تأملات التجربة .. (تجربة معتقل سياسي)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

تأملات التجربة .. (تجربة معتقل سياسي)..... بقلم / د. ممدوح المنير

من أعظم لحظات الإنسان و هو خلف الأسوار هى لحظة نومه ، لأنها اللحظه التى يحصل فيها على حريته و لو مؤقتا أو لساعات معدودة قبل أن يصطدم ببرودة السجن أو قسوة الواقع الذى يحياه ، نعم هى لحظه رائعه ينتظرها المرأ بفارغ الصبر حنى تأتى ، فيستقبلها استقبال الولهان الظامىء!! ، ما أعظمك يارب و ما أجل نعمك علينا أن خلقت لنا هذه النعمه الجميله التى لا يستطيع الظالمين إعتقالها و لا السجان حبسها ، تخترق معها القضبان الحديدية و الأسلاك الشائكة و أبراج المراقبه و حراس السجن و لا تحتاج إلى عربة ترحيلات أو أغلال حديدية ، لتخرج و فى لمح البصر لتقابل أحبائك و تعود إلى عملك و تنام فى سريرك و تشعر بالدفىء فى أحضانك اسرتك ، يا الله ما أروع الأحلام ! ، فى غياهب السجن يصبح الحلم جزء من مشروع مقاومة الظلم و الطغيان !! ، لأنك فى هذا العالم – الأحلام – تنتصر على أعدائك وتدافع عن مبادئك و تتشفى- بالعدل - فى ساجنيك و ترى الحرية واقعا معاشا فى وطنك و لو بعد حين و لو فى الأحلام !، إن القوة التى يمنحها الحلم ما هى إلا لحظات من السعادة و كثير من الأمل حتى تسيقظ من نومك على صوت مفتاح السجان و هو يفتح الباب فى صوت مزعج و صرير عالى هو فى واقع الأمر جزء من مشهد من حياه أخرى لها قانونها الخاص خلف القضبان ‘ كثيرا ما كنت أقاوم هذه الغربة – الإستيقاظ - و أنزعج بشده حين أسمع هذا الصوت – صريرالباب – لا لأننى أريد أن أنام و لكن لأنى أفقد حريتى من جديد حين أستيقظ من حلمى !! .


السماء !!

من كثرة ما رأيناها أصبحنا لا نشعر بوجودها ، لم نعد ننظر إليها بعد أن تعودنا عليها ، كل الأنظار دائما ما تتجه إلى الأرض ، شغلتنا تفاصيل الحياه فوقها ، أما فى السجن فكان النظر إلى السماء متعة لا تعوض فهى المكان الوحيد الذى لا تحاط به الأسلاك ، فى السجن ترى كل شىء من خلال أسلاك أو قضبان ، أما السماء فهى الجزء الوحيد المحرر ! لا سلطان لأحد عليها ، لم يصل الظلم إليها و لن يصل !! ، كنت أنتظر غروب الشمس بفارغ الصبر حتى أجلس لساعات أنظر إليها و إلى نجومها اللامعة ، فى بعض الأحيان أثبت نظرى على واحدة منها و أغيب معها فى عالم آخر من أحلام اليقظة و كأنها تسحبنى بنورها إلى عالمى الذى افتقده واشتاق إليه.

أما القمر ففى بداية رؤيتى له فى السجن فكنت أضحك رغما عنى ! ، لأنى تعودت فقط أن القمر حكر على المحبين و العشاق و ليس لأرباب السجون باع و لا نصيب في هذا الحب !! ، لكنى و الحق يقال أحببته رغما عنى ! كان هو الوحيد الذى له حق زيارتنا ليلا فى الزنزانة فيصبغها بنوره الهادئ الجميل ، عندها تبدأ ليالى الأنس بالله أو برفاق الزنزانة .

كان يعجبنى فيه بشده صموده و ثباته ، كل يوم تحاول الشمس أن تغيبه عن الأنظار أن تمنع بريقه و نوره الهادى و لكنه فى كل مرة كان يثبت على موقفه ، قد يضعف فى بعض الأحيان و يصغر حجمه و يخف بريقه و لكنه حين تخف قبضة الشمس عليه يعود من جديد متلألأ مكتمل القوة و العزيمة و الضياء .

لكنى حين إنتقلت إلى الحبس الإنفرادى فى سجن آخر و حبست فيه نحو ثلاثة أشهر إفتقدت بشدة زائرا حبيبا إلى قلبى – القمر – فقد كان باب الزنزانة يغلق علىٍِِ فى الثالثة والنصف عصرا أى قبل أن أراه وحزنت أكثر لأن الزنزانة لم يكن بها شباك يطل على السماء .

أجمل شىء إفتقدته فيه هو رفع رأسى لأعلى حين أنظر إليه – القمر – و خلف القضبان أنت تحتاج أن تظل رأسك مرفوعة لأعلى و هو ما يغيظ السجان فهو يريدها دائما منكسة مكسورة و لكنى بحمد ربى ظلت رأسى مرفوعة لأنى حينها كنت أتطلع بأمل إلى رب السماء .


الحمَام !!!

أعتذر للقارئ فى البداية عن الإنتقال الصعب من السماء و القمر و النجوم إلى الحمام !! ، قيل فى الحكم القضبانية – نسبة الى ما وراء القضبان – أن الحمام نصف الحبسة ، فأن يكون هناك حمام فى الزنزانة فهذا إنجاز ضخم يستحق الله الشكر على هذه النعمة الميمونة المباركة .

و عذرا إذا كانت هذه الذكريات من ذوات الرائحة الكريهة و لكنها قصة تستحق أن تروى ! ، كنت فى أيام حبسى الأول أو قل أيام إختفائى (21يوما) أعيش فى زنزانة بلا حمام كان هناك زجاجتين واحدة لقضاء الحاجة و أخرى للشرب و كلا الزجاجتين كان فارغا و عندما طلبت ملئ إحداهما بالماء سمح لى بذلك فى كرم حاتمى قل نظيره و لكن ظهرت مشكلة أخرى أمامى أيهما مخصص لماء الشرب حتى أعيد ملأها !، حقيقة لم أعرف و إذا سألتنى ألم تستطع أن تميز الرائحة ؟ قلت لك فى الزجاجتين تساوت الرائحة وكلتا الرائحتين كريهتين !! .

د. ممدوح المنير أثناء ترحيله

عموما فى هذه الأوضاع يبدأ الإنسان فى التنازل عن بعض ما اعتاد عليه فى حياته ، فأنا معروف عنى مثلا أنى مسوس نظافة و تخيل حالتى وقتها ! ، لم يكن الوقت المتاح لى كبيرا فقمت باختيار إحداهما و نظفتها – أو هكذا أقنعت نفسى ! – و ملأتها بماء الشرب و الأخرى نظفتها بحيث تكون جاهزة لوظيفتها الأخرى التى لا داعى لذكرها ، يكفى المرة السابقة التى ذكرتها من قبل ! .

و إذا سألتنى وأين تقضى حاجتك الأخرى؟ قلت لك فى أيام الإختفاء كان مسموحا لى بدخول الحمام مرة واحدة فقط فى اليوم و لفترة قصيرة جدا لا تسمح بهذه المهمة العاجلة و الخطيرة و غالبا ما كنت أصاب بإمساك لأن السجان منذ لحظة دخولى الحمام بل و قبل الدخول يظل يتوعد و يهدد إذا تأخرت فى أداء المهمة و لكن يبدو أن جهازى الإخراجى دخل فى إضراب مفتوح عن العمل !! و دون إذن منى إحتجاجا عن سوء معاملته و بهذا أصبح الإمساك سيد الموقف !! وكان هذا عذابا فوق العذاب .

كانت هذه الرحلة اليومية من الزنزانة إلى الحمام تقضى عدة طقوس منها أن أحمل الزجاجتبن معى لأفراغهما من محتوياتهما و إعادة ملإهما من جديد ثم دخول الحمام و الوضوء ثم العودة ، أميز ما فى هذه الرحلة هى أن تتاح لك الحركة على ساقيك و لو لأمتار قليلة ، لأنه بطيبعة الحال كان الزنزانة لا تفتح أبدا إلا لأداء هذه المهمة أو للتحقيق و ما أدراك ما جلسات التحقيق !! .

و لكن للأمانة فى أيامى الأخيرة فى هذا المكان أصبح عدد مرات الدخول مرتين و سمح بزيادة المدة فى كل مرة ، أما الشىء الإيجابى فى الموضوع و هو أن المرأ كان عازفا عن الطعام لسببين أولهما مشكلة الطعام نفسه و هذا قصة أخرى و ثانيهما أن الأكل يستتبعه عمليتين فيسيولوجيتن الهضم و الإخراج و كلاهما لا يسيطرة للمرأ عليه !! ، وهذا بالطبع كان رجيم إجبارى كنت فى حاجة إليه و لازلت !!.

حين إنتقلت إلى سجن وادى النطرون كان الزنزانة يوجد بها حمام و كان فرحى بذلك عارما و بالتالى أوقف جهازى الإخراجى إضرابه و دخلت فى نوبة من الإسهال و تعمدت ألا أتناول له دواء حتى يستمر أطول فترة ممكنة و كأنى أعوض ما فاتنى طيلة الفترة الماضية ! .

حين إنتقلت إلى السجن الآخر فى منطقة طرة فيما يعرف بالتغريبة ، كان إستقبال إدارة السجن لى أكثر من رائع ، إبتسامات ودودة ، كلمات رقيقة عذبة ، كان ناقصا فقط أن يأخذونى بالأحضان و القبلات حتى أننى ظننت أنى داخل إلى فندق الفورسيزون و ليس إلى سجن ! ، و نتيجة لهذا الإستقبال الرائع إستجمعت شجاعتى و طلبت دخول الحمام ! ، و كانت الإجابة أكثر رقة و عذوبة ( لحظات قصيرة و تدخل إلى مكانك و لتفعل ما تشاء ) و دخلت فعلا و أنا هانئ النفس منشرح الصدر و أخذت أقول لنفسى يبدوا أنهم يريدون أن يكفروا عما فعلوه معى !

و أدخلونى فعلا الحمام و كان نظيفا رغم ضيقه ( 1.5 * 1.80م ) و لكنى فى حبور قلت لا مشكلة بالنسبة لحمام ، ثم كانت المفاجأة المذهلة أنى لم أدخل الحمام لوحدى !! ، و لكن أدخلوا معى حقائبى أيضا ! ثم أغلقوا الباب !! كانت صدمة قاسية للمرأ لم أتوقع أن يكونوا بكل هذا الكرم لقد طلبت فقط أن أدخل الحمام فإذا به يتحول إلى مكان أعيش فيه !! وتكتمل درامية المشهد حين تعلم أن المياه لا تزورنى عبر الصنبور إلا خمس دقائق فى اليوم و الليلة و يصل الفيلم المأساوى الذى عشته إلى ذروته حين تطفح المجارى على و أنا فيه ووضعت فى موقف حرج إما أن أتعامل مع المجارى بيدى – لا تنسى وسوسة النظافة – و إما أن أتركها تصل للمرتبة و الحقائب التى معى و كان الإختيار الأول هو القرار و يالها من لحظات صعبة و مقيتة على النفس أضف إليها ضعف التهوية الشديد مع حر الصيف الذى لا يطاق حتى إنتهت هذه الغمة وانتهت معها وسوسة النظافة إلى الأبد !! ، بطريقة علاج يستحيل أن تخطر ببال أفضل الأطباء !!.

قابلتنى عدة إشكاليات فقهية و أنا فى هذا المكان على سبيل المثال ما حكم الصلاة و قراءة القرآن فى الحمام ؟!

خاصة أننى كنت أصلى و لا تفصلنى عن حافة القاعدة سوى (5 سم ) !! أتمنى أن يجيبنى شيخ الأزهر أو فضيلة المفتى عن هذا التساؤل البرئ ! ، إستمر وجودى فى الحمام ثلاثة أيام بلياليهم حتى إنتقلت إلى مكان أفضل و أوسع بعد أن أضربت عن الطعام واعتصمت أسرتى فى مكان الزيارة بعد معرفتهم بظروف التى أعانى منها .

ملحوظة ختامية هذا المكان الذى كنت به يطلقون عليه زنزانة إنفرادى بها حمام أما أنا فأطلق عليه حمام بزنزانة ! و سبحان من له الدوام فى بداية الحبسة كنت أحمل حمامى فى يدى و فى نهايتها كنت أعيش فيه ! و الحمد لله على كل حال .


المصدر : نافذة مصر