البنا والقضية الفلسطينية (الحلقة الثالثة)
إعداد: طارق عبد الرحمن
مقدمة:
بعد الخطابات المتعددة من الإمام البنا إلى كلٍّ من: عمر طوسون، وصاحب الغبطة الأنبا يؤنس رئيس لجنة مساعدة الحبشة، ووزير فرنسا، وأنه من حق مصر وواجبها العمل على إنقاذ فلسطين.
وفي هذه الحلقة نستعرض رسالة البنا إلى وزير فرنسا المفوض في مصر، جاء فيها:
موقف فرنسا من سماحة مفتي فلسطين الأكبر(1)
أرسل صاحب الفضيلة الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين إلى صاحب السعادة وزير فرنسا المفوض في مصر الخطاب الآتي:
القاهرة في 18 ربيع الثاني 1357.
حضرة صاحب السعادة سفير فرنسا في مصر الأكرم تحيةً واحترامًا.
وبعد: فالرجا أن تتكرموا بإبلاغ حكومتكم الموقرة أن المركز العام لجمعية الإخوان المسلمين في القطر المصري قد تلقى بمزيد الارتياح فحوى البيانات التي أدلى بها جناب المسيو "روبر دوكة" ممثل فرنسا أمام لجنة الانتدابات الدائمة في عصبة الأمم في جلستها الأخيرة ردًّا على الحملة البريطانية المدبرة ضد عرب فلسطين، وبصورة خاصة ضد حضرة صاحب السماحة السيد محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى ورئيس اللجنة العربية العليا. ولقد تقبل الرأي العام الإسلامي والعربي هذه البيانات بالتقدير والارتياح، لما اشتملت عليه من الدفاع عن الحق ودحض الأباطيل والتهم البريطانية والصهيونية التي وجهت إلى سماحته:
فباسم المسلمين في مصر نشكر حكومتكم الموقرة على موقفها الشريف، ونرجو أن يظل سماحة المفتي الأكبر السيد محمد أمين الحسيني يلقى من كرم الضيافة لدى السلطات الإفرنسية واللبنانية ما هو جدير بالتقاليد الإفرنسية الحرة، وما هو جدير بمقام شخصية إسلامية عظيمة كسماحته تتمتع بعظيم الاحترام والتوقير في العالمين العربي والإسلامي.
وتفضلوا يا صاحب السعادة بقبول خالص الاحترام.
احتجاج شديد على حوادث فلسطين الأخيرة(2)
أرسل صاحب الفضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين البرقية التالية إلى فخامة المندوب السامي ووكالة فلسطين والدفاع- القدس:
جمعية الإخوان المسلمين وفروعها بمصر تنظر باستفظاع وغضب شديدين إلى هذه المجازر التي يقترفها مجرمو اليهود في إخواننا عرب فلسطين الأبرياء بتوالي الاعتداءات المسلحة عليهم بحماية السلطات البريطانية التي تعتبرها المسئولة الوحيدة عن هذه الفظائع بسبب تسليحها لليهود وتسامحها معهم، في الوقت الذي علقت فيه على المشانق عشرات العرب لأتفه الأسباب، فالمسلمون الذين استفزتهم جرائم اليهود المنكرة يطلبون منكم صيانة أرواح إخوانهم عرب فلسطين، أو أن تعلن بريطانيا عجزها عن ذلك ليقوموا هم بحماية إخوانهم المهددين.
أول الغيث(3)
تفتيش دار الإخوان بالقاهرة، مصادرة كتاب النار والدمار في فلسطين، الإخوان ينتظرون هذا، وأكثر منه، وهم به مسرورون
في كتاب النار والدمار وصف صادق للفظائع التي ارتكبتها إنجلترا المتمدينة في فلسطين الحرة الأبية العربية المجاهدة من تقتيل، وتدمير، ونفي، وتعذيب، وسجن، وإرهاق، وإهانات متلاحقة لرجال القضاء الشرعي، وأحرار البلاد الشقيقة، وفيه استنهاض لهم المسلمين أن يجاهدوا في سبيل فلسطين الباسلة، وبيان أنهم إن لم يفعلوا ذلك اليوم من أجل فلسطين فهم سيضطرون إلى أن يدفعوا عن أنفسهم في المستقبل غائلة الخطر اليهودي بعد أن ترسخ قدمه- ولن ترسخ- على قيد خطوات من الحدود المصرية، وحينئذٍ لا تنفع الجهود، ويصدق علينا المثل السابق "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"(4).
هذا هو الكتيب الذي قامت من أجله الحكومة المصرية، وقعدت، وأرسلت ضابطًا من ضباطها ومعه قوة من البوليس لمهاجمة دار الإخوان بالقاهرة، وتفتيشها بأمر من النيابة ومصادرة هذه الرسالة.
إنجلترا التي ارتكبت هذه الفظائع كل وقت، وتنكل بإخواننا هذا التنكيل تستحي أن يذاع ذلك عنها، وأن ينشر في العالم، فهلا استحت من ارتكابه، وهلا ذكرت أنها بهذه الأعمال الوحشية قد فقدت هيبتها وسمعتها وشرفها السياسي والدولي، ولإنجلترا عذر في أن يقلق بالها، ويقض مضجعها، ويؤذي مسمعها صوت الأحرار المجاهدين حين يطلعون العالم على ما ترتكبه من الفظائع والآثام، ولكن ما بال الحكومة المصرية تشايع إنجلترا في هذا الشعور وتجاملها على حساب فلسطين العربية المسلمة، وتعمل لحسابها في خنق الحركات التي يراد بها تأييد قضية إسلامية عادلة كقضية العرب الفلسطينيين؟! وقد كان الأولى بها أن تقوم بمناصرتهم، وتقاوم ظلم الإنجليز الصارخ بكل وسيلة.
إنه الضعف ضعف الهمم، وضعف الإيمان، وضعف الشعور بالروابط المقدسة التي تربطنا بالبلاد الشقيقة، هذا الضعف هو الذي يدفع حكومة مصر إلى أن تقف من القضايا الإسلامية الهامة هذه المواقف المزرية المخجلة.
أيها الجالسون على كراسي الحكم، أما آن لكم أن تفقهوا بعد، أن من استعز بغير الله ذل، وأن الناس من خوف الذل في الذل، ومن خوف الفقر في الفقر، وأن من حرص على الموت وهب الله له الحياة، وأن الله يقول في كتابه: ﴿بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)﴾ (النساء)، فإن أردتم القوة الصحيحة فالتمسوها في طاعة الله وأداء فرائضه، ومناصرة أحكامه، وتأييد المجاهدين في سبيل حماية أرض الإسلام ومقدسات المسلمين: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾)التوبة: من الآية 16).
أصدقوا الله ساعة من نهار، وجربوا هذه الطريق، فقد جربت طريق الضعف والاستسلام طويلاً، وثقوا أنكم الرابحون على كل حال ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ (الزمر: من الآية 36).
أما الإخوان المسلمون فلن يضيرهم هذا، ولن يغير من خطتهم، ولن يثني من عزائمهم، وهم سيقومون بواجبهم نحو إخوانهم في فلسطين بكل وسيلة، ولن يدخروا وسعًا، ولن يرهبوا تبعةً، وقد وطنوا النفس على أن يحتملوا نتائج أعمالهم كاملة وأسعد أوقاتهم يوم يكون لهم بأبطال فلسطين المجاهدين أسوة حسنة فتراق دماؤهم وتفيض في الميادين أرواحهم وتمتلئ بهم السجون وينفون ويعذبون، وكل ذلك في سبيل الله هين، وإن الموت في سبيل الحق لهو عين البقاء.
لقد تقدم الإخوان في مرات سابقة إلى النيابة يطالبون إليها أن تسوقهم إلى القضاء، وأن تزج بهم إلى السجون، ولكن النيابة- عفا الله عنها- أبت عليهم ذلك، ولا ندري أهي مكرهة على ذلك أم مختارة، فعلم ذلك عند الله والراسخين في العلم، ولكنها على أي حال حرمتهم شرف الدفاع والاحتجاج في ميدان القضاء، وتسجيل استنكارهم لما يحدث في فلسطين في سجلات المحاكم، وحرمتهم كذلك أجر التضحية وثواب المشاركة في حمل مصاعب الجهاد، ونحن في هذه المرة كذلك سنطلب إلى النيابة أحد أمرين إما إحالتنا إلى القضاء إن كان في عملنا جريمة قانونية، وإما إعادة الكتاب إلينا لنتولى توزيعه من جديد، ولنذيع على الناس قاطبة مثلاً مما يرتكبه الإنجليز من الفظائع الدامية في فلسطين الشهيدة.
إن دعوة الإخوان أوسع مما تظن الحكومة المصرية، ولسنا ممن يتحدثون عن أنفسهم، ولا عن دعوتهم، ولا عن برامجهم ومناهجهم، ولكنا ممن يباشرون ذلك بالعمل، ويزاولونه بالتنفيذ، ويظهرون للناس بأعمالهم لا بأقوالهم، وإن الإخوان ليعلمون أن دعوتهم هذه عدوة الاستعمار، فهو لها بالمرصاد، وعدوة الحكومات الجائرة الظالمة، فهي لن تسكت على القائمين بها، وعدوة المستهترين والمترفين والأدعياء من كل قبيل، فهم سيناهضونها، وكذلك دعوة الحق في كل مكان، ولا تزال كلمة ورقة بن نوفل للرسول- صلى الله عليه وسلم- ترن في أذن كل أخ مسلم "ليتنى فيها جذعًا إذ يخرجك قومك" فقال- صلى الله عليه وسلم-: "أو مخرجي هم" قال: نعم. لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي"(5)، والإخوان مع هذا قد وطنوا الأنفس على أن يحتملوا في سبيل أداء الواجب والقيام بحق الدعوة كل شيء، وهم يتعجلون ذلك ولا ينفرون منه ولا يتمنون لقاءه، ولكن يصبرون له وعسى أن تكون هذه المهاجمة أول الغيث فتكون البشير بقرب ساعة النصر، ويأبى الله إلا أن يتم نوره فلتفعل القوة ما تشاء، وليستعد الإخوان وليرددوا دائمًا هذا النغم العذب اللذيذ ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 160).
مذكرة المركز العام للإخوان المسلمين عن الحالة في فلسطين الشهيدة
إلى حضرة صاحب الدولة رئيس وزراء دولة إيران(6)
حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس وزراء دولة إيران الفخمة المعظم.
سراي الزعفران- القاهرة:
يغتنم المركز العام ل جماعة الإخوان المسلمين في القطر المصري فرصة تشريفكم هذه الديار ليقدم لكم أولا أحر التهاني والتبريكات لمناسبة عقد خطوبة صاحب السمو الإمبراطوري ولي عهد إيران على حضرة صاحبة السمو الأميرة فوزية، سائلين الله- سبحانه وتعالى- أن يجعله فاتحة عهد يمن وسعادة للمملكتين المصرية والإيرانية العريقتين في الحضارة والمدنية، الشقيقتين في الدين والآمال والتقاليد.
ثم إننا نرى- لزامًا علينا- أن نوجه أنظار دولتكم- كرئيس لحكومة إسلامية ذات شأن وكيان- إلى قضية إسلامية بين الحياة والموت وعليها يتوقف نجاح الإسلام أو خذلانه، ونعني بها: فلسطين القطر الشهيد، والجارة العزيزة لمصر، والشقيقة لإيران والممالك الإسلامية الأخرى.
فهذا القطر الإسلامي المقدس الذي يضم الشيء الكثير من أمجاد الإسلام وآثاره الخالدة، والذي يقطنه شعب أبي باسل من سلالة الصحابة والفاتحين، والذي جبلت ذرات أرضه بدماء المجاهدين من أبطال الإسلام الميامين. هذا القطر الذي يضم المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وأضرحة أنبياء الله العظام وأوليائه الكرام، والذي ما زال فخورًا بالاحتفاظ بإسلاميته وعروبته مدة أربعة عشر قرنًا، والذي حافظ سدنته عليه بأغلى المهج وأكرم الدماء. أجل يا صاحب الدولة: إن هذا القطر قد بات مهددًا بالتهويد، وسدنته بالفناء أو الجلاء، وذكرياته الخالدة بالزوال والعفاء.
ذلك أن الإنكليز- بتأثير اليهود ونفوذهم المالي- يريدون أن يطمسوا من فلسطين كل معالم الإسلام لتصبح لليهود مملكةً موهومةً، وأن يحولوا المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله إلى كنيس يهودي كما دلت على ذلك كتابات اليهود وأقوال زعمائهم الصريحة، وأن يفنوا آخر مسلم في فلسطين ليخلوا لليهود المجال الفسيح لتوطيد دعائم ملكهم. وهاهم الإنجليز يسيرون على سياسة الإفناء بخطوات واسعات دون أن يردعهم ضمير، أو يستمعوا إلى صوت مستجير.
ولا نريد في هذه المذكرة الموجزة أن نشرح لدولتكم الفظائع الشنيعة التي ارتكبها الاستعمار الغاشم في فلسطين حتى بدل أمنهم خوفًا، وحول جنتها إلى جحيم وقوده أبطال فلسطين الأمجاد، فدولتكم مطلعون على بعض هذه الفظائع مما تقرؤونه في الصحف والبرقيات لأننا على يقين من أن قضية فلسطين تهمكم وتهم الشعب الإيراني النبيل، باعتبارها جزءًا من القضية الإسلامية العامة، إلا أننا نؤكد لكم ما تقرؤونه عن هذه الفظائع إن هو إلا نقطة من بحر، وأن البلايا النازلة بهذا القطر الشهيد تفوق كل حصر؛ فالسجون مكتظة بالعلماء والوجهاء وكرام الوطنيين، والزعماء شردوا تحت كل كوكب، والشهداء الأبرار سقطوا بالمئات بين معلق على أعواد المشانق ومجندل برصاص الاستعمار، والبيوت نسفت، والأعراض انتهكت، وبيوت الله أغلقت أو احتلتها الجنود، وكتاب الله مزق وديس بالمناسم(7) والأقدام، زد على ذلك حوادث التعذيب التي يتفنن فيها المستعمرون بما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وها قد مضى على الثورة عامان كاملان، والدماء تسيل، والأرواح تزهق، والرصاص يمزق الأجساد، وروح الإرهاب تسود البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وجنود الاستعمار الغلاظ يدكون بحديدهم ونارهم معالم البلاد، ويهلكون الزرع والضرع والعباد.
يا صاحب الدولة:
إنه ليس من المروءة ولا من الإنسانية في شيء أن نترك هذا القطر الشهيد الشقيق يلفظ أنفاسه دون أن يمد له العالم الإسلامي يد المساعدة، فقضية فلسطين هي قضية العالم الإسلامي بأسره، وهي ميزان كرامته ومقياس هيبته وقوته، وقد كان لحضرة صاحب الجلالة الإمبراطورية "شاهنشاه إيران" ولحكومته الفخيمة وللشعب الإيراني النبيل مواقف مشرفة من هذه القضية الحقة أثقلت موازينها، آخرها تصريح مندوب إيران في مجلس العصبة في العام الماضي، فقد كان له أطيب الوقع في العالمين الإسلامي والعربي، كما كان له قيمته لدى دول العصبة، فحري بإيران المسلمة أن تواصل مساعيها المشكورة لحل القضية حلاًّ عادلاً، ولوضع حد لفظائع الاستعمار الغاشم فيها، ولتخليصها من كارثة التهويد الذي أصبح خطره على الأبواب ينذر العالم الإسلامي كله بشر واقع، ماله من دافع.
واسمحوا لنا- كمصريين- أن نصارحكم بأن هذه القضية لن تسير خطوة واحدة في طريق الحل إلا إذا تضافرت الحكومات الإسلامية ووقفت صفًا واحدًا لنصرتها، فالكابوس اليهودي جاثم على صدر بريطانيا يحركها كما يشاء، ولن تغير خطتها إلا إذا رأت من المسلمين موقفًا حازمًا، ولقد أدركت مصر هذه المسألة فسارعت هيئاتها المختلفة، من برلمانية ودينية ووطنية إلى الاحتجاج ورفع الصوت، وسخت أيدي المحسنين بالتبرع لألوف المنكوبين والجرحى، وقامت فيها المظاهرات الصاخبة، وعقدت الاجتماعات الحاشدة اللاهبة، فحبذا لو تتضافر القوى في إيران ومصر وغيرهما من أقطار الإسلام، ويواصل المسلمون الجهود في هذه السبيل.
وإننا لعلى يقين تام من أن كل حركة مباركة تقوم بها إيران في هذا الصدد سيكون لها أثرها في رفع الحيف وإعادة الحق إلى نصابه وتأثيرها في نفوس مجاهدي فلسطين.
ختامًا نرجو أن ترفعوا لمقام صاحب الجلالة الشاه خالص الولاء والاحترام وأن تتفضلوا بقبول تمنياتنا وإجلالنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
صناعة الموت(8)
أجل صناعة الموت، فالموت صناعة من الصناعات، من الناس من يحسنها فيعرف كيف يموت الموتة الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف والوقت المناسب، فيبيع القطرة من دمه بأغلى أثمانها، ويربح بها ربحًا أعظم من كل ما يتصور الناس، فيربح سعادة الحياة وثواب الآخرة، ولم تنتقص عن عمره ذرة، ولم يفقد من حياته يومًا واحدًا، ولم يستعجل بذلك أجلاً قد حدده الله.
ومن الناس جبناء أذلة، جهلوا سر هذه الصناعة وغفلوا عن مزاياها وفضائلها، فمات كل واحد منهم في اليوم ألف موتة ذليلة، وبقي وموتاته هذه حتى وافته الموتة الكبرى ذليلة كذلك، لا كرم معها ولا نبل فيها في ميدان خامل خسيس ضارع، وقضى ولا ثمن له، وأهدر دمه ولا كرامة.
إن القرآن الكريم علم المسلمين سر هذه الصناعة وأرشدهم إلى فضائلها وأرباحها ومزاياها وندبهم إليها في سور كثيرة مثل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ (الصف). وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ (التوبة: من الآية 111). إلى آيات كثيرة لا يحصيها عد ولا يتناولها حصر.
وقد عرف هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وسلف هذه الأمة، وعرفوا أنهم لن يتجاوزوا قدرًا قد أمضى وسلف، ولن يحرموا أجرًا قد عظم وكتب، ولن يستبقوا أجلاً قد قدر وحدد، فأحسنوا هذه الصناعة أيما إحسان وهذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:"لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل"(9)، وهذا صحابي جليل يستشهد، فيسأله الله عما يتمناه، فيتمنى أن يعود إلى الدنيا ليقتل مرة ثانية في سبيل الله(10)، وهذا أبو بكر يقول لخالد في وصيته العظيمة: "يا خالد احرص على الموت توهب لك الحياة"(11).
ثم جاءت من بعد ذلك خلوف من المسلمين ركنوا إلى الدنيا في العبث واللهو، وأهملوا مواد القوة، وجهلوا صناعة الموت، وأحبوا الحياة، وتنافسوا على لقب كاذب، وجاه زائل، ومال ضائع، ومظهر زائف. وتعس عبد الدينار. عبد الدرهم. عبد القطيفة. فوقعوا في الذلة، واستمكن منهم العدو، وخسروا سيادة الدنيا. وما أعظم تبعتهم في الآخرة، وحق عليهم قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: فقد تداعت على المسلمين الأمم، ونزع الله من قلوب أعدائهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن، وإنما الوهن حب الدنيا وكراهة الموت(12).
وكاد هذا الخلق الذليل يستبد بمشاعر المسلمين وعواطفهم، ويرين على قلوبهم وأرواحهم، ولكن رحمة الله التي يتدارك بها أهل هذا القرآن دائمًا لم تدعهم هكذا، فكانت "قضية فلسطين".
انجلى الصدأ عن المعدن النفيس، وبرزت النفس في ثوبها الحقيقي اللامع المجاهد، وتكشف الصدف عن لؤلؤه، وتمحص الذهب الخالص تحت نار الضغط الأثيم، وذهب فريق من أبطال المسلمين وجدة(13) السلف يحسنون من جديد صناعة الموت، ويطلبون عن طريقها حقهم في الحياة، وسرى هذا التيار من نفس الفئة المجاهدة القليلة في جوار الحرم المقدس إلى كثير من شباب الإسلام والعرب، فخفقت قلوبهم، واهتزت أريحيتهم، واضطرمت بهذا الشعور القرى والشوارع والميادين والبيوت والمدارس والمساجد في عاصمة العباسيين بغداد، وعاصمة الأمويين دمشق، وفي القاهرة عاصمة مصر ومعقل صلاح الدين، والتي أذاقت الصليبية أمر الهوان في حطين، وقذفت بهم بعد ذلك إلى البحر، وردتهم عن البيت المقدس خائبين مدحورين. ولئن شاءت السياسة الموضعية أن تكبت هذا الشعور في بعض المواطن وأن تضعف من مظاهره العملية، فهي بذلك إنما تزيده قوة، وتزيد النفوس به تأثرًا وانصهارًا، حتى إذا انفجر فلن ينفع في كبته بعد ذلك جهد الجاهدين ولا حذر المتخوفين.
أيها الفلسطينيون البواسل من شباب محمد وحماة بيت المقدس: صبر جميل. ولقد ربحتم كثيرًا، ولو لم يكن من نتائج ثورتكم المباركة الحقة إلا أن كشفتم غشاوات الذلة وحجب الاستسلام عن النفوس الإسلامية، وأرشدتم شعوب الإسلام إلى ما في صناعة الموت من لذة وجمال وروعة وربح لكنتم الفائزين، ولكن أبشروا فليس ذلك ربحكم فقط، ولكنكم ربحتم معه إعجاب العالم وثواب الله، وستربحون النصر المؤزر في القريب إن شاء الله. والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وأنتم أيها المسلمون في أقطار الأرض: اذكروا هذا الدرس جيدًا، واعلموا أنه جاءكم في أمس أوقاتكم حاجة إليه، وتلقيتموه والعالم على فوهة بركان، فإياكم أن ترجعوا بعد اليوم "غنمًا" يصرفها الذئب أنى شاء لتكون له في الحرب فداء وفي السلم غذاء، ولكن تجهزوا لتحرروا ولتدفعوا عن أنفسكم كل كافر خوان لا عهد له ولا ذمة ولا موثق له ولا أمان.
أيها المسلمون في أقطار الأرض
إن فلسطين هي خط الدفاع الأول؛ والضربة الأولى نصف المعركة، فالمجاهدون فيها إنما يدافعون عن مستقبل بلادكم وأنفسكم وذراريكم كما يدفعون عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم، وليس قضية فلسطين قضية قطر شرقي ولا قضية الأمة العربية وحدها، ولكن قضية الإسلام وأهل الإسلام جميعًا، ولا محل للتدليل على حقوق العرب فيها، ولا محل لإيضاح هذه الحقوق وبيانها، ولا محل للأقوال والخطب والمقالات. ولكن الساعة ساعة العمل. احتجوا بكل مناسبة وبكل طريق. قاطعوا خصوم القضية الإسلامية مهما كانت جنسياتهم أو نحلهم.
تبرعوا بالأموال للأسر الفقيرة والبيوت المنكوبة والمجاهدين البواسل. تطوعوا إن استطعتم- لا عذر لمعتذر- فليس هناك ما يمنع من العمل إلا ضعف الإيمان.
ولا يهلك على الله إلا هالك.
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40).
النفير أين أمير المؤمنين؟(14)
أيها المسلمون اسمعوا:
إننا ننسى كثيرًا وتمر بنا العبر والذكريات فلا نعتبر ولا نتذكر. وعبرة الأسبوع الماضي ليست من الطراز الذي يصح أن ينسى أو يجهل أو يتغافل عنه الناس وإن بلغت الغفلة منتهاها من الرءوس والنفوس. إن عبرة الأسبوع الماضي نفير عام ونذير للعالم الإسلامي، إنه إعلان الحرب بقسوتها وفظاعتها وتدميرها ومهالكها، فهل استعد المسلمون لهذا اليوم وعرفوا السبيل إلى انتهاز الفرصة؟ أكبر الظن أن الله تبارك وتعالى أخر تلك الساعة ليعذر إلى المسلمين في أقطار الأرض.
لقد تصورت الحرب معلنةً تخوضها الأمم وتصلاها الشعوب، وتمثلت الأرواح الزاهقة والدماء الجارية والأطفال الأذلاء باليتم والأرامل الثاكلات، فما رأيت في ذلك كله أفظع من أن يقف المسلم أمام المسلم ليقاتله، ولينهل من دمه في ميدان لا ناقة له فيه ولا جمل ولا ذنب ولا جريرة إلا أنه "عبد" لم يتحرر من القيود المفروضة عليه بعد. ولكم كان يرتسم أمام نظري هذا التحذير النبوي الكريم بأظهر صورة: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم وجوه بعض"(15) لقد ذقنا مرارة هذا الموقف في الحرب العامة وشربنا من كأسه العلقم والصاب(16)، ولقد كادت المأساة تتكرر ومن يدري فلعل في ضمير الغيب من ذلك ما لا يعلم الناس! فهل ستقف هذه الهمم التي تحركت للعمل؟ وهل ينسى المسلمون هذا الدرس القاسي ويذهب من آذانهم وقلوبهم صوت النفير؟!
أيتها الشعوب الإسلامية: لا تضيعي بعد اليوم دقيقةً واحدةً في غير استعداد لتتحرري ولتتقوي ولتستطيعي بعد ذلك أن تختاري الميدان، لا أن تساقي سوق السوائم(17) والأنعام.
اجتمع زعماء الدول الأربعة زعيم الجرمان وزعيم الإنكتار وزعيم الفرنجة وزعيم اللاتين على لغة ذلك الزمان لينظروا في مصير الحرب، وليحددوا مستقبل الناس ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ (يوسف: من الآية 21)، ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ (الروم: من الآية 4)، وأخذ العالم يرقب حكم هؤلاء القضاة، وكان بحث وكانت مداولات انتهت بالنزول على حكم القوة وتسوية المشكلة على حساب الضعيف. وفي العالم أربعمائة مليون من المسلمين؛ أهل القرآن وأتباع محمد- صلى الله عليه وسلم- نبي العزة والكرامة والشرف والعدالة والخير والإنصاف، فأين أمير المؤمنين؟ وأين مكانه بين أولئك الزعماء؟ وأية ذلة هذه التي لحقت بهذه الأجيال من أمم الإسلام حتى أخرجوا من شئون أنفسهم وبلادهم، وصاروا أرقاء لما يقضي به منطق الأقوياء؟! ورحم الله زمانًا كان العالم فيه يترقب الكلمة من أمير المؤمنين فتهتز لها الدنيا وتتفزع الأفلاك، ويلتفت الدهر، "فوا معتصماه"! وانتهى مؤتمر القوم بتحرير السوديت(18)، وما كانت ديارهم تحرق وما كان زعماؤهم يعذبون، وما كان شبابهم يقتل ويسجن وينفى، وما كانت بيوتهم تنسف، ولم يطغ عليه سيل هجرة أجنبية تغتصب أرضهم وتستأثر دونهم ببلادهم، ولكنها العنصرية. وكفى وهذه فلسطين الباسلة تطالب بتقرير المصير وبتحقيق الوعود، وتقاسي من عنت الانتداب والصهيونية، ما لم يسمع بمثله في أشد عصور الظلام حلكة، والعالم يسمع والدنيا ترى، ولا يعقد مؤتمر في القاهرة، ولا في بغداد، ولا في المدينة، ولا في دمشق، ولا في غيرها من بلاد المسلمين ليعترف فيه الزعماء بحق المجاهدين؛ لأنه ليس للمسلمين دولة كالريخ، وليس لهم أمير كالفوهر يقول كما قال هتلر: "لا أريد أن يكون في فلسطين سوديت أخرى".
أيها المسلمون ما أحوجكم إلى القوة. وما أحوجكم إلى الوحدة؛ وهي أول لبنة من لبنات هذه القوة. وأنا أكتب هذه الكلمات، وفي الجزيرة مجتمع كريم يضم زعماء الفكر وقادة الرأي في بلاد الإسلام ليصدروا حكمهم وليقولوا كلمتهم في قضية الإسلام؛ قضية فلسطين، ونحن ننتظر منهم موقفًا حازمًا، ومن المسلمين تأييدًا لهم صادقًا. وبمثل هذه المؤتمرات نخطو إلى الوحدة المنشودة ونقطع مراحل الطريق. فإلى الأمام...
مؤتمر لندن لبحث قضية فلسطين (19)
تطورت القضية الإسلامية العربية الكبرى في فلسطين خلال الأيام الأخيرة تطورًا عسكريًّا وسياسيًّا عظيمًا، وانتهى في ناحيته السياسية بتفكير الحكومة البريطانية في مؤتمر لندن، وعدولها عن فكرة التقسيم، وللإخوان المسلمين ملاحظات وكلمات حول هذا المؤتمر البريطاني القادم.
فالإخوان المسلمون لا يقرون أبدًا دعوة اليهود إليه، فليس اليهود طرفًا آخر في القضية، وإنما هم نزلاء مغتصبون جاءوا تحت حماية الحراب وفي ظل المخادعة إلى أرض ليست لهم، فضايقوا أهلها وأثاروا هذه المشاكل فيها ولا يعرف العرب هؤلاء اليهود، ولا يعترفون بهم، وإنما المشكلة على أرض فلسطين بين العرب أصحابها الحقيقيين وبين الإنجليز الذين دخلوا عليهم في ظروف حرب عالمية طارئة، فاستغلوا ضعفهم وتاجروا على حسابهم فإذا أصرت الحكومة البريطانية على دعوة اليهود إلى هذا المؤتمر، فلن يكون هذا دليلا على قبولنا لهذا الوضع أو اعترافنا بحق يهودي فيه؛ ولتتحمل الحكومة البريطانية تبعة عملها. والإخوان المسلمون كذلك يعجبون أشد العجب من هذا التفكير الملتوي الذي يحاول إبعاد المفتي الأكبر وهو زعيم فلسطين، وممثل أهلها جميعًا عن قضية هو أول من يفكر العقلاء في التفاهم معهم فيها، وإذا لم يدع الحاج الحسيني إلى مؤتمر فما قيمة قراراته في نظر العرب؟ وإذا كان الإنجليز يريدون أن يفرضوا على العرب رأيًا، فلماذا يتعبون أنفسهم في عقد المؤتمرات والدعوة إلى المفاوضات؟، وهل لم تكفهم التجارب القاسية التي تقابل بها آراؤهم المفروضة حتى يحاولوا أن يضيفوا إلى فشل السياسة البريطانية في فلسطين فشلاً آخر؟ خير للحكومة البريطانية أن تواجه الحقائق وألا تعمد إلى منطق النفاق في قضية واضحة كل الوضوح، فتوجه دعوتها إذا كانت جادة إلى سماحة المفتي وإلى أعضاء اللجنة العربية العليا وهم زعماء البلاد الحقيقيون، ونتفاهم معهم على أساس واضح معروف يحقق أماني العرب القومية، ويريح بال العالم الإسلامي الذي يزن بريطانيا الآن بميزان ما تعمل في فلسطين، والإخوان المسلمون يحذرون الحكومة البريطانية خداع مفاوضاتها السابقة؛ فإن عرب فلسطين غير من عرفت من المفاوضين الآخرين، وهم قوم ذاقوا لذة الجهاد والكفاح، فليست تغرهم المطامع الدنيوية والأعراض الزائلة، ولا تؤثر على زعمائهم الألقاب والمناصب، ولا تجدي معهم سياسة التفريق والمخادعة، فليكن الإنجليز صرحاء معهم واضحين، والإخوان المسلمون يحذرون مندوبي الحكومات الذين دعتهم بريطانيا إلى هذا المؤتمر أحابيل السياسة البريطانية، ومجاملة إنجلترا على حساب جزء كريم عزيز من أرض الوطن الإسلامي العام فإنه لن تقر من شعوبهم أعمالهم إلا ما يحفظ حق الإسلام والعرب في الأرض المقدسة، وإن الرأي العام الإسلامي العربي لهم بالمرصاد فليتفاهموا فيما بينهم على الأساس الذي يجب أن يكون عليه عملهم، ويواجهوا من سيفاوضونهم من البريطانيين في صف واحد واضح الرأي. مجتمع الكلمة لا يفلح معه التأثير ولا التفريق.
ماذا أعددنا للمستقبل؟ (20)
شغلت الأذهان في الأسبوع الماضي بحوادث الخلاف بين فرنسا وإيطاليا، فلإيطاليا مطامع ومطالب لم تنته بعد، وهي تريد تسوية مصالحها والحصول على رغائبها على حساب الآخرين من دول أوروبا المغتصبة، تريد امتيازات في تونس، وامتيازات في قناة السويس، وامتيازات في صومال فرنسا حتى تمكن لنفسها في مستعمراتها وتستعد لفريسة جديدة، وقد تظاهر النواب الإيطاليون لهذا واحتجت فرنسا عليه، وتلا ذلك مظاهرات في القطرين، وزعموا أن مظاهرات تقوم في تونس لتأييد فرنسا- كل ذلك متوقع وأكثر منه منتظر؛ فإن الأهواء والمطامع لا تقف عند حد، ولاسيما إذا ما أمدتها القوى وصحبها الغرور. ستظل إيطاليا تطلب، وستعود ألمانيا إلى الطلب وستداور إنجلترا وتحاور، وتراوغ فرنسا وتماطل، وتتدخل أمريكا حينًا وتحايد حينًا بحسب مصالحها التي سترتبط حتمًا بهذا النزاع من جهة اليابان، وستظل أوروبا في هذا القلق والاضطراب، وليست الحرب بعيدة عن الوقوع، وهي إن لم تقع فستقع تقلبات في مصائر الأمم والشعوب المستعمرة تتغير بها الوضعيات والأشكال والنظم، فماذا أعددنا للمستقبل؟ يقولون: إننا سنفاوض إيطاليا وإننا متحالفون مع إنجلترا، وإن في ذلك ضمان لسلامة وطننا والمحافظة على استقلاله.
فهل هذا صحيح؟ وهل يكفينا في هذا العصر الذي ضاعت فيه الحقوق، وامتهنت المعاهدات، وديست المواثيق، ومزقت الاتفاقات بيد القوة الباطشة وبلسان الحديد والنار، أن نعتمد على المحالفات والمفاوضات والمعاهدات. إن الجو مكفهر ملبد بالغيوم، مؤذن بالحوادث الجسام، ولا ينفعنا إلا الإعداد السريع القوي في كل ناحية من النواحي. إن هذه الطريقة الديوانية التي تجري عليها كل أمورنا الإصلاحية الآن (طريقة البحوث والتقارير والخبراء واللجان) طريقة لا نتيجة لها إلا استنزاف الوقت والمال، والمال قليل مطلوب لكثير من الشئون، والوقت ضيق لا يحتمل كل هذا الإبطاء. لم يعد يصلح عندنا إلا الإصلاح العاجل الحاسم الجريء. وإذا قيل إن المال عقبة، فلا أعتقد أن أمة لها مثل ميزانيتنا، وهي تنفق من هذه الميزانية على تشجيع فرق التمثيل والرقص، وعلى تجميل الشوارع والميادين، وعلى إقامة الولائم والتماثيل، وعلى المعارض الدولية والمؤتمرات، وملاحق الصحف الأجنبية في دعاية لا تستحق ثمن الورق الذي كتبت عليه، وعلى علاوات وترقيات وتعيينات ليس أصحابها في حاجة إليها، وليست الأمة في حاجة إليهم جميعًا، هذه الميزانية التي يبعثر منها هذا القدر الكبير في هذه التوافه من [غير شك للجريء من الأمور](21) إذا توجهت إليه الهمة وانصرف نحوه التفكير.
أيها الحاكمون: تحرروا بربكم من هذا الأسلوب الديواني، وانصرفوا في إجزاء الأعمال، وأنفذوا، فإن الخطأ في الإنفاذ درس يستحق ما ينفق عليه، فالفائدة محققة إن أخطأتم أو أصبتم، ولكن لا فائدة مطلقًا مع هذه الدراسات التي لا نجني منها إلا تسويد الأوراق وحفظها في مكاتب الوزراء. نريد أن تشعر الحكومة ويشعر الشعب كله على مختلف طبقاته بالخطر المحدق بنا والمحيط بالعالم والذي يهدد الناس، ونريد أن يستغل هذا الشعور في أن يقوم كل إنسان بواجبه حتى نحافظ على أنفسنا ووطننا في هذا المعترك الثائر في كل ناحية من نواحي الدنيا، وحتى ننجو من خطر المطامع والأهواء.
أعلنت حكومة لندن الإفراج عن معتقلي "سيشل"(22) من زعماء فلسطين الكرام ولم تسمح لهم بالعودة إلى فلسطين. وتقول الأنباء: إن في عزم الحكومة البريطانية أن تسمح لهم بتمثل شعبهم في مؤتمر لندن إن أرادوا ذلك ودعاهم الشعب اليوم، فأما الإفراج فهو حق لا فضل لأحد على الزعماء فيه، ولقد كانت إنجلترا ظالمة معتدية حين ساقتهم إلى المنفى وهم أبرياء لا ذنب لهم إلا حرية الضمير والإخلاص للوطن. فحسن أن تعود إلى الحق، وأحسن منه أن يكون رجوعها كاملاً لا نقص فيه ولا قيود معه، وإذا كان الزعماء لا يستطيعون العودة إلى فلسطين الآن، فكل بلد إسلامي يقصدونه غير(23) فلسطين فهو لهم، ولا يضيرنا الأسماء ولا تحجرنا جغرافية الحدود- وهم حين يمثلون أمتهم لا يكون ذلك بإرادة إنجلترا ولا بسلطانها، ولكنه مستمد من شعور الشعب الذي يؤمن بنزاهة زعمائه ويمنحهم حق التكلم باسمه- وإذا صح ما يقال من أن الحكومة المصرية قد اشترطت لاشتراكها في المؤتمر أن يدعى إليه ويمثل فيه سماحة المفتي الأكبر الحاج أمين الحسيني باعتباره زعيمَ فلسطين المجاهد، فهذا إدراك للحقائق وحزم منها تستحق أن تشكر عليه.
صدرت "الأهرام" في يوم من أيام هذا الأسبوع وفي صدرها صورة لرئيس الوزراء ورئيس الوفد المصري في تكريم المستر "هوبكنسون"، وتقول الأنباء إن الرئيسين قد تصافحا. جميل أن يجتمع هذان الزعيمان اللذان يمثلان أكبر الأحزاب المصرية وجميل أن يتصافحا، ولكن حبذا لو كان هذا في حفل غير حفل المستر "هوبكنسون"، وحبذا لو أثمرت هذه المصافحة تفاهمًا يؤدي إلى التفاهم والتعاون على خدمة الشعب الحائر المتألم، وحبذا لو أثمر هذا التعاون منهاجًا إسلاميًّا يحقق الآمال وتصلح به الأحوال.
نتوقف عند هذا الحد، ونتناول في الحلقة القادمة صورة المذكرة التي قُدمت للسفير البريطاني بشأن فلسطين ومفتيها الأكبر.
الهوامش
(1) مجلة النذير، العدد (5)، السنة الأولى، 28 ربيع الثاني 1357ه- 27 يونيو 1938م، ص(21).
(2) مجلة النذير، العدد (8)، السنة الأولى، 20 جمادى الأولى 1357ه- 18 يوليو 1938م، ص(22).
(3) مجلة النذير، العدد (9)، السنة الأولى، 27 جمادى الأولى 1357ه- 25 يوليو 1938م، (ص3-5).
(4) إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض: يروى، أن أمير المؤمنين عليًّا، رضي الله تعالى عنه، قال: إنما مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة كن في أجمة، أبيض وأسود وأحمر، ومعهن فيها أسد، فكان لا يقدر منهن على شيء لاجتماعهن عليه. فقال للثور الأسود والثور الأحمر: لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله، صفت لنا الأجمة. فقالا: دونك فكله. فأكله. فلما مضت أيام قال للأحمر: لوني على لونك فدعني آكل الأسود لتصفو لنا الأجمة. فقال: دونك فكله. فأكله. ثم قال للأحمر: إني آكلك لا محالة. فقال: دعني أنادي ثلاثًا. فقال: افعل. فنادى، ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض. [مجمع الأمثال، (1/55)].
(5) ابن كثير: السيرة النبوية، (1/386).
(6) مجلة النذير، العدد (15)، السنة الأولى، 10 رجب 1357ه- 5 سبتمبر 1938م، ص(3-5)، وقد قدمت المجلة لهذه المذكرة بما يلي: "اغتنم المركز العام للإخوان المسلمين في القطر المصري فرصة زيارة البعثة الإيرانية السامية برئاسة صاحب الدولة رئيس وزراء إيران للقطر المصري، فتوجه وفد من أعضائه إلى سراي الزعفران وقيدوا أسماءهم في سجل الزيارات، وقدموا إلى الوفد مذكرة فيها شرح موجز للحالة في فلسطين وما يقاسيه سدنتها من صنوف العذاب بفعل السياسة الاستعمارية اليهودية، وقد نشرتها صحيفة "ستارة جهان" الإيرانية أخيرًا. وفيما يلي نص هذه المذكرة".
(7) مناسم البعير: أي أخفافها. وفي حديث على كرم الله وجهه وَطِئَتْهم بالمَناسِم جمع مَنسِم أي بأَخفافِها، قال ابن الأَثير وقد تطلق على مَفاصل الإِنسان اتساعًا ومنه الحديث على كل مَنسِمٍ من الإِنسان صَدقةٌ أي كل مَفْصِل.[انظر: لسان العرب، (12/573)].
(8) مجلة النذير، العدد (18)، السنة الأولى، 2 شعبان 1357ه- 26 سبتمبر 1938م، ص(3-5).
(9) أخرجه البخاري في "الإيمان"، باب: "الْجِهَادُ مِنْ الإِيمَانِ"، ح(35) واللفظ له، ومسلم في "الإِمَارَةِ"، باب: "فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ في سَبِيلِ اللَّهِ"، ح(3487).
(10) حديث جابر بن عبد الله أخرجه الترمذي في "تفسير القرآن عن رسول الله". باب: "من سورة آل عمرآن"، ح(2936)، وابن ماجه في "الجهاد". باب: "فضل الشهادة في سبيل الله"، ح(2790). وقد صححه الألباني في "صحيح الجامع"، ح(7905).
(11) وفيات الأعيان، (3/67).
(12) يشير إلى قول الرسول الكريم: "يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ في قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ". والذي أخرجه أبو داود، في "الْمَلاحِمِ"، باب: "فِي تَدَاعِي الأُمَمِ عَلَى الإِسْلامِ"، ح(3745). وقد صححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، ح(4297).
(13) في الأصل: "وحدة"، وجدَّ الشيءُ يَجِدُّ بالكسر جِدَّةً: صار جديدًا، وهو نقيض الخَلَقِِ. [الصحاح، مادة (جدد)].
(14) مجلة النذير، العدد (19)، السنة الأولى، 9 شعبان 1357ه- 3 أكتوبر 1938م، ص(1، 4).
(15) الحديث بلفظ: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" وقد أخرجه البخاري في "الْعِلْمِ"، باب: "الإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ"، ح(118)، ومواضع أخر، ومسلم في "الإيمان"، باب: "بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"، ح(98، 99).
(16) الصاب: شجر مر. واحدته: صابة. وقيل: هو عصارة الصبر. [لسان العرب، (1/534)].
(17) السوائم: الإبل التي ترعى وتذهب في المراعي. [ابن قتيبة: الغريب، (1/190)].
(18) السوديت: هي إحدى المناطق المتاخمة للحدود الألمانية التشيكية، والتي كان يقطنها أغلبية ألمانية.
(19) مجلة النذير، العدد (27)، السنة الأولى، 13 شوال 1357- 6 ديسمبر 1938، ص(6)، وهي جزء من كلمة الأسبوع للمرشد.
(20) مجلة النذير، العدد (28)، السنة الأولى، 20 شوال 1357ه- 13 ديسمبر 1938م، ص(3-4).
(21) كذا بالأصل.
(22) سيشل: جزيرة في المحيط الهندي.
(23) في الأصل: "في".
للمزيد عن الإمام حسن البنا