الحياة مع الشهداء
- بقلم / أ.د. محمد السيد حبيب
الأخوة الأحباب ..أحييكم بتحية الإسلام .. فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد ؛
فإن الحياة مع الشهداء لها طعم خاص، ومذاق مختلف، لأنها حياة مع مُصْطَفيْن من قبل الله .. لأنها حياة مع العظمة والجلال والجمال، مع الطمأنينة والسكينة والرضا والسلام مع النفس، بل والسلام مع الكون كله .. لأنها حياة مع أحياء أبد الدهر .. كانوا أحياءً قبل استشهادهم يتحركون على الأرض بين الناس، يرونهم، يتعاملون معهم، يستمعون إليهم، وهم بعد استشهادهم أحياءٌ أيضاً، ولكن عند ربهم، إنها حياة ليست كالحياة التى ألفها أو اعتادها الناس .. حياة من نوع آخر، بل هى الحياة الحقيقية، يقول صاحب الظلال – طيب الله ثراه - : "هؤلاء الذين يقتلون فى سبيل الله ليسوا أمواتا، إنهم أحياء، فلا يجوز أن يقال عنهم : أموات، لا يجوز أن يعتبروا أمواتا فى الحس والشعور، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان، إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه، فهم لابد أحياء، إنهم قتلوا فى ظاهر الأمر، وحسبما ترى العين، ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررها هذه النظرة السطحية الظاهرة" .
ليس هذا فقط ولكنهم يرزقون عند خالقهم ومولاهم وهم فى قمة السعادة والبهجة وغاية السرور والحبور (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(آل عمران: 169-170) .. أى يفرحون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يموتوا فى الجهاد بما سيستمتعون به مثلهم من كرامة حال استشهادهم .. أخرج البخارى عن أنس رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء غير الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة"
شتان – أى شتان – بين الحياة مع الناس، والحياة عند الله.. هذه مكانة، وتلك مكانة ومنزلةٌ أخرى لها جلالها وسُموّها ورُقيّها وعظمتها .. ولله المثل الأعلى .. الحياة مع الناس حياة تختلط فيها الغرائز مع العقل، والمادة والطين مع الروح .. أما تلك الحياة فهى حياة فى الملأ الأعلى، مع السمو والجلال والكمال، مع الطهر والنقاء والصفاء، حياة خالصة من الكدر والشوائب والنوائب .
الحياة مع الشهداء تصغُر معها الدنيا بكل ما فيها من زينة وزخارف وزوج وأولاد وأموال وسلطان وجاه .. الحياة مع الشهداء تتضاءل معها كل المحن والمصائب والكوارث التى تحل بالإنسان، سواء فى نفسه أو فى أهله أو فى ماله أو فى ولده .. لذا تبدو الحياة مع الشهداء حياة مع الكرامة فى أبهى صورها، حياة مع العزة فى أحلى معانيها، وحياة مع الرقى والعلو والاستهانة بكل ما يشغل الإنسان فى حياته الدنيا .
من أجل ذلك لابد لنا من إعادة ترتيب أوراقنا وصياغة أفكارنا وتشكيل وجداننا بما يتلاءم وهذه الحياة .. لن يكون هناك جهاد حقيقى من أجل العقيدة والأمة، أو دفاع جاد من أجل الأرض والعرض والمقدسات، إلا إذا عشنا مع الشهداء .. نرتشف العزة من وهجهم، نتعلم الثبات على أيديهم، نستلهم الاستعلاء على الدنيا من إقبالهم على الشهادة .
الأخ الحبيب ...الحياة مع الشهداء تثير لدى الإنسان مجموعة من التأملات والتساؤلات .. أين هو من هؤلاء الشوامخ ؟! أين هو من هؤلاء العمالقة الأفذاذ؟ بل أين هو من هذا الاصطفاء والاجتباء ؟ وهل هو أهل له ابتداءً ؟ وفى الوقت ذاته يشعر الإنسان بعظمة الإسلام والإيمان الذى خالطت بشاشته هذه القلوب فأحدثت فى أصحابها هذه النقلة العبقرية التى تجاوزت حدود الزمان والمكان، بل تجاوزت قيم المادة بكل مكوناتها، وجعلت الإنسان – ذلك الكائن الضعيف – أقوى الأقوياء، ذلك الكائن الذى يرسف فى أغلال المادة يحلق بحرية فى أعلى درجات الجنان ..
أحياناً يطلب الإنسان الشهادة ولا ينالها .. إذ من العجيب والغريب أن تجد عبقريا كخالد بن الوليد – رضى الله عنه – يشهد كل هذه الحروب والملاحم ويخوض غمار القتال فى معارك شرسة وضارية لم يعرف لها التاريخ مثالاً، ويتعرض للاستشهاد عشرات المرات لكنه يموت مثل كثير من الناس على فراشه .. ولما حضرته الوفاة فاضت دموعه حزناً وأساً وأسفا لفوت الشهادة .. يقول رضى الله عنه : "لقد حضرت كذا وكذا زحفاً وما فى جسدى موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، او رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشى حتف أنفى، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء". وحينما يسمع عمر – رضى الله عنه - بوفاته يقول: "دع نساء بنى مخزوم يبكين على أبى سليمان، فإنهن لا يكذبن، فعلى مثل أبى سليمان تبكى البواكى".وتلك عجيبة أخرى صاحبها عمرو بن ثابت بن وقْش .. هل سمعت به ؟ هل حدثك أحد عنه ؟ لقد رقّ قلبه للإسلام فقط يوم أُحُد بعد أن كان عصيا عليه .. انظر .. تأمل .. أنزل الله تعالى عليه فيوضات رحماته وتجليات هدايته سبحانه فى تلك اللحظات الفارقات .. يصك سمعه هذا النداء العلوى: حى على الجهاد .. يا خيل الله اركبى .. فجأة يفزع عمرو بن ثابت، يأخذ سيفه، يدخل ميدان المعركة فيقاتل بشجاعة نادرة وبسالة منقطعة النظير حتى يرقى شهيدًا .. ومن عجب أن الرجل لم تكن لديه فرصة كى يركع لله ركعة واحدة !! هذا هو الاجتباء والاصطفاء .. " (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(آل عمران: 140)، وهل يصطفى الله تعالى أحدا لا يحبه؟ وهل ينال أحد هذا الحب إلا إذا كان أهلا له ؟ أسأل الله تعالى أن يجعلنى وإياك من أهل الله وخاصته.
الأخ الحبيب ..وهذه عجيبة ثالثة، بطلها الشهيد العظيم كمال السنانيرى – رضى الله عنه – الذى ظل يهتف ويردد عبر عقود "والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا" فما نال الشهادة إلا بعد أربعين سنة من الجهاد والعمل الشاق، وكانت شهادة من نوع خاص .. هل تعلم لماذا ؟ .. لأنها كانت شهادة ارتبط فيها الدم والمعاناة بالقسوة والعنف .. دم الشهيد ومعاناته وآلامه، وقسوة الطغاة وعنفهم ووحشيتهم، كانت تعذيبا وحشيًا حتى الموت .. بل إن الوحش ليأنف من فعل ذلك .. الوحش لا ينزل إلى هذا الدرك .. تعالى معى إلى كلمات أمينة زوج الشهيد كمال السنانيرى وأخت الشهيد العلم سيد قطب تقول فى رثاء زوجها :
ما عدت انتظر الرجوع ولا مواعيد المساء
ما عدت أحفل بالقطار يعود موفور الرجاء
ما عاد كلب الحي يزعجني بصوت أو عواء
وأخاف أن يلقاك مهتاجًا يزمجر في غباء
ما عدت انتظر المجيء أو الحديث ولا اللقاء
ما عدت أرقب وقع خطوك مقبلاً بعد انتهاء
وأضيء نور السلم المشتاق يسعد بارتقاء
ما عدت أهرع حين تقبل باسمًا رغم العناء
أسأل الله تعالى أن يلحقنا بالشهداء فى عليين، وأن يغفر لنا ما قدمنا وما أسررنا وما أعلنا، وأن يربط على قلوبنا ويشرح صدورنا ويثبت على طريق الحق أقدامنا، وأن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة .
المصدر : رسالة الإخوان