جهود الإخوان نحو فلسطين (الحلقة الرابعة)
بقلم / أ. عبده مصطفى دسوقي ... باحث تاريخي
استمر تفاعل الإخوان المسلمين مع القضية الفلسطينية من بعد عام 1938 وأثناء الحرب العالمية الثانية باعتبارها القضية الرئيسية التي تهم العالم الإسلامي، واستمرت جهودهم في دعم ومساندة الثورة الفلسطينية سياسيًّا وإعلاميًّا وماديًّا.
لقد استمر نشاط شعب الإخوان بمختلف أنحاء البلاد في حركة الدعاية وجمع التبرعات، وكان لهذا النشاط أثر طيب في كسب تعاطف الرأي العام تجاه قضية فلسطين، وإثارة مشاعر الأخوة الإسلامية والنصرة لدى جماهير الشعب، وشهدت حملات جمع التبرعات مواقف إيجابية رائعة من أفراد الشعب على فقرهم وحاجتهم.
فلقد قام الإخوان المسلمون في القاهرة يوم الجمعة الموافق 11 ربيع الثاني 1357ه الموافق 10/6/1938م بالدعاية في المساجد لتأييد ونصرة فلسطين، وأهابوا بالمصلين أن يتبرعوا لمساعدة تلك الأمة الأبية الثائرة، فلبوا النداء، ومن القصص الرائعة التي ذكرها الأستاذ محمدي المنيلاوي: "فلا أنسى ما حييت ذلك الرجل المسلم الفقير بماله القوي بإيمانه الذي تبرع بقرش، ثم قال يخاطبني: أتعلم أني أتقاضى أجرًا يوميًّا لقاء عملي ثلاثة قروش، آكل بقرش وتأكل زوجتي بآخر وأنفق الثالث على الملبس والمسكن وسائر ضرورات الحياة. فسألته: وأي القروش الثلاثة أعطيتني؟ قال: قرش مأكلي. فدمعت عيناي، وإذا به يقول في حماسة مؤثرة: لقد دفعت قرشًا من أجل الإسلام فدمعت عيناك، وما أظن زوجتي تأبى أن تشتري دمعة طاهرة بقرش كريم.
وفي الإسكندرية "انطلق جماعة من الشباب في أنحاء المدينة يعلقون نشرات الدعاية لفلسطين على جدران المساجد، وفى كل مكان لائق.
وفي الإسماعيلية تكونت رابطة للطلبة بجمعية الإخوان المسلمين, واجتمعت برياسة الشيخ محمد فرغلي.. ولقد كان من أهم القرارات "تكوين لجان من الطلبة لجمع التبرعات لمنكوبي فلسطين، والدعاية لذلك بالنشر والإعلان.
وفي شهر سبتمبر قرر الإخوان المسلمون القيام بحملة مكثفة للدعاية لفلسطين، وجمع التبرعات لصالح المجاهدين، فأعلنت اللجنة المركزية لمساعدة فلسطين عن بدء مشروع أسبوع فلسطين، وأصدرت نداء بهذا الخصوص نشرته النذير، وكان هذا نصه:
نداء إلى العالم الإسلامي عامة والمصريين خاصة
أيها المسلمون:
في فلسطين شعب يجاهد في سبيل الله، وثورة رائعة على الظلم والاستعباد، وجهاد مقدس في ساحة الدفاع عن المسجد الأقصي أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى الرسول -عليه الصلاة والسلام, وفي كل يوم يسقط في ساحة الجهاد زهرة أبناء ذلك الشعب الأبي المجاهد، ويفتك مجرمو اليهود بقنابلهم النساء المسلمات، وعشرات من الأبرياء، ويعلق الإنجليز المشانق للمجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله.
في فلسطين اليوم يقترف الإنجليز أفظع ألوان التعذيب الوحشية بعد أن دفنت مع محاكم التفتيش، بل إنهم ليبعثونها اليوم أشد قسوة وإيلامًا بما يستعينون فيها من وسائل العلم الحديث غير متورعين عن اقترافها في الأرض المقدسة, يقلعون أظافر المجاهدين بكلاليب خاصة، ويكوون أجسامهم بالنار، ويسيرون بالتعذيب على أساليب فنية ليبلغوا من الإيلام أقصى ما يمكن أن يحتمله الإنسان، فيراوحون الشخص بين التعذيب إلى درجة الإغماء والراحة حتى يفيق ويسترد قواه، ويستمرون في مراوحة المجاهد بالعذاب أيامًا وأسابيع.
ويفتشون القرى فينزلون بأهلها صنوفًا من التعذيب ما بين ضرب بأعقاب البنادق والهراوات الغليظة، إلى إطلاق الرصاص على الأبرياء، إلى التمثيل بجثث الشهداء، حتى العرض لم يسلم من اعتداء الإنجليز، وكان اعتداؤهم مقرونًا دومًا بصور دامية من الحيوانية في أخس أوضاعها, وما حادث قرية صفورية من أعمال الناصرة ببعيد، حيث اعتدى خمسة عشر وحشًا من جنودهم على عفاف فتاة عربية صغيرة لا تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، ففضوا بكارتها بالإكراه، ثم تعاقبوا عليها حتى مزقوا جسمها، وانتهت بها وحشيتهم إلى الموت.
أما رجال الشرع الشريف فقد اعتقلوهم، وأما المساجد فقد انتهكوا حرماتها وعطلوا الصلاة فيها نتيجة لنظام منع التجول، ونسفوا بعضها، وأما القرآن الكريم فقد مزقوه بأيديهم النجسة وداسوه بالأقدام.. ألا شلت أيدٍ تمتد بالأذى لكتاب الله المنزل بالهدى ودين الحق.
ولما كانت الأخوة في الله تفرض على المسلمين واجبًا مقدسًا: هو أن يعلنوا في جرأة وصراحة وإباء أنهم على أتم استعداد لبذل ما وهبهم الله -تعالى- من أرواح وأموال وجهود في سبيل نصرة شعب قام يجاهد في سبيل الله مسطرًا بجهاده النبيل صفحات رائعة في سجل المجد الإسلامي.
لذلك قررت اللجنة المركزية لمساعدة فلسطين بدار الإخوان المسلمين تنظيم أسبوع لفلسطين الشهيدة يبدأ من يوم الإسراء المبارك 27 من رجب سنة 1357ه الموافق 22 سبتمبر 1938م سيحوي برنامجه توزيع طوابع قرش فلسطين، وسيعلن عن البرنامج التفصيلي فيما بعد -إن شاء الله.
وإنا لنهيب بالمسلمين عامة والمصريين خاصة أن يتطوعوا منذ اليوم جنودًا للأسبوع لنجعل منه مظهرًا رائعًا من مظاهر الأخوة في الله، وإعلاء كلمة الحق.
وتطلب استمارات التطوع ابتداء من دار الإخوان المسلمين (5 ميدان الملكة فريدة)، وإن الإخوان ليرحبون بالمسلمين المتطوعين ليرفعوا معًا ألوية الله في يقين وحماسة وإيمان. الله أكبر ولله الحمد.
ولقد كتب الإمام البنا تحت عوان "في 27 رجب.. إلى الإخوان المسلمين":
"أيها الإخوان، بين هذه التنقلات الدائمة في مدن الصعيد المبارك وقراه أذكركم من كل قلبي بيوم فلسطين يوم 27 رجب.
فلسطين الباسلة المجاهدة الشهيدة تدعوكم:
بلسان المسجد الأقصى المبارك.
وبلسان الشهداء من أبنائها المجاهدين.
وبلسان أراملها الطاهرات وأطفالها الأبرياء الذين جنت عليهم القوة الغاشمة والجبروت الظالم فأصبحوا ولا عائل لهم ولا سند.
وبلسان هذا العدوان الصارخ من الصهيونيين شذاذ الآفاق وحثالة الشعوب.
وبلسان الأخوة الإسلامية التي تجعل من المسلمين جسمًا واحدًا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
فلسطين الباسلة المجاهدة الشهيدة تدعوكم لتثبتوا وجودكم، ولتظهروا غضبكم، ولتقدموا مساعداتكم حتى يعلم الغاصبون الطامعون أن المسلم لن ينسى أخاه، ولن يقصر في واجبه.
ابعثوا بالاحتجاجات الكتابية، وألفوا اللجان، اجمعوا الإعانات، تنازلوا عن النعيم والترف يومًا واحدًا في سبيل فلسطين، وابعثوا بما تقتصدونه وتجمعونه من الأهالي إلى "اللجنة المركزية لمساعدة فلسطين بدار الإخوان المسلمين" لتبعث بالأموال المجموعة إلى الأرامل والأيتام من أبناء المجاهدين.
وإن اللجنة لتنتظر منكم بيانًا وافيًا بأسماء أعضاء لجان فلسطين الفرعية، وبالوسائل العملية الإيجابية التي ستساعدون بها إخوانكم المجاهدين في يوم الإسراء المبارك. احذروا أن تقصروا فتندموا أشد الندم، وتسألون عن ذلك في الآخرة. وفق الله المسلمين لخيرهم، وتحرير أوطانهم، واستعادة مجدهم.
ولم يقتصر جهد الإخوان على ذلك بل أرسلوا البرقيات ورفعوا المذكرات للملك والحكومات المختلفة.
كذلك كانت المظاهرات والمسيرات إحدى صور النشاط السياسي التي قام بها الإخوان دعمًا لقضية فلسطين المسلمة، وكان الغرض منها توعية الرأي العام وإثارة اهتمامه تجاه قضية فلسطين، ومواجهة روح السلبية والانعزال الموجودة لدى أفراد الشعب، والضغط السياسي على الحكومات القائمة ودفعها لاتخاذ موقف إيجابي تجاه القضية، والدعم المعنوي للمجاهدين في فلسطين وإشعارهم بالاهتمام والتعاطف الذي تلاقيه قضيتهم من إخوانهم في مصر، فقد قام [الإخوان] بمظاهرات في 14/6/1938.
كما أقام الإخوان بإقامة الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج والتذكير بقضية فلسطين، كما عقد المؤتمرات مثل المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين والذي عقد في 13 ذو الحجة 1357 الموافق 2 فبراير 1939م والذي جاء فيه: وإنا لنبعث لسماحة المفتي الأكبر من فوق هذا المنبر أخلص تحيات الإخوان المسلمين، وأطيب تمنياتهم، ولن يضر سماحته ولن يضير آل الحسيني أن تفتش دورهم، ويسجن أحرارهم، فذلك مما يزيدهم شرفًا إلى شرفهم، وفخارًا إلى فخارهم، ولقد كان للإخوان موقف من مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد في لندن عام 1939م كما رفض الإخوان المسلمون الكتاب الأبيض شكلاً وموضوعًا، فاعترض الأستاذ البنا على إصدار بريطانيا لهذا الكتاب دون مشورة أحد من الزعماء ورؤساء الحكومات والوفود العربية المشاركة في المؤتمر، كما أرسلت شعب الإخوان برقيات احتجاج على الكتاب الأبيض. كما تبارى شعراء الإخوان في عرض القضية بشعرهم فقد قال عبدالحكيم عابدين:
- فإن لم تجيبوهم فما الناس أنتم
فما المسجد الأقصى ولا الحرم الذي
- فدوه حماهم وحدهم لو علمتم
براء رسول الله من كل مسلم
- يضن ببذل المال يومًا عليهم
كما استطاعت اللجنة العربية العليا لفلسطين أن تسجل المآسي التي يتعرض لها شعب فلسطين على يد الإنجليز، وكونت منها مادة خصبة لكتيب سمته: "النار والدمار في فلسطين الشهيدة"، وأرسلت هذه المادة إلى الإخوان المسلمين حيث طبع هذا الكتيب ليلاً، وفي سرية تامة في مطبعة الإخوان المسلمين، كما ًأصدر الإخوان عدد خاص من المجلة بمناسبة أسبوع فلسطين.
ولقد عمد الإخوان المسلمون إلى تصعيد المواجهة السياسية والاقتصادية مع يهود مصر المؤيدين للصهاينة، حيث اتسم موقفهم إزاء الصراع العربي الصهيوني في فلسطين بعدم الوضوح.
تابعت صحافة الإخوان تطورات الموقف البريطاني من القضية الفلسطينية، وكان لها مع تصريحات الساسة البريطانيين المتوالية والتي تكشف عن حقيقة السياسة البريطانية الانتهازية في فلسطين وقفات جادة، وحفلت المجلة بالمقالات والتعليقات التي تتناول تلك التصريحات والمواقف بالتحليل والتعليق، فيكشف صالح عشماوي في مقال له حقيقة التحالف البريطاني الأمريكي لدعم الصهيونية سياسيًّا وعسكريًّا فيقول: "نرى في وضوح أن الصهيونيين في أمريكا وإنجلترا وجنوب إفريقيا يعملون جادين على انتزاع فلسطين العربية وجعلها وطنًا قوميًّا لليهود.. ولم يكتفوا بالكلام، بل أخذوا يجمعون التبرعات ويفتحون الاكتتابات لجمع المال، ولم يقف الأمر عند حد نثر المقال وجمع المال، بل نظم اليهود صفوفهم في تشكيلات عسكرية وجمعيات إرهابية.
و أدرك الأستاذ المرشد أن الحكومة المصرية والحكومات العربية حكومات ضعيفة هازلة متخاذلة بل متواطئة، وأن ليس في البلاد العربية جيوش سوى الجيش المصري، ولكن هذا الجيش من الهزال والجهل وعدم الخبرة بحيث لا يقوى على مواجهة عصابات اليهود المدربة المسلحة بأحدث أسلحة الإنجليز والأمريكان، والتي تحارب عن عقيدة مستمدة من دينهم.
أدرك الأستاذ المرشد هذا أيضًا فكان ذلك حافزًا على سرعة الاستعداد بتكوين "النظام الخاص" والذي أنشأ لهدفين التصدي لممارسات المحتل البريطاني في مصر، ولتصدي ضد العصابات الصهيونية في فلسطين.
ولقد احتج الإخوان على التصريحات السياسية الأمريكية المؤيدة للصهيونية، يقول الإمام البنا: لقد كان لتصريح الحزب الجمهوري والديموقراطي بأمريكا الذي أذاعته الصحف حديثًا حول فلسطين، وتشجيع فكرة الوطن القومي للصهيونية دون قيد ولا شرط، وفتح باب الهجرة لليهود على مصراعيه رنة أسى واستنكار وصدى استياء وارتياع في جميع أرجاء العالم العربي والإسلامي، ولا عجب فإن قضية فلسطين ليست قضية أهلها وحدهم، وإنما هي قضية مصر والعروبة والإسلام، بل قضية عقيدة تهوي إليها النفوس، وتزهق لها الأرواح، وهي كذلك قضية إنسانية تقوم على دعائم الحق والعدل، وتهتز لها مشاعر الإنسانية، وتثور أحاسيسها.
وسواء أكانت هذه التصريحات صيحات انتخابية عارضة، أم مقاصد حقيقية مدبرة، فإننا نحن الإخوان المسلمين باسم الشعب المصري والشعوب الإسلامية لنرفع عقائرنا محتجين على هذا التصريح المشئوم الذي تنادي به أمريكا اليوم، متحدية به شعور أربعمائة مليون مسلم، ومتخطية ميثاق الأطلنطي، وما ينطوي عليه من وعود وعهود وآمال وأحلام.
ولقد اهتم الإخوان المسلمون بأمر المقاطعة الاقتصادية لليهود كأحد جوانب الحل العملي لقضية فلسطين.
في الحلقة القادمة نتعرف على جهود الإخوان والاستعداد لحرب 1948م ، ثم نتبعها بالرد على المشككين.
المصادر
1- عبد الحليم محمود: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، دار الدعوة 1999م.
2- سلسلة أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، جمعة أمين عبد العزيز.
3- سلسلة من تراث الإمام البنا، البصائر للبحوث والدراسات.