الجزء الأول : الواقع المصرى بين عامى (1954 - 1965) ونشأة تنظيم (1965).

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

فهرس الجزء الأول

  • مقدمة
  • الباب الأول : الواقع المصري بين عامي (1954 - 1965 )

الفصل الأول : تمهيد : رحلتي منذ الطفولة مع الإخوان عام (1962 )

الفصل الثاني : الأحوال السياسية والاقتصادية في مصر

الفصل الثالث : الخريطة السياسية في مصر قبل (1965 )

الفصل الرابع : الخريطة الدينية في مصر قبل (1965 )

الفصل الخامس : الحالة الثقافية في مصر قبل (1965 )

  • الباب الثاني : نشأة التنظيم

الفصل الأول : ما قبل نشأة التنظيم

الفصل الثاني : البداية الحقيقية للتنظيم


إهداء

إلى أرواح الشهداء

سيد قطب

محمد يوسف هواش

عبد الفتاح إسماعيل

الذين زلزلت دماؤهم عرش الطغيان ،

وأيقظت روح الدعوة إلى الله من جديد ، قلوب الدعاة


مقدمة


الحمد لله الذي خلق فسوى , والذي قدر فهدى .. سبحانه لا نحصى ثناء عليه, هو جل شأنه كما أثنى على نفسه.

والصلاة والسلام على النبي المختار, بعثه تبارك وتعالى بالحق هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

وبعد ....

فلقد ترددت قرابة ثلاثين عاما قبل أن أكتب شيئا عن تاريخ تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965 والذي أثـّر ولاشك في تاريخ الإخوان, وتاريخ مصر بل والأمة العربية كلها. ولا أكون مغاليا إذا قلت أن بعض الأفكار التي صاحبت التنظيم صار لها دوى عالمي في الفكر الإسلامي المعاصر, تمثلت في كتابات الشهيد سيد قطب حيث كان ـ رحمه الله - قائدا للتنظيم ...وأثر- كذلك ـ في تاريخ مصر إذ يحكى بعض كبار الصحفيين أن هذا التنظيم كان أول مسمار في نعش عبد الناصر .

... لقد كان عبد الناصر يظن أنه قضى قضاءً مبرما ًعلى جماعة الإخوان المسلمين بعد الضربة القاصمة التي وجهها عبد الناصر للإخوان في عام 1954 م حتى فوجئ بتنظيم 65 قوياً وعنيفاً ومدوياً .. وكل أجهزة عبد الناصر لا تدرى عنه شيئا ... رغم أن عبد الناصر كان يفخر ويقول " وأذني على كل قلب " أي أنه يسمع دقات قلوب الناس .. ناهيك عن أحاديثهم و أفعالهم.

فوجئ بتنظيم متشعب ... فهو يشمل المثقفين حتى طبقة أساتذة الطاقة الذرية.. والجامعة.. وعدد ضخم من المهندسين والمثقفين إلى جوار مستشارين وقضاه ومحامين .. ثم يمتد في قاعدة عريضة من عمال مصر في أعرق شركات الصناعة في المحلة الكبرى .. فهو تنظيم يضم عمالا ومثقفين .. وهو يمتد في ربوع مصر من أسوان إلى القاهرة إلى أغلب محافظات الوجه البحري مع كيان جيد للتنظيم في الأسكندرية . ويضم علماء من الأزهر الشريف إلى جانب طيارين في مصر للطيران ويضم ضباطاً في الجيش.. إلى جوار بعض شباب الصناعة النابهين... هذا العمق المتشعب للتنظيم كان مفاجأة أذهلت الكثيرين الذين كانوا قد نسوا أو تناسوا دعوة الإخوان المسلمين بمعاونه من كافة التنظيمات الشيوعية التي قال لها الشاعر " ألا خلا لك الجو فبيضي وأفرخي" فأفرخت الشيوعية تحللا من الدين ومظاهره . كما سنرى في الصفحات القادمة تحللا من الأخلاق الإسلامية والعادات والتقاليد الإسلامية ... و أفرخت سخرية من رجال الدين الأفاضل مثل أستاذنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في مؤتمر الإتحاد الإشتراكي عام 1961 حيث تعرض هذا الأستاذ الجليل إلى حملة ضارية في الصحف والمجلات القومية ... وظن الجميع أن العقيدة الإشتراكية والسلوك الاشتراكي حلا محل الدين (أو كادا) .

لقد ساهمت أقلام الاشتراكيين الموتورة والذين قد خرجوا من المعتقلات في مايو 1964 بضغط من الاتحاد السوفيتي ورئيسه .آنذاك- خروشوف الذي زار مصر في مايو سنه 64 واستقبلته مصر استقبالا حافلا بمناسبة بدء تشغيل السد العالي . بوضع مقاليد أمور الصحافة والتليفزيون والراديو وكافه وسائل الإعلام في أيدي الشيوعيين كما أسلمتهم مصر عبد الناصر وزارة الثقافة من بابها ..ورغم كل هذا جاء دوى تنظيم الإخوان يقول لهم "إن الدعوة الإسلامية لن تموت في بلد الأزهر الشريف "

وثمة شئ آخر غيّر مخططات المنطقة مما عجّـل بتوجيه ضربه لمصر في حرب سنه 67... وهو شئ لا تخطئه العين فبعد عام 1948 حيث قبض على الإخوان وجهت إسرائيل ضربة للجيوش العربية .. وبعد عام 1954 حيث ضـُرب الإخوان وجهت إسرائيل ضربه لمصر في عام 1956 . وبعد عام 1965 حيث وُجهت ضربة للإخوان المسلمين قامت إسرائيل بتوجيه ضربة لمصر عام 1967 .. و هذه ظاهرة تستحق دراسة تاريخية يجب أن يكتب فيها المؤرخون ولقد تنبأ الصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل في مقاله الأسبوعي الشهير في عهد عبد الناصر " بصراحة" بقرب زوال دوله عبد الناصر بعد اكتشاف هذا التنظيم في مقال نشره عام 1966 فيه من التلميح أكثر من التصريح وأبلغ ... فهو الخبير باللغة الصحفية ويستطيع أن يقول ما يريد دون أن يوجه له لوم , وفصاحته ـ بلا شك- تساعده على ذلك .

ولقد كتب كثيرون عن تنظيم الإخوان (65) منهم الأستاذ / أحمد رائف في كتابهِ "البوابة السوداء" ونشر كثيرا من فظائع التعذيب في السجن الحربي وحكى رحلته في السجون في تلك الفترة الكئيبة في تاريخ مصر , ولاشك أن قلمه الرشيق جعل لهذا الكتاب جاذبية , وكتب الأخ الصحفي /جابر رزق جابر الفولي ــ رحمه الله رحمة واسعة ــ كتابه "مذابح الإخوان في سجون ناصر " وكتب أحد قادة التنظيم الأستاذ / أحمد عبد المجيد عبد السميع كتابهُ "القصة الكاملة لتنظيم 1965 " وكتب الأستاذ / علي عشماوي كتابه " التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين " وأبرز ما فيه هو الغمز واللمز للقيادة في ثنايا الكتاب وذلك بعد أن أعلن تركه لجماعة الإخوان المسلمين .

كما كتب أيضا المهندس/ محمد بدير زينه الذي كان من أفراد التنظيم , وبعد خروجه من السجن سافر إلى السعودية واُعتقل في أحداث الحرم المؤسفة وأمضى في سجون السعودية سبع سنوات ثم خرج من السجن في السعودية وألّـف كتابه عن (تنظيم 65) يهاجم فيه الإخوان أيضا,وللأسف لم أعثر علي نسخة منه كما كتب الأستاذ المحامى/ كمال الفرماوى .. أحد القياديين في الصف الثاني في (تنظيم 65) كتيبا عن التعذيب في (65) أيضا.

هذه الكتب بعضها من الإخوان وبعضها الآخر يحمل وجهة النظر المعاكسة للإخوان مثل كتاب علي عشماوي , ومحمد بدير زينه .

لكن هذه الكتب لم تشبع بعد رغبة كثير من القراء في معرفة المزيد عن تاريخ تلك الحقبة وعن أسرار هذا التنظيم, لقد ألحّ عليّ كثير من الأصدقاء أن أكتب في هذا الموضوع منذ نيفً وعشرين عاما ولم أكن مستريحا للكتابة... إذ أن للكتابة أهلها الذين لست أنا منهم.

ولكن بعد مزيد إلحاح استخرت الله في الحرم النبوي الشريف وكذلك في الحرم المكي وبعد عام من الاستخارة شرح الله صدري للكتابة.

ولعل الدافع لهذا التأخير أنني لم أكن قياديا في التنظيم , ولم أكن كذلك من صانعي القرار أو ممن يعلمون بواطن كثير من الأمور قبل القبض عليّ في 21/ 8/1965 م ولكن بعد القبض علىّ أمضيت رحلة مع أعضاء هذا التنظيم ومع أحداثه أيضا حوالي ثلاثة آلاف يوم هي زهرة شبابي, فلقد دخلت السجن بعد تخرجي من الجامعة بشهر واحد وكان عمري اثنين وعشرين عاما وبضعة شهور , وخرجت من السجن وعمري واحد وثلاثين عاما بالتمام والكمال , وكان يوم خروجي موافقا لعيد ميلادي ـ كما يقولون ـ بالتقويم الميلادي في 4 /4/ 1974

ولقد كنت آنذاك أتمتع بذاكرة حافظة موهبة من الله , وكذلك بعين ثاقبة ترصد كل شيء ــ مما جعل لي رصيدا كبيرا ولعل القارئ يجد في هذه الصفحات ما يلقى بعض الضوء على هذا التنظيم وتلك القضية.

ثمة شئ مهم أود كتابته , هو أن كل من كتب عن هذا التنظيم يكتب رأيه ووجهة نظره في الأحداث و الأشخاص , وليس وجهة نظر جماعة الإخوان المسلمين كذلك كل من كتب عن هذا التنظيم كتب معلوماته الشخصية وما أتيح له من معرفة إبان تلك الفترة , ولا شك أن كل من كتب خُفي عليه جوانب من الأحداث والأشخاص بل وبعض الظروف المحيطة والملابسات التي كثيرا ما تُؤثر في وجهة النظر التي يكتبها الكاتب ...هذا بفرض الحيادية عند الجميع أثناء الكتابة ولا يخفي على القارئ أن كتابي هذا مثل ما سبقه من الكتب ينقصه الكثير , ومعلوماتي أيضا خفي عليها الكثير "وما أبرئ نفسي" ... لكن " إن ربى لغفور رحيم"

أمر آخر يجدر الإشارة إليه أنني تنقلت في بعض السجون (65) هم السجن الحربي ( 22 شهر ) ـ ليمان طره ( 17 شهر ) ـ سجن قنا العمومي ( 37 شهر ) ـ سجن مزرعة طره (29 شهر ) . لكن هناك سجون أخري ـ أقصد معتقلات أخري ـ حيث كان المعتقلون وهم بالآلاف وهؤلاء عندهم أحاديث وموضوعات وحكايات تخص التنظيم أيضا لم أحضرها , ولم أُخبرها لذلك أجدني لا أستطيع الكتابة عنها , فإن الحياة في جو القضية هي أصدق تعبير عن الموضوع , ولقد نما إلى علمي أن أحد الإخوة الأفاضل ينوى الكتابة عن هذه المعتقلات وتلك الأحداث فحمدت الله كثيرا ورجوت أن يكون الكتاب سدا لما تبقى من ثغرة المعلومات عن هذا التاريخ .. وهذه المعتقلات تحديدا هي سجن القلعة, وسجن أبو زعبل , وسجن مزرعة طره (فترة الاعتقال حتى 16 /10 /1971 ) حيث أخليت كل المعتقلات من جميع المعتقلين الإخوان في 16/10 /1971 م ولم يبق في السجون سوى من صدرت ضدهم أحكام , ثم خرج الجميع على دفعات بعد حرب أكتوبر التي انتصر فيها شعار" الله اكبر". وتوالت دفعات الخروج والعفو عن باقي العقوبة حتى خرجت أخر دفعه من المسجونين من الإخوان المسلمين في 27/ 3/ 1975 م

إن نسيت فلا أنسى ذلك الكتيب القيم للأخت الداعية الحاجة/ زينب الغزالي بارك الله فيها ومد في عمرها وهو كتاب " أيام من حياتي " تحكى فيه رحلتها في السجون , وفي التنظيم أيضا. وهو كتاب حينما صدر تلقفه كثيرون بالتأثر والبكاء , فلقد كان حديثا من القلب فشق طريقه سريعا إلى قلوب البنين والبنا ت .. بل لقد كان هذا الكتاب سببا في هداية بعض الشباب إلى الإسلام وإلى دعوة الإخوان المسلمين .

وهذا ولقد ساهم كثير من الاخوة الأفاضل معي بالمراجع والكتب والكتابة والتبويب والترتيب والمراجعة فجزاهم الله عنا خير الجزاء و أسال الله أن يكتب هذا كله في ميزان حسناتهم .. إنه سميع مجيب.

أسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه وابتغاء مرضاته , كما أساله التوفيق في إلقاء الضوء على هذا التنظيم وما لابسه من ظروف وأحداث قبله وبعده من وجهة نظر من عايش التجربة كاملة في كل مراحلها عدا مرحلة النشأة الأولى للتنظيم فلقد كنت من أواخر من انضموا إلى التنظيم قبل الاعتقال في (28/ 8/65 ) لكن الأسرار القديمة كلها صارت متاحة و واضحة أثناء التحقيقات في السجن الحربي وبوضوح شديد , مما جعل التجربة كلها تحت المجهر للدراسة وأخذ العبرة وأحسب أن الإخوان المسلمين قد اخذوا العبرة كاملة من هذه التجربة ورغم قوتها ومرارتها فلقد كان فيها الخير الكثير للتجربة الإسلامية كلها . " ولله الأمر من قبل ومن بعد"

محمد الصروي

الجيزة في 7 شوال 1424

أول ديسمبر 2003


الباب الأول : الواقع المصري بين عامي (54 -65 )

الفصل الأول : تمهيد : رحلتي منذ الطفولة مع الإخوان عام (1962 )


تمهيد :

كل من كتب عن الإخوان و(تنظيم 65) أو حتى تنظيم (54) أو مذكرات العاملين في الجهاز السري أمثال الأستاذ محمود عبد الحليم , وعلي عشماوي وغيرهم بدأ كتاباته برحلته مع الدعوة كمدخل تاريخي للموضوع , فمن الناحية الموضوعية لا يمكن الدخول تفصيلا في الموضوع قبل التمهيد حتى يصبح ذهن القارئ مهيئا لمتابعة الأحداث .

ولقد ترددت قبل أن أكتب هذا التمهيد فجميع من سبقوني كانوا من قيادات الدعوة ـ ولم أكن أنا كذلك ـ وهم شهود على تاريخ حي نابض مؤثر ولكنى كنت متفرجا حتى قبيل الاعتقال في سنة 1965 ببضعة شهور ثم دخلت في عمق الأحداث فجأة ومباشرة .

لذلك آثرت أن اتبع نفس منهجهم في هذا التمهيد القصير مع إلقاء بعض الضوء على ملامح تلك الفترة.

أولا : بداية الرحلة

التحقت بالتعليم الابتدائي في قرية ميت يعيش مركز ميت غمر محافظه الدقهلية (المنصورة) عام 1949 , وكنت قبلها في كتاب القرية عند الشيخ "يوسف" رحمه الله وحفظت جزء عم وقليلا من جزء تبارك وكان بيتنا يطل على مسجد الشيخ " أبو رويفع" واذهب مع أبى ـ رحمه الله ـ للصلاة في المسجد , ولعل وجود البيت في مقابله المسجد ثم الجو الديني في البيت كانا عاملين أساسيين في التوجه الديني منذ نعومة أظفاري ولقد ساعد " كُـتاب" القرية على سرعة تعلمي القراءة والكتابة وفي عام 1949 حينما التحقت بالمدرسة ... بدأت عيناي تلتهم قراءه كل ما تقع عليه خصوصا الجرائد , فلقد كان جارنا الثرى " عمر دحروج" يحضر له بائع الجرائد " الجرنال" كل يوم وقبل أن تدخل الجريدة له إلى منزله نأخذها من العامل عنده ونقف في الشارع نقرأ الجريدة .. فتفتحت عيناي على الولع بقراءة الجرائد ... وهذه الفترة كانت حافلة بتداعيات ما بعد الحرب العالمية الثانية ومطالبة الدول المستعمرة بالاستقلال ثم يقظة الشارع المصري تجاه المستعمر الإنجليزي ... وكثيرا ما كانت أمي ـ رحمها الله ـ رغم أنها أمية لا تعرف القراءة والكتابة ـ كانت تجلس وتقول في صورة دعاء أو تواشيح أو حتى غناء " يا عزيز يا عزيز .. كبه تأخذ الإنجليز ... وتردد هذه الجملة وهى لا تدرى أنني أتشرب الفكر المترتب على هذه الأغنية في قلبي تشربا .. من كراهية للاستعمار ومن اهتمام بالسياسة وهذا هو الأهم ... فلقد نشأت أتعاطى السياسة والأخبار كما يرضع الطفل اللبن ...وأحيانا لم أكن أجد الجرائد فلا بأس من قراءة ورقه جريده ملفوف فيها الطعمية , فكثيرا ما كان يحدث هذا .

الشارع المصري قبل الثورة :

يقرأ الإنسان كثيرا عن الأحزاب في مصر قبل الثورة ( الوفد - السعديين - الكتلة - الأحرار الدستوريين - الشيوعيين - الإخوان ) ... كل هذه الأحزاب كانت أحزاب ورقية عدا الوفد والإخوان فهما وحدهما أصحاب الظهور الحقيقي في الشارع المصري .. لهما تواجد ظاهر ... وصوت عال ... حركة في المجتمع المصري .. تعاطف من العامة قبل المثقفين حتى أن خفيرا كان يسكن في حارتنا حينما انجب بنتا سماها "وفدية" حبا وتعصبا للوفد .

لكن العائلات الكبيرة كانت تحرص أن يتوزع أبناؤها على الأحزاب المختلفة حتى يكون لهم صوت دائم في السلطة .. فالسلطة - في مصر - مصالح ومنافع وخدمات وهى ضرورية للعائلات الكبيرة ، وقد يجتمع أقطاب الأحزاب المختلفة في عائلة واحدة , ورغم ندرة هذا النموذج ( نموذج الأقطاب ) فلقد كان متمثلا في عائلة واحدة عندنا ـ في قريتنا ميت يعيش ـ هي عائلة الجبيلى فلقد كان فيها الإخوان المسلمون والشيوعيون والوفديون في آن واحد ومن هذه العائلة خرجت الأخت الفاضلة الحاجة زينب الغزالي وقبلها أخوها وكان أمين عام دار الإخوان المسلمين في الحلمية في عهد الأستاذ حسن البنا ألا وهو ( الأخ / محمد الغزالي الجبيلى ) [هناك تشابه في الأسماء بينة وبين أستاذ العصر الشيخ/ محمد الغزالي ] ولقد التقيت بهذا الأخ الكبير محمد الغزالي الجبيلى وابنه ( محمد ) في السجن الحربي ولقد كان فرحا جدا برؤيتي في هناك وأمطرني بعواطفه الجياشة لأننا " بلديات ".

أما الشيوعيون فكانوا قلة ولكنها منظمة ومثقفه وأغلبهم كان في تنظيمات سرية وكان منهم أيضا من عائله الجبيلى على رأسهم الأستاذ الدكتور عبد المعبود الجبيلى رئيس هيئة الطاقة الذرية و " شهدي عطية الشافعي " واحد من أبرز قيادات الشيوعيين في مصر والعالم العربي" وكان ابن أخت الحاجة زينب الغزالي , ولقد توفي من شدة التعذيب في سجن أبو زعبل ... ومن العجب أن ابن أخته الأخرى كان في تنظيم الإخوان المسلمين في عام ( 54 ) ألا وهو " صبري عنتر " وحكم عليه بالسجن عشر سنوات ( وهو من إخوان الشرقية ) .

هذه لمحة من الواقع السياسي في قريتنا وهو نموذج للقرى التي ترتفع فيها نسبة التعليم ويوجد بها عائلات كبيرة وقوية.

فكان من الطبيعي بحكم التدين والواقع الديني أن تكون عواطفي مع الاتجاه الديني ( الإخوان المسلمين ) ... حيث كان للإخوان المسلمين شعبة ( تحت الإنشاء ) في قريتنا وهى ملحقة بالشعبة الرئيسية في القرية المجاورة لنا " ميت أبو خالد " ...

اتخذت شعبة الإخوان ( تحت الإنشاء ) في قريتنا مركزا لها عند تاجر بقالة اسمه السيد أبو العطا ـ رحمه الله ـ يتردد عليها الشباب والأطفال ثم انتقل هذا المقر إلى بيتنا " الجديد " في عام 1951 حتى عام 1954 وفي هذه الأثناء كان سهلا أن أكون طفلا يلعب في الشعبة ويتعرف على كل أفرادها .

ولما كنت ـ آنذاك ـ أملك ـ بفضل الله " أذنا واعية " فكنت أحفظ الأسماء بسرعة مذهلة بل وأستطيع أن احفظ كثيرا مما يقولون .

شعبه ميت أبو خالد :

( ميت أبو خالد ) قرية بها نقطه بوليس , وهى قرية اكثر حضارة من قريتنا .. وكان بها شعبة كبيره للإخوان المسلمين بل كانت في التصنيف الإخواني ـ آنذاك ـ مركز جهاد ( أي منطقه إخوانية ) يتبعها سبعة شعب في القرى المحيطة .. ومن حسن حظ هذه القرية أنه كان بها الشهيد الأستاذ / عبد الحميد البرديني رحمه الله .

عبد الحميد البرديني :

هو مدرس لغة عربية في المدارس الابتدائية ومنها مدرسة قريتنا, رجل صالح , شخصية محبوبة جدا , يستطيع أن يفرض حبه بسرعة عجيبة على كل من يقابله وبالمثل العام ( يحبه طوب الأرض ) كناية عن حب كل المخلوقات له من انس وجن وحيوان ودواب وجماد ... معروف مشهور .. وهو شخص يعمل في دعوة الإخوان المسلمين أكثر من 16 ساعة يوميا بلا انقطاع وبلا أجازة .. همة عالية ـ شخص وسيم , وجهه كله نور ، فضلا عما يتمتع به من حياء المؤمن .. مؤدب .. مهذب .. باختصار كان أقرب الناس شبها للإمام حسن البنا من الناحية الأخلاقية علاوة على هذا فهو رياضي رشيق أليف وودود .

وأحسب أنه كان الشخصية الثانية في الإخوان في محافظه الدقهلية كلها بعد الأستاذ / محمد العدوي ... وكما يحكى علي عشماوى في مذكراته فلقد تحمل عبء تحقيقات (54) هو والأستاذ محمد العدوي وحدهما , وكانا سببا في نجاة أعداد هائلة من إخوان الدقهلية من السجون والمعتقلات في محنة1954 .

نشاط شعبة ميت أبو خالد :

1. خطبة الجمعة

كنت كل صبيحة جمعة تجد أعدادا كبيرة من الشباب الأزهر ي يركب دراجته ويذهب إلى منزل الأستاذ / عبد الحميد البرديني ليوزعهم على المساجد في القرى لأداء خطبة الجمعة مع التوجيه بموضوع خطبة الجمعة وبعد قليل ينطلقون بدراجاتهم إلى هذه القرى يعظون الناس ويعلمونهم أمور دينهم , علاوة على هذا النشاط الرياضي بركوب الدراجات حيث لم تكن الموصلات ـ آنذاك ـ سهلة ومتاحة فكانت الدراجات هي الوسيلة المثلى خصوصا في العزب والنجوع والكفور والقرى الصغيرة التي لم تكن الطرق ممهدة إليها.

2. درس الثلاثاء

كان مبنى الشعبة بيتا قديما مؤجرا مصنوعا من الطوب اللبن , وله فناء واسع وبه عدة حجرات , حجرة بها مكتبة , وأخري بها حديد رياضي رفع الأثقال , وثالثه بها ترابيزة تنس طاولة .

أما الفناء الواسع فكان لصلاة المغرب والعشاء , ويفرش بحصير أثناء الصلاة , وأثناء درس الثلاثاء .

تفتح الشعبة من بعد العصر إلى ما بعد العشاء , وأحيانا كان يقام الليل في الشعبة , وبمدخل الشعبة دفتر لتسجيل أسماء الزوار , ودفتر إيصالات الاشتراكات ما بين قرش صاغ واحد وخمسة قروش للصرف منه على نشاط الشعبة , أو تفريج كربة مكروب حدود الإمكانات المتاحة.

أما درس الثلاثاء فهو موعد اللقاء الأسبوعي الذي يحضره جميع الإخوان وأصدقائهم من القرى المحيطة ليستمعوا إلى خطبة من شيخ أزهري أو زائر للشعبة أمثال الشيخ مصطفى العالم ( من إخوان ميت غمر ) أو الشيخ عبد المتعال الجابري أو الشيخ الشهيد / أحمد نار ( من قرية القبة ومركز منيا القمح ) أو غيرهم من الإخوان الوعاظ والعلماء.

3. لقاءات الأسر

كانت الأسر الإخوانية عبارة عن تجمع من خمسة إلى عشرة أفراد من الشباب أو العمال يجتمعون مرة واحدة أسبوعيا في فناء الشعبة غالبا يوم الخميس وهم صائمون ولهم برنامج واضح ومحدد غالبا

- الحضور قبل المغرب وقراءة المأثورات [ وهى مجموعة منتقاة من الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ] للإمام الشهيد حسن البنا ( ولقد كان عندي وأنا صغير نسخة محققة الأحاديث وظللت احتفظ بها اكثر من عشرة أعوام ) , وتسبيح واستغفار وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .

- صلاة المغرب والسنة البعدية .

- الإفطار عادة فول وخبز وجبن قريش وبعض وريقات الجرجير .

- تلاوة القرآن في حلقة قرآنية .

- صلاة العشاء .

- مدارسة في القرآن ... وأذكر جيدا أنني حضرت وأنا طفل صغير حفظ وتفسير سورة الحجرات لتنمية الجانب الأخلاقي الإسلامي عند الشباب وعادة ما يكون أحد الحاضرين قد قام سلفا بتحضير الموضوع .

- متابعة أخبار جرائد ومجلات ومنشورات جماعة الإخوان

- متابعة ورصد الأخبار العالمية .

- صلاة ركعتين أو أربع قبل نهاية اللقاء .

4. خدمة البيئة

كانت خدمة البيئة تتمثل في أمرين مهمين.

• محو الأمية لبعض سكان القرية أو القرى المحيطة مجانا .

• نظافة الشوارع مجانا .

• الصلح بين العائلات .

• إيقاظ الناس في صلاة الفجر حيث يدور منادى قبل الفجر بحوالي ثلث ساعة يردد "اصحي يا نايم .. قوم وحد الدايم " أو غيرها من الكلمات المسجوعة سجعا جيدا وبصوت جميل ورخيم حيث لم تكن الميكروفونات قد انتشرت بعد .

5. بيع وتوزيع جرائد ومجلات الإخوان المسلمين

حيث كان الإخوان في أنحاء مصر يشكلون شبكة توزيع ممتازة لجرائد ومجلات الإخوان المسلمين مما يجعل المرتجعات من الجريدة أو المجلة يكاد ينعدم ـ فهم ـ يشكلون شركة توزيع قوية جداً ومجانية.

6. إحياء المناسبات الدينية

تعتبر المناسبات الإسلامية مثل المولد النبوي , الإسراء والمعراج , مناسبة الهجرة النبوية , رمضان , موسم الحج . تعتبر مناسبات دينية يحرص الإخوان على التواصل مع المجتمع بإحيائها بعيدا عن البدع والخرافات , ولكنهم كانوا حريصين على عدم الاصطدام بأصحاب البدع في هذه المناسبات حرصا على جمع كلمة المسلمين والذي يجدر الإشارة إلية أن للإخوان رأيا خاص وهو جواز إحياء هذه المناسبات الدينية كفرصة للتواصل والتلاحم مع المجتمع بالوعظ والإرشاد والدعوة والبيان ( خلافا لما تأخذ به التيارات الإسلامية من حرمة الاحتفال بالمناسبات الإسلامية أو إحيائها .

7. الكتائب

كان الأستاذ عبد الحميد البرديني حريصا على هذا اللقاء الشهري للإخوان المسلمين ـ اقصد العاملين من الإخوان المسلمين ـ يجمعهم مرة في الخميس الأخير من كل شهر في مبيت أشبه بالمعسكر يحضر إليه الإخوان العاملون من كل القرى المحيطة والتابعة لمركز جهاد ميت أبو خالد وهذه القرى هي :

شمالاً : الدبونية ـ دنديط , جنوباً : ميت يعيش ـ كفرالمحمدية ـ الحاكمية ـ ابو نجاح ـ كفر رجب ـ القبة ـ عزبة المفتى , شرقا : الرحمانية ـ النخاس ـ حتى القنايات , غربا : صهرجت الكبرى .

يحضر من هذه القرى شهريا حوالي مائه أخ عامل للمبيت في هذا المعسكر في ارض مزروعة حوافها بشجر الجوافة , وبها طلمبة مياه تدفع باليد كتلك المنتشرة في ربوع الريف للحصول على مياه جوفية حضرت كتيبة وأنا طفل عام (1953) , وكان يوما جميلا من أيام الله.

بدأ البرنامج بالمأثورات والاستغفار والتسبيح قبل المغرب ثم صلاة المغرب والإفطار … تعارف حتى صلاة العشاء في فترة حرة .. صلاة العشاء .

محاضرة طويلة لداعية كبير لعله فيما أذكر الشيخ / مصطفى العالم رحمه الله ( وهو من إخوان ميت غمر ) ... مدارسات ( لا أذكرها الآن فلقد مضى عليها خمسون عاما ) .. ثم صلاة الفجر, وفي هذا المعسكر حفظت أسماء كثيرة من إخوان تلك البلاد وخصوصا ميت أبو خالد ( محمد عبد الحي ـ محمد عبد الحميد ـ زكى أبو عزيزة .. وغيرهم ) وكان الإخوان خليطا معظمهم من الشباب وقليل من الشيوخ ... نسبة عالية منهم من العمال ثم طلبة الأزهر الشريف ... موظفون في البريد ــ عمال في النسيج اليدوي ــ فلاحين .

ولقد كنت سعيدا ومبهورا بهذا التنوع الشديد في المستوى الثقافي والاجتماعي .

الهدف الأساسي من الكتيبة

كان للكتيبة عدة أهداف :

• التعارف وتبادل المعلومات والخبرات بل والعواطف .

• تنمية الثقافة الإسلامية وتبادل الكتيبات والجرائد والمجلات الإخوانية .

• ( وهو الأهم ) تربية الجدية والرجولة .. نعم الجدية والرجولة والخشونة هي أهم ملامح هذا اللقاء .

طعام قليل وبسيط ـ ماء قليل سواء في الشرب أو الوضوء ـ نوم قليل وقيام ليل ـ ثم بعد الفجر طابور مشى سويدي وجرى ثم زحف عسكري حوالي مائة متر ... نعم زحف كما يتدرب عليه العسكريون في الجيش .. وبحمد الله كنت في غاية السعادة وشاركت في الطابور كله بما فيه الزحف .. وبعد الطابور غسل الأعضاء وصلاة الضحى ثم الإفطار .. والتعليمات الشهرية والانصراف قبل التاسعة صباحا على اكثر تقدير .

ولم ينس الأستاذ / عبد الحميد أن يهديني برتقالة خصني بها وكان لها اثر طيب في نفسي حيث لا رفاهية في المعسكر .

تركت في نفسي ـ هذه الكتيبة ـ أثرا واضحا لا ينسى .. فإذا أردت دعوة الإخوان ( وهى دعوة الإسلام الحقة) مصيرا .. فليس أمامك إلا الرجولة والجدية والخشونة كمعلم ثابت من معالم حياتك .. فهو ( طريق شاق صعب في مظهره لكنه مبارك ميسر في حقيقته. كما يقول الشهيد سيد قطب ).

خلاصة :

الأهداف الواضحة وراء كل من الأسرة والكتيبة آنذاك :

• تربية الأخلاق الفاضلة كما في من سورة الحجرات.

• فهم دعوة الإخوان المسلمين ( وهو الإسلام نظام حياة. وجمع كلمة المسلمين , والتعرف على الناس بتقديم الخدمات المستطاعة وإشاعة المظاهر الإسلامية كوسيلة للحفاظ على السمت الإسلامي للمجتمع لكن برفق .. ورفق .. ثم رفق .. دون عنت أو إكراه فان الناس ينفرون من الضغط والإكراه إلى اتجاه معاكس ... ثم الإخوان قوم عمليون .. فالعمل عندهم أهم من التنظير) .

• تربية الجدية والرجولة والخشونة عند الأخ الذي اختار السير في هذا الطريق .

• تعويد النفس وتدريبها على دوام الذكر وقراءة القرآن.

• إشاعة الحب والاخوة بين الإخوان وبين والمسلمين . فالحب في الإخوان صفة لا تخطئها العين أبدا بين أفراد الإخوان حتى وصفهم الصحفي الكبير الأستاذ / إحسان عبد القدوس قائلا " إذا عطس أحد الإخوان في أسوان قال له أخوه في الأسكندرية يرحمك الله ."

8. التربية السياسية منذ الصغر

إن دعوة الإخوان تفعل في الأطفال الأعاجيب .. واعجب شيء فيها هو توجيه الاهتمام عند الأطفال منذ الصغر إلى الأمور العظيمة حتى ينشأ الطفل صاحب اهتمامات عليا .. ولا يهتم بما يهتم به الأطفال الصغار عادة ... ولعل أهم مظهر لذلك

• متابعة الجرائد والمجلات .

• من يقول إن طفلا مثلى عمره تسعة سنوات وثلاثة شهور يقف أمام محل بقالة (الشيخ أبو العزم ) لكي يسمع الراديو ويسمع بيان الرئيس أنور السادات وهو يلقى بيان الثورة في 26 يوليو سنة 1952 واذهب إلى البيت واخبر أبى بقيام الثورة وطرد الملك ولم يكن أحد في البيت كله يعلم شيئا عن هذا قبل أن اخبرهم جميعا .

( ملحوظة : كانت أجهزة الراديو قليلة في البلد وكانت عند محلات البقالة لجذب الزبائن أما التليفزيون فلم يدخل مصر إلا في عام 1963 م )

كانت الشعبة ـ الأسرة ـ والكتيبة بالنسبة لي قدر أراده الله لي وأنا طفل صغير , وصادفت كل هذه الوسائل هوى في قلبي جعلني من اشد الناس قناعة بفاعليتها وجدواها كوسائل للتربية ... حتى إنني حينما ذهبت لمقابلة مسؤول الرقابة الإدارية قبل الترقية إلى وكيل وزارة وسألني عن قصة انضمامي إلى الإخوان فقلت له ما معناه " إن الإخوان المسلمين بالنسبة لي كانت قدرا لا أستطيع الفكاك منه فلقد نشأت وحينما بلغت سن الإدراك وجدتني داخل الإخوان المسلمين قلبا وقالبا .. إن شئت فقل إني رضعت دعوة الإخوان المسلمين جنبا إلى جنب مع ثدي أمي رحمها الله رحمة واسعة .. فان كان دخول الإخوان خطا ـ كما تقول الدولة ـ فلا ذنب لي في هذا الخطأ .. فهو مناخ ولدت فيه وليس لأحد أن يختار طريقة ولادته ولا يختار أحد أبويه .. فالإخوان بالنسبة لي كأنها جبر وليس اختيار .. ولكنه نعم الجبر .. والحمد لله

وهذا هو الفرق بيني وبين شاعر ولهان في حب النساء يقول

اختاروا لي أبوي

اختاروا لي أمي

اختاروا لي وطني

اختاروا لي رئيسي

اختارو لي ديني

واخترت أنا حبيبتي

وأنا أقول مثله مع تغيير بسيط " واخترت أنا دعوتي " ورحم الله الشهيد / محمد يوسف هواش نائب الأستاذ / سيد قطب حينما كان يغنى مثل أم كلثوم مناجيا ربه ــ حين يشتد التعذيب في السجن الحربي يقول " كله في حبك يهون " وصدق الله العظيم " ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير(1) "

(ملحوظة : كان من ضمن برامج غسيل المخ في السجن الحربي : هو سماع اسطوانات أم كلثوم طوال الليل بل من العصر إلى الفجر كل يوم حتى تفقد التركيز في الصلاة )


9. المسرحيات الإسلامية

وأذكر أنه بعد قيام الثورة ( ثورة يوليو سنة 52 ) بشهور قليلة جدا ( شهرين على الأكثر ) جاء زائرا قريتنا أحد رجال الثورة وهو الصاغ كمال الدين حسين .. واستقبلناه بنشيد ترحيب به حيث كان قادما لافتتاح الوحدة الصحية والمركز الاجتماعي والثقافي بالقرية ... هذا النشيد كان فيما أذكر من تأليف الدكتور / عبد الله درويش عميد كلية دار العلوم ( بعد ذلك ) ... من مطلعه

كمال حسين شرفنا

وحلّ بأرض ميت يعيش ...

وكنت مع الأطفال الذين ينشدون هذا النشيد وحرصت على القرب منه فوجدت بجواره رجلا من أمريكا وسألت عن اسمه فقالوا : إنه مستر كافرى سفير أمريكا في مصر وهو خبير آثار جاء لمشاهدة بعض الآثار التي اكتشفوها في قريتنا .. والحق أنني ـ رغم طفولتي ـ امتعضت كثيرا .. ثم بعد ذلك طلع علينا الصحفي الكبير/ جلال كشك بكتاب ضخم عن الثورة المصرية والعلاقة الحميمة بين رجالها والحكومة الأمريكية وخاصة السفير الأمريكي مستر كافرى الذي أيد ودعم وآزر الثورة المصرية في ( 52 ) حتى سماها جلال كشك ثورة يوليو الأمريكية .. وكان يحكى أن الاستعمار الأمريكي جاء ليتسلم مقاليد البلاد من الاستعمار الإنجليزي ويحل محله تماما .. هذا ما قاله جلال كشك وقبله كان الأستاذ سيد قطب يدرس هذا لأبناء تنظيم (65 ) ... والحقيقة يعلمها الله عز وجل .

جاءت الثورة .. وجاء كافري وبدأت الأفلام السينمائية تتوافد على قريتنا كأسلوب للترفيه عن أبناء القرية .

وكانت هذه السينما مجانية فواجهها الإخوان بمسرحيات مجانية تجوب القرى في منطقة ميت أبو خالد . ولكنها مسرحيات إسلامية عن الإسراء والمعراج وعن الفتوحات الإسلامية .. بل واستطعت أن أشترك بدور صغير لطفل صغير يقف على خشبة المسرح يواجه الجمهور بلا ارتباك ولا وجل في مسرحية " الإسراء والمعراج " من تأليف الأستاذ / محمد أمين زاهر مدرس لغة عربية من قرية كفر رجب مركز كفر شكر حاليا .

ولكنه أقام ومات بعد ذلك في الأسكندرية وله مسجد تحت بيته في شارع ( لوران ) بالأسكندرية وكان دوري في المسرحية طفل صغير ابن لأبى بكر الصديق يواجه أبا جهل ورؤوس الكفر حينما يسألوه أين أبو بكر فيذهب بهم إليه ويسمع أبا جهل يقول مستغربا ومستنكرا حادث الإسراء والمعراج في أبيات شعرية احفظ منها هذين البيتين

أيمضى إلى أقصى العتيقين ليلة ..... ونمضي إليه أشهرا ولياليا

ويأتي بأخبار السماء وإننا ..... لنجهل قيد الشبر ما كان خافيا

حضرت هذه المسرحية مشاركا وأخرى عن فتح العرب لفارس متفرجا .. وكانت المسرحيتان بديلا جيدا لأفلام الحب والأغراء المصرية التي كانت تجوب القرى آنذاك تحض الصبيان والبنا ت على الحب والجنس والهيام وكأنه ليس له في الدنيا سوى الحب والعشق هذا هو تاسع نشاط للشعبة المركزية للإخوان في ميت أبو خالد

عوده إلى مسيرة الرحلة مع الإخوان :

بدأت العلاقات تسوء بين الإخوان والحكومة في القاهرة في مطلع عام 1954 ولم أكن اعلم عنها شيئا حتى وقع تحت يدي منشور على اعتراضات الإخوان على معاهدة الجلاء مع الإنجليز وكان للإخوان اعتراضات أهمها حق الإنجليز في العودة إلى منطقة القناة إذا هوجمت مصر أو إحدى الدول الحليفة للإنجليز أو تركيا ورفض الإخوان هذه الشروط.

وبالصدفة المحضة اطلعت على التقرير ولا أذكر هل كنت سأقوم بتوصيله من مكان لآخر أم ما هي ملابسات وقوع التقرير في يدي .. ولا أتذكر شيئا بعد ذلك حتى فوجئت بأخبار تملأ البلاد عن القبض على الأستاذ / عبد الحميد البرديني وأنهم أخرجوا سلاحا من عنده كان مخبأ في حائط منزله أو في منزل الأخ / محمد عبد الحي صهر الأستاذ / عبد الحميد البرديني وتم وقف كل أنشطة جماعة الإخوان المسلمين وأصبح كل من يقترب من منزل آل البردينى معرضا للاعتقال , وأغلقت جميع شعب الإخوان المسلمين وانكمش في منزله كل من لم يعتقل , حتى خرج الأخ / سيد البردينى شقيق الأستاذ / عبد الحميد من المعتقل وفتح محلا لتأجير الدرجات , وكان يقوم بالصرف منه على عائلته وعائلة أخيه المعتقل الأستاذ / عبد الحميد .

ولقد كنت أذهب إليه لتأجير دراجة لمدة ليلة كاملة في الليالي القمرية بمبلغ خمسة قروش فعرفني وحرص على توطيد صداقته بي كبديل لأخيه الأستاذ / عبد الحميد , وكانا يعرفان والدي وعائلتي .

وفي أواخر عام 1957 أخبرنا ببعض التفاصيل عن مذبحة طره والتي أخرجها الأستاذ/ جابر رزق في كتاب له بعنوان " مذابح الإخوان المسلمين في ليمان طره " لمن شاء أن يرجع إليه ولقد طبع عدة طبعات أخرها عام 2001 دار اللواء للطباعة والنشر.

وكنت أتردد على الأخ / سيد البردينى بين الحين والحين للسؤال عن أستاذي / عبد الحميد البرديني وتوثقت صلتي بأبناء العائلة جميعا حتى حين ذهبت إلى الجامعة انقطعت الأخبار ولما خرج الأستاذ/ عبد الحميد البرديني من السجن في أواخر عام 1964 ذهبت لزيارته فرحب بي ولكنه كان متحفظا يتحسس أقدامه بين الناس ليتعرف على الناس بعد غياب دام عشرة أعوام .

وأذكر بالفضل كتبا كنت قد تسلمتها مكافأة التفوق عام 1956 في المدرسة منها 14 كتيبا عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثيرا ما كنت أخلو إليها وأبكى وأنا اقرؤوها وهى من تأليف الأستاذ عبد الحميد جودة السحار , وكتابا أخر قيما للأستاذ محمد عطية الابراشى اسمه " الشخصية " .. وهو عبارة عن قصص ونوادر وحكم وأمثال من حياة العرب .. وهو كتاب قيم أتمنى أن يعاد طبعه بواسطة ورثته .. فلقد كان لهذا الكتاب تأثير كبير في حياتي .

ثانيا : رحلتي قبل التنظيم ( 54 ـ 1962 )

في الحقيقة أن مشاعري كانت مع جماعة الإخوان المسلمين منذ الطفولة منذ أن كنا أطفالا نلعب في الشارع , ولم يكن في الشارع السياسي سوى الإخوان المسلمون والوفد , أما الأحزاب الأخرى فلا تكاد تسمع عنها إلا في الانتخابات النيابية .. أما الأطفال فهم تبعا لأهاليهم .. أبناء الوفديين وفديون ... وأبناء الإخوان وأطفالهم كذلك , وهما ـ أي هاتين الفئتين من الأطفال ـ يتصارعون حمية وعصبية ولقد عشت وأنا صغير قليلا من هذا التلاحم أو التدافع بين أطفال الوفد وأطفال الإخوان حتى قامت الثورة فسكت الجميع .. ولكن حين تجد العائلات ذوات الانتماء القديم متنفسا فلا باس من عودة ظهور المتدافعين حمية من أطفال وأبناء العائلات ...

وعادة ما تجد هذا التدافع بين كبرى العائلات أو اكبر عائلتين في كل قرية تنافسا على الشرف والسؤدد والعمودية وعضوية البرلمان وغيرها حيث كانت الانتخابات لأول برلمان نيابي للثورة بعد أحداث 54 وكان ذلك فيما أذكر في عام 56 حيث ترشح عمدة قريتنا في الانتخابات حسين دحروج وفي المقابل من إحدى كبرى العائلات ترشح الأستاذ محمد الجمال وكان رئيسا للاتحاد التعاوني في مصر ونائبا للسيد حسين الشافعي عضو مجلس الثورة آنذاك .. ولما كان الأخير مع الثورة والحكومة اندفع شباب القرية مؤيدا ومناصرا للعمدة الذي يمثل تيارات ما قبل الثورة , وكان من الطبيعي أن أساهم وأنا طفل بإلقاء قصيدة زجلية دعاية للعمدة .. حيث كان رمزه الانتخابي الهلال وأذكر منها . ( هي طبعا ليست من تأليفي )

الهلال .. الهلال .. الهلال خلى بالك من الهلال

إوعى تغلط إوعى تنسى إوعى تركب على الشمال

والضمير الحر دايما عمره ما يتباع بمال

ثم جاء الإتحاد القومي كحزب وحيد للحكومة وبعده الإتحاد الإشتراكي في عام [[1959]] فأقامت العائلات تكتلا انتخابيا وكتبوا اسم والدي كممثل لعائلاتنا في مواجهة قائمة الحكومة السياسية .. ولكن هيهات .. نجحت قائمة الحكومة وسقطت قائمة العائلات .. وبعدها انطفأ الشارع السياسي لمصر .. وتحولت الانتخابات في مصر إلى استفتاء معروف النتيجة سلفا ، وفي هذه المرحلة يمكن ذكر تجربتين أولاهما مع الطرق الصوفية والثانية في مسجد كلية الهندسة بجامعة القاهرة

1- مع الطرق الصوفية :

اعتاد أهل قريتنا مع ظهور هلال شهر ربيع الأول أن يحتفل أهل الطرق الصوفية بالإحدى عشر يوما الأولى من ربيع الأول بعمل حلقات للذكر كنت أراهم وأنا طفل صغير سنويا حتى دخلت الجامعة يقيمون حلقة ذكر من بعد صلاة العشاء حتى بعد منتصف الليل يتمايلون شمالا ويمينا وهم واقفون يرددون " الله حي .. الله حي " على أنغام الناي البلدي الذي يتغنى به عم " خليل " في مقطوعة موسيقية جميلة فيشتد الانفعال على نغمات الناي ويظلون يتمايلون وهم يتصببون عرقا لفترات طويلة حتى عرفت أنها بدعة فتركتها ولكنى كنت اذهب للفرجة واستماع الناي من عم " خليل " رحمه الله .. إذ أن مندوب أو وكيل الطريقة الرفاعية كان ابن عمى ..

وفي اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول كانت الطرق الصوفية تخرج حاملة الرايات الطويلة وتسمى " البيارق " جمع " بيرق " وتجوب القرية في شوارعها الواسعة احتفالا بالمولد النبوي الكريم .

... ومع الصوفية أيضا حيث كانوا يحتفلون في المناسبات بإحضار منشد ديني ينشد القصص الدينية في سجع جميل ومؤثر فكنت اذهب للاستماع إلى هذه القصص الدينية التي كانت تحض على الفضائل مثل الكرم وأحفظها عن ظهر قلب .. تطرقت للسماع إلى ( حواس ) المصري .. كل هذا في الخمسينيات من القرن الماضي حيث الأناشيد الدينية ... والمواويل الإسلامية" جمع موال " .. وقصص الشجاعة والبطولة العربية " مثل قصة أبو زيد الهلالي" حيث كانت تنتشر في الريف ويخرج أبناء القرية وشبابها بل ورجالها للاستماع إلى " أبو زيد الهلالي " و " الزناتي خليفة " ...

ومع الصوفية هناك ثلاث حوادث أثرت في كثيرا , وتعلمت منها " التوحيد "

الأولى :

كان لي قريب متعثر في التعليم وجاءت النتيجة آخر العام وله دور ثان في اللغة الإنجليزية ... فذهب ونذر نذرا للشيخ " أبو رويفع " صاحب المقام المجاور للمسجد ولعل الذين بنوا المسجد عندهم فقه فبنوا المقام خارج المسجد تماما( وان كان ملاصقا لسور المسجد) ... ذهب قريبي هذا وأضاء " شمعتين" أمام مقام الشيخ ونذر له أن يضئ شموعا أخرى في حالة نجاحه في الدور الثاني ... ولكنه رسب في الدور الثاني وكان عليه أن يعيد السنة كلها ... فماذا فعل ! .

أخذ كمية كبيره من الحجارة في حجره .. في جلبابه وذهب إلى المقام وظل يقذفه بالحجارة لان الشيخ صاحب المقام لم يتوسط له في النجاح ... وكان درسا في التوحيد فالنافع هو الله ... والضار هو الله , والنجاح منوط بالمذاكرة والاجتهاد مع توفيق الله .. " إن الله لا يضيع اجر من أحسن عملا "

الثانية :

مع الطرق الصوفية أيضا .. فلقد كانت أمي تنتمي إلى عائلة في الشرقية لهم مقام يزوره الناس سنويا ويذبحون عنده الذبائح وخصوصا " الجدي والماعز " ويطوف مشايخ الطريق البلاد يوزعون البركات على الناس , ومنها بلدتنا , ولكن أمي رحمها الله لم تكن مقتنعة بشيء من هذا على الإطلاق وجاء الشيخ إلى قريتنا , وكانوا يحضرون له حوالي عشرة جرادل على الأقل من الماء ليستحم بها ثم يأخذ كل واحد بضعة لترات من الماء بعد استحمام الشيخ بها ليشفي بها المريض ... أو يداوى بها الماشية ... ولقد نهت والدتي أهل بيتنا عن هذا وعن إحضار شئ من هذه المياه ولكننا كنا في بيت العائلة , وكان عندهم عدد ضخم من " الفراخ " تأخرت في البيض . فذهب بعض من في الدار وبحكم الواسطة والقرابة أحضرنا نصف جردل من مياه استحمام الشيخ وتم رشها على الفراخ ... فماتت جميعها في اليوم التالي وبالطبع فان المياه ليست سبب الموت بل لقد كانت الفراخ مريضة .. وكان هذا درسا ثانيا في التوحيد

الثالثة :

آخر محاولاتي مع أقاربي من الصوفية . فلقد كان أحدهم متخصصا في كتابة ( الأحجبة ) و ( التمائم ) وله زبائن كثيرون ينتظرونه كل عام ويحصل منهم على مبالغ كبيرة" جنية" أو اكثر حسب الحالة " خمسة " أو " عشرة " وأحيانا " خمسة عشر جنيها " للزواج والصلح بين الأزواج وغيرهم وكثر عليه العمل فطلب مساعدتي في الكتابة بماء " الزعفران " وتعلمت منه طريقة الكتابة فأخذت منه النموذج من الكتاب الذي معه وأقوم بالكتابة له ومعظمها آيات من القرآن الكريم ولم تكن أمي مرتاحة لذلك ولكنى كنت متحمسا معه لسببين أولا .. حب الاستطلاع وثانيا طمعا في اجر يصل إلى خمسة جنيهات ( الجنية في ذلك الحين في خمسينات القرن الماضي كان يعادل جنيها ذهبا , وكتبت له حوالي أربعين تميمة معقدة ولم يعطني شيئا طبعا !! فانتهزت فرصة نومه وأخذت الكتاب وقرأته فإذا به كتاب لتحضير الجن وتسخيرهم .. فقلت لا باس من التجربة وطلب امتحانات شهادة الإعدادية , وعقدت العزم ـ وأنا طفل ــ على ذلك طمعا في الأول على المحافظة , إذ أن الأوائل على المحافظات كان أمامهم حلم جميل للذهاب إلى مدرسة المتفوقين الثانوية بعين شمس بالقاهرة ... رعاية وتعليم ومسكن وملبس ومكافأة شهرية سخية علاوة على الحياة في العاصمة .

ولكن عند التنفيذ انتابني خوف شديد ففي الكتاب تحذير من عدم إمكانية صرف الجن .. والحمد لله لم أفعل ولم يتحقق الحلم .. حلم مدرسة المتفوقين .. وكان هذا حفظا من الله ( الحفيظ ) سبحانه وتعالي .

هذه الجولات كانت تتم جنبا إلى جنب مع حبي الشديد لجماعة الإخوان ولم أكن أسأل أو أستشير أحدا فيما أفعل ، ولكنها بلا شك كانت جولات مفيدة ونافعة.

2- مسجد كلية الهندسة :

وذهبت بعد ذلك إلى الجامعة .. كلية الهندسة جامعة القاهرة ... وذهبت إلى مسجد الكلية لأصلى هناك فتعرفت على كل من يصلى في المسجد وتوطدت علاقتي بهم .. لكن لا سياسة ولا يوجد سياسيون ... ومن يتكلم في السياسة فمصيره وراء الشمس ... وفي المسجد وجدت صراعا على الحوائط بين مدرستين كل منهما يكتب مقالا من صفحة أو صفحتين ويقوم بلصقه على الحائط وبعد يومين أو ثلاثة يتم نزع هذه الورقة ولصق ورقة غيرها تنتقد الأولى وتتهمها بالجهل أو الكفر أو الفسوق .

وهاتان المدرستين هما :

• مدرسة الإثبات

• مدرسة التأويل

الأولى تتكلم في إثبات الصفات العليا لله عز وجل وتعيد إلى أذهان الناس مجادلات ومناظرات مضى عليها ألف عام بل أكثر .

والمدرسة الثانية ترى ضرورة التأويل وتتهم المدرسة الأولي بالتجسيم وترد عليها الأولى باتهامها بالتعطيل .... قضايا ليست من اختصاص العامة ... وتزيد عناصر الفرقة والتنافر والتشاحن بين المسلمين , " وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا " وفي هذا المجال لا يفوتني أن أحكي قصة طريفة ...

" جاء رجل من أصحاب المدرسة الأولى مدافعا عن عقيدة المسلمين ومحاربا للبدع والخرافات في الريف ... فوجد فلاحا فقيرا أميا يتوضأ في المسجد وقد حفظ بعض الأدعية القليلة يقولها أثناء الوضوء وهو فرح بها سعيد .. فقال الفلاح حينما أراد أن يغسل وجهه بالماء أثناء الوضوء " اللهم بيّض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " فرد عليه الرجل قائلا " ماوردتش " [ أي أنها ليست من السنة ] فرد عليه الرجل قائلا " خلاص متزعلش اللهم سوّد وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه "

وآخر دخل الأزهر ولم يكمل تعليمه ولكنه درس التجويد ومخارج الحروف فكان يرى أن صلاة الناس باطلة لأنهم حينما يقرؤون كلمة " الضالين " في سورة الفاتحة يفخمون الضاد وهذا صحيح ولكنهم يفخمون معها اللام , فتخرج اللام مفخمة مثل الضاد فكان هذا الرجل لا يصلى وراء الإمام لأن صلاته باطلة لتفخيم اللام في حين أنها من حروف الترقيق .

حوادث بسيطة ولكن لاحظتها عيناي ووعاها قلبي وأنا شاب في القرية فاستنكرت نفسي كل هذا الخلاف والشجار رغم مشاكل المسلمين ... واستقر في يقيني أنه لا بد من حل لمثل هذه المشاكل ... ولا بد من قاعدة مستقرة يمكن أن يقاس عليها كل هذه الأشياء ... ولا بد من منهج يجمع هذا الشتات من المسلمين الذين اتفقوا على ألا يتفقوا !! " إلا أن يشاء ربى شيئا "

وفي مسجد كلية الهندسة توطدت علاقاتي مع كثير من الشباب الذي يواظب على الصلاة ... حتى استقر بنا المقام في مصلى مجاور لقسم الهندسة الكيميائية بكلية الهندسة جامعة القاهرة .. وكان لنا في كل أسبوع يومان طويلان نصلى فيهما الظهر والعصر والمغرب والعشاء في هذه المصلى .. وهناك تعرفت على الأخ الشهيد / فاروق أحمد على المنشاوي , وعلى أعداد كثيرة من أفراد تنظيم (65 ).

بل كل من كان في هذه القضية من طلبة وخريجي هندسة القاهرة وقبل أن أحكي قصتي مع الشهيد / فاروق المنشاوي ـ وهى طويلة ـ أحكي تجربة لي مع زميل آخر لنا اسمه " الشيخ فؤاد " طالب في قسم الهندسة الكيميائية , حاد الذكاء , قوى الذاكرة , هادئ الطبع , حرص على التقرب منى جدا ومصادقتي , وزارني في بيتي وزرته في بيته , وشرح لي مادة صعبة هي علم " الهيدروليكا " وبسبب شرحه حصلت على أعلى درجة في امتحان آخر العام ولكنى فهمتها واستوعبتها تماما وكان لهذا الشرح أثر في حياتي العملية , إذ أن علم " انتقال السوائل "من العلوم الهامة للمهندس الكيميائي ... وفجأة التحق بدعوة التبليغ وارتدى الجلباب , وكان هذا شيئا شاذا جدا ..

فلقد كان الوحيد في جامعة القاهرة بل في جامعات مصر الذي يرتدى الجلابية وتغيب عن دروس العملي , وكان ينام دائما في المحاضرات وانقلب حاله رأسا على عقب ثم حاول أن يقنعني ألا ألبس البنطلون .. لان لبسه حرام , ويجب لبس الجلباب وناقشني , بل وناقش بعض الأساتذة الذين طلبوا منه العودة إلى لبس البنطلون وترك لبس الجلباب لأنه يخالف تقاليد الجامعة وكان ينام في المحاضرات حتى يتمكن من قيام الليل ويقوم بالليل ويصلى ويبكى .. استدعاني والده " عم صالح " من مصر القديمة ظنا منه أنني ألبس جلبابا مثله , ولكنه فرح حينما علم أنني البس البنطلون ..

وبكى والده كثيرا وسهرت معه حتى الصباح لإقناعه دون جدوى ... وتخلف ورسب في الكلية وظل يرسب ثلاثة أعوام حتى قبض عليه في عام (65 ) وذهب إلى المعتقل مع كثير من أفراد دعوة التبليغ وانقطعت أخباره عنى لأنه كان معتقلا في سجن مزرعة طره وأنا لا أدرى عنه شيئا حتى عام 1972 حينما أخليت المعتقلات وذهبنا نحن المسجونين إلى سجن مزرعة طره في يناير 1974 وهناك التقيت بالضابط " إبراهيم حنفي " من مصر القديمة الذي أخبرني أنه استطاع مع ضغوط السجن أن يلبس فؤاد البنطلون ثانية وأن يحلق لحيته (كعربون) مقدم للخروج من المعتقل .. وفعلا خرج فؤاد ..

ولم يعد الشيخ فؤاد بل اكمل تعليمه وصار المهندس المتميز فؤاد ولكن هذه التجربة تركت في نفسه آثارا سيئه للغاية .. ولم أقابله إلا في العراق عام [[1979]] حيث ذهب يعمل هناك في جامعة بغداد معيدا ... ثم مهندسا في المصانع الحربية وذهبت أنا في مأمورية ثلاثة اشهر وهناك رأيت شابا وسيما حليق الذقن جدا , مصفف الشعر ، يتكلم بهدوء كلمة عربي وكلمتين إنجليزي وكل المهندسين العراق يين يحبونه وينادونه مهندس فؤاد ....مهندس فؤاد وتفرست فيه طويلا وقلت لنفسي أنني أعرفه ولكنني اتهمت ذاكرتي .. فالشكل مختلف تماما .. ولما ذهبت إلى دورة المياه مشى ورائي وناداني بصوت خافت .. أرجوك ألا تتكلم عن الماضي الخاص بي فنحن في بلد صدام حسين و[[حزب البعث العراق ي|حزب البعث]] , والمتدينون جزائهم السحل والقتل كما رجاني ألا أتكلم عن الماضي الخاص بي أنا شخصيا واحترمت رغبته .. إلا أن حرصي على أداء الفرائض جعل المهندسين من [[حزب البعث العراق ي|حزب البعث]] ومن الشيوعيين يقولون عنى أنني من الإخوان المسلمين .. وكنت لا أرد عليهم ولي ( في التأول مندوحة ) حتى لا أثير حولي المشاكل في بلد صدام حسين و[[حزب البعث العراق ي|حزب البعث]] حتى انتهت مأموريتي بعد ثلاثة أشهر وعدت إلى وطني مصر ...أما هو فبعد فتره ذهب للعمل في الكويت وبقى بها حتى كتابة هذه السطور .

والحق أنني كنت أحب الشيخ فؤاد لأنه كان يقوم الليل وكان دمث الخلق .. أما طريقته وأسلوبه فلقد ظهر مع السنين الطويلة .. أن ليس هذا هو الطريق .. وليس الهدى الظاهر هو أول ما يهتم به الإنسان .. هذا السؤال وجدت له إجابة شافية في محاضرات الإخوان وفي فقه جماعة الإخوان .. فترتيب الاهتمامات والأولويات قضية هامة جدا في دعوة الإخوان المسلمين .. ولهذا الموضوع عودة أخري إن شاء الله .

الفصل الثاني : الأحوال السياسية والاقتصادية في مصر ( 1954 ـ 1965 )


تمهيد :

بعد حادث المنشية الشهير في أكتوبر 1954 م حيث اتهم جمال عبد الناصر الإخوان بتدبير حادثة لاغتياله , وتم إطلاق الرصاص عليه ( من مجهول ) , واتهم فيها الإخوان المسلمين وتم القبض عليهم واعدم ستة شهداء منهم شنقا , واتهم فيه أحد إخوان إمبابة بالجيزة بإطلاق الرصاص وهو الأخ/ محمود عبد اللطيف وتم إعدامه , وأعدم معه مسؤول الإخوان في إمبابة هنداوي دوير ومسئول القاهرة إبراهيم الطيب رحمهم الله جميعا مع ثلاثة من أبرز قيادات الإخوان هم الأساتذة الشيخ /محمد فرغلى , عبد القادر عودة , ويوسف طلعت ... ولا شك أنه بموت محمود عبد اللطيف دفنت معه أسرار كثيرة.

ولكن الأستاذ / حسن التهامي رجل النظام المقرب في عهد عبد الناصر حكى بعد وفاة عبد الناصر بعشرين عاما أسرارا كثيرة منها

• شراء عبد الناصر لقميص واقي من الرصاص قبلها بقليل جدا .

• استأجر عبد الناصر خبيرا أمريكيا متخصصا في شؤون الدعاية والإعلام " لتلميع " عبد الناصر إعلاميا , ووضع هذا الخبير خطة مفصلة ـ كما حكى حسن التهامي بعد ذلك ـ للتلميع الإعلامي ومن أهم بنودها " افتعال " حادث اغتيال يظهر فيه عبد الناصر رابط الجأش , جرئ , لا يخاف , وانطلقت الرصاصات بعدها بقليل ولم يتحرك عبد الناصر من مكانه ولم تصبه رصاصة واحدة من هذه الرصاصات الستة , وكان في جيبه قلم أحمر فسال الحبر منه كأنه دم ينزف .. وظل عبد الناصر يقول بصوت عال .. أنا الذي صنعت فيكم العزة .. أنا الذي صنعت فيكم الكرامة .. ولم يتحرك , ولم يرقد , ولم يتفاد الرصاص , واكمل الخطبة , ولم يهتز .. فهل كانت هذه الرصاصات " فشنك " .. أم ماذا ؟!! .. علامات استفهام كثيرة ولكن هذا الحادث كان كافيا لتصفية جماعة الإخوان المسلمين في مصر , فتم القبض على حوالي ثلاثين ألفا , في كل سجون ومعتقلات مصر , وتعذيب ومحاكمات , وقتل في التعذيب , وشنق على أعواد المشانق .. وخرج منها عبد الناصر بطلا قوميا

هذه نبذه عن أحداث ( 54 ) .. ولكن ذاكرتي تعي تماما محاكمات الأستاذ / حسن الهضيبي .. كذلك استمعت إلى محاكمات الأستاذ / يوسف طلعت آنذاك . وحكم على حوالي ألف فرد من الإخوان المسلمين بالسجن لمدد مختلفة ما بين خمسة سنوات حتى 25 عاما , بخلاف أحكام إعدام فوق الثلاثين حكما نفذ منها ستا وخفف الباقي إلى الأشغال الشاقة المؤبدة , خلا الجو تماما للرئيس جمال عبد الناصر .. وكان هذا الحادث مبررا قويا للحكم الشمولي لفترة حياة عبد الناصر كلها


أولا : الأحوال السياسية ( 54 ـ 1965 م )

لعل أهم أحداث الثورة قبل عام 1954 كان :

1. تحديد الملكية الزراعية : بحد أقصى مائتي فدانا ( للأسرة ) وتصفية ما أسمته الثورة بالإقطاع , وهو إقطاع يختلف عن الإقطاع التاريخي في أوربا قبل الثورة الفرنسية , ولقد احدث هذا التحديد ضجة هائلة في مصر وأحسب أن رأى الإخوان أنه إذا كان ولابد من هذا التحديد فيحسن رفع الحد الأدنى إلى ستمائة فدان , وتعويض جميع الملاك فورا عن قيمة الأرض المنزوعة منهم ثم توفير رأس المال العامل للفلاح بدون فوائد بنكية ... ولكن الثورة لم توافق على هذا . ولقد كان من نتيجة هذا القرار الثوري بتحديد الملكية أن قل الإنتاج الزراعي بصورة ملحوظة لعدم قدرة المعدمين من الفلاحين على توفير رأس المال العامل اللازم وكذلك تدنى المساحات التي بين أيدي الفلاحين فارتبكت الدورة الزراعية .

2. حل الأحزاب وتكوين هيئة التحرير  : تم حل جميع الأحزاب السياسية قبل حادث المنشية الشهير وتركوا جماعة الإخوان المسلمين وحدهم في الساحة على اعتبار أنها جمعية وليست حزبا , ولم يستبشر الأستاذ / حسن الهضيبي خيرا بهذا الحل واعترض علية تماما وردد المثل العامي المشهور " أكلت يوم أكل الثور الأبيض " ... فقال الأحزاب أولا ثم الإخوان بعد ذلك , واستعاضت الثورة عن كل الأحزاب بتنظيم شمولي هو هيئة التحرير

3-انفصال السودان عن مصر  : كان من شروط الإنجليز للجلاء عن مصر هو فصل السودان عن مصر وهى خطة قديمة لتحويل جميع البلاد الإسلامية إلى كانتونات صغيرة أقرب إلى ( العزب و الإقطاعيات ) منها إلى الدول .. فبعد أن كانت هذه الدول تضمها دولة واحدة هي دولة الخلافة .. اصبح المخطط هو تقطيع أوصال الدول الإسلامية والعربية إلى دويلات ولا بأس من التناحر بينها … ولقد أوفدت الثورة إلى السودان أحد أعضائها البارزين وهو الصاغ ( رائد ) صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة .. وذهب إلى هناك ورقص معهم السامبا .. وفصل السودان عن مصر وعاد ( بخفي حنين ) كما يقول المثل العربي .. وفقدنا الاتحاد مع العمق الإستراتيجي الخطير بل والأمني كذلك .

4- معاهدة الجلاء عن مصر  : كان الفدائيون من شباب الوطن المخلص , ومن أبناء الإخوان ــ بصفة خاصة ــ قد أرهقوا الإنجليز بالعمليات الفدائية .. وكان لابد للاستعمار أن يرحل بدون شروط … إتماما للجهاد الوطني الطويل في مقاومة الاستعمار بدءا من حادثة دنشواي 1906 حتى العمليات الفدائية الكثيرة في ربوع مصر كلها … ولكن رجال الثورة فاوضوا الإنجليز ووافقوا على شروطهم المجحفة وأهمها فصل السودان عن مصر وحق الإنجليز في العودة في حالة أي حرب على أي دولة حليفة لها .. ولقد وزع الإخوان المسلمون آنذاك منشورا يعترض على هذه المعاهدة , ونصحوا رجال الثورة .. ولكن هيهات .. وكان هذا الاعتراض هو بداية المواجهة بين الإخوان والثورة .

5- ضرب جماعة الإخوان المسلمين  : تم توجيه ضربة قاصمة لجماعة الإخوان المسلمين في أكتوبر 1954 لكي يخلو الجو للثورة تماما ... ولقد أحدثت هذه الضربة جرحا عميقا ولم تخل قرية من قرى مصر ( وعددها 4 آلاف قرية آنذاك ) من معتقل أو سجين أو شهيد .


ولعل أهم الأحداث السياسية التي مرت بها مصر في الفترة بين 1954 - 1965 هي :

1. تأميم قناة السويس .

2. شراء الأسلحة الروسية.

3. حرب السويس.

4. مشروع النقطة الرابعة ( مشروع ايزنهاور )

5. بدء بناء السد العالي والانتهاء منه ورأى الإخوان المسلمين فيه

6. الوحدة مع سوريا والموقف من حلف بغداد

7. تأميم جميع الشركات والمصانع والتوجه الاشتراكي للدولة

8. مجانية التعليم الجامعي

9- انفصال سوريh عن مصر .

10- حرب اليمن.

11- التنظيمات الثلاثة ( هيئة التحرير ـ الإتحاد القومي ـ الإتحاد الإشتراكي ).


هذا موجز عن أهم الأحداث السياسية في مصر من عام ( 54 ـ 1965 ) وهي الأحداث التي سبقت ضرب الإخوان في مصر أما أهم الأحداث بعد ذلك حتى عام النكسة الأشهر 1967 فكانت كما يلي :

سنوات الصعود :

كتب الأستاذ / أحمد حمروش(1) مؤلفا ضخما عن ثورة 23 يوليو من ثلاثة أجزاء طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ونشرته مكتبة الأسرة / مهرجان القراءة للجميع , ولقد احسن اختيار هذا العنوان ( ج1 ص 381 ) . إذ أن نجم جمال عبد الناصر بدأ في الصعود بعد تصفية كل معارضيه من :

• الأحزاب القديمة .

• اعتقال الشيوعيين مبكرا.

الإخوان المسلمين .

• المعارضين له من مجلس قيادة الثورة ومنهم محمد نجيب .

• المعارضين له في ثكنات الجيش خصوصا سلاح الفرسان.

• المعارضين له من القضاء ومجلس الدولة وعلى رأسهم المستشار / فرج السهنوري رئيس مجلس الدولة .


ومرت بمصر أحداث ضخمة نوجزها فيما يلي :

1. جلاء الإنجليز : بدأ جلاء الإنجليز عن مصر بعد توقيع معاهدة الجلاء وكان هذا حدثا ضخما في تاريخ مصر , فلقد جثم الاحتلال الإنجليزي على مصر منذ عام 1882 م حتى قيام الثورة والتوقيع على معاهدة الجلاء رغم كل ما فيها من بنود رفضها السياسيون والمناضلون والإخوان ، ولكن الحدث نفسه ، حدث الجلاء عن مصر ، هز مشاعر الشعب كله , وجعله يلتف حول جمال عبد الناصر .

2. المعونة الأمريكية : قدمت الحكومة الأمريكية معونة مبكرة جدا لمصر مقدارها 40 مليون دولار بعد توقيع معاهدة الجلاء مع الإنجليز في أكتوبر 1954 بشهر واحد أي في نوفمبر 1954 وتسهيلات بعشرين مليون دولار كمساعدة لشراء أسلحة أمريكية ويحكى أحمد حمروش أيضا أنها ــ أي الحكومة الأمريكية ــ قدمت ثلاثة مليون دولار منحة شخصية(3) من المخابرات المركزية إلى رئيس الدولة , وهى قضية أثارت اهتمام الكثيرين لما أحاط بها من جدل ولغط , ولما كثر الجدل حولها تم بناء برج القاهرة في منطقة الجزيرة بهذا المبلغ , ولقد أعطى مايلز كوبلاند(4) هذا المبلغ للسيد حسن التهامي .. واتهم الأستاذ / محمد حسنين هيكل اللواء محمد نجيب بتسلم المبلغ ورفع محمد نجيب قضية أمام محكمة الجيزة واضطر محمد حسنين هيكل إلى الاعتذار للسيد اللواء محمد نجيب .

3. حلف بغداد : كانت بغداد قد تحالفت مع إنجلترا وإيران وباكستان لتكوين حلف في منطقة الشرق الأوسط . وضغطت إنجلترا على الدول العربية الأخرى للانضمام إلى هذا الحلف ولكن عبد الناصر حاربها ومنعها من التحالف مع كل من السعودية وسوريا واليمن .. وهكذا صارت بغداد حربا على عبد الناصر بل وخصصت بغداد إذاعة ( أسمتها إذاعة مصر الحرة ) لمحاربة جمال عبد الناصر وكان أحمد أبو الفتح ( رئيس جريده المصري قبل الثورة ) قد هرب إلى بغداد ومن هذه الإذاعة شن حملة شعواء على عبد الناصر .. ولكن عبد الناصر استطاع أن يوقف زحف هذا الحلف وساعد في الانقلاب الذي حدث في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم .. وهكذا حقق عبد الناصر نصرا جديدا في مجال السياسة الخارجية .

4. مؤتمر باندونج : تحالف عبد الناصر مع نهرو رئيس وزراء الهند وتيتو رئيس وزراء يوغوسلافيا لتكوين مؤتمر عدم الانحياز وعقدوا مؤتمرا في باندونج ( عاصمة جزيرة جاوة الغربية في إندونيسيا ) وكان هذا أيضا في خط نجم الصعود للرئيس جمال عبد الناصر , حيث أسس مع زميليه نهرو و تيتو " معسكر عدم الانحياز " للدول التي ليست في حلف مع حلف الأطلسي أو مع حلف وارسو قطبا ذلك الزمان .

5- شراء الأسلحة التشيكوسلافية : اشترت مصر أسلحة من تشكوسلوفاكيا وهى أصلا من روسيا ولكن عبر تشكوسلوفاكيا كما أعلن عبد الناصر بعد ذلك وهكذا صار تسليح الجيش المصري روسيا , بعد أن تباطأت إنجلترا في توريد أسلحة لمصر فلم تورد سوى 23 دبابة فقط من صفقة 80 دبابة ثم تم التعاقد عليها مع إنجلترا أثناء مفاوضات الجلاء وبعد أن رفضت أمريكا استمرار تزويد مصر بالسلاح خوفا من مهاجمة إسرائيل بهذا السلاح , وكذلك امتنعت فرنسا خوفا من تزويد ثوار الجزائر - آنذاك - بهذا السلاح .

6.تأميم قناة السويس  : طلب عبد الناصر من إنجلترا وأمريكا تمويل مشروع السد العالي ولكنهما رفضتا لأن الاقتصاد المصري لا يقدر على إنجاز هذا المشروع الكبير ، فقام عبد الناصر بتأميم قناة السويس والتي كانت في قبضة الفرنسيين منذ حفرها عام ( 1868 م )بإشراف المهندس الفرنسي / ديليسبس وكان لإنجلترا نسبة لا باس بها من الأسهم أما غالبية الأسهم فهي من نصيب الفرنسيين أما نصيب مصر من دخل قناة السويس فكان ضئيلا كما أن إيراد قناة السويس لا يعرف حقيقته إلا هيئة إدارة القناة فقط , وكافة البيانات التي ترسل إلى الحكومة المصرية اقل بكثير من الحقيقة وهذا دأب الاستعمار " لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة "(1) فقام عبد الناصر بتأميم القناة بضربة قوية ومفاجئة لكل من إنجلترا وفرنسا مما زاد من الصورة البطولية لعبد الناصر في نظر الشعب المصري وكان هذا أعلى منحنى للصعود لعبد الناصر ... وصار بطلا قوميا وأقيمت الحفلات وسجلت الأغنيات .. أشهرها أغنية مغنى الثورة عبد الحليم حافظ , والذي كان دائما جاهزا بأغنيات وطنية في كل مناسبة فغنى " إحنا أممنا القناة ... إحنا أممنا القناة " مما زاد من حماس الشعب المصري الطيب والتفافه حول عبد الناصر .

7. حرب القناة في عام 1956 م :

• منذ أن أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس بدأت الضغوط على مصر من العالم العربي ... وبدأ الضغط الاقتصادي بتجميد 112 مليون جنية إسترليني وتبعتها أمريكا بتجميد 60 مليون دولار كانت لمصر هناك ولكنها لم تجمد الأعمال الجارية كما فعلت بريطانيا (1) ولقد كان لسحب أمريكا عرضها بقبول تمويل بناء السد العالي اثر كبير في تأميم قناة السويس وهذا هو الاتهام الذي وجهته إنجلترا لأمريكا , وتصاعدت الأمور وحضر روبرت منزيس رئيس وزراء استراليا رئيسا لوفد المفاوضات مع مصر لتجنب المواجهة العسكرية ولكن مفاوضاته مع مصر فشلت .. طلب منزيس ومعه وزراء خارجية إيران وأثيوبيا والسويد وأمريكا طلبوا جميعا وضع القناة تحت إشراف دولي كحل وسط ولكن مصر رفضت تماما وكان هذا سببا لبدء الحرب على مصر .

• حضر منزيس يوم 2 / 9 /54 وسافر في يوم 4 / 9 / 54 تميع موقف دالاس وزير خارجية أمريكا آنذاك رغم أنه السياسي الذي كان يتبنى سياسة " حافة الهاوية " لدرجة أن خرشوف رئيس الاتحاد السوفيتي كان يسميه الشيطان .. وصار موقف دالاس أكثر ميلا إلى مصر منها إلى فرنسا وإنجلترا ونادى بتكوين جمعية المنتفعين بهيئة قناة السويس .. وتصاعدت الأمور .. واستعدت إنجلترا وفرنسا للحرب مع التنسيق مع إسرائيل (1) .

• سربت أمريكا لمصر عن طريق سفيرنا في واشنطن آنذاك أحمد حسين خبرا باختيار مستر كيتلى قائدا لغزو مصر وانه يدرب رجاله في قبرص .. وهذا تعاون أمريكي مع مصر إذ أن عنصر المفاجأة في الحروب في منتهى الأهمية ورغم ذلك فلقد ترك عبد الناصر وقائد سلاحه الجوى آنذاك محمد صدقي محمود .. تركوا الطائرات المصرية تتحطم على الأرض في 1956 ومن العجب أن نفس المشهد تكرر في عام 1967 م تحت قيادة كل من عبد الناصر ومحمد صدقي محمود ثانية فتحطمت الطائرات المصرية في المطارات بنفس الطريقة , و نفس سيناريو 56 .. وهما علامتا استفهام كبرى ماتتا ودفنتا مع عبد الناصر ومحمد صدقي محمود .

• كانت خطة بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل وموشى ديان هو تحقيق مصلحة إسرائيل باحتلال مضايق ثيران مع شرم الشيخ وجزيرتي ( تيران ) و ( صنافير )(2) لتأمين الملاحة الحرة لإسرائيل في خليج العقبة والبحر الأحمر .. وكان وجود هذا المنفذ لإسرائيل على البحر الأحمر منذ عام 1956 م نصرا عظيما لهم وبداية مرحلة التغلغل الصهيوني في كل دول أفريقيا المطلة على البحر الأحمر , حتى أن بن جوريون صرح أيامها بقوله لقد صرنا دولة عظيمة منذ اليوم ... ولما جلا الإنجليز والفرنسيون بعد الحرب لم يتم جلاء إسرائيل عن المواقع الجديدة حتى حرب 67 وتاهت هذه الحقيقة في أفراح جلاء فرنسا وبريطانيا بعد الحرب

• كانت خطة جمال عبد الناصر هو الانسحاب من سيناء حتى لا يقع الجيش بين جنود فرنسا وإنجلترا من ناحية القناة ومن الناحية الأخرى مع إسرائيل فيصبح بين ( كماشة ) كما يقول العسكريون .. ومن الغريب أيضا أن انسحاب جمال عبد الناصر من سيناء تكرر بنفس الطريقة في عام 1967 م , وكان عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة شخصية غير مؤهلة إطلاقا لقيادة الجيش المصري , ورغم ذلك احتفظ به عبد الناصر قائدا حتى نكسة 1967 .. ثم تخلى عنه .. فقد مات المشير مسموما في 1967 م ويقال انه انتحر , ويقال أن السم قد دس له في عصير الجوافة ومات ومعه أسرار كثيرة .

• انسحب صلاح سالم من مجلس قيادة الثورة في صراحة تامة مع عبد الناصر

• تم اعتقال قيادات الوفد فؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج ومحمد صلاح الدين قبل حرب 56 وكلهم من حزب الوفد... وبعدها بقليل أفرج عنهم .

• تم اتخاذ جزيرة مالطا مركزا للعمليات الحربية على مصر .

• بدأ الضرب في 29 / 10 / 1956 في منطقة القناة كما سويت الطائرات المصرية بالأرض .

• في 2 / 11 / 56 تم ضرب الإذاعة المصرية في أبو زعبل .. وتعاطف الملك حسين ملك الأردن وشكري القوتلى رئيس جمهورية سوريا وأعلنا من إذاعتيهما" هنا القاهرة " .

• قطعت سوريا والسعودية علاقاتهما مع إنجلترا وفرنسا تضامنا مع مصر .

• وجهت روسيا إنذارا يوم 5 /11 إلى كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل .

• وافقت الدول المحاربة على وقف إطلاق النار يوم 6 نوفمبر في منتصف الليل بعد أن انهوا كل العمليات المطلوبة لهم .

• قاومت بور سعيد الاحتلال ببسالة عظمية ... وكان للمقاومة الشعبية موقف عظيم وبطولي للدفاع عن البلاد .

• بدأ الانسحاب في أول ديسمبر وانتهى في 22 ديسمبر 1956 م بضغوط واضحة من أمريكا ورئيسها ايزنهاور في ذلك الوقت مع ضغوط الاتحاد السوفيتي مع ضغط قرار الأمم المتحدة بالانسحاب الإنجليزي والفرنسي من البلاد .

• رفضت إسرائيل الانسحاب من غزة ورفح وشرم الشيخ وجزيرتي تيران وصنافير ومنطقة ساحلها طولها 220 كيلو متر !!! وعرضها 28 كيلو متر بطول خليج العقبة(1) .. وتدخلت أمريكا وضغطت على إسرائيل للانسحاب وعلى مصر لتبقى قوة طوارئ دولية فقط في شرم الشيخ .. وغادرت قوات إسرائيل العريش ورفح وخان يونس وغزة ... وساهمت الصحافة في المواجهة في وصف الجلاء على انه نصر عظيم لمصر وظلت مصر سنين طويلة تحتفل بعيد النصر في 23 ديسمبر ولا أدرى كيف أسموه عيد النصر .. إن هذا الجلاء لم يكن ليتم إلا بضغط كبير من أمريكا أولا ثم من روسيا ثانيا بالإنذار الروسي الشهير .

السدالعالي: كان السد العالي هو المشروع القومي لمصر , وحاول عبد الناصر أن تموله أمريكا أو إنجلترا أو ألمانيا ولكن هذه الدول رفضت تمويله وقامت روسيا بتمويل السد العالي وأحضرت معدات كثيرة ومهندسين وفنيين , وراس صدقي سليمان ـ وزير السد العالي آنذاك ـ المشروع وانتقلت شركة المقاولون العرب إلى هناك بكل معداتها بقيادة المهندس عثمان أحمد عثمان وتكاتفوا لبناء السد العالي وبدء تشغيله في عام 1964 م وكان من أهم فوائده توفير الكهرباء , تحويل ارض الصعيد من ري الحياض الموسمي إلى الري الدائم ... ولكن له ـ كأي مشروع ـ مثالب سوف نعرض لها عند الحديث عن الأستاذ / سيد قطب .. إذ له تركيز كبير على هذا الموضوع .

وبمشاركة روسيا في بناء السد العالي جاءت التكنولوجيا الروسية وتكنولوجيا البلاد الشيوعية , وكلتاهما مختلفتين عن التكنولوجيا الأوربية ... وقامت روسيا والدول الشيوعية ببناء مصانع كبيرة مثل الحديد والصلب في حلوان ومصر للكيماويات في الأسكندرية , ومواد الصباغة في الإسماعيلية ثم نقلت بعد حرب 67 إلى كفر الدوار .. وكان السد العالي حدثا كبيرا في مصر


عودة الصعود :

1. أعلن عبد الناصر عن الدستور الجديد في 16 يناير 1956 وألغى دستور سنة 1923 .

2. تم الاستفتاء على اختيار جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية وحصل على نسبة 99.9 % في 25 يونيو سنة 1956 ومن يومها صارت كل استفتاءات الدول الشمولية تدور حول هذا الرقم الذي ابتدعه جمال عبد الناصر وتبعه آخرون .. ولكن صدام حسين هو وحده الذي رفع النسبة إلي 100%

3. خرج من مجلس قيادة الثورة نهائيا كل من صلاح سالم وجمال سالم وحسن إبراهيم والثلاثة من سلاح الطيران .

4. قام بعسكرة المؤسسات الدينية وذلك بتعين العسكريين

أنور السادات ـ أمين شاكر - حسن التهامي مشرفين على المؤتمر الإسلامي

عبد الحكيم عامر رئيسا لتنظيم الطرق الصوفية مع إلغاء القيود على تسيير مواكبها .

• الفريق / عبد الرحمن أمين رئيسا لكل من الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة المحمدية .

5. قام بتوزيع كثير من الوزارات المدنية والمناصب في الحكومة والشركات على العسكريين فتم عسكرة إدارة معظم أجهزة الدولة

6. ألف كتاب " فلسفة الثورة " .. وكتبه له الأستاذ محمد حسنين هيكل , حيث يبين هذا الكتاب الخط الفكري والسياسي لجمال عبد الناصر .

7. ألغى هيئة التحرير وحل محلها الإتحاد القومي في 28 مايو 1957 وعين كمال الدين حسين سكرتيرا عاما له .

8. تمصير البنوك جميعها في يناير 1957م ونقل ملكيتها للدولة

9. تعين عسكريين للإشراف على الصناعة في مصر .

10. تأميم المصانع في عام 1961 وتعين ضباط من الجيش بالقوانين التالية(1) بخلاف تأميم جمع المصانع في مصر

• قانون رقم 117 بتأميم 149 شركة منها 71 بنكا , 17 شركة تأمين

• قانون رقم 118 بإشراك القطاع العام بحصة لا تقل عن 50% من راس مال 91 شركة .

• قانون رقم 119 بتحديد ملكية أي مواطن بما لا يزيد عن عشرة آلاف جنيه في راس مال أي شركة .

• قانون رقم 120 يقضى بان تكون الدولة هي المصدر الأوحد للقطن

• قانون رقم 123 نقل ملكية وتبعية مرافق النقل العام في مصر كلها إلي الحكومة .


11- التحول الاشتراكي :قدم جمال عبد الناصر كتابه " الميثاق " وقانون " الإتحاد الإشتراكي العربي " إلي المؤتمر الوطني للقوى الشعبية وكان هذا المؤتمر قد تم انتخابه شكليا من القاعدة إلي القمة وأمينه العام أنور السادات وبهذا انتهى دور إبراهيم الطحاوي ( هيئة التحرير ) كما انتهى أيضا الإتحاد القومي .

كان " الميثاق " هو فلسفة حكم عبد الناصر في السياسة والاجتماع وطبع الميثاق ووزع على المدارس ... وصار مقررا دراسيا على جميع شعب مصر صغيرا وكبيرا ... حتى بالغ البعض بوصفه بديلا للقران والإنجيل معا .. وكان من مصوغات تعيين أي موظف أن يكون حافظا للميثاق دارسا له فحفظه الكثيرون عن ظهر قلب . وصار الإتحاد الإشتراكي بديلا للاتحاد القومي ... وعاشت مصر تحت ظل هذا التنظيم الأوحد سنين طويلة .. بل لقد كان معظمهم عيونا على الشعب .. وانتشرت التقارير السرية .. وكثير منها كان كيديا فصار أبناء الشعب عيونا على بعضهم البعض لصالح عبد الناصر الذي كان يفاخر دائما انه يسمع دقات قلوب ...!! فيقول " وأذني على كل قلب "

صارت مصر ... دولة الحزب الواحد

صارت مصر ... دولة الزعيم الأوحد

وأصبحت كل الخيوط في يد الزعيم جمال عبد الناصر

كل هذا كان عن الوضع الداخلي لمصر حتى عام 1965 ... وكان الشيوعيون في السجون من عام 1958 حتى عام 1964 م ( إلا القليل منهم الذي سار في ركب الثورة قلبا وقالبا ووضع في مناصب مرموقة ) حتى افرج عنهم في مايو 1964 م قبل زيارة خروشوف رئيس الحزب الشيوعي السوفيتي لمصر وهو اكبر شخصية في الدولة الشيوعية آنذاك وتسلم الشيوعيون الصحافة ووزارة الثقافة والإعلام

أما الإخوان المسلمون فقد افرج عن المعتقلين في عام 1956 أما المسجونون وعددهم حوالي تسعمائة فلقد أودعوا في سجون مصر من الواحات حتى القناطر الخيرية .

أما حزب الوفد فقد غاص في المجتمع , عدا قيادته التي كانت تعتقل بين الحين والحين , وبعضها قد حددت أقامته جبريا , وبعضهم قد حوكم أمام محاكم الشعب في أوائل الثورة


أما الوضع الخارجي في العالم العربي فكان كالآتي :

1- حرب اليمن (1961 - 1967 ): ساعد عبد الناصر على انقلاب في اليمن , وذهبت قوات مصر ية كثيرة من جميع فروع الأسلحة إلي هناك وتكبدت خسائر كبيرة ولكن استتب الأمر لحكومة موالية لمصر حتى عاد الجيش المصري إلي مصر بعد نكسة 1967 .

2- السعودية  : كانت العلاقات تتأرجح بين المد والجذر حتى ساءت بعد حرب اليمن إلي عام 1967 م حيث تعاطفت السعودية مع مصر ثانية .

3- العراق  : حارب عبد الناصر حلف بغداد .. إعلاميا وانتصر عليه ثم حدث انقلاب عبد الكريم قاسم بمساعدة عبد الناصر وحدث تقارب مع عبد الناصر حتى وفاته .

4- سوريا  : كانت الدولة السورية تعج بالمشاكل الاقتصادية والسياسية فبادرت إلى الاتحاد مع مصر عام 1958 لحل مشاكلها وتنازل الرئيس السوري شكري القوتلى عن رئاسة الجمهورية العربية المتحدة ( مصر وسوريا ) إشباعا لرغبة الزعيم البطل في الرئاسة وتم لسوريا ما كانت تريد وبعد ثلاثة سنوات وقعت الوحدة في مستنقع حزب البعث وخلافاته وكما يقول السوريون آنذاك ... مصر بها ثلاثين مليون نسمة وزعيم واحد لكن سوريا بها ستة مليون نسمة وستة مليون زعيم .. وتم الانفصال في مأساة درامية أهانوا فيها المشير عبد الحكيم عامر إهانة بالغة وعاد من دمشق بخفي حنين , ولم يبق على ولائه لمصر من السوريين إلا عبد الحميد السراج مدير المخابرات هناك الذي جاء إلي مصر وعينه الزعيم رئيسا لهيئة التأمينات وظل رئيسا لها حتى مات بعد أكثر من ثلاثين عاما

5- الحكومات العربية الملكية : ساءت علاقات مصر بالدول التي يحكمها ملوك إذ أن عبد الناصر كان يحاول دائما عمل انقلابات على الدول الملكية لتحويلها إلي جمهوريات فساءت علاقاته بكل من السعودية وليبيا والعراق والمغرب وتونس .

6-كان دور مصر في هذه الفترة هو تصدير الثورة إلي الدول الأ فريقيه والآسيوية كفكر أيديولوجي عند الرئيس جمال عبد الناصر حتى انه كان في هذه الفترة فيلم اسمه " الثورة على السفينة بونتى " فشاع بين الناس نكتة أن الرئيس عبد الناصر استدعى مدير مكتبه وطلب منه إرسال برقية تشجيع لرجال الثورة على السفينة بونتى!!

وكانت مصر ملاذا للثوار من تونس والجزائر والكونغو بل إن بعضهم تزوج من مصر … فالرئيس نيكرومى تزوج السيدة فتحية من مصر وسميت فتحية نكروما … والرئيس باتريس لومومبا له شارع باسمه في القاهرة .. ولجأت زوجته إلي مصر بعد ثورة قائد جيشه السيد / تشومبى

وتوطدت علاقات مصر مع زعيم كوبا كاسترو وصار نائبه جيفارا من الأبطال العظام في الإعلام العربي المصري .


ثانيا : الأحوال الاقتصادية (54 ـ 1965 م )

يحكى المؤرخون انه فبل الثورة كان حوالي نصف بالمائة من أبناء مصر يملكون اكثر من خمسين بالمائة من ثروة مصر .. وباقي الشعب من طبقة الفلاحين المعدمين يملكون الباقي ولكن بعد الثورة وقوانينها الإشتراكية وأهمها :

1. تحديد الملكية الزراعية بمائتي فدان ثم عدلت إلي مائة فدان فقط ووزعت الأراضي على الفلاحين المعدمين .

2. تأميم المصانع والشركات والبنوك .

3. مجانية التعليم في الجامعة اعتبارا من أغسطس 1960 م بجوار مجانية التعليم قبل الجامعي قبل قيام الثورة.

هذه القوانين الثلاثة إلي جوار الإتحاد الإشتراكي الذي كان يساهم في تعين أي عدد في وظائف الحكومة والشركات .. هذا إلى جوار سطوة نقابة العمال ونفوذ رؤساء الإتحاد الإشتراكي في القرى والمصانع . ساهم كل هذا في صنع طابور طويل بالملايين من الموظفين في الحكومة والقطاع العام بلا خطة واضحة رغم إنشاء ( ديوان الموظفين ) منذ عام 1957 تقريبا ... كل هذه الأسباب أدت إلي إنشاء طبقة الموظفين .. وصارت هي الطبقة الغالبة في الشعب المصري حيث شكلت حوالي 60% بالمائة من أفراد الشعب .. وتحول الشعب كله إلي موظفين عند الدولة أو عمال .. أو فلاحين معدمين ... وكانت طبقة الموظفين هي الدرع الواقي لنظام جمال عبد الناصر وظلت كذلك سنين طويلة حتى جاءت الخصخصة في أواخر تسعينيات القرن الماضي في محاولة جادة لمحو هذه الطبقة بعد دخول القطاع الخاص ورأس المال الأجنبي , والجامعات الأجنبية والجامعات الخاصة, والمطاعم الأمريكية .. وكما تكونت طبقة الموظفين في حوالي خمسين عاما فإنها سوف تستغرق ـ فيما احسب ـ خمسين عاما أخرى لمحوها إذ هي متغلغلة في ربوع الشعب المصري وهى الطبقة التي تجد قوت نفسها ـ بالكاد ـ كل شهر .. والمرتب يكاد يفي بالحاجيات المتواضعة عند هذا الشعب الذي يستطيع أن يعيش على الكفاف .. ولقد وجدت لها تعبيرا بالغلة الانجليزية : Those who find it difficult to make two ends meet. ، أي التي يكاد دخلها يفي بصعوبة لاحتياجاتها

وهذا الشعب صبور جدا ... إذ من أدبياته المثل العامي الشهير في بلادنا في الوجه البحري " إذا وجد العيش ( الخبز ) صار الملح شبرقة ( رفاهية ) " .. فوجود الخبز وحده كطعام كاف جدا , وإذا صار معه الملح طعاما يؤكل بالخبز فهذه هي الرفاهية بعينيها .

ورغم معرفة عبد الناصر بذلك جيدا فإنه فوجئ تماما في عام 1965 بتنظيم الإخوان من أبناء طبقة الموظفين كله تقريبا بل ومن مثقفيها الذين كان يمن عليهم انه علمهم في جامعاته وعينهم في وظائفه .

أما عن الحالة الاقتصادية... فلقد تسلمت الثورة مقاليد الحكم وإنجلترا مدينة لمصر بحوالي مائتي مليون جنية إسترليني .. أما الآن ( 2003 ) فمصر مدينة للعالم الخارجي بحوالي 40 مليار دولار . بخلاف الدين المحلى الذي يوازي مثل هذا الرقم تقريبا .

ولقد كان لتأميم القناة والبنوك والمصانع والشركات سببا مباشرا في توفر السيولة وإمكانية إدارة محفظة مالية جيدة لمصر لولا أن كل قطاعات الحياة في مصر كان يشرف عليها العسكر الذين ليس لأغلبهم خبرة في الاقتصاد ولا في الإدارة .. إلا من رحم ربى ... وقليل ما هم .

أما السد العالي فقد كان قرار بنائه فعلا يحتاج إلي تمويل ضخم ولا شك انه استنزف كثيرا من موارد البلد ولكن عبد الناصر كان يصرح دائما أن السد العالي اكبر سبعة عشرة مرة من الهرم الأكبر ( هرم خوفو ) . وللإخوان رأى في السد العالي سوف نعرض له عند الحديث عن الفكر السياسي والاقتصادي للتنظيم .

الشيء الأهم في الاقتصاد انه منذ بداية الثورة حتى وفاة الزعيم عبد الناصر .. لم تقدم إلي المجلس النيابي ميزانية واحدة على الإطلاق


الفصل الثالث : الخريطة السياسية في مصر (54 ـ 65 )


تمهيد :

حرص جمال عبد الناصر على سرعة تصفية كل الشارع المصري من جميع السياسيين , بمحاكمات عسكرية تحت مسميات مختلفة وتنتهي هذه المحاكمات إلي السجن أو الاعتقال , والتشريد , ومصادرة الأموال , ولا بأس أحيانا بالتشويه والطعن وإساءة السمعة في ضربات عنيفة وموجعة كأنه اعتنق مذهب عنترة بن شداد حين سئل عن سر قوته فقال " أعمد إلي الضعيف الساقط فأضربه ضربة يخر لها قلب الشجاع " وبذلك قضى عبد الناصر على كل سلوك سياسي أو فكر سياسي وحاول جاهدا ـ وهيهات ـ أن يكون الحزب الواحد هو البديل للحريات ... وان تكون الحريات هبة من الحاكم ,يمنحها حيث يريد , ويهبها منة منه وفضلا إذا شاء ... وبذلك خرست كل الألسنة في مصر حتى مات .. وعرفت مصر القوانين الاستثنائية , وقانون الطوارئ , وغيرها من كثير من القوانين سيئة السمعة .. فلم يعد في مصر سياسة أو سياسيون .. ولكن ببغاوات يسبحون بحمد الحاكم , ويرددون كلماته كأنها كلمات مقدسة .. تحت بطش سيف المعز وذهبه .

وعرف الناس تعبير " وراء الشمس " ، فهذا المكان ( أي وراء الشمس ) هو المستقر والمستودع لكل من قال : لا .. أو حتى فكر أن يقول لا .. أو يأتي برأي بديل ..وصار نصف الشعب جاسوسا على النصف الأخر . واصبح الانضمام إلي حزب الحكومة هو صك الغفران لدخول جنة الثوريين " يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا"(1) .. فماء الثوريين سراب كسراب الصحراء .. وجنتهم هي الجحيم حقا وصدقا فبعد ثلاثة عشر عاما من الحكم الشمولي غرقت مصر في نكسة .. سوف تستغرق الأمة العربية قرنا كاملا على الأقل حتى تفيق من هذه النكسة .. وسوف أسجل هنا بعض الإجراءات القمعية التي أخرست كل الألسنة .. إلا ما رحم ربى .. " وقليل ما هم " .. وكان تنظيم (65 ) هو من هذا " القليل " مما جعله صدمة قوية لحكم عبد الناصر .. وارتفعت شعارات وراجت أمثلة شعبية منها عن قصد واضح تماما

" اللي يجوز أمي أقول له يا عمى "

" إذا لقيت بلد تعبد العجل .. حش وأرمي له "


فقامت الثورة بما يلي :

1- تحديد الملكية :

تحت مسمى تصفية الإقطاع فأصحاب الأملاك الكبيرة هم الإقطاعيون السياسيون .. فوجهت لهم ضربة مبكرة جدا تحت مسمى " قانون الإصلاح الزراعي " وتحديد الملكية الزراعية " بمائتي فدنا " ثم خفضت إلى " مائة فدان واحدة " ، وحوكم عدلي لملوم باشا أحد الأثرياء وحكم عليه بالسجن المؤبد في محاكمة عسكرية سريعة جدا . - صدر قانون الإصلاح الزراعي بعد شهرين من بداية الثورة في 9 سبتمبر 1952م.

- مجلس عسكري " محكمة عسكرية " لمحاكمة عدلي لملوم بعدها بقليل جدا , أعضائها العسكريون الذين هم الضباط عبد المحسن أبو النور , حسن فكرى الحسيني , أحمد عبد الله , فتح الله رفعت , عبده مراد . وبالطبع هذه الخطوة .. خطوة تحديد الملكية .. كانت أول محاولة ناجحة لصنع قاعدة جماهيرية للثورة .. وقد كان .


2- إلغاء الدستور وحل الأحزاب :

لا شك أن القانون و حرية الأحزاب هي المانع الذي يواجه طغيان أي حاكم فأصدر الحاكم

- بيانا يطالب الأحزاب بتطهير نفسها بنفسها من أعداء الشعب .. وهذا فخ وقع فيه حتى حزب الوفد ذو الجذور العريقة في الشعب فأصدر قرارات بفصل بعض كبار رجاله مثل محمود عبد اللطيف وزير الشئون الاجتماعية قبل الثورة .

- حل جميع الأحزاب السياسية في مصر عام ( 17 يناير 1953 ) عدا الإخوان المسلمين فكانت جمعية ولم تكن حزبا ويومها لم يستبشر الأستاذ / حسن الهضيبي خيرا ... وعلم أن الدور القادم على الإخوان المسلمين حيث كان عبد الناصر يعلم قوة الإخوان المسلمين فأراد أن يبطش بالجميع ثم يتفرغ للإخوان المسلمين بعد ذلك .

- وهكذا بعد الثورة بستة أشهر قضى على أثرياء مصر وحلت جميع الأحزاب , وأعلن مصطفى النحاس زعيم الأمة تخليه عن العمل السياسي

- إلغاء الدستور : في 13 / 1 / 1953 تشكلت لجنة لوضع دستور جديد يلائم الوضع الثوري الجديد في مصر ويلبى كافة رغباته .

- اعتقال السياسيين : في 18/ 1 1953 تم اعتقال  : 144 شخصية كبيرة من رجال الأحزاب ، 48 شيوعيا ، 39 بتهمة الاتصال بجهات أجنبية


3 - محكمة الغدر ( 25 / 5 / 1953 ) :

وذلك لمحاكمة رجال القصر الملكي وبعض قيادات الأحزاب .. وهى محكمة عسكرية أيضا.

وحاكمت كريم ثابت ( القصر الملكي ) والمهندس عثمان محرم ( حزب الوفد ).. وعائلة الوكيل أصهار مصطفى النحاس ولكنها لم تكن كافية .. في نظر رجال الثورة وكان عملها محدودا فتم تشكيل محكمة الثورة ... وأذكر انهم في محاكمة المهندس عثمان محرم حاكموه على إنشاء كوبري طلخا الذي يربط بين مدينتي المنصورة وطلخا وأنه لا جدوى له فقال لهم انه مستعد لدفع ثمن الكوبري وتحديد مليم واحد تذكرة لعبوره فقالوا أن هذا سيجمع لك ثروة طائلة فقال هذا دليل براءه .. وهو حتى الآن كوبري شامخ يخدم محافظة بأسرها هي محافظة الدقهلية .


4-محكمة الثورة :

وهى محكمة عسكرية لمحاكمة عدد أكبر من رجال الأحزاب ( 34 متهما ) وكتب على باب المحكمة قولة تعالى " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " ... أما المتهمون فهم

ـ من الوفد ( 6 ) إبراهيم فرج ـ محمود سليمان غنام ـ فؤاد سراج الدين ـ ( زينب الوكيل ) ـ محمود أبو الفتح ـ حسين أبو الفتح - من رجال الملك ( 3) كريم ثابت ـ أحمد النقيب ـ محمد حلمي حسين

- من رجال القضاء (1) النائب العام الأسبق كامل قاويش

- من حزب السعديين (1) إبراهيم عبد الهادي

- من حزب الأحرار الدستوريين (1) أحمد باشا عبد الغفار

- ضابطان من الجيش (2) عقيد / عبد الغفار عثمان , وعميد أحمد شوقي

- من الجواسيس (13) بتهمة الجاسوسية

- من الشعب (3) بتهمة ترويج الشائعات

- من الشعب (2) بتهمة التستر على الاتصال بجهات أجنبية

ويذكر أن أطول محاكمة كانت محاكمة فؤاد سراج الدين إذ استمرت (45) جلسة وصدرت أحكام بين الإعدام (6) والمؤبد وغيرها .. أما البراءة فكانت لأربعة فقط بدأت المحكمة في (10/ 53 ) وانتهت في ( 4/ 54 )وبعدها بستة اشهر فقط بدأت تصفية جماعة الإخوان المسلمين

ولم يخف توجهاته فلقد أعلن فور انتهاء محكمة الثورة والتخلص من رجال الأحزاب بالسجن .. انه مستعد ألان لمحاكمة الإخوان المسلمين .. ولكنه أجّـل ذلك ستة شهور لمزيد من التدبير


5- اعتقال الشيوعيين  :

جاء هنري كوريل ( اليهودي ) إلى مصر قادما من أوربا , وأسس التنظيم الشيوعي السري إلى تحول بعد ذلك إلى عدة تنظيمات منها حزب " حدتو " ، " الحزب الشيوعي المصري " وغيرها وكان يضم كثيرا من رجال الفكر والثقافة في مصر والغالبية العظمي منهم حملة الشهادات العليا , واندس بعضهم في الأحزاب الأخرى مثل الوفد وغيره , واندس بعضهم مع رجال الثورة وفرح بهم عبد الناصر .. فهم ثوريون .. انقلابيون .. دمويون ... مفكرون ومنظرون وسياسيون ..وهم أيضا ظنوا انهم قادرون على ابتلاع الثورة فابتلعهم عبد الناصر .. بل ظنوا أن عبد الناصر منهم .. واشهد انه كان بارعا في إقناعه أن توجهاته مثل توجهاتهم جميعا في القضاء على الإقطاع والرجعية .. ودخلوا معه في تنظيمه .. بل أن أحدهم ( يوسف صديق ) كان المنفذ الحقيقي للثورة ليلة 23 يوليو ولكن بعد أن استتب الأمر لعبد الناصر .. ماذا فعل :

- فصل يوسف صديق .. وأودعه في مستشفي الأمراض العقلية ثم حدد إقامته حتى مات .

- خيّرهم بين سيف المعز وذهبه فانقسموا فريقين .. فريق عقائدي .. دخل السجون والمعتقلات ، وما يكاد يخرج منهما حتى يدخل من ( 53 ــ 64 ) بل إن شهدي عطية الشافعي وهو من كبار منظريهم قتل في السجن بعد ذلك, وفريق آثر السلامة وسار في ركب الثورة ونهل من خيراتها وصاروا وزراء وكبار سياسيين وكتّاب وبهذا حطّم التنظيم الشيوعي.

وثمة شي أهم من ذلك .. هو أن عبد الناصر كان له توجه علماني .. ولاأكاد أقول إلحادي .. إذ أنه كان يشك في وجود " يوم القيامة " ولقد صرح أحد كبار الصحفيين بعد وفاته .. حيث سأله قبل وفاته بيوم قائلا " يا ..... هو فيه صحيح ( آخرة )..قال له " بيقولوا كده يا ريس " .. قال تبقى " داهية سوده " ثم مات بعدها .

نعم كان للشيوعيين وظيفة فهم أقدر الناس على هدم الدين في حنكة بالغة ... وقدرة عالية على التشكيك في ثوابت الأديان .. فهم الذين هدموا الدين في أوربا الشرقية .

وهم أقدر الناس على حرب الإخوان المسلمين .. والإسلام

وهم أقدر الناس على مناقشة وملاسنة المتدينين , ولقد قاموا بهذا الدور بكفاءة عالية ولا شك .

أما العقائديون منهم فهم من سجن .. إلي معتقل .. ويا " قلب لا تحزن" كما يقول المثل العامي .. حتى تابوا عن الشيوعية الحقة ( فيما عدا شهدي الشافعي ) وخرجوا من السجون في عام 1964 بعد عذاب مرير في السجون .

- كانت الحرية هي الاستثناء للشيوعيين منذ عام (1964) حيث سجنهم إسماعيل صدقي .

- أفرج عنهم عبد الناصر بعد أيام من قيام الثورة عدا 17 شيوعيا وبقوا كخميرة لمعتقلين جدد .. وعبرة لمن تسول له نفسه.


6- قام عبد الناصر بتوجيه ضربة قاصمة لجماعة الإخوان المسلمين في 29 أكتوبر 1954 بعد محاولة الاغتيال المزعومة.


والخلاصة : وبهذه الضربات الستة خلا الجو تماما لرجال الثورة , ولم يعد هناك في الشارع أي فكر سياسي , أو توجيه سياسي , أو وجهة نظر معارضة .. بل إن الشعب المصري الذي يعبر دائما عن وجهة نظر في نكتة أو فكاهة ... هذا الشعب علّق على شعار الرئيس عبد الناصر " ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد " ... قال الناس ... ارفع رأسك يا أخي .. فمن رفع رأسه قطعناها ..

وحاول عبد الناصر أن يملأ الفراغ السياسي في البلد بتنظيماته الثلاث :

- هيئة التحرير ( بقيادة إبراهيم الطحاوي )

- و " الإتحاد القومي " بقيادة كمال الدين حسين

- و" الإتحاد الإشتراكي " بقيادة علي صبري

ولكن هذه التنظيمات الشمولية لم تشبع رغبة أحد من الشعب ومحاولة ثانية من عبد الناصر .. هي إيجاد إطار فكرى لهذه التنظيمات فصدر الكتاب الأول " فلسفة الثورة " في أوائل الثورة وصدر الكتاب الثاني " الميثاق " في عام 1961 م

وهما دليل فكرى أراده عبد الناصر شرعة ومنهاجا للشعب .. ولكنهما كذلك لم يفلحا في أي قبول فكرى عميق عند الناس .

بقيت كلمة أخيرة هي أن كثيرا من الشيوعيين أظهر تخليه عن قيادته التنظيمية صراحة .. وأدار ظهره لقيادته وذهب إلي معسكر عبد الناصر .. واستطاعوا أن يتأقلموا مع التوجيهات الشمولية الجديدة وينخرطوا فيها ويتبؤوا أعلى المناصب السياسية وال


الفصل الرابع : الخريطة الدينية في مصر (1954 ـ 1965 م )


تطورت الخريطة الدينية في عهد عبد الناصر في الفترة من ( 54 ـ 65 ) تطورا سريعا مع بداية الثورة وتمثل هذا التطور فيما يلي .

1. حل المحاكم الشرعية : ولقد كانت هذه المحاكم مختصة في النظر في شؤون الأسرة المسلمة وفق القوانين الشرعية الإسلامية في الزواج والطلاق والصلح والحضانة والرضاع والميراث وكل ما يتعلق بشؤون الأسرة .

وتحكمها الشريعة الإسلامية تماما ولها قضاة من خريجي الأزهر الشريف ( كلية أصول الدين وكلية الشريعة ) وهم أناس من حملة التخصص ( أي ما يعادل الماجستير في الشريعة الإسلامية الآن ) هم عادة يلبسون الزي الأزهر ي المميز .. وكان هذا آخر ما بقى من ملامح الخلافة الإسلامية بعد القضاء على الخلافة وصدور دستور ( 1923 ) ولكن حكومة الثورة منذ خطواتها الأولى راحت تلفق قضية لاثنين من أفاضل القضاة الشرعيين وهما الشيخ محمد الفيل والشيخ سيف وكان ذلك مبكرا في أوائل عام 1955 حيث تذرعت الحكومة بهذه التهم الملفقة لهذين القاضيين الفاضلين وقامت بحل المحاكم الشرعية في مصر كلها .. ومن يومها فقد تحول اختصاص المحاكم الشرعية إلي المحاكم العادية .. ومن الأعجب أن الحكومة الآن ( 2003 ) وبعد نصف قرن من هذه المأساة القانونية تدرس بجدية تكوين محاكم خاصة لـ " الأسرة " تختص في نظر كافة القضايا التي تتعلق بالأسرة .

ولقد كان لهذه الضربة هدفان :

الأول : حل المحاكم الشرعية كمظهر إسلامي.

الثاني : توجيه رسالة لرجال الأزهر ... فكل من تسول له نفسه أي شئ ... فسوف يلقى نفس المصير .. فضيحة .. وتشريد ...

ولقد انتبه الإخوان المسلمون مبكرا لهذا التوجه العلماني ... والذي كان يصاحبه صراحة إعلان عبد الناصر أن مثله الأعلى هو كمال أتاتورك .. فالخطوات مبكرة جدا وتكشف اللثام عن عداء سافر للمظاهر الإسلامية التي تشكل الوجه العام للمجتمع .


2. علماء الدين :

جرى ترويض سريع لمشايخ الأزهر .. فلقد كان المشايخ - تحت التهديد ـ جاهزين بفتاوى تحلل كل ما أحلته الثورة وتحرم كل ما حرمته الثورة ... وإلا فمصير الشيخين سيف والفيل جاهز تماما ... ولعل من أخطر الفتاوى التي أحرج فيها رجال الأزهر , ورجال دار الإفتاء سواء بسواء هي :

- تحليل الفوائد البنكية على يد شيخ الأزهر الشيخ شلتوت التي تورط فيها ثم تاب بعد ذلك وندم ندما شديدا

- التوقيع على إعدام كل من خميس والبقري بعد صدور حكم المحكمة العسكرية بإعدامهما ... والتوقيع على حكم إعدام قيادات الإخوان المسلمين

- البيانات التي صدرت بتجريم جماعة الإخوان المسلمين والتنديد بها خوفا من الحاكم ولا يفوتني أن أذكر شجاعة كثير من العلماء ورجال الدين في الاعتراض على كثير من الفتاوى والأراء التي تتبناها الحكومة وهم كثير من أمثال فضيلة الشيخ أبو زهرة وغيره من العلماء الأفاضل .


3. الإعلام :

وهذه إشارة عابرة على ( الجمهورية ) جريدة الشعب آنذاك .. فقد كان هناك عمود يومي ديني يكتبه فضيلة الشيخ محمد سعاد جلال وهو من مؤسسي الحزب الشيوعي في مصر .. وظل عموده هذا سنين طويلة جدا امتدت بعد وفاة عبد الناصر والسادات .

وبين الحين والحين كان هناك عمود يكتبه الشيخ على الخفيف بعد أن رضى عنه رجال الثورة ... لأنه كان من المجيزين لعمل البنوك فيما أذكر 4. الأزهر الشريف  :

جرى تطوير الأزهر الشريف عام ( 1961 ) بعد أن كان مقتصرا على كليات ( اللغة العربية ـ الشريعة ـ أصول الدين ) وقاد عملية التطوير الدكتور / محمد البهي ..وهو أستاذ في الفلسفة الإسلامية ويحمل درجة الدكتوراه من ألمانيا ... فصارت كليات الأزهر الأصلية جزءا من جامعة كاملة تشمل الهندسة والطب والصيدلة والزراعة ..وهى مقصورة على حملة الثانوية الأزهرية من أنحاء مصر .. وقلّ التركيز على العلوم الشرعية واللغوية ... وهى تجربة لها مؤيدوها الذين يرون للطالب الأزهر ي حقا في الحياة المدنية أسوة بزملائه خريجي المدارس الثانوية العادية .. كما أن للتجربة معارضوها الذين يرون في التجربة بعدا شديدا عن أصل نشأة الجامع الأزهر المتخصص في التعليم الديني .. وهم يرون أن قلعة من قلاع الدين قد فرغت من مضمونها تحت مسمى التطوير. وأصبح مستوي خريجي جامعة الأزهر من جميع الكليات القديمة مستوي ضعيفا إلا القليل


5. تشجيع الطرق الصوفية :

شجعت الدولة الطرق الصوفية كثيرا كبديل لتفريغ العاطفة الدينية في اتجاه يبتعد كثيرا في مظاهره عن حقيقة السنة النبوية مثل الموالد والأضرحة .. ولقد عينت الثورة المشير عبد الحكيم عامر رئيسا أعلى للطرق الصوفية .. رغم بعده الشديد عن التدين وعدم حرصه على الصلاة .. كما عينت الدولة أحد رجال المخابرات خليفة لمقام السيد أحمد البدوي .. وكان هذا مكافأة للضابط على قيادته لبرنامج غسيل المخ للإخوان المسلمين في السجن الحربي واسمه العقيد / عقيل مظهر .

كما عرف الناس نشاط موالد السيدة زينب وسيدنا الحسين .. وازدهرت شهرة قهوة الفيشاوى وسهرات الحسين خصوصا في رمضان وارتاد مشاهير المطربين .والمطربات قهوة الفيشاوى في سيدنا الحسين كما صار ـ ولا يزال مسجد السيدة نفيسة بالقاهرة ملاذا لكثير من ضباط الجيش والبوليس بعد التقاعد ..


هذا عن الهيئات الرسمية ... أما عن الجمعيات الأهلية .. فكان مصيرها كالأتي:

1- الجمعية الشرعية :

استمر نشاط الجمعية الشرعية في التركيز على الهدى الظاهر من أمور الدين مثل النهى عن إسبال الإزار .. وإطلاق اللحية .. ولبس الجلباب .. وتحفيظ القرآن الكريم .. وتعليم الصلاة ذات الخشوع .. والإطالة في الصلاة .. ثم تطور إلي خدمات دفن الموتى وبناء المقابر .. ورعاية الأيتام .. والذود ـ علميا ـ عن السنة النبوية المطهرة .. وإعطاء الدروس الدينية في المسجد ... وخطب الجمعة .. " ومحاربة البدع والمنكرات في العبادات والعادات "

أما النشاط الثقافي فتمثل في تأليف كتاب " الدين الخالص " لفضيلة الشيخ محمود خطاب السبكي مؤسس الجمعية الشرعية .. وهو من أبناء قرية سبك الأحد ـ منوفية ـ وهو كتاب قيم صدر في ثمان مجلدات وأضاف ابنه العالم الجليل الشيخ أمين محمود خطاب ( الجزء التاسع ) من " الدين الخالص " وهو من أحب المراجع إلي نفسي في فقه العبادات ومما يشتهر في محاربة البدع وذاع صيته في تلك الأيام كتيب اسمه " ألف سيخ في عين من أحلّ الفسيخ " وفيه يشن الشيخ الجليل ( وهو من كبار علماء الشافعية في الأزهر الشريف ) حملة شعواء على صناعة " الفسيخ " وبيعه ويحرم أكله تماما .

وهناك جهد مشكور في الجيزة لا ينسى لفضيلة الشيخ ( على حلوة ) في تعليم الشباب ( علم التجويد ) .. وكان هذا نادرا جدا بين الشباب في ذلك العصر [ ومات الشيخ على حلوة رحمه الله رحمة واسعة شهيدا في السجن بين الإخوان المسلمين في محنة ( 65 ) حيث اعتقل كل الأفراد النشطين في الجمعية الشرعية .

ولقد وجد كثير من شباب الإخوان المسلمين في الجمعية الشرعية متنفسا جيدا للحياة في جو إسلامي حتى يأتي الله بالفرج ومنهم الشيخ الأستاذ / عبد القادر الرويني رحمة الله .. وكان خطيبا في كثير من مساجد الجمعية الشرعية .. ذو حماسة عظيمة .. وبلاغة كبيرة

ومنهم أيضا العالم الجليل الشيخ / عليان محمد عليان إمام وخطيب مسجد الاستقامة بالجيزة الذي تربى على يديه كثير من شباب الإخوان في الجيزة أبناء قضية ( 65 ) ولقد كنت واحدا منهم .. ولا شك انه كان في المحافظات الأخرى مثل هذا المنهج ولكن ليس بين يدي معلومات أو وثائق .

أما في المحلة الكبرى ( بلد 365 مئذنة ) فلقد انضم إلي الجمعية الشرعية كثير من أبناء وشباب الإخوان منهم الأخ / عبد القوى عطية بدر وحكم عليه بالأشغال الشاقة ( 12 عاما ) معي في نفس القضية .

ولقد قامت الجمعية الشرعية بدور مشكور في مجال تحفيظ القرآن وتعليم السنن النبوية والوعظ والإرشاد والفتوى في تلك الفترة ( 54 ـ 65 ) حتى قام رجال الثورة بتأميم الجمعية الشرعية .. فتم تأميمها بتعين الفريق / عبد الرحمن أمين .. وهو من رجال الثورة ( الصف الثاني ) رئيسا للجمعية الشرعية .. ضمن سياسة عسكرة(1) الهيئات والمؤسسات في كل أنحاء مصر .. وهى السياسة التي فشلت تماما في السياسة والاقتصاد والاجتماع


2 - جماعة أنصار السنة المحمدية  :

تبنت جماعة أنصار السنة المحمدية الفكر " الوهابي " تماما ونشرته وأثارت مع نشره زوابع كثيرة مثل :

- تكفير من يقولون بالتأويل في قضايا الذات والصفات .

- محاربة الصوفية وزيارة القبور والأضرحة.

والشيء الذي لا تخطئه العين أن أموال البترول كانت تتدفق عليهم ومئات الآلاف من المطبوعات المجانية كانت توزع على الناس والدعم المادي الذي يتلقونه , وتعينهم في وظائف في السعودية أمر لافت للنظر حقا ... ثم عداء نسبة منهم للإخوان المسلمين .. إما عن عقيدة .. أو بضغوط من الحكومة ..

ويلاحظ أيضا أن أسلوبهم المتشدد في محاربة البدع ( مثل قراءة سورة يس على الأموات ) والمنكرات .. قد نفر كثيرا من الناس مما أدى إلى تقلص اتباعهم كثيرا مقارنة باتباع الجمعية الشرعية .

أما إصرارهم على نبش قبور قضايا قد انتهى عصرها مثل الإثبات والتأويل والتعطيل بين عامة الناس - رغم أنها من القضايا التخصصية - كثيرا ما يفوق الحد .. ولقد حدث عقب نكسة ( 1967 ) أن قام أحدهم خطيبا في اكبر مساجدهم في مقرهم بعابدين بخطبة فيها كثير من الانفعال ليس على النكسة ولكن على أبو حنيفة الذي كان لا يحرم التأويل .. رحم الله أبا حنيفة الأعظم ... وخرج الناس بعد صلاة الجمعة في اشمئزاز شديد .. ولسان حالهم يقول " لكل مقام مقال " وليس هذا وقت مثل هذا الكلام ولقد قامت الثورة بتعين الفريق / عبد الرحمن أمين مشرفا عاما ورئيسا لجمعية أنصار السنة بالإضافة إلى رئاسة الجمعية الشرعية أيضا ومن المضحك أن من حسنات هذا التعيين أن توقف الجدل بين الجمعيتين في قضايا الذات والصفات في تلك الفترة .


3. الإخوان المسلمون  :

وجه عبد الناصر ضربة قاصمة للإخوان المسلمين في ( 10 / 1954 ) كما هو معروف واغلق شعبهم ومقارهم وسجن أبناءهم وقتل شيوخهم وشرد علمائهم كما هو معروف فلم يعد يسمع لهم بعد ( 54 ) صوت في الشارع المصري


4. شباب محمد :

هم مجموعة من الشباب برئاسة المحامى الأستاذ عطية خميس انفصلت عن الإخوان المسلمين في عهد الإمام حسن البنا .. بحجة استبطاء حركة الإخوان المسلمين وهم يريدون أن يسرعوا الخطى لإقامة الدولة الإسلامية .. ولقد رجاهم الأستاذ البنا ـ رحمه الله ـ كثيرا ألا ينفصلوا فأصروا على الانفصال واخذوا ما في الصندوق من نقود وكذلك المجلة كما حكى لنا الحاج عباس السيسى عضو مكتب الإرشاد الأسبق ... ولكن ما أن خرجوا حتى خفت صوتهم وتلاشى بمرور الأيام ولم يسمع لهم صوت إلا في محاكمات الإخوان ( 65 ) ... هجوما على الإخوان وعلى الأستاذ حسن البنا متمثلا في مرافعات الأستاذ / محمد عطية خميس .. المحامى

5. جمعية الشبان المسلمين :

بعد وفاة اللواء صالح حرب .. مؤسس الجمعية .. تحولت إلى نوادي رياضية .. ومنتدى ثقافي في المناسبات فقط مثل المولد النبوي .. والهجرة النبوية .. وما عدا ذلك فلا نشاط ... ولا تربية دينية ... بل إن البعض ممن يمارس الرياضة هناك لم يواظب على صلاة الفروض الخمسة ... وهذا لا يمنع وجود أفراد من أفاضل العلماء والوعاظ من المنتسبين إلى الجمعية ونحن نذكر بالعرفان أن المقر الرئيسي كان منتدى عظيما لدعوة الإخوان المسلمين متمثلا في خطب الإمام حسن البنا الأسبوعية هناك ... كما إنها شهدت في الثلاثينيات محاضرات عظيمة للأستاذ البنا منها الرد على كتاب الأستاذ طه حسين في " الشعر الجاهلي " ولقد كانت محاضرة تاريخية دعي إليها رجال الدين والعلم والسياسة في مصر آنذاك


6.جماعة الدعوة والتبليغ :

هي امتداد لجماعة التبليغ التي ظهرت في الهند علي يد مؤسسها الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي ، وهو من قادة المسلمين في الهند ، وكان تأسيسها رد فعل لقيام حركة هندوسية بمحاولة إدخال المسلمين في الهندوسية .

- مقرها في مسجد " نظام الدين " في دلهي عاصمة الهند .

- الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي عاش إحدى وستين عاما هجريا ( 1303هـ ــ 1364هـ ) .. من مواليد قرية ( كاندهلة ) محافظة سهارنفور بالهند ، تلقى تعليمه الأول فيها ثم انتقل إلى دلهي حيث أتم تعليمه في مدرسة " ديوبند " وهي اكبر مدرسة للمذهب الحنفي في شبه القارة الهندية وابنه هو صاحب كتاب " حياة الصحابة " للكاندهلوى .

أما مبادئها الستة فهي :

1- الكلمة الطيبة " لا اله إلا الله " أي الإيمان الكامل بالله وبما جاء به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .

2- الصلاة ذات الخشوع .

3- العلم والذكر وتعلم العلم الديني , والمواظبة على ذكر الله باللسان والقلب .. وهم يعتمدون أساسا على كتابين :

الأول : رياض الصالحين للإمام النووي ولا يكادون يفارقونه .

الثاني : كتاب حياة الصحابة للكاندهلوى ابن المؤسس .

4- إكرام المسلمين وكثيرا ما يشترون بعضا من الفاكهة أو الحلوى ويقدمونها للناس أثناء الدرس .

5- " الإخلاص " لله تعالى في كل قول وعمل واستحضار النية في كل عمل .. وخصوصا الخروج في سبيل الله . وشعارهم " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة " فإذا أردت الخروج فعليك بـ" النية " و " البطانية " لكي تنام عليها .

6- الخروج في سبيل الله .. وهم يعتبرونه بديلا مؤقتا عن " الجهاد " في سبيل الله .

أما طريقتهم فهي :

1- تتوجه مجموعة منهم إلي قرية ما ، ويأخذ كل واحد منهم ما يكفيه من الزاد والمصروف , على أن يكون التقشف هو السمة الغالبة عليه .

2- عندما يصلون إلى البلدة التي يريدون الدعوة فيها ينظمون أنفسهم في مجموعات ، مجموعة لتنظيف المكان وخدمة الآخرين ، وغالبا ما يكون هذا المكان مسجدا من بيوت الله .. ومجموعة تتجول في الشوارع والأسواق يذكرون الله، ويدعون الناس لسماع الخطبة ويسمونها " البيان"

3 - فإذا جاء موعد " البيان " التفوا جميعا لسماعه , وبعدها يقسمون الناس إلي مجموعات يقوم كل داعية منهم على مجموعة يشرحون لهم أمور الدين , ويرغبونهم في الخروج في سبيل الله . ومنهم من يعلم العوام .. سورة الفاتحة والوضوء.

4- في فترة الخروج يعلم بعضهم بعضا التجويد وقراءة القرآن وأحيانا القراءة والكتابة للعوام منهم.

5- لا يتعرضون إلى فكرة " إزالة المنكرات " .. معتقدين انهم في مرحلة إيجاد المناخ الملائم للحياة الإسلامية .. وان النهى عن المنكرات .. وما أكثرها ـ سوف يعرقل طريقهم ، وينفر الناس منهم , ويؤلب الحكومات عليهم .. لذلك فكل الدول والأقطار والأمصار مفتوحة لهم على مصر اعيها .

6- يعتقدون انهم إذا اصلحوا كل أفراد المجتمع فسوف ينصلح حال الشعوب والحكومات تلقائيا .

7- لقد تاب على أيديهم كثيرون ممن كانوا منغمسين في الملذات .

8- أما التمويل فكثير منهم يتحمل نفقاته الخاصة , وأحيانا تأتيهم تبرعات من بعض الأثرياء.

9- في أول كل رحلة خروج تنبيه مشدد جدا " ممنوع الكلام في السياسة " .

ولقد جاءت دعوة التبليغ إلى مصر في أواخر الخمسينات من القرن الماضي ( عام 1958 تقريبا ) واتخذت من مسجد حي الزهور في حي القللي ـ بالقاهرة مقرا لها ... وانضم إليها العالم الجليل فريد العراق ي وهو من أبناء الإخوان واعتقل في سنة 1954 لمدة سنتين, وتدرج سريعا حتى صار رئيسا للجماعة وظل حتى كتابة هذه السطور ( 2003 م ) الرئيس والأب الروحي لهم جميعا ... كما نبغ بينهم الداعية الكبير فضيلة الشيخ إبراهيم عزت الذي ذاع صيته في مصر والعالم العربي كله وهو خريج تجارة القاهرة ( 1962 ) وعمل مقدما لبرنامج " بيوت الله " في التليفزيون وفي كل حلقة كان يقدم تاريخ أحد المساجد الكبرى والأثرية بالقاهرة ... واعتقل الشيخان في عام ( 1965 ) مع الإخوان المسلمين , وظلا بالمعتقل اكثر من أربع سنوات , وخرجا وباشرا نشاطهما الديني حتى توفي الداعية الكبير الأخ إبراهيم عزت رحمه الله رحمة واسعة في عام ( 1982 ) ... ولقد كان له مسجد اسمه مسجد ( انس بن مالك ) في حي لمهندسين بالقاهرة .. يرتاده جمهوره عظيم .. ولا أبالغ إذا قلت أن مسجده ومسجد فضيلة الشيخ كشك كان لهما اكبر جمهور في صلاة الجمعة في تلك الحقبة ( 71 ـ 1982م ) واشتهرت دعوة التبليغ بأنها بعيدة عن السياسة ... ولا علاقة لها بالحديث عن الحكم والحكام وهى تتحاشى الكلام عن الجهاد ... ولقد كانت بداية نشأتها في باكستان ثم صار لها فروع في أنحاء العالم ... ولقد سال أحد شباب الإخوان المسلمين ( سنة 11965 ) وهو اسمه مهندس جلال الدين بكرى ... سأل الدعاة القادة القادمين من باكستان عن رأيهم في الجهاد في سبيل الله ... فأجاب بذكاء شديد " الجهاد كاللحم وقد يحرم اللحم أحيانا عن المريض " .

وانضم إلى دعوة التبليغ كثير من شباب الإخوان أمثال فاروق المنشاوي , جلال بكري , محمد أحمد عبد الرحمن , محمود عزت إبراهيم , صلاح عبد الحق كما سار معهم الشهيد عبد الفتاح إسماعيل واستطاع ـ رحمه الله ـ أن يقنعهم بالانضمام إلي جماعة الإخوان المسلمين ... ولقد أثر هذا كثيرا في قرار الحكومة التي قررت القبض على أفراد جماعة دعوة التبليغ جميعا في اعتقالات ( 1965 ) وظل كثير منهم قرابة ثلاث سنوات أو اكثر في المعتقلات بلا ذنب جنوه .. سوى ما تقوله الحكومة أن كثيرا من نشطاء الإخوان قد تخرجوا من عباءة دعوة التبليغ .... والحق يقال أن لأفراد جماعة التبليغ نشاط ملحوظ في توبة قطاعات عريضة من العمال والشباب .. ولهم نشاط في جذب الناس إلى المساجد من الشارع ومن القهاوي.. والتربية الروحية عندهم عالية جدا .. كما أن الزهد في الدنيا سلوك واضح تماما عندهم .. ولهم شعار شهير كنا نردده في الستينات " النية والبطانية " ... أي اخلص النية تماما لله , واحمل البطانية واخرج في سبيل الله .. خميس وجمعة ... من كل أسبوع وثلاثة أيام من كل شهر .. وأربعين يوم متصلة كل عام .. أما أولادك فرزقهم على الله .. وزوجتك وبناتك يحفظهم الله .

- وهي تأخذ بيد العوام والبسطاء إلي الإسلام .. وكثيرا ما علّموا الناس قراءة الفاتحة , وحفظ التشهد الأخير في الصلاة .

أما مقرهم الرئيسي في مصر فهو قرية " طموه " محافظة الجيزة - مصر .


7. حزب التحرير :

حزب التحرير حزب سياسي إسلامي تقوم دعوته على وجوب إعادة الخلافة الإسلامية، معتمدًا الفكر أداة رئيسية في التغيير، وقد صدرت عنه اجتهادات شرعية عديدة كانت محل انتقاد جمهرة علماء المسلمين.

التأسيس وأبرز الشخصيات :

- مؤسسه الشيخ " تقي الدين النبهاني" (1909 – 1979م) فلسطين ي ، من مواليد قرية إجزم قضاء حيفا، تلقى تعليمه الأولي في قريته، ثم التحق بالأزهر ، فدار العلوم بالقاهرة ، وعاد ليعمل مدرسًا، فقاضيًا في عدد من مدن فلسطين .

- إثر نكبة 1948 م غادر وطنه مع أسرته إلى بيروت.

- عُيِّنَ بعد ذلك عضوًا في محكمة الاستئناف الشرعية في بيت المقدس، ثم مدرسًا في الكلية الإسلامية في عمان.

- في عام 1952م أسس حزبه وتفرغ لرئاسته ولإصدار الكتب والنشرات التي تعد في مجموعها المنهل الثقافي الرئيسي للحزب. تنقل بين الأردن وسوريا ولبنان إلى أن كانت وفاته في بيروت وفيها دُفن.

- من الصعوبة بمكان معرفة الشخصيات القيادية البارزة في الحزب، وذلك بسبب انتهاج السرية الشديدة في العمل التنظيمي.

- بعد وفاة النبهاني ترأس الحزب "عبد القديم زلوم"، وهو من مواليد مدينة الخليل بفلسطين وصاحب كتاب (هكذا هُدمت الخلافة).

- بناء على طلب تقدم به كل من: علي فخر الدين -طلال البساطمصطفى صالحمصطفى النحاسمنصور حيدر ، فقد تأسس فرع للحزب في لبنان بتاريخ 19/10/1378هـ .

- الشيخ أحمد الداعور: كان مسئولاً عن فرع الحزب في الأردن، أُلقي عليه القبض عام 1969 إثر محاولة الحزب الاستيلاء على الحكم، وحكم عليه بالإعدام ثم أُلغي هذا الحكم.

- في شهر أغسطس 1984م أُعلن عن تقديم (32) شخصًا من المنتمين إلى حزب التحرير إلى المحاكمة في مصر ، وذكر أن هؤلاء الذين وجِهت إليهم تهمة العمل على قلب نظام الحكم هم: عبد الغني جابر سليمان "مهندس" ، صلاح الدين محمد حسن "دكتوراه في الكيمياء" ويقيمان في النمسا، والفلسطيني "كمال أبو لحية" -دكتوراه في الإلكترونات- ويقيم في ألمانيا الاتحادية، و"علاء الدين عبد الوهاب حجاج" -طالب بجامعة القاهرة .

- عبد الرحمن المالكي : سوري، من الشخصيات القيادية في الحزب، وهو صاحب كتاب "العقوبات".

الأفكار والمعتقدات :

- لا تخرج دعوتهم عن كونها واحدة من الجماعات الإسلامية التي تحمل فكر أهل السنة والجماعة.

- تقوم غايتهم على استئناف الحياة الإسلامية عن طريق إقامة الدولة الإسلامية في البلدان العربية أولاً ثم الإسلامية، ويتم حمل الدعوة بعد ذلك إلى البلدان غير الإسلامية عن طريق الأمة المسلمة.

- الصفة البارزة للحزب هي التركيز الكبير على الناحية الثقافية والاعتماد عليها في إيجاد الشخصية الإسلامية بداية والأمة الإسلامية نهاية، ويحرص الحزب أشد الحرص على تنمية هذه الناحية لدى المنتسبين إليه.

- يركز الحزب على إعادة الثقة بالإسلام عن طريق العمل الثقافي من ناحية والعمل السياسي من ناحية أخرى.

1- العمل الثقافي : "ويكون بتثقيف الملايين من الناس تثقيفًا جماعيًا، وبالثقافة الإسلامية، وهذا يُوجب على الحزب أن يتقدم أمام الجماهير ويتصدر لمناقشتهم وأسئلتهم وشكوكهم وتأييدهم حتى يُصهرهم بالإسلام" (من كتاب مفاهيم أساسية ص87).

2- العمل السياسي : " ويكون برصد الحوادث والوقائع، وجعل هذه الحوادث والوقائع تنطق بصحة أفكار الإسلام وأحكامه وصدقها؛ فتحصل الثقة لدى الجماهير بذلك" (نداء حار 96)

- يفلسف الحزب طريقة وصوله إلى تحقيق أهدافه بما يراه من أن أي مجتمع إنما يعيش الناس فيه داخل جدارين سميكين: جدار العقيدة والفكر، وجدار الأنظمة التي تعالج علاقات الناس وطريقتهم في العيش، فإذا أريد قلب هذا المجتمع من قِبل أهله أنفسهم؛ فلا بد أن يركز هجومه على الجدار الخارجي (أي مهاجمة الأفكار) مما يؤدي إلى صراع فكري حيث يحصل الانقلاب الفكري ثم السياسي.

يقسم الحزب مراحل عملية التغيير إلى ثلاث مراحل على النحو التالي:

- المرحلة الأولى : الصراع الفكري، ويكون بالثقافة التي يطرحها الحزب.

- المرحلة الثانية : الانقلاب الفكري، ويكون بالتفاعل مع المجتمع عن طريق العمل الثقافي والسياسي.

- المرحلة الثالثة : تسلُّم زمام الحكم، ويكون عن طريق الأمة تسلُّمًا كاملاً.

- ويرى بأنه لا بد له في المرحلة الثالثة من طلب النصرة من رئيس دولة، أو رئيس كتلة، أو قائد جماعة، أو زعيم قبيلة، أو من سفير ، أو ما شاكل ذلك.

- حدد الحزب أولاً مدة ثلاثة عشر عامًا من تاريخ تأسيسه للوصول إلى الحكم، ثم أمدَّها ثانيًا إلى ثلاثة عقود من الزمان (30سنة) مراعاة للظروف والضغوط المختلفة، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث على الرغم من مضي المدتين .

- يغفل الحزب الأمور الروحية وينظر إليها نظرة فكرية إذ يقول: "ولا توجد في الإنسان أشواق روحية ونزعات جسدية، بل الإنسان فيه حاجات وغرائز لا بد من إشباعها". "فإذا أشبعت هذه الحاجات العضوية والغرائز بنظام من عند الله كانت مسيرة بالروح، وإذا أشبعت بدون نظام أو بنظام من عند غير الله كان إشباعًا ماديًا يؤدي إلى شقاء الإنسان".

- يرى الشيخ تقي الدين أن الصعوبات التي تعترض قيام الدولة الإسلامية هي:

1- وجود الأفكار غير الإسلامية وغزوها للعالم الإسلامي.

2- وجود البرامج التعليمية على الأساس الذي وضعه المستعمر.

3- استمرار تطبيق البرامج التعليمية على الأساس الذي وضعه المستعمر وحسب الطريقة التي أرادها.

4- وجود إكبار لبعض المعارف الثقافية واعتبارها علومًا عالمية.

5- كون المجتمع في العالم الإسلامي يحيا حياة غير إسلامية.

6- بعد الشُقة بين المسلمين وبين الحكم الإسلامي، لا سيما في سياسة الحكم وسياسة المال، حيث يؤثر هذا البعد فيجعل تصور المسلمين للحياة الإسلامية ضعيفًا.

7- وجود حكومات في البلاد الإسلامية لا تقوم على أساس ديمقراطي وتطبق النظام الرأسمالي كله على الشعب.

8- وجود رأي عام عن الوطنية والقومية والإشتراكية .

- يحرم الحزب على أعضائه الاعتقاد بعذاب القبر وبظهور المسيح الدجال ومن يعتقد هذا في نظرهم يكون آثمًا.

- يرى زعماء الحزب عدم التعرض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ذلك لديهم من معوقات العمل المرحلي الآن، فضلاً عن أن هذا الأمر والنهي إنما هما من مهمات الدولة الإسلامية عندما تقوم.

- للحزب دستور مؤلف من 187 مادة معد للدولة الإسلامية المتوقعة، وقد شرح هذا الدستور شرحًا مفصلاً، ولا يخرج هذا العمل عن أن يكون مجرد ترف فكري بعيدًا عن أرض الواقع.

هذا ويؤخذ على الحزب عدة أمور منها:

أولاً: قضايا دعوية:

- تركيزه على النواحي الفكرية والسياسية وإهماله النواحي التربوية والروحية.

- انشغال أفراد الحزب بالجدل مع كافة الاتجاهات الإسلامية الأخرى.

- إعطاء العقل أهمية زائدة في بناء الشخصية وفي الجوانب العقائدية.

- اعتماد الحزب على عوامل خارجية في الوصول إلى الحكم عن طريق طلب النصرة والتي قد يكون فيها تورط غير متوقع.

- تخليه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حاليًا.

- يتصور القارئ لفكر الحزب أن همه الأول هو الوصول إلى الحكم.

- المحدودية في الغايات والاقتصار على بعض غايات الإسلام دون بعضها الآخر.

- التصور بأن مرحلة التثقيف ستنقلهم إلى مرحلة التفاعل فمرحلة استلام الحكم، وهذا مخالف لسنة الله في امتحان الدعوات، ومخالف للواقع المحفوف بآلاف المعوقات.

- معاداة جميع الأنظمة التي يتحركون فوق أرضها؛ مما ورّطهم بحملات اعتقالات دائمة ومستمرة، ولعل السرية الشديدة وطموحهم للوصول إلى الحكم هو السبب في تخوف الأنظمة منهم وملاحقتهم دون هوادة.

ثانيًا: قضايا فقهية:

قام الحزب بإصدار فتاوى وإعطاء أحكام فقهية غريبة عن الفقه والحس الإسلامي وألزم أتباعه بتبني هذه الأحكام والعمل على نشرها، ومن ذلك :

- إباحته النظر إلى الصور العارية.

- إباحته تقبيل المرأة الأجنبية بشهوة وبغير شهوة وكذلك مصافحتها.

- قوله بجواز أن تلبس المرأة الباروكة أو البنطال، وأنها لا تكون ناشزة إذا لم تطع زوجها في التخلي عن ذلك.

- قوله بجواز دفع الجزية من قبل الدولة المسلمة للدولة الكافرة.

- قوله بجواز القتال تحت راية شخص عميل تنفيذًا لخطة دولة كافرة ما دام القتال قتالاً للكفار.

- قوله بسقوط الصلاة عن رجل الفضاء المسلم.

- قوله بسقوط الصلاة والصوم عن سكان القطبين.

- قوله بالسجن عشر سنوات لمن تزوج بإحدى محارمه حرمة مؤبدة.

- قوله بأن الممرات المائية بما فيها قناة السويس ممرات عامة لا يجوز منع أية قافلة من المرور فيها. ( وهذه الفتوى في صالح إسرائيل وحدها)

- قوله بجواز الركوب في وسائل المواصلات (البواخر والطائرات..) التي تملكها شركات أجنبية مع تحريم هذا الركوب إن كانت مملوكة من شركات أصحابها مسلمون! لأن الأخيرة ليست أهلاً للتعاقد في نظره. الجذور الفكرية والعقائدية:

- كانت للمؤسس أفكار قومية إذ أصدر سنة 1950م كتابًا بعنوان "رسالة العرب" وانعكس هذا على ترتيب أولويات إقامة الدولة الإسلامية في البلدان العربية أولاً ثم الإسلامية.

- كان النبهاني في بداية أمره على صلة بالإخوان المسلمين في الأردن، يلقي محاضراته في لقاءاتهم، ويثني على دعوتهم وعلى مؤسسها الشيخ "حسن البنا "، لكنه ما لبث أن أعلن عن قيام حزبه مستقلاً فيه تأسيسًا وتنظيرًا.

- ناشده الكثيرون العدول عن هذه الدعوة ومن أولئك الأستاذ "سيد قطب" حين زيارته للقدس عام 1953م فقد ناقشه كثيرًا ودعاه إلى توحيد الجهود لكنه أصر على موقفه، فقال سيد كلمته المشهورة: "دعوهم فسينتهون من حيث بدأ الإخوان".

الانتشار ومواقع النفوذ :

- ركز الحزب نشاطه في البلدان على الأردن وسوريا ولبنان ثم امتد نشاطه إلى مختلف البلدان الإسلامية، وأخيرًا وصل نشاطه إلى أوروبا وخاصة النمسا وألمانيا.

- كانت للحزب صحيفة أسبوعية تصدر في بيروت باسم "الحضارة".

- يسمى الحزب الأقطار التي عمل فيها باسم "الولايات" ويقود التنظيم في كل ولاية لجنة خاصة به تسمى "لجنة الولاية" وتتشكل من (3-10) أعضاء.

- تخضع لجان الولايات إلى مجلس القيادة السري.


الفصل الخامس : الحالة الثقافية في مصر (1955 ـ 1965 م )


تمهيد :

الثقافة هي تعبير عن وجدان الأمة , بل والثقافة تساعد ـ كثيرا ـ على تشكيل عقيدة الشعوب , وهى في اغلب الأحيان تعبير عن تصورات الناس ,وهي ــ أيضا ــ تعبير عما يجيش في الصدور , وما يختبئ في مكنونها. والثقافة والإعلام صنوان متلازمان , غالبا ما يتلازمان ولا ينفكان .

ولقد عنى القرآن ببعض صور الثقافة مثل القصة , حيث شكلت القصة أحد أساليب ترسيخ عقيدة البعث والنشور , كما حكى القصص القرآني الكريم أيضا تاريخ التوحيد في حياة الإنسانية , ولقد عبرت القصة في القرآن الكريم عن بعض القيم الأخلاقية والفكرية ... يدرك ذلك كل من عايش القرآن الكريم بشيء من التدبر .. إن القصص القرآني كان خير معلم للتوحيد والإيمان بالغيب .. ولو كان هناك من كاتبو السيناريوهات من اهتم بدراسة القرآن الكريم لوجد في القصص القرآني ما بلغ حد الإبهار وكافة مقومات جذب الأنظار ولفتها بشدة إلى الموضوع فقرة بعد فقرة وأنا أهدى إلى هؤلاء عناوين بعض القصص القرآني الكريم.

1. قصة البقرة في سورة البقرة ودرس الإيمان بالبعث والنشور .

2. قصة مريم في سورة مريم ودرس توحيد المولى عز وجل .

3. قصة موسى في سورة طه ودروس وعبر كثيرة في أنحاء السورة

4. قصة يوسف عليه السلام

5. القصص القرآني المفصل في سورة هود.

وغيرها كثير لمن ألقى السمع وهو شهيد.

أما عن المسرح وهو من ألوان الإبداع الثقافي الذي مادته الحوار ففي القرآن حوارات كثيرة :

• حوارات سورة الكهف ... مثل حوار الرجلين الغنى والفقير وغيرها .

• حوارات سيدنا موسى في سورة الشعراء

• حوارت سيدنا إبراهيم في سورة الأنبياء

هذه أمثلة تصلح كبديل إسلامي للمسرح الحالي مع الأخذ في الاعتبار فتاوى العلماء في مشروعية تمثيل الأنبياء ويمكن التحايل على ذلك بعيدا عن المحاذير الشرعية حتى لا نقع في مخالفات شرعية .. وهكذا يمكن أسلمة كثير من مظاهر الثقافة

أما القصة والرواية .. فلقد كان للمنهج القرآني في خصائص واضحة ... أهمها الصدق والحق :

" إن هذا لهو القصص الحق. وما من إله إلا الله . وإن الله لهو العزيز الحكيم "

.. نعم القصص الحق ... على عكس أغلب ما في القصص والروايات فهو من خيال الأديب والكاتب .

كما إن من خصائصها أن لها هدفا محددا , وهو تعميق العقائد , والقيم الإيمانية , والقيم الأخلاقية والمحافظة على خصائص المجتمع المسلم .

... وأما النشيد الذي يقابل الأغنية في هذه الأيام .. وكذلك الشعر هو أيضا يضاهى الأغاني .. فان الأغاني لا تصلح بغير إيقاع الشعر فإنها ترسخ في القلوب ـ خصوصا الأشبال والبنا ت والنساء ـ قيما وثوابتا .. ولقد كان لشركة ( سفير ) بالجيزة فضل السبق في اقتحام هذا المجال وبذلت هذه المحاولة فأصدرت ثلاث شرائط كاسيت في هذا المجال عن الإسلام والإيمان والإحسان .. كثيرا ما كانت تدمع عيناي عند سماعها من شدة التأثر ... وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من البيان لسحرا " وجاءني مرة أحد الدعاة المشاهير يسألني النصيحة .. ماذا أفعل حيث دعيت إلى مدرسة أطفال ( مدرسة ابتدائية ) ماذا أقول لهم .. قلت له عليك بحفظ بضعة أناشيد قصيرة مما تتكلم عن آيات الله في الكون وكيف تدعو إلى الإيمان(1) .. فهذه تجد طريقها إلى القلوب مفتوحا بلا عوائق .. وحذرته من المصطلحات الصعبة في العقائد .. فقضايا الإيمان بسيطة وسهلة :

الله خالق ... مبدع

الله واحد ... لا شريك له

الله له الأسماء الحسنى .. والصفات العليا

اليوم الآخر حقيقة

محمد صلى الله عليه وسلم خير هاد للبشرية .. أكمل الناس خلقا ..

ومن السهل التعبير بالشعر والنشيد عن هذه الحقائق الإيمانية بصورة مؤثرة في الوجدان .. فهذه صنعة الشعراء .

أقول هذه المقدمة لان الثورة المصرية ( ثورة يوليو ) لم تغفل عن هذا أبدا فاستخدمت كل وسائل الثقافة ومنافذها الإعلامية في الترويج للعلمانية والعصرية . والتحلل ولقد فتحت وزارتا الثقافة والإعلام كل منافذها للشيوعيين والماركسيين .. وكذلك كل دعاة التحلل .. فمثلا :

الأغنية :

راجت الأغاني في عهد الثورة رواجا كبيرا , وجاءوا إلي مصر بأرق الأصوات العربية وأعذبها .. من كل أنحاء الدول العربية وتركوهم ينشرون الحب والهيام والعشق والمجون .. كأنه ليس في الدنيا سوى الحب والغرام والوقوع في حبال العشاق (1) فهذه وردة الجزائر ية جاءت من الجزائر وصارت لها حفلات وأغاني وعشاق لفنها .

وهذه فايزة أحمد بأغانيها التي كانت مقررة على الشعب المصري(2) خمس مرات في اليوم منذ عام ( 1956 ) وما بعدها .. وراجت أغنيتها الشهيرة " يا ما القمر على الباب ... " فكنت تسمعها في كل شارع وكل حارة وكل ميدان وكل سيارة بها راديو فلم يكن الكاسيت قد عرف طريقه إلي مصر بعد .

أما عبد الحليم حافظ فكان مغنى الحكومة بلا ريب وهو جاهز في كل مناسبة بأغنية .. وصار بطلا قوميا وشعبيا .. وفي وسط هذه البطولة دسوا له كلمات تنافي الإيمان بالقدر فكان يغنى أغنية فيها هذه الكلمات التي تنطق بالكفر وسب القدر " قدر أحمق الخطى .. داست هامتي قدماه " تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ... وغيرها كثيرا.

وكان ممن هاجم الدين أيضا الشاعر نزار قباني في أغنيته التي فيها يقول " وكنت لي ذنبا سألت الله ألا يغفره ... فغفرته " فهو يطلب من الله عدم مغفرته لاستمتاعه بمجون هذا الذنب وشعوره بحلاوة الذنب . ولقد كان فضيلة الشيخ كشك إمام دعاة عصره كثيرا ما يعترض على المنبر على أغاني أم كلثوم التي تحض على العشق والغرام مثل " بعيد .. بعيد ، وحدينا ، على الحب تصحي أيامنا .. على الشوق تنام ليالينا " ... وكان رحمه الله يقول رايحين فين .. فين ..فين .

ولقد أحدثت الثورة تغيرا كبيرا في أداء أم كلثوم فبعد أن كانت تغنى خليطا من أغاني الحب وأخري من أغاني التدين مثل نهج البردة .. ( وولد الهدى ) .. تدخل الرئيس جمال عبد الناصر والقيادة السياسية ـ بتوجيه مخطط ومدروس ـ فتصالحت أم كلثوم مع الموسيقار محمد عبد الوهاب وبدأت تغنى من تلحينه أغاني الحب والغرام مثل أغنية " حب إيه .. اللي أنت جاى تقول عليه .. أنت عارف قبله معنى الحب إيه .. لمّا تتكلم عليه ." ( 1961 )

وأيضا جاء من الشام ( سوريا ولبنان ) بمغنيات كثيرات مثل المطربة " صباح " وماجدة ( وفريد الأطرش ) .. وأخته ( أسمهان ) وصار لأغاني الحب والعشق والهيام طنين يطن في أذن الشعب المصري فقيره وغنيه ليل ونهار .. في محاولة ملحوظة ومدبرة لشغل هذا الشعب بهذا اللون من الأغاني كنوع من الإحلال لما تسمعه أذان المصريين وتشغف به من سماع المقرئين أمثال محمد رفعت ومصطفي إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد وأبو العنين شيعيشع والشيخ الحصري وغيرهم .. وكذلك منتجو التواشيح الدينية ... ولقد عبرت جريدة واشنطن بوست الأمريكية عن هذه الهجمة الغنائية وأثرها في دعم حكم عبد الناصر في الستينيات من القرن الماضي ... فرسمت كاريكاتيرا عن دعائم حكم عبد الناصر آنذاك .. فرسمت الرئيس عبد الناصر يستند بيديه فوق كتفي أم كلثوم وشيخ الأزهر وقالت في تعليقها على الكاريكاتير تحت عنوان " دعائم حكم عبد الناصر ".

ولا شك أن هذا السيل الدافق الجرار في الأغنيات والمغنيات من كل أنحاء الوطن العربي .. كان شيئا مقصودا لإغراق هذا الشعب في طرب وعشق وحب حتى أفاق على نكسة ( 1967 ) .. ولقد كنت في ريف مصر أرى الفلاح يسير وراء حماره الذي يحمل فوق ظهره التراب ( السماد البلدي ) ويضع فوق هذا السماد البلدي الراديو الترانزيستور(1) الذي يغنى أغنية فايزة أحمد " يا امه القمر على الباب " فحفظها الشعب المصري كله .. وكان الطغاة يريدونها ( والعياذ بالله ) بديلا عن نصوص الدين ومقدساته .

أما الفن الهابط من الرقص الشرقي فقد لمع نجومه .. بل واستحدثوا أيضا في أواخر الخمسينات من القرن الماضي فنا جديدا هو الرقص الشعبي وجاءت فرقة رضا للفنون الشعبية .. وذاع صيتها .. وكان مؤسسها أحد كبار الأساتذة في كلية الهندسة جامعة القاهرة ( الأستاذ الدكتور حسن فهمي ) والد راقصة الفن الشعبي الأولى فريدة فهمي .. واستجوبته هيئة مكتب الكلية آنذاك .. فرد عليهم قائلا: أنا لي أبحاث هندسية وعلمية جبارة في مصر ولم يسمع بي أحد .. ولكن الدنيا كلها سمعت بي حينما رقصت وغنت فريدة فهمي على خشبة المسرح بتشجيع من حكومة الثورة .

وأما الكاريكاتير .. فكان يقوده الفنان صلاح جاهين الذي كان على علاقة سيئة بالدين والتدين .. وهو الذي قام بالهجوم الشرس على فضيلة محمد الغزالي عام ( 1962 ) .. ووقفت الحكومة إلى جانب صلاح جاهين فتجرأ اكثر وهاجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كاريكاتيره وحمته الدولة حتى وفاته .. كما كان له زجل يسخر من الجنة واليوم الآخر منه ما يقول في مطلعه :

" يا رب ماتدخلنيش الجنة .. أحسن للجنة سور " فهو لا يريد الجنة لأن للجنة أسوارا .. ولعل الله قد حقق أمنيته إن لم يكن قد تاب .. وله في هذا الباب زجل كثير .

أما المسرح .. فلقد سيطر السينارست الشيوعيون على مادته الثقافية وان لم يكن بنفس التأثير الجماهيري للسينما .

وفي السينما .. عرفت مصر لأول مرة ملوك الإغراء من الممثلات مثل هند رستم وغيرها .. كما برزت الإعلانات التي تنشر الصور نصف العارية وكان هذا تحولا اجتماعيا كبيرا في مصر بلد الأزهر وإعلانات الأفلام كانت مليئة بهذه الصور الماجنة من الصدور والأرجل والرؤوس العارية .

وأما القصة .. فبدأت تأخذ طريقا على أيدي كتاب كثيرين مثل " أولاد حارتنا " لنجيب محفوظ وغيرها بعيدا عن الدين والتدين ولم يستثن من هذه القاعدة سوى قصة واحدة هي " وإسلاماه " للكاتب الإسلامي على أحمد باكثير.

والثقافة الدينية .. تعرضت لضغط إعلامي رهيب حتى ألف بعض المؤلفين الإسلاميين الذين يدافعون عن الإسلام كتبا يصفونه بأن فيه اشتراكية .. وكأن الإشتراكية غاية منى الإنسانية . من هذه الكتب ( اشتراكية الإسلام ) لرئيس الإخوان المسلمين في سوريا آنذاك الأستاذ مصطفى السباعي !! ، الإسلام ومناهجنا الإشتراكية .. للشيخ محمد الغزالي  !!

ولقد عاش فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حتى رأى السقوط الرهيب للاشتراكية في كل العالم الاشتراكي .. ولقد كان - رحمه الله - يتمنى لو اختار عنوانا آخر للكتاب ...!!


إذاعة القرآن الكريم :


في هذه الفترة أيضا , لما كثر اتهام الحكومة بالبعد عن الدين استحدثوا ( إذاعة القرآن الكريم ) وكانت ـ آنذاك ـ تذيع قرانا فقط ثم طورت برامجها بعد ذلك .. وفي المقابل تماما وفي نفس الوقت استحدثت الحكومة إذاعة كاملة لأغاني ( أم كلثوم ) تذيع أغاني أم كلثوم ليل ونهار .. واستمرت هذه الإذاعة سنين طويلة حتى أوقفتها السيدة جيهان السادات حرم الرئيس الراحل أنور السادات كلون من الصراع عن من تكون سيدة مصر الأولى .. فان زوجة الرئيس جمال عبد الناصر كانت لا تمانع أن تكون " أم كلثوم " سيدة مصر الأولى أما السيدة " جيهان السادات" فكانت تصر على أنها سيدة مصر الأولى حسب البرتوكول والعرف العالميين , وأوحى إليها بعض الخبثاء بمحاربة " أم كلثوم "(1) وقد كان .. وهكذا كانت هذه هي المعارك التي تشغل بعض أذهان الناس في مصر في حين كان اليهود في إسرائيل ينتجون قنابلهم الذرية في مفاعل ديمونة بصحراء النقب ...!!!


ضرب اللغة العربية :

حينما جاء كمال أتاتورك وحكم البلاد والعباد في تركيا ,واتخذ خطوات حادة ضد الإسلام والمسلمين . فمنع الآذان في المساجد .. وهجر المساجد.

ومنع تعيين المصلين في الجيش والبوليس وكافة المناصب الحساسة وخلع الناس الطربوش ولبسوا القبعة تشبها بالأوربية وأعلن دولة علمانية ( أي لا دينية ) .. وحارب الإسلام والمسلمين

وبحث الناس في نشأته فوجدوه من سلالة يهود الدونمة الذي أعلنوا الإسلام في أيام الخلافة العثمانية , وأبطنوا اليهودية والكفر سرا حتى تمكنوا من بلاد المسلمين .. وكثيرا ما يصنع اليهود هذا

ولكن هذه الإجراءات الحادة في الاتجاه نحو اللادينية , ونحو التحلل من قيم الإسلام وعقيدته ومناسكه .. كان لها رد فعل عنيف في بلاد الإسلام والمسلمين .. ولا يمكن إعادة هذه التجربة بحذافيرها مرة أخري في أي بلد إسلامي آخر (1)

ولما جاءت الثورة أظهرت التدين وأبطنت العلمانية , أظهرت أنها نبعت من الإخوان وأنها ثورة الإخوان , واخفي عبد الناصر عكس هذا تماما .. ومن العجب أن كثيرا من المخلصين من الإخوان انخدعوا في عبد الناصر وظلوا مخدوعين سنين طويلة


أما عبد الناصر فلم يضيع وقته .. فقام بـ :

1. ضرب الإخوان المسلمين ( 1954 )

2. إلغاء المحاكم الشرعية ( 1955 )

3. الاتجاه العسكري والاقتصادي نحو الشيوعية ( 1956 )

4. ضرب اليمن ( 1961 )

5. تطوير الأزهر الشريف والإقلال من الجرعة الدينية ( 1961 )

6. تسليم الشيوعيين مقاليد الإعلام والثقافة (1964 )

7. تشجيع الهجوم على الدين من رجال الإعلام والثقافة (1964 )

8. مصادرة الأوقاف الإسلامية ( 1961 ) التي كانت رزقا للعلم والعلماء والصرف على الأوقاف الخيرية للمسلمين

9. جعل مشيخة الأزهر بالتعيين .. وبذلك تحكم في العلم والعلماء

10. ضرب الإخوان المسلمين ( 1965 )

11. جعل الدين الإسلامي مادة غير أساسية في المدارس

هذه خطوات تظهر بوضوح بعد عبد الناصر التدريجي عن الدين .. أما التطور الخطير الذي أحدثه عبد الناصر أن اتجه بالأمة نحو العامية ...

- فكان أول رئيس لمصر يخطب باللغة العامية في تاريخ مصر , فقلده الناس في هذا

- في عصره انتشر الشعر العامي واستسهله الناس وتحلل الشعراء من الشعر العربي ومن قيود القافية وبحور الشعر و الوزن

- أضاف حرف الجر " الباء " (1) إلى الأفعال بعد أن كانت تختص بالأسماء فقط مثل أخواتها باقي حروف الجر .. فدمر النحو والصرف والإعراب .. وكان قدوة للناس فنسى الناس علم النحو والصرف .. وضعفت اللغة العربية عند الناس وبذلك بعد الناس عن لغة القرآن وعن فهم القرآن والحديث حتى تفكك الدين في نفوس الناس شيئا فشيئا .. لدرجة أن خريجو كليات اللغة و أصول الدين والشريعة لا يستطيعون الكلام باللغة العربية الفصحى ولو لمدة عشر دقائق فقط .. فكيف يفهم الناس الدين .. ووعائه اللغة العربية الفصحى .. فلقد أنزل الله القرآن " بلسان عربي مبين " ، " إنا أنزلناه قرانا عربيا لعلكم تعقلون " .

فإذا فقد الناس اللغة العربية .. فقدوا كثيرا من الدين .. وصعب عليهم فهم علومه .. والتفقه في أمور الشريعة .

هذه قصاصات أوراق عن الثقافة في مصر ( 54 ـ 1965 ) في عهد عبد الناصر الذي تميز بنهضة بعيدة عن الدين .. فهل كان هذا سببا في نشأة جماعات التكفير ؟!

هل كان هذا سببا في قيام بعض الشبان المتدين بهذه الثورة ( تنظيم 65 ) على جمال عبد الناصر ونظامه ؟!

إن الشعب المصري أحب عبد الناصر حبا شديدا .. وجعل منه بطلا أسطوريا وكان عبد الناصر ـ لو أراد ـ لاتجه بهذا الشعب وجهة إسلامية من غير تزمت ولا تعنت .. مع نشر الجدية والرجولة في هذه الأمة .. لو فعل هذا لصارت مصر دولة عظيمة ولسبقت كثيرا من الدول .. ولصارت في مصاف الدول العظمى .. ولكن ماذا تعنى لو .. ( لو ) حرف تعلق في الجو بلا حبال !!!

أما الهجمة الثقافية التي رعاها وحماها نظام عبد الناصر .. كانت لا تقل أبدا عن ضرب الإخوان المسلمين في 54 , 1965 م .. فأثارها الضارة لا يزال المصريون يعانون منها حتى اليوم .. والى غد بعيد إلا أن يشاء ربى شيئا ، إن ربى على كل شيئا حفيظ .



الباب الثاني : نشأة التنظيم

الفصل الأول : ما قبل نشأة التنظيم

- تنظيم يناير 1955

- تنظيم مارس 1955

- تنظيم يونيو 1955

- تصفية المعتقلات

- مذبحة طره يونيو 57

- التنظيمات المالية

الفصل الثاني : البداية الحقيقية للتنظيم

- البداية الحقيقية للتنظيم

- خروج المؤيدين

- خروج إخوان الخمسينات

- التنظيم قبل سيد قطب

- قلاقل حول التنظيم

- شرعية التنظيم

- التنظيم بقيادة سيد قطب

- مع التنظيم حتى البوابة السوداء


الفصل الأول : ما قبل نشأة التنظيم


تمهيد :

لا شك أن محنة ( 54 ) كانت ضربة قاصمة للإخوان , فلقد أغلقت الشعب , ومنعت الأنشطة , وسجن الشباب والشيوخ , وصودرت الجرائد والمجلات ... حتى صار كل مصلى يتواري بصلاته ـ وخصوصا إذا كان من الشباب ـ فكلّ شاب مصلىّ ... يتهم بأنه من جماعة الإخوان المسلمين ... وفرغت المساجد من الشباب ولم يعد يرتادها إلا الشيوخ ... بل كان المصحف ذو الحجم الصغير " طبعة الشمرلي " تهمة إذا حمله شاب من الشباب ... فهو قرينة دامغة على أن حامله من الإخوان المسلمين .. وغم ذلك لم يفقد شباب الإخوان المسلمين حماسهم ضد الثورة ورجالها ..

فلقد نشأت أعقاب أحداث ( 54 ) المفجعة ثلاث تنظيمات متتالية لجماعة الإخوان المسلمين هي :

تنظيم يناير 1955

تنظيم مارس 1955

تنظيم يونيه 1955

والذي يتضح من فلسفة نشأة هذه التنظيمات الثلاثة أنها كانت محاولة لجمع ما بقى من شتات الشباب المنتمى لدعوة الإخوان المسلمين ... هذه واحدة ... والثانية هي جمع الأموال لرعاية المعتقلين من الإخوان وأسرهم . فلقد أصبحت الأسر والعائلات بلا عائل ولا دخل شهري بعد غياب عائلهم داخل السجون والمعتقلات .

وكانت سياسة التجويع البشعة واللاإنسانية التي تتبعها الحكومة مع عائلات الإخوان متجردة حتى من بقايا الإنسانية ... ولما كانت " الأخوة " و " التكافل " من أبرز ما يبايع عليه الأخ في دعوة الإخوان فلا بد من نظام يضمن معيشة الزوجات أو الأبناء من عائلات الإخوان المسجونين والمعتقلين .

ولكن هذه المحاولات لم تكن تأخذ بالحيطة والسرية الكاملة فسهل على الحكومة كشفها ومتابعتها ... ولم يكن مع كل هذه التنظيمات الثلاثة أي أسلحة على الإطلاق بل لم تكن هناك خطة واضحة أو محددة .. فهي في الأغلب جمع للشتات من شباب الإخوان الذي أيـّد الثورة في مهدها وكان يظن عبد الناصر ورفاقه من أبنائها .. وهذه نبذه مختصرة عن كل منها :


( تنظيم يناير 1955 )

كان لقرب المسافة بين اكتشاف تنظيم يناير 1955 م وتنظيم مارس 1955 م أن اختلطت الأسماء والأوراق ولم أتوصل إلى اسم أي أخ من الأحياء من تنظيم يناير 1955 م ولكن بعد الأحكام اجتمعت التنظيمات الثلاثة يناير ومارس ويونيو ( 1955 ) في سجن واحد , كما أن المحكمة العسكرية التي حاكمت التنظيمات الثلاثة كانت واحدة ... والتهم أيضا كانت واحدة ... وأسباب المحاكمة كانت واحدة بل وكذلك كانت تسعيرة الأحكام هي نفس التسعيرة التي سنتعرض لها في تنظيمي مارس ويونيو ( 1955 م)

ولقد كانت الدوافع لدى الإخوان واحدة وهى مساعدة اسر المعتقلين بالمال .


( تنظيم مارس 1955 )

• كان تنظيم مارس هو عبارة عن مجموعة من شتات شباب الإخوان المسلمين في عدة محافظات .

• لم يكن بين جميع المحافظات أي رباط تنظيمي بل إن كثيرا منهم تعرفوا على بعض داخل السجون أغلبهم من القاهرة والجيزة وعدد محدود من تسع محافظات مختلفة .

• ليس لدى أي فرد منهم من أفراد التنظيم أي سلاح على الإطلاق مما يجعل الاتهامات كلها محل طعن وبطلان .

• ليس لهم قيادة محددة تجمعهم أو تنسق بينهم .

• جميعهم ـ كما سنرى ـ من الشباب الجامعي الذي ليس له أي خبرة بالتنظيم أو العمل التنظيمي وليس مؤهلا لشيء من هذا ... فأغلبهم دون سن العشرين .

• لم تكن هناك أي خطة لهذا التنظيم لكي يسير عليها .

نشاط التنظيم المزعوم :

• جمع التبرعات لأسر الإخوان المعتقلين والمسجونين فيما بين خمسة قروش وربع جنية على أقصى تقدير . • توزيع منشور لمعارضة اتفاقية الجلاء عن مصر

ويقول كثير من هؤلاء الشباب أن المنشور لم يكن صناعة إخوانية .. وهناك شك كبير أن جهات أمنية تابعة لعبد الناصر هي التي كتبت هذا المنشور لكي تجمع ما تبقى من أفراد الإخوان تحت هذا العمل الحماسي .. فكان هذا المنشور شراكا خداعيا للتنظيم ... نعم كان مصيدة .. وفخا محكما للقبض على باقي أفراد التنظيم ... بل ومحبي جماعة الإخوان :

نوع المحاكمة : محاكم عسكرية سرية بلا هيئة دفاع

القاضي : اللواء / صلاح حتاته ومعه ضابطان

عدد أفراد التنظيم : ما بين 250 ــ 300 فرد

التهمة : قلب نظام الحكم


أما التوزيع فكان كالأتي :

1. السجن مع الإيقاف خمس أو عشر سنوات لكل من دفع خمسة قروش ... أو عشرة

2. السجن خمس سنوات لمن قرأ المنشور أو عرف به

3. السجن عشر سنوات أشغال شاقة لكل من دفع تبرعا ... ووزع المنشور


مده البقاء في السجن :

بضعة شهور في السجن الحربي

بضعة اشهر في سجن مصر

باقي المدة في سجنيّ بنى سويف ــ أسيوط

عدد من صدرت ضدهم أحكام بالسجن : حوالي 80 فردا


التوزيع الجغرافي للتنظيم ( 9 قطاعات )

القاهرة

الأسكندرية

الجيزة

كفر الشيخ

المنوفية

طنطا

السويس

بنى سويف

الشرقية

كان أفراد التنظيم (مارس 55 ) من تسع محافظات لكن غالبية أفراد هذا التنظيم الذي صدرت ضدهم أحكام كانوا من القاهرة الكبرى ( القاهرة والجيزة )

ولقد استطعت أن أحصى عددا لا باس به منهم كالأتي :

من القاهرة والجيزة  :


مبارك عبد العظيم عياد .... طالب علوم عين شمس

إمام سمير ثابت توفيق .... طالب زراعة عين شمس

عبد الفتاح الخضرى .... طالب تجارة القاهرة

محمود بسيونى عميرة .... خريج كلية دار علوم

مصطفى عبد الرحمن .... طالب ثانوي

زكريا الطباخ .... طالب إعدادي

حسن إبراهيم .... طالب بكلية الزراعة ثم صار أستاذا بها

محمود ابو السعود .... طالب أزهري ثانوي

الشيخ /إبراهيم البلاط .... خريج جامعة الأزهر

الشيخ / إبراهيم بركة .... خريج جامعة الأزهر

سعيد البواب .... ليسانس حقوق ــ ليسانس تربية

طاهر ابو سعدة .... طالب بدار العلوم

توفيق ثابت .... محامى

على مرجان .... طالب أزهري

إبراهيم معوض .... عامل

إبراهيم منير .... طالب حقوق القاهرة

عوض أبو زيد شوشه .... موظف

محمود العناني .... طالب بكلية التجارة

الشيخ عبد الجواد محرم .... خريج الأزهر الشريف

عبد الهادي القصري .... طالب ثانوي

يحيى النرش .... طالب ثانوي

ممدوح منصور .... طالب ثانوي ( امبابة )

ممدوح المنوفي .... طالب ثانوي ( مصر القديمة )

عبد الوهاب السقا .... طالب آداب

د / إبراهيم عبد الحميد الصياد .... طبيب

د / فاروق عبد الخالق الشافعي .... طبيب

د / أحمد عبد الحكيم بشر .... طبيب

شحاته هدهد .... موظف بالسكة الحديد

عبد الرحمن شفيق معروف .... طالب علوم عين شمس

محمد شوقي عبد الوهاب .... طالب بهندسة القاهرة

عبد المحسن الشرقاوي .... خريج حقوق

محمد عبد الرحمن الفرت .... صار فيما بعد أستاذا بكلية دار العلوم

مجدي زهدي .... طالب بهندسة القاهرة

إبراهيم دويدار .... طالب أزهري

عشيرى عبد السلام .... طالب بعلوم عين شمس

حسين عبد السلام .... طالب بهندسة عين شمس

عبد السلام الدوداني .... طالب


من المنوفية :

سعيد منسي .... طالب كلية دار علوم

عبد الحميد ماضي .... أعمال حرة

عبد الحفيظ يوسف .... مزارع

محمود يوسف .... مزارع

أبو الفتوح الشيخ .... طالب تجارة

سعد البي .... مزارع

محمد عبد المجيد عمارة .... مدرس


من الأسكندرية

عبد المنعم الوزان .... تاجر

إبراهيم الوكيل .... تاجر

إبراهيم درويش .... عامل بمصنع


من كفر الشيخ :

عبد المنعم الشيخ .... طالب

محمد كامل محمد عبد الرازق .... طالب هندسة القاهرة


من الشرقية :

صبري عنتر .... طالب هندسة القاهرة

محمد مندوه العزباوى .... صار عضوا بمجلس الشعب ( 2000 - 2005 )


من بنى سويف :

عبد الرؤوف بدران .... موظف

عبد الرؤوف كامل .... مهندس من فلسطين

حسن عبد الحميد صالح .... خريج آداب

عمر جبارة .... طالب علوم عين شمس


من القليوبية :

أحمد شعلان .... طالب ثانوي (استشهد في أحداث 1965 )

سلطان حسن سلطان .... طالب ثانوي


من طنطا :

شفيق شرف الدين .... طالب أزهري

عبد العزيز سليمان .... محاسب بنك

من الدقهلية  :

أحمد صالح الغزالي الجبيلي .... صحفي ( ابن عم الحاجة زينب الغزالى)

د / حسام الدين بسيوني .... طبيب

رجب الخميسي .... موظف

حسين عبد المعطي .... طالب ( مدرس حاليا )

على حسن عثمان .... طالب فنون جميلة

كمال عبد النبي .... كهربائي الأسكندرية محمد عبد الرحمن منصور .... معيد بهندسة الأسكندرية - صار عميدا لكلية الهندسة


من رشيد :

حسن عجلان .... مهندس


من أسوان :

أحمد توفيق كنزي .... طالب


من القاهرة  :

أنور عواد .... محامى

على على خليل .... مصر القديمة

نشأت عبد الغنى .... صاحب محل أحذية

عبد المجيد عياد .... صاحب محل أحذية

مكي بدير .... عامل

عباس فضل الله .... طالب

فوزي رمضان .... طالب بهندسة عين شمس

صلاح شلبي .... طالب أزهري

حسن إبراهيم .... طالب بكلية الزراعة وصار أستاذا بها حتى بعد

حمدي إبراهيم .... طالب


من السويس :

الحاج محمود إدريس

الحاج عباس فرج .... شيخ أزهر



(تنظيم يوليو 1955 )

عدد أفراد التنظيم : حوالي 475 فرد

حقيقة التنظيم : تنظيم مالي

رئيس المحكمة : اللواء صلاح حتاتة ( من رجال الثورة ) ومعه ضابطان

نوع المحكمة : محكمة عسكرية سرية

ملك التعذيب : لواء / حمزة البسيوني

مساعد / محمود عبد الجواد

المدعي  : مقدم / سعد الدين خليل ( ضابط جيش )

التهمة : محاولة قلب نظام الحكم ومساعدة اسر المعتقلين

هل يوجد سلاح ? : لا يوجد أي سلاح على الإطلاق

طبيب التنظيم : د / مصطفى أبو العنين ... من الأسكندرية

نسبة الشباب : 90 % من الشباب دون العشرين


قيادة التنظيم :

أ.د سليمان حجر صار فيما بعد عميدا لكلية التربية الرياضية

عباس عبد السميع

عبد المنعم سليم ..... خريج آداب القاهرة أنور رياض

محمد علي حسن

الأحكام :

أشغال شاقة مؤبدة : عبد المنعم سليم ـ عباس عبد السميع

15 سنة أشغال شاقة : سليمان حجر

10 سنوات :

إسماعيل حسونة ..... مزارع

عبد العظيم عبد المجيد ..... عضو مجلس الشعب ( 87 ــ 90 )

حسن عبد السلام

أحمد حامد قرقر ..... مات شهيدا في مذبحة طره


خمس سنوات : حوالي 100 فرد


وفيما يلي أسماء أفراد التنظيم :

أحمد حامد السيد إدريس ..... مدرس رياضة

محمد على العريشي ..... طالب بكلية التجارة

إبراهيم عبده عيسى ..... مقاول

محمد عبد السلام سلطان ..... مقاول

محمد محمود عبد الحميد خطابي ..... ليسانس حقوق

لطفي طه حسن ..... مهندس

سليمان محمد سليمان ..... براد ميكانيكي

يحيى فارس

أنور رياض

السيد الملاح

أحمد عبد الله

على موسى العزب

[[عوض عبد المتعال عوض]] ..... مدرس

عبد المتعال الشامى ..... صار فيما بعد أستاذا بكلية الآداب

أحمد شريف ..... مزارع

عبد الله أحمد حامد تاجر ( كبير في السن فوق الستين )

طبيب التنظيم / د مصطفى أبو العنين ..... طبيب

مصطفى عبد الله إسماعيل (المحامي )..... شقيق قائد سلاح الصاعقة في عهد المشير عامر


محمد أبو نعمة ..... موظف بوزارة الصحة ( من شبرا مصر )

مكرم حسن العناني ..... صحفي

محمد عبد العاطي ..... طالب هندسة

فوزي شهاب

عبد الغفار زكي ..... طالب بكلية الزراعة

عبد الوهاب زكي ..... طالب بكلية الزراعة

كمال عبد العزيز ..... موظف


ومن العجب ... أو إن شئت قل : هو انتقام من الله أن يموت ملكا التعذيب كالأتي:

1. حمزة البسيوني .. حادثة سيارة نقل محملة بأسياخ حديد التسليح اصطدمت مع سيارته الخاصة ... ودخل الحديد المسلح في كل جسمه .. واللهم لا شماتة

2. مساعد/ محمود عبد الجواد تسلل المرض إلى جلده حتى صارت الرائحة الكريهة والنتنة تفوح من جسده وتركه أهله حتى مات وتقزز الكثيرون من رائحة جثته ، ولاقوا عنتا كثيرا في غسله ودفنه. أما حساب الله في الآخرة ...

" ... ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره "

" إن الله عزيز ذو انتقام "

" .... وكفى بنا حاسبين "


تصفية المعتقلات ( تصفية 56 )

أجرى جمال عبد الناصر محاكمات لقضايا الإخوان الأربعة :

1- أكتوبر 54

2- يناير 55

3- مارس 55

4- يونيو 55

كانت المحاكمات كلها محاكمات عسكرية , وكانت حصيلة هذه المحاكمات حوالي تسعمائة شخصا محكوم عليهم بأحكام تتراوح بين :

1- الإعدام لحوالي ثلاثين شخصا تم تنفيذ ستة أحكام إعدام وخفف الباقي إلى السجن المؤبد .

2- الأشغال الشاقة المؤبدة لعدد فوق المائة

3- عشرون عاما أشغال شاقة لشخص واحد هو الأخ مالك نار من منيا القمح شرقية

4- الأشغال الشاقة خمسة عشرة عاما

5- الأشغال الشاقة عشرة أعوام

6- الأشغال الشاقة خمسة أعوام

أما المعتقلون فكانوا بالآلاف .. توالى الإفراج عنهم تباعا بعد انتهاء المحاكمات حتى افرج عنهم جميعا في يونيو ( 1956 ) وأخليت المعتقلات قبل إعلان عبد الناصر عن تأميم قناة السويس مما زاد في شعبيته جدا في المجتمع المصري ثم جاء إعلان تأميم القناة فصار عبد الناصر زعيما لا يبارى ومن ثم فان أطول فترة اعتقال كانت من 29 أكتوبر 1954 حتى 25 يونيو ( 1956 م ) أي حوالي عشرين شهرا بعد أن ظن نظام عبد الناصر أن هؤلاء المعتقلين قد تابوا وأنابوا ... ورجعوا عن معتقداتهم ... وظن أيضا انه قضى قضاء مبرما على دعوة الإخوان المسلمين ... ولكن هيهات!!


مذبحة طره ( يونيو 57 )

هل كانت نية عبد الناصر التخلص من جميع المسجونين بالقتل أو قتل بعضهم ليكونوا عبرة ونكالا للآخرين . ولقد جرت محاولتان لقتل المسجونين كلهم ... أو بعضهم .

واحدة جرت في يونيو ( 57 ) في سجن ليمان طره

والثانية بعدها في معتقل الواحات لقيادات الإخوان

نجحت الأولى ... وافشل الإخوان المسجونون المؤامرة الثانية وتذرعوا جميعا بالحكمة والصبر

عدد الذين تعرضوا للمذبحة في ليمان طره 183 ( مائة وثلاثة وثمانون ) رجلا من الإخوان المسلمين في هذا الليمان

استشهد 21 شابا من شباب الإخوان وجرح اثنان وعشرين جريحا آخرين وفقد البعض من هول المشهد عقولهم (1) أبطال تنفيذ هذه المذبحة من ضباط السجون هم :

1. عبد المتعال سلومة

2. عبد اللطيف رشدي

3. عبد الله ماهر

أما القيادة الفوقية لهؤلاء الضباط المنفذون فهو واحد من رجال الثورة .. صلاح الدسوقى الشيشتاوي ... وهو من المقربين لعبد الناصر ... وصار محافظا للقاهرة فترات طويلة ... وتقلد وظائف أخرى كثيرة في عهد عبد الناصر منها أمين الإتحاد الإشتراكي بالعاصمة

أما رجل الثورة المنوط به مهمة القضاء على الإخوان والذي أعطى التعليمات بالمذبحة فهو " زكريا محيى الدين "


أسماء الشهداء :

من الأسكندرية  :

1. إبراهيم محمد أبو الدهب موظف بالسكة الحديد، متزوج وله ثلاثة أولاد

2. محمود العطار ..... ترزي ..... متزوج

3. السيد على محمد ..... تاجر ..... متزوج وله ثلاثة أولاد

من القاهرة  :

1. عبد الله عبد العزيز الجندي ( شبرا ) ..... موظف بالسكة الحديد ..... متزوج وله أولاد

2. عبد الفتاح عطا الله ( شبرا ) ..... ترزي ..... متزوج وله أولاد

3. مهندس / محمود محمد سليمان ( العباسية ) .....مهندس بالسكة الحديد ..... متزوج وله أولاد

4. أحمد محمود الشناوي ( العباسية ) ..... موظف ..... أعزب

5. أنور مصطفى ( مصر القديمة ) ..... عامل بالمدابغ

6. عثمان حسن عيد ( مصر القديمة ) ..... طالب بكلية دار العلوم

7. على حمزة ( حلوان )..... قمصانجى

من الجيزة  :

1. سعد شوقي ( إمبابة ) ..... موظف

2. مصطفى حامد ( امبابة ) ..... طالب

3. محمد السيد عفيفي ( بين السريات ) ..... طالب

من المنوفية :

1. فهمي إبراهيم نصر ..... طالب ثانوي

2. محمد نواره ..... عامل مطابع

من الدقهلية  :

1. خيري الدين إبراهيم عطية ، طلاب أزهري بطل لعبة السلة (1)

2. أحمد حامد قرقر ..... محاسب خريج كلية تجارة ، متزوج وله ولدان ( من دنديط مركز ميت غمر دقهلية ) صار أحد أولاده بعد اكثر من عشرين عاما كاتبا صحفيا مرموقا وهو الأستاذ محمد مورو )

من السويس :

مصطفى عزت عثمان ..... موظف بشركة بترول

من المحلة الكبرى ( غربية ) :

السيد العزب صوان ..... موظف ..... متزوج وله أربعة أولاد

من كفر الشيخ :

رزق حسن إسماعيل ..... مزارع ..... متزوج وله 3 أولاد

من الشرقية :

أحمد عبده متولي ..... طالب بكلية الزراعة


فهؤلاء إحدى وعشرون شهيدا .. اللهم تقبلهم في الشهداء ... آمين


تعقيب :

ظن عبد الناصر انه قد قضى تماما على بقايا الإخوان بعد القبض على التنظيمات الثلاثة ( يناير ومارس ويونيه 55) ولذلك بدأ في الإفراج عن المعتقلين , فقام بتصفية المعتقلات في يونيو ( 56 ) ... ثم توجه إلى التعامل مع المسجونين من الإخوان المسلمين ... فكانت خطته كالأتي :

1. توجيه ضربة قاصمة لمجموعة من شباب الإخوان فكانت مذبحة طره ... هذه

2. الوقيعة بين صفوف الإخوان وقياداتهم في السجون وبث الفتنة في صفوفهم

3. طلب تأييد الحكومة المطلق في كل تصرفاتهم من مسجوني الإخوان في مقابل الإفراج عنهم .. في ظل ظروف ضاغطة جدا على الإخوان المسلمين المسجونين ... وذلك بنفيهم إلى الصحراء في سجون في جوف الصحراء الحار جدا صيفا , والبارد بل والصقيع جدا شتاءا .. مع تعذيب أهليهم في زيارة ذويهم من المسجونين .. وكانت مناسبة حرب السويس في ( 1956 ) مناسبة قوية لبدء هذه الخطة في التفرقة والوقيعة بين أفراد الإخوان المسلمين .

فكان من أبدى تعاطفه مع الحكومة ... أو اعتذاره عما سبق من انتماء ومناصرة للإخوان ... كان هذا سببا كافيا للإفراج عنه شريطة أن يدع جماعة الإخوان جانبا تاركا لكل هذا الماضي والبحث عن لقمة العيش . وكان من يرفض هذه المساومة . فله التشريد كل التشريد والتعذيب داخل معتقلات " الواحات " و" المحاريق " في الصحراء الغربية في مصر بعد أسيوط بسفر طويل .

وكانت محنة قاسية جدا ... لم يصبر عليها إلا الأفذاذ من الإخوان المسلمين .. وأما من لم يصبر فقد اتجه إلى الأخذ بالرخصة على أن السجن إكراه وكل إكراه يستطيع الإنسان معه أن يترخص إلى أي مدى من الترخص خصوصا بعد الإفراج عن أول دفعة ممن سموهم بـ " المؤيدين " في ديسمبر 1958 م .


التنظيمات المالية

بدأت الأمور خارج السجون تهدأ كثيرا ... وتقلص نشاط الإخوان تماما .. ولكن روح " الاخوة " التي ذرعها الإمام الشهيد حسن البنا في قلوب الإخوان بقوة ... كانت هذه الروح دافعا إلى قيام عدد كبير من التنظيمات المالية للإخوان المسلمين لمساعدة اسر وعائلات المسجونين وكما أسلفنا تم القبض على ثلاثة تنظيمات في يناير ومارس ويونيو ( 1955 ) .. ولما كانت تقارير المباحث تقول انه يستحيل منع قيام مثل هذه التنظيمات التي كانت تسمى " تنظيمات غير ذات الشوكة " .. فلقد تغيرت خطة الحكومة ـ آنذاك ـ في التعامل مع هذه التنظيمات واكتفت برصدها ومتابعتها .. ولم يكن هناك رابط بين هذه التنظيمات فكل محافظه لها تنظيمها بل كل مركز شرطة ... أو قسم شرطة له تنظيمه المالي الخاص وذلك خوفا من كشف هذه التنظيمات وحفاظا على سريتها . فقام في أنحاء مصر حوالي ثلاثين تنظيما ( حسب رصد المباحث ) .. وهذا ما صرح به وزير الداخلية المخضرم والمتفاني في عمله اللواء عبد العظيم فهمي .. فيما بعد ويبدو أن هذه كانت سياسته الشخصية والتي وافق عليها أمنيا الرئيس جمال عبد الناصر .

ولكن هذا التنسيق بين هذه التنظيمات بعد طول الوقت ... ثم الشعور بالأمان بدأ مع طلائع عام 1961 .. وبلغ هذا التنسيق ذروته في عام 1964 حيث قام الأخ المحاسب عبد الحميد الطنبداوي]] من إخوان المنوفية بجمع كل التنظيمات المالية تحت قيادته ـ كما تقول أوراق التحقيق ـ وقام ينسق بينهما حتى قبض عليه في عام 1965 وحوكم في محكمة عسكرية قضت عليه بالسجن ثلاثة سنوات ثم الاعتقال ثلاث سنوات أخري ... ولا شك أن لهذه التنظيمات فوائد عديدة منها :

1 - رعاية اسر المسجونين

2- استمرار روابط الاخوة بين أفراد الإخوان لحين إشعار أخر

3- تنمية روح التكافل والترابط بين الإخوان

4- تبادل المعلومات بين أفراد الجماعة

5- تبادل أخبار الإخوان المسجونين وتقديم خدمات جليلة لهم ... فضلا عن رعاية أهليهم .

6- التواصل النفسي والفكري والثقافي بين الإخوان حتى في أحلك الظروف

7- إعطاء دفعة نفسية قوية للإخوان المسجونين .. وذلك بإشعارهم برعاية إخوانهم لهم .. ورعاية أهليهم أيضا .

8- إيصال العلاج والدواء للإخوان في السجون .

9- لا شك أن الحركة تنمى الإيمان .. والإيمان يدفع إلى مزيد من الحركة وهكذا.

تعقيب :

إن خطط حسن البنا التربوية للربط بين أفراد جماعة الإخوان المسلمين قد نجحت تماما في استمرار هذا البنا ء وهذه الخطط للإمام حسن البنا تمثلت في الأتي .

- غرس الشعور العميق بالانتماء إلى جماعة ... ومدارسة كل الآيات والأحاديث التي تحض على الجماعة ... ولقد استقر هذا الشعور في الأعماق الغائرة لأفراد جماعة الإخوان بل يمكنك القول انه صار مكتوبا على شفرة جينات أفراد الإخوان المسلمين بمقتضى الإيمان " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا "...

- جعل ركن " الاخوة " من أركان البيعة .

جعل مادة علم " الحب في الله " من العلوم الروحية المميزة لأفراد الإخوان المسلمين ... والحب في الله نشأ وترعرع في ثقافة وفكر جماعة الإخوان ... ولقد كان الإمام البنا حريصا في كل محاضراته على البدء بغرس روح الحب في الله بين الإخوان المسلمين .. في مقدمة معظم خطبه العامة والخاصة وسماها " عاطفة الثلاثاء "في دروس الثلاثاء التي كان يلقيها بانتظام في مقر الإخوان بالحلمية بالقاهرة .

جعل نظام الأسر التربوي بين الإخوان يربى فيهم ثلاثة صفات أساسية تدعم الرباط بين الإخوان حتى صار كالعروة الوثقى ... لا انفصال لها .

هذه الصفات الثلاث هي :

1- التعارف .. فالتعارف يرفع الحاجز النفسي بين الناس

2- التفاهم ... والتفاهم ييسر التعامل بينهم .

3- التكافل ... يوثق الرباط بينهم.

وهذه الوسيلة تعمق السلوك الجماعي بين أبناء الإخوان وتجعلهم قادرين على استمرارية الروابط حتى في احلك الظروف لذلك كتب الأستاذ / جمعة أمين (1) كتيبا يجعل نظام " الأسر " من ثوابت الإخوان المسلمين لان هذا الفكر التربوي حافظ على استمرارية الجماعة ثمانين عاما في ظل ضغوط نفسية هائلة ضد الإخوان المسلمين .. وكل نظام ينجح تحت ظل الضغوط فهو نظام جدير بالاحترام والتقدير كما تنبئ السطور التي كتبها الأستاذ / أمين جمعه ... حتى قال بعض المتحمسين من الإخوان " من لم يذق طعم الأسر في الإخوان ... فهو لا يعرف الإخوان "

وبعد

فهذه عجالة موجزة عن التنظيمات المالية للإخوان بقيادة الأخ المحاسب عبد الحميد الطنبداوي وهو من إخوان " المنوفية " وكان يتميز بالهدوء والسكينة والصمت مع الدأب الشديد في جمع الأموال لأسر المسجونين .. ولقد عذبوه في السجن الحربي عذابا شديدا .. نسأل الله أن يجعله في ميزان حسناته يوم القيامة ... آمين



الفصل الثاني : البداية الحقيقية للتنظيم


تمهيد :

بدأ التفكير في التنظيم مبكرا في المعتقلات ... فبعد صدور الأحكام في المحاكمات الأربعة للإخوان المسلمين  :

قضية أكتوبر 54

قضية يناير 55

قضية مارس 55

قضية يونيو 55

بدأ الإفراج عن الإخوان المعتقلين بشيء من الانفتاح داخل السجن .. وصارت حياة المعتقلين بدون كرباج أو تعذيب مع فتح الزنازين نهارا .. وترك حرية التنقل بين الزنازين للاخوة المعتقلين داخل السجن الحربي .. وتمت تصفية المعتقلات الأخرى حين كان المعتقلون يقدرون بحوالي عشرين ألفا في القضايا الأربعة السابقة ... تمت التصفية إلى حوالي ألفين فقط في السجن الحربي ... وبعد الأهوال التي عاشها هؤلاء المعتقلون من قبل .. جلس الإخوان المعتقلون يتناقشون في حرية .. هي حرية المساجين داخل السجون .. وبالطبع كان بينهم عدد من غير الإخوان ذاقوا هذه الأهوال , وعاشوا هذه المحنة .. جلس الجميع يناقشون كل ما يعن لهم من قضايا فقهيه .. وقضايا فكرية .. فيما يسمى زيفا بالانفتاح الفكري

هل عندما اخرج إلى الحياة الحرة .. هل أعيش مع الإخوان ؟

هل اترك الإخوان تماما ؟!!

هل اقتنع بالفكرة دون تنظيم ؟

هل يمكن أن أعيش مع تنظيم مرة أخري .. وأعاود حياة الأهوال والتعذيب ؟

هل اترك الفكرة والتنظيم ... أم اترك التنظيم وأحيا بالفكرة ؟

هل الفكرة ... يمكن أن تعيش دون تنظيم ؟

هل يمكن أن يكون هناك تنظيم ... بلا تنظيم ؟

هل اخطأ الإخوان المسلمون ؟

هل هذا الخطأ فكرى .. أم سياسي ... أم كلاهما؟


هل عند الإخوان برنامج عملي لحل مشاكل الأمة ؟

هل صعود نجم عبد الناصر المستمر .. يدل على انه على حق ؟!

ثم ...

التنظيم الخاص ... هل هذه الفكرة خطأ من أساسها.

هل يمكن أن تعيش الجماعة بدون تنظيم خاص ؟

هل يمكن أن يكون هناك تنظيم خاص بلا سلاح ؟

ثم عبد الناصر ...

ماذا نفعل معه ؟

هل ننتقم منه ونقتله فعلا ... انتقاما لشهداء الإخوان ... وهل قتل عبد الناصر ... يصلح أن يكون هدفا مستقلا لتنظيم جديد ... وهل سيكشف عبد الناصر هذا التنظيم ؟ .. ثم يعاود الكرة من جديد ... ونعود إلى وجه حمزة بسيوني ونواجه الكرابيج والمعتقلات ... وعصر الكلاب المتوحشة وتنهش هذه الكلاب أجسامنا مرة أخرى .. !!

ودار حوار طويل

وفى ركن من أركان السجن كان هناك ثلاثة من الإخوان المسلمين .. يستمعون .. ويستمعون .. وينصتون طويلا لهذه الحوارات ...

هؤلاء الثلاثة هم القادة المؤسسين لتنظيم ( 65 )

1. المهندس محمد عبد الفتاح رزق شريف ( رحمه الله ) .. مهندس مساحة من دمنهور عمره ــ آنذاك ــ حوالي أربعين عاما ... يبتسم كثيرا .. مولع بمتابعة الرؤى وتفسيرها .. رحمه الله رحمة واسعة ( مات عام 2002 عن عمر 91 عاما )

2. الشيخ عبد الفتاح إسماعيل ( رحمه الله ) .. طالب أزهري ... دون الثلاثين من عمره ... يتمتع بروحانيات عالية .. من دمياط

3. الأستاذ عوض عبد المتعال عوض ... شاب ... من المنصورة ... دون العشرين من عمره فقد اعتقل وعمره تسعة عشر عاما .. مدرس ابتدائي وفى الوقت نفسه طالب منتسب في كلية التجارة جامعة القاهرة (1) .. طويل ... أبيض الوجه مع حمرة شديدة .. إذا رأيته توهمت أنه خواجة من الخواجات .. ولهذا سماه الإخوان " الخواجة " وصار هذا هو الاسم الحركي له ... لم يتزوج بعد ... ولكن وقر في نفسه أن يتزوج بنت أحد الإخوان المسجونين من أبناء المنصورة وبالفعل تزوج بنت الأستاذ عبد الحميد البرديني .. الرجل الثاني في إخوان المنصورة

تناقش هؤلاء الثلاثة طويلا مع بعضهم البعض ماذا بعد الإفراج ... وقرروا أن يفحصوا الإخوان بعد المحنة وفى داخل السجن .. ومن كان ذا عزيمة قوية .. ورغبة أكيدة في الاستمرار في دعوة الإخوان المسلمين رصدوه رصدا جيدا وعرفوا أحواله وظروفه وعنوانه وكيفية الاتصال به بعد الإفراج .. وذلك في صمت حتى لا يلفتوا إليهم الأنظار ... السمة الواضحة لهؤلاء الثلاثة المؤسسين هو النشاط الدؤوب بلا ملل .. فهم أصحاب عزيمة لا تعرف إلا النوم القليل الذي يريح الأبدان فقط من التعب والكلل حتى يمكنهم استئناف الحركة .

طعامهم قليل ... تعلقهم بمباهج الحياة محدود جدا إن لم يكن منعدما .

أكبرهم سنا ... المهندس محمد عبد الفتاح شريف كان كثير الصلاة بالليل .. ولقد جاورته في غرفة رقم ( 5) في مزرعة طره عنبر رقم ( 2) فكان يصلى العشاء وينام بعد الصلاة مباشرة ثم يقوم في حوالي الساعة الثانية عشرة ليلا ... صيفا شتاءا ويظل يصلى حتى صلاة الفجر .. ولم يكن أحد من الشباب يستطيع أن ينافسه في هذا الخير رغم أن عمره كان قد تجاوز الستين واغلب من معه في الحجرة شباب بين الثلاثين والأربعين .. ولقد اعتقل في أعوام 54 , 65 ( 10 سنوات سجن ) , وعام 1981 ( 12 شهرا ) , وفى عام 1995م اعتقل وحوكم أمام محكمة عسكرية وعمره 89 عاما وانتقل إلى جوار ربه راضيا مرضيا ـ إن شاء الله ـ عام 2002 بعد حياه حافلة في خدمة دعوة الإخوان المسلمين .. وله مذكرات لم تنشر بعد .

أما الشهيد الشيخ عبد الفتاح إسماعيل فكان يجوب مصر كلها من دمياط إلى أسوان يتاجر في الحبوب بين كل المحافظات ويعيش هو وأهل بيته على الكفاف .. ولما استشهد لم يترك لهم درهما ولا دينارا ... أقصد دولارا .. يحضر من دمياط بالليل ويركب سيارات الشحن والنقل توفيرا للقروش القليلة .. ثم تجده يصلى الفجر في إمبابة بالجيزة .. ويذهب بعد الصلاة إلى منزل الأخ مرسى مصطفى مرسى الذي يفاجأ به بعد الفجر. وسوف أفرد له ـ إن شاء الله ـ صفحات خاصة في موضعها .

أما الأستاذ عوض عبد المتعال .. فلا أريد أن أتحدث عن مناقبه لأنه الان حي يرزق .. فنترك مدحه أو الثناء عليه أو تعداد مناقبه لله عز وجل


ولقد أجريت حوارا مع الأخ عوض عبد المتعال أسجله هنا منفردا للتعريف ببدايات التنظيم قال :

تعرفت على الإخوان وأنا شاب وشاركت في مظاهرة في المنصورة في فبراير 1954 م وكان عمري حينئذ 19 عاما .. وكنا نهتف

يسقط حكم البدلة الصفراء

عد يا جيش إلى ثكناتك .

نريد حياة نيابية .

واعتقلت مع تنظيم يوليو 55 حيث كان رئيس التنظيم كله الدكتور سليمان حجر .. الذي كان اكثر الإخوان تعذيبا على الإطلاق .. وكان مسئول الشرقية الأستاذ / عبد المنعم سليم جبارة .. والذي عذبوه عذابا رهيبا مثل د/ سليمان حجر ... وكان ثالث من عذبوه عذابا لا يطاق هو الأخ عباس عبد السميع .. لأنه كان رياضيا موهوبا .. فهو بطل ملاكمة ممتاز .. وهو كذلك لاعب كرة من أمثال بيليه يستطيع أن يحرز هدفا بكرة ( اسكرو ) من الكورنر .. والتاريخ لم يحفظ اسما لامعا للاعب الكرة يستطيع أن يفعل هذا غير بيليه الشهير .

غالبية ( 90% ) تنظيم يوليو ( 1955 ) من الشباب .. وفى السجن تعرفت على كل من الشهيد عبد الفتاح إسماعيل و محمد عبد الفتاح رزق شريف .. مهندس مساحة ... وكانت المفاجأة السعيدة بعد خروجنا من المعتقل في يونيو ( 1956 ) هي نقل المهندس محمد عبد الفتاح رزق شريف إلى المنصورة مديرا لهيئة نزع الملكية في محافظة الدقهلية .. وتوثقت صلته بإخوان المنصورة ومنهم الأستاذ محمد هلال والأستاذ على موسى

ويكمل الأستاذ عوض عبد المتعال الحديث فيقول:

" قدر الله ساقني إلى الأستاذ محمد عبد الفتاح , و الشيخ عبد الفتاح إسماعيل , وجمعنا بداخل المعتقل في السجن الحربي عام 1955 وقلنا لا بد من أن نتخلص من عبد الناصر بقتله , عندما خرجنا كنت وقتها طالبا في الثانوية العامة ومكثنا في المعتقل أقل من عام وعندما خرجنا ناقشنا هذا الموضوع مع الأستاذ عبد الفتاح شريف , وأنا لم تكن ظروفي تؤهلني لذلك , ثم جاء المهندس عبد الفتاح الشريف إلى المنصورة مفتشا عاما على المساحة لنزع الملكية , وبدأت أكون قريبا جدا منه وشبه ظله , وبدأنا نتكلم كيف نبدأ والإخوان الموجودون في المحافظات ليسوا مرتاحين لأية فكرة لتجميع للإخوان , فقلنا أولا : لابد أن نضع هدفا قريبا وهدفا بعيدا , الهدف القريب أن نوقظ الإخوان بعيدا عن الإخوان المسؤولين والهدف البعيد أن نتخلص من عبد الناصر , وفكرنا في تكوين مجموعة فدائية حوالي(50) فردا وهؤلاء يدربون تدريبا معينا وبشكل معين ليقتلوا عبد الناصر .

الشيخ عبد الفتاح كان تاجرا للحبوب , وكان يجوب مصر من شرقها لغربها , وأنعم الله عليه بالقرآن , وكان صوته جهوري , ونحسبه ولا نزكيه على الله من ذوى الإخلاص , وكان له عبارة : " الدنيا إذا دخلت قلب الواحد خرجت منه الجنة " وقد قالها لي بمناسبة أحكيها للعظة والعبرة ... أنا كنت ذاهب إليه في كفر البطيخ , وعزبته كانت في ظهر الكفر , ففي يوم من الأيام زوجته طرقت الباب وقالت : أنا استأذنت الحاج عبد الفتاح في أن أشكوه لك وقد قبل حكمك .

فقالت عنه أنه مشغول دائما بضيوفه , ولذلك لا نراه ويعطينا مصر وف شهري سبعة جنيهات نشترى منهم تموين باثنين جنيه , فيتبقى خمس جنيهات , ونحن نريد فلوس لتربية الطيور كي نطعم منها الضيوف الذين يحضرون ففاتحته في ذلك , فقال اسمع يا عوض :" الدنيا إذا دخلت قلب الواحد ستخرج منه الجنة فاتركني وشأني فلم أتركه , واتفقت معه أنه إذا جاءه ضيف أن يتركه ينام وحده وينام هو في بيته أما عن المصروف فظللت وراءه إلى أن جعلته 9.5 من الجنيهات .

وكان الحاج عبد الفتاح فارسا , ذات مرة ذهبنا للبحث عن مكان ينفع للمصيف , فكان عنده حصان وحمار فركبت أنا الحمار وركب هو الحصان وذهب لقضاء حاجته , ولحقت به على شاطئ البحر الأبيض نبحث عن مكان يصلح مصيفا لمجموعة من الأفراد فقلت له هذا المكان مسطح ومكشوف وأي حركة ستظهر فيه , وإذا بنا نسمع واحدا ينادى عليه , فقلت له هل رأيت يا عم أن هذا المكان لا ينفع .وذات مرة ونحن نتحرك لتجميع الإخوان رأينا حركة تجميع في ميت غمر كان بها علي عشماوي والأخ أمين شاهين وكان مهندسا ضابطا , ومجدي عبد العزيز وعبد المجيد الشاذلي في الأسكندرية وآخر في طنطا , وبدأنا نعمل مناهج وأسر ودراسة وتجمعات , فكان من ضمن ما نفكر فيه مجموعات التدريب .


علي عشماوي وقدراته :

وكان هناك شك في علي عشماوي وكنت أنا والحاج عبد الفتاح نزكى علي عشماوي وكان قريبا من سني وكنت أرى فيه إنسانا عنده ذكاء وقدرات تفوق قدراتي وقدرة على البذل فكان في كلية تجارة وكاتب في محل نحاس بالأزهر يأخذ 10.5 جنيه وكان يأتي من القاهرة للمنصورة بعشر قروش على عربة نقل , فيصلى عندي العشاء ويجلس معي ويركب عربة نقل من على الطريق ويصل إلى القاهرة الساعة 7.30 صباحا فيذهب لعمله , من قدراته وذكائه عندما كان يريد أن يرسل إلىّ شيئا من القاهرة يتفق معي على قطار معين لا يتغير من طنطا ويتفق معي أن يضع هذا الشيء في حقيبة معينة , ويضعها في مكان معين في القطار وكان يرسل المطبوعات أو المنشورات بهذه الطريقة في التنقلات كان يقول لنا مثلا وكنا بدأنا في نقل السلاح فكان مثلا يقول أنا الذي سأنقل السلاح وسأركب مواصلات أتوبيس , فكان يضع السلاح في شنطة ويضع الشنطة , ويتعمد أن تقع على أحد الركاب , ثم يعتذر للراكب ويتركها وينزل فيعرف أنها ليست له , ويكون أخ آخر يركب يلاحظ ما يحدث . فإذا وصل بالسلامة أخذها وإلا فليست ملكا له , أيضا من الأشياء التي استعمل فيها ذكاءه , ذات مرة اشترينا سلاحا من كرداسة , مدفع رشاش , صغير , فوجدت علي عشماوي لفه في جرنال فركبنا بالسلاح عدة مواصلات , فسألته لماذا لم تركب مواصلة واحدة , فقال الموصلات المتعددة تؤكد هل هناك أحد ورائي أم لا , فقال هذه لو خبطت في واحد هل سيتصور أنها مدفع , أما في شنطة سوف تفتش ... كانت العلافة بيني وبينه وثيقة جدا فلو جاء وأنا لست موجودا الأهل يفتحون له البيت ويظل داخل الغرفة إلى أن أحضر إليه , وأنا كذلك وأصبح يشكل أمامنا عنصرا جيدا , عملنا مصيف جمصة وكان محمد عواد (أحد إخواننا من بلبيس استشهد في التعذيب 1965 حيث أخذوا يضربون فيه إلى أن هشموا رأسه على الفسقية ) وكان شاعرا بدويا ـ هو الحارس للمعسكر , ولا يجلس أبدا في العشة , وكان الشيخ عبد الفتاح يتردد علينا قليلا لأنه معروف في هذه المناطق فأخونا محمد قال يا عوض العشة التي بجوارنا هذه من الإخوان فقلت له كيف ؟ فقال هم يقرأون بعد الفجر المأثورات , وأول الشمس ما تطلع يخرجوا اثنين اثنين ويجرون على الساحل ويعودون بعد ذلك , فذهبت لأراهم فعرفت بعضهم , , فتجاهلوني وسلموا علىّ سلاما فاترا وسألوني من أنت ؟ فإخواننا عندما علموا أنني عرفتهم قرروا أن ينهوا المعسكر , في هذا اليوم كنت مسافرا فوجدت 12 فردا يجلسون في العربية , فذهبت وسلمت على من أعرفهم منهم, وسألنا على ذلك فأوصلونا إلى علي عشماوي ودخل بعضنا على علي عشماوي في تنظيم 1965 .

تكوين القيادة ووضع الخطة وبدء التدريب :

وبدأنا نعمل قيادة للعمل من الأشخاص السابقون , وبدأنا نفكر في اختيار العناصر , ومن سوف يدرب , ومن المسؤول عن جمع المعلومات وعن ذلك , فكان أحمد عبد المجيد هو المسؤول عن جمع المعلومات ويقوم بالتدريب علي عشماوي وأجرنا شقة في منطقة بالأسكندرية وكانت الخطة أن يكون هناك ثلاث أماكن للضرب , منطقة في الوسط تضرب الموكب في أوله, فإذا جرى أحد تلحقه المجموعة التي في الأول ,وإذا رجع للخلف تلحقه المجموعة التي في الخلف فالضرب يبدأ من وسط الفوج وبدأنا ندرب الشباب على استعمال السلاح والقنابل اليدوية , وتخيرنا بعض العناصر التي ليس لها التزامات مثل عوض وعلي عشماوي وأحمد عبد المجيد ومجدي عبد العزيز , فكان علي عشماوي يشرح لنا القنبلة ويضعها تحت السرير ثم يعطها لي ويقول ـ مثلا ـ يا عوض اذهب إلى المنطقة المعينة وستجد أحد الأفراد يكلمك ويقول لك يا عوض أو مثلا يحملك شنطة ويقول لك إن بها سلاح وعليك أن توصل الشنطة إلى شخص معين في مكان معين بعلامة معينة فمثلا تكون العلامة بأنه يأتي شخص ويعطيك 25 جنيها مكتوب على خمسة منها الله , فإذا رأيت العلامة وأنت تعد الفلوس تعطيه الشنطه .

فإذا خرجت بالشنطة كان يخرج ورائي واحد يراقبني ويرى كيف أتصرف , الشنطة ليس فيها سلاح بل فيها حجارة أو صابون أو سكر فكنا نقف في انتظار هذا الرجل في رعب وننظر في الساعة وبعضنا كان يعود ويقول لم يأت أحد وبعضهم يقول أشياء أخري .. يكاد المريب يقول خذوني .. وكان بعضنا يوفقه الله ويؤدى دوره , فهذا كان نوعا من التدريبات .

من الأشياء التي حدثت معي حيث كانوا يريدون تدريبي على قوة الأعصاب , فأخذوني في مزرعة في الليل وكان وقتها ليس فيه قمر , أثناء موسم زراعة الأرز , فقالوا لي سوف تمشى وتجد " زريبة " للمواشي عندما تدخلها مد يدك في مكان التبن , ستجد ربطة أحضرها , وكان المكان موحشا فذهبت ودخلت " الزريبة " وخضت في روث البهائم إلى أن وصلت للطاولة التي يضعون فيها التبن , فوجدت شئ امسكني من رأسي وأدخلني بداخل التبن , وطبعا كانت مفاجأة لي , فحاولت الإمساك به فهرب , ونزلت أنا في الروث , ولم أجد شيئا فرجعت إليه فقال لي يا عوض أنا نقلت الشيء إلى مكان أخر فقلت أين فقال سوف تسير حتى تجد كوبري , سوف تجد الشيء مربوط بقطعة قماش تحت الكوبري , فذهبت ونمت على بطني ومددت يدي لأخذ القماش , فرأيت من جذبني وألقى بي في الترعة , فقاومت وعدت إليهم وليس عندي أعصاب , وأثناء سيرى وجدت شخصا يأخذني من فوق وينزلني تحت , واستكملت سيرى فشعرت بان هناك شخصا في الأرز فأحببت أن أقول له أنا شايفك ومن التوتر العصبي الذي أنا فيه قلت له " لولو لو لو " وكان هذا من الأشياء التي كان إخواننا يدربونا عليها .

تغير هدف التنظيم:

بدأنا نجهز ونستعد وكان لابد من الاستئذان , الأستاذ المرشد الهضيبى كان في بيته , اتصلنا بالحاجة زينب وكان لنا بها علاقة طيبة , وكانت تعرف ماذا تفعل , وكنا نزورها , فالأستاذ شريف وعبد الفتاح زاروها ذات يوم وطلبوا منها أن تقابل المرشد وتستأذنه في العمل , فذهبت وعادت تقول على لسانه أن العمل لا يحتاج الأذن , الأستاذ شريف كان يجل الأستاذ الهضيبى , وذهب إليه وكلمه , ولكنه لم يستطع أن يقول ماذا يريد بالضبط , فكان الاستئذان ليس عاما ولا كافيا , قالوا لنا أننا لو عملنا شئ سوف يذبحون الإخوان في المعتقلات , فالحاج عبد الفتاح ذهب للواحات وزار الإخوان وزار الأستاذ محمد العدوي وسأله هل لو نحن عملنا شئ بالخارج هل تعتبرون انتم أسرى ويقتلونكم , فقال له لو فعلنا سوف نكون فداء لأي عمل للإسلام , ولم يقل له ما هو هذا العمل .

بدأنا نبحث عن إخواننا القدامى وأرسلنا أحد الاخوة لزيارة الأستاذ فريد عبد الخالق , فقال والله لو سمعت أنكم كلمتم أحدا بعد اليوم فسأبلغ أنا عنكم المباحث , وبدأ يبين لنا مخاطر هذا الأمر , الأخ مراد الزيات سمع قال نفس الكلام , وكان هناك أخ اسمه حسن عبد الغنى من إخوان فلسطين , وعرضنا عليه الأمر , فطلب منا طلبات وأسماء الإخوان فلم يعجبنا هذا الكلام لأنه لم يكن منا بدرجة كبيرة , ذهبنا للأستاذ عبد العزيز على كان وزيرا للشئون البلدية والقروية في عهد عبد الناصر , وحوكم في القضية التي كنت فيها , وكان رجلا فاضلا وكان في الحزب الوطني , وكان الحزب الوطني أيامها حزب جهادي , فكانت نصائحه جيدة طيبة , ولكن لم نستطع مفاتحته في الأمور بوضوح , ضاقت الأمور فقلنا نحضر بعض عقلاء الإخوان , فذهبنا إلى بيت الشيخ علي أخو عبد الفتاح إسماعيل في المطرية , وجلسنا فيه يوم وليلة , وكان معنا الحاج الشيخ عبد المتعال الجابرى ـ رحمه الله ـ وأخ يسمى محمد موسى بالبحيرة وأخ ضابط شرطة سابق وعوض ومجدي وعبد الفتاح شريف والأخ عبد المجيد الشاذلي .

بعدما تصورنا أننا اخترنا الخمسين واحدا وتصورنا أن لدينا قاعدة إخوان تتحرك في كل المحافظات وأصبح هناك تنظيما في القطر كله , يعيد حركة الجماعة بعيدا عن الإخوان المسؤولين في المحافظات , فكانوا لا يعرفون شيئا , ولكن تسربت لهم بعض الهمهمات , أننا نفعل كذا وأصبح لنا كذا , وأصبح هناك كلام وتساؤلات تتم بين الإخوان , هذا الكلام كان عام 1959 و 1960 فبعد خروجنا من المعتقل بأربع سنوات استطعنا جمع الناس في المحافظات المختلفة , وأصبح يوجد مسؤول عن المعلومات , وعن الصعيد , ووجه بحري , وغيره , وهذا ما دفعنا أن نبحث عن الإذن لنفعل الشيء , فجلسنا ـ نحن قيادة التنظيم ـ في المطرية مع بعض عقلاء الإخوان الكبار وكانت جلسة صعبة جدا بيننا وبين إخواننا العقلاء لاستشارتهم , فاختلفنا كثيرا , ولكن كلانا كان يريد إرضاء الله ولا يريد إلا المصلحة , وكان عبد الفتاح شريف رأيه ضد رأينا كثيرا , حتى بعد أن صوتنا كان صوته وحده لابد أن نستمر ونفعل شئ مع عبد الناصر حتى في التحقيقات كان له كلمة مأثورة عندما يؤلمه الضرب , كان يقول " يا ندمى سمعت كلام العيال " وهو يقصد أنه سمع كلامنا نحن ووافق على ألا يفعل شيئا وهم كانوا يأخذونها بمحمل آخر أنه سار مع الإخوان .

انتهينا في هذه الجلسة بأن طرح الأستاذ عبد المتعال الجابرى ـ رحمه الله ـ أسئلة , وكان ذلك إلهاما من الله أسقط كل حجة كنا نتحدث فيها , السؤال الأول : هل نحن عندنا أفراد في الجيش يغطون العمل الذي نعمله ؟ نحن لو قتلنا عبد الناصر من سيجنى الثمرة ؟ سوف يأتي الشيوعيون للحكم ويفعلون مثل عبد الكريم قاسم الذي يسحق العلماء والإخوان في الغرف , فكان يضع الأخ في عربة ويسيروا في اتجاهين مختلفين فيفسخوه , وكان يطلق على نفسه الزعيم الأوحد , فقال : هل عندنا أحد في البوليس يستطيع أن يقف ويغطى حركاتنا ؟ هل القاعدة الشعبية في مصر عندما يحدث مثل هذا تستطيع الثورة ! ويكون هناك عصيان مدني , وأنه لابد من التغيير , والشعب يعمل حاجة , ونكون نحن استثمرنا ما فعلناه . تم الأمر بإلغاء قتل عبد الناصر وكلف الذين أحضروا السلاح أن يبيعوه , وعلي عشماوي حلف بان يتخلص من هذه الأشياء , ولم يتخلص علي عشماوي نهائيا من الأسلحة لأنه ظل في رأسه أنه لابد وأن يفعل شيئا .

لذلك بدأنا في هذه الفترة نركز على بناء القاعدة الأخلاقية ونفكر في التربية في أعوام 61 , 1962 . الأستاذ سيد قطب كان قد خرج فبدأ الإخوان يحاولون مقابلته , وعرضت عليه الفكرة , فرفضها وقال بناء الإسلام يبدأ من القاعدة للقمة, ولنا أسوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم , فعندما قالوا له إن أردت أن تكون ملكا جعلناك ملكا , فلو كان الأمر هكذا كان قد استجاب , لكن الإسلام يحتاج إلى تربية عناصر تحمل هذا الدين لتعيش به , حتى تبنى مجتمعا مسلما والمجتمع لا تفرض عليه نظم إسلامية وهو لا يدين بشكل إيجابي مع الإسلام فلابد من التفكير في بناء القاعدة , وهذا الكلام متناسق تماما مع كلام الإمام البنا ــ رحمه الله ــ, إلا إذا هدى الله هذه الأمة لحاكم مسلم , كما حدث مع عبد السلام عارف في العراق " انتهى كلام عوض عبد المتعال .


محنة التأييد .. وخروج المؤيدين

لا شك أن السجن إكراه .. وترك الزوجة والأولاد بلا عائل إكراه .. وتركهم بدون قوت ... إكراه ... والحصار المادي والمعنوي حول الأهل والأولاد ... إكراه والأمثلة على ذلك اكثر من تحصى ...

أذكر أن أخا رجع من زيارة أهله مهموما .. ولسانه يذكر الله كثيرا ويده مع حبات المسبحة .. ولا يريد أن يكلم أحدا ولكني اقتحمت صمته وسألته عن حال الأولاد .. فقال الحمد لله الذي لا يحمد على مكره سواه .. لي سبعة أبناء بنين وبنات ... واحد منهم غرق في الترعة .. والثاني لم تستطع أمه الصرف عليه فأودعته في الملجأ حتى يأذن الله بالفرج .... ولمّا لم تجد الزوجة ما تطعم به الأولاد فقامت ببيع بعض أثاث البيت بل وباعت جزءا من أواني الطبخ ( التي كانت مصنوعة من النحاس في تلك الأيام ) .. والأهل والأقارب والأصدقاء يخافون زيارة أهلنا خوفا من بطش الحكومة ... وأهل الخير أيضا يرتجفون من المعتقلات .. والشائع بين الناس أن من يعطف على عائلات الإخوان فمصيره " وراء الشمس " ... هذا من المبكيات المبكيات .

أما المبكيات المضحكات فان واحدا من إخوان المحلة(1) ترك زوجته وهى حامل وأنجبت طفلا ولم تستطع زيارة زوجها حتى كبر الطفل .. وصار يسأل عن أبيه .. فيقولون له ستراه في الزيارة .. وصارت كلمة الزيارة مرادفا لكل سؤال عن الأب مثل بقية أبناء الناس .. فلما كبر الطفل وحضر لزيارة أبيه .. سأله أبوه : من أنا قال : أنت الزيارة .. أنت اسمك الزيارة .

وكان قرار الحكومة بالنسبة للإخوان المسجونين المتزوجين أن يجوعوا .. حتى تأكل المرأة " الحرة " بثديها .. أي والله .. هذا ما قاله رجال الثورة ونسى هؤلاء المجرمون أن بيوت الإخوان المسلمون .. عامرة بالقرآن .. وعامرة بالإيمان ... ونسى أن شعار الإخوان المسلمين هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن لكل دين خلقا . وخلق الإسلام الحياء "

ولهذا السبب كانت تتشكل تنظيمات مالية من شجعان شباب الإخوان لإعالة هذه البيوت الطاهرة .. حتى صار الجاهل يحسبهم أغنياء من التعفف .

والقصص عن الحصار الاقتصادي لعائلات الإخوان أكثر من أن تحصى . ولكن الرزق من السماء .. فلن يستطيع أهل الأرض أن يقطعوه " و في السماء رزقكم وما توعدون . فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون "(1).

أما حكم الإكراه في السجن لأشخاص الإخوان فهو واضح لكل ذي عين .. الكرباج ... السياط .. التعذيب .. السجن .. التجويع ... النفي والتشريد في سجون " قنا " و" الواحات " و " المحاريق " .. في قلب صحراء الصعيد والصحراء الغربية .

ولعل من أفضل ما كتب عن الإكراه في تلك الأيام ما كتبه الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين في كتابه القيم " دعاة لا قضاة " .. وأيضا كتابات فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة أستاذ الشريعة الأسبق بكلية الحقوق جامعة القاهرة ــ آنذاك ــ ففيهما بحث قيم حول الإكراه .

وخلاصة القول أن حال الإخوان فيه من حكم الإكراه ما لا يختلف عليه أحد . واتجه البعض إلى الأخذ بالرخصة والبعض إلى الأخذ بالعزيمة .. وكانت فتنة التقطها الضباط المشرفون على الإخوان ....

بدأت الفتنة في وقت حرب 1956 م حينما غزا الإنجليز والفرنسيون وإسرائيل مصر واحتلوا قناة السويس .. هناك أعلن الإخوان استعدادهم للجهاد ضد المحتل الغاشم .

فالجهاد هو سبيل الإخوان وشعارهم " الجهاد سبيلنا " ولقد قال الإخوان للحكومة آنذاك نحن على استعداد للجهاد ضد العدو حتى يخرج من بلادنا ... فهذا فرض علينا .. فرضه ديننا الحنيف ثم نعود إلى السجن بعد ذلك لقضاء باقي مدة العقوبة .. فرفضت الحكومة . ولكنهم استطاعوا شق صف الإخوان إلى مؤيد للحكومة والى غير مؤيد , واستطاعت الحكومة تعميق هذا الشق في ظروف الضغط والإكراه الشديدين على الإخوان المسجونين , ثم أفرجت عن بعض الإخوان الذين أسموهم بعد ذلك بـ"المؤيدين ".

واستمرت فتنة التأييد سنين طويلة .. ولم يكن الأمر سهلا ... فالفتنة تبدأ بكتابة تلغراف تهنئة للرئيس في أي مناسبة حتى لو كانت المناسبة افتتاح محطة مياه أو غيرها ثم بعد ذلك تبدأ إجراءات عزله عن الإخوان .وعدم الأكل معهم في السجن . ثم نقله إلى عنبر أو زنزانة كلها ( مؤيدون ) ... ثم طلب كتابة تقارير عن إخوانه .. ثم ... ثم ... حتى أسموها الإخوان بـ"الزحلوقة " التي يتزحلق صاحبها إلى هاوية سحيقة . وأصعب من ذلك وأشق على النفس في السجن أن تتعلق بالإفراج على يد جلاديك .. حينئذ لا ينام المسجون , ولا يهنأ بلحظة من حياته .. ويصاب بالضغط وغيره من أمراض القلق .

حتى إذا خرج من السجن لا يود العودة إليه أبدا . ولا يعمل عملا قد يؤدى ؟ إلى السجن ثانية .. توبة نصوحا بل بعد ما يخرج يخضع لسلسلة مضايقات من رجال الأمن ورصد تام فإذا زار أخ .. كانت هذه الزيارة طامة كبرى .. ظل هذا طوال عهد عبد الناصر .

وكما قلت فإن أول دفعة من ( المؤيدين ) خرجت في أواخر عام 1958 وتوالت بعدها دفعات الخروج . وبالطبع لم يكن هناك أدنى بارقة أمل أن يعمل هؤلاء الإخوان ثانية في أي تنظيم في حقل الدعوة الإسلامية ... والسعيد من وعظ بغيره . وبالطبع فانه قد حدثت مشاحنات بين ( المؤيدين ) وغير ( المؤيدين ) في السجن .. أشار إليها علي عشماوي في مذكراته . ولقد أصابه رذاذ منها فلقد سلك هو نفس الطريق حتى ينجو بحياته من حبل المشنقة التي ظن إنها " إعدام " في حين يعتقد الإخوان أنها " شهادة " وبيت القصيد في هذه الكلمات عن التأييد " أن المؤيدين لم يكن لهم أي علاقة بالتنظيم الجديد الوليد " وفى المقابل جاءت تحذيرات من السجن إلى أبناء التنظيم الجديد من التعرف أو إجراء حوار مع هؤلاء الذين خرجوا من السجن بطريقة التأييد .. بعكس ما حدث مع إخوان ( الخمسات ) . والذي سنشير إليه فيما بعد .


خروج إخوان " الخمسينات "

وإخوان " الخمسات " اصطلاح يطلق على كل من حكم عليه بالسجن خمس سنوات . وغالبية هؤلاء ليسوا ممن قبض عليهم في أكتوبر ( 1954 م ) . ولكن تقريبا جميعهم ممن حوكموا أمام المحكمة العسكرية . أو بما يسمى بالمجلس العسكري برئاسة " صلاح حتاتة " .. الضابط من رجال الثورة الذي حاكم تنظيمات " يناير " , و " مارس " , و " يونيو " في عام 1955 م .

وبدأت طلائع الإفراج عنهم في أوائل عام 1960 م واستمر الإفراج عنهم بعد نهاية المدة . فلقد أمضوا المدة كاملة بغير نقصان . ولكنهم كانوا ـ من الناحية النفسية ـ أكثر سكينة من "المؤيدين" فهم لم يخضعوا للتأييد ولم يتعذبوا بعذابه النفسي الشديد أثناء السجن وإصرارهم على قضاء كل المدة أعطاهم عزيمة نفسية قوبة وخرجت من السجن تقارير معظمها غير مكتوب عنهم , لذلك سارع مؤسسو تنظيم ( 65 ) بالاتصال بهم , وذلك لضمهم إلى التنظيم الجديد الوليد .. ولقد استجاب منهم عدد لا باس به وصدق فيهم قول الله عز وجل " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " ولا نزكي على الله أحدا .

ومن الأسماء اللامعة التي انضمت إلى التنظيم الجديد من إخوان الخمسات (1) :

1. مبارك عبد العظيم عياد ( الجيزة ) [ طالب بكلية العلوم ] وصار بعد ذلك من قيادات تنظيم ( 65 )

2. محمد على العريشي [ طالب بكلية التجارة ] من إخوان الشرقية ومترجم ممتاز للغة الإنجليزية

3. أحمد حامد السيد إدريس [ مدرس رياضات ] من إخوان الشرقية

4. إمام سمير ثابت توفيق ، من الجيزة ، [ طالب بكلية الزراعة ]

5. أحمد توفيق كنزي ، القاهرة [ طالب بكلية الآداب ]

6. عبد الفتاح الخضرى ، الجيزة [ محاسب ]

7. محمد مندوه العزباوى [ مدرس ] إخوان طنطا .. صار بعد ذلك عضوا بمجلس الشعب دورة ( 2000 ــ 2005 ) ولا تسعفني الذاكرة بغير هؤلاء

تعقيب :

يتميز إخوان " الخمسات " بالمميزات التالية :

1. الحب الشديد لجماعة الإخوان المسلمين حبا لا يقبل المناقشة أو الجدل

2. الطاعة الشديدة لتعليمات القيادة إذا صدرت ولقد ظهرت هذه الطاعة واضحة جليلة في محنة " التكفير " داخل السجون والتي سنعرض لها في حينها فلقد كانوا صمام الأمن الذي نجا الإخوان من هذه المحنة وكانت لهم وقفة عظيمة إلى جانب الفكر الصادر من قيادة الإخوان آنذاك .. الأستاذ حسن الهضيبي فسارعوا إلى المبايعة الجديدة على هذا الفكر وعلى رأسهم مبارك عبد العظيم وبذل جهدا عظيما مع شباب ( 65 ) في سجن قنا لإقناعهم بفكر الأستاذ " حسن الهضيبي " .. ولنا عودة لهذا الموضوع في حينه ـ إن شاء الله ـ حينما نتعرض لقضية " التكفير ".

3. الجلد الشديد ... فعندهم جلد وصبر ومصابرة ملفتة للنظر ... وعندهم عقيدة " أن لكل شئ نهاية " وشعارهم " افعل ما تحتاجه اليوم .. ولا تنظر كثيرا إلى الغد ... فالغد بيد الله عز وجل ".

4. الثقة في قيادة الجماعة .. فهم لا يقبلون همزا أو لمزا ... بل أحيانا ولا اعتراضات على ما يصدر من الجماعة من تعليمات . وشعارهم الاستمرار مع " الشرعية الجماعية " أو" الشرعية التنظيمية " ... وسوف نناقش فيما بعد انضمامهم إلى تنظيم ( 65 )

5. كثير منهم من يجيد فن " تجليد الكتب "

• ومنهم من يجيد " تفصيل الملابس البسيطة "

• ومنهم من يجيد " الصناعات الزراعية .. مربات ... مخللات "

• ومنهم من يجيد " أعمال الطبخ "

• ومنهم من يجيد " المصارعة اليابانية "

• ومنهم من يجيد " الترجمة "

• ومنهم من يجيد " التعامل مع المعدات العسكرية والآلات الحربية "

• ومنهم من يجيد " السباحة "

6. الصبر

كان لقسوة محنة ( 55 ـ 60 ) عليهم أثر في الصبر الطويل .. والرضا النفسي السريع بقضاء الله وكذلك الرضا بأي لبس .. وأي أكل .. فالطعام والشراب والملبس ليس لها ثقل في حياتهم ... وهذا الذي جعلهم ـ دائما ـ غير قابلين للمساومات تحت أي ضغط فلا فرق عندهم بين لحم الطير ... وبين الطورشى ولا فرق بين " الكافيار " و " الجبن القريش " كلاهما سواء .. وكذلك الملبس فهم بعيدون تماما عن ما يسمى بـ" الشياكة " .. فيكفى أن يكون اللبس نظيفا فقط ... بعكس شباب ( 65 ) فكثير منهم كان يحب الشياكة في المظهر .

التنظيم قبل سيد قطب

كما حكى الأخ عوض عبد المتعال أن أوضاع التنظيم بعد اجتماع الزيتون قد تبلورت في :

• توزيع جغرافي

• أهداف محددة

أولا : التوزيع الجغرافي

استقر العمل على وجود إخواني في أماكن متفرقة تصلح جيدا كبداية لعمل تنظيمي جيد وهي :

1. ميت غمر  : سيد البرديني ـ علي عشماوي ـ أمين شاهين ـ جودة حسانين .

2. شربين  : إسماعيل عبد المتعال ومعه مجموعة من الإخوان مثل محمد جمعه وآخرين

3. مدينة المنصورة : عوض عبد المتعال ومجموعته.

4. دكرنس  : د/ محمد عامر والسيد يوسف وعثمان عرفة أبو مهدى وغيرهم.

وأنت ترى نشاطا ملحوظا في محافظة المنصورة أكثر من باقي محافظات الجمهورية عدا القاهرة والجيزة . في الغربية

1. طنطا : توفيق عبد الباري وأخ آخر اختفى من خريطة التنظيم مبكرا .

2. المحلة  : مجموعة كبيرة من العمال المخلصين لدعوة الإخوان بقيادة الأخ / أحمد سلام .. والشيخ / [[محمد فتحي رفاعي]].

• دمنهور

• مدينة دمنهور  : محمد عبد الفتاح شريف ومن معه.

• شبراخيت  : السيد السيد أبو شلوع ( محامي ) .

الأسكندرية

عباس السيسي , مجدي عبد العزيز , عبد المجيد الشاذلي , وعبد المنعم عرفات , الهام يحيى بدوي , عبد المجيد محمد عبد المجيد , أحمد محمد الزفتاوي ( أصلا من طنطا )

المنوفية

لم يكن هناك وجود تنظيمي سوى التنظيمات المالية النشيطة بقيادة عبد الحميد الطنبداوي

الشرقية

بلبيس .. محمد عواد وأمين سعد والشيخ نصر عبد الفتاح وغيرهم

مركز الزقازيق .. عبد العزيز عبد القادر ومجموعته

مدينة الزقازيق .. أحمد حامد , محمد على العريشي , محمد عبد العزيز عبد الله وغيرهم

الجيزة

مدينة الجيزة .. فاروق المنشاوي ومعه مجموعة كبيرة من طلبة كلية الهندسة وباقي الجامعة كرادسة .. أحمد عبد المجيد , سيد نزيلي , جابر رزق , جابر الفولي وغيرهم . مجموعة إخوان الخمسات .. مبارك عبد العظيم , إمام سمير ثابت , عبد الفتاح الخضري , أحمد توفيق كنزي .

امبابة .. مرسي مصطفى مرسي , محمد عبد المنعم شاهين , محمد بديع سامي

القاهرة

1. مجموعة فى الزيتون.. على رأسها كمال الفرماوي ( محامى )

2. مجموعة مصر الجديدة.. طلبة كلية طب عين شمس وتجارة عين شمس ـ محمود فخري ,مجدي عبد الحق,صلاح عبد الحق, محمود عزت إبراهيم , فتحي عبد الحق ( طالب بالكلية الحربية آنذاك ).

3. مجموعة شبرا.. مصطفى الخضيري , حبيب عثمان وغيرهم .

4. حدائق القبة يحيى بياض ( طالب هندسة ) فاروق عبد الغني الصاوي ( معيد بمعهد بحوث الصحراء ) وغيرهم .

5. مجموعة مدينة نصر ( مجموعة الطيارين ) يحيى حسين , ضياء الدين عباس الطوبجي , محمد الغنام , سمير الهضيبي وغيرهم .

6. المطرية علي محمد جريشة ( نائب بمجلس الدولة ) ومعه مجموعة من ضباط الجيش والبوليس كما تقول الأوراق .

7. معيدون الطاقة الذرية .. وكلهم معيدون بهيئة الطاقة الذرية ويسكنون غالبا حول منطقة المطرية ... محمد عبد المعطي الجزار , صلاح خليفة , أحمد عبد الحليم السروجي , محمد المأمون يحيى زكريا .

8. مجموعة مركز الخانكة حمدي حسن صالح , منصور عبد الظاهر منصور ومجموعتهم .

9. مجموعة السيدة زينب محمد عبد المعطي عبد الرحيم ( رسام ) , كمال عبد العزيز سلام ( ضابط مهندس ) , فؤاد حسن علي ( ضابط مهندس ) , محمد أحمد البحيري (مهندس ) , السيد سعد الدين الشريف ( طالب بكلية الهندسة ) , إمام عبد اللطيف غيث ( مهندس كهرباء ) , ممدوح درويش الديري ( طالب بكلية علوم عين شمس ) ..

وها أنت ترى الانتشار الأساسي للإخوان في القاهرة والجيزة والدقهلية وعددا محدودا في الأسكندرية وباقي المحافظات الأخرى .

10. أما الصعيد .. فقد كان انتشار التنظيم فيه ضعيفا كالعادة فيما عدا محمد منيب وطاهر سالم رحمهما الله .. ولا تجد سوى بعض المتعاطفين القليلين .. فالصعيد لم يأخذ بعد العناية الكافية من الإخوان .

11. ومن خارج جمهورية مصر

عبد الرحمن بارود ـ هانى بسيسو ( من غزة )

الأخ عبد الحليم ( من السودان )

عبد الله محمد ابوسن ( من ليبيا )

مروان حديد ( سوريا ) غادر مصر فبل أيام قليلة من القبض عليه وكان له حضور فكرى وحماس قوى جدا واستشهد في حماة فى سوريا بعد ذلك

12. مجموعة ضباط الجيش [[ إبراهيم إبراهيم شرف]] [[ سيد البرنس]]

كمال عبد العزيز سلام و فؤاد حسن علي

13. من البوليس

نقيب سيد صلاح ( القاهرة )

عريف / كامل السعيد ( من ملوي )

وكان الأخ علي جريشة اتصال جيد بمجموعتي الجيش والبوليس

هذا ما وعته الذاكرة التي سقط منها كثير من الأسماء


الأهداف المحددة :

1. إيقاظ مجموع الإخوان في المحافظات فيما عدا أصحاب فكر ( تنظيم بلا تنظيم ) .. فالجماعة .. والتعارف والتفاهم والتكافل فكر أساسي لتنظيم 65 .. والعمل الجماعي ضرورة حتمية في فكر الإخوان المسلمين

2. جمع الاشتراكات من الإخوان قدر الاستطاعة والتربية الإيمانية على التضحية بالمال

3. الاستعداد لضرورة التخلص من جمال عبد الناصر .. ولكن كيف يتم عمل ذلك هذا موضوع حوار طويل دار في أروقة التنظيم وكانت هناك اكثر من وجهة نظر في هذا الموضوع .. والأمر لم يكن محسوما تماما كما يظن الكثيرون .


بعض الشخصيات الفاعلة في التنظيم ( 57 ــ 63 ) :

لقد كان في التنظيم شخصيات متحركة تجوب القطر كله حركة ونشاطا وفاعلية وأبرزهم ( بخلاف علي عبده عشماوي الذي سنفرد له مقالا كاملا ) :

1. الشيخ عبد الفتاح إسماعيل ( رحمه الله ) نثنى عليه بما هو أهله بعد موته

كان لا يهدأ أبدا .. تراه في الصباح في دمياط وبعد الظهر في المنصورة والمغرب في القاهرة وبعد العشاء في الجيزة .. وقد يصلى الفجر في أسيوط مع الشهيد محمد منيب يلهب حماس الشباب ويجمع الفتية الذين آمنوا بربهم .. يوقظ هذا لصلاة الفجر .. ويحمس ذلك للعمل .. يتكلم في نصرة الدين , ودعم قضية الشريعة , والجهاد في سبيل الله .. ويشرح مساوئ النظام وعوراته , قلبه ينبض بروح الشباب , وتجرى في عروقه دماء الحيوية .. متوكل على الله حق التوكل .. يأكل القليل .. يرضى من الدنيا باليسير .. ترك زوجه وأولاده الأطفال على الله رزقهم , يجمع الشباب على الدعوة , ويناقش الشيوخ في الفكرة , ويتصل بالقيادة طالبا الشرعية والتأييد , ويسافر إلى الخارج لجمع المال للتنظيم .. ساعات نومه غالبا حينما يركب القطار .. أو الأتوبيس فهو ينام فيهما بين محطة القيام ومحطة الوصول .. وكفاه بهذا نوما .. فان في القبر نوما كثيرا .. وما أطال النوم عمرا .. ولا أعطت كثرة النوم مزيدا من الصحة أو العافية .. دائم التمني للشهادة .. يحفظ القرآن الكريم ويتلو آياته أناء الليل وأطراف النهار .. قلبه لا يخاف .. جرئ إلى ابعد الحدود

2. عوض عبد المتعال

شاب .. ذو همة عالية .. يجوب منطقة الدلتا كلها متنقلا بين دمنهور والأسكندرية وطنطا ومراكز المنصورة .. ميت غمر ـ دكرنس وميت أبو خالد ثم بعد ذلك يربط الغربية والمحلة بباقي التنظيم .. همزة الوصل بين شباب تنظيمات (54 ) وشباب (65 ) فهو شاب في مقتبل الشباب .. كما يتمتع بعاطفة شبابية جياشة ويمتاز بمعرفة الغالبية جملة وتفصيلا ولكنه سافر في عام 1963 في بعثه إلى الجزائر حتى أحضروه موثقا بالحبال في طائرة خاصة مع فتحي رفاعي

3. الشيخ محمد فتحي رفاعي

عالم أزهري .. اعتقل في عام 1954 مع الإخوان وعاش وتربى في مدرسة السجن الحربي , وخرج ولم تكسر له شوكة , ولم تلن له قناة .. لم يرهبه التعذيب في السجن الحربي رغم مرضه بالربو بل خرج منه في أواخر عام 1956 مصر ا على العمل والجهاد والنضال .. أزهري متفتح .. يكره الجدال في الخلافات الفرعية شعاره الدائم " إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها(1) " وأحيانا يثور إذا سألته الفرعية ودائما يرد أين أنت من عظائم الأمور والجهاد في سبيل الله , استطاع مع الأخ أحمد سلام من إخوان المحلة الذين اعتقلوا في 1954 جمع أعداد كبيرة من عمال شركة المحلة .. وبث في قلوبهم حماسا عاليا .. وعلمهم جميعا العمل للآخرة .. فهي خير وأبقى .. وله معهم جهد تربوي كبير .. كان متحمسا للتخلص من عبد الناصر فهو يرى انه حجر عثرة في طريق هذه الدعوة ويجب التخلص منه .. ويكفيه ولا نزكى على الله أحدا أنه استطاع تربية أكثر من حوالي أربعين أخا عاملا من عمال شركات المحلة والقرى المجاورة للمحلة الذين إذا حدثوك فكأنك لست أمام عامل بسيط .. بل كلمات عالم جليل .. كما شارك الشيخ [[ محمد فتحي رفاعي|فتحي رفاعي]] في كل المناقشات الفكرية للتنظيم والاجتماعات الكبرى والحساسة وأدلى بدلوه الأزهر ي والفقهي فيها , ولكنه سافر عام ( 1963 ) في بعثه إلى الجزائر وتسلم مكانه الأستاذ صبري عرفة الكومي ـ رئاسة منطقة الدلتا وبذلك نجا فتحي رفاعي بأعجوبة من حبل المشنقة .

4. مبارك عبد العظيم عياد

هو من إخوان " الخمسات " .. متعدد المواهب فهو مصارع روماني ممتاز .. مدرب سباحة قدير .. يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب .. بطل رياضي .. مثقف ثقافة واسعة .. كل هذا جانب .. لكن الجانب الأهم قدرته على الحوار والإقناع مع الصبر الطويل .. روحانيات عالية جدا .. خرج من السجن في عام 1960 وعاد إلى كليته .. كلية العلوم جامعة عين شمس .. وتخرج منها وكان من الأوائل .. وله فرصته معيد في الجامعة ثم أستاذا بها .. ولكنه رفض تماما لأنه قرر التفرغ للتنظيم .. واستطاع في جلسات حوار طويلة أن يضم إلى التنظيم اكبر عدد من المثقفين المهنيين فى القاهرة الكبرى .. وقبلها ضم اغلب اخوان الخمسات .

وكان ممن ضمهم الى التنظيم :

اثنى عشر مهندسا كمياويا ــ جامعة القاهرة

1. فاروق أحمد على المنشاوي

2. فايز اسماعيل

3. السيد سعد الدين الشريف

4. حسن أحمد البحيري

5. فؤاد حسن علي

6. أحمد عبد الستار عوض كيوان ( دمياط )

7. جلال الدين بكري ديساوي

8. محمد عبد العزيز الصروي ( كاتب هذه السطور)

9. عز الدين عبد المنعم على شمس

10. محمد عبد الحميد خفاجي

11. علي بكري بدوي

12. عبد الرحمن منيب ( كان في طور الإقناع والحوار )

ومن قسم التعدين بهندسة القاهرة

1- مهندس محمد أحمد عبد الرحمن

ومن قسم الميكانيكا

1- كمال عبد العزيز سلام

ومن قسم الكهرباء

1- إمام عبد اللطيف غيث

2- والفنان الموهوب محمد عبد المعطي عبد الرحيم وشهرته ( محمد رحمي ) مجموعة الطاقة الذرية

1. محمد عبد المعطي الجزار.

2. أحمد عبد العزيز السروجي.

3. صلاح محمد خليفة.

4. محمد المأمون يحيى زكريا

وكلهم من حملة الدكتوراه ( فيما بعد ) في الطاقة النووية وتعرف عليهم أثناء دراسته بعلوم عين شمس ومعهم ممدوح درويش الديرى ( طالب بعلوم عين شمس [ صار فيما بعد أستاذا بعلوم الزقازيق ] .. رحمه الله. ومن مجموعة إخوان الخمسات:

1. إمام سمير ثابت

2. محمد علي العريشي

3. أحمد حامد السيد إدريس

4. أحمد توفيق كنزي

5. عبد الفتاح الخضري

ولقد تولى فور انضمامه إلى التنظيم المسؤلية التنفيذية للقاهرة الكبرى كلها .. كما تولى الجانب الروحي والتربوي والثقافي لمجموعة هؤلاء الإخوان الشباب الجدد


ثقافة التنظيم قبل ( 62 ):

تتركز المحاور الثقافية لتنظيم في الفترة الأولي على الأتي :

1. الفقه : كتاب فقه السنة ... الفقه على المذاهب الأربعة

2. السيرة : نور اليقين للخضرى

3. التفسير: في ظلال القرآن .. تفسير ابن كثير .. مختصر ابن كثير للشيخ أحمد شاكر

4. الحركة .. والعمل: رسائل الإمام حسن البنا

5. الثقافات : كتابات كل من الشيخ محمد الغزالى والاستاذ محمد قطب .. احياء علوم الدين للغزالي

6. السياسة : بروتوكولات حكماء صهيون ( محمد خليفة التونس ي )

7. أنشطة التنظيم الصيفية

اعتاد الإخوان منذ الأربعينات وأوائل الخمسينات الذهاب إلى مصيف جمصة .. ففى عام 1958 سافرت ثلاث رحلات إلى مصيف جمصة .

• الأخ إسماعيل عبد المتعال ( شربين ـ المنصورة ) ومعه مجموعة.

• الأخ عوض عبد المتعال ومحمد عواد .. ومعهم مجموعة

علي عشماوي وأمين شاهين ومعهم مجموعة ميت غمر وميت أبو خالد ومنهم السيد البردينى وجودة حسانين ومحمد عبد الحي وعلي عشماوي وغيرهم

ولعل هذا كان أول الخيط في التعرف على على عبده عشماوى وربطه بالتنظيم الذي بدأه في السجن ( محمد عبد الفتاح شريف ـ عبد الفتاح إسماعيل ـ عوض عبد المتعال ـ فتحي رفاعي )


البرنامج التقليدي للمصيف :

• قيام الليل

• صلاة الفجر

• قراءة المأثورات

• إفطار

• جرى على البلاج ( صباحا ) .. وبعد العصر

ولقد كان الشهيد محمد عواد يرصد المصيف كله .. فسمع أناسا يقرءون المأثورات فعرف انهم من الإخوان فراقبهم وراقب تحركاتهم .. وانتهى الأمر بالتعرف على هذه المجموعة .. مجموعة الأخ إسماعيل عبد المتعال ( شربين دقهلية )


البرنامج العسكري :

• الجري

• السويدي

• فك وتركيب المسدس .. والتعرف على أجزاء المسدس


نشاط علي عشماوي  :

سألت الأخ عوض عبد المتعال أحد مؤسسي تنظيم ( 65 ) عن رأيه في علي عشماوي .. فأجاب : علي عشماوي كان عبارة عن كتلة نشاط وحيوية .. وعطاء وتفانى 24 ساعة في اليوم .. ينفق القرش الذي يحتاجه على دعوته .

أما ما حدث له في السجن الحربي فهي فتنة أصيب بها من جراء التعذيب .. ولكنه حينما انهارت مقاومته انهارت معها نفسيته .. وكثرة اعترافاته التفصيلية الدقيقة على يد من كانوا تحت قيادته ومعجبين به سببت لهم صدمة عنيفه تجاهه .. فتعاملوا معه بشيء غير قليل من الجفاء .. في مقابل احتضان رجال المباحث له .. ولقد كان امتحانا صعبا للغاية فلم ينجح فيه .. وسار في طريق البعد عن الإخوان إلى آخر المشوار .. فهو ليس بخائن .. أو عميل تم دسه على التنظيم كما يقول البعض الذين صدموا فيه .. ولكنه فتن فتنة شديدة وركب زحلوقة الفتن حتى هوت به الريح إلى مكان بعيد عن الإخوان .

99% من الإخوان اعترفوا من شدة التعذيب ولكنهم تمالكوا تماما بعد آخر كرباج .. وضمدوا جراحهم النفسية المؤلمة واحتسبوا هذا في سبيل الله وكان لهم على الثبات أعوان من بعضهم البعض .. أما علي عشماوي فقد عزلوه عن باقي إخوانه .. فخانه ذكائه ..فهو كثيرا ما كان يعتمد على ذكائه المتوقد .. وكما جاء في الأثر ( من اعتمد على عقله خل ) ولم يجد عزيمة تساعده على العودة ثانية إلى الإخوان .. هذا في مقابل ردود الأفعال تجاهه من الإخوان الذين آذتهم وآلمتهم اعترافاته .. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها .. هذا رأيي في علي عشماوي .

كان علي عشماوي متفرغا للدعوة تماما .. وله إمكانات هائلة .. فهو شاب وسيم رياضي .. ذكى .. لماح .. تعلم من مهارات التنظيمات السرية الكثير .. وله ذاكرة حديدية وهو مولع بالسلاح .. وحمل السلاح ..

والتعامل معه , لكن رصيده الروحاني كان ضعيفا فلم يصمد أمام العاصفة ولأمر ما يقول المولى عز وجل لمن يحمل السلاح ويواجه به الأعداء " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا , واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون "(1) .. فالفرد المجاهد لا بد أن يكون له من كثرة الذكر الحظ الأوفر .. فالذكر أهم عوامل الثبات عند لقاء العدو وعند الأزمات العاصفة .. والآية الكريمة تحدد عوامل الثبات عند المواجهة.

يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة

1. فاثبتوا.

2. واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .

3. وأطيعوا الله ورسوله .

4. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم .

5. واصبروا , إن الله مع الصابرين .

6. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله .. والله بما يعملون محيط

هذه هي عوامل الثبات التي تحددها الآية الكريمة في سورة الأنفال .. كما افهم .. والله اعلم بمراده لقد كان للثلاثة علي عشماوي وعبد الفتاح إسماعيل وعوض عبد المتعال ومعهم أحمد عبد المجيد فضل الربط بين أفراد التنظيم في أنحاء الجمهورية


التنظيم والسلاح :

للسلاح في التنظيمات تاريخ يجب قراءة الخلفية التاريخية له حتى يمكن معرفة الملابسات التاريخية .. ويسهل ـ بعد ذلك ـ فهم القضية .

فان نزع أي قضية عن ملابساتها التاريخية يجعلها تفقد ركنا من أركان الفهم وإدراك الحقيقة الكاملة . إن حيازة السلاح الشخصي في الأربعينات أيام الملك فاروق كانت شيئا من حقوق الحرية الشخصية ويتم ترخيصه لأي شخص كائنا من كان لغرض الدفاع الشخصي , وكذلك كان ـ بل ولا يزال ـ حيازة الخفير الشخصي لمزرعة ما أو لشخص ما , بل وحيازة الحرس الشخصي ـ لشخص ما ـ لحماية هذه الشخصية الكبيرة هو من الحقوق المعترف بها أيضا .

ثم جاءت حرب فلسطين سنة 1948 وجمع الإخوان المسلمون سلاحا كثيرا لفلسطين تحت سمع وبصر الدولة .. بل ومباركتها , وكان للمرحوم المهندس محمد سليم(1) رئيس التنظيم السري للإسكندرية قبل ( 1954 ) جهدا كبيرا في شراء السلاح للمجاهدين في فلسطين .. وكان يجمع بقايا الأسلحة الملقاة بعد الحرب العالمية الثانية في العلمين .

وكذلك كان العرب في الصحراء الغربية يجمعون السلاح لحسابه ثم يشتريها منهم ويقوم بإصلاحها وتنظيفها ويرسلها إلى فلسطين .

... ثم تم تكوين الجهاز السري للإخوان المسلمين في الأربعينات وهو تنظيم يقوم على الجهاد بالنفس والمال .. وحمل السلاح بديهية من بديهياته .. وكان الحصول على السلاح وحمله يحتاج إلى شئ من الكتمان وهو ما يعرف بـ" السرية " ولم يكن الإخوان المسلمين ـ وحدهم ـ بدعا في هذا الأمر , فالشيوعيين كانت عندهم أسلحة , وكذلك أصحاب القمصان الخضر والقمصان الزرق من حزبي مصر الفتاه وحزب الوفد .. ولم تكن الحكومة تتعامل بحساسية مفرطة في هذا الأمر بل كانت حتى بداية ثورة 23 يوليو سنة 1952 تغض الطرف نوعا ما عن حمل السلاح

ولقد كان الفدائيون أثناء مقاومة القوات الإنجليزية في منطقة مدن منطقة قناة السويس يحملون السلاح علنا في شوارع الشرقية .. بل وكان أصحاب القمصان الزرقاء والخضراء يدخلون المطاعم ـ في الزقازيق ومدن الشرقية القريبة من منطقة القناة ـ وهم يحملون السلاح علنا وبغير مواربة .. وظل الأمر على هذا الحال حتى يوم حادث المنشية في 29 أكتوبر 1954 م وبدأ الأمر يتغير تماما بعد حادث المنشية وتصاعد حظر حمل السلاح يوما بعد يوم حتى يومنا هذا .

ولما بدأ تكوين تنظيم جديد للإخوان بعد عام 1956 م كانت حيازة السلاح شيئا عاديا إلى حد ما عند كثير من أفراد جماعة الإخوان المسلمين .. بل كان الشعور بضرورة التدريب على السلاح كضرورة شخصية للإنسان العادي .. فضلا عن الإنسان المجاهد في سبيل الله .. ولم يكن أحد يناقش في هذه البديهية آنذاك(1)

ومن هنا كانت حيازة التنظيم لعدد قليل من الأسلحة لا يجاوز أصابع اليد الواحدة سواء من المسدسات أو المدافع الرشاشة لغرض التدريب على الفك والتركيب والرماية .. بل إن بعضها كان قديما يعلوه الصدأ , ويتم غسله وتنظيفه بالجاز أو البنزين بين الحين والأخر .. والذي لا شك فيه أن هذا السلاح لا يصلح لقلب نظام الحكم أو تغيير دستور الدولة بالقوة كما اتهمتنا الحكومة .

أو كما قال الخياليون في ذلك الحين ... ولكن الحكومة كان لها رأى آخر تماما .. فان حيازة السلاح .. أي سلاح .. عند الإخوان هو مبرر قوى كافي وموضوعي ومقنع لإعمال يد القتل والسجن وتعليق المشانق للإخوان .. وأن نسج خيوط مؤامرة وتلفيقها للإخوان سهل وميسور إذا وجدت بعض قطع السلاح .. فمهمة تلفيق التهم بالمؤامرة على الحكومة تقوم الكرابيج والكلاب المتوحشة وحمزة البسيوني وصفوت الروبي بها خير قيام .. بل شر قيام .. ولقد حدث أن قام فريق المباحث الجنائية العسكرية المشرف على قضية ( 1965 ) بالرقص في السجن الحربي وعمل حفل عظيم بعد العثور على قطع السلاح , وكان غناؤهم أثناء الرقص " كسبنا القضية .. كسبنا القضية .. كسبنا القضية " .

فحيثما وجد السلاح كان تبرير الشنق والإعدام والتعذيب تبريرا قويا .. بل موضوعيا لدى الحكومة وأجهزة الإعلام , ويوم وجد شمس بدران المشرف على تحقيقات ( 1965 م ) هذه البقايا مما يسمى مجازا أسلحة .. أقام مؤتمرا صحفيا في السجن الحربي .. وأعلن عن المؤامرة وأن الإخوان هم أعوان إسرائيل وعملاء إسرائيل ..!!!

وهنا همس أحد الضباط في أذنه قائلا : هم أعداء إسرائيل يا معالي الوزير .. نهره وقال له اخرس .. فماذا نقول عنهم إذن ؟!.

ومن قبيل التسجيل التاريخي لقضية ( 65 ) أن وزير الداخلية حينذاك كان اللواء عبد العظيم فهمي وهو ضابط مباحث عامة ( أمن دولة ) محترف وناجح جدا في عمله , وكان يعمل ستة عشر ساعة كل يوم على الأقل كما يقول الأستاذ أحمد حمروش في كتابة قصة الثورة (1) .. حينما استدعاه جمال عبد الناصر وقال له أن هناك تنظيما مسلحا للإخوان المسلمين نفى بشده وصب جام غضبه على شمس بدران ورجاله , وقال له يا ريس شمس بدران ورجالته هايولعوا البلد .. إن للإخوان المسلمين اكثر من ثلاثين تنظيما ماليا لإعالة اسر المعتقلين وهم تحت بصرنا وأعيننا , ونحن تركناهم لإعالة هذه الأسر بدلا من تشردها , ولا يوجد أي تنظيم مسلح للإخوان المسلمين .. وكان الرجل الوزير محبوبا من عبد الناصر فصدقه عبد الناصر , وانتصر وزير الداخلية في الجولة الأولى , ولكن بعد العثور على بقايا ما يسمى ( سلاحا ) استدعاه عبد الناصر وكان يوما أسود عليه إلى أن مات .

أما ما كتبه علي عشماوي عن شحنة أسلحة من السودان( وعن تصنيع قنابل مولوتوف) فهذا له قصة أخرى فيما بعد يحسن أن نذكرها في مكانها من ترتيب الأحداث في هذا الكتاب


أمين شاهين والتنظيم :

كان أمين شاهين طالبا بكلية الهندسة , وهو من أبناء مركز ميت غمر , وكان شبلا من أشبال الإخوان قبل عام 1954 , ويعرف كلا من علي عشماوي والسيد البرديني وعددا لا باس به من أشبال الإخوان الذين لم يتم اعتقالهم في عام ( 1954 ) .. واستطاع أمين شاهين بدماثة خلقه ـ رحمه الله ـ أن يجمع حوله هؤلاء الشباب .. وهو على صلة طيبة أيضا بعلي عشماوي الذي حرص على توثيق علاقته معهم .. واتفق مع علي عشماوي والسيد البرديني وأخرين من أشبال مركز ميت غمر على عمل تنظيم يجمع شتات شباب الإخوان بعد أن فرقتهم الضربة القاصمة في ( 1954 ) وجمع حوله حوالي ثلاثين شابا , هدفهم الأساسي هو إحياء جماعة الإخوان المسلمين والتربية الثقافية على الفكر الإسلامي والتقى مع علي عشماوي وأحمد عبد المجيد(1) في عام ( 1957 ) في حديقة الدمرداش بالعباسية , وبعد مناقشات طويلة اتفقوا على الأتي :

1. تعيين علي عشماوي أميرا لهم

2. تعيين أمين شاهين مسئولا من النواحي المالية

3. تعيين أحمد عبد المجيد مسئولا عن المعلومات

4. وضع برنامج دراسي تربوي

5. السرية التامة مع الحذر الشديد في التحرك والاتصالات

6. عدم التقيد بالتقسيم الجغرافي لحركة كل واحد , والاتصال بكل من يعرف في أي مكان بمصر .

7. جس نبض القيادات القديمة المعروفة للإخوان وعدم مصارحتهم إلا بعد التيقن من موافقتهم على التنظيم

8. استبعاد أي أخ سبق له تأييد الحكومة في السجن .. كذلك استبعاد أي أخ فيه شك ولو بنسبة 1% ثم تخرج أمين شاهين في كلية الهندسة عام 59 أو عام 1960 والتحق مهندسا ضابطا بالجيش .. وسرعان ما اختلف مع علي عشماوي وأحمد عبد المجيد على خط سير العمل , والذي يتضح أن أمين شاهين(2) رحمه الله لم يكن خائفا ولا مترددا , ولكن كان مختلفا اختلافا جوهريا معهما بدليل أنه بدأ ينشط ـ رغم أنه ضابط بالجيش ـ وحده وكون تنظيما من حوالي ثلاثين شخصا أغلبهم من ميت غمر ( مسقط رأسه ) وفارق أمين شاهين تنظيم علي عشماوي وأحمد عبد المجيد إلى الأبد حتى جمعهم السجن الحربي .. والجدير بالذكر أن تنظيم أمين شاهين لم يكن له أي علاقة بالسلاح إطلاقا .

وحوكم أمين شاهين وزملاؤه في عام 1965 وعمل مقاولا حتى مات رحمه الله في عام (1980) (اعتقد أن تاريخ وفاته كان بعد ذلك بكثير وأشك في هذا التاريخ الذي سجله الأستاذ أحمد عبد المجيد وفيما أذكر ـ والله أعلم ـ أنه توفى عام 90 , 1991م ولكن ليس تحت يدي الآن مستند بذلك) ويقول أحمد عبد المجيد أن آراء المهندس أمين شاهين(1) وسياسته كانت هي الفكر المعروف " تنظيم بلا تنظيم " .. أي يعرفون بعضهم ويتزاورون دون أن يكون هناك تجمع حركي يجمعهم سواء في صورة مجموعات صغيرة أو كبيرة , كل ذلك على أساس منع الاعتقال أو المحاكمة بتهمة تجميع الإخوان , حيث كان وقتها في قوانين جمال عبد الناصر تهمة يعاقب عليها تحت مسمى " إحياء الجماعة " وكان لأمين شاهين تحركا ملحوظا في شبرا والشرابية بالقاهرة مع إخوان الشرابية الأفاضل , وتحرك محدود في الأسكندرية هذا كله بخلاف تحركه الواسع في مسقط رأسه في مدينة ميت غمر دقهلية(2) .


الوزير عبد العزيز علي والتنظيم :

استقر الأمر بعد اجتماعات مطولة من قيادات التنظيم ـ كما يحكى أحمد عبد المجيد(1) في كتابه الإخوان وعبد الناصر ـ القصة الكاملة لتنظيم ( 1965 ) على الأتي :

1. ناقشوا فكرة اغتيال عبد الناصر وتحمس لها كل من المهندس محمد عبد الفتاح شريف , والشيخ فتحي رفاعي ولكن عارضها ( كما يحكى أحمد عبد المجيد ) كل من علي عشماوي وأحمد عبد المجيد وكانت فكرة الشيخ فتحي رفاعى تجهيز من 20 إلى 30 شخصا مستعدا للشهادة ويلقون قنبلة على موكب لعبد الناصر ولكن هذه الفكرة قوبلت بالرفض والمعارضة الشديدة وعند المناقشة الفقهية لهذا الأمر كان للشيخ فتحي رفاعى مبرراته الفقهية كما يقول كل من علي عشماوي وأحمد عبد المجيد في مذكراتهم ,أما مذكرات المهندس محمد عبد الفتاح رزق شريف فلم تنشر بعد حتى كتابة هذه السطور.

2. انهم على صلة بالأستاذ المرشد حسن الهضيبي ـ رحمة الله ـ واستأذنوه في العمل فوافق , وبالتالي يعتبرون عملهم شرعيا لأنه من القيادة الشرعية للجماعة .

3. أن كلا من الشيخ عبد الفتاح إسماعيل وعلي عشماوي على صلة بالإخوان بالخارج مع اختلاف الأشخاص .

4. تم رصد بعض المال من الخارج بواسطة الشيخ عشماوي سليمان(2) من الإخوان المسلمين

5. التنسيق مع الإخوان في البحيرة ( م / محمد عبد الفتاح شريف ) والإخوان في الأسكندرية ( مجدي عبد العزيز وعبد المجيد الشاذلي ثم عباس السيسى ).

6. أن الشيخ عبد الفتاح إسماعيل على صلة بالشهيد سيد قطب داخل السجن وحلقة الصلة كل من الحاجة زينب الغزالى والأخت حميدة قطب أخت الشهيد سيد قطب .

7. توزيع العمل بصفة نهائية كالتالي :

أ. عبد الفتاح إسماعيل ( تاجر )

• مسئول دمياط وكفر الشيخ وشرق الدلتا

• الاتصال بالأستاذ المرشد

• الاتصال بالأستاذ سيد قطب فى السجن

• التفاهم مع إخوان الأسكندرية والبحيرة في حضور فتحي رفاعى

• مسئول النواحي المالية من حيث مصادرها ومصارفها

ب. الشيخ فتحي رفاعي ( مدرس أزهري )

• مسئول وسط الدلتا ( الدقهلية ـ الغربية ـ المنوفية)

• مسئول وضع البرامج التربوية

ج. علي عبده عشماوي ( موظف )

• مسئول القاهرة والجيزة

• مسئول التدريبات الرياضية

• مسئول الاتصال بالإخوان بالخارج

د. أحمد عبد المجيد عبد السميع (موظف بإدارة كاتم أسرار الجيش )

• مسئول الوجه القبلي ( الصعيد )

• مسئول المعلومات

وبعد عدة شهور سافر فتحي رفاعي إلى الجزائر وحل محله الأستاذ صبري عرفه الكومي ( مدرس كيمياء ثانوي من المنصورة )

وكذلك سافر عوض عبد المتعال إلى الجزائر .. وتقلص دور المهندس محمد عبد الفتاح شريف إلى رئاسة إخوان محافظة دمنهور فقط.


هـ. مجدي عبد العزيز متولي ( كيماوي بمصنع الجرانيت وأقلام الرصاص ) ومعه عبد المجيد الشاذلي ( كيماوي بشركة الحرير الصناعي بالأسكندرية ) مسئولين عن العمل في الأسكندرية .

بعد هذا الاتفاق بدأ الاتصال بالأستاذ المرشد حسن الهضيبي لكي يرشح لهم مسئولا للتنظيم فاقترح عليهم الاستعانة بالوزير السابق عبد العزيز على .. الذي كان وزيرا للشئون البلدية والقروية في وزارة محمد نجيب حتى عام 1953 وهو من مؤسسي الحزب الوطني القديم مع كل من مصطفى كامل ومحمد فريد .. وله خبرة طويلة في العمل السري(2) .. ومن عجب أن الأستاذ المرشد لم يرشح لهم شخصا من الإخوان فهل كان هذا مزيدا من الحرص والحيطة والحذر .. الله أعلم.


ويقول أحمد عبد المجيد(1)

.. كنا نلتقي مع الأستاذ عبد العزيز علي في شقة في مصر الجديدة بها جمعية خيرية كان يرأسها الوزير .. كأنما اختير موقعها بعناية فائقة في منطقة هادئة جدا بمصر الجديدة تطل على ميدان فسيح .. والدخول للشقة كان طبيعيا كأننا أعضاء في الجمعية .. وكنا ندخل إليها فرادى ونخرج منها فرادى أيضا مع عمل احتياطات الأمن من كل منا عند الدخول والخروج .

اجتمعنا معه سبع أو ثماني مرات .. ولكننا لم نتواءم معه لعدة أمور أهمها عدم درايته الكاملة بأمور ومشاكل الجماعة أو الخط التربوي الإسلامي , وتكاد تنحصر خبرته الحركية فيما حدث في ثورة ( 1919 ) حيث كان مشتركا فيها .. وسبب آخر خوفنا منه لأنه كان وزيرا في عهد الثورة ذات الخط الأمريكي ولقد قامت الثورة بترتيب من الولايات المتحدة الأمريكية رغم التغطية لها بأنها تابعة لروسيا(2) فخشينا أن يكون له صلة مشبوهة بأمريكا وان يكشفنا لكننا أدركنا خطأنا بعد القبض علينا , وعلمنا أنه رجل من أفاضل الناس ومن كرام الناس .. رحمه الله رحمة واسعة.

ويقول علي عشماوي في مذكراته (3) " كانت الأخت زينب الغزالي قد أخبرتهم أن الأستاذ المرشد قد أعطى توجيهات بان يتولى قيادة التنظيم الأستاذ عبد العزيز على أحمد الوزير السابق في وزارة محمد نجيب . وقالوا انه على دراية بتلك الأعمال وانه رجل متحمس للعمل الإسلامي , ولم يكن في أيدينا أن نفعل شيئا إزاء تعليمات صادرة من المرشد العام للجماعة تحدد لنا ميعاد عند الحاجة زينب الغزالي , فذهبت مع الشيخ عبد الفتاح إسماعيل والتقينا بها ، فأخبرتنا بعد حديث طويل .. أنه اتفق مع الأستاذ المرشد على قيادتنا ، وأننا في حاجة إلى خبرته القديمة في مجال العمل السري حيث كان أحد أفراد التنظيم السري لثورة ( 1919م ) .. وبعد قليل حضر الأستاذ عبد العزيز , وتعارفنا واتفقنا على أن نلتقي معه مرة كل أسبوع وكان أحد شروطه ألا يزيد اللقاء عن ربع ساعة ـ وهو أمر غير مألوف لنا ـ وانه قد يحدد في الترام أو الأتوبيس أو في أحد المنازل , وانه في كل مرة سوف يخبرنا عن اللقاء القادم , وقال لنا أنه هو الذي اتصل بالأستاذ الهضيي وأخبره أنه قد آن الأوان لعمل إسلامي بعد أن رأى أن الحركة الإسلامية مستهدفة وفى خطر , ولابد من تحرك ضد عبد الناصر مباشرة .... وكان أول لقاء بين الأستاذ عبد العزيز علي ومجموعة القيادة في منزلي . وكان معنيا بتنظيم مجموعة المعلومات ـ وكانت هذه المجموعة موجودة بالفعل برئاسة أحمد عبد المجيد ـ ولكنه كان يريد توسيع دائرة هذا العمل وتعميقه .. وكان يحاول أن يجعلنا نتعامل جميعا في جمع المعلومات كعمل أساسي للتنظيم , وقد أعطاه الأهمية الأولى .. ثم تحدث عن لقاءاتنا بإخواننا وأنها لا ينبغي أن تكون طويلة , ولكن اجتماعات خاطفة مثل التي يديرها معنا . وأن هذا ـ في رأيه ـ أكثر أمنا للتنظيم . ولكنى قلت له إن هذا الأسلوب لا يصح خاصة مع تنظيم المفروض فيه أنه عقائدي .. فلقاءاتنا تستهدف في المقام الأول التربية والدراسات الإسلامية والعبادة الجماعية .. وقلت له أيضا أن مثل هذا الأسلوب الذي يراه قد يصلح لشبكة جاسوسية أو عصابة من عصابات المخدرات أو أي نشاط مماثل , ولكنه لا يصلح ولا ينتج عنه شباب مسلم .. ولكنه أصر على رأيه فوافقناه , ولكن لم ننفذ اقتراحه .وإن بقيت لقاءاتنا مستمرة على هذا النحو , يقوم خلالها بإعطائنا بعض الأمثلة عن النشاط السري في عام ( 1919م ) ووسائل هذا النشاط , وقال إنهم كانوا يعتمدون على استخدام السم في حالات كثيرة أكثر من اعتمادهم على السلاح .

وفى أحد الاجتماعات أخبرنا أنه لكي يأخذ التنظيم شكله الصحيح فإنه مطلوب من أن نسلمه كشفا بأسماء جميع الاخوة الموجودين في التنظيم وعناوينهم على مستوى الجمهورية , وأنه سوف يحتفظ بتلك الكشوف عنده , فالمفروض أن تكون القيادة على علم بكل شئ من الإخوان , في الوقت الذي لا يعرف الأفراد شيئا عن القيادة , وقد أصابنا هذا بنوع من الذهول , ولم ندر كيف نرد .. لأننا ـ في بعض الأحيان ـ لا نعرف كل الأسماء , فكل مسئول يعرف الأفراد التابعين له , ونحن ـ مجموعة القيادة ـ لا نعرف إلا عددا قليلا , لكنه قال : إن هذا خطا شديد , ولابد أن نبدأ فورا في جمع تلك البيانات وتسليمها له , ووعدناه أن نبدأ في التنفيذ , فقط نحتاج لبعض الوقت , وطلب أن أكون أنا حلقة الاتصال به في منزله على ألا تشعر زوجته بأي شئ لأنها كانت تشاركه في الكفاح في الأيام السابقة , وكانت تضع له المسدسات داخل السندوتشات وترسلها إليه فهي ـ على حد قوله ـ " تشم " رائحة مثل هذه الأعمال , وأعصابها لم تعد تحتمل ذلك , فوعدته بالحرص التام وقال انه سيخبرها أنني من قبل شركة الغاز , وظل الحال كذلك حتى أوقفنا الاتصال به نهائيا لعدم إحساسنا بالراحة في هذا الطريق كنا جميعا نشعر بذلك ولم يختلف أحد منا ..... ويحكى نفس الكلمات الأخ أحمد عبد المجيد(1) .. ولكنه يضيف أنهم أخبروا الأستاذ المرشد بعدم ارتياحهم فترك لهم حرية الاختيار في الاستفادة منه أو تركه ,وتم التخطيط للانسحاب التدريجي , مع الظهور بمظهر المتكاسلين وعدم الجدية حتى تم الانسحاب نهائيا .

ويؤكد أحمد عبد المجيد أن الرجل كان مخلصا وصادقا , وكان موقفه صلبا في السجن الحربي جزاه الله عنا خيرا ... وخلاصة القول :

1. أن الفكر التنفيذي للوزير عبد العزيز على يعتمد على دس السم لعبد الناصر في الطعام بعد ترتيب محكم لهذا الموضوع .

2. إن قتل عبد الناصر في حد ذاته غاية من الغايات التي يجب أن يبذل فيها الجهد .

3. لم يقدم الوزير عبد العزيز أحمد أي برامج ثقافية أو تربوية ولكنها تصاغ من خبرة قديمة في ثورة ( 1919 ) .. وأن الظروف قد تغيرت تماما .. والحرص والحذر عند رؤساء الحكومات صار أكثر آلاف المرات من زمن ثورة ( 1919م ) ومن ثم فإن هذا الفكر لم يعد يصلح إطلاقا .

4. ليس في حسابات الوزير أي ردود أفعال قد تحدث إذا فشلت الفكرة .

5. حرصه على أخذ بيانات أسماء وعناوين أعضاء التنظيم سارع وعجل الخوف من الاستمرار في التعامل معه .. وهذا خطأ كبير في العمل السري .. لا ندرى كيف وقع فيه الوزير وتقدم بهذا المطلب المثير للشبهات عند من يعرف أبجديات العمل السري فضلا عن أن يكون خبيرا فيه .. فالعنقودية .. هي أساس العمل السري كما هو معروف لكل من باشر هذا العمل .

6. كبر سن السيد الوزير ( 70 عاما ) لم يجعل التفاعل مع مجموعة القيادة مؤثرا ولم يستطع أن ينفذ إلى عقولهم ولا إلى قلوبهم.

... وأخيرا

7. تلاحظ المرونة الكبيرة في قرارات الأستاذ المرشد حسن الهضيبي " فأهل مكة اعلم بشعابها " وهكذا انتهت هذه القصة القصيرة من رحلة الوزير عبد العزيز علي أحمد سريعا مع التنظيم في مدة لا تتجاوز أربعة أشهر بحال من الأحوال ...ولكنه حوكم في (65) وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما.

قلاقل حول التنظيم

ثلاثة من قيادات الإخوان القدامى لم توافق على هذا التنظيم بعد أن تنسمت رائحته , وتسربت إليهم أخباره وهم :

1. الأستاذ محمد فريد عبد الخالق عضو مكتب الإرشاد السابق

2. الأستاذ منير دله عضو مكتب إرشاد سابق

3. اللواء صلاح شادي ، أحد القيادات الكبرى للإخوان المسلمين وعضو بمكتب الإرشاد في أيام الأستاذ عمر التلمسانى

ويحكى أحمد عبد المجيد(1)

" ولا يفوتني أن أذكر كذلك محاولة استئناف الاتصال بالإخوان القدامى المسئولين في هذه المرحلة وبدأ كل منا الاتصال بمن يعرفه والتفاهم معه بعد مناقشة الأمر مع المجموعة , وتم الاتصال بكثير من قيادات الجماعة التي على الساحة , خارج السجون وعلى كافة مستوياتها القيادية , بدءا من نواب الشعب , فأعضاء الهيئة التأسيسية , فالنظام الخاص السابق , وفدائيي فلسطين , ..حتى مكتب الإرشاد ... وكنا نسعى جهدنا لذلك ليتولوا قيادتنا وتوجيهنا بعد تسليم الزمام لهم باعتبارهم أقدم منا , وأجدر بذلك , وكذلك سرعة استجابة الإخوان لهم بحكم وضعهم , ومسئولياتهم السابقة , وكذلك أعمارهم حيث كان أكبرنا سنا وقتها الشيخ عبد الفتاح إسماعيل وعمره ذلك الوقت لا يتجاوز 37 عاما(1).. إلا انه للأسف باءت كل هذه المحاولات بالفشل ولم يكن موقفهم الرفض فقط, بل بدءوا يحاربوننا ويطاردوننا ويحذرون منا الإخوان في كل مكان ويضعون أمامنا العراق يل .. وكانوا يبررون تصرفاتهم بدافع حرصهم على الجماعة , ولا يعلم حقيقة هذه الدوافع إلا الله .. فهل هو الخوف من الاعتقال ثانية وما سيترتب عليه .. أم أن الوقت غير مناسب , أم انهم أدوا دورهم وكفى؟ كل ذلك جائز ..." انتهى

ويقول الأستاذ أحمد رائف(2) : " أراد الشيخ عبد الفتاح إسماعيل أن يضفي على نشاطه ثوب الشرعية فذهب إلى لقاء الأستاذ محمد فريد عبد الخالق وعرض عليه فكرة تجميع الإخوان من جديد .. اعترض الأستاذ محمد فريد عبد الخالق(3) على هذه الفكرة , وقد كان أحد من يعلمون جمال عبد الناصر جيدا من أيام ما قبل الثورة , وذهب إلى منير دله , وقص عليه القصة , وانزعج الرجل خوفا وحرصا على جماعة الإخوان من بطش عبد الناصر , وكان الاثـنان يعرفان طبيعة عبد الناصر منذ زمن بعيد .

وذهب كل من الأستاذ محمد فريد عبد الخالق , و منير دله إلى مقابلة المرشد العام , وعرضا عليه رأيهما وخوفهما من الضرر الذي سيلحق بأفراد الجماعة , وبطش الحكومة القوى وأنها لن تتسامح في معاملة أعدائها , وتجميع الإخوان لن يفيدهم بأي حال , وفى مجتمع تحكمه الشرطة ـ مثل مصر ـ لابد أن تتسرب أنباء هذا التنظيم , ولن يبطشوا بأفراده فقط , بل سيشمل البطش كل من له صلة بجماعة الإخوان , حتى الذين في السجون سوف يلحق ضرر بالغ من نشأة هذا التنظيم .. وترافع كل من فريد عبد الخالق , ومنير دله بحرارة أمام المرشد العام المحددة إقامته وهما يقابلانه بصعوبة شديدة خوفا من رقابة الحكومة , وطلبا منه في إلحاح أن يستدعى عبد الفتاح إسماعيل وينهاه عن هذا ." انتهى .

وترامى إلى سمعي في فترة السجن أنهما قالا لفضيلة المرشد " الشباب دول هايودو الإخوان في داهية " [ قالاها بالعامية المصرية ] فرد عليهما ـ رحمه الله ـ أيضا ( بالعامية المصرية ) :" هو فيه داهية اكتر من حل الجماعة , والحال اللي نحن فيه !!" ، هذا ما سمعته في أروقة السجن الحربي .. إن كانت له أروقة !! أما علي عشماوي فإنه يقول(1) إن الأستاذ سيد قطب أخبره أن الأستاذ منير دله اخبره أنه متخوف من تحرك بعض الشباب وأنه يخشى أن يكونوا مندسين على الإخوان , كذلك علم أن المهندس مراد الزيات صهر الأستاذ صلاح شادي عنده هذا الخوف أيضا وقد وصله هذا الخوف وتلك المعلومات من الأستاذ صلاح شادي ولكن الأستاذ سيد قطب طمأن علي عشماوي , وقال له إنه سيعالج هذا الموضوع مع كل من الأستاذ منير دله والمهندس مراد الزيات , وطلب الأستاذ سيد من علي عشماوي أن يترك هذا الأمر له تماما , وسوف يعالجه .

ولقد أشار الشهيد سيد قطب في كتابه " لماذا أعدموني " (1) إشارة عابرة إلى هذا الموضوع تفيد أن كلا من الأستاذ منير دله , والأستاذ محمد فريد عبد الخالق , والأستاذ صلاح شادي وصهره المهندس مراد الزيات ( أمين عام نقابة المهندسين بعد ذلك ( 87 ـ 1991م ) وكذلك الأستاذ عبد الرازق هويدى كانوا يعرفون وجود تنظيم , ولكنهم لا يوافقون عليه إطلاقا بل ويتخوفون منه كثيرا .. وبعضهم يشك في أن هذا اختراق للإخوان تمهيدا لضربهم ، وكذلك ترامت أنباء أن مكتب المشير عامر على علم بهذا التنظيم وأنه يستعد لضربه .." انتهى


تعليق :

وأنا مقتنع إلى حد كبير بهذا الكلام فإن أخبار التنظيم لم تعد سرا ولا قصرا على أبناء التنظيم .. فقد ترامت أخباره إلى كثير ممن هم خارج التنظيم .. وأغلب الظن أن هذه الأخبار وصلت إلى مكتب المشير عامر للأسباب التالية :

1- قيام الحكومة ببناء سجن جديد وواسع في منطقة أبو زعبل ( وسميت زنازين شمال ) في أواخر عام 1964 وانتهى في أوائل عام 1965 .

2- كان الضباط المشرفون على بناء السجن يقومون بتخزين البطاطين والأبراش ( جمع برش ) من الليف التي توضع على الأرض كحصير ينام عليه المسجون .

3- في وضوح شديد كان المقاول الذي يقوم بالبنا ء والضباط من الداخلية المشرفون على البنا ء يقولون أن هذا السجن يتم إعداده خصيصا للقبض على الإخوان المسلمين وهذا يدل دلالة قاطعة على أن النية مبيته لضربة أخري للإخوان المسلمين , وكان التنظيم ذريعة جيدة لها .

4- قام رجال من مكتب المشير عامر قائد الجيش المصري ( آنذاك) بإرسال مندوب لزيارة الحاجة زينب متخفيا , وهمس لها أن المشير عامر يعد لانقلاب ضد عبد الناصر , وانه يتطلع إلى مساعدة الإخوان المسلمين وحزب الوفد , وأنها فرصة العمر للإخوان واعترض علي عشماوي على ذلك وتم رفض الفكرة ولكن أحدا لم ينتبه إلى ترامى أخبار التنظيم إلى شمس بدران مدير مكتب المشير .. الذي راهن الدنيا كلها على وجود تنظيم , وكسب الرهان بعد بحث طويل ودؤوب عن التنظيم , ولا شك أن تسرب أخبار التنظيم إلى أفراد من غير التنظيم ـ حتى لو كانوا مخلصين ـ هو أحد أسباب كشف هذا التنظيم .. وهذه هي إحدى مشاكل العمل السري .


شرعية التنظيم

الإخوان المسلمين جماعة لها جذور قديمة في المجتمع المصري منذ عشرينات القرن الماضي .. وليس من السهل أن يحمل أحد اسمها بسهولة ويتحرك به في الشارع المصري للأسباب التالية :

1- انهم منتشرون في كل أنحاء القطر المصري ، فلا تكاد تخلو قرية أو مدينة أو مركز شرطة أو قسم شرطة من وجود أفراد لهم ينتمون إلى هذه الفكرة شكلا أو موضوعا ، قلبا أو قالبا أو كليهما .

2- أن لهم لغة خطاب متميزة تماما عن كافة الجماعات والتيارات والأفكار الأخرى

3- أن لهم نكهة خاصة في التربية والتكوين .. سواء في الأخلاق أو في المعاملات .. يعرفها كل من له دراية بالناس .. ففيهم جدية شديدة ودأب في العمل .. مع الصفات الأخرى الطيبة .. كما انهم يمتازون بكثير من المثابرة لبلوغ المراد .. حدث ذات مرة أن تعرضت لضغوط شديدة في مكان عملي بالمصنع فذهبت إلى رئيس الشركة وقلت له : بصراحة أنا عندي اكتئاب من كثرة هذه الضغوط .. فضحك رئيس الشركة ضحكة طويلة وعميقة .. ثم نظر لي وقال : همة الإخوان يعرفوا اكتئاب ؟! .. ده كلام مرفوض .. وخرجت من مكتبه بخفي حنين لمجرد أن قلت له هذه الكلمات .. واستأنفت العمل بصبر حتى زالت هذه الضغوط .

4- أن مقدرتهم على مزج الدين بالسياسة مزجا فريدا هي مقدرة متميزة تماما مما يجعل من السهل اكتشافهم .. واذكر انه كان لي قريب يتردد علىّ كثيرا لزيارتي وأنا طالب .. فشاهد الاخوة معي وتحدث معهم .. ورغم حرصهم الشديد , وكان ـ رحمه الله ـ مقاولا .. قال لي بلغة أبناء البلد : " اقطع دراعي دول كلهم إخوان مسلمين " .. فقلت له : يا عم هو صار فيه إخوان في مصر .. ماخلاص .. فقال لي : لا تستخف بعقلي وسوف ترى .. ولم يمض عام على هذه المقولة حتى اعتقلنا جميعا .. وجاء هو لزيارتي فاعتقلوه مع كثير من أهلي حيث جعلوا شقتي كمينا .. فقبضوا على الكثير من أهلي وزملائي من هذه الشقة .

.. كل هذه المقدمة الطويلة تجعل من يريد التحدث باسم الإخوان المسلمين لابد أن يكون بترتيب وتنسيق مع قيادة الإخوان متمثلة في فضيلة المرشد العام .. فان إضفاء الشرعية على تحرك إخواني في أنحاء الجمهورية لابد له من إذن خاص :

1. يفتح جميع النوافذ والأبواب لمن يريد الحركة .

2. يعطى المصداقية التنظيمية لمن يعمل في حقل الدعوة الإسلامية

3. يزيل جميع العراق يل التي تعترض العمل , ويذلل كافة الصعوبات , ويمنع أي مواجهة مع أي مسئول محلى في أي مكان .

4. يفتح مغاليق القلوب والجيوب .. فتنفق القلوب عاطفة سخية , وتخرج الجيوب أموالها ونفقاتها .. لهذا حرص أفراد التنظيم مبكرا على الحصول على هذه الشرعية مبكرا من عدة مصادر :

1- كما يحكى علي عشماوي (1) انه أرسل الأخ سيد البردينى لأخذ الإذن من قيادات الإخوان الكبار المسجونين في سجن الواحات ولكنه عاد بخفي حنين حيث كانت الأمور ( كما يحكى علي عشماوي ) هناك مرتبكة , والخلافات بين المؤيدين وغير المؤيدين شديدة .. والانشقاق بين الإخوان قد بلغ شأوا مخيفا .

2- يقول القيادي أحمد عبد المجيد " أن المجموعة المؤسسة من الإخوان المعتقلين وهم

• الشيخ عبد الفتاح إسماعيل

• الشيخ محمد فتحي رفاعى .

• الأستاذ عوض عبد المتعال.

هذه المجموعة استأذنت مبكرا قبل عام 1960 م من فضيلة المرشد في استنئناف العمل فوافق لهم .. وقد حصل على هذا الإذن الشيخ عبد الفتاح إسماعيل .. ومن ثم فإن لهم الشرعية .. كل الشرعية في العمل .

ويقول أحمد عبد المجيد(2) ثانية في صفحات 59 , 60 من كتابه الإخوان وعبد الناصر ـ القصة الكاملة لتنظيم ( 65 )  :


الاتصال بالأستاذ المرشد :

كان يتم عن طريق الشيخ عبد الفتاح إسماعيل بواسطة الأخت زينب الغزالي ، التي كانت تقوم بالذهاب إلى الأستاذ المرشد في بيته , أو في أي مكان أخر , وكان يتم ذلك في أضيق الحدود , وعند الضرورة فقط , حيث كان منزله مراقبا مراقبة مستمرة ليلا ونهارا , وكان يخضع لنظام " تحديد الإقامة الجبرية "

ومما كان يسهل مهمتها وجود صلة نسائية بينها وبين بيت الأستاذ المرشد مما يبدو على انه أمر طبيعي لا يلفت إليه النظر ولا يثير الشكوك ) انتهى

الاتصال بالسجن :

كان الاتصال بالسجن(1) بواسطة الشيخ عبد الفتاح إسماعيل والحاجة زينب الغزالى والأخت حميدة قطب شقيقة الأستاذ سيد قطب , وكان هذا الطريق مأمونا أيضا بتوفيق الله , ويبدو عاديا بحكم صلة الإخوان ببعضهم أسوة ببيت فضيلة المرشد ." انتهى

أما الأستاذ أحمد رائف صاحب كتاب البوابة السوداء(2) فيقول : " كان الشيخ عبد الفتاح إسماعيل يرتب لقاء مع المرشد العام عبر الحاجة زينب الغزالى التي دفعت ثمن هذا غاليا من التعذيب في السجن الحربي فيما بعد " .

وتم اللقاء , وعرض فيه الشيخ عبد الفتاح وجهة نظره بحرارة بين يدي المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ حسن الهضيبي , وتكلم وقال : كيف أن البلاد تسير بخطوات مسرعة نحو الإباحية والتحلل وفساد الأخلاق وانتشار الرشوة , ولم يعد أحد يهتم بشان الدين أو الدنيا والحكومة تشجع على هذا , وفقد الشباب صلتهم بدينهم , وصاروا يتخذون المفسدين قدوة لهم(1) , وانعدم المثل الأعلى , الأمر الذي يهدد دعوة الإسلام بالضياع من مصر بشكل نهائي , وهذا يدفع كل مسلم غيور على دينه على تحقيق بعض التماسك , وصبغ الشباب بصبغة دينية , وربطهم بالإسلام على نحو ما من خلال برامج الثقافة والتربية الإسلامية ، ولن نتعرض لنقد الحكومة ولن نعاديها , ولن تكون هي مشكلتنا وكان المرشد العام صامتا طول الوقت يستمع في هدوء إلى كلام الشيخ عبد الفتاح .

ولما رأى أن المرشد ينصت إليه بإمعان ألقى إليه بقنبلته الأخيرة :

يا فضيلة المرشد : إن الشيوعيين لن يسكتوا حتى يستقيم لهم حكم مصر , وهم يهادنون عبد الناصر تمهيدا لخلعه , ويتولى سكرتير الحزب الشيوعي مكانه في حكم مصر بعد تكوين جبهة من كافة الأحزاب والتجمعات الشيوعية , وهم يسرعون الخطا في تحقيق ذلك والطريق أمامهم ممهد ومفتوح وسكت قليلا ليرى تأثير كلامه على المرشد العام , وكان الرجل صامتا جامد التعبير , فقد جلس على كرس القضاء ما يقارب أربعين عاما فهو معتاد على سماع المرافعات ووزن الأمور بدقة , ولما رآه الشيخ عبد الفتاح صامتا استمر في حديثه : " في هذه الحالة , لو أمسك الشيوعيون بالحكم فسوف يقومون بتصفية دموية , ولن يكون أمام الإخوان وغيرهم من المسلمين غير الاستسلام لسكين الشيوعيين الحمراء , وعندها لن نستطيع شيئا ، الرأي يا فضيلة المرشد : أن نتحد ونتجمع , ونكون على أهبة الاستعداد لمواجهة كافة الظروف التي يمكن أن تكون , ولا يجب أن نفاجأ بهذا الخطر ونحن نعرفه ونتوقعه .

ما قولك يا فضيلة المرشد ؟

وسكت الرجل طويلا هذه المرة , وكان قليل الكلام فان نطق فكلماته توزن بميزان الذهب , وكأنه يقارن بين ما قاله له محمد فريد عبد الخالق ومنير دله وبين كلام الشيخ عبد الفتاح الثائر المتوهج الممتلئ حماسة وإيمانا , وأخيرا رفع الأستاذ الهضيبى رأسه إليه ووجه له عبارة واحدة انصرف على إثرها بعد أن قبل يده :

اسمع يا شيخ عبد الفتاح : تصرف على ضوء قرار حل جماعة الإخوان الذي أصدرته الحكومة في يوم ما .

اعتبر الشيخ عبد الفتاح هذه العبارة التي نطق بها المرشد العام إذنا له بالعمل على المضي قدما في التنظيم الذي يريده ولم يرد أن يناقشه أو يسأله التفسير , أو أن يدخل معه في تفاصيل فهو لا يريد أن يحرجه أولا , ويخشى أن يفسر الرجل العبارة على غير ما فهمها عبد الفتاح إسماعيل .

وكان سعيدا فرحا بهذا الإذن الذي يمكن أن يستخدمه في تجميع الإخوان , وهو يستطيع أن يقول في ثقة لمن يعترض : عندي تفويض من المرشد العام لتجميع الإخوان

وبالتأكيد لن يلقى معارضة كبيرة فالجماعة تثق بمرشدها , وتراه مثلا في الصمود وهو حكيم صابر بعيد النظر لا يرضى لجماعته أن تتقاذفها الأهواء والمحن والأنواء , وكان الشيخ عبد الفتاح عضوا في اللجنة الخماسية , وهو الأمير الفعلي وان لم ينص على ذلك صراحة وهو الطاقة المحركة التي تجوب البلاد شرقا وغربا في غير كلل أو ملل وهو الفقير الغنى , التاجر الذي يهمل تجارة الدنيا من اجل تجارة تنجيه من عذاب اليم يرتدى ثوب المبشرين , ويحمل روح الثوار ويضع على كتفية عباءة الأنبياء , وكان لا يبخل بوقته فهو كله للتنظيم , ولا بمال فماله كله من اجل تحقيق الغاية , وهو يسافر من خارج مصر يبحث عن فلول الإخوان الهاربة يطلب منهم النصرة والمؤازرة .

وكانت روحه هي التي تبعث الدماء حارة في شرايين التنظيم , وكان الرجل على إصرار كامل أن يصل الأمر مداه وغايته , ويستوي في نظره الموت والحياة , والشهادة احب إليه من النصر وكان يردد هذا دائما . كان غاية ما يمكن أن يقدمه المرشد العام هي تلك العبارة التي قالها له , والرجل شيخ فان مريض محاط بالأرصاد والعيون والاتصال به يكاد أن يكون ضربا من المحال في دولة قد جعلت التجسس هو شعارها ودينها , وكان الشيخ عبد الفتاح حريصا على عدم إشراك المرشد في اكثر مما قاله له , وهناك الحرس القديم من أعضاء مكتب الإرشاد الذين افرجوا عنهم وخرجوا من السجون وهم لا يعتمدون هذه الخطة , ولا يمكنهم مراجعة المرشد في كافة التفاصيل , وكانت قضية التنظيم تشغل بال الشيخ في ليله ونهاره .(1)

سيد قطب قائدا للتنظيم

لم تكن قيادة الوزير عبد العزيز على مقنعة للتنظيم خصوصا في القضايا التالية :

1. لم يكونوا على قناعة تامة بفكرة اغتيال عبد الناصر بالسم وسألوه : كيف يتم هذا ؟ قال : لابد من تدبير هذا ؟(1)

2. لم يكونوا على قناعة بأن قتل عبد الناصر هو الغاية الكبرى للتنظيم ... وسألوه : وماذا بعد قتل عبد الناصر ؟(2) فأجاب : قتله هو غاية في حد ذاتها

3. تخوفوا جميعا من طلب الوزير لأسماء وعناوين جميع أفراد التنظيم .. بل إن بعضهم بالغ في التحليلات السياسية , وظن أنه مندس على التنظيم .. ثم تبين لهم بعد ذلك إخلاص الرجل وصلابته في السجن الحربي .

4. لم يكن الوزير على دراية بالمناهج والأساليب التربوية عند جماعة الإخوان المسلمين .. وكل قناعاته في القتال فقط أما التربية والتكوين والانتشار الأفقي , وهداية الناس فليست في قاموس مناقشاته .

لهذه الأسباب مجتمعة .. فكر أفراد التنظيم في الانسحاب المنظم والتدريجي من العلاقة مع الوزير عبد العزيز على ,والبحث عن قائد آخر للتنظيم , وأرسلوا الحاجة زينب الغزالي إلى فضيلة المرشد حسن الهضيبي لتخبره بذلك فلم يمانع الأستاذ حسن الهضيبي , وأفادهم أنهم أعلم بظروفهم المحيطة بهم .. وأنه لا يمانع في أي قرار تنفيذي يرونه مناسبا لظروفهم التنظيمية .

وأوكل الإخوان مهمة الانسحاب التدريجي من العلاقة مع الوزير إلى علي عشماوي , الذي صار يلتقي به وحده ـ دون سواه ـ مرة كل أسبوع وأوحى علي عشماوي إلى الوزير أن هناك تكاسلا وتراخيا في العمل في هذه الفترة .. وبعد حوالي 8 لقاءات انقطعت الصلة مع الوزير عبد العزيز علي وكذلك صدر تفويض آخر للشيخ عبد الفتاح إسماعيل بالبحث عن قائد آخر يقود التنظيم ..

وفى هذه الفترة حدثت عدة أمور:

1. تقلص دور المهندس محمد عبد الفتاح شريف فلم يعد قائدا للتنظيم واكتفى بمنطقة دمنهور والعمل فيها .

2. سافر الشيخ محمد فتحي رفاعي إلى الجزائر للعمل مدرسا للغة العربية هناك

3. سافر الأخ عوض عبد المتعال عوض إلى الجزائر أيضا للعمل مدرسا هناك , وحل محلهما الأستاذ صبري عرفة الكومي ( مدرس كيمياء ثانوي .. آنذاك ) في قيادة وسط وشرق الدلتا .

4. تولى مجدي عبد العزيز متولي ( كيماوي متميز بشركة النصر للأقلام الجرافيت ) قيادة منطقة الأسكندرية , ويعاونه عبد المجيد الشاذلي ( كيماوي بمصنع الحرير الصناعي بالأسكندرية ) , كما تولى مجدي عبد العزيز متولي القيادة العسكرية للتنظيم لأنه كان ضابطا احتياطيا بالجيش , علاوة على لياقته البدنية العالية

5. تولى علي عشماوي قيادة منطقة القاهرة الكبرى ( القاهرة والجيزة والقليوبية )

6. تولى الأخ أحمد عبد المجيد عبد السميع قيادة وجه قبلي .. كما تولى أيضا قسم المعلومات , وهو ما يسمى في العصر الحديث [ قاعدة بيانات (data base ) ] ومع الأخ أحمد عبد المجيد في قاعدة البيانات هذه أو قسم البيانات كما كان يسمى في العقود الماضية .. معه مجموعة من الشباب المتميز في جمع المعلومات وهو ما ظهر في التحقيقات ومنهم على سبيل المثال جابر رزق جابر , ومحمد عبد المنعم شاهين وغيرهم .. كما كان جمع المعلومات وظيفة تلقائية لكل أخ ينضم للتنظيم , وكان يساعده في الصعيد الشهيد محمد منيب أمين عام مكتبة جامعة أسيوط رحمه الله رحمة واسعة .

7. تولى الشيخ الشهيد عبد الفتاح إسماعيل منطقة شمال الدلتا( دمياط)إلى جانب مجموعات مرتبطة به من القاهرة وغيرها وأيضا الاتصال بالإخوان القدامى والاتصال بالخارج والاتصال بفضيلة المرشد والبحث عن قائد جديد للتنظيم

كما أن له حرية الحركة في كل أنحاء مصر .. دعوة وتربية وجمع اشتراكات وخلافه

وفى هذه الأثناء وبعد مداولات ومشاورات استقر الرأي على الاتصال بالشهيد سيد قطب في ليمان طرة لكي يكون قائدا فكريا للتنظيم حتى يأذن الله له بالفرج من السجن .

سيد قطب قائدا فكريا

بدأ سيد قطب يكتب رسائل للتنظيم فصدر له :

1. هذا الدين

هذا الكتيب القيم يحمل فوق طياته أسلوبا جديدا وجذابا في مخاطبة الشباب .. وفى التعبير عن حقائق ( هذا الدين ) .. ولا يزال هذا الكتاب يؤثر في أجيال بعد أجيال .. فهو من العلم الذي ينتفع به بعد وفاة سيد قطب .. فكر جديد .. وروح جديدة .. هي ـ كما نحسبها ـ قبس من نور الإيمان

2. المستقبل لهذا الدين

وهو أيضا كتيب قيم يبعث الأمل في نفوس الدعاة إلى الله وهو الكتيب المكمل للكتيب الأول " هذا الدين " هذان الكتيبان صدرا للشهيد سيد قطب وهو في السجن ، وهما عبارة عن منشورين من منشورات الشهيد سيد قطب ، ولعل الشهيد تنسم رائحة التنظيم ، أو أن معلومات وصلت له عن طريق أخته حميدة قطب نقلا عن الحاجة زينب الغزالي التي كانت على صلة طيبة بأسرة الشهيد سيد قطب .

وفى هذه الأثناء اقترح الشيخ عبد الفتاح إسماعيل اسم سيد قطب رغم أنه كان لا يزال في السجن وليس هناك أي بوادر إفراج عنه .. ولكن الجميع كانوا يعرفونه من كتاباته ومن تاريخه .. ووافق الجميع , واستطاع الشيخ عبد الفتاح إسماعيل بحركته الواسعة وصبره ودأبه الطويلين أن يزور سيد قطب في سجنه في مستشفى ( ليمان طره )

يقول صاحب كتاب البوابة السوداء (1)

كان رحمه الله ( يقصد الشيخ عبد الفتاح إسماعيل ) متوقد الذهن , عظيم الحماس ، وهداه تفكيره إلى ( صاحب الظلال ) الشهيد سيد قطب , ولكنه في السجن يقضى فترة العقوبة ، واستطاع ببراعته الفائقة أن يصل إليه , وكان هذا وقتها ضربا من المحال .

وكان العلامة سيد قطب قد وهب نفسه لتفسير القرآن والحياة في جوه وصوره وأخيلته وإيحاءاته , وقد زادته مرارة السجن حرارة , وألهبت روحه أشواق الآخرة فهو رجل مريض زكى القلب ثاقب النظرة إلى ما في القرآن من معان خفية , وإشارات لطيفة , وليس أمامه غير ما وضعوه فيه(2) , يتعلم ويعلم في صبر وأناة وثقة في صحة الطريق الذي يسير فيه , ليس عنده ما يخفيه فهو بين أنياب الأسد حقيقة لا مجازا , وهو في قبضة حاكم شرس لا يقبل غيره على الساحة .

وطلب منه الشيخ عبد الفتاح أن يكون أبا روحيا لجماعة من الإخوان خارج السجن تريد ما يصحح مفاهيمها , ويهديها إلى الصراط المستقيم وأنهم يتوسمون فيه هذه القدرة , ورضي الرجل بما قاله عبد الفتاح إسماعيل , وصارت كتاباته تأخذ طريقها إلى التنظيم تهريبا من السجن قبل أن تذهب إلى المطبعة وأخذت أفكار ( الشهيد ) سيد قطب طريقها إلى تنظيم الإخوان الرسمي لأول مرة , حتى صارت بعد ذلك الطابع الأساسي لفكر الإخوان المسلمين .

ويواصل أحمد رائف(1) " ولم تكن فكرة الانقلاب وتغيير الحكم بالقوة تداعب خيال أحد , وكانت غاية ما يرجونه هو إعداد المسلم الإعداد الصحيح ليحمل أعباء سوف يتعين عليه حملها يوما ما ، ..

ويستطرد قائلا : " وبحكم طبيعة المجتمع المصري فالمراقب يجد أن حيازة السلاح آمر طبيعي وعادى وعلى الأخص في القرى والكفور والنجوع , وكان من الطبيعي أن تتواجد بعض قطع السلاح في حيازة بعض الأفراد , وعلى وجه التحديد من أولئك الذين يسكنون الأماكن البعيدة عن القاهرة , والذين يعملون في نفس المهن الخاصة مثل التجارة والزراعة , أما طبقة المثقفين وكبار المتعلمين الحاصلين على الشهادات العلمية العالية فلم يثبت أن أحدا قد فكر في هذا , ولا يمكن اعتبار أفكار بعض المغامرين الحالمين في الإعداد العسكري لعدد اقل من الخمسين معيارا أو أساسا للحكم على السياسة العامة للتنظيم ... وكل ما ضبط من سلاح في حوزة أعضاء التنظيم اقل مما هو موجود في حيازة إقطاعي صغير لا تتجاوز أرضه الخمسين فدانا من الأرض المزروعة ."

... " وكانت هناك عروض جدية من بعض المغامرين المقيمين في السعودية في توريد السلاح لم تعرف طبيعته أو كميته عن طريق بلدة " دراو " في الصعيد , وطلب تأجيل هذا لان الاستفادة منه غير واردة في تلك الأيام على الأقل , وربما تكون ذات فائدة عندما يحدث غزو سوفيتي أو يتقلد الشيوعيون مقاليد الحكم ففي هذه الحالة فقط يكون للإخوان وكذلك سائر أفراد الشعب الحق الشرعي للدفاع عن النفس .

... إلى نفس الموضوع يشير علي عشماوي في مذكراته انهم قد وصلتهم رسالة من ( الشهيد ) سيد قطب عن طريق أخته ومنها إلى الحاجة زينب الغزالى وهى رسالة مطولة من 12 صفحة عن وجوب تصحيح العقيدة والمفاهيم في الإيمان والعمل والحركة بهذا الدين .

أما أحمد عبد المجيد ــ أحد قيادات تنظيم (65 ) ــ فلا يذكر شيئا عن الاتصالات الأولى مع سيد قطب داخل السجن ويقفز على الأحداث ويتكلم مباشرة عن فترة ما بعد خروج سيد قطب في عام 1964 من السجن .

وليس في فترة ما قبل الإفراج عن سيد قطب سوى هذه الإصدارات الثلاث

1. كتاب ( هذا الدين )

2. كتاب ( المستقبل لهذا الدين )

وهذان الكتابان أو الكتيبان تم طبعهما في مكتبة " وهبة " في عابدين

أما ثالث كتابات الأستاذ سيد قطب قبل خروجه من السجن فهو منشور ( خيوط خطة ) .. ولقد حاولت العثور على نسخة من هذا المنشور فلم أستطع حتى الآن .. وكنت أتمنى أن أسجلها هنا كلها بنصها .

ويشير إليها القيادي أحمد عبد المجيد فيقول(1) " في هذه الفترة ( 57 ـ1962 ) وصلت إلينا مخطوطات من الشهيد سيد قطب من السجن اذكر أن بها فكرة عن تكوين الكيان المسلم وتربيته , وفكرة عامة عن المخططات الصهيونية العالمية , والصليبية الدولية ومحاربتها للإسلام ووسائلها وعملائها في المنطقة وبعض الأسماء كذلك .

وكان الكلام بها في غاية الخطورة وقتها , حيث لم يكن الكثير من هذه المخططات قد انكشف بعد واتضحت الصورة التي ظهرت عليها بعد ذلك وكان عنوان هذه المخطوطات " خيوط خطة "

وأحضر لنا كذلك مذكرات من الشهيد محمد يوسف هواش بواسطة الشهيد سيد قطب كانت بعنوان " جولة في العقيدة والحركة " وكانت مكتوبة بروحانية عالية وموضوعاتها في غاية الدقة والأهمية للعاملين في حقل الدعوة الإسلامية , حيث يصف فيها حزب الله ومواصفاته , وحزب الشيطان وحدوده , وكيفية التعامل معه , وكان هناك باب بعنوان " من نحن " وآخر "ومن الناس " وكانت هذه المذكرات تذهب للمرحوم الأستاذ المرشد حسن الهضيبي أولا لقراءتها ومراجعتها , ثم تصلنا بعد ذلك منه .

خروج سيد قطب من السجن :

كان يحكم العراق بعد ذهاب الحكم الملكي رجل يسمى عبد الكريم قاسم وكان بين عبد الكريم قاسم وعبد الناصر عداوات ومساجلات ومؤامرات انتهت بالإطاحة بعبد الكريم قاسم , ودبرت وعاونت مصر انقلابا عليه بقيادة الرئيس عبد السلام عارف .

وفى عام 1964 حضر عبد السلام عارف لزيارة مصر , وكان قارئا لكتب سيد قطب , فطلب من عبد الناصر زيارة سيد قطب .. وكان في هذا إحراج لعبد الناصر , فاضطر عبد الناصر إلى الإفراج عن سيد قطب ومحمد يوسف هواش وعدد قليل آخر من الإخوان المسجونين .. وعرض عليه عبد السلام عارف أن يكون سيد قطب وزيرا للتعليم في العراق , ولكن سيد قطب رفض بأدب بالغ مع توجيه خالص الشكر لعبد السلام عارف وذهب الشيخ عبد الفتاح إسماعيل لسيد قطب مهنئا(1) , وتكلما سويا في بعض أمور الدعوة , وطبيعة العمل الحالي , وأفهمه باختصار أنه على صلة ببعض الشباب الذين عندهم رغبة للعمل الإسلامي , ويبحثون عمن يرشدهم ويوجههم .. ثم طلب من الشيخ عبد الفتاح إسماعيل أن يقابلنا ( نحن قيادة التنظيم ) , وتقابلنا معه في صيف 1964 في رأس البر , واستقبلنا استقبالا طيبا كأنه يعرفنا منذ سنوات طوال , وتحدث معنا حديثا شيقا بأسلوب جذاب يشد الانتباه , وسمعنا منه مفاهيم جديده لأول مرة (1) , وعرضنا عليه ترشيح شقيقه الأستاذ محمد قطب للجلوس معنا والاستفادة منه .

ولكنه اعتذر لنا اعتذارا رقيقا , وقال: إن محمدا له مجال آخر , وأي شئ تطلبونه أنا تحت أمركم , وفى أي وقت ترغبون , وألا يكون لصحته أو وقته أي اعتبار .

ولقد تركت المقابلة في نفوسنا أثرا كبيرا , فعلى الرغم من أنه لم يخرج من السجن إلا لأيام معدودة مضت , إلا أن كل انشغاله واهتمامه هو أمر هذا الدين , وضرب لنا موعدا نلتقي به في منزله بحلوان بعد ذلك. وتم اللقاء , وتكررت اللقاءات , وهو يوجه فكرنا إلى منحنى آخر وبطريقة ذكية وكانت هذه اللقاءات قاصرة على ما نسمعه منه من توجيهات عامة , أو ما نعرضه عليه من استفسارات أو قضايا , وكنا نتلاقى خارج هذه الجلسة لمناقشة شئون التنظيم المختلفة .

وبعد عدة لقاءات اتفقنا على أن نفاتحه في أن يشاركنا في الأمر كله , ويوجهنا توجيها كاملا , وبعد أن استمع إلى وجهة نظرنا هذه , قال:ليس عندي مانع , ولكن قبلها لي مطلبان :

الأول: أريد معرفة كيف التقيتم مع بعضكم البعض خاصة أن كل واحد منكم من بلدة بعيدة من الأخرى ولا يوجد اثنان فيكم من بلدة واحدة .

الثاني : لابد من أخذ إذن بذلك من الأستاذ المرشد .

فشرحنا له الظروف التي مررنا بها والمشاكل التي واجهتنا , ولازالت تواجهنا , خاصة عدم موافقة المسئولين على ذلك , وذكرنا له الأسماء ومضايقتهم لنا .

وبناء على ذلك , نطلب أن يتقدم " العشرات "(1) الذين خرجوا من السجن ويعرفهم بدلا منا , ونتأخر نحن ونعمل تحت إمرتهم .

وأجبناه عن المطلب الثاني بأن لدينا إذنا سابقا من فضيلة المرشد .

ولقد عقب على كلامنا بالأتي :

بالنسبة للنقطة الأولى : ظهر عليه عدم الارتياح من اتصالنا بإحدى المجموعات القيادية للإخوان , والتي تعتبر دائرة مغلقة على نفسها بحكم التقارب الفكري والعائلي والاجتماعي بينها وقال : " سيحاربونكم حربا لا هوادة فيها(2) , قدر الله وما شاء فعل , فانهم لا يوافقون على شئ خارج عنهم وعن دائرتهم .. " وبالنسبة للنقطة الثانية(3) : أجاب أن هذا الإذن خاص بي شخصيا لا بكم , وأنا لا أفعل شيئا بدون مشورته , ولابد من استئذانه أولا قبل البدء معكم , وسوف أكتب له مذكرة بما سمعت منكم وأرسلها له أولا حيث أن وقته وصحته لا يسمحان بالشرح والجلوس معه لفترة طويلة

وبعد ذلك أرسل للأستاذ المرشد المذكرة مع الشرح والتعليق في عدة صفحات كما بلغنا , وبعدها تم لقاء في بيته بالمنيل ـ بالروضة ـ وتناقش معه في أمر التنظيم ، وسأله الأستاذ المرشد عن العدد فأجابه بأنهم ما بين 300 إلى 350 شخصا , فقال : أنا لا أتصور أنه في مصر 300 رجل فما بالك بثلاثمائة رجل مسلم عليك بتربيتهم والاهتمام بهم ولا داعي لإضافة أحد جديد حاليا .

ولما أثار موضوع الإخوان المخالفين لنا في ( الرأي ) والسابق ذكرهم قال فضيلته : أن فلانا حضر إلىّ عدة مرات يشكو من ذلك وقال : أن هؤلاء هيودوا الجماعة في داهية , ويشكون من خطورة كتاب المعالم فاجأب ( فضيلة المرشد ) :

" انتم خايفين من إيه ، وجماعة إيه اللي انتم خايفين عليها , ما أنتم موتوها طول العشر سنين , هو انتم فاكرين اللي قدمتوه هو ده كل شئ , دا المسحيين على خلاف بينهم مات منهم ييجى ستين ألف .. دا الفلاحين بيموت منهم عشرين والاّ ثلاثين في أكلة ..." (1)

وأضاف ( فضيلة المرشد ) " إذا كنتم خايفين على أنفسكم ما تسيبوا الشباب اللي عايز يعمل ويستشهد في سبيل الله , ناس عايزين يستشهدوا !!! ماتسيبوهم يستشهدوا !!

وأضاف ( فضيلة المرشد ) عن كتاب المعالم قائلا : أنا قرأت المعالم ... وانتم خايفين من إيه . هو مكتوب عليه اسم المؤلف وألا منشورات الإخوان المسلمين "(2)

وأخيرا طلب ( الشهيد ) سيد قطب من فضيلة المرشد أن يكفوا من الكلام عن الإخوان ( بقصد التنظيم ) فقال : سأفعل إن شاء الله

والتقى الرجلان ( المرشد والشهيد ) ـ يرحمهما الله ـ مرة ثانية للتفاهم والتشاور في بعض الأمور على الرغم من المراقبة المستمرة لبيت الأستاذ المرشد ليلا ونهارا , ولكنها عناية من الله سبحانه وتعالى .

خرج سيد قطب من عند فضيلة المرشد وبدأ يمارس عمله الجديد في قيادة هذا التنظيم الوليد .. هذا التنظيم الذي أسلم قياده الفكري تماما للشهيد سيد قطب .. ولم لا ؟

فهو الوحيد في الإخوان الذي رضي بأن يقوم بهذه المهمة الشاقة .. وفور خروجه من السجن !! .. وبدأ ( الشهيد ) في مهمته التربوية والسياسية فورا .. وتوالت المحاضرات بين الشهيد والقيادة مرة كل أسبوع على الأقل استطاع سيد قطب خلالها أن ينشئ تصورا اعتقاديا فريدا وجديدا في عقل وقلب هذه القيادة واستمر على هذا الحال حتى اعتقل سيد قطب في 9 أغسطس 1965 م وقبل اكتشاف التنظيم ولقد سبقه في الاعتقال محمد قطب حيث اعتقل محمد قطب في يوليو ( أوائل شهر يوليو ) عام 1965 م

ولعل ابرز المهام التي قام بها الشهيد سيد قطب للتنظيم في هذه الفترة :

• وضع منهج ثقافي متكامل للتنظيم

• إخراج كتاب معالم في الطريق

• تكوين رأى في الاغتيالات

• تحديد مهمة واضحة للسلاح لدى الأفراد ( الدفاع عن النفس )

ويحسن بنا قبل نهاية هذا الباب أن نلقى بعض الضوء على هذه القضايا  :


وضع منهج ثقافي :

قام الشهيد سيد قطب بوضع منهج ثقافي للتنظيم , وكانت أهم المراجع الثقافية للتنظيم هي : ــ

• رسالة الإيمان ... ابن تيمية

• رسالة العبودية ... ابن تيميه

• زاد المعاد ... ابن القيم

• العقائد ... حسن البنا

• المصطلحات الأربعة ... أبو الأعلى المودودي

• مبادئ الإسلام ... أبو الأعلى المودودي

الإسلام والجاهلية ... أبو الأعلى المودودي

• شهادة الحق ... أبو الأعلى المودودي

• ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ... أبو الحسن الندوي

• النبّوة والأنبياء ... أبو الحسن الندوي

• من كتاب في ظلال القرآن : تفسير السور التالية ( المقدمة بصفة خاصة )

الأنعام - الأعراف ـ يونس ـ هود ـ يوسف ـ المائدة ـ النساء ـ البقرة ـ آل عمران ..... بنفس الترتيب لان السور الخمس الأولى(1) مكية وتتناول العقيدة ومحاربة أهل الباطل لها ولاتباعها من الرسل الكرام , والسور الباقية مدنية تتناول الجوانب التشريعية والتطبيقية في وجود الدولة المسلمة

كتب سيد قطب

هذا الدين ـ المستقبل لهذا الدين ـ خصائص التصور الإسلامي ـ معالم في الطريق ـ الإسلام ومشكلات الحضارة والعدالة الاجتماعية في الإسلام

كتب محمد قطب

منهج التربية الإسلامية ـ جاهلية القرن العشرين ـ هل نحن مسلمون - معركة التقاليد ـ التطور والثبات في النفس البشرية- في النفس والمجتمع

السيرة النبوية

كتاب السيرة لابن هشام

الحديث

رياض الصالحين

الفقه

فقه السنة ... سيد سابق

سبل السلام ... للإمام الصنعانى

الكتب السياسية [[ الذئب الأغبر]] ... للشيخ مصطفى صبري مفتى تركيا الأسبق

الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ... د. محمد محمد حسين

بروتوكولات حكماء صهيون ... محمد خليفة التونسي

خطر الصهيونية العالمية على الإسلام والمسيحية ... عبد الله التل

العالم العربي اليوم ... مورو برجر

الغارة على العالم الإسلامي ... مترجم [[ الإسلام في العصر الحديث]] ( مترجم ) ... ولفريد كاتتل سميث

الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ... د. محمد البهي

زعماء الإصلاح ... أحمد أمين [[ حاضر العالم الإسلامي]] ... شكيب أرسلان

كتاب معالم في الطريق

كان كتاب معالم في الطريق هو الدستور الفكري لتنظيم ( 65 ) , وهو كتاب يحمل في طياته ثورة فكرية هائلة فيما يخص المعتقدات والتصورات والأساس النظري للحركة .. هذه حقيقة لا مراء فيها .. ولقد قرأته عدة مرات ومرات وكدت احفظه .. ولما سألني وكيل النيابة داخل السجن الحربي لماذا الإخوان المسلمون  : قلت له في سذاجة بالغة لان الأستاذ سيد قطب قال في كتاب معالم في الطريق في صفحة (40 ) ما نصه " إن التزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة " وعلى الفور احضر وكيل النيابة الكتاب وقرا نفس السطور في نفس الصفحة وسجلها كاتب النيابة .. ومن يومها اعتبروني ( عقائديا ) و ( منظرا ) وأخذت أسرتي الإخوانية كلها حكما بالبراءة وأخذت أنا حكما بالأشغال الشاقة لمدة 12 عاما .. " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم "(1)


الاغتيالات :

واضح من التحقيقات والمذكرات التي نشرت في هذا الشأن أن :

1- علماء الإخوان ومنهم الشيخ عبد المتعال الجابرى لم يوافقوا على عملية اغتيال عبد الناصر .

2- بعد اجتماع المطرية في منزل الشيخ نصر عبد الفتاح عام 1958 م استقر الرأي على أن اغتيال عبد الناصر خطأ تنظيمي قاتل .. وخسائره اكبر من نفعه .. إن كان فيه نفع .. وإذا مات عبد الناصر سوف يحضر بعده واحد من رجاله .. أو من الشيوعيين , وسوف يكون هذا مبررا قويا لمجزرة دموية بالآلاف للإخوان دون نفع يذكر .

3- بعض الشباب كان على اقتناع بضرورة اغتيال عبد الناصر .. وليكن بعدها ما يكون , ولكن ليس هذا الخط العام الذي تم الاتفاق عليه .

4- حتى مجموعة كلية الهندسة التي كنت أنا منها كان اغلبهم غير موافق على اغتيال عبد الناصر ولكنه في الأيام الأخيرة للتنظيم , وقبل الاعتقال بأقل من شهر واحد وجد نفسه يساق سوقا في الأحداث بلا أدنى قدرة على التفكير والاعتراض .. وهذه أحد المساوئ الكبيرة للتنظيمات السرية .. بل هي بلوى هذه التنظيمات السرية .

5- ورغم كل هذا فقد وقعت القيادة العامة للتنظيم.. في قرار كان خاطئا .. وهو قرار مقاومة السلطات عند الاعتقال ومواجهة السلطات .. كأنهم ند للحكومة .

6- وتبع هذا القرار .. قرار مقاومة الاعتقال تبعه قرار آخر هو الاحتفاظ بهذا السلاح الذي لا يسمن ولا يغنى من جوع .. ولكنه كان دليلا ثابتا على أركان الجريمة .. وأذكر أنني ـ شخصيا ـ قلت ونحن سائرون على كوبري جامعة القاهرة بالجيزة للأخ فاروق المنشاوي ـ رحمه الله - يا فاروق لابد من التخلص من السلاح ورميه في النيل حتى لا تكتمل أركان الجريمة .. ولكنه ــ رحمه الله ــ لم يوافق على هذا القرار .. وكانت الأحداث أسرع منه ومن تفكيره .. وكان الجميع مضطرب التفكير .

أما الشهيد سيد قطب رحمه الله :

1. لم يوافق على مبدأ الاغتيالات .. وخصوصا اغتيال عبد الناصر .. فسوف يأتي بعده من هو أسوأ منه .

2. العمل الأساسي للتنظيم هو إيجاد قاعدة إيمانية صلبة يقوم عليها هذا البنا ء الشامخ

3. إن قيام الدولة الإسلامية يأتي من القاعدة وليس من القمة .. وكتابه ( معالم في الطريق ) شاهد على ذلك ولنا معه عودة في فصول أخرى من هذا الكتاب إن شاء الله .

4. أن هناك مواصفات للقاعدة الإيمانية الصلبة غير متحققة حتى يتنزل عليها نصر الله وهذه المواصفات لمجموعة من المؤمنين كما يقول الشهيد سيد قطب : (خلت نفوسهم من حظ نفوسهم ولم يعد لهم اعتزاز بجنس ولا وطن ولا أهل ولا مال ، ولم يعودوا ينتظروا حتى مجرد انتصار هذا الدين على أيديهم " (1) - حينئذ - أي عندما تتكون مجموعة بهذه المواصفات فعل الله بهم ما شاء .. أما النصر ، وإما الشهادة مثل أصحاب الأخدود وظروف العصر لا تسمح للإخوان بقيام جمهورية مثل جمهورية (زفتي ) التي أعلنها بعض الناس في أيام الملك فؤاد .. فسوف تدك هذه الجمهورية بالطيران غير مأسوف عليهم ، فلن تبكى عليهم السماء ولا الأرض ، لأنهم تجاهلوا نواميس الكون .

5. أن الله عز وجل غنى عن العباد , فليس محتاجا - سبحانه وتعالى ـ إلى أناس يعبدونه ويحكمون شريعته وفى الأثر " أطت السماء وحق لها أن تئط , فليس فيها موقع قدم إلا وعليه ملك راكع أو ساجد لله تعالى " ومن ثم فليس المولى عز وجل محتاجا إلى حاكم يحكم بشريعته ولكن الناس هم المحتاجون إلى الإيمان .. والشريعة .. شريعة الله أعز من أن يفرضها الله على الناس جبرا لأن الناس هم المحتاجون إلى الشريعة .. ولابد أن ينبع طلب تحكيم الشريعة من الناس وليس من حاكم فوقهم .. واذكر أنني ( كاتب هذه السطور ) طرحت استفتاء على اكثر من ألف شخص هل الشريعة أهم عند الناس أم لقمة العيش فكان الجواب العملي لقمة العيش .. حينئذ لا يستحق هؤلاء الناس شرف التحاكم إلى شريعة الله .. فالأمر يحتاج إلى وعى وإلى جهد من الدعاة إلى الله .. جهد عظيم .. ثم إلى صدمات للجماهير تفتح قلوبا غلفا , وآذانا صما وأعينا عميا ولهذا لم يتحمس الشهيد سيد قطب لفكرة اغتيال عبد الناصر بواسطة إسماعيل الفيومي الحارس الشخصي لرئيس الجمهورية .. ولكن هل كان لعلي عشماوي رأى آخر ... !!! وهذه مساوئ التنظيمات السرية المسلحة .

6. أن فترة قيادة سيد قطب للتنظيم هي عام واحد فقط , وهى فترة ليست كافية لدراسة التنظيم واتخاذ قرارات حاسمة .. علاوة على عاملين مهمين في حياة سيد قطب هما مرضه الشديد واعتلال صحته ، وانشغاله الشديد بالانتهاء من إعادة كتابة الظلال قبل موته .. ولم يتمكن من إنجاز سوى إعادة كتابة 13 جزءا فقط حتى بداية سورة النحل كما علمت من الإخوان حينذاك .

7. اختار سيد قطب منهج التوجيهات العامة وليس الدخول في التفاصيل

8. لم يستطع الشهيد أن يصدر قرارا حاسما بالتخلص من السلاح الذي لا يسمن ولا يغنى من جوع رغم حياته الطويلة في السجون ووجود الأستاذ محمد يوسف هواش إلى جانبه وهو من المتخصصين في العمل السري .. ويعرف ضرر وجود سلاح بلا فائدة تذكر

9. قرار قيادة التنظيم بمقاومة السلطات عند الاعتقال(1) هو قرار شبابي عفوي تماما .. واتخذ في لحظة حماسية ليست فيها خبرة خبراء الإخوان

10. المعلومات الخاطئة التي قدمها علي عشماوي للشهيد سيد قطب عن إمكانات أفراد التنظيم .. الذين تم الإمساك بهم في سهولة ويسر منقطع النظير ولم يستطع أحد أن ينفذ برنامج مقاومة السلطات ولا هذا القرار الخاطئ الذي اتخذوه , ولعل الاستغراب الذي عبر عنه الأستاذ المرشد حسن الهضيبي .. قائلا .. وهل يوجد في مصر 300 رجل مسلم .. وقال لسيد قطب " خلى بالك منهم يا سيد ومن تربيتهم , ولا داعي من ضم أفراد جدد" .

11. أكرر أن الأحداث كانت أسرع من تفكير الشهيد علاوة على صعوبة الاتصال بأفراد التنظيم .


تحديد مهمة السلاح :

- اعتبر سيد قطب أن السلاح لدى التنظيم سلاح شخصي

- اعتبره أيضا سلاحا للتدريب على استعمال السلاح لدى التنظيم .

- كان يظن أن الوضع آمن وأنه في نفس الظروف قبل 54 التي دخل فيها السجن حيث كانت حيازة السلاح شيئا عاديا .

- أن قطع السلاح الموجودة لا تتعدى عشرة قطع لا تكتفي لأي عمل عسكري إطلاقا .. فلا خوف منها .

- لعل الأستاذ سيد قطب لم يعلم بقرار قيادة التنظيم بمقاومة السلطات .. فلعله كان معتقلا حين اتخذ هذا القرار , ولم يذكر القيادي أحمد عبد المجيد في كتابه(1) تاريخ هذا القرار .

كل هذه القضايا والمشاكل استفاد منها الإخوان برئاسة الأستاذ عمر التلمساني فقرروا التخلص من أي سلاح وعدم حيازة السلاح ,وحظر السلاح, وحظر مقاومة السلطات عند الاعتقال, وحظر العمل السري والسعي لعلنية الجماعة في صورة خوض الانتخابات المجالس النيابية والنقابات .. وبل وحظر ضم أي أفراد من الوظائف الحساسة إلى الإخوان لأن هذا يسبب حساسية شديدة والقرار الصائب للأستاذ عمر التلمساني رحمه الله هو " أن معركتنا الأساسية هي هداية جماهير الناس إلى حقيقة هذا الدين .. وليس الحكم أو الحاكم هو معركتنا "

وأخيرا

رغم كل ما قيل عن قصور , ونقص خبرة , وأخطاء في التكتيك والحركة , ورغم كل ما في التنظيم من تداعيات .. إلا أن التنظيم , والقبض عليه والإعلان عنه , وهذه الأعداد الهائلة التي دخلت السجون , وهؤلاء الشهداء الكرام .. كل هذا أعاد الحياة إلى دعوة الإخوان من جديد واستقر في يقين العالم أن دعوة الإخوان يستحيل عليها الإبادة بفضل الله ويستحيل الانحراف بها عن مسارها الأصلي كما فعلوا بالحركة المهدية في السودان أو الوهابية في بلاد الحجاز , ويستحيل احتوائها وإبادتها بفعل الثوريين كما حدث للحركة السنوسية في ليبيا ... ولهذا الموضوع حديث في حينه إن شاء الله .

مع التنظيم حتى البوابة السوداء

التحقت بكلية الهندسة جامعة القاهرة عام 1959م , ورفضت السكنى في المدينة الجامعية , وفضلت السكن مع الطلبة المغتربين في المناطق المحيطة بجامعة القاهرة , فأمضيت العام الأول في حي المنيل بمنطقة الروضة .. ولقد كان هذا العام عصيبا في حياتي .. مرض فيه والدي مرضا شديدا , واغلق متجر الأسمدة ( شونة ) الذي كان يملكه والدي , ثم اضطررنا إلى بيع " الشونة " نفسها واضطرب البيت بمرض والدي اضطرابا شديدا .. ثم كان سكنى في مصر مع طلاب اختلف معهم في الطباع والتوجهات ... وكانت الدراسة في كلية الهندسة باللغة الإنجليزية أغلبها .. وهي مشاكل أغلب أبناء الريف .. بل ومحدودي الدخل منهم , فتعثرت في هذا العام في درجات أعمال السنة التي كانت تمثل من40% من الدرجة النهائية مع مرض والدي .. هذا بالاضافة نظام كليات الهندسة في السنة الإعدادية الذي يحتاج إلى مراجعة.. مع مضايقات في السكن مع طلبة اختلف عنهم كثيرا .. وكانت النتيجة أنني لم أوفق في عامي الأول في كلية الهندسة .. لتداعيات شتى .. واضطررت لإعادة هذه السنة .. ولكن على مادتين ونصف فقط .. لم أذاكرهما .. وكانت أعمال السنة سيئة علاوة على اللغة الإنجليزية في أربعة كتب في مادة الفيزياء .

ومع هذا الفراغ عملت " ملاحظ مباني " مع مقاول قريب لي في مقابل سبعة جنيهات ونصف في الشهر ( 25 قرشا في اليوم ) وكان هذا المبلغ كبيرا آنذاك .. ولكن هذا الوسط غير المتدين مع ظروف الهزيمة النفسية بسبب الرسوب الذي لم أكن أتوقعه يوما .. اهتزت عباداتي كثيرا .. وجاءت إجازة نصف العام ولاحظت أمي على ذلك فأعطتني درسا قاسيا لا أنساه كان هذا الدرس سببا مباشرا في استقامة أحوالي حتى اليوم وأسال الله حسن الخاتمة .

واتخذت معي أمي ـ رغم أنها أنجبتني بعد حوالي عشرين عاما من الزواج وبعد موت عدة إخوة لي ـ اتخذت إجراءات قاسية :

• منعت عنى المصروف نهائيا .. فلم تنجح وعاندت معها

• منعت عنى الطعام فكانت تغلق الحجرة التي بها الطعام فعاندت أيضا

• كنا في بيت كبير للعائلة به حوالي عشرون فردا .. فأمرت الأطفال أن ينادوني بأسماء غير المسلمين من اليهود ومن الكفرة .. ليل نهار .. فانهارت مقاومتي تماما ولكنها لم تلن لها قناة

• مرضت مرضا شديدا وانتابتني الحمى .. فمنعت عنى مصاريف الكشف .. بل ومصاريف العلاج .. حتى حملتني أختي على حمار وذهبت بي إلى " الوحدة الصحية " واشترت لي العلاج

وكانت أمي تقول أبوه المسلم أولى بمصاريف العلاج منه .. الـ ... مع فتوى بالتكفير .. كل هذا بسبب التقصير في الصلاة .. وكانت مدة التقصير في الصلاة حوالي خمسة شهور

ولم تكن أمي رحمها الله من جماعة التكفير .. بل كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب .. ولكن الصلاة عندها تساوى الإيمان .. والتقصير في الصلاة يساوى الكفر البواح رحمها الله رحمة واسعة .. فكانت أمي سببا في توبة نصوح .. وعدت إلى الله وانتظمت في الصلاة ثم سافرت إلى مصر .. فلم ارسب بعدها أبدا .. ولم اترك بعدها فرضا والحمد لله رب العالمين.

ولقد أردت أن أورد هذا الدرس لأمهات تنجب ولدا واحدا وكفى كما في برنامج " الأسرة السعيدة " في التليفزيون ويصير هذا الولد الوحيد أزمة في كل بيوت العصر الحديث من حيث التدليل .. الأنانية .. الرفاهية .. النعومة.

وانتهى العام الدراسي .. وانتقلت إلى قسم الهندسة الكيماوية .. وفى هذا القسم رأيت ( الشهيد ) فاروق المنشاوي كان يحضر معنا محاضرات " الفيزياء " في مدرج ( 3101 ) للأستاذ الدكتور لطفي على الحو .. وفاروق هذا شاب طويل وسيم وجهه ناصع البياض مشوبا بحمرة في الخدين .. يعلوه الخجل .. هادئ الطباع .. قليل الكلام .. عليه سمات الجدية .. مع وسامة ملحوظة .

وكنت أجلس وراءه وأطيل النظر إليه .. ولم أجرؤ على التعرف عليه .. ولكن كنت أجلس في المدرج في الصف الذي وراءه لكنه تعرف على زميل آخر في غاية الذكاء اسمه " فايز " .. وبسرعة نقل ( فاروق ) هذا التعارف إلى حوار عن " الدين " و" التدين " وكان زميلنا " فايز" يناقشه بصراحة شديدة مع قدرة فائقة على الحوار .. كل هذا النقاش يبدأ قبل محاضرة الفيزياء يومي " الأحد " و " الاثنين " من كل أسبوع .. وينتهي هذا الحوار عند حضور الأستاذ الدكتور لطفي على الحو .. ويتواعد الزميلان على استئناف الحوار في الأسبوع المقبل واستمر هذا الحوار طوال العام وكنت احرص على الجلوس ورائهما كل مرة استمع إلى الحوار .. وفى العام التالي توطدت العلاقات بين " فاروق " و " فايز " بصورة كبيرة .. وكنت أصلى معهما في مصلى "قسم الهندسة الكيماوية " وهى مصلى صغير مفروش بقش الأرز في مقابل مبنى القسم .. وكثيرا ما كنا نصلى الظهر وأحيانا العصر والمغرب والعشاء في أيام العملي حيث يستمر العملي في قسم الكيمياء حتى قبل الثامنة مساء بقليل أي بعد صلاة العشاء بوقت طويل في أيام الشتاء .

وفى هذه المصلى تعرفت على مجموعة الهندسة كلها :

فاروق المنشاوي ـ فايز إسماعيل ـ مصطفى حسين المغير ـ علي بكري بدوي ـ محمد أحمد البحيري ـ أحمد عوض كيوان ـ جلال بكري ديساوي ـ سيد سعد الدين الشريف ـ عز الدين عبد المنعم علي شمس ـ محمد عبد الحميد خفاجي ـ ومحمد أحمد عبد الرحمن ( من قسم التعدين والناجم )

وبدأ فاروق المنشاوي يظهر كصاحب توجه إسلامي قوى بين الطلبة .. وكان رحمه الله ودودا بشوشا مهذبا .. لكنه أيضا معتز بنفسه .. واثق الخطى .. وبدأ يجرى حوارات مع الطلبة .. لابد أن نفعل شيئا لخدمة الإسلام .. لابد أن نخدم الدين ويكرر قوله تعالى " وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون " لابد أن تكون ( عابدا ) قبل أن تكون ( مهندسا )

فالهندسة من أجل لقمة العيش .. أما العبادة فثمنها جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين . وجاء المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي وتطاول ( صلاح جاهين )(1) رسام الكاريكاتير في جريدة الأهرام وتطاول على فضيلة الشيخ محمد الغزالى فقامت مظاهرة كان من قادتها فاروق المنشاوي واعتقلوه في مديرية الأمن بالجيزة ثم أفرجوا عنه .. ولم يرتدع ( صلاح جاهين ) صاحب التوجه اللاديني .. فاستخدم فنّه طوال حياته في الهمز واللمز على قيم الإسلام الثابتة , وعلى رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم .. وخرج فاروق المنشاوي من المعتقل ممتلئ الحماس ولم تهتز له شعره بل زاد إصرارا على ضرورة عمل شئ للإسلام .. ومن يومها اقتنع فاروق بأنه لابد من اغتيال عبد الناصر ولكنه لم ينشر ذلك إلا مع الخاصة من أصفيائه .. ولم أكن أنا ـ بعد ـ منهم .. ولكني كنت لازالت في أوائل الطريق كما يعتقد فاروق رحمه الله .. وذلك لانشغالي بالعمل بعد الظهر لتحسين الدخل بجوار دراستي في الصباح .

وبدأ فاروق المنشاوي يمشى معي من عند كلية الهندسة حتى ميدان الجيزة ويسألني عن الدين والقراءات والثقافة .. والتاريخ وغيره وشيئا فشيئا زارني في مسكني ودعاني للزيارة في بيته وتوطدت الصداقات , ورأى عندي المأثورات .. وبدا يعطيني كتب الأستاذ محمد قطب

• كتاب معركة التقاليد

• هل نحن مسلمون

• في النفس والمجتمع

• منهج التربية الإسلامية

ثم انتقل إلى كتب الأستاذ أبو الأعلى المودودى

• مبادئ الإسلام

الإسلام اليوم

• المصطلحات الأربعة

الإسلام والجاهلية

• شهادة الحق

ومع تبادل الزيارات وتبادل الكتب توثقت صلاتنا .. ففاتحني في العمل للإسلام ودعاني للذهاب إلى مقر دعوة التبليغ في ( مسجد حوض الزهور ) حي ( القللى ) في القاهرة قرب رمسيس

وهناك تعرفت على كثير من أفراد دعوة التبليغ منهم الشيخ إبراهيم عزت وغيره الكثير .. وسألني فاروق عن رأيي في التبليغ فاختصرت عليه الطريق وقلت له بصراحة الإخوان أحسن بكثير , ولهم طعم ثاني فخاف منى خوفا شديدا وانزعج من المفاجأة الصريحة وبدأ حملة تقصى الحقائق حولي فلازمني عدد من زملائه ملازمة شديدة للكشف عن هويتي التي كانت أبسط بكثير من هذا الانزعاج وحكيت لهم قصة طفولتي مع الإخوان فاطمئن الجميع إلى أنني لست جاسوسا عليهم ولا مباحث عليهم .. ففاتحوني في الانضمام إلى الإخوان فوافقت بغير شروط لسابق معرفتي القديمة بالإخوان وصار انضمامي إلى التنظيم سهلا وميسورا وبدأت التهم كل كتب محمد قطب وسيد قطب ، فمن كتب محمد قطب :

قبسات من الرسول ـ هل نحن مسلمون ـ معركة التقاليد في النفس والمجتمع ـ منهج التربية الإسلامية ـ منهج الفن الإسلامي ـ الثبات والتطور في النفس الإنسانية ـ جاهلية القرن العشرين .. وكلها لسيد قطب

أما كتب الأستاذ سيد قطب

المستقبل لهذا الدين ـ هذا الدين - خصائص التصور الإسلامي ( وهو من أهم كتب الأستاذ سيد قطب .. وهو منحنى جديد في العقيدة )- معالم في الطريق وحفظت معظم فقرات الكتاب ، - في ظلال القرآن الأجزاء من 1 ـ 11 حتى سورة يونس .. وكنت أصوم الاثنين والخميس وأوفر وجبة غذائية لكي أشترى آخر الشهر جزءا من أجزاء ( في ظلال القرآن ) حيث كان يصدر في أجزاء مستقلة كل جزء ثمنه ثلاثون قرشا .. ويجرى عليه الحاج وهبة حسن وهبة تخفيضا 25% للطلبة فيصير ثمنه 22.5 قرش صاغ أي أن ثمن الأربعة أجزاء اقل من جنية مصر ي واحد بأسعار ذلك الزمان


الانتظام في الأسرة :

بدأت انتظم في أسرة تربوية في بيت ( الشهيد ) فاروق المنشاوي وأعضاء هذه الأسرة فاروق المنشاوي ـ فايز إسماعيل ثم بعد ذلك على بكرى ومحمد خفاجى وعز الدين عبد المنعم شمس ومن تسمح ظروفهم من الخريجين مثل جلال بكري ديساوي وغيرهم

أما الأخ سيد سعد الدين الشريف فانتظم في أسرة في حي ( السيدة زينب ) مع محمد البحيري ومحمد أحمد عبد الرحمن وكمال سلام ومحمد عبد المعطي عبد الرحيم ( محمد رحمي )

وكان منهج الأسرة إفطار بعد الصيام .. صلاة المغرب.. قراءة المأثورات .. صلاة العشاء .. قراءة القرآن ..خواطر حول القراءة .. مدارسة في كتاب .. مناقشة حول أحوال المسلمين

أما السلاح والاغتيالات .. فلم يكن هناك أدنى حديث عنها أو حوار فيها على الإطلاق .. بل المستقر في فكرنا أننا .. كما يقول الشهيد سيد قطب .. نريد إقامة قاعدة إسلامية صلبة يقوم عليها البنا ء الإسلامي الكبير .. وسوف يستغرق هذا وقتا ليس بالقصير

ولقد أعجبتني عدة كتب فدرستها دراسة مركزة وهى :

1- خصائص التصور الإسلامي .... سيد قطب

2- مبادئ الإسلام .... للمودودى

3-المصطلحات الأربعة .... للمودودى

4- معالم في الطريق .... سيد قطب

وكنت أحفظ هذه الكتب الأربعة عن ظهر قلب .. ولم أكن أجد فيها وقتها أي فتوى للتكفير أو أي حديث عن التكفير .. ولم يكن للتكفير مكانا في قلوبنا ولا في تخيلنا .. على الإطلاق حتى دخلنا السجن . وكان جلال بكري ديساوي قد تخرج وعمل مهندسا بمصنع الأسمدة بالسويس وله إجازة يومان في الأسبوع يحضر إلى الجيزة حيث كان من سكانها الأصليين ( في شارع المحطة ) ويذهب إلى والديه بضع ساعات معدودة ثم يأتي عندي في شقتي ويقيم معي نتدارس كتب الشهيد سيد قطب

التربية الروحية

1- كان فاروق المنشاوي يصلى بنا في نهاية اللقاء ركعتين قيام الليل يطيل فيهما القراءة والركوع والسجود , ويقرأ بصفة دائمة قوله عز وجل " كل نفس ذائقة الموت , وإنما توفون أجوركم يوم القيامة , فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز ... "(1) ويطيل التأمل فى كلمة ( فاز ) .. حتى فاز بالشهادة رحمه الله .

2- كان الأخ مبارك عبد العظيم .. يصلى قيام الليل يستفتح بسورة البقرة .. ويتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم .. كما روى البخاري كانت قراءته مدا .. يمد ببسم الله , ويمد بالرحمن , ويمد بالرحيم كما تحدث السيدة عائشة رضى الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم .. يقف مبارك عبد العظيم قارئا بهدوء وسكينة حتى تتملل أقدام المصلين وراءه ثم يركع .. وبعد السلام .. يقول " هذا هو الطريق " ولقد كان له فضل التربية الروحية لغالبية أبناء تنظيم القاهرة والجيزة .

التربية العسكرية

1- التدريب على المشي الطويل .. وكان على أربع مراحل بالنسبة لسكان الجيزة  :

• من ميدان الجيزة إلى الهرم ( 7.5 كيلو متر )

• من باب اللوق إلى حلوان ( 20 كيلو متر )

• أو من أول شارع الهرم شمالا على ترعة المريوطية لمسافة ( 30 كيلو متر )

• من شارع الهرم على ترعة المنصورية حتى قرية نكلا ثم القناطر الخيرية ( 36 كيلو متر )

2- التدريب على المصارعة اليابانية ...وقد كان يتولاها الكثيرون من الإخوان المدربين مبارك عبد العظيم ـ حسين عبد العزيز قرقش ( من المنصورة ) ـ رحمه الله ـ وغيرهما .. ثم يصير المتدربون مدربين

3- التدريب على استعمال السلاح .. فك وتركيب المسدس واستعماله

4- تعليم السباحة ... وكان يتم ذلك في حمام سباحة كلية الهندسة على يد مدرب قدير هو أيضا مبارك عبد العظيم عياد وكان الرأي السائد أن هذا التدريب هو تعلم فن الدفاع عن النفس الذي كثيرا ما يفيد عند اللزوم .. فإذا جاء الشيوعيون مثلا واستولوا على الحكم كما كان يردد الشيخ عبد الفتاح إسماعيل فسوف يقيمون مجزرة للإخوان حينئذ نستطيع الدفاع عن أنفسنا على الأقل ولا نموت ( فطيس ) كما يقال. ولعل البعض كان له رأى آخر وهو الاستعداد للدفاع عن النفس في حالة الاعتقال .. ولكن أحدا لم يفعل شيئا من ذلك !!!

ولعل بعضا آخر كان يعد العدة لمقاومة الحكومة , وكثير من الإخوان لا يبرؤون علي عشماوي وآخرين من هذا المقصد .. كما كانت النية تتجه إليه قبل اللقاء الذي أداره بجدارة فضيلة الشيخ عبد المتعال الجابرى ( عام 1958 ) في منزل الشيخ نصر عبد الفتاح , وكلاهما من أجلاء علماء الأزهر الشريف من الإخوان المسلمين .. والله اعلم بالسرائر

وأود أن أقول أن الرأي في التعامل مع الحكومة كانت هناك حياله عدة أراء :

1. الندية للحكومة حيث كان عبد الناصر ورفاقه أفرادا في الإخوان المسلمين ثم انشقوا عنه ويجب تأديبهم

2. الانتقام لشهداء الإخوان في ( 1954 ) ومذبحة طره في ( 1957 ) .. وليكن ما يكون

3. أن عبد الناصر حجر عثرة في طريق الدعوة ويجب إزالته.

4. رأى الشيخ عبد المتعال الجابرى .. أن اغتيال عبد الناصر مضاره كثيره ونفعه معدوم .. وسوف يجئ بعده الشيوعيون .

5. رأى الشهيد سيد قطب أن انتصار الإسلام يأتي بتكوين قاعدة إسلامية صلبة , يقوم عليها البنا ء الإسلامي العظيم ولا يجئ الانتصار بتغيير فوقى أبدا.(1)

6. لابد من البدء أولا بجمع شتات جماعة الإخوان أولا وإيقاظهم والله اعلم بالخطوة الثانية بعد ذلك .

7. رأى فضيلة المرشد حسن الهضيبي عدم ضم أفراد جدد والعمل على تربية العدد الحالي ( 300 ـ 350 ) . ولكن ماذا كان قرار علي عشماوي رئيس الجهاز العسكري للتنظيم .. لقد كان له القرار الأخير في فترة المواجهة حيث كان سيد قطب معتقلا وكان وحده همزة الوصل بين كل المناطق , كما كان أيضا رئيس لأكبر تجمع شبابي في القاهرة والجيزة .. وهو المسئول عن السلاح .. وهو المسئول عن الاتصال بالشهيد سيد قطب . الأيام العصيبة

بدأت بوادر الخطر في التنظيم تظهر في أول يوليو 1965 ، فقلد قرأت بنفسي في الأهرام للمستشرق جيب يحذر من خطر الإخوان المسلمين في مصر وأنهم بدءوا ينظمون صفوفهم رغم أنه لا يبدو على السطح السياسي أي شئ يشير إلى هذا , ولكن كتاب المعالم كانت فيه إشارة أكثر من واضحة فهو ـ أي الشهيد سيد قطب ـ يقول في مطلع كتابه معالم في الطريق موجها حديثه إلى " الطليعة المؤمنة " كما أسماها الشهيد (1) .. وتم طبع عشرة آلاف نسخة وزعت منها ستة آلاف في مصر والأربعة آلاف الأخرى ذهبت إلى الدول العربية .. ومن بينها ليبيا فيما اذكر

وبدأت سلسلة من الإجراءات الأمنية في مصر لخصها أحمد عبد المجيد في كتابه(2) فيما يلي تحت عنوان بوادر الخطر .

1- بعد ظهور كتاب " معالم في الطريق " بدأت أجهزة المباحث تنشط خوفا من وجود تجمع على هذه الأفكار التي وردت فيه ، أو الخوف من أن يحدث تجمع على ذلك خاصة مع ورود فقرات منه تشير صراحة إلى ذلك , وبدأ فعلا رجال المباحث يستدعون بعض الإخوان في مناطق مختلفة يناقشوهم , ويستفسرون منهم , وكثيرا ما كان محور المناقشة هو كتاب " معالم في الطريق " وما به من أفكار ... الخ

2- كانت توجد في هذه الفترة قضية جواسيس فرنسيين , ونشرت الصحف على لسان أحدهم " يوجد نشاط للإخوان في مصر , ولكن لا يمكن فهمه أو تحديده ".

3- وزعت في بعض دور الصحف والنقابات منشورات تهاجم الحكومة تحمل طابع ولهجة الإخوان ومع علمنا بأن الإخوان براء من ذلك , إلا أننا أرجعنا الأمر إلى احتمالين :

- أن يكون الشيوعيون هم أصحاب هذه المنشورات ويريدون الوقيعة بين الحكومة والإخوان(1)

- أن تكون المباحث وراء ذلك لتكون مبررا لاعتقال الإخوان بافتعال هذا السبب أو غيره أو بدون سبب إطلاقا كحادث المنشية الذي يتأكد يوما بعد يوم تدبيره , وما أعقبه من أحداث عام 1954 م.

3- زار شواين لاى رئيس وزراء الصين مصر في ذلك العام , وأشيع أن الإخوان وضعوا عبوة ناسفة في طريق القاهرة ــ الأسكندرية الصحراوي لنسف موكبه مع عبد الناصر (2) وكان هذا الاتهام باطلا لا أساس له من الصحة , واغلب الظن أن الشيوعيين هم الذين روجوا لهذه الشائعة .

4- نشرت مجلة روز اليوسف أن الإخوان يستعدون لانتخاب مرشد جديد لهم , ومرشح لهذا المنصب ثلاثة أشخاص هم :

منير الدله

صالح عشماوي

مصطفى الملا

وكنا على يقين من كذب هذا الخبر :

أولا : لوجود مرشد للإخوان والإخوان لا يرضون بغيره بديلا...

وثانيا : كيف يتم الانتخاب في مثل هذه الظروف ...

وثالثا : أن الاسم الثالث وهمي لا حقيقة له.

وأخيرا من غير المعقول أن تنشر مجلة مصر ية خبرا كهذا دون إيحاء من السلطة

5- تم بناء دورين جديدين في سجن أبو زعبل ـ كما أسلفنا ـ وتم كذلك في تلك الشهور التجهيزات لاستقبال ( ضيوف ) جدد من إعداد بطاطين وملابس وغيرها , قيل أن عددها ستة آلاف بدلة سجن … وقد تأكد لنا هذا الخبر بعد اعتقال الإخوان في هذا السجن ورؤيتهم للمباني الجديدة , وإخبار المساجين لهم بالاستعدادات قبل حضورهم .

6- نشرت إحدى المجلات الأمريكية تحقيقا عن كتاب " جاهلية القرن العشرين " للأستاذ محمد قطب , وكتاب " معالم في الطريق " للأستاذ سيد قطب وكتبت المجلة تحذر من الكاتبين والكتابين وتصفها بالتعصب

7- نشرت إحدى المجلات اللبنانية انه اجتمع سفراء الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط الأربعة عشر سفيرا لبحث موضوع " عبد الناصر " وطالب أربعة منهم الإطاحة بعبد الناصر واستبداله لهبوط شعبيته , وممكن عمل بعض الإصلاحات مع مجيء الوضع الجديد للسلطة ... أما العشرة الآخرون فقد طالبوا بالإبقاء عليه لأنه لازال الشخصية المرموقة على مستوى العالم العربي , ويتفهم دوره جيدا في اللعبة , ورفعت الدراسة من السفراء للإدارة الأمريكية , فأخذت بالرأي الثاني وهو الإبقاء عليه في السلطة .. وطالبت الإدارة الأمريكية عبد الناصر سرعة اتخاذ خطوات نحو الصلح مع إسرائيل فأجابهم بان أجهزة الاستخبارات عنده تقول : الظروف النفسية للناس لا تتقبل هذا الأمر الآن , والسبب الثاني والعقبة في ذلك الإخوان المسلمون , انتهى كلام المجلة ...


ثم يستطرد أحمد عبد المجيد(1) :

وتم بناء على ذلك عرض الموضوع ومناقشته مع الأستاذ سيد , وكان ملخص ما دار في عدة جلسات ما يلي : كانت هناك موافقة مبدئية من الجميع على رد الاعتداء والدفاع عن النفس وذلك لحماية الدعوة , ووشبه الشهيد ذلك بسيوف بنى هاشم في مكة , وبدأ السؤال عن الإمكانية والأفراد الذين يكونون على استعداد وذوى كفاءة معينة , وكان أكثر المتحمسين لذلك علي عشماوي , والذي عرض إمكانية الأفراد بالقاهرة والجيزة وعددهم واستعداداتهم , واتضح بعد ذلك عقب الاعتقال أن كلامه كان مبالغا فيه .

وبدأنا معاودة الاتصال بالخارج لتسلم السلاح السابق الاتفاق عليه مع علي عشماوي وبعد التحري والتأكد أن تجهيزه تم بعيدا عن أي أحد وتم بأيدي الإخوان وحدهم , وأنه موجود في أفريقيا , وممكن وصوله عن طريق السودان وعمل ترتيب كل ذلك لاستلامه بدقة متناهية ومن ناحية أخري بدأ حصر العمليات التي ستتم داخل مصر وتحديد كل مجموعة لها وتمرينهم عليها , وبدأت عمليات التدريب على السلاح والمتفجرات وغير ذلك على أن تكون للدفاع الشرعي فقط , ورد العدوان , ولا يكون البدء من جهتنا أبدا " انتهى كلام أحمد عبد المجيد هذه هي رواية أحمد عبد المجيد عن هذه الأحداث وهو يقرر :

وجود سلاح :

1. إمكانية الحصول على سلاح جديد.

2. عدم الاستسلام والدفاع عن النفس .

3. إمكانيات السلاح والأفراد مبالغ فيه ... وهذه عيوب التنظيمات السرية.

4. يتهم علي عشماوي صراحة بالمبالغة في تحديد حجم الإمكانيات

أما القيادي علي عشماوي القائد العسكري للتنظيم فإنه يقول " في أحد الاجتماعات فاجأنا الأستاذ سيد قطب بأنه قد وردت إليه معلومات من مكتب المشير عامر تقول " نضرب الإخوان الآن , أم ننتظر عليهم بعض الوقت " وقال إن هذه المعلومات أكيدة , وأنه متأكد من مصادرها , وأن الحكومة تعد لضرب الجماعة , وأن علينا أن نستعد لذلك ولا ينبغي أن نعطيهم الفرصة ليضربوا الجماعة دون أن نرد عليهم(1) وكان من رأيه أنه ينبغي لذلك ـ أن نسرع في تدريب المجموعات التي ستقوم بتنفيذ أي عمليات فنعطيها أولوية في العمل وأن نشترى بعض الأسلحة وان نجهز أنفسنا لو حدث أي صدام أن نرد عليه وبعنف واستطرد علي عشماوي قائلا (2) : كان هذا ما اتفق عليه في اليوم الأول وخرجنا من عنده نعد للأمر , واتفق على أن أتولى أنا الأمور الخاصة بالتسليح والتدريب إلى جانب عملي كمسئول عن القاهرة , وبدأت في إجراء لقاءات تدريبية في بعض المحافظات وفى القاهرة , كنا نعطيهم تدريبا في الدفاع عن النفس وثانيا على السلاح وثالثا على بعض الأعمال التكتيكية التي يمكن أن تجابهنا في المستقبل.

وظلت هذه التدريبات قائمة على قدم وساق , وكانت إحدى مشاكلنا أن الوقت قصير , ولم تكن الأسلحة وصلتنا , ولذلك فإن مهمتي للتجهيز كانت صعبة جدا , وكان علىّ أن ابدأ في حشد أسلحة ومفرقعات استعدادا لمثل هذه الأحداث المرتقبة , فقمت بتكليف الأخ" مبارك عبد العظيم " بأن يختار من بين الاخوة المتخرجين في كلية الهندسة قسم كيمياء مجموعة لتكون نواة لعمل أبحاث في صناعة المفرقعات , وتكون هذه المجموعة تحت إشرافي أنا مباشرة وقمت أنا وبعض الاخوة الآخرين بشراء بعض قطع الأسلحة التي يمكن أن تستعمل , وقام الشيخ عبد الفتاح بالاتصال ببعض الاخوة من طنطا وهو الأخ " أحمد سلام " ــ وكانت له علاقة بالجيش ــ فأحضر بعض الأسلحة والقنابل اليدوية من هناك , وكان هذا شيئا مهما لأننا لم نستطع الحصول عليه من السوق العادية خاصة المتفجرات والقنابل اليدوية , فالسوق العادية في تجارة السلاح يمكنك أن تجد فيها طبنجة أو بندقية أو مدفعا رشاشا , ولكن تجارة المفرقعات شئ آخر .

بدأنا التدريب بهذه الأسلحة التي اشتريناها , والتدريب على صناعة المفرقعات , وقد كلفنا هذا جهدا ومالا , ولما احتجنا إلى الأموال عقدنا اجتماعا وطلبت من الشيخ عبد الفتاح أن يبدأ في صرف بعض الأموال من المبلغ المجمد عنده من قبل وهو مبلغ الـ 4 آلاف جنية التي كان قد أعطاها له الأخ سعيد رمضان وقال انه يحفظها عند الأستاذ الهضيبي وبدءوا يصرفون ـ مبالغ لشراء الأسلحة وشراء الكيماويات اللازمة للمفرقعات , وفى هذه الأثناء فرضنا ضريبة على كل الإخوان المنتظمين وهى 5% من دخل كل فرد يعطيه طواعية كل شهر للمسئول عنه حتى تصل الأموال إلينا لتغطية نفقات الانتقال , واستئجار بعض الشقق , وشراء المفرقعات والأسلحة وخلافه .

واضطررنا لشراء بعض الكتب والمراجع الخاصة بصناعة المفرقعات حتى إنني لجأت إلى مكتبة السفارة الأمريكية للبحث عن هذه الكتب(1) , ووجدت بعضها ونقلت منها بعض الموضوعات , واستعنا أيضا ببعض الكتب التي اشتريتها من الأسواق , وكان بحثنا كله يجرى في اتجاه صناعة مادة " تى .إن . تى " وهى صناعة محفوفة بالمخاطر من الناحية الفنية , خاصة مع عدم وجود معامل مجهزة , وكنا نخشى إنشاء هذه المعامل في مكان ما , لان هذا غير مأمون بالنسبة لامان الناس الموجودين , وأيضا بالنسبة للتأمين ضد هجمات الحكومة , فقد كان يصعب نقلها من مكان إلى آخر عند اللزوم .

ولهذا فان العمل كان يقوم على أساس بدائي جدا , في محاولة صنع مثل هذه المادة , أما المواد الأخرى التي حاولنا صنعها وهى قنابل " المولووتوف " فقد وصلنا فيها إلى نتيجة جيدة , ولكنها لم تكن مفرقعات بالمعنى المفهوم , وحاولنا ـ بالفعل ـ صناعة مادة الـ " تى .إن . تى " وكانت صعوبة التركيب تأتى من انه لو حدثت هزة أثناء الحقن ـ وكان يحقن سائل داخل سائل ـ يمكن أن ينفجر كل شيء , ولذا كان من الصعب الاستمرار في مثل هذه التجارب , فتم وقفها لحين البحث عن مادة أخرى يمكن أن تحل مشكلة المفرقعات .

وفى غمرة حيرتنا جاءنا أحد الاخوة المختصين بالكيمياء , وقال انه وجد مادة جيدة جدا يمكن أن نفعل بها ما نشاء , وان نركب منها المفرقعات المطلوبة , وشرح لنا هذه التركيبة ببساطة وقال : إنها مادة " نترات الأمونيوم يضاف إليها السولار العادي مع التجفيف في أفران خاصة مع التقليب المستمر" , وقال إن هذه المادة شديدة الانفجار , ويمكن أن يصنعوا منها " عينة " وان نقوم بتجربتها , وقال إن لديهم الإمكانات الخاصة لتنفيذ ذلك .

وكان هذا الأخ ضمن مجموعة تعمل في لجنة الطاقة الذرية في انشاص , وكانت تحت يدهم الإمكانيات الخاصة بالأفران في هذه المنشأة , فاشتريت لهم " نترات الأمونيوم " وأعطيتها لهم , وحصلوا هم على السولار , وبدءوا في تركيب هذه العبوات الناسفة , وقلت لهم أن يضعوها في " برطمانات " يزن كل واحد نصف كيلو , فهذا حجم معقول جدا بالنسبة لهذا النوع من المفرقعات .

وأتوني بـ"عينة " وذهبت مع الأخ " أحمد عبد المجيد " إلى " أبو رواش " في منطقة محاجر من الطبيعي أن تسمع فيها أصوات انفجارات دون أن تثير أي تساؤل أو اهتمام من أحد , واخترت حجرا ضخما حوالي 2 متر × 2 متر ـ أي حوالي 8 أمتار مكعبة ـ ووضعت العبوة تحته وأوصلتها بمفجر من التي أتانا بها الأخ أحمد سلام , ثم أوصلنا ببطارية ووقفنا خلف صخرة أخري , ثم فجرت العبوة , وإذا بهذه الصخرة الضخمة قد أصبحت وكأنها " بودرة " ولم يبق منها شيء , كانت النتيجة مذهلة وغريبة جدا , واعتمدنا هذا النوع من المفرقعات الذي سوف نستعمله إن أردنا , وأمرتهم بصنع كمية 10 كيلو أو 15 من هذه المادة وتعبئتها وتخزينها في مكان أعددته لهم .


ملاحظات

يتضح من كلام علي عشماوي وأحمد عبد المجيد القياديين الكبيرين فى التنظيم :

1- أن الأسلحة والأفراد لا تكفى لعمل انقلاب , وليس الانقلاب هدفا عندهم

2- أن الخط الأساسي السابق على هذه الأيام العصيبة كان التكوين الأيديولوجي أو العقيدي والتربية والتكوين وليس المواجهة وقلب نظام الحكم كما قال سيد قطب

3- هناك موافقة ضمنية من غالبية القيادة على عدم الاستسلام في حالة القبض عليهم ... لكن أحدا لم يفعل ذلك .

4- أن المعلومات التي أعطاها علي عشماوي عن التنظيم وإمكانياته المادية والمعنوية كان مبالغا فيها كما يقرر أحمد عبيد المجيد .. وهذا لفظ مهذب جدا اختاره أحمد عبد المجيد للتعبير عن المأساة . 5- كانت هناك هرولة في إعداد أي شيء .. وعمل أي شيء .. وتحضير أي شيء .. افضل من الموت " فطيس " (1) كما يقولون .

6- أن التنظيم كان في بداياته تماما .. فهو في حكم الرضيع الذي لم يفطم بعد , فليس لديه إمكانات للمقاومة على الإطلاق

7- السلاح الموجود لا يسمن ولا يغنى من جوع وأي عصابة سرقة صغيرة لديها اكثر من هذا السلاح .

8- أن المفرقعات الموجودة كانت لتثبيت التهمة على الإخوان وليس لعمل جاد ... فكلها قنابل مولوتوف حارقة .. تكفى لحرق صندوق بريد ليس إلا .

9- بدا الانهيار واضحا على علي عشماوي في الأيام الأخيرة مع الإرهاق الشديد .

رحلتي مع التنظيم

في أواخر شهر يونيو 1965 أنهيت دراستي في الكلية بنجاح والحمد لله وذهبت ألي زيارة والدتي وإخوتى في البلد , وقضاء وقت قليل معهم وأعطيت فاروق المنشاوي مفتاح شقتي .. وكانت في موقع متميز في شارع جامعة القاهرة بالجيزة

وذهبت مهنئا ومبشرا والدتي بنجاحي .. وكانت زيارة وداع فلم أرها إلا بعد ذلك بحوالي تسعة شهور في السجن الحربي .. كما زرت عمى وكان مريضا في مصحة الصدر في مدينة زفتى .. ولم أره بعدها فلقد توفى رحمه الله وأنا في السجن وودعته وداعا حارا وكان في قلبي إحساس عميق أنني لن أراه بعد ذلك وقد كان ثم سافرت إلى القاهرة للقاء فاروق المنشاوي فرأيته مهموما ويعمل ليل نهار في التدريب على المصارعة اليابانية وعلى السلاح .. ولما كانت قطع السلاح قليلة جدا فلم أتدرب عليها لكثرة تداولها .. وبعد أيام قليلة وكنت منتظرا في القاهرة رهن الإشارة لأي شيء , فوجئت بفاروق المنشاوي ـ رحمه الله ـ جاءني صباح يوم الجمعة 20 / 8 وأخبرني بالقبض على كل الناس سيد قطب ـ علي عشماوي ـ كل أعضاء مجلس القيادة ـ مبارك عبد العظيم , مجموعة المطرية ومنهم محمد عبد الرحمن ومعهم الأسلحة .. ولم يتبق سوى فاروق وفايز وسيد شريف وأنا وباقي أفراد أسرتي في الإخوان واتفقنا على اللقاء صباح السبت 21 / 8 /1965 وانتظرني فاروق وفايز في شقتي وذهبت مع سيد شريف إلى منزل ممدوح الديري في غمرة .. وانتظرت أنا في الشارع وذهب سيد شريف إلى شقة ممدوح الديري(1) في عمارة فخمة هناك , وقرع باب الشقة المجاورة وسال عن طلبة يسكنون هنا , فاخبره الجيران أن الحكومة قبضت عليهم , ونزل سيد شريف مسرعا وركبنا التاكسي إلى الجيزة .. وتأكدنا أن كل الأسلحة والمفرقعات قد تم القبض عليها .. كيف حدث هذا ؟؟ .. ذهول أصابنا .. وعلمنا أن كل شيء قد انتهى .. وكان علينا أن نغادر القاهرة فورا وذهب سيد شريف إلى بيته لترتيب بعض أموره العائلية حيث كان متزوجا منذ ثلاثة شهور .. ذهب إلى بيته على أمل(1) اللقاء بنا بعد 48 ساعة في الأسكندرية في الشاطئ في كازينو الشاطبي التاسعة مساء, وان لم يحضر يكون قد قبض عليه وبمجرد ذهابه إلى بيته قبضوا عليه بعد سويعات قليلة

رحلة الهروب :

كان مع فاروق المنشاوي حوالي 400 جنية مصر ي من أموال التنظيم .. فتوجهنا فورا إلى طنطا لمقابلة فضيلة الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد في مسكنه بطنطا وبذلنا جهدا ضخما في الوصول إلى مسكنه .. ولما وصلنا إليه أخبرنا انه مراقب , ويتوقع القبض عليه بين ساعة وأخرى

وكان الصف الثاني من القيادة في القاهرة والوجه البحري مكونا من

1. فاروق المنشاوي ( القاهرة )

2. الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد(2) ( طنطا )

3. شعبان الشناوي ( المنصورة )

4. عبد المجيد الشاذلي ( الأسكندرية )

وصلنا عنده مساء السبت وظللنا عنده حتى بعد العاشرة مساء .. وكان من المستحيل أن نبيت عنده لاحتمال القبض عليه .. فواعدناه على اللقاء غدا الأحد .. وأنه ـ أي الشيخ عبد الستار ـ سوف يتصل بالمنصورة ليعرف أخبار الأخ شعبان الشناوى , وفى الغد قابلناه واخبرنا بالقبض على شعبان الشناوى في المنصورة وانه سوف يترك فوطة حمراء في البلكونه فإذا رأيناها علمنا انه مقبوض عليه وان الوضع خطير .. وبالفعل فعل ذلك وقبض عليه في نفس الليلة .. وسافرنا إلى الأسكندرية .. ومكثنا حتى يوم الاثنين في شقة مفروشة كمصطافين لمدة ليلتين حتى انتهت المواعيد المبرمة مع جميع الناس وانهم قد تم القبض عليهم جميعا وهم جميع أفراد الصف الثاني في التنظيم

ولما تيقنا من ذلك قال فاروق المنشاوي : انتهى كل شيء تم القبض على جميع الناس ولم يبق في مصر كلها لم يقبض عليه سوى ثلاثتنا

1. فاروق المنشاوي

2. فايز إسماعيل

3. محمد عبد العزيز الصروي ( كاتب هذه السطور )

ماذا نفعل ..؟ .. لا حل سوى الهجرة خارج مصر حتى يأذن الله بالفرج .. وكلما تذكرنا إخواننا يعذبون في السجن الحربي اعتصرنا الألم .. وبالفعل قررنا الهجرة إلى ليبيا .. ومنها إلى أوربا إلى إشعار آخر .. وكان المطلوب أن ندبر لنا إقامة في مرسى مطروح حتى يمكننا عبور الحدود إلى ليبيا .. وتذكرت زميلا لي في كلية الهندسة اسمه محمد عبد الحميد القنيشى .. طالبا في هندسة القاهرة .. ووالده يملك لوكاندة في مطروح اسمها ( لوكاندة الجلاء ) .. ونزلنا في هذه اللوكانده وسجلت اسمي بالضبط لأنه لا يمكن تغير أسمي الذى يعرفه زميلي(1) وكتبت اسمين مستعارين لفاروق وفايز ـ على مسئوليتي الخاصة ـ ومنعه الحياء أن يسال عن بطاقيتهما فلم يكن يعرف اسميهما وإن كان يعرفهما شكلا ولقد دفع زميلي محمد عبد الحميد ثمن هذا الحياء خمس سنوات معتقلا تدهورت فيها ظروفه الاجتماعية كثيرا .. ولكن الله عوضه خيرا كثيرا بعد انتهائه من الكلية فعمل مهندسا في ( المقاولون العرب ) وصار مديرا لفرع مرسى مطروح بها ...

أمضينا ليلتين في مرسى مطروح نتدبر أمورنا .. وفى صبيحة يوم الجمعة طلب منى فاروق أن أسافر إلى القاهرة لدراسة الوضع على الطبيعة قبل قرار الهجرة الصعب ... وطلب منى أن اذهب إلى بيتي لمعرفة ما إذا كنت مطلوبا أم لا ؟ .. والى بيت زميلنا المهندس فايز إسماعيل ثم إلى بيته إذا كانت بيوتنا آمنة .. وان احضر بطاطين وبطاريات وبطاقات شخصية نضع عليها صورنا بدلا من بطاقتنا الحقيقية حتى لا نواجه مشاكل على حدود ليبيا , وكان طلبا غريبا جدا .. اعترضت عليه بشدة .. وناقشته في هذا القرار .. ولكنه ــ رحمه الله ــ أصر إصرارا بالغا على طلبه زاعما أن وضعهما الأمني أخطر بكثير من وضعي الأمني .. وطال الجدل بيننا .. وقلت له يا فاروق .. سيقبض علىّ فور سفري من عندك لا داعي للتردد .. كل الأخبار التي جاءت من القاهرة والجيزة والمنصورة وطنطا والأسكندرية مؤلمة وتوحي بكارثة كبيرة .. لا تلتفت وراءك .. فأصر إصرارا بالغا .. فبعد صلاة الجمعة مكثنا في اللوكاندة .. وسألا عن موعد القطار فعلمنا انه سيغادر في الخامسة بعد العصر وجلسنا في اللوكاندة فغلبتنا جميعا سنة من النوم حتى الخامسة إلا خمس دقائق فقمت مفزعا وركبت ( كاريته )(1) وهى عربة صغيرة يجرها حصان واحد أشبه بـ " الحنطور " الذي لا زالت آثاره في بعض مدن الصعيد حتى الان .. ووصلت إلى المحطة والقطار يتحرك .. وعبثا حاولت اللحاق به لكنى لم أدركه .. فعلمت أن هذه إشارة ربانية بالخطر الداهم فرجعت كاسفا حزين البال .. ولكن فاروق ــ رحمه الله ـ أصر على سفري .. وسألنا عن موعد القطار التالي فقال لي فاروق إنه سيتحرك في الحادية عشرة مساء .. وجلسنا في الفندق .. وللمرة الثانية غلبتنا نحن الثلاثة سنه من النوم من العاشرة والنصف مساء حتى الحادية عشرة إلا خمس دقائق واستيقظت ثانية مفزعا وجريت لألحق بالقطار الذي كان قد غادر منذ دقيقة واحدة .. وأيقنت أن هذا فأل سيئ يجب أخذه في الاعتبار بشدة .. ولكن فاروق ـ رحمه الله ـ أصر إصرارا بالغا على ضرورة سفري إلى القاهرة ... وفى المرة الثالثة استيقظت في فجر السبت وذهبنا إلى المحطة قبل موعد القطار بساعتين حيث كان القطار سيتحرك في السابعة صباحا .. وودعتهم وفى يقيني أنني سيقبض علىّ لا محالة وقلت لهم إذا لم أكلمكم في التليفون اليوم السبت مساء يكون قد قبض علىّ بنسبة 60% وإذا لم احضر يوم الاثنين بعد العصر سيكون قبض علىّ بنسبة 100% .. وإذا تعرضت لتعذيب فسوف اصبر ـ إن شاء الله ـ حتى يوم الاثنين عصرا .. ومن ثم يجب عليكم أن تتركوا اللوكاندة فورا وتنصرفوا وأعطوني حوالي مائة وثلاثين جنيها لشراء طلبات من القاهرة .. وركبت القطار من محطة مرسى مطروح .. وكان القطار في الماضي عبارة عن دواوين كل ديوان يغلق على باب وبه كنبتين كل كنبة تسع ثلاثة أفراد .. فجلست في آخر ديوان في القطار وحدي .. وسرحت طويلا في الأحداث وما تخبئه الأقدار .. وفجأة دخل علىّ ( شاويش ) في البوليس يحمل مدفعا رشاشا من ماركة _ كارل جوستاف 40 طلقة ) .. ودار بيني وبينه هذا الحوار المرهق للأعصاب

الشاويش : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا : صباح الخير يا اكسلانس !! ( لم أرد السلام متعمدا ) ( حتى لا تظهر هويتي )

الشاويش : ممكن اجلس

أنا : أتفضل .

الشاويش : سمعت اللي عمله الإخوان المسلمين .

أنا : مين هم هؤلاء الإخوان المسلمين ؟ ... بيبيعملوا إيه ؟ .

الشاويش : دول ناس مجانين .. عاوزين يحكموا بالشريعة .

أنا : يعنى إيه يحكموا بالشريعة .

الشاويش : عاوزين يقطعوا إيد السارق .. ويرجموا الزاني .. تصور .. دول مجانين بجد .. وكده معناه هايقطعوا إيدين نصف الناس في البلد وهايرجموا النصف الثاني .

أنا : عندك حق .. ده معقول .. ( قلته وتصنعت الاستغراب والتعجب الشديدين ) .

الشاويش : عرفت عملوا إيه في كرداسة .

أنا : فين كرداسة

الشاويش : بلد في الهرم في الجيزة

آنا : عملوا إيه

الشاويش : وجدوا عندهم تلال أسلحة ومفرقعات ملئوا بها عربيات كثيرة جدا !!

أنا : وبعدين ؟

الشاويش : قبضوا على الإخوان هناك .. ونازلين قبض عليهم امبارح [أمس ] اخذوا ييجى [ حوالي ] 250 واحد من الأسكندرية .. ومحطة القطار في الأسكندرية ملغمة مباحث .. والقبض شغال على الإخوان في الأسكندرية بالمئات

( هذا الحوار ملأ قلبي رعبا وأيقنت انه جاء ليقبض علىّ وانه يتسلى علىّ حتى الأسكندرية .. وانتابني خوف شديد كلما اقتربنا من الأسكندرية وقبل الأسكندرية بقليل هدأ القطار فتركنى وخرج من الديوان .. ثم علمت حينئذ انه الشاويش حارس القطار ( ففي كل قطار حارس من البوليس .. لا شأن له بشيء ) .. أدركت ذلك بعد فيلم طويل من الرعب استمر حوالي ستة ساعات هي طول الرحلة من مرسى مطروح إلى الأسكندرية .. ولكنه أضاف الىّ معلومات مهمة هي وجود مباحث في محطة قطار الأسكندرية .. فنزلت قبل المحطة حينما هدأ القطار .. وركبت أتوبيس إلى بنها ونزلت في بنها وصليت الظهر والعصر جمعا وقصرا .. ودخلت دورة المياه .. ثم ركبت أتوبيسا آخر ونزلت في شبرا .. أول شارع شبرا من ناحية رمسيس .. وقررت العودة .. ولكن هيهات ... فكرت في زميل قديم كان يسكن معي في حجرة طالبا في كلية طب القاهرة كان يفكر في الزواج من بنت صاحب محل عصير كان على ناصية شارع شبرا مع شارع الترعة البولاقية .. قلت اسأل عنه هناك , وأبيت عنده بأي شكل وفى الصباح أعود إلى مرسى مطروح .. ولكن أيضا هيهات .. فلم أعثر له على اثر وكنت جوعانا عطشانا فشربت كوب عصير ( تمر هندي ) وذهبت إلى بيت زميلي فايز وكان مسكنه قريبا من هذا المكان في حي يسمى ( جزيرة بدران ) بأول شبرا .. وكان هذا هو أول المهام المنوطة بي أن اذهب إلى بيت زميلي فايز وذهبت إلى هناك .. حيث واجهت ثاني أفلام الرعب بعد فيلم القطار.

فيلم الرعب الثاني :

وصلت إلى بيت المهندس فايز , فوجدت أمامه مكوجي يجلس عنده مخبرين من المباحث يرصدون البيت .. فتمالكت وتصنعت الكبرياء ( وأنا لا أجيد ذلك أبدا ) وصعدت إلى البيت فلم يتابعاني .. وهذا البيت عبارة عن ستة أدوار يسكن البيت كله مسيحيون ماعدا آخر شقة في آخر دور , وتسكنها عائلة المهندس فايز وكل دور أربعة شقق ومنها أدوار مفتوحة على بعضها بها جمعيات لرعاية الأيتام المسحيين .. وصعدت إلى آخر دور وهذا معناه أنني متوجه لا محالة إلى شقة المهندس فايز ... وقرعت جرس باب شقة الجيران وكانوا مسيحيين وسألت عن شقيق فايز .. فخرجت السيدة من الشقة وأخذت تولول : ( يا لهوى .. يا لهوى .. يا لهوى)..فقلت لها فيه إيه يا ست .. قالت : شقة فايز فيها ضباط مباحث .. وعلى السطح ضباط مباحث وقبضوا على والد فايز ووالدة فايز وإخوات فايز الذكور والإناث .. انزل بسرعة كل اللي يحضر إلى الشقة هايقبضوا عليه .. فنزلت دورين إلى الدور الرابع .. ثم انتابتني رعشة شديدة فى كل مكان في جسمي .. يداي ترتعشان .. رجلاي ترتعشان .. شعر رأسي يرتعش .. أسناني تصطك .. قلبي ينتفض .. حاولت تهدئة نفسي بالقرآن .. فلم افلح .. حاولت اشتم نفسي يا واد خليك راجل .. إيه الجبن ده .. إيه إيه .. فلم تفلح الشتائم التي وجهتها لنفسي في تهدئة روعي .. دقائق مرت من الرعب كأنها دهر طويل .. وخفت أن يلحظ السكان ذلك علىّ فقررت النزول إلى الشارع ليقبض علىّ المباحث عند المكوجى .. واستمر فيلم الرعب واستمرت إيقاعاته العنيفة دون توقف حتى نزلت الشارع مستسلما للمخبرين عند المكوجى .. فلما نزلت لم أجد المخبرين ... وكأنهم قد ذهبوا لشراء سندوتش طعمية فحمدت الله كثيرا وسرت في شوارع متعامدة أغير اتجاهي عند كل تقاطع في صورة ( زجزاج )(1) حتى تيقنت انه لا يراني أحد فتنفست الصعداء .. ووقفت أفكر ماذا افعل ؟

.. وفى هذه اللحظات فقط فهمت قول الله تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام " وأخاف أن يقتلون " .. وكنت أتساءل كيف يخاف نبي مؤيد بالوحي .. كيف يخاف رسول .. وليس كأي رسول .. فهو واحد من أولى العزم الخمسة من الرسل عليهم وعلى رسولنا الصلاة والسلام

ولا يستغرب القارئ ذلك الاسترسال في شرح حالة الرعب التي انتابتني .. ذلك لأنني سأحكي مشهد آخر اكثر رعبا بكثير من هذا المشهد ولكن نزلت علىّ سكينة كبيرة من الله وهدوء وثبات .. لكي أعلم أن السكينة من الله وليست شيئا من عندي .. " قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء "(2) .. بعد النزول من منزل المهندس فايز توجهت إلى صديق لي في حي الباطنية .. وهو حي لتجار المخدرات يسكن فيه أحد الزملاء الأفاضل لأبيت عنده في مأمن حتى الصباح .. ولما وصلت إلى منزله سألت عنه فأخبرتني والدته أنه يوجد حالة قبض على زملاء ابنها .. وهو غادر المنزل إلى الريف لقضاء يومين حتى تهدأ الأمور .. فعلمت أن الموقف يزداد ظلاما .. فخرجت مهموما وذهبت إلى صديقي وزميلي مصطفى المغير وكان مندمجا مع دعوة التبليغ ويسكن في حي السيدة زينب .. فلما وصلت إلى المنزل وكانت والدته رحمها الله تعرفني وتعرف أسمي .. فقرعت الباب فخرجت والدته مهمومة سألتها عن مصطفى .. فأجابت قبضوا على مصطفى .. وعلى أخيه الكبير أيضا لأنهم ظنوا أن فاروق المنشاوي عنده وسألتني هل تعرف مكان فاروق حتى يخرج أبنائي من السجن وتوسلت إلى أن ابحث عن فاروق وادلها على مكانه فهدأت من روعها .. وازدادت الدنيا ظلاما في وجهي فتوجهت من حي السيدة زينب إلى حي الهرم في منطقة تسمى " الطالبية " وكانت كلها مزارع آنذاك ومشيت فى المزارع حوالي ساعة حتى وصلت إلى منزل زميلي محمد عبد الحميد خفاجي(1) ولم يكن يسكن معه سوى أخوه لكي أبيت عندهم حتى الصباح .. ولما وصلت البيت استمر مسلسل الرعب فوجدت شخصا غريبا ينظر من الشباك في الدور الأرضي فأيقنت انه مخبر لكنى تشجعت ودخلت عليه وطلبت منه كوب ماء حتى ابلع ريقي وسألته عن ابن خالة لي اسمه إبراهيم طالب في كلية الزراعة ( اسم وهمي طبعا ) فأجاب انه لا يعرفه فسألته عن من يسكنون معه فأجاب انه يسكن هنا وحده من ثلاثة أيام فقط وأن أصحاب البيت غادروا المكان إلى طنطا .. فشكرته وانصرفت

كل هذه المعلومات جعلتني على يقين أن بيتي مراقب .. وقد كان بالفعل .. وان بيت فاروق ــ أيضا ــ مراقب .. وكان المطلوب منى أن أبيت في مكان آمن حتى الصباح وأعود فورا إلى مرسى مطروح .. وفكرت في زميل لي كانت تربطني به زمالة وصداقة منذ أربع سنوات .. اسمه محمد نظمى رياض , بيته آمن تماما .. من عائلة ميسورة فلن تذهب إليه المباحث يسكن في بولاق مصر .. قريبا من سينما على بابا , وذهبت إليه وكنت عطشانا جوعانا .. لم اصل ـ بعد ـ المغرب والعشاء .

فذهبت إليه ووجدته , ودخلت بيته وتوضأت وصليت المغرب والعشاء جمعا .. ثم دعاني إلى حفل عيد ميلاد ابن خالته في الشقة التي اسفل شقتهم فاعتذرت وشكرته .. وكان عنده إحساس بالظروف فطلبت منه المبيت عنده حتى الصباح .. فوافق بعد شيء من الإحراج ودخلت حجرة الصالون وافترشت الأرض ( ارض الصالون بالسجاد طبعا ) وتلحفت بملاءة .. وقرأت أدعية النوم .. وأغلق هو باب الصالون بالمفتاح ونزل إلى ابن خالته ( ممدوح ) وحضر حفل ( عيد الميلاد ) .. ورجع في الثانية عشر مساء وفتح الباب فراني مهموما .. وأريد الانصراف من عنده بأي ثمن .. ولكنه رفض .. وقال : الشوارع كلها مباحث والجو قاتم جدا .. اصبر حتى يطلع الفجر ثم اذهب إلى ما شئت وألححت عليه في الانصراف , ولكنه رفض رفضا قاطعا .. وكانت الساعة حوالي الواحدة بعد منتصف الليل , وأغلق على الباب , وذهب لينام .. وبعد قليل سمعنا طرقا شديد على الباب .. فاستيقظت أمه وأبوه وفتحوا الباب .. قالوا : المباحث العامة .. وكان أبوه موظفا كبيرا في الدولة فأصيب بهلع شديد .. وكانت والدته في حزن لا يمكن وصفه(1) .. ودخلوا وفتشوا البيت فيما عدا حجرتي .. وطلبوا أخذه معهم .. وكانوا قد رفضوا تفتيش حجرة الصالون التي أنا بها , وعند الخروج قال الضابط .. لا بأس نلقى نظرة على حجرة الصالون .. وفتحوا الباب .. وكانت المفاجأة ( محمد الصروي هنا ) صيد ثمين ومكسب كبير وتصنعت النوم دون جدوى وصفعني صفعتين شديدتين فقط ( عربون ) وسألني عن فاروق المنشاوي فقلت لهم يسكن في الهرم ( 9 ش محمد أمين ) .. قالوا : ليس هناك أين مكانه .. قلت لا أدرى .. فأخذوني معهم إلى لاظوغلى وقالوا: الحساب في لاظوغلى .. تعال معنا .. وتم القبض علىّ

أما كيف وصلوا إلى هنا .. فهي قصة بسيطة .. هناك عندهم نظام في المباحث الجنائية العسكرية اسمه ( التمشيط ) .. فقبل يومين قرروا القبض على كل دفعة خريجي قسم الهندسة الكيماوية ( 65 ) فيما عدا البنات إذ يستحيل أن تأوينا بنات في بيوتهن .. ورأيت كشف الخريجين في لاظوغلى مشطوبا عليه أسماء البنات .

وكانوا قد أيقظوا مسجل كلية هندسة بعد منتصف الليل وفتحوا الكلية وأخرجوا الكشف من الأرشيف .. وبدأ القبض أفراد الدفعة بما فيهم المسيحيين من الزملاء . وجاء الدور على محمد نظمى في تلك السويعات التي قضيتها عنده .. ولله الأمر من قبل ومن بعد .. وفى لاظوغلى عرفت قصة مسجل كلية هندسة ومن سوء حظه أن اسمه " حسن البنا " .. ولا تسعفني ذاكرتي مصيره ولا مدة اعتقاله .. ولكنى علمت أنه بعد انتهاء هذه الأزمة غادر مصر التي يحكمها الطغاة غير آسف على مكان يحكمه الطغاة إلى السعودية حتى أحالته على المعاش ولما لم يجدوا فاروق المنشاوي استكملوا القبض على معظم أفراد الدفعة إلا من كانت له واسطة كبيرة جدا .. وما أن وصلت إلى لاطوغلى حتى دخلت الحمام وتخلصت من كل الأوراق والتليفونات التي كانت معي وبدأت اعد الساعات حتى تنتهي ارتباطاتي مع فاروق المنشاوي وكنت أخبرته أنني سأتصل به يوم السبت آخر اليوم .. فان لم أفعل يكون قبض علىّ بنسبة 60% فليأخذ حذره .

وكان فضيلة الشيخ عبد الستار سعيد قد قبض عليه فور خروجنا من عنده يوم السبت وعذبوه في السجن الحربي عذابا شديدا وكاد يفقد السمع في إحدى أذنيه .. وكانت اعترافات علي عشماوي عليه كثيرة ولما سألوه عن فاروق وفايز اخبرهم انهما كانا عنده وكان معهما شخص ثالث اسمر لا يعرف اسمه فتيقنت المباحث الجنائية العسكرية أنني الذي معهما .. وبذلك صار الخيط إلى القبض على فاروق وفايز في أيديهم .. كما عرفوا أيضا أننا متجهون إلى ليبيا فتم زيادة أعداد المباحث في السلوم ومرسى مطروح .

.. نعود إلى لاظوغلى .. ظللت أراوغ وأتحمل الضرب حتى اصبح يوم الأحد .. ومضى الأحد بطوله .. وقلت لهم أنني من جماعة دعوة التبليغ .. ومضى الأحد والاثنين بطولهما .. ولما أذن فجر الثلاثاء تنفست الصعداء , فالمفروض أن فاروق وفايز قد تيقنا من القبض على .ّ وعليهما أن يتصرفا بسرعة .. وحينئذ نمت يوم الثلاثاء في طرقات لاظوغلى نوما عميقا .. وحمدت الله على نجاة فاروق وفايز .. ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن ... كان المقبوض عليهم على ذمة فاروق وفايز أعداد كبيرة معنا في الداخلية والدة فاروق المنشاوي (1).. إخوته البنات وأزواجهم أصهاره .. والد فايز ووالدته .. اخوته البنات .. صهره .. وغيرهم , وكثير من أعضاء دعوة التبليغ بحثا عن فاروق المنشاوي .

وصليت الظهر ثم انتظرت إلى صلاة العصر وصليت العصر في طرقات لاظوغلى المكتظة ثم نمت نوما عميقا .. وبعد قليل قبل المغرب بساعتين أيقظني والد فايز .. وقال لي : اصح يا صروى لقد قبضوا على فاروق وفايز وسوف نخرج جميعا إفراج حالا وحدث هرج ومرج .. واستدعاني ضابط المباحث وضربني ضربا مبرحا وقال لي : كفاية كده عليك .. سيتم ترحيلك إلى السجن الحربي .. وهناك سوف ترى جهنم على حقيقتها .. وأيقنت أن فاروق قبض عليه وانتهى كل شيء .. ولم يعد لدى ما أحتفظ به .. ولكن كان عندي شك 10% انه لم يقبض على فاروق وفايز .. وعلى أن استمر في كتمان الأمر .. ولكن هيهات .. فلقد أخذوني في سيارة ملاكي مسرعة جدا إلى بوابة السجن الحربي السوداء والعجيب أن الله عز وجل انزل علىّ سكينة كبيرة من عنده , وكنت في حالة من الهدوء والاستسلام لأمر الله .. مع شيء غير قليل من اللامبالاة .. وعلى أبواب السجن الحربي استقبلني اللواء حمزة البسيونى ملك التعذيب يركب حصانه وفى يده كرباج ويمشى خلفه كلب كبير وطويل .. ودخلت السجن الحربي إلى السجن الكبير .. واخذوا بياناتي ومتعلقاتي حوالي مائة وثلاثون جنيها وساعة يد وربطوهم في منديل كان معي .. وبدأت رحلة السجن الحربي

رتوش حول هذه الفترة :

1. تم القبض على أخواي وأزواج أختاي وكثير من أقاربي وأودعوهم في سجن مركز ميت غمر

2. تم عمل كمين في شقتي بالجيزة وقبضوا على كثير من أصدقائي ومن أبناء أعمامي الذين كانوا يترددون علىّ لزيارتي

3. كنت فور تخرجي تقدمت بطلب للتعيين بضابط مهندس وبالفعل نجحت في الكشف الطبي عدا كشف النظارة وكان المفروض إعادة كشف النظارة يوم ( 24 / 8 ) حيث بدأت الأمور تتأزم وبالطبع لم احضر إعادة الكشف .

4. تعاطف مع والدتي عدد كبير من الأهالي .. وكثرت الشائعات علىّ وكذلك استغرب الأهالي القبض على الحاجة زينب الغزالى التي هي من نفس قريتنا .. وتساءلوا هل هناك رابط بين هذه الأحداث ولم أكن قد قابلت الحاجة زينب الغزالى في حياتي حتى دخولي السجن ولكنى كنت أسمع عنها خيرا كثيرا .

5. في رحلتي إلى طنطا قضينا ليلة في طنطا حتى نتمكن من مقابلة الشيخ عبد الستار سعيد في اليوم التالي حيث سيقوم بعدة اتصالات مع شعبان الشناوى ( المنصورة ) وغيره أظنه الأخ صبري عرفه الكومى .. وبحثت طويلا عن عنوان عم لي كان يعمل إماما وخطيبا في طنطا .. وهو شيخ كبير مريض .. معتل الصحة .. ولما عرفوا ذلك .. نقلوه رغم مرضه الشديد إلى إسنا قرب أسوان في صعيد مصر نفيا .. رغم مرضه وضعف مرتبه وكثرة عياله , ولكنه ــ رحمه الله ــ تذرع بالصبر وبقى ثلاث سنوات .. وكان ضابط المباحث كل عام يستدعيه ويشتم في عبد الناصر ويسأله عن رأيه في عبد الناصر فيقوم عمى ـ رحمه الله ـ بطيبة قلب شديدة فيشتم معه عبد الناصر .. فيستبقيه منفيا وظل على هذا الحال ثلاث سنوات , وبالمصادفة المحضة حكى عمى هذه الحكاية لأحد أبناء اخوته .. فقالوا له : هذا فخ , وعليك بمدح عبد الناصر حتى ترجع إلى أولادك .. وفعل عمى ذلك عند أول استدعاء فأعادوه إلى طنطا ثانية مع أولاده في طنطا ونجحت الخطة .. وشكر عمى الأبناء الطيبين الأذكياء على هذه النصيحة .. وكانوا يتندرون بها في القرية .. وجعل الله هذا المنفى سببا في زيادة معاش عمى بعد إحالته إلى المعاش .. ولما خرجت من السجن كان قد أحيل على المعاش .. فطالبته بمقاسمته الزيادة في معاشه حيث كنت ـ أنا ـ سببا فيها ـ رحمه الله ـ وجزاه خيرا على صبره على النفي والتشريد في إسنا , واذكر بالفضل أهل اسنا الذين أحسنوا استقباله وتعاطفوا معه تعاطفا شديدا واحترموه احتراما بالغا .. والخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة


تقييم المرحلة السابقة :

سوف أتعرض لتقييم هذه الفترة لعدة أمور :

1. الاغتيالات .. وحيازة السلاح

2. مقاومة الحكومة

3. أسلوب الاستفزاز

4. حكمة بالغة .. ورحمة واسعة


1. الاغتيالات وحيازة السلاح

كان التعامل في الماضي في البلاد النامية والمتخلفة .. انك تستطيع أن تكون رئيسا للجمهورية أو ملكا إذا استيقظت مبكرا قبل الرئيس ومعك بعض الأسلحة .. يغتال الرئيس , ويستولي على الإذاعة ويصير رئيسا . هكذا كان الحال خصوصا في سوريا أيام انقلابات حسنى الزعيم , وأديب الشيشكلى وغيرهما في الأربعينات من القرن الماضي .. فالشعوب في أغلب الأحوال تراقب وتشاهد وتتفرج .. بل وتتسلى بمثل هذه الانقلابات كأنها لا تعنيها في شيء.. بل وتتعاطف مع الزعيم ( الشجيع) الجديد .. وكان في مصر أيامها فيلم سينمائي بهذا المعنى(1) .. شجيع في حارة يسيطر عليها , فيأتي من يغلبه ويصرعه فتصفق أهل الحارة للزعيم ( الشجيع ) الجديد لحين هزيمته من الزعيم ( الشجيع ) الثالث فيصفقون للشجيع الثالث , بل وصارت هناك أمثلة عامية , تدل على ثقافة وفكر ومعتقدات وسلوك الناس حيال هذه الأمور منها إذا مات الملك وجاء بعده ملك آخر هتف الناس " مات الملك .. عاش الملك " أي مات الملك القديم وعاش الملك الجديد .. بل لقد غالى بعض الملحدين فقالوا أمثلة أخرى " اللي يجوز أمي أقول له يا عمى " .. و " إذا لقيت بلدا تعبد العجل .. حش وأرمي له " .. وغيرها من الأمثلة التي كانت ـ ولا زالت ـ تعبر عن حالة اللامبالاة عند الشعوب أما الأحرار .. أو المعارضون .. أو أصحاب الفكر المناوئ ففي السجون متسع للجميع . هذا ما كان يعتقده البعض ويتحمس له البعض الآخر .. حتى كان اللقاء الحاسم في المطرية بالقاهرة في منزل الشيخ نصر عبد الفتاح حيث اجتمعت القيادات , واقتنعوا جميعا برأي فضيلة الشيخ عبد المتعال الجابرى , فلا جدوى من إغتيال عبد الناصر , وقال لهم سوف يجيء بعده زميل له أو الشيوعيون وسوف يكونون أسوأ بكثير من سلفهم .. هذه واحدة

الثانية .. حينما جاء سيد قطب على رأس التنظيم عرضوا عليه قيام الأخ إسماعيل الفيومي(1) وهو من الإخوان الشهداء الأفاضل وكان يعمل حارسا خاصا للرئيس جمال عبد الناصر .. طلبوا الإذن من سيد قطب بإغتيال عبد الناصر لكنه رفض رفضا مهذبا وغلـّف هذا الرفض بتأجيل الموضوع .. الثالثة .. ظل الإخوان المسلمون من عام ( 1948 ) حتى يومنا هذا يدفعون ثمن إغتيال النقراشى باشا رئيس الوزراء , رغم كراهية كل المصريين له , وان وزارته برئاسته كانت من أسوأ الوزارات في تاريخ مصر كما يحكى المؤرخون .. فمنذ اكثر من خمسة وخمسين عاما والإخوان يدفعون ثمن هذه الرعونة على يد شاب استفز فاتخذ هذا القرار بعيدا عن القيادة .. وظل الناس يعايرون الإخوان بها رغم بيان فضيلة المرشد ( ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين ) ودفع الإخوان ثمنها رأس الشهيد المرشد الأول حسن البنا , وأيضا المستشار الخازندار الذي أصدر أحكاما قاسية في جنح هزيلة اعتبرها جريمة كبيرة .. غير عابئ بالقسم الذي أقسمه أن يحكم بالعدل .. في حين انه تعامل بالرحمة في نفس الأيام مع جرائم أخلاقية بشعة .. فظل قتله- أيضا- .. معيرة للإخوان .. رغم قيامه باستفزاز كل الإخوان , وخلق مناخا مستفزا جدا لا يملك المتطرفون تجاهه عواطفهم وأعصابهم .

لهذه الأسباب .. ولعل سيد قطب كان يعلم هذه الأمور فرفض رفضا باتا إغتيال عبد الناصر , ولكنه لم يحسم كل الأمور لضيق الوقت .. بل لعله قال لعلي عشماوي نحن نفضل الاعتقال على القيام بعمل تافه هزيل .. ولكنه علي عشماوي أعطاه معلومات مبالغا فيها كثيرا .

والملاحظة الجديرة بالذكر هنا أن الأستاذ المرشد حسن الهضيبي طلب عدم ضم أفراد جدد للتنظيم والاكتفاء لفترة بتربية هؤلاء الأفراد المنظمون .. ولم يدر بخلده ولا بفكره قيام التنظيم بأي عمل عشوائي كهذا . أما ما حدث من تصرفات في الآونة الأخيرة .. فكما تحكى الأوراق بل والحكايات التي كثرت في تلك الآونة .. أن مجلس قيادة التنظيم ــ بعيدا عن سيد قطب ــ قرر المقاومة وعدم الاستسلام وعدم الموت ( فطيس ) كالموقوذة والنطيحة .

والتقط علي عشماوي هذه الموافقة من المجلس وقرر القيام بأعمال كلها مغامرات منها :

1- دراسة نسف الكباري دون أدنى عمل جاد فكانت تهمة استغلتها المحكمة في التشنيع علينا .. مجرد دراسة قام بها المهندس حلمي صادق حتحوت .

2- دراسة نسف محطة كهرباء شمال القاهرة .. مجرد دراسة أيضا لتثبيت مزيد من التهم .. والاتهام بالظلامية قام بها المهندس يحيى أنور بياض .

3- ولمزيد من الخيال وجو المغامرات كتب واحد من الشباب ــ بمزيد من الخيال الساذج ــ سوف ننتصر ونقوم باغتيال أم كلثوم , وشادية , وعبد الحليم حافظ وعبد الوهاب لأنهم دعاة الفساد الأخلاقي في أغنياتهم وما أكثرها .. وتخيل هذا الشاب الطيب انه عند قيام الحكومة الإسلامية سوف يتم اغتيال هؤلاء وكتب بضعة سطور في وريقة من ورقات كراسة المدرسة فاعتبرتها المحكمة خطة لنسف الفن والفنانين وأنه عند قيام الدولة الإسلامية ستكون الإذاعة كلها مارشات عسكرية ... وقرآن ... مارشات عسكرية ... وقرآن , وبل وظهرت مسرحية في مصر اسمها " مدرسة المشاغبين " تشير إلى شيء من هذا .

4- واستمرارا لمسلسل اليأس عند علي عشماوي بل وتثبيت التهمة .. أمر بتصنيع حوالي 50 زجاجة ( مولوتوف ) حارق لا يكفى لحرق أكثر من صندوق بريد وليس لقلب نظام الحكم .. زيادة في حبك التهمة ..

5- عمل اتصالات لإحضار أسلحة من السودان وأفريقيا ولم يحضر شيئا من ذلك .. بل وحاول علي عشماوي ــ في مذكراته ــ غسل يده من هذه التهمة .. ولكنه اعترف بباقي التهم السابقة .

6- طلب علي عشماوي من المهندس سيد سعد الدين الشريف تصنيع سبعين خنجرا وقام بتوزيعها على أنحاء الجمهورية وكان نصيبي واحدا منها .

7- طلب من المهندس محمد عبد الرحمن وكان يعمل مهندسا في مناجم الفحم بسيناء بإحضار كبسولات المفجر الذي يستخدم في تفجير المفرقعات في منجم الفحم بسيناء لمزيد من تثبيت التهمة على التنظيم.

8- طلب من كل من الأخ إبراهيم شرف وجابر رزق الاتصال بتجار السلاح لشراء أسلحة, وقبض على صهر الأخ إبراهيم شرف وكان من عائلة ( المراسي ) وهى من كبار عائلات طنطا وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات , وكذلك حكم على " السنوسى " من كرداسة وهو تاجر سلاح بنفس الحكم وثالث من تجار السلاح اسمه ( الحلوجى ) من شربين دقهلية .

9- ألصق تهمة الاحتفاظ بأسلحة من قبل عام ( 1954 ) عند الأخ سيد البردينى وكان سيد البردينى ـ رحمه الله ـ من أكثر الإخوان تعذيبا على الإطلاق بسبب تهمة حيازة السلاح من عام ( 1954 ) وكذلك عذبت الحكومة حسنى المليحى عضو مركز الإرشاد تعذيبا شديدا استكمالا لمسلسل السلاح (عام 54 ) هذا ما فعله علي عشماوي على مدى شهر ونصف فقط بعد القبض على سيد قطب وتفويضه لأنه القائد العسكري للتنظيم .. وبعد اتخاذ قرار المقاومة وعدم الاستسلام رغم أن سيد قطب اخبره أن خيار الاعتقال افضل بكثير من عمل تافه يضر ولا ينفع والخطأ الأكبر أن يصبح مصير جماعة بأكملها في قبضة شاب دون الثلاثين لا خبره ولا حنكة ولا دراية وكأنه قال ما قاله ( شمشون ) في روايته الشهيرة (علىّ وعلى أعدائي) بل لعل علي عشماوي اخطأ وقال (علىّ وعلى أصدقائي) فلقد اعترف على اكثر من ألف اسم بالتفصيل الدقيق


2. مقاومة الحكومة

يعترف أحمد عبد المجيد أحد أعضاء مجلس القيادة ومسئول المعلومات أنهم جميعا اتفقوا على المقاومة وعدم الاستسلام .. بناء على معلومات فضفاضة من علي عشماوي بأن أعداد التنظيم تربوا على الألف .. مما سهل على الحكومة تلفيق كافة التهم مع الدليل المادي من خناجر ومولوتوف ومسدسات يعلوها الصدأ وبضعة مدافع رشاشة من أيام الحرب العالمية الأولى وليس الثانية .. بالإضافة إلى بضعة كيلو جرامات من نترات الأمونيوم المدعم بالسولار الذي يكفى لإضاءة بضعة منازل لأهل الريف علاوة على فيلم كوميدي اقنع به علي عشماوي الأخ فاروق المنشاوي بأن يقوم فاروق بالهجوم على قسم شرطة الجيزة ويستولي على السلاح وبهذا يحصلون على سلاح كثير(1) منه مثل أفلام العصابات الوهمية التي نشاهدها في التليفزيون الأمريكي فتحولت التهمة من جنحة إنشاء تنظيم إلى محاولة قلب نظام الحكم مدعومة بالوثائق والمستندات والمضبوطات .. وكما قلت كان وزير الداخلية يعترف بوجود تنظيمات وتجمعات للإخوان ولكنها مالية ولمساعدة المعتقلين ولا داعي للقبض عليها حفاظا على الهدوء والاستقرار في مصر .

ولما جاء الأستاذ عمر التلمساني حسم كل هذه القضايا تماما فقال للناس : نحن دعاة إلى الدين بشموله .. ليست لنا معركة مع الحكومة .. معركتنا مع الشيطان ومع هوى النفس .. ومع شهوات ورغبات وأهواء الناس وليس مع العساكر والضباط والحكام وإذا حملنا السلاح فلن يكون إلا لمقاومة اليهود .. وحدهم والمستعمر كما كان في الماضي على خط القتال .. بل إن البعض كان يبالغ في حسن استقبال من يريد القبض عليه فيعاملهم باحترام وأحيانا بترحاب .. لأننا دعاة إلى الله وهذا طريقنا حتى يأذن الله بالفرج ويفيء الناس إلى حظيرة الدين وقبل هذا ليس لنا إلا الصبر .. وليس أي صبر .. ولكن كما قال ربنا عز وجل على لسان يوسف عليه السلام " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " سورة يوسف وكما قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أول الدعوة " فاصبر صبرا جميلا . إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا " سورة المزمل .

أما تشبيه المقاومة " كسيوف بنى أمية "(1) فالدليل على عكسه فيما أحسب علاوة أن أحدا لم يقاوم ممن كانوا يعذبون أمثال عمار بن ياسر وسمية وغيرهم وكما تروي كتب السيرة في بيعة العقبة الثانية والله اعلم حين قال شباب الأنصار وكانوا نيفا وسبعين من الشباب .. قالوا بعد بيعة العقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم " لو شئت لملنا عليهم الليلة بأسيافنا " .. فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رفض هذا المبدأ تماما .

وبحساب قليل أن العرب كانوا يسمعون الأشعار وتغنى المطربات وتعزف المعازف ويشربون الخمور حتى الثمالة وينامون بعد الفجر ويستطيع كل شاب من الأنصار أن يقتل بضربة سيف واحدة رجل من فطاحل الشرك فعلى الأقل يقتل كل واحد عشرة من رؤوس الشرك فيقتلون سبعمائة من رؤوس الشرك وهو ما لم يقتل في كل الغزوات ، ولكنه كانت ستحدث مجزرة يستباح فيها كل شيء ، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم سياسة أخرى .. مدعومة بالوحي الإلهي .. هو الصبر الجميل .. ثم الصبر الجميل


3. سياسة الاستفزاز

هي سياسة ناجحة دائما في ضرب التيار الإسلامي منذ زمن بعيد .. ترى نفسك فجأة وسط أجواء مستفزة تتصاعد بسرعة لا يمكن رصدها .. والفاعل فيها مجهول .. ولكن التصعيد يكون مفاجئا وسريعا .. فلا يتحكم أحد في الأحداث .

وصناع هذه الأحداث يعلمون أن الناس تجاه الاستفزاز ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

1- قسم يصل إلى حوالي 20% لا يأبه بشيء .. ولا يبالي إلا ببطنه وشهواته .

2- قسم يصل إلى حوالي من 60ــ70% يكتفي بالاستنكار القلبي أو حتى مجرد التعبير بالكلام أو المظاهرات على أقصى تقدير .. أو إطلاق النكت .(1)

3- قسم بين 10ــ20% يكون رد فعله عنيفا تجاه الاستفزاز وكثيرا ما لا تتحمل أعصابه هذا الاستفزاز فيندفع بلا ضوابط إلى رد فعل غير محسوب وغير مخطط .. يتورط فيه , ويتورط فيه من قد ينتمي إليهم من الأحزاب أو الهيئات أو الجمعيات .. والمندفعون , وفاقدوا الأعصاب لا يحسبون لهذا أي حساب .

حدث هذا في أيام النقراشى باشا رئيس الوزراء فاحدث :

1- تذمرا عاما بين أفراد الشعب وجيشه بل والبوليس أيضا

2- إضرابات بين عمال كثير من الشركات من عمال المحلة الكبرى وغيرها

3- نكسة غير محسوبة في حرب 1948 م ومني الجيش المصري بهزيمة منكرة .. فضلا عن حصار الفالوجا حيث استمر الجيش المصري محاصرا 130 يوما بواسطة قوات إسرائيل .

4- الاعتقال العشوائي والمستفز لأفراد جماعة الإخوان .

5- أصدر قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين , واعتقال المجاهدين في فلسطين .

هذا علاوة على أنه ـ أي النقراشى باشا ـ من أحزاب الأقلية المفروضة على الشعب فرضا من قبل الملك فاروق . هذا الاستفزاز بلغ ذروته .. فقام عبد المجيد أحمد حسن وقام باغتيال النقراشى باشا .. دون موافقة الإخوان ولا المرشد العام لها الإمام حسن البنا .. فلم يستأذن أحدا , ولم يحسب حسابا لشيء .. وأصدر الإخوان بيانا عنهم عنوانه " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين "

... وحدث هذا الاستفزاز مرة أخرى على يد أحد القضاة ويسمى أحمد الخازندار رئيس محكمة الجنايات ( 1948 م ) فقد كان يصدر أحكاما قاسية جدا على أفراد جماعة الإخوان , في حين تعاطفه مع كافة أنواع المجرمين العاديين بصورة مستفزة .

وحدث مرة ثالثة من سليم زكي حكمدار بوليس القاهرة الذي كان يتعامل بمنتهى الوحشية مع أرافد جماعة الإخوان المسلمين بصفة خاصة

هذا الاستفزاز دفع بعض الشباب إلى اغتيال هؤلاء الثلاثة ( النقراشي والخازندار وزكي سليم ) ودائما لا يفكر الشباب في العواقب أبدا .. ويدفع غيرهم الثمن بل ظل الإخوان جيلا بعد جيل يدفعون ثمن هذا التصرف من بعض الأفراد منذ نيف وخمسين عاما .

وكذلك المتابع لأحداث ( 1981م ) التي اغتيل فيها الرئيس أنور السادات كان يلحظ بتصعيد خطير من الرئيس .. ودفعا للأحداث إلى حافة الهاوية مما هيأ مناخ الاستفزاز الذي راح ضحيته الرئيس نفسه .. وتأثرت الحركة الإسلامية حتى المعتدلة منها بهذا الذي حدث

وهذا الأسلوب الاستفزازي تعرض له أفراد التنظيم في عام ( 1965 ) في صور كثيرة منها :

1- اتجاه الحكومة نحو التحلل التدريجي من مظاهر الدين بدءا بإلغاء المحاكم الشرعية , وحل الأحزاب وحل جماعة الإخوان المسلمين وسجن واعتقال عشرات الآلاف مما رسخ عند بعضهم عقيدة الانتقام من عبد الناصر .. وليكن ما يكون .. بلا حسب للعواقب

2- سيطرة الشيوعيين على كل وسائل الإعلام من إذاعة وتليفزيون وجرائد ومجلات , وبثها مسموح الانحلال والتفسخ بعيدا عن الدين

3- ظهور دعاوى الشيوعيين المتطرفين بإلغاء الدين واستبداله بالشيوعية .. ولا أنسى أبدا لوحة طويلة وكبيرة من القماش كتبها شيوعي متعصب على أحد مباني كلية زراعة جامعة القاهرة مكتوب عليها " الإشتراكية ديننا " أي أن الإشتراكية هي الدين الجديد البديل للإسلام

4- التضييق الشديد على المتدينين عند ممارسة أي نشاط ديني في حين إفساح المجال للشيوعيين في كل مكان في مصر كلها ... لعل هذا الاستفزاز كان أحد أسباب تكوين تنظيم ( 1965 ) كرد فعل للتوجه الشيوعي الأحمر للدولة .. ولقد كان الشيوعيون مسجونين مع الإخوان في " معتقل الواحات " .. ويقولون صراحة للإخوان سوف نستولي على الحكم .. وفى غضون 24 ساعة سوف يتم إعدام كل من له صلة بالإخوان .. وأنت ترى أن هذا الكلام كان يسيطر كثيرا على فكر الشهيد عبد الفتاح إسماعيل خصوصا في حواره مع الإمام حسن الهضيبي رحمهما الله رحمة واسعة .. ولعل هذا أحد الأسباب الأساسية في عقيدة ضرورة حمل السلاح قبل ( 1965 )

5- أن الضغط يولد الانفجار .. والكبت يولد الثورة .. ولكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه سواء في علم الميكانيكا أو في علم السياسة .. والمسألة في غاية السهولة يمارسها أعداء الدين والتدين ببساطة ونتائجها ـ غالبا ـ مضمونة .. وهى الضغط .. ثم انتظار النتائج على أيدي المتهورين أو المتطرفين .. لعل هذا هو السبب في الأمر الواضح والصريح من الأستاذ عمر التلمساني للإخوان .. نحن لا نحمل سلاحا .. ولا نقاتل من نطق بالشهادتين كائنا من كان .. ولا نعادى مسلما نطق بالشهادتين .. رسالتنا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة .. إبلاغ الدين للناس هي رسالتنا .. مجال عملنا الناس .. وشغلنا الشاغل هو هداية الناس .. ومن جديد لا نحمل سلاحا .. ولا نهدد حاكما .. معركتنا هي هداية الناس .. أعدائنا هم الشيطان .. هوى النفس ـ رغبات النفس ـ نزوات النفس والشيطان إن إصلاح المجتمعات الإسلامية يكون من القاعدة وليس من القمة .. " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ومعذرة لهذا التكرار.


4. حكمة بالغة ورحمة واسعة

قال تعالى  : " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ........"

وبعدها مباشرة قال سبحانه وتعالى : " ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا "

ثم قال سبحانه " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ...... " (1)

نعم لقد تحققت أمنية كل ذي أمنيه .. وسلك كل راغب في سبيل سبيله بسبب أحداث ( 65 )

كان سيد قطب يتوق إلى الشهادة فأعطاها الله له .

وكان محمد يوسف هواش يتمنى الشهادة ومرافقة صديق عمره ـ سيد قطب ـ في الجنة .. فعاشا معا في السجن تسع سنين ثم ماتا معا في مكان واحد شهيدين .

كان ـ أيضا ـ زميلي وأخي فاروق المنشاوي يتمنى الشهادة ففاز بها بعدهما بقليل .

كذلك كان كثير ممن لقوا ربهم شهداء سواء في التعذيب مثل عزمي بكر ( القاهرة ) ـ محمد منيب ( أسيوط ) ـ إسماعيل الفيومي ( القاهرة ) ـ محمد عواد ( الشرقية ) ـ الشهيد ( محمد عبد الله من كفر شكر ( القليوبية ) من إخوان الخمسات .

أما الشهيد عبد الفتاح إسماعيل .. فلقد عاش بيننا في السجن الكبير في السجن الحربي قرابة عام يقوم الليل ويطيل السجود .. ويسأل الله الشهادة بصدق مع بكاء .. وتضرع إلى الله عز وجل .. فنال الشهادة .. وفى المقابل رفض علي عشماوي الشهادة فمنعه الله منها ..

وفى المقابل أيضا كان شمس بدران يعتقد انه قد انتصر في معركة عمره باكتشاف التنظيم .. فانتصر مؤقتا .. وبعد اكتشاف التنظيم بقليل قبض المكافأة وصار وزيرا للحربية .. وأصدر تعليماته ببناء مقر له في السجن الحربي على أكتاف الإخوان والرسم والتصميم والتنفيذ والإشراف من المسجونين من مهندسي الإخوان .. وكنا نحن بقية الإخوان نحمل الزلط والرمل والأسمنت والطوب على أكتافنا لبناء فيلا يستريح فيها شمس بدران في السجن الحربي .. ودعونا الله كثيرا ألا يسكنها واستجاب الله دعائنا ولم يتم البنا ء حتى جاءت نكسة 5 يونيو 1967 م .. قبل إتمام البنا ء بأيام .. ولم يسكنها شمس بدران .. ولكن الله ـ سبحانه ـ في مقدور الغيب كتب لشمس بدران مسكنا في السجن الحربي .. فكانت الزنازين التي سجننا فيها ـ وليست الفيلا ـ هي مسكنه والعساكر الذين كانوا تحت إمرته ورئاسته وجلادوه كانوا جلاديه هو ومعذبيه هو .

" يقلب الله الليل والنهار . إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار " (1) ومن عجب أن الشهيد هواش كان يستيقظ معظم الليل في زنزانته يقوم الليل .. ومن شدة التعب من كثرة القيام وقلة النوم .. أخذته سنة من النوم وهو ساجد .. فرأى رؤيا عجيبة .. رأى طوابير الإخوان تخرج من السجن الحربي .. وطوابير أعداء الإخوان تدخل السجن الحربي .. وحكى هذه الرؤيا ولم يجد أحد لها ـ حينئذ ـ تفسيرا .. ومات محمد يوسف هواش شهيدا , ولم تتحقق الرؤيا وبعد وفاته بعشرة شهور تحققت الرؤيا كما هي .. فلقد احتاج عبد الناصر لكبش فداء لنكسة يونيو فكان شمس بدران وعصابته كبش الفداء .. دخلوا السجن الحربي يحفوهم خزي النكسة وعارها , ويتبادلون الاتهامات بالتواطؤ والخيانة .

وهكذا حقق سيد قطب وإخوانه مأربهم .. خالدين فيها أبدا إن شاء الله ولا نزكى على الله أحدا

وهكذا ـ أيضا ـ حقق شمس بدران مأربه في معركة اكتشاف التنظيم ولكن إلى حين .. واستدرج لكي يكون وزيرا للحربية ويحمل خزي النكسة ابد الآبدين .. فهو من صنّـاعها بلا ريب أما الإخوان فلن تجد - رغم ما حدث ـ إخراجا خيرا من هذا الإخراج .. كيف

1. اعترف علي عشماوي على التنظيم كله .. فلقد كان موهوب الذاكرة فكفى الناس جميعا مؤنة التعذيب والاعتراف .. فكان أفراد التنظيم يعذبون تعذيبا متوسطا فليس لديهم ما يستطيعون إخفاءه أو إنكاره .

2. انهار علي عشماوي سريعا .. وأراد أن يبرهن على ولائه للحكومة ـ آنذاك ـ فاعترف على إسماعيل الفيومي الحارس الشخصي للرئيس جمال عبد الناصر وبهذا نجا جمال عبد الناصر من الاغتيال .. فكان من الممكن أن يقوم إسماعيل الفيومي بهذا العمل في ظل هذه الأجواء المستفزة جدا .. ولو فعلها لذبحت الحكومة كل أفراد جماعة الإخوان المعتقلين في كل السجون ( كان عدد المعتقلين 34 ألفا ) فنجى الله جماعة الإخوان بهذا الاعتراف لعلي عشماوى حيث دلهم على إسماعيل الفيومي.

3. حصلت جماعة الإخوان على دعاية لها .. لم تكن تحلم بها أبدا .. فبعد أن كانت تعليمات الحكومة في الماضي لجميع وسائل الإعلام عدم ذكر كلمة " الإخوان المسلمون " على لسان أحد في كل وسائل الإعلام .. اندفعت وسائل الإعلام كلها

الإذاعة تتكلم عن الإخوان

التليفزيون تتكلم عن الإخوان

الجرائد تنشر فكر الإخوان يوميا

المجلات تضخم وتهول من شأن التنظيم

الجرائد تقول

عند الإخوان خبراء في المفرقعات

عند الإخوان خبراء في الطاقة الذرية

عند الإخوان خبراء في الكباري وطرق نسفها

عند الإخوان خبراء في الكهرباء ومحطاتها

عند الإخوان تلال من الأسلحة

عند الإخوان صفوة المثقفين في مصر

عند الإخوان طيارين

عند الإخوان مهندسين

عند الإخوان خبراء في الكيمياء والهندسة

عند الإخوان كل فئات الشعب

أما التليفزيون فلقد أجرى الإذاعي الكبير حمدي قنديل عدة مقابلات من بعض أفراد الإخوان .. مع علي عشماوي

ومع فاروق المنشاوي ... مهندس كيميائي

ومع حلمي حتحوت ... معيد بهندسة الأسكندرية

ومع إسماعيل الهضيبي ... محامى ونجل فضيلة المرشد حسن الهضيبي

وحكى لي أحد القادمين علينا من خارج السجن .. أن صور حلمي حتحوت كان الناس يقصونها من الجرائد ويحتفظون بها كما يفعل الناس مع نجوم الكرة ومشاهير رجال الفن وصار بعض الإخوان " محبوب الجماهير " ولا أقول " معبود الجماهير " وإن كانت الكلمة الثانية لا تعني الشرك بالله .. لأن ( محبوب ) من معاني ( معبود ) .. فاللغة العربية تتسع لهذا التأويل.

في مقطع للشعر والضد يظهر حسنه الضد ... وفى مقطع آخر وبضدها تتمايز الأشياء

هذا ما حدث بالفعل فكان اعتقال الإخوان في ( 1965 ) وضربهم والدعاية الإعلامية ضدهم في كل شيء حتى النكات(1) .. وكان لهذه القفشات اثر ضخم في الدعاية للإخوان المسلمين بعد أن كاد يموت ذكرهم في مصر منذ عام ( 1954 ) حدث هذا كله قبل الانهيار الكبير لحكم عبد الناصر في نكسة ( 1967 ) .. فقال الشعب كله هذا ذنب الإخوان .. هذا ذنب سيد قطب ورفاقه .. وصار انهيار حكم عبد الناصر وزملاؤه في ظل الظهور القوى للإخوان في ( 1965 ) .. كبديل جاهز يرفض كل هذا النظام شكلا وموضوعا بل إن الناس ـ عامة الناس ـ كانوا يتهمون عبد الناصر بالارتماء في أحضان الشيوعية والشيوعيين وهم يرفضون الدين والتدين فجاءت النكسة وطلبت كل البدائل المضادة لهذا النظام .. فاتجه الناس إلى الدين والتدين بكل قوة .. وهذا مناخ يكسب فيه الإخوان كثيرا وبلا شك

لان هذا المناخ العام هو من أحد أهم الأهداف الأساسية لدعوة الإخوان المسلمين تحت مسمى " المجتمع المسلم" وتحت مسمى " أسلمة مظاهر الحياة في المجتمع "

أما الشهداء .. فان دمهم لم يضع هباء منثورا , ولم يذهب سدى .. ولم يراق هدرا .. بل إن خريطة الشهداء شملت كثيرا من أنحاء الجمهورية :

الشهيد محمد منيب ... أسيوط

الشهيد سيد قطب ... أسيوط والقاهرة

الشهيد محمد يوسف هواش ... القاهرة والمنوفية

الشهيد إسماعيل الفيومي ... المطرية والقاهرة

الشهيد رفعت بكر ... حلوان و القاهرة

الشهيد عبد الفتاح إسماعيل ... دمياط

الشهيد محمد عواد ... الشرقية

الشهيد محمد عبد الله ...( من شهداء التعذيب في السجن الحربي ) كفرشكر قليوبية

هذا بخلاف من استشهدوا في السجون المدنية من المرضى نتيجة لعدم علاجهم أو منع الدواء عنهم , أو منع إجراء العمليات الجراحية لهم ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر :

عبد الحميد البرديني ... الدقهلية

هاني بسيسو ... غزة

فضيلة الشيخ أحمد شريت ... أسيوط ( عضو مكتب إرشاد سابق )

فاروق أحمد المنشاوي ... سوهاج ( استشهد في ليمان طره )

وغيرهم كثير ...

سوهاج <<=== أسيوط <<=== القاهرة <<=== القليوبية <<=== الشرقية <<=== غزة <<=== المنوفية <<=== الدقهلية <<=== دمياط

وهكذا ترى خريطة الشهداء توزعت على معظم أنحاء مصر , فروت دمائهم شجرة الدعوة , فأحيتها من جديد , وثبتت جذورها في ارض مصر الصلبة .. حتى يئس أعداء الدين والتدين من خلعها أو اجتثاث جذورها. أما كتب الشهيد سيد قطب .. فلقد طبع من كل كتاب منها مئات الآلاف النسخ .. بل إن بعضها جاوز المليون نسخة ، وانتشرت كتبه في أنحاء العالم كله .. ولاتزال كتبه وتفسيره يتصدران قائمة مبيعات الكتب الدينية ، ةلعل ذلك مصداقا لقول الله عز وجل :

" فأما الزبد فيذهب جفاء, وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض "(2) صدق الله العظيم