بيان من الإخوان المسلمين إلى شعب وادى النيل (2)
بقلم / الإمام حسن البنا
لقد رأى الإخوان المسلمون - وهم الهيئة الشعبية الكبرى التى تغلغلت مبادئها فى مختلف طبقات الشعب، وانتظمت تشكيلاتها أكثر مجموعاته- بعد أن انتهت هذه الحرب، وبعد أن بذل فيها هذا الشعب الأبى الوفى ما بذل من مساعداته وأقواته ودماء أبنائه، أن استقلال البلاد منقوص بالتدخل البريطانى، وأن حريتها مقيدة بقيود المعاهدة، وأن وحدة الوادى ممزقة بهذه القيود، وأن الاقتصاد الوطنى معتدى عليه بالاحتكار والاستغلال، وأن مرافق البلاد جميعها فى مسيس الحاجة إلى الإصلاح الشامل السريع،
ولهذا دعا المركز العام الجمعية العمومية للإخوان المسلمين فأصدرت قراراتها المفصلة فى 2 من شوال سنة 1364 كما دعا بعد ذلك إلى عقد مؤتمرات شعبية فى كثير من عواصم البلاد ومدنها الكبيرة، وأرسل بعثة إلى السودان العزيز فعقدت اجتماعات عدة تناولت مطالب البلاد وحقوقها القومية، وكان عن ذلك أن تنبه الوعى وتركزت هذه المثل فى أذهان الأمة على اختلاف طبقاتها فى يقظة رشيدة وإيمان راسخ عميق، كان له أثره العملى ولا شك فيما تلا ذلك من أحداث.
ولقد دعا الإخوان إلى وجوب توحيد الجهود، وضم القوى للعمل على تحقيق هذه الأهداف، وكان يسرهم أن يتم ذلك فى هذه الظروف العصيبة والساعات الفاصلة، فيواجه زعماء الأحزاب والهيئات هذا الموقف -وهم يد واحدة- مقدرين أن الوحدة أضمن الوسائل للتوجيه السليم، وأقواها فى الوصول إلى الحقوق والغايات.
ولقد بذل الإخوان نصحهم فى بيان ووضح للحكومة السابقة، وحاولوا أن يدفعوا بها فى قوة وحزم لمواجهة الموقف، ومسايرة الشعور الوطنى الجارف الذى تغلى به النفوس والأفئدة ولكنها سلكت الطريق الذى رأته لنفسها والذى انتهى بالمذكرة المصرية والرد البريطانى كما انتهى باستقالتها.
وجاءت الحكومة الحالية فتقدم الإخوان إلى دولة رئيسها بالنصح الخالص كذلك لا يبتغون من ورائه إلا وجه الله وخير الوطن، وصارحوه بأن عليه لهذه الأمة واجبين:
أولهما: تقدير شعورها الوطنى، وتقويته وتغذيته فهو شعور حق لا إثم فيه ولا جريرة.
وثانيهما: الحزم الكامل فى المطالبة بحقوقها الوطنية ومواجهة الإنكليز مواجهة صريحة بأن هذه الأمة قد تنبهت فلن تغفل وصممت فلن تتردد.
وأن المماطلة والتسويف، وسياسة كسب الوقت أو ضياع الوقت لن تخدع هذا الشعب الواعى عن حقه الكامل.
كما أن من واجبات دولته كحاكم أتيحت له فرصة –قد تكون الأخيرة- أن يعمل جاهدا فى ترميم حياتها الاجتماعية الداخلية على ألا يشغله ذلك عن قضية الساعة –وهى قضية الحقوق الوطنية- وقد وعد دولته بأن يكون عند هذه النصيحة, وذكر أنها تتفق تماما مع ما يعتزمه وما يود أن ينهجه.
وإن موقف الإخوان المسلمين من هذه الحكومة أو سواها إنما تحدده هذه الخطوط الرئيسية فى سياستها، فهم يقدرون ما تقوم به من أعمال نافعة، ومواقف شريفة كريمة، وينقدونها حينما تزل بها قدم أو تنحرف عن الطريق لا تأخذهم فى ذلك لومة لائم، ولا يقعدهم عنه رغب أو رهب.
أيها الشعب الأبى الكريم، والآن وقد شكلت الحكومة وفد المفاوضات واعتزمت أن تواجه مهمتها الأولى فى تحقيق المطالب القومية, يريد الإخوان المسلمون أن يضعوا أمام أنظار الجميع هذه المطالب:
(1) إن الحقوق الطبيعية القومية لشعب وادى النيل محدودة معروفة لا تقبل جدلا ولا مساومة، وهى الاستقلال الكامل لهذا الشعب، ولن تكون لهذا الاستقلال حقيقة إلا بجلاء هذه القوات جميعها عن الوادى فى أقرب وقت، ولن تكون لهذه الوحدة حقيقة حتى تشمل كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية فى جميع أنحاء الوادى شماله وجنوبه، وإن قناة السويس جزء من أرضنا يجب أن نقوم نحن بحمايته وحراسته، وإن مرافق بلادنا الاقتصادية من حقنا وحدنا أن ننصرف فى الانتفاع بها كما نشاء، وإن وضعنا الاجتماعى وحياتنا المدنية نحن الذين نرسمها ولا نقبل فيها تدخل أحد فعلى الشعب أن يحفظ هذه الحقوق، ويتفقه فيها ويتحمس لها ولا يغفل عنها طرفة عين.
(2) والمعاهدة المصرية الإنجليزية لم تعد أساسا صالحا بحال للعلاقات بيننا وبين الإنجليز، والمفاوضة وسيلة لا غاية رفضها فريق من المصريين لما لمحوا وتوقعوا، وصدقت الحوادث توقعهم من آثارها ونتائجها، وقبلها الباقون جريا على الأساليب السياسية الدولية وتعللا بالأمل فى الوصول إلى الغاية من أسلم الطرق.
وإذا كان الأمر كذلك، إذا كانت الحقوق الوطنية التى لا تقبل مساومة ولا انتقاصا، هى الجلاء التام، ووحدة وادى النيل، وتسوية المسائل الاقتصادية المعلقة بيننا وبين الإنجليز تسوية تصون حقوق البلاد وتحقق فائدتها.
فإن الإخوان المسلمين يرون أن تتقدم الحكومة المصرية من الآن بخطاب تبلغ به الحكومة البريطانية أن هيئة المفاوضة ستقوم بمهمتها على هذا الأساس ولتحقيق هذه الغايات، كما أن على المفاوض المصرى أن يقرر ذلك فى أول اجتماع للمفاوضة تقريرا صريحا، وأن يتمسك به إلى النهاية فإن أجيب إليه فقد نجح فى مهمته النجاح الكريم، وإلا فإنه ينسحب انسحابا كريما وهو فى كلتا الحالتين قد أدى واجبه مشكورا أو معذورا.
(3) وقد كان المنتظر أن يتألف وفد المفاوضة ممثلا لكل هيئات الأمة وأحزابها وفى مقدمتها هيئة الإخوان المسلمين التى تمثل ولا شك مجموعة كبرى من الشعب، وتقوم على توجيه الرأى العام فيه، ولكن الوفد أبى الاشتراك فى هيئة المفاوضات للشروط التى أعلنها، وأبت اللجنة الإدارية للحزب الوطنى الاشتراك كذلك للأسباب التى ذكرتها ورأت الحكومة أن تؤلف هذه الهيئة على النحو الذى أعلنته وأمام ذلك يقرر الإخوان أمرين مهمين.
أولهما: أن نتيجة المفاوضة يجب أن تعرض على الأمة فى استفتاء عام؛ لتقول كلمتها فهى صاحبة الحق الأول والأخير فى القبول أو الرفض.
وثاينهما: أن شعب وادى النيل الآبى لن يسمح بعد ذلك بتكرار تجربة المفاوضة بيننا وبين الإنجليز، وأن يدع السياسة الاستعمارية بعد التجارب العديدة الماضية أن تساوم أو توقع بين أشخاص الوطنيين على حساب القضية، فإما أن تنتهى هذه المفاوضات إلى نجاح وإلا فإن الشعب لن يتردد بعد ذلك فى متابعة حركته القومية بعرض قضيته على مجلس الأمن استكمالا للمراحل القانونية الدولية وبالجهاد المستمر حتى يتم تحقيقها.
فليعلم الإنجليز وليعلم الزعماء أن الشعب لن يمنحهم المفاوضة إلا هذه الفرصة فقد سئم المداورات والمحاولات التى لا طائل من ورائها.
(4) وعلى هذا فإن الإخوان المسلمين يهيبون بكل هيئات الأمة ورجالها وبالحكومة نفسها، أن يتكاتف الجميع على تغذية هذا الشعور القومى، وتنظيم الأمة تنظيما دقيقا، وإعدادها إعدادا كاملا لمواجهة نتيجة المفاوضة فإن كانت النجاح وتحقق المطالب والآمال- وهو ما نرجو أن يكون –فلن يضرنا هذا الإعداد شيئا بل هو أول ما يلزمنا فى بناء حياتنا الداخلية، وإن كانت الأخرى لم نؤخذ على غرة، ولم نؤت من غفلة والله غالب على أمره.
المصدر: جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (93)، السنة الرابعة، 8 ربيع ثان 1365/ 12 مارس