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (إبراهيم: من الآية 36).
ومن النصيحة الواجبة أن نقول للحكومة: إن الظرف يحتم عليها أن تسلك غير هذا المسلك في توجيه الشعور الوطني والانتفاع به، والاستفادة منه، والتعاون مع العاملين على تربيته وتنميته، ومحو هذه الآثار البغيضة التي تركها الاستعمار البغيض والتوجيه الخاطئ من النفوس والأوضاع، وحينئذ فقط سنستفيد ونفيد، والأمور بيد الله.
أجانب ومصريون
أذاع رئيس الحكومة المصرية على مواطنيه بيانًا مطوَّلاً يذكِّرهم فيه بما عُرف عنهم من كرم الضيافة والإحسان إلى النزيل، ويذكر أن بعض الجرائد والمجلات الإفرنجية تناولت هذه المعاني، وأشارت إلى بعض حوادث تدل على تبرم الأجانب، وتخوفهم من أبناء الوطن الذي كان شعاره الدائم "أحرار في بلادنا كرماء لضيوفنا".
ولا شك أن رئيس الحكومة المصرية إنما أراد بهذا أن يطمئن الأجانب، وأن يعاجل حملات هذه الصحف بالقضاء عليها في مهدها، وأن يعلن على رءوس الأشهاد أن الحكومة المصرية والشعب المصري يعرفان واجبهما تمام المعرفة، ويقفان لكل فئة بالمرصاد.
وهذا كلام صحيح في عرف الحجة والمنطق والإخلاص المتبادل، أما حين يكون مصدر هذه الحملة المغرضة، الهوى والغرض والاختلاق والكذب وانتحال الأباطيل وإثارة الخواطر، فنحن نؤكد لرئيس الحكومة أن بيانه- رغم ما فيه من صدق العاطفة وكريم المجاملة- لن يغني شيئًا، وستظل هذه الجرائد على خطتها، وسنسمع كل يوم بجديد من هذه الأكاذيب المفتراة، ولا يُجدي حينئذٍ إلا أن نحتقر هذا الدس الوضيع حكومةً وشعبًا، ونمضي في طريقنا إلى الأمام نصلح من شئوننا، ونجاهد في سبيل حقنا، ونوحِّد كلمتنا، ونسوِّي صفَّنا، نغيِّر من أنفسنا، ليغيِّر الله ما بنا، ويومئذٍ فقط تعرف لنا هذه الجاليات جميلنا وتقر بمعروفنا.
ليست في الدنيا جاليات أجنبية تتمتع في أية أمة من الأمم بمثل ما تتمتع به الجاليات الأجنبية في مصر، من تقدير وإكرام، بل إنها لتنال من خيرات هذا البلد وثمراته أضعاف أضعاف ما ينال الوطنيون، ولكنها سياسة مرسومة، تتجدَّد كلما حاولت مصر أن تعمل لتحقيق مطالبها القومية أو تجاهد في سبيل حريتها واستقلالها وتكون الإصبع الاستعمارية واليد الإنجليزية وراء ذلك كله.
تبدأ الخطة بإثارة الغبار حول فكرة الأقليات، وترتفع الأصوات من كل جانب، أقباطًا ومسلمين، وظالمين ومظلومين، ومصر أمة واحدة لا تعرف هذا التفريق ولا تشعر به، حتى إذا انكشفت الدسيسة وحبطت الفتنة بفضل يقظة الأمة، واستمساكها بعري الوحدة ثار الغبار من جديد، وارتفعت الأصوات من كل مكان أجانب ومصريين وكارهين وخائفين.
وليس شيئًا من ذلك إلا في أدمغة الذين قالوه أو كتبوه أو صوَّروه، أما هنا في مصر فليس إلا الخلق الفاضل والتعاون الكامل.
وأذكر أن شفيق باشا ذكر في حولياته أن الجاليات الأجنبية اضطربت اضطرابًا عظيمًا حين بدت في الأفق فكرة رفع الحماية عن مصر عقب الحرب الماضية، حتى إن الكثير منها استنجد بدوله وقنصلياته، واحتجت بعض الدول رسميًّا على الحكومة المصرية، وتقدمت بمذكرات إلى دار الحماية في هذا المعنى، وكان من أسبقها إلى هذا الاحتجاج فرنسا وإيطاليا فيما أذكر.
كما تجدد هذا القلق عندما أرادت مصر أن تدع غُلّ الامتيازات الأجنبية، ونادى المغرضون بالويل والثبور وعظائم الأمور.
وها هي ذي الحماية قد رفعت والامتيازات قد ألغيت، فماذا حدث للأجانب في مصر؟ وأي اعتداء وقع على أموالهم أو أرواحهم أو مصالحهم من المصريين؟!
منذ عام تقريبًا زارني بعض كبار الأجانب في مصر، وأراد أن يشير من بعيد إلى أن نموَّ حركة الإخوان وانتشار فكرتهم قد أخذت في نفوس كثير من عامة الشعب المصري نوعًا من التعصب الديني ضد الأجانب، فقلت له يا صاحبي: إذ أردت أن تواجه الحقائق بعين مفتوحة وقول صريح فأنا مستعد لمسايرتك، أما إذا أردت مجرد الاتهام، وحاولت أن تعيش محجوبًا بستار الوهم فلست معك. إن ما تزعمه من التعصب الديني وهمٌ لا وجود له؟ فليس الإسلام في جوهره دين تعصب أو عدوان، ولكنه دين تسامح عجيب وإنسانية عالية وعالمية تتسع لكل أبناء آدم على ظهر هذه الأرض، مهما اختلفت عليهم آراؤهم وعقيدتهم بالبر والإحسان والعدل والرحمة، ولكن المسألة مسألة اقتصادية اجتماعية قبل كل شيء، فلقد دخل الأجانب هذه الديار وأهلها في عدد قليل وفي حاجات محدودة وعلى أسلوب من الحياة جعلهم يرضون بالقليل.
أما الآن وقد تضاعف عدد المصريين وحدهم حتى بلغ عشرين مليونًا، وتغيَّر أسلوبهم في الحياة هذا التغير الذي كثرت فيه المطالب وتعدَّدت فيه الحاجات وانقلبت الكماليات الماضية إلى ضروريات ملحة.. فلم يكن بدٌّ من أن ينظر المصريون إلى ما في أيدي الأجانب من خيرات بلادهم غلاتها نظر الذي يريد أن ينال كما ينالون ويتمتع بها كما يتمتعون لا عن تعصب ديني كما تزعم أو فورة وطنية مجردة، ولكن عن ضرورة اقتصادية اجتماعية قبل كل شيء وذلك حقهم ولا شك لا ينكره عليهم إلا كل جاحد أو مكابر.
ومفتاح الإصلاح اليوم في يد الأجانب لا في المصريين، فالأجانب يستطيعون أن يحسنوا معاملة الوطنيين في الشركات وفي المصانع وفي المزارع الواسعة التي يملكونها، ويشعروهم أنهم لا يستأثرون دونهم بشيء ولا يرتفعون بأنفسهم عن أهل وطن آواهم وأغناهم ووجدوا فيه رزقهم رغدًا من كل مكان، وحبَّذا لو أن رئيس الحكومة اتجه في ندائه إلى الحكومات الأجنبية فأبان لها عن نصيب رعاياها في مصر من خيرها وبرّها وهو نصيب الأسد ثم اتجه إلى الجاليات الأجنبية في مصر؛ لتتولى هي الرد على هؤلاء المغرضين الأفاكين.
وإذا كان دولته قد آثر أن يتجه إلى أمته، فإننا باسم هذه الأمة نأمل أن يبادر النزلاء الفضلاء في مصر إلى إطفاء هذه الفتنة، وإحباط هذه الدسيسة والرد على تلك المفتريات، وبذلك يؤدون لمصر بعض حقِّها عليهم، ومن الجميل عرفان المعروف وتقدير الجميل.
على الأمة أن تختار والكلمة لها
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)﴾ (الأنفال) صدق الله العظيم.
هي معسكرات ثلاثة: الحكومة ومن يناصرونها.. والوفد ومن يشايعونه.. والإخوان المسلمون ومن يؤمن بدعوتهم.
والحكومة بأصل الوضع وبحكم الشرع، إذا قوِيَ بنيانُها وسلِم تكوينُها، ونهضت بمهمَّتها وأدَّت حقَّ رعيتها.. هي القائد الطبيعي للأمة ولا يعترف الإسلام بقيادة ثانية، فهو شريعة وحدة واجتماع ولا يقرُّ المعارضة الشعبية أو الزعامة الأهلية إلا في حالة واحدة، وهي انحراف القيادة- أي الحكومة- عن الصراط المستقيم، حينئذٍ- وحينئذ فقط- تظهر الزعامة الشعبية ومن ورائها الأمة، فتقوِّم ما أعوجَّ من سير الحكومة بالنصح، ثم باللوم، ثم بسحب الثقة والعزل، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، حتى إذا استقام الأمر واستقر الوضع عاد الشعب كله إلى صفِّ الجندية العاملة خلف حكومته، يشدُّ أزرها، وينفذ أمرها، ويعمل معها على ما فيه خيره وخيرها، ورضي الله عن أبي بكر القائل: "فإن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني، أو فقوِّموني.. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم" (12) أما احتراف المعارضة على طول الخط فبدعة أوروبية، جاءتنا مع الديمقراطية العصرية المشوَّهة، والحزبية السياسية البغيضة، وطبَّقناها نحن أسوأ تطبيق؛ بحكم حداثتنا السياسية، ونزعاتنا الحادة الشخصية، فلا هي من السياسة ولا هي من الدين.
فهل أدَّت الحكومة المصرية القائمة مهمتها حتى تستحق أن تسلم لها هذه القيادة تامةً كاملةً، كما هو الواجب وكما أمر الله؟ والجواب: لا.. بالفمّ الملآن والخط العريض..! لقد وقفَت في قضيتنا الوطنية مع الغاصبين موقفَ الضعف والاستكانة والاستسلام، وتخلَّت عن متطلبات الجهاد الصحيح الذي لا يمكن أن تصل أمة إلى حقِّها بدونه، كما أخفقت في الداخل في جمع كلمة الأمة، وعلاج مشاكل الطوائف والأفراد، وانتظام دولاب العمل الانتظام المنتج المثمر، فكيف يقال بعد ذلك إن من حقها أن تحكم أو أن تقود؟
ولقد قام الوفد على أساس أنه وكيل الأمة- يوم كانت حكوماتها في يد الإنجليز، وأوضاعها تحت حمايتهم الفعلية- ليعمل ويجاهد في سبيل تحقيق حريتها الكاملة واستقلالها التام، وليقيم في الداخل دعائم حكم دستوري صحيح، وأجمعت الأمة على زعامته إجماعًا لم يُعرَف له نظيرٌ إلا في النادر من تاريخ الأمم، كان مثار وحدة العالم أجمع، ووقفت مصر الثائرة تتحدَّى الحلفاء المنتصرين، وتقاوم بالحق والدم الإنجليز الغاصبين.
وقد كان الوفد- لو وفقه الله- يستطيع أن يفعل الكثيرَ، وأن يوجِّه هذه النهضة العجيبة أحسن توجيه، ولكن- وا أسفاه!!- ضعف عن حمل الأمانة، واستطول طريق الجهاد، وأعطى الدنية في حق الوطن، فانتهى جهاده في سبيل الحرية إلى معاهدة الشرف والاستقلال، التي سجلت الاحتلال الإنجليزي وأعطته الصفة المشروعة، وانتهت أساليبه في الحكم إلى مثل ما ظهر في الكتاب الأسود، وبذلك فشل في تحقيق الاستقلال كما فشل في فنّ الحكم، وعاد بعد ذلك أخيرًا إلى صفوف المعارضة.
وها قد مضت أربعة أعوام كاملةً، لا نظير لها في تاريخ العالم عامة والوطن خاصةً، من حيث التضخم بالحوادث والمفاجآت، ففشل في فنّ المعارضة كذلك، ورضي بالموقف السلبي الخامد الضعيف الميت في قضية البلاد، وفي قضية فلسطين، وفي غيرها من القضايا الخاصة والعامة التي تشغل بال الناس؛ مما جعله في وادٍ والأمة والعالم والحوادث في وادٍ آخر، وأخيرًا أصبحت دوره وتشكيلاته ستارًا لهذه الشرذمة من المتظاهرين بالمادية المدمرة، والإلحادية المخربة، والاستعمارية الجديدة في ثوب شفاف من المبادئ والدعوات.
والحكومة والوفد في الحقيقة مدرسة واحدة لا خلاف بينهما في شيء من الطبائع أو المناهج أو الأساليب أو الوسائل أو الغايات، إن صحَّ أن هناك منهاجًا أو أساليبَ أو وسائلَ أو غاياتٍ، كلاهما لا يؤمن أبدًا في قرارةِ نفسه بحق هذا الوادي في الاستقلال الكامل، والوحدة التامة، والسيادة والمجد.
ولا يظن أن هذا الوطن يستطيع أن يحيا عزيزًا كريمًا إلا في حصن حليف قوي، وبين ذراعي سيد قاهر، نسوا ما فعل محمد علي في مصر مع الفارق البعيد بين العصرين والحياتين، وكلاهما لا يؤمن بحق هذا الشعب في الحياة الدستورية الصحيحة، وفي المعيشة الطيبة المريحة، وفي المستوى الاجتماعي المتقارب المتكافل، وإنما وقع الخلاف بينهما لأمور شخصية بحتة لا تمتُّ إلى المناهج والدعوات في قليل ولا كثير، وأصبحت الأشخاص هي مثار الجدل وموضع النقاش، والدستور الذي ينادي الوفد بحمايته قد تحكم في تفسير نصوصه لمصلحته، كما تفعل الحكومة ذلك، سواءً بسواء، والنتيجة واحدة هي أن الدستور في غرف الهيئتين كلمةُ حق يراد بها باطل، ولبّ الخلاف الحقيقي من يحكم؟!
ومن هنا برم الشعب في الحقيقة بالمعسكرين، وتخلَّى عنهما تمامًا، فها هي ذي الحكومة تعمل ولا سند لها إلا سلطان الحكم، وها هو الوفد ينادي ويصيح ولا مجيب له إلا مداد الصحف السوداء في بعض الجرائد، وابن الشعب ليس هنا، مذبذب بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
والإخوان المسلمون معسكر ثالث، ليس قاصرًا في الحقيقة على هذه الهيئة أو الجماعة التي تطلق على نفسها رسميًّا هذا الاسم، ولكنه يمثِّل ويعبِّر عن مشاعر وعواطف هذه الملايين المسلمة من أبناء هذا الشعب، بل معها كذلك المنصفون من الوطنيين غير المسلمين الذين يقدِّرون فضل الإسلام وعدالة الإسلام، وهذا المعسكر يختلف كل الاختلاف عن المعسكرين السابقين، في أصل الفكرة أو أساس المنهج، والغاية والوسيلة، فهو ينادي في وضوح بأن تقوم الحياة في مصر على أساس من توجيه الإسلام السليم وقواعده وأصوله الصميمة القويمة، التي تفرض الجهاد لنَيل الحرية والاستقلال، وتفرض التكافل والمساواة بين أبناء الأمة، الذين يصوِّرهم هذا الإسلام كالجسد الواحد، فتقوم بذلك في المجتمع اشتراكية فاضلة أساسها الإخاء الإنساني الذي يستمد من رحمة الله وهدي السماء.
وهذا المعسكر لا يقر الحكومة على هذا الجمود وهذه الرخاوة في علاج القضية الوطنية، وهذا الفشل في الإصلاح الداخلي، ولا يقر الوفد على احتراف المعارضة والجمود على هذه الصورة السلبية، وهذه المغالطات والأساليب السوقية التي لا تصدر إلا عن صبيان الشوارع لا عن زعماء الرجال، ويدوِّي نفير هذا المعسكر ليلاً ونهارًا بوجوب العمل والدأب على الكفاح.
هذه هي المعسكرات الثلاثة بخصائصها ومميزاتها... ولا أريد أن أقول أيها أكثر عددًا، وأقوى عدةً، فلسنا في معرض مفاخرة أو مباهاة، ولكن أقول بكل وضوح: إن الموقف إن دام على هذا الحال فلا حرية ولا استقلال، ولا صلاح ولا إصلاح، وهنيئًا لخصومنا الأعزاء وَهَنُ المجاهدين وذلةُ الأقوياء..!
والتبعة الآن تقع على المتفرجين من أبناء هذه الأمة، وبخاصة المثقفين منهم والمدركين لحقيقة الحال، فعلى هؤلاء أن يختاروا.. إما هذا الركود الذي سيصير بنا إلى التحلل والفناء، فلينضمُّوا بكليتهم إلى المعسكر الثالث فترجع كفته وتتميز قوته وتتجمع الأمة من حوله، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله.
إلى هنا انتهى الحديث عن الإصلاح السياسي عند الإمام البنا، وسوف نتناول في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى كتابًا جديدًا من كتب الإمام الشهيد.
هوامش
(1) جريدة الإخوان المسلمون اليومية، العدد (26)، السنة الأولى، 3 رجب 1365/ 3 يوليو1946، ص(3).
(2) جريدة الإخوان المسلمون اليومية، العدد (137)، السنة الأولى، 18 ذو القعدة سنة 1365هـ/ 13أكتوبر 1946م، ص(1، 4).
(3) البئر الارتوازية: هي البئر التي يتدفق منها الماء الجاري تلقائيًّا.
(4) الإخوان المسلمون اليومية، العدد (145)، السنة الأولى، 27 ذو القعدة 1365ه- 22 أكتوبر 1946، ص(1).
(5) انظر: البداية والنهاية، (13/36).
(6) أحلاس: جمع حلس. والحلس كل شيء ولي ظهر البعير. وفلان حلس بيته أي إذا لم يبرحه. ويقال: فلان حلس من أحلاس البيت للذي لا يبرح البيت، وهو عندهم ذمٌّ، أي أنه لا يصلح إلا للبيت (لسان العرب، (6/54))
(7) جريدة الإخوان المسلمون اليومية، العدد (149)، السنة الأولى، 2 ذو الحجة 1365/ 27 أكتوبر1946، ص(1).
(8) في الأصل: "السامة".
(9) جريدة الإخوان المسلمون اليومية، العدد (243)، السنة الأولى، 26 ربيع أول 1366/ 17 فبراير1947، ص (1).
(10) جريدة الإخوان المسلمون اليومية، العدد (310)، السنة الثانية، 16 جمادى آخر 1366ه/ 7 مايو 1947م، ص (1).
(11) جريدة الإخوان المسلمون اليومية، العدد (596)، السنة الثانية، 28 جمادى أول 1367/ 8 أبريل 1948، ص (1).
(12) ابن كثير: السيرة النبوية، (4/493), السيوطي: تاريخ الخلفاء، (1/69).
للمزيد عن دور الإخوان في الإصلاح