بم يسمى هذا الموقف ومن الذى يستفيد منه؟
بقلم / الإمام حسن البنا
دهشت أعظم الدهشة حين قرأت أمس برقية صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا إلى رئيس مجلس الأمن وسكرتير هيئة الأمم المتحدة، وراجعت تلاوتها مرات وأنا أكاد أكذب نظرى كل مرة، وأسائل نفسى أحقيقة هذا الذى أقرأ؟! وفى أسف شديد وحزن عميق أخذت أسائل نفسى مرة أخرى: بم يسمى هذا الموقف ومن الذى يستفيد منه؟ وما الدوافع إليه، وبم تتحدث عنا بعده الأمم العربية والشعوب الإسلامية ودول العالم أجمع؟.
يقول رفعة النحاس باشا فى برقيته: إن شكوى مصر إلى مجلس الأمن "بعيدة عن أن تعبر عن وجهة نظر الشعب المصرى الذى انعقدت إرادته الإجماعية على تحرير وادى النيل كله وتثبيت دعائم استقلاله" وهو قول غير صحيح فقد طلبت الحكومة فى عريضة الدعوى صراحة وفى غير لبس الجلاء التام عن وادى النيل كله مصره وسودانه"
وفى الفقرة الثانية يستعدى رفعة النحاس باشا مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة على حكومة مصر الديكتاتورية، ويطلب إلى هذه المؤسسة الدولية ألا تصغى إلى هذه الحكومة فى شىء وأن تستمع إلى صوت الوفد وحده صاحب الأغلبية الساحقة فى مصر، ولا أدرى ما الذى يريده رفعة الباشا بهذا الاستعداء، وما القيمة العملية له، وهل من اختصاص مجلس الأمن أو هيئة الأمم أن تفرض الحكومات فرضا على الأمم والشعوب، وأن تتدخل فى أخص خصائص الأمور الداخلية للأمم، وهل يستطيع رفعة الزعيم أن يقول أن الوفد المصرى صاحب الأغلبية فى جنوب الوادى فى السودان وليس للوفد هناك لجنة واحدة، وقد أيد وفد السودان عريضة الحكومة، وقال رئيسه فى عبارة صرحية واضحة جوابا على سؤاله رأيه فيها: "ليس فى الإمكان أبدع مما كان".
وفى الفقرة الثالثة يرى رفعة الباشا من واجبه أن يعلن على الملأ أمام هيئة الأمم المتحدة أن شكوى تلك الحكومة التى تحكم مصر فعلا لا يمكن أن تكون لها قيمة الوثيقة القومية المعبرة عن مطالب شعب وادى النيل، ومعنى هذا أن رفعة رئيس الوفد المصرى يحرض مجلس الأمن فى صراحة على رفض هذه الشكوى، وحذف هذه الوثيقة من جدول الأعمال ليرجع وفد مصر خاسئا وهو حسير، ولا ندرى هل سيكون الخاسر فى هذه الحالة النقراشى باشا وحده، أم ستكون اللطمة القاسية إذا جارى مجلس الأمن رفعة الرئيس على ما يريد؟ [ولن يفعل للحكومة المصرية وللأمة المصرية جميعًا]، وإذا كانت البرقية قد أخذت على عريضة الحكومة أنها لم تطلب فى أمر السودان إلا إنهاء النظام الإدارى، فقد كان من الإنصاف أن تذكر كذلك أن هذه العريضة قد أشارت إلى أهمية الوحدة وضرورتها وأنها أمر طبيعى لامناص منه كما أشارت إلى بطلان اتفاقية 1899 ومعاهدة 1936 وإنما صيغت الفقرة المشار إليها هذه الصياغة لتفوت على الإنجليز دعواهم الفاسدة واتهاماتهم الباطلة لمصر بأنها تريد استعباد السودان والسيادة عليه، ولتطمئن الإخوان السودانيين فى الجنوب على هذا المعنى فلا يكونوا إلبًا عليها.
وقد نجحت هذه الخطة فعلا فارتفع صوت السودان مؤيدا لمصر، وفات على الإنجليز ما يقصدون. على أن أمر الوحدة لا يعنى المجلس ولا يسمح للإنجليز أن يتحدثوا عنه، لأنه أمر بين المصريين والسودانيين كأبناء وطن واحد يسوونه بينهم كما يريدون والعقبة الوحيدة التى تحول دون ذلك هى الاحتلال الإنجليزى والإدارة الثنائية، فإذا طالبت مصر بالجلاء عن الوادى، وبإلغاء الإدارة الثنائية فقد صار معنى هذا قيام الوحدة فعلا بين السودان ومصر، وإذا كان هناك ما يتنازع عليه قائما يعنيهم وحدهم.
لو أن رفعة الباشا اقتصر فى برقيته على الفقرات الأخيرة منها، وشرح للمجلس وللهيئة ما غمض من نصوص عريضة الدعوى لكان ذلك أمرا مشكورا وموقفا وطنيا رائعا محمودا، أما وقد جاءت برقيته على النحو الذى رآه القراء فإن ذلك أمر يوجب مزيد الأسى والأسف ولا نجد ما يوصف به هذا الموقف بأقل من أنه سقطة سياسية وعثرة وطنية لا يقيل منها شىء إلا أن يشاء الله.
نكتب هذا الكلام مع أن بيننا – نحن الإخوان المسلمين - وبين رئيس الحكومة حسابا طويلا فى كثير من المواقف والشئون الداخلية، ولكننا نستطيع أن نفرق بين ما نتحاسب عليه اليوم وما نؤجله إلى الغد القريب، ونعلم تمام العلم أنه لا خلاف بين أحد من المصريين فى أمر السياسة الخارجية وحقوق هذا الوطن، وأن قضيتنا وقد برزت إلى الميدان الدولى أحوج ما تكون إلى أن تؤيدها كل الجهود، وتلتقى على هذا التأييد كل الأصوات والأعمال.