حول موضوع الجزية وأهل الكتاب (7)
بقلم : د. محمد عبد الرحمن ... عضو مكتب الإرشاد
نشير باختصار إلى بعض النقاط الهامة فى هذا الموضوع :
• أهل الكتاب المتواجدون فى الدولة الإسلامية والتابعون لها، يشكلون أمة واحدة مع المسلمين، وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة ووجد بها اليهود، وأرسى العقد السياسى الذى تقوم عليه هذه العلاقة.
• أن لهم حق المواطنة والمعاملة بالمثل : فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، كما نص على ذلك الفقهاء .
• والأصل فى علاقتهم بالسلطة والحكومة الإسلامية، هو الرعاية والحماية، وحسن التعامل والنصح لهم والعدل والإنصاف والبر، فهم فى ذمة وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من آذى ذمياً أو معاهداً أو انتقص منه فأنا حجيجه يوم القيامة "، وهذه العلاقة أًصبح لها قدسية خاصة عند الأمة الإسلامية، فهى جزء من رسالتها.
• ولهم حق تنظيم طوائفهم الدينية واختيار رؤسائهم الدينيين – ومن يمثلهم دون تدخل من السلطات .
• ولهم حرية ممارسة شعائر العبادة الخاصة بهم، وأغلب الكنائس فى بلاد المسلمين لم تجدد أو تُبن إلا فى ظل الحكام والخلفاء المسلمين وكما قال الليث بن سعد : أن الكنائس الحالية – وقتها – فى مصر كلها بنيت فى عهد الإسلام .
• ولهم قانون الأحوال الشخصية الخاص بهم، ولا تقام عليهم الحدود فى الأمور الشخصية الخاصة بدينهم مثل شرب الخمر واكل لحم الخنزير .. الخ أما إذا احتكموا إلينا فى مثل هذه الأمور فنلتزم بحكم الشرع فيها.
• كما لهم نفس الحقوق السياسية، ما عدا أمور قليلة خاصة بتكاليف شرعية إسلامية لا يقوم بها إلا المسلم، مثل: رئاسة الدولة ومناصب الولاية العامة (وفق التعريف الفقهى لها )، حيث أن عليه واجبات دينية تشترط الإسلام للقيام بها، ومنها إمامة المسلمين فى الصلاة وحراسة الدين والدعوة إلى نشره، وفى غير ذلك كانت لهم المساواة مع المسلمين فى تولى المناصب .
• ومفهوم المواطنة يأتى وفق قواعد الدستور الإسلامى وليس ضدها.
• ومع حق المواطنة والمساواة مع المسلمين، فإنه لا تؤخذ منهم الزكاة،ولكنهم يتساوون مع المسلمين فى باقى الضرائب والمعاملات، ولهم نفس حقوق الرعاية المطلوبة من الدولة تجاه مواطنيها.
• أما بالنسبة لموضوع الجزية، فإن آية سورة التوبة التى ذكرت الهدف من هذا الجهاد لأهل الكتاب وغيرهم من الطوائف، فهو الخضوع والتسليم لحكم وسلطان الدولة الإسلامية فإذا قبلوا ذلك وتم، أصبح لهم حق المواطنة فى هذا البلد مع المسلمين، يعتبرون شركاء مع المسلمين، وأصبحوا فى ذمة رسول الله وذمة المسلمين (كما أوضحنا فى السطور السابقة)، وتاريخياً تم هذا فى مصر دون إكراه.. ومن مظاهر هذا التسليم والقبول هو دفع هذه الضريبة الخاصة، مقابل الدفاع عنهم وحمايتهم، وهى ضريبة صغيرة رمزية تؤخذ من القادرين على القتال من الذكور.
• فإذا عجزت الدولة عن الدفاع عنهم، ردت لهم هذه المبالغ، وإذا رأت الحكومة الإسلامية لتحقيق المصلحة أن تستعين بهم فى أمور الدفاع وتشركهم فى تلك المنظومة، ورضوا هم بذلك دون إكراه، لم تؤخذ منهم وهو الواقع الحالى، والأمر فى تطبيقه فى عصرنا هذا فيه هذه السعة، فمن شاء منهم ألا يدخل التجنيد الإجبارى على المسلمين، فعليه دفع هذه الضريبة الصغيرة ليعفى منه، ويجوز دفعها إجمالاً مقدماً أو مقسطة عند الإعفاء من التجنيد، وإذا كان غير قادر مالياً على دفعها أعفى منها لعدم القدرة، وإذا رأوا تسميتها بلفظ غير ذلك فهذا جائز وقد حدث فى عهد سيدنا عمر بن الخطاب .
• أما اشتراط البعض – أو نجد من يطالب – أن نترك أحكام الإسلام وشريعته والحديث عن ديننا، ونتخذ منهجاً وشريعة علمانية حتى لا نسيء إليهم وحتى تتحقق الوحدة الوطنية حسب فهمهم المزعوم، فهذه الزعم تعدى وافتئات على دين أغلبية الشعب واختياره، وظلم لا يرضى به أى عاقل أو منصف وتضييع لأصل الدين .
• وإذا كانت بعض الآراء الفردية الفقهية، تميل للتشدد فى مجال العلاقة مع غير المسلمين، فإن الرأى الغالب فى الفقه الإسلامى على غير هذا التشدد، وتتضح روح الشريعة ومنهاجها القويم فى هذا المجال من خلال سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فى التعامل مع أهل الذمة والحرص عليهم وحسن رعايتهم.
• والانتماء والانتساب للدولة والمجتمع الذى تنظمه شريعة الإسلام يكون بالنسبة للمسلم ديانة وعبادة بالإضافة إلى أنه وطن وجنسية، وبالنسبة لغير المسلم، يكون أيضاً وطناً وجنسية، وبذلك يندمجون فى نسيج وطنى واحد دون الإكراه على الدين أو الإساءة إليه أو الانتقاص منه، فهم فى ذلك سواء مع المسلمين، ومن مصلحة المجتمع أن يكون هناك المسيحى المتدين بدلا من الانحراف والإلحاد أسوة بسواء مع المسلم المتدين .
• إن قيمة الإنسان فى الدولة الإسلامية واحدة، وله كرامته وحقوقه، ويتم التعامل معه بميزان واحد، وإن اختلفت مناهجهم ودياناتهم، والقاعدة العامة هى المساواة أمام القانون.
• لكن فى بعض مظاهر الممارسة الاجتماعية والسياسية، هناك بعض الخصوصيات التى ترتبط بالدين وأصوله، ولا يجوز إلغاؤها، فلهم تشريعات خاصة بأحوالهم الشخصية وإباحة لأشياء تحرمها الشريعة الإسلامية والقانون الإسلامى، وتحريم لأشياء عندهم تبيحها الشريعة الإسلامية، ولهذا يجب أن تراعى وأن تترك لهم الحرية فى ذلك ولا يرغمون على مخالفة ما يمسّ ويخص عقيدتهم بحجة المساواة والوطنية، وكذلك للمسلمين بالمجتمع أصول وواجبات مستمدة من شريعة الإسلام، تحدد واجبات للإمام والحاكم وآليات للتشريع، لا يجوز تركها أو التغاضى عنها بأى حجة وإلا اعتبروا مقصرين ومتجاوزين فى حق دينهم .. وهذه المراعاة للدين وأصوله، ميزانها واحد وتساوى فى اعتبارها والأخذ بها بين المسلمين وغير المسلمين.
• وكذلك المنهج الذى يختاره أغلبية الشعب ويدينون به، فإنه يسرى على الجميع وفق منطق الديمقراطية الحديثة.
• والإسلام فى هذا المجال ليس فى حاجة للدفاع عنه، فأحكامه واضحة عادلة، أما إحساس البعض بالضعف أو الخلل فى الفهم أو الحرج من أحكام الإسلام أو عدم استيعابها وفهمها بشمولها، فهذا ليس حجة على الإسلام، ولا يشعرنا بالحرج أو الضيق أو يجعلنا نتنازل عن شريعة الإسلام، بل نعتز به ونباهى العالمين بسموه وكماله.
• وقد وضح الإمام الشهيد رأيه فى هذه المسألة تماماً، فيقول :
"ولسنا نحب أن تمر هذه الكلمات عن موقف الإسلام من الحرب قبل أن نتناول أمر الجزية بكلمة توضح معناها والمقصود منها وتكشف عن حكمتها وكيف أنها أبلغ معانى الإنصاف والرحمة التى جاء بها الإسلام، فنقول : "الجزية" ضريبة كالخراج، تجبى على الأشخاص لا على الأرض، والكلمة عربية مشتقة من الجزاء لأنها تدفع نظير شيء، هو الحماية والمنعة أو الإعفاء من ضريبة الدم والجندية.
ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين فى البلاد التى يفتحها نظير قيام الجند الإسلامى بحمايتهم وحراسة أوطانهم والدفاع عنها فى الوقت الذى قرر فيه إعفاءهم من الجندية فهى "بدل نقدى" لضريبة الدم، وإنما سلك الإسلام هذا السبيل ولجأ إليها مع غير المسلمين من باب التخفيف عليهم والرحمة بهم وعدم الإحراج لهم حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا فى صفوف المسلمين فيُتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء والتعريض لمخاطر الحرب والقتال، فهى فى الحقيقة "امتياز فى صورة ضريبة ."..
ومقتضى هذا أن غير المسلمين إذا دخلوا فى الجند أو تكلفوا أمر الدفاع أسقط الإمام عنهم الجزية، وقد جرى العمل على هذا فعلاً فى كثير من البلاد التى فتحها خلفاء الإسلام، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية فى كتب ومعاهدات لا زالت مقروءة فى كتب التاريخ الإسلامى" [من مقال للإمام الشهيد فى مجلة الشهاب 1947 ضمن سلسلة مقالات تحت عنوان "أصول الإسلام كنظام اجتماعى" .. أعيد طبعها فى كتيب بعنوان "أصول الإسلام والنظام الإجتماعى" – صـ 66، صـ67، دار التوزيع والنشر الإسلامية.