الإصلاح السياسي عند البنا (محاربة الاحتلال- الحلقة الثالثة)
إعداد: طارق عبد الرحمن
مقدمة
بعد هذه المذكرات والبرقيات والنداءات التي وجَّهها الإمام البنا لرئيس الحكومة المصرية ومجلس الأمن والأمم المتحدة وكذلك الشعب المصري.
في هذه الحلقة نتحدث عن المذكرة التي أرسلها الإمام البنا إلى سفراء ووزراء الدول الممثلة في مجلس الأمن، ثم البرقية التي أرسلها إلى النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية.
الإخوان المسلمون وقضية الوادي أمام مجلس الأمن
مذكرة إلى سفراء ووزراء الدول الممثلة في المجلس
جناب المحترم سفير....
بعد التحية..
إن شعب وادي النيل يقدِّس السلام ويحرص عليه، والإسلام الذي يظلِّل هذا الشعب شعاره السلام وتحية السلام، وقد نزل قرآنه في موكبٍ من السلام.
ولكن تقديسه لحريته ووحدته وحرصه عليهما أقوى وأشد، وهو غير مستعدٍّ بحالٍ للتضحية بهما على مذبح المطامع والشهوات الاستعمارية التي لا يمكن أن يستقرَّ معهما سلامٌ على الأرض.
ولهذا نرجو أن ترفعوا إلى دولتكم حقيقةَ هذا الشعور الذي تعلمونه بحكم وجودكم بين ظهراني هذا الشعب.. رجاء أن تتصل بدورها بممثِّلها في مجلس الأمن، وتوجِّهه التوجيه السليم؛ حتى يكون صوته إلى جانب الحق والعدالة والإنصاف التي تتجلَّى بأوضح صورها في مطالب شعب وادي النيل المعروضة على المجلس، وهي- ولا شك- فرصةٌ يُمتحن فيها الضمير العالمي الذي نرجو ألا يرسب في هذا الامتحان.
تفضلوا بقبولٍ عظم الاحترام.
طلب إعلان إلغاء معاهدة 1936 والانسحاب من مجلس الأمن في إباء وعزة
برقية المرشد العام إلى رئيس الوزراء وكتابه إلى نائب الرئيس(2)
إلى رئيس الوزراء.. حضرة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وفد مصر فندق بلازا نيويورك.
طالبتم بحق الوادي في الجلاء التام الناجز والوحدة بوضوح وبيان، وكشفتم عن مساوئ الاستعمار ومخازيه بقوة وبرهان، وصاحب الحق الواضح لا ينتظر اعتراف الناس أو إقرار الآخرين له، ما دام هو به مؤمنًا وصحته وصدقه موقنًا.
فاتصلوا بالحكومة المصرية، وانتهزوا فرصة اليوم الأغرّ، يوم توقيع المعاهدة المزرية، وأعلِنوا بطلانها رسميًّا، وإذا لم تجدوا من مجلس الأمن العدل والنصفة فقرِّروا الانسحاب في إباء وعزة، ولا عليكم أن تعودوا إلى صفوف المجاهدين، فلن تصلَ أمةٌ إلى تحقيق الآمال بغير الجهاد والكفاح، وهما ثمن الحرية والاستقلال.
والله أكبر ولله الحمد
إلى الرئيس بالنيابة.. حضرة صاحب المعالي رئيس الحكومة المصرية بالنيابة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد أعلنت الحكومة المصرية على لسان معالي وزير خارجيتها في البرلمان المصري أن معاهدة 1936م قد أصبحت غير ذات موضوع.
كما أعلن دولة رئيس الحكومة المصرية الحالية في مجلس الأمن، وعلى رءوس الأشهاد، ومع العالم كله، أنها قد استنفذت أغراضها، وأن الشعب المصري بأجمعه ساخط أشد السخط عليها، وغير معترف بوجودها، وأنها إنما وقعت تحت ضغط ظروف خاصة انتهى أمرها، وأنها تتنافى مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة، فضلاً عن أن الجانب الآخر قد خرق نصوصها، ولم يقيِّد نفسه بأحكامها في كثيرٍ من المناسبات.
ولهذا أرجو باسم الإخوان المسلمين خاصةً، واسم شعب وادي النيل عامةً، أن تنتهز الحكومة المصرية فرصة يوم 26 أغسطس الحالي، وهو يوم ذكرى توقيع هذه المعاهدة المزرية المشئومة، فتعلن بطلانها رسميًّا، وأنها غير مقيّدة بها في قليلٍ ولا كثير، وتُخطر بهذا القرارِ مجلسَ الأمن وحكومات الدول المختلفة، وتتبع هذا القرار فورًا بمستلزماته العملية والقانونية.
والحكومة المصرية حين تفعل هذا لا تزيد أنها صاغت تصريحاتها المتكررة صياغةً قانونيةً، وقدمتها إلى العالم بصورةٍ رسمية، وهي بهذه الخطوة المباركة تصحِّح خطأً وطنيًّا وسياسيًّا دفعت البلاد عنه غاليًا في أدق الساعات وأحوج الظروف دون تقديرٍ أو اعترافٍ بالجميل.
وإن شعب الوادي بأسره ليترقَّب هذا القرار بفارغ الصبر؛ حتى يتبدَّل حزنه فرحًا وسرورًا، وظلام حياته السياسية ضياءً ونورًا، ويسلك إلى حريته واستقلاله ووحدته الطريق الطبيعية، طريق الكفاح والجهاد غير مقيَّد بسلاسل المعاهدات الوهمية أو مخدوع بمناورات السياسة الاستعمارية، وصدق الله العظيم: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).
والله أكبر ولله الحمد.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعد الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن.. إفلاس وغباوة سياسية
أما الإفلاس فهو هذا الموقف العجيب الذي وقفه مجلس الأمن من قضيتنا، ولقد كان أشدُّ الناس تشاؤمًا ينتظر من المجلس أن يقرِّر الجلاء بغير قيْدٍ ولا شرط، وأن يفرَّ من قضية السودان ويدعَ حلَّها للطرفَين المتخاصمَين تحت نظره، ولم يكن أحدٌ يشك أبدًا في أن المجلس سيقطع برأي في الأمر الأول، خاصةً وقد أصدرت هيئة الأمم المتحدة قرارَها المعروف بأنه لا يجوز لأمةٍ من الأمم المشتركة في الميثاق أن تحتل قواتها أرضَ أمةٍ أخرى، ذلك إلى أن السياسي اللبق المحنَّك فارس بك الخوري(4)- مندوب سوريا- لفت نظر المجلس بلطفٍ إلى هذا الأمر وفصَّله بين يديه تفصيلاً، ولكن الأعضاء المؤمنين بعدالة القضية، الواثقين من حق مصر فيها، العاطفين بكل قلوبهم ومشاعرهم عليها، الذين بدا هذا الشعور رائقًا سائلاً على عذبات ألسنتهم، لم يستطيعوا مع هذا كله أن يقولوا كلمة الحق، ومنعتهم المصالح الاستعمارية من أن يقفوا إلى جانب العدالة والإنصاف، وهانَ عليهم أن يواجهوا هذا الموقف المزري من العجز والإفلاس.
وأما الغباوة فهي التي تجلَّت في موقف بريطانيا من القضية منذ بدئها إلى الآن، وبخاصةٍ في الجلسة الأخيرة، إذ وضعت بين يدي السير ألكسندر كادوجان فرصةً ذهبيةً بهذه الإشارة اللطيفة التي تقدم بها أيضًا فارس بك الخوري أن تعلن بريطانيا من تلقاء نفسها الجلاء، فأضاعها وتلكَّأ في الاستجابة لها بقوةٍ ووضوح.
إن بريطانيا تعلم تمام العلم أن التطور العالمي الجديد قد قضى على بدعة "الاستعمار" الظالمة الجائرة، وأن الضمير العالمي الذي ثار من قبل ثورته ضد استعباد الآخر، وقد ثار ثورته اليوم ضد استعباد الأمم والشعوب، والأمر الآن أمر وقت فقط ولا استعمار بعد اليوم.
وهي تعلم كذلك أن الوعي القومي واليقظة الوطنية قد بلغت مداها في شعب وادي النيل وفي الشعوب العربية والإسلامية من المحيط إلى المحيط، وهي تشهد بعينَي رأسِها كفاحَ أندونسيا الدامي المرير الذي لا يهدأ ولا يلين ولا يستكين، وها هي ذي قد انسحبت من بورما ومن الهند وتركت مقاليدها بيد أهلها، وها هي ذي قد أخذت تقرِّر حق إيران في الجلاء وحق تركيا في حماية المضايق، وتندِّد بمطامع غيرها من الدول ورغبتها في احتلال الأمم، وها هي ذي نرى من آثار هذه اليقظة في كل مكانٍ ما لم تكن تحتسب.
وهي تعلم كذلك مبلغ ما تركت سياستها في نفس هذا الشعب الذي آزرها حين المحنة، ووقف بجانبها ساعة العسرة، وأخلص لها، ووفَّى يومَ لم تكن تملك شيئًا من البأس والقوة، من كراهيةٍ وبغضاء ومقت وازدراء تزايد باستمرار وتتضاعف على مرِّ الأيام.
وهي تعلم كذلك أن من أقْصَته اليمين تلقفتْه اليسار، ولن تستطيع أمةٌ في وسط هذا المعترك الحامي الوطيس أن تعزل مجتمعات الناس وهي أحوج ما تكون إلى مودة هذه الأمم ومناصرة هذه الشعوب، فإن مصر ليست وحدها ولكن وراءها العرب والمسلمون على السواء.
تعلم إنجلترا كل هذا، ومع ذلك تصر على بقاء عشرة آلاف جندي وأربعمائة طائرة على ضفاف القنال، وقد تغيَّرت دنيا الحرب وواجَه الناسُ عصرَ القنابل الذرية، كما تصرُّ على التمسك بمعاهدة بالية، أجمعت الأمة كلها على استنكارها وبطلان أحكامها في وقتٍ لا ينفع فيه إلا التعاون القلبي والتعاطف الحقيقي.. فهل بعد ذلك غباوة سياسية؟!
أما إذا كانت إنجلترا لا تعلم هذه الحقائق ولا تعرفها ولا تؤمن بها فإن الأمر قد يكون أكثر غباوةً..
يقولون: إن إنجلترا تأتي دائمًا متأخرةً ولكن لا يفوتها القطار، فهل هي تريد أن تطبق هذه القاعدة أيضًا هذه المرة؟! وها هي ذي قد أتت متأخرةً فعلاً وفي وسعها أن تعلن الجلاء التام الناجز فتدرك القطار، أما إن تلكَّأت حتى يفوت فعلى نفسها جنَت مراقش(5)، وسترى نفسها فريدةً منقطعةً في بيداء الظلم والجبروت ووحشة الوحدة والهوان, وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون.
بمناسبة عودة رئيس الوزراء
المرحلة الثانية
يعود النقراشي باشا غدًا إلى الوطن بعد غيبة طويلة قضاها في كفاح سياسي مستمر، مطالبًا بحق أمته في الحرية والاستقلال والجلاء الناجز التامّ، وحق وطنه في الوحدة وإنكار كل تدخل أجنبي بين الأخ وأخيه في إدارة أو سياسة.
ولا شكَّ في أن دولة النقراشي باشا قد أدَّى واجبه كاملاً، ولم يدَّخر وسعًا في المناضلة عن قضية البلاد، وأبلى في ذلك البلاء الحسن المشكور وليس الذنب ذنبه في أن مجلس الأمن لم يستجِب لمطالب مصر العادلة الحقَّة، ولكنه ذنب المطامع والأهواء والتيارات السياسية المتحالفة، وقاتل الله السياسة.
ولا شكَّ كذلك في أننا لم نخسر بالذهاب إلى مجلس الأمن، وحسبنا أن كسرنا هذا القيد الحديدي الذي ضربه الإنجليز حول قضيتنا، ووضعونا به تحت رحمة المفاوضات الثنائية، يُجرونها حين يشاءون، ويضربون عنها كما يريدون، ولا يضرُّنا حين نفاوضهم أن نخسر المفاوضات ما دمنا قد كسبنا صداقتهم المجيدة، كما قال زعيم رفيع المقام، وحسبنا أننا عدنا بهذا الوضع إلى أول الطريق القوية السليمة طريق الكفاح والجهاد، والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، ونسأل الله أن يجنِّبَنا الزلل، وأن يهديَنا جميعًا سواءَ السبيل.
ولا شكَّ أننا صائرون إلى الأمام، وأن قضايانا تتقدم إلى النجاح وأنها منتهية قريبًا إلى ذلك، ولا شك- إن شاء الله- فنحن إذا تذكرنا ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكيف أن زعماء مصر حينما طلبوا مجرد رفع الأحكام العرفية والسفر إلى الخارج، وبعبارة أدقّ إلى لندن أو باريس للتفاهم مع البريطانيين حول استقلال البلاد كان جزاؤهم النفي إلى مالطة، وأن الملك فيصل بن الحسين الذي حالف الإنكليز وبذل معهم من دماء العرب وجهودهم ما كان كفيلاً بالنصر حرم عليه مؤتمر الصلح، فلم يستطع أن يصل بصوته إلى المجتمعين فيه وعاد من باريس خاوي الوفاض(7).
إذا تذكرنا هذا وتذكرنا بعد الحرب العالمية الثانية أن رئيس مجلس الأمن كان فارس الخوري بك(8) مندوب سوريا، وأن رئيس وزراء مصر كان يخاصم إنجلترا علنًا أمام هذا المجلس ويجرحها ويشهِّر بها ويكشف للدول عن مآسي استعمارها لوادي النيل ستين سنةً، ويقرع حجة مندوبها السير كادوجان الداهية بحجة مصر الواضحة البادية، علمنا أننا نتقدم ولا شكَّ، وأننا بحمد الله أقوياء، وأن هذه الأصوات التي سكتت اليوم عن مناصرتنا ستنطق غدًا متى أجبرناها بالعمل على النطق والكلام.
هذا الكلام مملول معاد وهو ليس من العمل في شيء، ولن يقنع الأمة اليوم بغير العمل، ولا يفيد القضية اليوم إلا العمل أيضًا، وها هو ذا رئيس الوزراء قد عاد، ومن حقه علينا ما دمنا منصفين أن نقول له: أوبة حميدة وجهاد مشكور، والحمد لله على السلامة، ومن حقنا عليه أن نسأله: وماذا بعد هذا؟
إن المرحلة الثانية أدق وضعًا وأشد حرجًا وأقسى ظروفًا من المرحلة الماضية، فقد مضى علينا وقت طويل، ونحن نحصر كل همنا في انتظار المفاوضة الناجحة نستخلص بها بعض الحق من الإنجليز، وكان ميدان التحاكم ميدانًا جديدًا علينا، ولكنا استطعنا أن نمر بتجربته على حال إن لم تكن كسبًا على طول الخط فليست خسارة على طول الخط كذلك.
وبعد: إن الجهاد الذي اضطرتنا إليه الظروف والحوادث الآن، وصرنا مكرهين عليه إكراهًا بعد فشل المفاوضات والتحاكم، ميدان جديد علينا كذلك أو بعبارة أدق على هذا الجيل من الناس حكامه ومحكوميه فإذا أحسنا تخير وقت المعركة ومكانها وتجهيز أدواتها ومعداتها، وأدرناها بحكمة وحماسة وقوة وإيمان وصبر فالنصر من وراء ذلك ولا شك، وإذا تأخرنا عن الوقت المناسب أو ضعفنا عن القيام بالواجب أو ترددنا في العمل اللازم فإن الفرصة ستفلت وإذا أفلتت فلن تعود.
هذه ملاحظات عابرة نضعها بين يدي صاحب الدولة رئيس الوزراء في أول لحظة يعود فيها إلى الوطن وهي فيما نرى خير ما يُقدَّم لمجاهد كل سعادته أن يعمل لوطنه وأمته.
سائلين الله تبارك وتعالى أن يلهمنا جميعًا الرشاد، وأن يأخذ بأيدينا، إلى منهج التوفيق والسداد.
بمناسبة عودة رئيس الوزراء.. قوى ثلاث
يظن بعض الذين لا يعلمون أننا لا نستطيع الوصول إلى حقنا ما دمنا قد أعرضنا عن المفاوضات هذا الإعراض، وما دامت الدول الكبرى لا تستطيع أن تقول كلمة الحق أو تعمل على مناصرتها، وما دامت ليست لدينا القوة المادية التي نكافئ بها قوة خصومنا البريطانيين، وهم بعد هذا قومٌ قد برعوا في الدسائس وإيقاد نيران الفتن وحبك (المقالب السياسية) الموضعية والدولية لمَن شاء لهم الحظ العاثر أن يبتلوا بهم من الأمم والشعوب والحكومات.
وهذا كلام في ظاهر أمره صحيح وهو لم يغب عنَّا ولم نُسقطه من حسابنا ولم نحاول أبدًا أن نفر من الحقائق أو نعيش في جوٍّ من الأحلام والأماني والخيال الواسع الطليق، ولكن الذين يظنون هذا الظن مبالغون فيه وقد ذكروا شيئًا وغاب عنهم أشياء، ومن الخطأ في الحكم أن يصدر بناءً على بعض الحيثيات دون البعض الآخر.
ونحن إن فاتنا التكافؤ في القوى المادية فإننا نملك ما هو أهم منها وأقوى وأعز.. نملك هذا الإيمان بحقنا، وهو قوة ولا شك إن لم يظهر أثرها اليوم فسيظهر في الغد القريب، ونملك هذه الوحدة القوية المتماسكة بين شعوب العروبة وأمم الإسلام، ولا أقصد الوحدة الرسمية الممثلة في الجامعة والمواثيق والمعاهدات فقط، ولكن أقصد الوحدة الحقيقية القائمة على الشعور المشترك والآمال الموحدة والمصالح المتشابكة والوعي الدقيق لهذا كله والتجمع لصد تيار الظلم والوقوف في وجه هذا العدوان، ونملك فرصة هذا التنافس الدولي الذي لن تهدأ حدته ولن تذهب فورته إلا إذا رجعت الدول الطامعة عن هذا الجشع، وأصغت إلى صوت الحق والعدالة والإنصاف، وما دامت هذه المعاني لم تتحقق بعد فإن هذا التنافس قائم على أشده بين المعسكرات الدولية المختلفة، ونستطيع نحن بأيسر سبيل أن ننتفع به أعظم انتفاع، ونملك هذا التطور في المشاعر الإنسانية الذي يقوى ويشتد كلما ذكر الناس ما عانوا من آلام، وما مروا به ومر بهم من محن طوال هذه السنوات، ونملك سلاح الدعاية الصارم البتار في كل مكان، وسلاح المقاطعة السلبية، وسلاح المقاومة المنظمة، وسلاح الصبر والمصابرة على آلام الكفاح، ومن حسن الحظ أن النفوس جميعًا مُهيَّأة لذلك أحسن الهيئة.
نملك كل هذه الأسلحة الفعالة، وهي وحدها بعد إرادة الله كفيلة بأن تصل بنا إلى ما نريد وفوق ما نريد.
ولكن: لذلك شرط واحد إن لم يتوفر فلا قيمةَ لهذا كله، ولن نجني إلا الخيبة والفشل، ذلك هو يجمع قوى الأمة على الاستفادة من هذه الأسلحة جميعًا، فإنها لن تعمل بنفسها ولكنها تعمل في يد مَن يحسن استخدامها من الناس وأول الإحسان وحدة الجهود واجتماع القلوب.
وفي الأمة قوى ثلاث إليها الآن تتجه الأنظار:
- فالحكومة قوة.
- والزعماء السياسيون قوة.
- والهيئات الوطنية العاملة قوة.
وإذا التقت هذه القوى على منهاج منظم محدد مدروس، فقد قضى الأمر ولقد كان الجميع في انتظار عودة دولة رئيس الوزراء ليروا ما عنده وينظروا ما هو صانع، وها هو ذا قد عاد وليس في الوقت متسع للتردد أو التراخي أو الإهمال.
ولعل من الخير أن يبدأ دولته فورًا بعد أن يرفع تقريره لجلالة الملك المعظم ويتلقى توجيهات جلالته السامية فيدعو الزعماء السياسيين ورؤساء الهيئات الشعبية فرادى وجماعات؛ ليدلي إليهم بما عنده، ويرى ما عندهم من آراء، والمصارحة أجدى والنصيحة واجبة والمبدأ الذي يجب أن يلتقى عنده الجميع أن تكون الغاية هي الكفاح في الخارج، والإصلاح في الداخل، واجتماع القلوب على منهج وميثاق يتعاون على تنفيذه الحكومة والشعب على السواء، ولو كلَّفنا ذلك الكثير من التضحيات.
حول بيان الوفد وخطابيه.. كلام للتنوير يجب أن يقال
قرأت اليوم بيان الوفد وخطابيه فكان الأثر الأول الذى أحدثته في نفسي هذه القراءة شيئًا من الأسف لهذا التسرع، فإن رئيس الحكومة إنما عاد بالأمس فقط، ولا يدري أحد ما هي خطته، ولا ماذا يريد أن يصنع، وفي البلد دعوات تتردد للوحدة وجمع الصفوف وجهود تبذل بهذا الخصوص لمعالجة الموقف بهذا البيان؟ وهذا الخطاب قضاء على كثير مما كان ينتظر من أمل ولا فائدةَ في هذا لأحد لا للوفد ولا للوطن، والفائدة كلها للخصم الجاثم على صدره لا يريد أن يتزحزح ولا أن يتحول.
وقد جاء في بيان الوفد وفي خطابه ما يشعر أنه يرى الوحدة أساس النجاح؛ وذلك صحيح، ولكن هل هذا الأسلوب الذي كتب به هذا الخطاب وهذا البيان والروح التي تتجلى في كل منهما مما يُساعد على الوحدة أو يعين على نجاح جهود العاملين لها؟ سيقول كل من قرأهما: لا، وألف مرة لا.
وما كتب في خطاب السفير البريطاني اليوم حبذا لو كتب من قبل لمجلس الأمن، وأرسلت صورة منه إلى وزارة الخارجية البريطانية، إذن لكانت خطوة وطنية يكتسب بها الوفد تقدير خصومه وأصدقائه على السواء، وهي حينذاك أنفع منها ألف مرة منها اليوم إذ يتردد القول الآن بأنها ليست أكثر من مناورة حزبية ليست لها قيمة عملية.
ولعل أهم ما يلفت النظر في الخطاب الخاص بالنقراشي باشا وفي البيان الوفدي اشتراطه أن تكون الوحدة على أساس الدستور واستفتاء الأمة، وهي النقطة التي يقف الوفد دائمًا عندها ولا يتحول، فيوهم الناس أنه وحده حامي الدستور المناضل عنه، والمطالب بحقه، مع أنه لا شك في أن من واجبنا جميعًا ونحن أمة ديمقراطية أن نحرص على سلامة الأوضاع الدستورية، ولا يستطيع أحد أن يذهب غير هذا المذهب، ولكن هناك أمرين يجب أن يكشف عنهما، وأن يتدبرهما جيدًا كل غيور على مصلحة هذا البلد راغب في الوصول إلى جمع كلمته ووحدة بنيه.
أولهما: أن قيام مجلس النواب الحالي ليس مهددًا للدستور ولا مهدرًا لأحكامه بالدرجة التي يتوهمها الوفد ويبالغ في تصويرها للرأي العام، وإلا كان قيام مجلس نواب سنة 1942م الوفدي الذي قاطعته الأحزاب وأقصي عنه بأمر الإنجليز كثير من النواب، وفصل منه بعض أعضائه بعد أن حكم لهم بصحة الانتخاب مهدرًا كذلك لأحكام الدستور، ومع ذلك رضي به الوفد وحكم في ظله ولم ترتفع منه صيحة واحدة بأنه كان برلمانًا لا يُمثِّل الأمةَ ولا يتفق مع روح الدستور ونصه، فليسع الوفد اليوم ما وسعه حينذاك، وإذا قيل: إنها كانت أحكام عرفية قيل كذلك: إن ظروف اليوم استثنائية فلم يحدث اليوم أن واجهت الأمة من الظروف والأحداث ما تواجه في هذه الأيام والظروف الاستثنائية التي تقتضي المرونة السياسية وبغير ذلك لا يستقر أمرٌ ولا يستقيم حال.
وثانيهما: أن الأمة اليوم وفي ظرفها الدقيق أحوج ما تكون إلى اجتماع جهود بنيها جميعًا وكفاياتها حول منهج للجهاد، وميثاقٍ للعمل وخطة للكفاح؛ وذلك لا يتطلب أكثر من صفاء القلوب ونسيان الأشخاص وتوجيه الدعوة للاجتماع وتأليف اللجان للمدارسة، وهو لا شك أولى وأحسن من شغل الأمة بتقسيم الدوائر بعد التعداد الأخير، واستنفاد الجهد في ترتيب إجراءات الانتخابات وما تستلزمه من خصومات وحزازات، ولعلنا حين نسلم بمثل هذه الخطوة نتبعها في التعاون وتحقيق الرغبات خطوات، وعلى هذا فوقوف الوفد هذا الموقف وإصراره على هذا الشرط ليس له معنى أكثر من أنه يتجاهل كل الظروف والملابسات، ويحول دون اجتماع القوى على منهاج الجهاد في أدق المواقف وأحرج الساعات.
وتتردد في صحف الوفد وبيانه وخطاباته نغمة خلاصتها أنه إذا كان الذين في الحكم يدعون أن الأمة معهم فلم يخافوا من الاستفتاء، وهذا قولٌ قد يبدو للناظر فيه لأول وهلة أن له نصيبًا من المنطق والحق مع أنها قضية فيها نظر؛ لأن خصوم الوفد لا يسلمون معه بأن مجلس النواب القائم لا يُمثِّل الأمة بل شأنه في هذا شأن كل المجالس السابقة وما قيل ويُقال عنه قيل مثله ويُقال عنها جميعًا.
ومن الخير أن يُقضى على هذه السنة السيئة، وأن يُترك مجلس واحد ليتم مدته القانونية، وبغير ذلك لا يسود حكم الدستور ولا يستقر على حال مجلس نواب، بل يذهبون إلى أبعد من هذا فيقولون: إن التسليم بحل هذا المجلس من وجهة نظرهم اعتداءٌ على الدستور لا يسلمون به ولا يوافقون عليه.
نكتب هذا الكلام مع احتفاظنا- نحن الإخوان المسلمين- برأينا في مجلس النواب الحالي وسابقه؛ لأن هذا ليس وقت الحساب الذي لا خيرَ فيه ولا فائدة.
ويلاحظ في بيان الوفد أنه خلا تمامًا من التوجيه الشعبي العملي فكل ما فيه تسجيل لمواقف الحكومات من وجهة نظر الوفد ثم دعوة إلى العمل والكفاح والاستعداد وما هو هذا العمل؟ وهل ألف الوفد اللجان لدراسة فروعه وأنواعه ونتائجه وآثاره؟ ومَن الذي يدل الشعب على ما يعمل، ويرشده إلى طريق الاستعداد ويباشر معه خطوات التنفيذ إن لم تكن تلك مهمة الأحزاب والزعماء؟
لا شيء يفيد قضية الوطن في هذا الظرف الدقيق إلا شيء واحد هو الالتقاء على منهج وميثاق، وهذه الدعوة يجب أن توجه حالاً من رئيس الحكومة إلى الزعماء ورؤساء الهيئات على السواء، وأن يكون هدفها شيئًا واحدًا هو تحديد المنهج وإعلان الميثاق عليه وتوزيع التبعات بغير نظر إلى شيء آخر في هذه الآونة.
وإذا تفضل جلالة الملك المعظم فشمل هذه الدعوة برعايته السامية كانت تلك أبرك الخطوات، وحينئذ فقط نكون قد جاهدنا أنفسنا الجهاد الصحيح واستعددنا حقًّا لجهاد غيرنا، ومن وراء ذلك كله النصر إن شاء الله.
إلى هنا انتهى بنا الحديث عن الفصل الأول وهو: (محاربة الاحتلال)، وسيكون حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى عن الفصل الثاني وهو: (الإخوان ووحدة الأمة).
الهوامش
(1) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (402)، السنة الأولى، 8 شوال سنة1366/24 أغسطس 1947، ص(2)، وقد جاء في الديباجة: "لجميع الدول الممثلة في مجلس الأمن، سفراء، ووزراء مفوضون في مصر، ما عدا أستراليا التي لها وكيل رسمي ينحصر اختصاصه في الدائرة التجارية، وما عدا كولومبيا التي ليست لها أية صلة رسمية بالدولة المصرية، وقد توجَّه الأستاذان صالح عشماوي الوكيل العام للإخوان المسلمين، وعبده قاسم السكرتير العام بعد ظهر أمس إلى كلٍّ من هؤلاء السفراء والوزراء وقدموا إليهم الكتاب التالي".
(2) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (403)، السنة الأولى، 10 شوال 1366 ه/ 26 أغسطس 1947م، ص(1)، وقد صدرت الجريدة المقالة بما يلي: "قلنا في العدد الماضي بعد أن أوضحنا اتصالات فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين بالزعماء والقادة لاتخاذ خطوة جديدة في سبيل القضية المصرية، أن فضيلته أرسل إلى دولة النقراشي باشا في نيويورك برقية يطلب فيها إعلان إلغاء معاهدة 1936م؛ وذلك في اجتماع مجلس الأمن اليوم، كما أرسل إلى معالي أحمد خشبة باشا رئيس الوزراء بالنيابة كتابًا يطلب فيه دعوة مجلس الوزراء إلى اجتماع يصدر فيه قرار بإلغاء هذه المعاهدة.
وننشر اليوم نص هذا الكتاب وتلك البرقية فيما يلي:".
(3) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (418)، السنة الثانية، 27شوال 1366/12 سبتمبر1947، ص(2).
(4) ولد فارس الخوري 20/تشرين ثاني 1873م, ولده يعقوب بن جبور الخوري مسيحي بروتستانتي, انتخبفارس الخوري رئيسًا للمجلس النيابي السوري عام 1936م ومرة أخرى عام 1943م، كما تولَّى رئاسة مجلس الوزراء السوري ووزيرًا للمعارف والداخلية في تشرين أول عام 1944م, في عام 1945م, وترأس فارس الخوري الوفد السوري الذي كُلِّف ببحث قضية جلاء الفرنسيين عن سوريا أمام منظمة الأمم المتحدة, وتُوفي فارس الخوري مساء الثلاثاء 2 كانون الثاني 1962م.
(5) وقولهم: "على أهلها تجني براقش" بالقاف, قالوا: كانت براقش كلبةً لقوم من العرب، فأغير عليهم, فهربوا وهي معهم، فنبحت فاتبع القوم آثارهم بنباحها، فأدركوهم فقتلوهم، انظر النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب، ص(1576).
(6) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (424)، السنة الثانية، 4 ذو القعدة 1366 ه/19 سبتمبر 1947م، ص(2).
(7) الوِفاضُ: الجلدة التى توضع تحت الرَّحى. [اللسان، مادة (وفض)].
(8) فارس الخورى [1290-1381ه= 1873-1962م]: فارس بن يعقوب بن جبور بن يعقوب بن إبراهيم الخورى: من رجال السياسة والأدب في سورية. ولد في قرية الكفير التابعة لقضاء حاصبيا. وتعلم بها وبالمدرسة الأمريكية بصيدا، ثم بالكلية الإنجيلية السورية التي سُميت بعد ذلك "الجامعة الأمريكية" ببيروت. واستقر في دمشق ترجمانا للقنصلية البريطانية (سنة 1902-1908م)، وانتخب نائبا عن دمشق في مجلس "المبعوثان" العثمانى (1912م)، ثم احترف المحاماة. وقبل انتهاء الحرب العامة الأولى سجن بتهمة التآمر على الدولة وبرئ، وبعد الحرب عُيِّن أستاذًا في معهد الحقوق، وانتخب عضوا في المجمع العلمى العربى (1919م) فعد من مؤسسيه. وعُيِّن وزيرًا للمالية السورية، إلى أن احتلَّ الفرنسيون دمشق (25 تموز 1920م)، وكان في وزارة علاء الدين الدروبي التي انتهت بمقتله، فعاد فارس إلى المحاماة، ونفاه الفرنسيون إلى إرواد (1925م) ثم أعادوه وولوه وزارة المعارف (1926م) وحلت الوزارة بعد 47 يومًا من توليه، فأبعد مع أعضائها، منفيين حتى سنة (1928م)، وانتخب رئيسًا لمجلس النواب (1936م)، وأُعيد انتخابه لهذا المنصب أكثر من مرة في عهد الرئيس شكري القوتلي (1943-49) فرئيسًا للوزارة (1944-1945م)، ومثَّل سوريا لدى منظمة الأمم المتحدة مرات، وتوفي في دمشق. استخرج من دروسه في معهد الحقوق كتابين، هما: "أصول المحاكمات الحقوقية- ط"، و"موجز في علم المالية- ط"، وله شعر، منه "وقائع الحرب- ط" أربع قصائد في تاريخ حرب الروس واليابان. [الأعلام، (5/128)].
(9) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (425)، السنة الثانية، 6 ذو القعدة 1366ه/21 سبتمبر 1947م، ص(2)، ورئيس الوزراء هو محمود فهمي النقراشي باشا.
(10) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (426)، السنة الثانية، 7 ذو القعدة 1366ه/22 سبتمبر 1947م، ص(1).
للمزيد عن دور الإخوان في الإصلاح