خمس دقائق وحسب !.. تسع سنوات في سجون سورية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
خمس دقائق وحسب ! تسع سنوات في سجون سورية (ديسمبر 1980ديسمبر 1989)


تأليف: هبة الدباغ


الفصل الأول : خمس دقائق و حسب

خمس دقائق وحسب

كانت ليلة الاربعاء الحادي والثلاثين من ديسمبر عام 1985 ليلة بالغة البرودة في دمشق . . وفيما هجع أكثر أهل البيت وغبن في عالم الأحلام ، كنت وقد دنا منتصف الليل لا أزال أطارد السطور المتراقصة على كتاب الفقه وأجهد في استيعاب المعلومات استعدادا لامتحان اخر السنة صباح الغد . . والنعاس والبرد واغراءات الفراش الوثير تطاردني بدورها وتشتت قدرتي على التركيز بين الحين والحين . . لكن هواجس أشد كانت تصرفني عن ذلك كله ، ومخاوف تنبعث من أعماقي بلا وضوح تجذبني هنا وهناك . . وتدفعني لاسترجاع صور الأيام الماضية وسجل ذكرياتي بشيء من القلق والرهبة والتوتر . . كانت أموري في كلية الشريعة طوال العام على ما يرام . . أو لعلها كانت كذلك حتى أنهيت الفصل الأول وعدت إلى حماة مدينتي أزور أسرتي وأقضي فترة العطلة بين الأهل والأحباب . . فخلال ذلك فاجأتني والدتي بطلب من أخي صفوان يلح علي وعليها أن أترك الدراسة وحتى البلد وأذهب إلى عمان عاصمة الأردن حيث يقيم منذ شهور هربا من ملاحقة الحكومة له بتهمة الإنتساب إلى تنظيم الإخوان المسلمين ونقلت أمي رحمها الله عن صفوان عندما التقته بنفسها هناك في عمان مخاوف تنتابه من أن يقوم رجال الأمن باعتقالي نيابة أو رهينة عنه . . لكنني لم أجد في نفسي مبررا لإجابته ، ولا عهدت في حياتي احتمالات كتلك ، فاعتذرت لأمي . . وأكملت إجازتي كالمعتاد . . وعدت إلى دمشق ثانية مع ابتداء الفصل الثاني . . لأستأجر مع عدد من البنات نفس الشقة التي اخترناها في الفصل الأول في حي البرامكة . .

وأستأنف دوام الجامعة من جديد ، وكدت أنسى الأمر كله لولا أن التوتر الأمني بدأ يتصاعد من حولنا ، ومظاهر المسلحين وحواجز التفتيش التي اعتدنا مشاهدتها خلال الشهور الماضية في حماة بدأت تظهر في العاصمة دمشق ، لتمتد إلى محيط الحرم الجامعي نفسه . . ويفاجؤنا عناصر الأمن على باب الكلية يطلبون البطاقات ويدققون في الأسماء . . وتنتشر الهمسات وتسري الإشاعات عن اعتقال فلان وقتل اخر واشتباك وعراك . . وما لبث الأمر أن زاد إلى العلانية . . وصار سماع رشقات الرصاص وانفجارات القنابل أمرا شبه يومي في دمشق . . وبلاغات الإذاعة وواجهات الصحف الرسمية ما عادت تكف عن أحاديث القبض على " المجرمين " ومداهمة "أوكارهم " وملاحقة عناصرهم هنا وهناك . . وفي زحمة ذلك كله . . وقد امتد التوتر إلى كل نخس وسرى الرعب في كل قلب . . بدأت أحس حركة غير طبيعية بالقرب مني أنا !


الله بيعين !

كنت على سبيل المثال قبل يومين قد اصطحبت صديقتي المقربة وزميلتي في الكلية ماجدة ل . إلى سوق الحميدية لنشتري هدية ملائمة لعمتي المريضة ، فشعرت وكأن ثمة من يتبعنا من محل إلى محل ومن شارع إلى آخر . . فلما ركبنا الباص إلى "الخيم " حيث تسكن عمتي تأكدت أن الشخص نفسه قد ركب وراءنا فتملكني الخوف جدا . . وهمست وأنا لا أكاد أقدر على تحريك شفتي بمخاوفي لماجدة . . فتبسمت وقالت : أنت موهومة وحسب ! وصباح هذا اليوم . . وعندما كنت أدخل الكلية كالعادة استوقفني عناصر الأمن فأخذوا بطاقة هويتي ودققوا فيها كما يفعلون كل يوم ثم أعادوها . . لكنني ولما انتهت المحاضرات وقفلت راجعة إلى البيت مع ماجدة شعرت ثانية وكأن أحدا ما يلحق بنا . . فلما أخبرتها بما أحس عادت فأكدت لي أنني موهومة . . وأن الأمور كلها طبيعية من حولنا ولا داعي للقلق .

لكن القلق ها هو لا يزال يتملكني . . وسكون الليل البارد كأنما يزيده فيه ويؤججه . . ولم يطل الأمر بي أكثر من ذلك بعد ذاك . . فخبطة أبواب السيارات المفاجىء في الشارع أسفل منا . . والجلبة التي تميز وصول رجال المخابرات مكانا ما ، كانت كافية لتطرد كل وهم عن ذهني ، وتدفعني وقد حسبت أن مداهمة جديدة أو اعتقالا لأحد المطلوبين سوف يشهده الحي الذي نحن فيه . . تدفعني لأهرع إلى النافذة أشع الخبر وأستجلي الحقيقة ، لكنني لم أكد أبلغها حتى بلغ مسمعي طرق على باب بيتنا أشد ما يكون . .

وبينا كنت ألقي نظرة خاطفة من النافذة فألمح عددا أصعب من أن أحصيه ساعتها من سيارات المخابرات تملأ الشارع . . أتاني الصوت على باب البيت يصيح : إذا لم تفتحوا فسنكسر القفل بالرصاص ! وبحركة آلية تناولت غطاء صلاتي فوضعته على رأسي وركضت باتجاه الباب بادئ الأمر . . لكنني لم أعرف ما أفعل ! أأفتح لهم والبنات كلهن نائمات ؟ أصابني الإضطراب بالحيرة . . ثم وجدتني أهرع إلى فاطمة أكبرنا سنا وهي معلمة تشاطرنا السكن ، فأيقظتها أولا وأنا أقول لها بلا وعي : -هيا . . كأن المخابرات أتوا عليك ! ثم لمح في خيالي أن شريكة أخرى في البيت معنا اسمها سوسن س .

(خريجة كلية طب الأسنان وتكمل سنتها التدريبة في دمشق ) قد نفذوا حكم الإعدام بأخيها صباح اليوم في سجن تدمر كما بلغها وأبلغتنا ، فظننت أنهم إنما أتوا من أجلها . . خلال ذلك كان رجال المخابرات قد بدأوا بخلع الباب والضرب عليه بالبواريد ، فأسرعت فاطمة إلى حجابها فوضعته على رأسها وفتحت لهم . . ودخلوا يا لطيف ! شيء غير معقول ! قفز واحد منهم إلى السقيفة فورا يفتشها . . واندفع اخر إلى الشباك . . وثالث في المطبخ . . ورابع . . وعاشر . . ولم نجد إلا أحدهم يقتحم الغرفة علينا ، وما أن رأى مصحفا معلقا على الجدار حتى انتزعه ورماه على الأرض وصار يدوسه بقدميه كالمهووس . . فيما راح اخرون ينبشون أمتعتنا وينقبون كل زاوية في خزائننا ونحن لا نكاد نستوعب لماذا أو ما الذي كانوا عنه يبحثون ! وفي غمرة المفاجأة سمعت واحدا منهم يصيح من الصالة : -وهيبة دباغ . فتقدمت وكأنني ألج كابوسا مرعبا بالرغم عني وقلت له : ما عندنا هذا الإسم.

لكن قلبي انقطع من الرعب ، وتأكدت ساعتها أنهم أتوا علي . . فقال لهم رئيس المجموعة : -أرجعوا كل واحدة إلى غرفتها وفتشوا الهويات .

فامتثلنا للطلب . . ودخلنا غرفنا ونحن نرتعد . . وتقدم عنصر مني وكأنه عسكري في الخدمة - ليفحص هويتي ، فلما نظر إلى اسمي فيها ثم إلى وجهي اغرورقت عيناه بالدموع ، وقال بتأثر وهو يبكي : -أنت بنت بلدي . . والله يعين .

سألته : لماذا ؟هل هناك شيء ! أجاب : الله بيصبر . . ماذا يمكن أن تفعلي ؟ الله بيعينك . سألته وكأنني أهوي في بئر مظلم : لماذا ؟ هل أتوا من أجلي ؟ قال وهو يشيح بناظريه عني : نعم . . وذهب وأعطى الهوية لرئيس الدورية الذي كان ينادي "وهيبة دباغ " . . فنظر هذا إلي بحنق وقال : - بتقولي بكل عين وقحة أنه لا يوجد لديكم هذا الإسم ! والتفت إلى عنصر اخر وقال له : - خذها إلى غرفة لوحدها وفتشها جيدا


قهوه . . أم شاي !

أخذني العنصر إلى غرفة ثانية وأخذ واحدة أخرى من البنات وقال لها : فتشيها.. قلت له : ماذا يمكن أن تجد معي ؟ لقد فتشوا البيت كله وفتشونا منذ أن دخلوا . . لكن صوت رئيس الدورية كان يغطي على صوتي المرتجف وهو يتحدث باللاسلكي مع شخص اخر سمعته يقول له : أحضروها . فقال لي : هيا ارتدي ملابسك. ستذهبي معنا خمس دقائق وحسب

لبست جلبابي فوق غطاء صلاتي ، وكانت معي بعض النقود فأردت أن أعطيها لصديقاتي ، فقال لي : لا . . دعيهم معك فربما تحتاجينهم .

قلت وقد بدأت أستعيد بعض توازني : لن يلزموا لي ، أنت تقول خمس دقائق فكيف سأحتاجهم ؟ لكنه عاد وأكد أنني سأحتاجهم ، فلم أكترث بما قال ، ودفعت النقود لإحدى البنات بقربي ، فيما وجدتهم يدفعونني إلى الخارج ورئيس الدورية يقول لأ حد العناصر : -أمسكها من يدها . كان الدرج معتما والكهرباء مقطوعة فما رضيت أن يمسك لي يدي . قال : هذا أمر . قلت له : كلبشني ولا تمسك يدي .

فتركني أنزل حتى باب البناية ليعود فيدفعني نحو باب سيارة كأنما هي غول فتح فاه ينتظر افتراسي ! وسمعت أحدا يسأل باللاسلكي من جديد: من معها في الغرفة ؟ أجاب : فلانة وفلانة. قال : أحضروهم معها . فصعد ثانية وأحضر شريكتي في الغرفة ماجدة وملك غ .

ولم تلبث السيارة أن تحركت وسط جمع من رجال المخابرات انتشروا على طول الشارع ، وأطلت سياراتهم المرعبة من كل زاوية ومفرق طريق . . وفي غمضة عين وجدنا أنفسنا قرب ملعب تشرين بالعباسية في فرع المنطقة المسمى "السادات ". . وهناك أدخلونا إلى غرفة مملوءة بأجهزة كهربائية فيها أضواء كثيرة حمر وخضر تشتعل وتنطفئ باستمرار كأنها أجهزة اتصالات أو لاسلكي . . وما أن جلسنا حتى سألنا أحد العناصر الموجودين فيها: -ماذا تشربون . . قهوة أم شاي ؟

ولما لم ننبس من خوفنا ببنت شفة تطوع بالإجابة عنا وقال : - ساتي لكم بقهوة مرة لتصحوا رأسكم . . وذهب فأحضر فنجانا لكل منا وجلس يراقبنا ، فلما لاحظ أننا لا ندنيها من أفواهنا سأل : - لماذا لا تشربين ؟ هيا صحي رأسك . . الساعة الآن الثانية وأنت نعسانة بالتأكيد . قلت وشفتاي ترتجفان : أنا أشرب . قال : لا . . أنا شايفك .

قلت له : وهل تراقبني ؟ لا أشتهيها الآن . قال بسخرية : لازم تشربي ليصحى رأسك وتعرفي تحكي جيدا . كففت عن الكلام . . وأدنيت الفنجان من فمي وتظاهرت بالشرب . . وكنت أعود فأدنيه ثم أعيده وجسمي كله يرتجف . . وأنا لا أدري ما الذي يمكن أن يحدث في اللحظات التالية !


إلى التحقيق !

لم يطل المقام بي في الغرفة الأولى كثيرا فما هي إلا دقائق حتى سمعت مناديا يهتف باسمي ، وسرعان ما اقتادني عنصر اخر إلى مكتب رئيس الفرع نفسه ، وهو كما علمت بعدها ابن أخت رئيس الدولة واسمه معين ناصيف .

دخلت هناك فوجدت رجلا عيناه جاحظتان وحمراوان كالدم ، يرتدي "جلابية" شفافة ورقيقة ويلف رجلا على رجل فتنكشف ساقاه من تحتها بشكل مقزز . اجلسي هنا . قالها لي بلهجة بادية الخشونة وأضاف قبل أن أبلغ الكرسي الذي يتوسط الغرفة فيكشفني من كل جانب : أنت منظمة أليس كذلك ؟ قلت : لا.

قال : إذا فما علاقتك بالإخوان ؟ قلت : لا توجد لي أي علاقة بهم . قال وقد.بدأ يتململ في كرسيه : وإذا فكيف تقومين بتوزيع كل مجلات النذير ؟ ثم هذه الرسالة من أين أخرجناها ولمحت بين أصبعيه ورقة صغيرة عرفت أنها الرسالة التي كان أخي صفوان قد كتبها قبل مغادرته سورية كتوصية بأبي عندما ذهب الأخير مع شقيقي الأكبر إلى عمان للعلاج هناك بعدما أصابه مرض انحلال الدم إثر ملاحقة صفوان حزنا وخوفا عليه ، ولكن مسؤولي الحدود أعادوهم وقتها لأن أخي لم يكن قد أدى خدمته الإلزامية ، وأحببت أن أحتفظ بالرسالة كذكرى من أخي . . فلما فتشوا البيت عثروا عليها وكان مكتوب فيها "حامل هذه الرسالة هو والد أحد المجاهدين فاعتبروها شيئا كبيرا ، وجعل رئيسى الفرع يقرأ لي منها بسخرية ويقول : - والد أحد المجاهدين أليس كذلك أبوك هذا عامل نفسه إشتراكي وهو من زعماء الإخوان . . لكن أنا بعرف أفرجيه . . والله لأعمل جسده مصفاية ! وظلت هذه العبارة محفورة في ذاكرتي حتى سمعت عن أحداث حماة بعد سنوات . . وعلمت أنهم عذبوا أبي أشد العذاب قبل أن يرشوه أكثر من مرة ، حتى صار جسده كالمصفاة بالفعل !


وضاع الدليل !

أنا لست منظمة ولا من الإخوان . قلتها وقد سرت القشعريرة في جسدي خوفا على أبي وعلى نفسي . قال : وماذا عن الرسالة ؟ قلت : لا أعرف . . ربما نسيها أحد هناك أو وضعها لي أحد . وكأنما أراد أن يلج إلى غايته من مدخل اخر ، فجعل يقلب الملف الذي بين يديه وسأل : من تعرفين من أصدقاء أخيك ؟ - لا أحد . . لم أر أخي من زمن ولا علاقة لي بأصدقائه ؟ قال وقد اشعت عيناه : وماذا عن عبد الكريم رجب ؟ قلت : من هذا . . لا أعرفه . فعاد إلى الصراخ من جديد وصاح بي : إذا فلن تعترفي أنك منظمة .

قلت : لا . .أنالست منظمة فكيف أعترف بذلك ؟ فتناول "شحاطته " من قدمه ورماني بها ، لكنني تنحيت برأسي قليلا فتجاوزتني وأصابت الكاتب ورائي . . فقال وهو يشتمني : - وتقولين أنك لست من الإخوان . . هذه التصرفات كلها تصرفات إخوان ! ثم عاد يتحدث عن الرسالة ويلوح بها أمام وجهي . . ولم يلبث أن غادر الغرفة لبرهة فظننت أنه ذهب ليأتي بجلاد أو أحد ما ليعذبني ، فلما عاد أراد كأنما أن يريني الرسالة أو يستخدمها من جديد ، فجعل يقلب بين مجموعة أوراق كانوا قد أخرجوها من سلة المهملات ببيتنا ، وقاموا بكيها وتلصيقها جميعا أملا في أن يجدوا بينها دليل إدانة ضدي ، فلما لم يجد الرسالة سأل الكاتب ورائي : - هل دخل الغرفة أحد ؟ أجاب الكاتب بانتباه : لا سيدي .

قال له : هل تحركت هذه ال . . من مكانها ؟ هل غادرت أنت الغرفة؟ أجابه ثانية : لا . فجعل يقلب وينقب أمامه وحوله وبين يديه فلم يجد شيئا . . وضاعت الرسالة أين . . لا أدري ! فازداد التآمه وعلا صراخه ، وجعل يهددني بعبارات بذيئة ويقول : - رفيقتك هنا في الملف أمامي اعترفت بأنك منظمة ، وإذا لم تعترفي بنفسك فلدينا مايجعلك تفعلين ! قلت له وقد جرحتني الكلمات البذيئة واستفزني التهديد : مهما كان لديكم من وسائل فأنا لست منظمة . . وسأبقى أقول أنا لست منظمه


سجل الاتهام

أخرجوني من غرفة التحقيق إلى غرفة كالأولى التي استقبلتنا مملوءة بأجهزة مشابهة كلها أضواء ملونة دائمة الوميض . . وأخذوا صديقتي ماجدة إلى غرفة رئيس الفرع . . ولم أكد ألتقط أنفاسي حتى عادوا فنادوني وأخذوني إليه من جديد ، لأجد قائمة بالإتهامات تنتظرني تكفي أن توزع على ثلاثة رجال أنت متهمة بأنك منظمة : توزعين مجلة النذير ، وتعطين دروسا لسيد قطب في مساجد دمشق ،وقمت بشراء بيت للتنظيم ، ونقلت سيارة ذخيرة فيها جهاز إعلامي بنفق في منطقة المهاجرين . . وهناك اعتراف ثابت من واحدة من صديقاتك بكل ذلك . . ورفيقتك هذه متأكدة تماما من كل المعلومات وهي تعرفك جيدا ودرستك وعاشرتك ولا تكذب أبدا .

هي كاذبة ، وأنا ليست لي علاقة بما قالت ولم أفعل أي شيء أو أشارك بأي مما ذكرت . قلت ذلك وقد بدأت الأمور تتضح في ذهني بعض الشيء ، واستطعت من ثنايا كلامه أن أدرك أن شخصا بعينه قد نقل هذه الوشايات لهم وملأ ملفي بكل هذه الأكاذيب . . الشخص الذي طالما كنت أسمع تحذيرات عنه رغم أن عيناي لم ترياه طوال حياتي . . إنه عبد الكريم رجب : جاسوس المخابرات والمتعامل معهم من داخل صفوف الإخوان . . أو دسيستهم داخل الصفوف ! تشجعت لهذا الذي وصلت إليه ، وأدركت أنها تهم رخيصة أراد أن يملأ بها الصفحات وحسب ، وازددت إحساسا مع كل الظروف بالثقة . . فلم أجب تهديدات المحقق رئيس الفرع وهو يكرر علي من جديد : -إذا لم تعترفي يا . . . فلدينا ما يجعلك تعترفين !


في انتظار الإعدام !

إلى الغرفة الغامضة أعادني عنصر من المخابرات بأمر من المحقق ، ولم يلبث وأن أحضر رفيقتي ملك لتنضم إلي ، وكانت المسكينة في أيامها الأولى بدمشق وفي أول سنة لها بالكلية معي ، فلم تكن تعرف لا عن البلد ولا من الأشخاص أحدا غيري . . وبعد أن أودعانا تحت رقابة العنصر في الغرفة أخذوا ماجدة وبدأوا معها التحقيق . . فلما انتهى دورها عاد فطلبني وقد مض من الليل أكثره وأعاد نفس الكلام علي : -

رفيقتك الأولى يقصد عبد الكريم رجب اعترفت عليك اعترافا أوليا ، وهذه ماجدة اعترفت الان بنفس الكلام ، وقالت بأنك منظمة ومسلحة وقمت بأعمال كثيرة للتنظيم وتوزعين مجلة النذير . . ومن غير أن ينتظر جوابا مني أمر عنصرا فأخرجني من الغرفة واقتادني إلى الممر ثم وجهني باتجاه الجدار وأمرني أن أرفع يدي وإحدى رجلي إلى أعلى . . فقلت في نفسي : خلاص . . ها هم أكملوا صياغة التهمة لي . . والان سيرشوني أو يعدموني !

وما هي إلا برهة حتى وجدت رفيقتي ملك بجانبي يأمرها العنصر أن تفعل مثلي ، فازداد إحساسي أنهم سوف يرشوننا لا ريب ، ولم أعد أحس ساعتها بنفسي . . كان كل شعوري مركزا حول النهاية التي دنت . . وكيف ستكون : رشا من الخلف أم إعداما بالمشنقة أم ماذا ؟ وكأنني وقد تملكني الشعور بتحقق المنية استجمعت بقايا جلدي والتفت "بحلاوة الروح " إلى العنصر المكلف بمراقبتنا فسألته : - لماذا أوقفتمونا بهذا الوضع . . ما الذي فعلناه ؟ قال بلا مبالاة : أنتم تعرفون ماذا فعلتم . قلت : تقصد أنهم سيعدموننا ! أجاب هازئا : لا . . هل تظنين الإعدام يأتي بهذه السرعة والسهولة !


إلى الفلق !

مرت نصف ساعة أو ربما أكثر ، فالوقت في مثل هذا الموقف لا معنى له . . أدخلونني بعدها على غرفة الأجهزة وأمروني أن أجلس فجلست . . ولم يلبثوا أن أحضروا ملك فأجلسوها على كنبة أمامي في مواجهة الباب الذي كان مفتوحا بعض الشيء ، فما كادت المسكينة تلامس الكنبة حتى نامت . . ولم تعد تحس بشيء . . وأنا أكاد من توتري أتقطع ، وصوت ماجدة في غرفة التحقيق يبلغ أذني مرة ويغيب مرة . . فلا أدري ماذا تقول ولا أعلم أي نوع من العذاب الآن تنال . . وألتفت إلى ملك وأهمس وبودي أن أصيح لتسمع : -ملك . . ملك . . حاولي فقط أن تنظري من طرف الباب وتعلمي ما الذي يجري . . . ولكنها في غفوتها لا تجيب ! وظلت على هذه الحال حتى الصباح أراقبها وأحاول أن أحادثها ولا فائدة ، وأنا على أعصابي لا أستطيع حتى أن أستقر على الكرسي تحتي ، وقد اجتمع علي النعاس والتعب والخوف معا . . وبين كل فينة وأخرى عنصر قادم وأخر عائد . . هذا يلقي سؤالا بلا معنى واخر يكتفي بالنظر والتبسم . . حتى أطل أحدهم مع إطلالة الصباح يسأل : - هل تريدون أن تفطروا ؟ ألم تجوعوا؟ قلت له :لا. قال : ماذا تشربين ؟ أجبت : لا شيء . . شكرا .

قال : سأتي لك بكأس شاي تصحين به رأسك . وذهب فأحضر الكأس ووضعه أمامي ، ولكنني لم أستطع من توتري وتعبي أن أدنيه من شفتي . . وعندما بلغت الساعة الثامنة دخلوا من جديد فأيقظوا ملك ، وأخرجونا إلى تحقيق جديد في القبو هذه المرة ، وبينما هم ينزلوننا درجات السلم قلت هامسة لملك : - اخ . . الان سيأخذوننا إلى الفلق لا محالة ! فانتفضت المسكينة تقول : لا تقولينها ! قلت : ومن الذي قال لك أن تنامي طوال الليل ؟ لماذا لم تسمعي ماذا قالوا لماجدة ؟ كنا استفدنا بعض الشيء أو فهمنا ما الذي سيحدث .


أنا . . ضد الوطن !

عبر ممر كئيب في القبو أخذوني إلى غرفة أخرى للتحقيق وجدت في صدارتها وجها جديدا هو الرائد تركي . . أجلسني على طرف سرير عسكري في طرف الغرفة وجعل على مدى نصف ساعة تقريبا يعيد تلاوة نفس الاتهامات علي بشكل سؤال وجواب ، ويدونها في سجل معه . كنت من تعبي وإرهاقي لا أستطيع متابعة كلامه أو حتى فتح عيني . . فكنت أكبو قليلا ثم أنتبه فأشد نفسي . . وعندما كان يبلغني صوته الأجش بعربيته الثقيلة أحس وكأن أمعائي توشك أن تخرج كلها من فمي . . فلما انتهى كان أملي الوحيد في كل الدنيا وقتها أن أجد ولو بلاطة ألقي عليها جسمي المنهك وأنام . . لكن العنصر عاد واقتادني عبر الممر نفسه إلى غرفة أخرى في القبو وجدت فيها ضابطا اخر برتبة رائد استقبلني من فوره بعبارات بذيئة وكلام قذر . . واللهجة العلوية واضحة عليه . . واستمر حوالي الساعة يسمعني العبارات ذاتها : - أنت من الإخوان . . وأنت منظمة اعترف الجميع عليك . . وأنت قمت بأعمال كثيرة تضر بالوطن ولا تستحقين أقل من عقوبة اللإعدام . . كان كلامه أقرب إلى شريط تسجيل منه إلى الحديث . . يعيده بحرفيته ويكرره فلا أميز انتهاء المقطع من بداية مقطع جديد إلا من اختلاف الشتيمة أو تغير عبارات السخرية والإستفزاز . . ووجدتني وكأنما تحول رأسي إلى جرس كبير يقرع هذا الرجل عليه كل لحظة بكلماته فيرتج ولا يستقر . . وتتكرر فيه العبارات فيزداد اهتزازا وضجيجا : - الجميع اعترف عليك . . الجميع اعترف عليك . . أنت منظمة . . ضد الوطن . . إلى الإعدام . . إلى الإعدام . . إلى الإعدام ! وكأنما غبت عن الوجود اخر الأمر ، فما وجدتني إلا وعنصر اخر يدخل الغرفة وملك وماجدة في طرف اخر منها ويسأل : - ألم تجوعوا يا بنات ؟ قلناله : لا ،لم نجع . فرد بلهجة ذات مغزى : الآن سنطعمكم فروجا مشويا على أية حال ! قلت له وقد فهمت أنه يقصد التعذيب : نحن بغنى عن طعامكم .

جذبنا نحن الثلاثة ، ووجدتهم يقتادوننا عبر الممر نفسه فالسلم حتى بوابة الفرع ، ولما سألته وقد دب في القلق من جديد : - إلى أين ؟ قال : الان سترون .

أصعدونا في سيارة عسكرية نحن الثلاثة قبالة بعضنا البعض ، وصعد عنصران مسلحان وراءنا ، ولم تلبث السيارة أن انطلقت بسرعة مجنونة كأنما تريد أن تقفز فوق بقية السيارات التي كانت تخلي لها الطريق من بعيد ، وأمامنا سيارة أخرى تطلق الصفير المدوي ، وثالثة من خلفنا للحماية أو المراقبة . . ولم نكد نبدأ مع انعطافات السيارة العنيفة في الصعود والهبوط حتى تملك ملك الدوار وأخذت في الإستفراغ ، فملأت السيارة من مخلفات جوفها ، وجعلتنا ونحن في حالتنا المبكية نكاد نختنق ، فأملنا رأسها للوراء باتجاه الباب الخلفي بين العنصرين ، فجعلت تكمل تقيؤها بينهما طوال الطريق ، من فرع التحقيق العسكري بالعباسيين إلى سجن أمن الدولة بكفر سوسة.



الفصل الثاني : كفر سوسة : رحلة خارج الزمن (يناير 1981 - أكتوبر 1982 )

كفر سوسة : رحله خارج الزمان

عبرت السيارات الثلاث بوابة السجن العامة مضيا نحو المبنى الرئيسي الذي انتصب أمامنا بطوابقه الثلاث ، والتفط السائق حوله بين ممرات ومداخل معقدة حتى بلغ بابا كهربائيا توقف بنا عنده ، واجتذبتنا الأيادي مرة أخرى فاقتادتنا عبر ساحة المبنى الداخلية إلى باب اخر تنزل خمس درجات منه إلى القبو المعتم ، فإذا هو عالم اخر من عوالم الرعب التي قطعناها خلال اليومين الماضيين عن غير ما اختيار .

مضت الأيدي القاسية عبر ممر القبو المظلم فالتفت بنا جهة اليسار وليس في طريقنا إلا الصمت والأ بواب الحديدية الكئيبة ووحشة المكان ، ولم يلبث أن قطع لهاثنا المتدفق صوت أجش أتانا من وسط العتمة ينادي : -منيرة! فما كدنا نلمح المنادي حتى بدت من الجهة المقابلة في اخر الممر فتاة مضفورة الشعر ترتدي "جلابية" شاعت موضتها وقتذاك ، وجعلت تتقدم نحونا متمايلة يوحي مظهرها أنها سجانة أو موظفة هناك . . فلما اقتربت ومن غير أن يلتفت إلينا قال لها أبو عادل رئيس نوبة السجانين وقتذاك : - هيا فتشيهن واحدة واحدة .

ودفع بي أول الجميع إلى غرفة علمنا بعدها أنها غرفة التحقيق والتعذيب ، ودخلت منيرة هذه ورائي وسألتني ؟ - ما اسمك ؟ قلت وقد بلغ التوتر بي مبلغا : وماذا تريدين من اسمي ؟ أحسست وقتها أن بامكاني أن أقتلها من شدة توتري بيدي . . لكنها قالت ببرود : -وليش معصبة؟ .

قلت : والله لا أدري ! ماذا تريدينني أن أفعل ؟ هل يمكن للإنسان أن يكون مبسوطا هنا ! أجابت بنفس برودها ورتابة صوتها : بس لا تعصبي . . أنا سجينة مثلك. قلت بحدة : لماذا تكذبين على ؟ شكلك هذا ليس كشكل السجينات .

قالت : والله العظيم أنا سجينة وقاعدة في مهجع مملوء بنسوان من الإخوان . لم أجرؤ أن أزيد معها وظننتها سجانة تريد أن تستدرجني في الكلام خاصة وأنها تتحدث بالقاف العلوية ، لكنها عادت وقالت لي : ما صدقتيني ؟ بكره بنلتقي بالمهجع وبذكرك .

أحسست لهجة صدق في حديثها فاستأنست بعض الشيء وسألتها دون أن أغادر الحذر : - ومن معك من الإخوان هناك ؟ قالت : هناك واحدة حاجة من حلب وأخرى اسمها أم شيماء و جلست تعد لي أسماء وألقاب لا أعرفها وأضافت : وأنا الشيوعية الوحيدة في المهجع والبقية كلهن من الإخوان فتشتني منيرة بعد ذلك ، وفعلت الشيء نفسه مع ماجدة وملك بالتتابع ، وكان العنصر في انتظاري حينما انتهت ، فأخذني وأصعدني ثانية من القبو ، واقتادني عبر سلالم وممرات عديدة إلى المبنى الجنوبي للفرع ، ليبدأ التحقيق معي حسب الأصول !


بين يدي الجلاد !

كان كل ما حولي يثير الفزع والإضطراب : هذا داخل وذاك خارج . . باب يقفل واخر من أين لا أدري يفتح . . وكل قادم أو عابر يحمل بيده جهاز لاسلكي أو كبلا أو أداة أخرى للتعذيب . . وفي البداية أدخلوني على مكتب رئيس الفرع ناصيف خير بك ، فأحسست وكأنني انتقلت إلى عالم اخر . . فالغرفة واسعة دافئة أنيقة التأثيث ، يمتد السجاد الفاخر على أرضهما بمهابة وقد توزعت عليه كنبات وثيرة ومكتبة ومكتب فاخر يحتل تمثال لرأس الرئيس الأسد ركنا منه ، بينما ينتصب في زاوية الغرفة القصوى تمثال برونزي آخر لرأس الرئيس بالحجم الطبيعي .

وأما المقدم ناصيف الذي كان منهمكا بمحادثة لاسلكية وقتها فلم يعرني أكثر من نظرة ازدراء بطرف عينه ، وأومأ للعنصر أن يعيدني إلى مكاني وأكمل حديثه . . ولم ألبث أن اقتادني ذاك ثانية إلى غرفة أخرى مقابل مكتب ناصيف ، فوجدت مجموعة أشخاص مجتمعين على شاب مقيد يعذبونه ويحققون معه ، وناصيف ممسك جهاز اللاسلكي بيده يتحدث فيه مرة ومع الشاب المسكين والعناصر مرة .

ولم يلبث أن أشار بيده إلى العنصر الذي أحضرني فجذبني ذاك من منكبي وأمرني أن أنتظر خارج الغرفة من جديد ، وأنا كالنائمة لا أكاد أقدر على متابعة المشاهد المتجددة والوجوه المتعاقبة والأصوات التي تختلط الشتائم فيها بالإستغاثات والآهات ! وسرعان ما عاد العنصر فأدخلني الغرفة ذاتها لأحضر تعذيب الشاب نفسه لعلي أخاف وأتكلم ما يريدون .

كانوا أربعة أو خمسة يشتركون في التعذيب أمامي بالكابل والعصي والخيزران والكهرباء : ناصيف خير بك رئيس الفرع ، والرائد عبد العزيز ثلجة وهو رجل ضخم الجثة بالغ الجلافة ، وعناصر آخرون كان أحدهم لم يبلغ العشرين بعد مجندا من درعا كما عرفت لاحقا ينادونه حسين ، ولم أعرف من كان ذاك الشاب ولماذا يعذبونه ، لكنه كان يصيح طوال التعذيب ويستغيث مناديا : - والله العظيم موأنا . . ثم اعترف اخر الأمر لا أدري ليتخلص من مزيد من العذاب أم لسبب اخر فأقرأنه قتل أحد الضباط . . وعندما اشتد التعذيب عليه وكاد صراخه يصيبني بالإنهيار التفت إلى العنصر معي وسألته : -لماذا أتيتم بي هنا ؟ قال بسخرية : لا أعرف . . إسأليهم.

قلت بانفعال : لا أريد أن أسألهم ولكن أنا ما عندي شيء لأعترف به ويضعوني في هذا الموقف فأتفرج على تعذيب الناس . ولم يزد العنصر عن أن هز كتفيه وابتسم متهكما وهو يقول : -لا أعرف . . لا علاقة لي بأي شيء هنا ! واستمر الضرب والتعذيب حوالي نصف الساعة أنهضوا الشاب بعدها مضرجا بالدماء والكدمات فكبلوا يديه ورجليه ، وفيما اقتادني العنصر وراءه لأكمل كما يبدو رؤية المشهد ، سحب الرائد ثلجة الشاب إلى رأس الدرج ، ثم ركله برجله بكل قسوة ، فتدحرج هاويا يئن ، ونادى على أحد ما هنالك لينزله إلى المنفردة في القبو أسفل المبنى ، وعاد فأمر العنصر ليدخلني إلى الغرفة مرة أخرى ، فأوقفني في زاويتها ، وجعل ناصيف وثلجة يتحدثان باللاسلكي لا أدري مع من ، ثم خرج الجميع فجأة ، ليعود الرائد ثلجة وحده ويغلق الباب كهربائيا بضغطة زر ، فاستوى الباب بالجدار حتى لم أعد أدري من أين دخل ولا أين كان هذا الباب . . ومن غير أن يلفظ أي كلمة أو يسألنى أي سؤال لم أحس إلا وصفعة مفاجئة تأتيني على حين غرة اصطدم رأسي من عزمها بالجدار وارتد ، وصارت الدنيا تدور كلها في ، وصرت أرى الرائد أمامي أربعة أشخاص معا ، وأرى رأسي أسفل مني ورجلاي فوق الرأس وفوقي ! لم يزد عن أن قال : - انظري . . إذا ما بدك تحكي ما بتعرفي ما الذي سيحصل لك .


بساط الريح !

خروج الرائد ثلجة برهة لم أكد أتمالك فيها نفسي حتى عاد مع ناصيف ورئيس الدورية التي أحضرتنا من البيت وشخص رابع لم أعرف من كان . وابتدرني ناصيف يقول : -وليك . . شو ما بدك تحكي ؟ ما بدك تقري وتدلينا فين أخوك ؟ قلت له :أخي ليس هنا . قال : إذا أين هو ؟

قلت : لا أعرف الظاهرأنه ذهب ليكمل دراسته . وواقع الأمر فإن أخي صفوان كان قد أخبر أمي عندما زارته في الأردن وقال لهما : إذا سألك أبي أين أنا فقولي له ذهب ليكمل دراسته في الباكستان .

تذكرت ذلك بمجرد أن سألني عنه ، ولم أكن أدري وقتها بأن أمي كانت معتقلة في نفس السجن معي ، وأنه سألها قبل دقائق عن أخي فأجابت الجواب نفسه ، والتقى كلامي مع كلامها في هذه النقطة ، الأمر الذي أعفاني من التعذيب على ذلك السؤال ، ولكنه سألني بلؤم : -أنت تعرفين بأن أخاك هنا ، وسوف تأخذيننا وتدليننا عليه ، أو على رفاقه والبيت الذي يجلسون فيه .

قلت : لا أعلم أي شيء من هذا . . فنادى على أحدهم وقال له : إذهب وأحضر لها بنطالا وأعطها إياه خليها تنستر وضعها على بساط الريح .

تقدم العنصر مني وطرحني على لوح من الخشب له أحزمة طوق بها رقبتي ورسغي وبطني وركبي ومشط رجلي ، ولما تأكد من تثبيتي رفع القسم السفلي من لوح الخشب فجأة فبات كالزاوية القائمة ، ووجدتني وأنا بين الدهشة والرعب مرفوعة الرجلين في الهواء وقد سقط الجلباب عنهما ولم يعد يغطيهما إلا الجوارب والسروال الشتوي الطويل ، ولا قدره لي على تحريك أي من مفاصل جسمي . . وبكل وقاحة صاح العنصر يقول : - انظر سيدي .. أرأيت ؟ قالت إنها ليست من الإخوان . . ولكن انظر كيف أنها منهم ومجهزة نفسها للفلقة ولا حاجة لها للبنطلون ! حاولت دفع أي من القيود الجلدية عن مفاصلي فما استطعت . . وقبل أن أحاول إعادة لوح الخشب إلى استقامته طلبا للستر كانوا قد علقوه من جنزير مثبت به إلى السقف ، وتقدم رئيس الدورية التي اعتقلنا وبيده خيزرانة طويلة رفيعة وسألنى بلهجة تهديد صريح : -شوما بدك تحكي ؟

قلت :ليس لدي أي شيء لأحكيه . في نفس الوقت كان الرائد ثلجة فوق رأسي يجهز مولدا كهربائيا مربع الشكل موصولا بالفيش وله يد يدار بها وملاقط قربها مني وأطبقها فجأة على أصابع يدي . . وفيما هوى ذاك بالخيزرانة على بطن رجلي أطلق هذا شحنة من الكهرباء سرت كالنار في بدنى ، فقال دون أن يلتفت لصرختي : -هه إلسه مابدك تحكي ؟ صرخت : قلت لكم ماعندي شيء للحكي .

قال ببرود : أرأيت كم كانت الكهرباء قوية؟ هذه أخف الموجود لدينا! قلت : حتى ولو كان ، هل أعترف بأشياء أنا لم أفعلها ! قال : لا . . أنت تكذبين وتخبين علينا . . بدك تقومي الآن تأخذينا وتدلينا على البيت الذي يسكن فيه أخوك ورفاقه والا فسنأخذك إلى تدمر ! وأقبل ثلجة هنا بصورة قربها من وجهى وسألنى : - هل تعرفين هذا الشاب ؟ قلت :لا. قال : كيف ؟ ألا تعرفين رفاق أخيك ؟ قلت :لا.

قال : لكن هذا رفيق أخيك الحميم . . هذا عبد الكريم رجب . . ألا تعرفينه ؟ قلت بحزم وقد تأكدت لي الوشاية الرخيصة التي حيكت لي : لا . . لا أعرفه . تبسم الرائد ثلجة ابتسامة صفراء وشرع يقرأ من مجموعة أوراق بين يديه بعين ، وعينه الأخرى تتاج انفعالات وجهي : - هبة الدباغ : منظمة مع الإخوان وتتعامل معهم . . اشترت لهم بيتا ، وتعطي دروسا لسيد قطب في مساجد دمشق و . . صرخت بانفعال وأنا أسمع قائمة الإتهامات الكاذبة للمرة الألف : كذب . . كذب . . لا أعرف أي شيء تتحدث عنه .

دس الرائد ثلجة الأوراق بوجهي وهو يقول : -ألا تري ؟ هذا كله مكتوب هنا . . كله من اعترافات الرجب . . هو الذي تكلم عنك بهذا ، وهو من الإخوان مائة في المائة ويعرف عنك كل شيء ولا بدوأنك تعرفينه أيضا . . عدت إلى قولة كلا . . وعاد التعذيب من جديد ، وصار رئيس الدورية يضرب قدمي بكل عزمه ، حتى أصبحت الخيزرانة عندما تهوي عليهما تشق الهواء بصوت كالصفير ، وجاء عنصر آخر بخيزرانة ثانية وجعل يشارك معه الضرب ، فيما عاد عبد العزيز ثلجة فقبع فوق رأسي وجعل يكوي أصابعي بالكهرباء من جديد .

كان الألم أشد من أن يوصف . . وكنت في البداية أصيح : يا الله . . لكنني لم أعد أستطيع اخر الأمر أن أخرج صوتي ، فصرت ألوح برأسي فقط ولم أعد أحس بشيء . . ووجدتهم بعد عشر دقائق تقريبا من الضرب المتواصل يتوقفون فجأة ، ومع الشتائم والعبارات البذيئة طرق سمعي عبارة : - إلى تدمر! وسرعان ما انفكت القيود عن مفاصلي ، وسحبني عنصر من غرفة التعذيب عبر الممرات والسلالم ثانية إلى سيارة متوقفة عند الباب ، ففوجئت برفيقتي ماجدة قد سبقتني إليها بحراسة عنصر آخر . أركبانا معا ولكنني لم أجرؤأن أتحدث معها بشيء . . وانطلقت السيارة بحركة مسرحية إلى أن بلغت الباب الخارجي ، فسألنى من جديد : -لسه ما بدك تحكي ؟ أحسست وكأن أعصابي المشدودة تصيح كلها معي بصوت واحد : -ما عندي أي شيىء أحكيه . . أنا لا علاقة لي بأحد . . هل تريدون أن أكذب عليكم فقط ؟

هل تريدون ! توقفت السيارة ، ولم يلبث السائق أن عاد بنا إلى المبنى من جديد، وأعادوني مرة أخرى إلى التعذيب . . وعادت نفس الأسئلة والإتهامات تطرح علي ، لكن الضرب والتعذيب اشتد أكثر ، وزاد عدد المشاركين بتعذيبي حتى لم أعد أستطيع أن أعرف عدد من حولي أو عدد المحصي والخيزرانات التي تهوي على رجلي . . وبدأت أرى الغرفة كلها عصيا وخيزرانات . . والناس فيها من كثرة أسئلتهم كالضفادع تنق وتنق بصوت واحد غامض . . فلم أعد في النهاية أجيب على أحد ! وأتاني صوت الرائد ثلجة من جديد

يقول : - ها . . أنت إذا مسلحة . . انظروا إليها . . تدعي البراءة وتنفي أنها منظمة وهي ليست من الإخوان وحسب . . ولكنها مسلحة أيضا! أحسست أن تهمة أكبر تلفق لي هذه المرة فصرخت بعصبية : لا . .أنا لا علاقة لى بأحد . . وأنا لست مسلحة . قال : ولكن رفيقتك ماجدة هي التي قالت ذلك عنك .

قلت : لا تصدقها . . أحضرها لتقول ذلك أمامي . . ربما قالت ذلك من خوفها حتى تنجو من الضرب . قال : لا . . رفيقتك لا تكذب . . هى أصدق منك . . تكلمت عن كل شيء وما تعذبت ، وأنت أذا لم تتكلمي فستبقي تأكلي ضربا حتى تحكي .

وتقدم ثلجة من جديد نحوي وبيده بطارية كهرباء وضعها على فمي مباشرة وقال بلهجة التهديد : -الن تتكلمي ؟

قلت : ما عندي شيء أحكيه . . مهما وضعت لي الكهرباء أو أطعمتني ضربا فما عندي شيء أحكيه ولن أكذب على نفسي .

وهنا صاح ناصيف بضجر : - هيا أنهضها وأعطها ورقة لتكتب ما لديها من معلومات وسنرى بعدها . والتفت نحوي مهددا

يقول : -إذا لم تتحدثي بكل شيء هذه المرة فاعلمي أن لدينا عناصر الواحد منم كالوحش يسد الباب . وأضاف : - هل تعرفين ألشوايا الديرية كيف يكون شكلهم ؟ إذا لم تعترفي فسأدخلهم عليك وسنرى بعدها !


الموت راحة المؤمن !

أنهضوني عن "بساط الريح " فوجدت نفسي مبللة من غير أن أشعر، وكنت كأنما أغمي علي أثناء التعذيب فدلقوا علي سطل ماء حتى أصحو . تلفت حولي كالسكرى فرأيت الغرفة خلت تقريبا من الناس ، وأدركت من خلال نافذة كانت فوق رأسي أن الدنيا قد أصبحت ليلا ، فقدرت أن ساعتين أو ثلاث انقضت علي وأنا في التعذيب ! وبينا أنا لا أزال أحاول استعادة توازني جاء أحد العناصر بورقة وقلم وجلس أمامي يقول : - انظري . . إذا حكيت فستساعدي نفسك ، وإلا فستطمسي أكثر مما أنت طامسة . قلت له : ماعندي أي شيء أحكيه . قال : لا أحد يأتون به إلى هنا وما عنده شيء . . ولا أحد يصل هنا إلا إذا كان مذنبا . قلت له : ولكن أنا ليس لدي أي شيء .

قال : أنت حرة . وأعطاني استمارة معلومات عامة عن دراستي ومدارسي ثم عن علاقتي بتنظيم الإخوان . . أجبت بما أعرف وأعطيت الورقة للعنصر فذهب بها ، ولم يلبث أن عاد الرائد ثلجة يلوح بها وملامح الغضب بادية على وجهه وهو يصرخ في : - هل هذه أجوبة تلك التي أجبت بها يا أخت ال . . . واندلقت كل الشتائم والعبارات البذيئة دفعة واحدة من لسانه وكأنها كانت تنتظر فرصتها للإفلات وفى آخر عبارة أطلقها سمعته

يقول :أنت تعرفين هذا البيت الذى يسكن فيه أخوك ورفاقه وبدك تدلينا عليه الآن لكن أنا أعرف لماذا لا تريدين ذلك . . تريدين أن تماطلى بالوقت حتى يهربوا اوسجل دون أن أرد عليه بعض الكلمات على الاوراق التى معه وخرج ولم يلبث أن عاد وقالو خرج ، ولم يلبث أن عاد وقال : - إذالم تتكلمي فسننزلك إلى القبو ،والقبو إذا نزلت إليه لا تخرجى منه حتى تموتى قلت له : أحسن. . الموت راحة المؤمن !

قال بغيظ :وتجيبين بكل وقاحة وكل عين يخرب بيتك الم تحسي كم أكلت من قتل ؟ ألا تفكري في أن ترحمى نفسك وتعترفى لتخلصى من هذا العذاب.

قلت له :لكن أنا ليس لدي أي شيء حتى أعترف به . . قلت لكم ماعندى شىء  : في تلك اللحظة دخل ناصيف خير بك من وسمعنى أقول ذلك جديد للرائد ثلجة ،فابتدرني بتكشيرة ونظرة مرعبة وقال والشتائم البذيئة تسبق كلماته- إذا الم تعترفي بكل شيء الان .. مباشرة . .فسوف أعريك من ثيابك صحت وقد هزني التهديد:لكن انا ما عندي شيء احكيه . قال بلهجة الأمر:إخلعي جلبابك .وقفت هنا ونظرت إليه والخوف الحقيقي يغمر قلبي لأول مرة . ل قال ألا تريدين أن تخلعيه؟ أنا سأخلعه لك. وتقدم مني فمد يده يريد أن يفك أزرار الجلباب فما وجد شيئا .

ففي تفصيلة ذلك الجلباب كانت الأزرار مخفية ، فحول يده وأنا أحاول مدافعته إلى رأسي لينزع حجابي فلم يستطع . . أمسكني من شعرى تحت الحجاب وكان طويلا وقتها وملفوفا للخلف أمسكني منه وبدأ يشده فينجذب رأسي كله من غير إرادة مني إليه ،ثم يعود ويخبطه بالجدار . .وسيل الشتائم البذيئة يرافق ذلك كله ،لكنه لم يتمكن رغم ذلك من نزع الحجاب لأن غطاء الصلاة كان قد نزل في أكمامي عندما لبست الجلباب فوقه ساعة الإعتقال . .

فصاح بي : وتقولي عن نفسك أنك لست من الإخوان وثيابك كلها ملتصقة ببدنك التصاقا والجلباب أزراره سرية ومخفية ومجهز اخر تجهيز! .

ومع استمرار صمتى وسيل الشتائم منه نادى أحدهم ليعطيه الكبل أو الخيزرانة ليجدد ضربي . . ووقتها كانت قدماي قد تورمتا من الضرب ولم يعد بإمكاني لبس الحذاء، فقال وهويتناول ماطلب :لا تريدين الكلام ؟ أنا سأريك " وتقدم ليبدأ ضربي ، فركضت بعفوية منه والتجأت وراء الطاولة فركض ورائي . . وبدأت أركض وأدورحولها وهويركض ورائي ليمسك بى ويصيح : يخرب بيتك كل هذا التعذيب والضرب ولازال فيك روح لتنطي وتركضى ونادى الحاجب وقال له : أمسكها من عندك فلما تقدم العنصر وأمسكني صاح ناصيف فيه : خذها . . خذها تنقلع من وجهى . . خذها إلى المنفردة . . لا أريد أن أراها أكثر من ذلك. لم أصدق أن حفل التعذيب قد انتهى ولم أعي مامعنى أن أذهب الى المنفرده إلا عندما دفع العنصر حذائى الى وجذبنى خارج الغرفه وجعل يقودنى عبرالسلالم والممرات ثانية نزولا هذه المرة وهو يقول لى: لماذا؟ لماذا لم تتكلمي ؟ أما كان ذلك أفضل لك ؟ كنت على الأقل رأفت بحالك . . أنظري كيف انتفخ وجهك وازرقت يداك وتورمت رجلاك وأكلت قتل الدنيا حتى لم تعودي تستطيعين أن تلبسي حذائك .

قلت : ما عندي شيء أحكيه . وأضفت وقد فاض بي الأمر ولم أعد ألقي بالا لكلماتي : الله لا يعطيهم العافية هؤلاء الظلام . . لكنه وكأنما كان يؤدي دورا مرسوما لم يلتفت لعبارتي وأكمل يقول : لكن لو أنك كذبت عليهم كنت خلصت حالك.

قلت :- أنا لا أكذب وأعلم أن الذي يصدق هنا أو يكذب فنتيجته واحدة .

سألنى بدهاء: وكيف عرفت ذلك ؟

قلت : - لأنهم لم يصدقونني . . قلت لهم الحقيقة فلم يصدقوا فكيف سيفعلون إن أنا كذبت عليهم ! كنا قد وصلنا باب القبو أخيرا ، فوجدت حسين . . العنصر الذي كان يشارك قبل قليل في تعذيب الشاب في الأعلى يطل علينا بوجه مظلم وقد فتح فمه على ابتسامة سخرية تكشف سنا مقلوعة فى الوسط فكأنها نافذة في بيت خرب . . استقبلني وبيده كبل يتلوى مثلما تلوت كلمات الترحيب الساخر على فمه وهو يقول : -أهلا . . أهلا وسهلا . . والله نورت !


قن الدجاج !

أمسكني حسين من كتفي وأنزلني الدرجات الخمس إلى أسفل ، واقتادني من جديد عبر الممر المعتم إلى ثاني زنزانة منفردة في ممر آخر لا يكاد يبدو آخره ، وقال وهو يشير إلى الداخل -هذا مكانك . . غرفتك العامرة . . وان شاء الله نومة هنية ! أحسست بالنفور من الظلمة ووحشة المكان وكنت لا أزال متوترة الأعصاب جدا فقلت بلا وعي : - لا والله . . لا أدخلها أبدا ! قال وهو يدفعني إلى الزنزانة بغلظة : -إي بدك تدخلي بكسر رأسك .

التفت إلى أبواب الغرف الأخرى فلمحت صديقاتي زميلات السكن معي يطللن بوجوههن من طاقات الزنازين التي وزعوهن عليها ، فركضت نحوهن وأنا أصيح : فاطمة . . فلانة . . فجذبني بقوة وهو يقول : تعالي . . تعالي . . هل تظنين نفسك في فندق أو في زيارة ! وفجأة سمعت من آخر الزنازين (رقم 24 ) صوت أمي التي يبدو أنها سمعت صوتي أيضا فبدأت تدعو عليهم بصوت عال وتصيح : -هؤلاء حريمات تتقوون عليهن يا ظلام . . ما عندكم رحمة ! والله أنا طول عمري أسمع أنه لا رحمة في قلوبكم ولكنني أرى ذلك الآن بعيني ! بهرتني المفاجأة . . وركضت ثانية باتجاه مصدر الصوت وأنا أصيح بدوري : -أمي هنا ؟ الله يخرب بيتكم . . ماذا تفعلون بها ؟ إخوتي صغار وأبي مريض . . ولا حول جميعا لهم ولا قوة .

فناداني حسين وهو يقهقه بسخرية : -وما حاجتنا لأبيك وإخوتك ؟ نحن نريد أمك فقط ! وذهب فأغلق نوافذ المنفردات جميعا ثم عاد يدفعني إلى المنفردة وأنا أحاول المقاومة وأتكىء على زاوية الباب ، فقال لي مهددا : -إذا لم تدخلي الآن فسأحضر كل عناصر الفرع ليدخلوك.

قلت : المكان معتم جدا ! أجاب بسخرية : أنت الآن ستنورينه . . هيا ادخلي . نظرت فإذا بعلبتين من الصفيح في زاوية الزنزانة واحدة فيها خبيص من أرز أو برغل مع مرق وفي الثانية ماء . . قلت له : والله هذا مثل قن الدجاج . . وهذه والله مثل معاملة الحيوانات ! قال : هذا عشاؤك الليلة داذا كان لك نفس لتأكلي فكليه .

قلت وقد تملكني الغيظ : أنتم تعرفون أن الذي يدخل إليكم لا تعود له نفس ليأكل ! وهنا حضر عنصر اخر متقدم في السن كان يحسن معاملتي فيما بعد قدر المستطاع . . تقدم مني وقال بصوت منخفض : - يالله يا أختي ادخلي وتوكلي على الله ولا تتركي له مزيدا من الفرص ليسخر منك.

فدخلت المنفردة وصوت أمي لا يزال يبلغ مسمعي . . ثم لم يلبث صوتها أن غاب وسط قهقهات العناصر وصياحهم وهذرهم ، وعمت المكان رائحة الخمر وصيحات المجون احتفالا بليلة رأس السنة إ! فيما لفتني في وحدتي الظلمة ووحشة المكان فازدادت أعصابي توترا ولم أستطع حتى أن أغير جلستي ، خاصة وأنهم أخذوا ماجدة بعدي إلى التحقيق وكان من الممكن أنها تعذب في تلك الساعة مثلما كان محتملا أن تقول عني أي شيء . وبقيت على هذا الحال إلى ما بعد منتصف الليل ، حينما حضر أحد العناصر واقتادني إلى غرفة التحقيق من جديد .


لون الليمون !

في غرفة التحقيق وجدت الرائد ثلجة في انتظاري يستقبلني قائلا : - لست من الإخوان أليس كذلك ؟ ولم تقومي بأي عمل لهم ولا تريدين الإعتراف . . ولكن هناك من أرسله الله ليعترف عليك الليلة . هذه رفيقتك - يقصد ماجدة - قالت بأنك مسلحة وأنها رأت السلاخ معك بعينها .

قلت له بتحد : أحضرها لأفقأ لها عينها . . هيا أحضرها لتقول ذلك أمامى . قال : هي لا تكذب ،أنا قلت لك هي لا تكذب . . هي أصدق منك ، والدليل على كذبك لونك الذي أصبح أصفر مثل الليمون .

قلت له : لي ليلتان كاملتان لم أنم ولم آكل ولم أدخل الحمام مع القتل والتعذيب ولعيان القلب ، فكيف لا يصفر لوني ! هز برأسه وهو يمط شفتيه بلا معنى وصاح للحاجب كي يعيدني للمنفردة ، فعدت إلى جلستي القلقة ذاتها وعاد إلي التوتر والأرق ، حتى أنني لم أمد البطانيات خوف أن يأتي أحد العناصر فيفتح نافذة الباب أو يدخل علي وأنا نائمة . . وبينما أنا متكورة على نفسي وسط الزنزانة أرمق الصراصير في تلك الظلمة تتسلق الجدران حولي دونما اكتراث بالنزيل الجديد . . شق جدار السكون فجأة صوت مزلاج الباب الخارجي وصياح السجانين وتدافع أقدام تتخبط مهرولة فوق الدرجات وعلى الممر باتجاه منفردة قريبة .

أدركت بحدسي أن دفعة من المعتقلين الجدد قد وصلت ، وعلمت لاحقا أنهم ستة أو سبعة شباب بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من العمر جمعوهم من مسجد واحد وحشروهم معا في هذه المنفردة التي لا تزيد بمساحتها عن متر بمتر ونصف ! والذي يبدو أن واحدا منهم أصابه إسهال من الخوف أو التعذيب فجعل يصيح طالبا الخروج إلى الحمام ، فلا يجيبه إلا صوت العناصر الغارقين في متعة الإحتفال برأس السنة : -سد حلقك ! لكن الفتى لم يكن يستطيع الصبر ، فيعيد الرجاء وينادي : -والله بطني بتوجعني . . يا عالم . . لم أعد أستطيع ضبط نفسي . . عندها جاءه عنصر منهم وفتح النافذة وتناوله بضربة بالكبل وهو يكرر-سد حلقك واخرس يا . . .

وسكت الفتى لبرهة يا حرام ، بدأنا نشم بعدها رائحة من زنزانتهم خنقتنا . . فعاد العنصر إليه يكفر ويلعن ويقول له : -فعلتها هنا يا ابن ال . . . وأخرجه إلى الممر وانهال عليه ضربا كالمجنون ، وتعالى صراخ أمي من منفردتها ثانية تدعو عليهم وتقول له : -يخرب بيتك . . مالك قلب بشر؟ سألك أن تخرجه فلم تفعل ففعلها تحته . .ماذا يفعل المسكين بنفسه ؟ وعاد الأمر بعد هذه المهزلة إلى ما يشبه الهدوء من جديد . . ومضت ساعات الليل المتبقية تمر علي أثقل من الجبال ، وعلى الرغم من أنني لم يطرق لي النوم جفنا ليلتها إلا أنني بدأت أفقد الإحساس بما حولي ، وأتخيل ربما من شدة البرد أن الثلج قد غطى المكان كله ، وأن العناصر تستعد لاقتحام الزنزانة علي ليسحبوني في هذا الثلج فيعروني ويعذبوني للمرة الأخيرة قبل أن يرشوني وأغادر الحياة ! لكن شيئا من ذلك لم يحدث ، ولم ألبث وقد دنا وقت الفجر أن أحسست بما يشبه الطرق الخافت على الجدار من الزنزانة الأخرى المجاورة حيث وضعوا ماجدة ، فعلمت أنها تنبهني إلى موعد الصلاة ، ولم نكن خلال الفترة السابقة من الإعتقال كلها قد تمكنا من الصلاة ، فتيممت وهممت أن أبدأ ، لكنني لم أستطع معرفة اتجاه القبلة فطرقت الباب ، ولم يلبث أن حضر حسين من جديد فسألته ، فقال بسخرية : - كيف وضعت رأسك على الفلقة فهذا اتجاه القبلة ! كررت عليه السؤال مع الرجاء ، فقال بتبرم : - أنا لا أصلي . . لا أعرف ، لكنني أشاهد الشباب في المنفردات يصلون بهدا الإتجاه .

فصليت إلى حيث أشار وظهري إلى الباب ، فكان قلبي ينتفض من الرعب طوال الصلاة خشية أن يفتح أحد العناصر علي فيراني وأنا أصلى! فيحدث ما لا تحمد عقباه ! وبالفعل . . وبينما أنا في صلاتي فتح السجان ابراهيم الطاقة ليعطيني الإفطار ، فلما رآني أصلي قال بما يشبه السخرية : -شو . . عم بتصلي ؟ فلم أجب ، ولكنني أحسست أن قلبي قد سقط بين يدي ، غير أن الله سلم ، ومضى إبراهيم فأكمل توزيم الفطور على الزنزانات الأخرى ثم عاد ففتح وسألنى باستهزاء : -خلصتي ؟ الله يتقبل ! هززت برأسي دون أن أجيب ، فاكتفى بدفع طبق الطعام إلي والذهاب . . ولم يكد يفعل حتى فتحت الطاقة من جديد وكان القادم هذه المرة أبو محمد . . الرجل الذي ترفق بي لأدخل الزنزانة ليلة الأمس ،

فسألني : - ألا تريدين الخروج إلى الحمام ؟ أشرت بالإيجاب ، فلما فتح باب المنفردة أطللت على الممر برأسي فما وجدت أحدا . .

سألته : - مالي لا أسمع صوتا هنا ؟ وهذه صديقتي ملك ألم تنزل من التحقيق ؟ قال : خرجوا . . كلهم خرجوا ، وما بقي إلا أنت ورفيقتك الثانية - يقصد ماجدة - . قلت بدهشة واضطراب : وأمي ؟ قال : أنت ورفيقتك وأمك فقط . . صفوكم ! أحسست أنها النهاية وأنها راحت علينا . . خرج الجميع وبقينا نحن . . إذا فهي النهاية! سألته وأنا أشهق بالبكاء : - ولماذا أخرجوهم ولم يخرجونا نحن ؟ أنا لم يثبت أي شيء علي . . أنا بريئة .

أطرق وهو يقول : والله لا أعلم . . إسأليهم ، أنا هنا مجرد موظف. ثم غير مجرى الحديث وقال : - أتريدين أن تأكلي .. ألست جائعة؟ أنا أحضرت فطوري الخاص معي : زبدة ومربى وأشياء أخرى . . أكلت منهم وزاد معي قطعة .

تذكرت وقتها أنني لم أكن قد أكلت شيئا إلى ذلك الوقت من قبل ، لكنني لم أشأ أن آكل طعام غيري أيضا ، فشكرته واعتذرت . . ثم لما اشتد علي الجوع في اليوم الثاني بدأت آكل القشرة الخارجية للصمون الذي يحضرونه لأن الداخل عجين كله . . وقطعة الجبن التي لا يحضرونها إلا نادرا بطبيعة الحال ، وعلى هذه الحال بقيت طوال فترة بياتي في المنفردة ثمانية أيام بالتمام والكمال !


"الخط "ورعاه البقر !

طلع صباح أول أيامي في سجن كفر سوسة وأنا لا أزال قابعة أترقب في زنزانتني المجهول بوجل ، وأطل على أحداث الأيام التي مضت مصدقة ومكذبة! تلفت أتأمل "مسكني " الجديد فإذا به أشبه بالقبر منه إلى أي شيء اخر ، وعدا الصراصير التي كانت لا تزال تبحث بمجساتها المقرفة عن شيء رطب تقتات عليه لم أستطع في البداية أن أجد على الجدار القاتم شيء ، لكن تسرب بعض الضوء واعتياد عيناي على الظلمة جعلني أبصر خطوطا مميزة بعض الشيء وشعار "الله أكبر ولله الحمد" محفورة أكثر من مرة وحولها أسماء أشخاص عديدين مروا على هذا المكان التعس قبلي . . وكان ثمة نقش لمسجد كتب حوله "لا إله إلا الله محمد رسول الله " وأسفل منه اسم الشخص الذي نقشه على الأغلب . . كذلك لمحت خريطة لفلسطين وتحتها عبارة "الله أكبر ولله الحمدا ا! لم تكن أكثر من ساعتين على صلاة الفجر قد مضتا حين بدأت دورة يوم جديد من أيام السجن تأخذ مجراها . . فكما الكلاب تفعل كان المحققون والجلادون والسجانون لا ينامون إلا إذا دنا الفجر ويستيقظون وقت الضحى! وسرعان ما بدأت الشتائم واللعنات وعبارات الكفر بالله تختلط بفرقعة الكبلات على ظهور السجناء يقتادونهم إلى الحمامات أو إلى "الخط " بلغة السجن المتداولة .

كان (ياسين ) المجند العلوي المتطوع أحد أجهل خلق الله وأغباهم يتصدر لهذا العمل على الدوام ، فتراه يمسك بالكبل بيده ويتفرس في طابور المعتقلين المتجه نحو الحمامات لبرهة ، ثم لا يلبث أن ينقض على المساكين لطما ولسعا يسلخ جلودهم كالدواب . . والويل كل الويل لمن كان يجرؤ ويصيح من الألم . . فجزاء ذلك مضاعفة العذاب حتى لا يعيدها ثانية! وسرعان ما انطلق صوت أمي من زنزانتها تنادي عليه : يا ولدي . . هل تظن أنك لا تزال في الضيعة التي جئت منها وهؤلاء قطيع من البقر الذي كنت ترعاه ! ولم يكن ياسين ليرضى أن يقطع متعته الصباحية شيء فاستمر يجلد الشباب ويتلذذ في خلق هذا المشهد الرهيب . . وأمي تطرق الباب بأيديها وأرجلها وتبكي ألما عليهم وحسرة وليس من مجيب ! ولم تكد تنته هذه المأساة ويهدأ المكان بعض الوقت حتى كان موعد التحقيقات قد جاء ، وعاد صراخ المعذبين وصيحات العناصر وشتائم المحققين تقرع اذاننا وتذيب منا القلوب ، ثم وكما بدأت بلا مقدمات خفتت الأصوات من جديد ، ولم ألبث أن وجدت باب الزنزانة يفتح وأحد العناصر يدعوني للذهاب إلى الحمام ، فلما أصبحت هناك وحدي وبدأت الوضوء وكل ظني أنني قد أغلقت الباب بإحكام علي فوجئت بوالدتي أمامي ، فأدهشتها المفاجأة مثلما أدهشتني . . واندفعت من فورها تحيطني بذراعيها وتسألنى وهي بادية الإضطراب : - قتلوك ؟ عذ بوك ؟ قلت أريد أن أخفف المصاب عنها : لا . . أنا بخير . لكنني كنت وقتها أضع رجلي على الحوض وأغسلها للوضوء ، فأشارت مفجوعة إليها

تقول :ولكن ما هذا ؟ رجلك كلها زرقاء وأصابعك مزرقة أيضا ولا تكاد تظهر ! هل أذاك أحد؟ هل مسك أحد ؟

قلت من جديد : لا . . الحمد لله ما مسني أحد .

سألتني وكأننا في سباق مع الزمن : ولماذا أمسكوك إذا ؟

قلت : والله لا أعرف . . يريدون أخي صفوان ويريدونني أن أدلهم عليه .

فأخبرتني هنا أنها أجابت في التحقيق كما أجبت بأنه يدرس في الباكستان ، فشعرت بارتياح لتطابق كلامي مع كلامها ، ولكنني وجدتها تتركني وتخرج إلى الممر ندعو عليهم بأعلى صوتها ، فحضر حسين راكضا وهو يصيح بالعنصر الآخر : - كيف جعلتها تدخل والأخرى لا تزال هناك ؟ ألا تعلم أن اجتماع أكثر من شخص هناك ممنوع ؟ أجاب العنصر الذي أحضر أمي : لم يكن لي عالم بوجود أحد اخر . . لماذا أغلقت أنت باب المنفردة التي كانت فيها ولم تتركه مفتوحا لأعلم أنها لا تزال في الخارج ؟ واقتاد كلاهما والدتي وهي لا تكف عن إطلاق دعواتها عليهم ، ولم تتح لي رؤيتها ثانية إلا بعد أيام ، ولم تتح لي معرفة سبب وكيفية اعتقالها إلا حينما اجتمعنا في المهجع بعد انتهاء التحقيق . . فقصت علي - رحمها الله - ما جرى بالتفصيل .


الكمين !

كانت والدتي - علية الأمير - قادمة من حماة لتحضر لي بعض أغراض كنت قد نسيتها أثناء الإجازة هناك ، ولتكمل بعدها إلى الأردن حيث استقر أخي صفوان مع كثير من الشباب الملاحقين بتهمة معارضة الحكومة والإنضمام إلى تنظيم الإخوان . . ومع والدتي حضرت أسرة ال مرقة ترافقها لزيارة ابنهم المقيم في عمان لنفس السبب .

قالت والدتي - استيقظ أبوك ليلة اعتقالك على منام مزعج أولمه شرا أصاب أخاك صفوان ، فقال لي اذهبي وا نظري أحواله ، فمضيت يرافقني المرقة وقد اتفقنا على المبيت عندكم ليلتها والتحرك إلى عمان في اليوم التالي . ، ولما وصلنا قرب بيتكم في دمشق وبت على خطوات من مدخل البناية سمعت صوتا يأتيني ويقول برجاء ظاهر : يا خالتي ارجعي . . لا تدخلي ! كان أحد الجيران ينادي من جهة لا أراها ويحذرني من الصعود بعد أن تم اعتقالكم قبل ليلة ، ولكنني لم أرد وما ظننت النداء كان لي ، فما أن طرقنا الباب حتى استقبلتنا الرشاشات وأيادي جذبتنا إلى الداخل بغلظة ، ووجدنا أنفسنا بعد ساعة زمن في سجن كفرسوسة !


أحكم الأحكمين . .

كنت وأمي تحدثني عن اعتقالها لا أقل تأثرا وحزنا على حالها من تأثري وألمي على حال هؤلاء المساكين أسرة عمر مرقة الذين اعتقلوا معها ، فوالدتهم لم تكن قد أفاقت بعد من صدمة مقتل ابنها أيمن 18 سنة وأخته مجد 14 سنة حينما رشهما الخابرات في الشارع انتقاما من أهالي الملاحقين وحسب ! وكانت الأم حتى هذه الفترة فاقدة لتوازنها العقلي وقد نزعت حجابها وعصبت رأسها بعصابة تشد بها على الألم . . فلما وجدت نفسها قيد الإعتقال المفاجيء انهارت المسكينة . . وكنت وأنا في أول ليلة لي في المنفردة أسمع المحقق يصرخ في أذنها بأعلى صوته فيصل الصوت عندي وهي كالبلهاء لا تجيب . . وأما الزوج فكان أسوأ حالا وقد جاوز المسكين السبعين من عمره . . تجره والأم ابنتاهما اللتان اعتقلتا معهما وأغمي عليهما على باب المحقق ، فاضطرت والدتي أن تصفعهما لتفيقا ! وعندما لم يجدوا ما يهمهم من التحقيق مع هؤلاء البؤساء أرسلوهم للمبيت في القبو تلك الليلة ، لكن ولاغتصاص المكان ليلتها بالمعتقلين لم يجدوا مساحة يضعون العجوز فيها فتركوه بهرمه وشيخوخته ينام على أرض الممر أمام منفردتي ، فكنت أدعو الله أن يخفف عنهم المصائب التي تتوالى عليهم واحدة بعد الأخرى . . وأما والدتي فقد جابهتهم من البداية ما شاء الله بحزم . .

قال لها المحقق : -خبرينا عن ابنك المجرم . . أين هو؟ فقالت : أنا ماعندي ابن مجرم . . دير بالك ها !

قال لها : ماذا لديك إذا ؟ مجرم ومغرر بإخواته أيضا على طريق ا لإجرا م . قالت : أنا لا أعرف نفسي إلا أنني ربيت ابني من الجامع إلى البيت ومن البيت إلى الجامعة. فقال لها ساخرا : الله يعطيك العافية . . تعيشي وتربي ! إذا لا تريدي أن تحكي . . والتفت إلى أحد العناصر وقال له : ضعها على الفلقة .

فقالت له : كتر خيرك . . أنا في سن أمك وتضعني على الفلقة ؟ قال لها : ولكنك ما تكلمت . قالت : وماذا تريدني أن أقول ؟ لا الذي يصدق يسلك معكم ولا الذي يكذب ! فتركها - سبحان الله - ولم يعذبها . . وكانت لا أدري كيف تقوم طوال فترة اعتقالها فتشد معهم وتواجههم وتدعو عليهم وكانوا مع ذلك يراعونها من دون جميع السجينات والسجناء الآخرين . . وكانت لا تكاد تنام لا في الليل ولا في النهار ، وتراقب كل صغيرة تجري وكبيرة فلا يفوتها شيء ! وفي بداية اعتقالها في المنفردة كانت تنادي أبا عصام مدير السجن - وهومن درعا - وتسأله : - ماذا فعلت أنا . . ولماذا تعتقلونني ؟ فيجيبها : أنا لا علاقة لي بذلك .

فترد عليه وتقول : بل بيدك كل العلاقة . . أنا أريد أن أرفع كتابا لرئيس الفرع ، أعطني ورقة وقلما . فينهرها وهو يكرر عليها : -ممنوع . . لا تصل . . مخالفة للأوامر . . . فيصيبها القهر ويشتد بها الغيظ وتنادي داعية عليه : شكيتك لواحد أحد . . لأحكم الحاكمين . . وإن شاء الله تقعد قعدتي وما بتصبر صبري . وسبحان الله لم يمر شهر أو شهران حتى قتل هذا الرجل كما بلغنا حادث سيارة . . ودخل المقود في بطنه . . وسمعت أمي بموته قبل أن تموت


رهائن !

ولقد استمر الكمين من بعد اعتقال أمي ومرافقيها ، فاعتقلوا من زميلات السكن ومن الزائرات من غير أي تهمة أو علاقة أكثر من عشر أشخا ص : -

فاطمة : من قارة ،طالبة تسكن معنا . - سوسن س : خريجة طب أسنان من حلب كانت في سنة التدريب بعد التخرج وتسكن معنا .

أختين من ال جاموس إحداهما كانت تسمى منى فيما أذكر ، وهما طالبتا علوم من التل وتسكنان معنا أيضا . -

يسرى ح : وهي أردنية كانت تدرس في جامعة دمشق كلية العلوم الطبيعية وتسكن معنا ، وقد اعتقلوا والدتها أيضا التي كانت في زيارة لها أيام الإمتحان .

مها أ : طالبة طب في دمشق وهي فلسطينية لبنان ية . طالبة أخرى من اللاذقية من ال درويش . كذلك اعتقلوا غادة ع طالبة جامعة تسكن معنا كما اعتقلوا أخاها وصديقا له حضرا لزيارتها فاعتقلا معا . والذي حدث أنهم أخذوهم إلى التحقيق جميعا بعدما انتهوا مني ومن ماجدة واحدة بعد الأخرى ، فلما لم يجدوا فائدة من احتجازهم أطلقوهم . . لكنني ومن شدة تعبي وآلامي لم أحس ساعتها بما حدث رغم أنني كنت يقظة متنبهة طوال الليل


أمى والإضراب

لم ينته اليوم الثاني علي من غير تحقيق جديد . . كنت خلال ساعاتي التي مضت في السجن قد أدركت مجمل ما يدور حولي ، وتذوقت في أول قدومي أشد العذاب وأبشع التهديدات ، فلما نادوني للتحقيق من جديد لم يكن هناك ثمة جديد ! أعادوا طرح نفس الأسئلة وتوجيه نفس الإتهامات بنفس الطريقة ونفس الأسلوب . . وعلى مدار أسبوع كامل استمر البرنامج نفسه ، ولم يتغير فيه إلا طريقة الضرب بعض الشيء ! فمع الضرب بالخيزران والعصي أرادوا مرة أن يضعوني على الدولاب فلم يكن على مقاسي ، فصار المحقق يعوض عن ذلك بالضرب بالخيزرانة وأنا واقفة ، فطال بذلك كل جسدي ، وزاد من بقع الألم وآثار المعاناة ، ولكن شيئا في الأسئلة أو الإجابات لم يتغير ! أما في المنفردة فكانت المتغيرات مستمرة هناك . . والمشاهد المفجعة والحوادث المحزنة لم تتوقف : كانت استغاثات السجناء لا تكاد تكف ليلا أو نهارا . . والويل كل الويل لمن يضبطه العناصر وهو يصلي ! كانوا يمرون عليهم بلا ميعاد ، فإذا ضبطوا أحدهم من الطاقة يصلي أخرجوه فأوسعوه ضربا وتعذيبا بلا رحمة ، وأما الكفر بالله والشتائم البذيئة فكانت ديدنهم حتى عندما يتخاطبون فيما بينهم ، لكنهم لم يكونوا ولله الحمد يضربوننا نحن النساء على ذلك ، وكنا نتمكن من الصلاة حتى تحت مراقبتهم .

وكنت في بعض الأحيان أعطي ماجدة بعض الإشارات بالضرب على الجدار بيني وبينها ، واذا تأكدنا من خلو المكان من العناصر كنت أكلمها وتكلمني عبر الجدار ، وأذكر أن عنصرا أحس بنا مرة نتحدث في الليل فنهض بسرعة وأتى نحونا يصيح : -أنا أسمع صوتا . . من هذا الذي يتكلم ؟ وحتى لا تكون سببا في تعذيب أحد من الشباب قالت ماجدة بثقة : - أنا .

فسالها بغضب : مع من ؟ قالت : مع صديقتي . . أهو حرام؟ ومرت الحادثة ولله الحمد بسلام . وأما والدتي فلم تكن تدخر فرصة للإتصال بي إلا واغتنمتها . . حتى ولو كلفها ذلك الكثير .

كانت كلما أرادت أن تخرج إلى "الخط" توقفت عند زنزانتي وتعلقت بقفلها لا تريد أن تتزحزح حتى يفتحوا لها فتراني وتحدثني ولو كلمتين ، فإذا ملوا أحيانا من سحبها ومدافعتها فتحوا لها الطاقة وقالوا : - هيا شوفيها ولكن بلا كلمتين . . فترفض وتطلب أن يفتحوا الباب لها . . فيقولوا : ممنوع .

ولم تلبث في اليوم الثاني من اعتقالها وبعد خروج بقية البنات من دوننا أن أضربت عن الطعام وعن الخروج إلى الحمام وحتى عن النوم حتى تراني . . ولم أدر بذلك إلا عندما حضر أبو عادل رئيس النوبة يقول لي : -إذا التقيت أمك مرة ثانية فأعطيها دروسا في الدين . . قولي لها إن لجسدك عليك حقا . . ألم تدرسي ذلك في الشريعة؟ خليها تأكل .

قلت له : هي أم وأنت تعرف كيف يكون قلب الأم . . والحق معها . وفي اليوم الثاني ومع استمرارها بالإضراب أتى الأمر بالسماح لها أن تراني وأراها ، فجاء أبو عادل ثانية وأخذني إلى زنزانتها وهو يذكرني بحديث الأمس ، وقال وهو يدفعنى إليها : -مثلما اتفقنا . .قولي لها . . قلت له : ماذا أقول ؟ هي حرة . قال : ألا تريدين أن تساعدينا لتفك إضرابها ؟ قلت : ماذا يمكن أن أفعل . . ألا ترى وضعها ؟ الله يعينها ويساعدها .

فالتفت إليها بغيظ وسالها : هل رأيت ابنتك ؟ ولم تكن رفعت نظرها إلي طوال ذلك الوقت لتقهرهم . . فقالت : لا . فقال : إذا ماذا تريدين ؟ والله حيرتينا ! قالت : أنت تعرف ماذا أريد . . وحتى يأذن الله . . هو أحسن منكم جميعا وهو أحكم الحاكمين . . وهو قادر على أن يقصف رقابكم ! فلم يجد ما يفعله إلا أن يضحك بغباء ويقفل الزنزانة عليها ويعيدني أنا لزنزانتي من جديد ، لكن إضرابها كان - والله أعلم - سببا للتعجيل بإنهاء التحقيق معنا ونقلنا بعد ثمانية أيام قضيناها في المنفردة إلى المهجع ،لننضم هناك إلى بقية النساء المعتقلات .


إلى المهجع

لم نكن خلال الأيام الثمانية قد رأينا أيا من المعتقلات أو اتصلنا بهن باستثناء منيرة التي فتشتنا أول وصولنا ، لكنهن كن قد رأيننا من شق صغير في طاقة باب المهجع وعرفن بوجودنا كما أخبرننا لاحقا ، وذات مرة وأنا في طريقي إلى الحمام رأتني الحاجة مديحة إحداهن بجلبابي الأسود أعبر من أمام مهجعهن فدقت الباب تنادي أحدا من العناصر ، فلما جاءها حسين بادرته قائلة : -أريد أن أنفض البطانية . . افتح لي ! فأدخلني الحمام بسرعة ليخرجها ، فصارت تتحدث بصوت عال لنسمع صوتها ونعلم بوجود نساء وتصيح :فلانة . . هيا تعالي نظفي البطانية معي . . ثم مضت كعادتها تحاول استدراج حسين وسألته : - كأن هناك أحدا في الحمام . . أنا أسمع صوت نساء ! أجابها وقتذاك : لا . . لايوجد أحد . . لوأن هناك نساء لأتينا بهن إليكن .

لكنها استمرت تلح عليه حتى ضجر وسألها : -خبريني أنت . . ماذا على بطانيتك ؟ لك ساعة تنفضين فيها ! قالت : صرصور . . ووالله ماعرفنا وين راح ! قال لها : إي يالله ادخلي وخلصيني . . فعادت وهي تلم البطانية تسأله بصوت خافت : - هناك نسوان أليس كذلك ؟ فأجابها أخيرا : نعم . . وبكرة سيأتون إليكم فاطمئني . لكنها عادت تسأله : ألا تعرف من أين ؟ فأجابها : بكرة جايين لعندكم وستعرفي . . وتجلسوا تتحدثوا معا حتى تشبعوا حكي ! ثم أدخلها وأرجعني المنفردة ، لكنني كنت أسمعهما وأنظر بين حين واخر إليهما بدوري من شق باب الحمام ، فاستأنست بذلك بعض الشيء واطمأننت إلى أن هناك نساء غيرنا في هذا المكان الموحش . . وفي اليوم الثامن وبينما أنا في المنفردة جاء مدير السجن وأعطاني استمارة معلومات عامة عن الإسم وتاريخ الإعتقال وسببه وعدد الأيام التي أمضيت في المنفردة . . فأجبت بشكل عادي وكتبت أنني اتهمت بالإنتماء إلى تنظيم الإخوان ووقعت ، وبعد حوالي نصف الساعة حضر حسين وفتح الباب بسرعة وطلب مني القيام ، فسألته وقد ظننت أنها جولة أخرى من التحقيق والتعذيب والأ خذ والشد والإتهامات : - إلى أين ؟ إلى التحقيق ؟ قال :لا . قلت : إلى الإعدام ! قال : الان سترين .

قلت له : إذا كان الإعدام فسيكون أريح ! فأجابني ساخرا : لا . . لن نعدمك الان . قلت : واذا فمتى ؟ قال بلؤم : حتى تعترفي أنك منظمة .

قلت له : طيب . . هل تعدمونني فعلا إذا اعترفت ؟ قال : اعترفي أولا والأمر بعد ذلك بينك وبين رئيس التحقيق ! أخرجني من المنفردة وساقني عبر الممر إلى باب اخر كبير وأسود فقلت لنفسي : خلاص . . رحت فيها . . إلى التعذيب من جديد ! فلما فتح الباب ودفعني باتجاه الداخل مددت رأسي بحذر فرأيت المكان مليئا بالنساء وكلهن يضعن شاشيات صلاة بيض على رؤوسهن فارتحت قليلا وخطوت نحوهن سلمت ،ولكن الخوف كان لا يزال يتملكني ،فيما أغلق السجان الباب ورائي وعاد بعد هنيهة بأمي وماجدة فأدخلهما وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ،ومضى يعذبها على ومضى، وجعلنا في البداية نتلفت حذرات خشية أن يكون بين هؤلاء النسوة جاسوسة أو مخبرة ،ولم تلبث أمي أن انفجرت بالبكاء في اللحظة التي اندفعت أنا نحوها وعانقتها ، وكأنها أحست أنهم وضعونا في المهجع ولن يخرجونا منه إلى الأبد. . فجعلت تزدادبكاء وتدعو عليهم بحرقة وتجهر بالدعاء. . في تلك اللحظة تقدمت واحدة من النساء وهي تمد إليهايدها وتقول : ابوي . . لا تبكي ولا على بالك . . حطي إيديك ورجليك بمي باردة واقعدي .. ولاراحة لمؤمن إلابلقاء ربه ! كانت هذه هي الحاجة مديحة أ.أول من دخل السجن من النساء كانت الأيام التي أمضيناها معها أكثر من كافية لنسمع منها ومن بقيه السجينات حكاية اعتقالهن وقصص تعذيبهن ومآسيهن .


تعرية . . وتعذيب . . وقص اللسان!

كانت الحاجة مديحة في الأربعينيات من عمرها ، وهي امرأة معروفه في حلب تدرس النساء درو سافي الدين على الرغم من أنها تكاد تكون أمية لاتقرأ أوتكتب وكانت قد جعلت من بيتها قاعدة سكن فيها بعض الملاحقين ،وبينما كانت ذاهبة إلى موعد خارج البيت لتسليم رسالة ألقوا القبض عليها نتيجة فسادة من سامح كيلاني - عميل المخابرات الآخر وجاسوسهم داخل تنظيم الإخوان - وحملوها مباشرة إلى فرع مخابرات أمن الدولة ، وهناك ازدادت نقمة رئيس الفرع عمرحميدة عليها حينما استطاعت رغم التعذيب الشديد أن تراوغهم فترة كافية تمكن الشباب في بيتها من الهرب بعد مضي فترة أمان كانوا متفقين عليها فيما بينهم . . ونتيجة جرأتها وصلابة ردودها ازداد حميدة غيظا منها فختم لها حفلة التعذيب بأن قص لها طرف لسانها بالمقص . . وفقدت قطعة منه بالفعل ! ولقد قصت علينا أن حميدة عراها في البداية من ملابسها وعلقها إلى السقف من يديها المكبلتين خلف ظهرها ، ومضى يعذبها على هذه الحالة ويسمعها أقذع الشتائم وأبشع العبارات . . ثم أمر بإحضار أخيها الأصغر وعرضها عليه بهذه الحالة وساله :هل عرفتها؟ قال الولد بصدق : لا . . من هذه ! أجاب حميدة بتشفي : أختك مديحة . فأغمي على الولد فورا ولم يعد يحس بشيء ، وأعادوه إلى البيت وهو لا يزال في غيبوبته . . واستمرت حفلة التعذيب ساعات عديدة تأكدت بعدها أن الشباب غادروا البيت كما يفترض فدلتهم عليه ، ولما لم يجدوا هناك إلا آثارهم وحسب عاد حميدة غاضبا يقسم أنه سيقص لها هذا اللسان الذي كذب عليهم وخدعهم.

وقصه بالفعل ! لكنها ولله الحمد شفيت بسرعة وعاد اللسان فنما بشكل طبيعي ، بل إن مدير السجن المدني بدوما المقدم عماد وكان سيىء الخلق جدا قال لها بعد ذلك بسنوات : - قطعنا لك لسانك ليقل كلامك فلا أراه إلا ازداد طولا ! وبعد اعتقالها الذي كان قد مضى عليه نحو الشهر أتوا بها إلى كفر سوسة مرورا بسجن المسلمية بحلب مع مجموعة السجينات الأخريات : أم شيماء ، وزوجة عبد العزيز سيخ ، وعائشة ق . فيما أفرجوا عن عدد اخر من البنات والنساء كانت بينهن - فيما روين لنا - سناء . . . . . ، و . . . . . . وكانت تسكن مع الحاجة مديحة وتلازمها في بيتها ، ولذلك كانت تدعوها الحاجة ابنتها ، وزوجة عبد القادر حربلي ووالدتها من بيت القطان ، وسيدة أخرى وكانت عروسا في شهرها السادس وفي السادسة عشرة من عمرها ، أمسكوا زوجها نتيجة وشاية من سامح كيالي أيضا وجعلوا يعذبونه ليعترف بمكان القاعدة التي اتهم أنه يديرها ، فلما لم يفعل أحضروا الزوجة بأمر من حميدة أيضا واعتدوا عليها أمامه قبل أن يرسلوه إلى تدمر فيقتل لاحقا هناك في المجزرة الكبيرة التي جرت . . وأفرجوا عن المرأة وقد سقطت عنها كل الإتهامات !


وترك لها جوربان

تقدمت الحاجة مديحة تخفف عن أمي وعنا ، وتبعتها بقية البنات : أم شيماء ، وعائشة ق . ومن ورائهما كانت منيرة التي فتشتني أول دخولي تنظر وتبتسم ! وأما عائشة فهي طبيبة من حلب قامت بعلاج جريح من الشباب الملاحقين فبلغ النبأ المخابرات واعتقلوها من بيتها ، وقالت لهم وقتها إن أشخاصا أتوا إليها كأي طبيب وسألوها أن تعالج جريحا ففعلت ، ولم تسألهم عن هويتهم لأن مهمتها الإنسانية خدمة الناس لا التحقيق معهم ، لكن جوابها لم يرق لهم ، واعتقدوا أنها تداوي كل جرحى الملاحقين ومصابيهم ، وقد تولى التحقيق معها مصطفى التاجر أول الأمر فسألها في البداية : -أترضي أن تبقي بلا حجاب ؟

قالت : لا طبعا . . قال : فما رأيك إذا أن تبقي بلا جلباب ؟ فانتفضت تتطلع إلى مكان تلتجئ إليه ، لكن المجرم لم يترك لها فرصة وهجم عليها كالوحش يصفعها ويضربها وهو يمزق ثيابها قطعة بعد قطعة وهي مكبلة تقاوم بكل ما أوتيت من قوة دون أن تستطيع الدفع . . فلما مزق كل شيء ووصل إلى جواربها قال لها : -سأتركهم عليك حتى لا تبردي ! وأمر فمددوها على "بساط الريح " ومر عليها بكافة أنواع التعذيب : الخيزران والعصي والكهرباء . . علاوة على نزع نظارتها الطبية وحرمانها من استعمالها فترة من الزمن . . ثم أتى دور عمر حميدة فأجلسها على كرسي وقد كبل أيديها وأرجلها من الخلف ببعضهم البعض وجعل يطفىء أعقاب السجاير فى اعف منطقه ببدنها ليطفىء بعضا من نيران حقده الاسود ويودعها الزنزانه من ثم بضعه ايام قبل ان تنقل مع بقيه المجموعه الى كفر سوسه


فنون التعذيب !

كانت إيمان ت . "أم شيماء" راجعة إلى بيتهم مع زوجها وابنتها الرضيعة شيماء وكانت في الشهور السبعة أو الثمانية من عمرها ، وعندما بلغوا مدخل البناية لاحظوا مؤشرات غير طبيعية في المنطقة ، فتقدمت ايمان ووضعت المفتاح في القفل لتفتح ، فيما كان الزوج والطفلة معه ينتظر أسفل الدرج ، فما أن فعلت حتى أحست كما روت من بعد صوت تلقيم السلاح من الداخل ، فأعطته إشارة سريعة بالهرب ، في الوقت الذي فتح عناصر المخابرات الباب بسرعة وأمسكوا بها وسحبوها إلى الداخل ، وفي إحدى غرف البيت دخل عليها رئيس الدورية يسألها عن زوجها وعن الشباب الذين كانوا معها في البيت لأ نهم دخلوه ولم يكن فيه أحد ، وهؤلاء جميعا أبلغ عنهم سامح كيالي ، فقالت إنها لا تعرف شيئا ولا تعرف أين ذهب زوجها ولا من كان معه ، فجعل يهددها بالإعتداء عليها إن لم تبلغه المعلومات فأصرت على الإنكار ، فنفذ تهديده بالفعل وحاول فعل ذلك ، لكنها قاومته بشدة وراحت تتصارع معه فأنجاها الله وألقى في قلبه الرعب فلم يتمكن منها كما أراد . . وبعد ذلك نقلوها إلى الفرع عند عمر حميدة الذي اتبع نفس الطريقة معها ، فشبحوها في السقف بأن كبلوا أيديها خلف ظهرها وعلقوها منهما مرفوعة عن الأرض فكأنما هي الذبيحة بين يدي الجزار ، وجعلوا يضربونها ويعذبونها وهي على هذه الحالة لا حول لها ولا قوة ، ثم وضعوا لها الكهرباء في صدرها والحليب يقطر منه زيادة في التعذيب والإهانة . . وبعد انتهاء التحقيق ومن غيرأن تدان المسكينة بشيء نقلوها إلى كفر سوسة مع عائشة والحاجة مديحة ، لنجتمع واياهن في هذا المهجع المقيت !


سحل القتلى

أما رابعة نزيلات المهجع وقتها فكانت أما من إدلب لأربعة أو خمسة أولاد من إدلب اسمها فوزية ح . هذه السيدة استشهد زوجها وهو يقاوم أثناء مداهمة قاعدتهم بحلب ، وقامت السلطة بعد مقتله بسحل جثته أمامها بالدبابة في شوارع المدينة ثم اقتادوها للسجن وعذبوها أشد العذاب .

وعلى الرغم من أنها لم تتحدث عن ذلك كثيرا وكانت من النوع الذي يؤثر الصمت إلا أننا بقينا نرى اثار التعذيب على أرجلها والزرقة مكان أظافرها المقلوعة إلى حين ، وبقيت فوزية في الشهور الأولى معتدة على زوجها لا تكاد تكلم أحدا وتسارع كلما فتحوا الباب أو الطاقة فتغطي رأسها بالبطانية وتدير وجهها إلى الجدار .


أبناء النظام ضد النظام !

هؤلاء كن السجينات الأربع المتهمات بالإنتساب أو ألتعاون مع الإخوان ، وأما الخامسة منيرة كامل مصطفى فكانت من تصنيف اخر وحال مختلف : كانت البنت التي لم تجاوز الثامنة عشرة من عمرها واحدة من بنات القرى الساحلية العلويات ، شكل والدها وأخوتها وبعض أصدقائهم تنظيما ضد الدولة شيوعي التوجه وصاروا يصدرون منشورات تحض على كراهية النظام ، وكانت معتقلة مع أخيها أيضا الذي لم يكن يجاوز السادسة عشرة من عمره ، فاعتبروهما مجرد مراهقين يقومان بأعمال طائشة ، وقالوا بأنهم سيتركونها في السجن حتى يكتمل عقلها وينضج تفكيرها ، لكنهم كانوا متساهلين معها إلى أبعد الحدود ، فسمحوا لها بالزيارات ، وبإحضار جهاز راديو إلى زنزانتها ، وبزيارة أخيها في القسم الجنوبي من السجن ومقابلته ، وعندما عرف الشباب المعتقلون معه بذلك صارون يقسمون زياراتهم (أي الأغراض التي تأتي لهم في الزيارات المتاحة) ويرسلون قسما منها مع منيرة إلينا وكنا فى البدايه نشك بها جميعا ونحذر أن تكون متعاملة مع المخابرات ، لكنها كانت لطيفة جدا وطيبة القلب ، حتى أن الحاجة مديحة سالتها مرة بين المزاح والجد : - نحن لن نبين لك أي شيء ولن نتكلم أمامك عن وضعنا لأننا نخاف أن تذهبي إلى المقدم وتحكي له . . فأجابتها منيرة بطيب خاطر : تأكدي تماما أنني لست من هذا النوع ، ولو كنت لما وجدتني معكم هنا . وعلى الرغم من أنها ظلت متمسكة بشيوعيتها بعد العديد من المناقشات بينها وبين البنات ، إلا أنها كانت تحترم تديننا ، فكانت تخفض صوت الراديو إذا كنا في صلاتنا أو تلاوتنا وتراعي مثل هذه الأمور ، وعندما أضربنا في وقت لاحق شاركت معنا ووقفت إلى جانبنا حتى النهاية .


هافي طاقة !

هؤلاء كن صحبة المهجع الأوائل ولشهور عدة قبل أن يفد نزلاء جدد ويغادر البعض من بعد . . وأما المهجع نفسه وهو الثاني في التسلسل العددي لمهاجع القسم فكان عبارة عن غرفة متوسطة الحجم ثمة حمام على يسار الداخلين إليها فوقه دوش ولكن من غير باب ، ولحل ذلك مددنا حبلا استخرجناه من وسط إحدى "التنورات " التي معنا وعلقنا عليه إحدى البطانيات القليلة التي أعطونا إياها كحاجز .

وكان الحمام يحتوي أيضا على سخان كهربائي خصوا به مهجع النساء فقط ، فلم تكن لمهاجع الشباب لاحمامات ولاسخانات ولا حتى صنابير ماء ! ولكن ذلك كان سببا لكي يخرج الشباب مرتين أو ثلاث إلى "الخط " أو إلى الحمامات بعد كل موعد طعام ، وأما باب مهجعنا فلم يكن بابه يفتح غالب الأوقات ، ولم يكن له منفذ اخر غير فتحة تسمى نافذة اصطلاحا وهي في الحقيقة مجرد فراغ بين أعلى الجدار من الداخل قريبا من السقف وبوابة السجن الرئيسية من طرفه الآخر على مستوى الأرض فيها ، وبين الجهتين ثمه طبقات من القضبان الحديديه والشباك الخشن والناعم إلى درجة لاتسمح حتى بمرور الهواء نفسه وتحجب وصول أي شعاع ضوء ! ولذلك كنا في عز البرد نستغيث من الحرارة وانعدام الهواء النقي ، ونرجوهم أن يفتحوا لنا طاقة الباب أو أن يأتوا لنا بمروحة تحرك الأ نفاس الراكدة على أقل تقدير ، فكان السجان ياسين على الأخص يرفض أن يفتح لنا الطاقة لنتنفس ، فإذا رجته إحدانا ازداد تعنتا وجعل يكرر كالآلة على مسامعنا عبارة واحدة أثيرة لديه : - هافي - أي لا توجد - طاقة . فتقول له الحاجة : طيب أحضر لنا مروحة أو أي شيء يمكن أن يغير جو الغرفة فإنا نكاد نختنق .

فلا يجيب إلا بنفس الإجابة : - هافي طاقة . . هافي مروحة . . هافي باب ! وكان يوم عيد لنا يوم أن سمحوا لنا بعد ثمانية أشهر من الإعتقال بالتنفس خارج جدران المهجع مرة أو مرتين في الأسبوع . . فيما لم يجيبوا طلبنا الثاني بشأن المروحة إلا بعد انقضاء أكثر من سنتين على الإعتقال . . وامتلاء المهجع بالنزيلات حتى غص بهن ، وكدن من فرط المعاناة وشدة الإزدحام أن يقضين نحبهن !


الهمس ممنوع . . والزمن معدوم . . والشكوى مذلة !

كانت الأيام تمر بطيئة ورتيبة . . وبدأنا لذلك نعتاد أن ننسى الوقت ونغفل عن جريان الزمن ! كنا لا نستطيع التفريق بين الليل والنهار ونصلي على التقدير . . ونحسب الأيام بتبدل دفعات السجانين وبتباعد تاريخ اعتقال كل واحدة منا ، وأما ضوء المهجع الذي كان يشعل ويطفؤ من الخارج فكان يزيد تعميق الشعور لدينا بتساوي الليل والنهار . . وبالطبع فلم تكن النافذة لتسمع عمقهما وتعدد طبقات القضبان والشبك فيها بالاشارة إلى أي تبدل في المواقيت أو الزمان ، علاوة على الظلمة التي تسود بطبيعة الحال في فصل الشتاء .

وزيادة في إشاعة القلق الدائم والتوتر فينا لم يكن مسموح لنا بالكلام إلا همسا ، ومجرد أن يسمع أحد العناصر صوت واحدة منا كان يخبط الباب بالكابل خبطة مرعبة وهو يصيح بنا أن نخرس أو أن نخفض الصوت ! وعلاوة على ذلك كانوا إذا أرادوا مناداتنا لأمر ما خاطبونا باسم رجل لا بأسمائنا . . فكنت على سبيل المثال أنادى غالب الأحيان باسم محمد إ! ويبدو أن أمي قررت بعد أسبوعين تقريبا من اجتماعنا في المهجع أن تكسر هذا الجو المرعب بطريقتها وتخترق أسوار الارهاب . . فطرقت الباب بلطف في البداية وسألت حسين أن يحضر لنا مصحفا فقال لها باستغراب : -وهل تظنين أنك في بيتك أو في قصر لتطلبي على كيفك ! ألا تعلمين أن المصحف ممنوع هنا؟ فسألته وهي لا تزال محافظة على هدوئها : لماذا ؟ قال بشراسة : لأنه لا توجد مصاحف هنا في الفرع . فقالت له : رأيتهم بعيني مكدسين في غرفة التحقيق وأصحابهم جالسين في المنفردات .

وكانت تتحدث عن الشباب الذين أحضروهم يوم اعتقالنا الأول من المسجد دفعة واحدة ووجدوا معهم مصاحف حفاظ صغيرة فصادروها . . فأجابها بصلف : -لكن تلك المصاحف للحرق لا للقراءة ! فعادت ترجوه بلطف وتقول له : أعطنا واحدا منهم فقط ولن يراك أحد أو يحاسبك . . وحتى لو كان صغيرا فليست مشكلة . . فقال لها ممنوع وأغلق الطاقة . فعادت ودقت وكررت عليه الرجاء فأجابها نفس الجواب وصفق الطاقة بوجهها من جديد .

فعادت ودقت بقوة فحضر عنصر أخر علوي اسمه ابراهيم فسألته نفس الطلب ، وكانت أجابته كما أجاب من قبله : ممنوع . . المصحف هنا ممنوع . . . فقالت له إذا أعطني ورقة لأقدم طلبا إلى رئيس الفرع . فقال لها:لا يوجد لدي ورق .. وبعد مماطلات ومشادات كل ومل وأعطاها ورقة قدمت عليها طلبا للمقدم ،فأرسل ذاك وراءها وبهدلها وقال لها: لاتوجد مصاحف هنا.

وأضاف: لماذا تريدينها لتقرأى وتدعى علينا فلما عادت وأخبرتنا بذلك قررنا الإضراب عن الطعام . . وامتنعنا عن استلام وجبتي الإفطار والغداء . .فهددونا إن لم نفك الإضراب بالعودة إلى المنفردات ، وقطعوا الماء عن المهجع زيادة في الضغط ، وكانت أول تجربة لنا فتوقفنا عن المطالبة وما عدنا تكلمنا بشيء وفي اليوم الثاني عادت أمي فطلبت ورقة وقلما لتقدم طلبا اخر للمقدم فحضر أبو عصام مدير السجن وسألها ماذا تريدين فقالت اننا نعاني ضيق الخلق ونريد أن نتسلى بالمصحف فقال لها ولماذا لا تتسلي بأشياء ثانية . قالت : مثل ماذا ؟ قال :كما يتسلى الشباب . . بشغل العجين قالت له : طيب علمنا .

فقال لها:سأذهب فأسألهم لك وأعود بالجواب وبالفعل لم تمض حوالي الساعة حتى عاد أبو عصام ومعه مصحف قديم جدا لا أدري من أين أتى به ولكنه جيد وكبير فقسمناه من فورنا أجزاء أجزاء،وكانت لدينا كرتونة لا أدري من أين أيضا فغلفنا الأجزاء بها ورقمناهم وصرنا نتلو ونحفظ منهم ، وعاد عنصر بأمر من أبي عصام إلينا فعلمنا كيف يشتغل الشباب بالعجين .


اوراد وأذكار وتسالى

كان الشباب السجناء ياكلون من الخبز وجهها الناضج وحسب ويجمعون العجين من قلبه فيعجنونه مره ثانيه اذا تكدست كميه كافيه منه ويخمرونه بلعابهم ثم يعيدون عجنه حتى يصبح متماسك القوام فيصنعون به اشكالا وتماثيل مختلفه ومسابيح جميله جدا حتى ان رئيس الفرع احتفظ بطائره من صنع الشباب فى مكتبه ظننتها اول ما رايتها هناك مصنوعه من الفضه وكان العناصر يحضرون للشباب الوانا يستخدمونها ايضا فى تجميل انتاجهم لياخذوه منهم آخر الامر بالتاكيد وهكذا دخل حياتنا الرتيبه عنصر جديد وبدانا بصنع المسابيح اول الامر فكنا نمضى ساعات نعرك فيها العجين ونخمره ونكوره ثم انتقلنا بعدها الى صنع الاطواق وعلاقات المفاتيح والاشغال البسيطه وعندما تطورت خبرتنا ادخلنا التلوين بطريقتنا الخاصه فصرنا نطلب من بعض العناصر ان يعطونا طحل القهوه او بقايا لنلون به ثم لما سمحوا لنا بالادويه فى الفتره الاخيره استخدمنا بعضها بعد اذابته اوسحقه كعنصر تلوين وكانت المفاجاه بحق حينما وجدنا الحاجه مديحه د تمكنت من تهريب اسياخ لشغل الصوف حينما حضرت من سجن المسلميه وكانت واحده اخرى من البنات قد احضرت قطعه ملابس صوفيه قديمه معها فكررنا وجعلنا نتسلى بشغل الصوف ايضا وبدانا فى فتره لاحقه بجمع نوى الزيتون اذا حصلنا عليه وحفها وصنع مسابيح منها لكن احد العناصر عندما اكتشف اننا نحفها على جدار المهجع لخشونته نهانا عن ذلك خشيه ان تكون اشارات نكتبها لاحد فصرنا نجمعها وناخذها معنا فنحفها على ارض الساحه وقت التنفس وصارت امى تبتكراشياء جديده بسيطه ومسليه لنا وتعلمنا من الالعاب مالم نكن نعلم فعلمتنا مثلا لعبه الكاس وكان لدينا واحده من البلاستك فكنا نتحلق حولها ونديرها الى ان تتوقف عند احدى البنات فكان عليها ان تجيب على اى سؤال يوجه اليها بسرعه وصراحه وكنا نجتمع على هذه الالعاب ونستمتع بها لا يشذ عنا إلا الحاجة مديحة التي كانت تسخر منا ولا ترتاح كأنما لاتفاقنا . . وترانا دائما أقل منها سنا ومنزلة وخبرة وتحسنا وكأننا ضد طباعها في كل شيء ! وبرغم المعاناة والتوتر استطعنا أن ننظم أوقاتا لتلاوة القرآن الكريم وحفظه وتلاوة الأوراد والمأثورات والتهجد . . حتى صارت البنات يتبارزن من تستطيع أن تصلي أكبر قدر من القران في تهجدها . . فإذا قدرنا دخول وقت الفجر صلينا وجلسنا إلى المأثورأت - والضوء مطفؤ بالطبع لنبدأ بعدها بقراءة ياسين أربعين مرة وحزبا من القرأن على نية الفرج وتيسير الأمور ، ونكرر الشيء نفسه في المساء . وكنت أبقى مع ماجدة بعد انتهاء ورد الصباح نراجع حفظنا من القران حتى ننعس فننام أو نكمل اليوم بلا نوم . وكانت والدتي تظل صاحية بعد الفجر حتى يدخل وقت الضحى فتصليها وتنام بعدها برهة من زمن .


أحاديث عبر الجدار !

وخارج جدران مهجعنا كان لأكثرنا تسلية وتسرية من نوع اخر ، فكنا نترقب وقت خروج الشباب بعد الإفطارإلى الخط فيقبل بعضنا إلى شق في طاقة بابنا تراقب ما يجري وتترقب بعضهن أن ترى أخا لها أو قريبا بينهم . . ولم تكن هذه هي الصلة الوحيدة بيننا وبين الشباب ، فلقد اكتشفت البنات قبلنا وجود فراغ بسيط حول انبوب التدفئة بين مهجعنا والمهجع المجاور فطلبن من العناصر خرطوما بحجة استعماله في الحمام فأحضروه لهم ، فمددوه عبر الفراغ وصرن يحادثن الشباب عبره أو يمررن لهم الماء من خلاله لأن المهاجع الأخرى باستثنائنا لم تكن فيها حمامات أو صنابير مياه كما قلت ، ولم يكونوا يسمحون لأحد بطلب ماء أو الذهاب للحمام إلا في المواعيد . .

ولقد حدث بعدها أن واحدة من السجينات الجدد متهمة بالتعامل مع العراق اسمها أم كامل فسدت علينا ، فقام العناصر بسد الفتحة بالإسمنت ، فلجأنا إلى التخاطب عبر الأ نبوب المعدني نفسه بالطرق عليه كإشارة أولى ، وكانت الحاجة تتولى الحديث بعدها أغلب الأحيان لأن مكانها كان مجاورا للأنبوب ، فكانت تنتظر هدوء الأحوال ونوم الحرس لتقرع على الأ نبوب وتحادث الشباب بصياح مكتوم تخفيه قدر ما تريد أن تبديه خشية أن يسمعها أحد من العناصر ! وكانوا في تلك الفترة يتعمدون معاملة الشباب أسوأ ما يمكن ، وينقلون دفعات منهم إلى تدمر كل يوم ، وكان الشخص الموكل بذلك وينادونه أبا طلال يأتي قبل صلاة الصبح فيقرع باب المهجع الذي فيه المطلوبون بكلبشات يحملها بيديه ثم يبدأ بتلاوة أسمائهم واحدا بعد الاخر ، وبعد أن ينتهي من سرد القائمة التي كانت تبالغ عشرين أو ثلاثين اسما كل يوم يصطف الشباب المساكين في الظلام فيكلبش كل اثنين منهم من أيديهما وأرجلهما معا . . فمنهم من يتجلد فيمضي ،ومنهم من يصيح ويستغيث ، ومنهم من يغمى عليه وقد أحس بدنو منيته ، فيشحطون هؤلاء على أرض السجن إلى سيارة بانتظارهم كالذبائح تماما تقاد إلى المسلخ . . وربما استفرغ بعضم أو فعلها تحته من هول الخبر ، فلا نستطيع ونحن نسمع هذه المأساة كل فجر يوم إلا البكاء والدعاء . . وكانوا كلما نقلوا دفعة إلى تدمرأتوا بثلاث أو أربع دفعات جديدة من المعتقلين مكانها ! فكانت الزنزانات والمهاجع محشورة أيامها بالشباب حشرا ، حتى لجأوا إلى استخدام الحمامات كزنازين في بعض الأحيان !


لوعة الام. . ومأساه الولد !

ولقد كان من عجائب مشاهدات السجن وقتذاك أن والدتي أخبرتني يوم لقائنا الأول في المهجع بأن أخي وارف سيغادر سورية حسب معلوماتها إلى لبنان ، وسيخرج من هناك إلى بلد اخر ولن يعود ، ويبدو أنه أخبرها بذلك حتى لا تقلق عليه وحسب ، وحقيقة الأمر أنه كان لا يزال في سورية . . ففي يوم من الأيام صلت أمي التهجد ثم الفجر ، وانتظرت فصلت الضحى ثم اتكأت لتنام على عادتها ، فما وجدتها إلا وقد انتفضت فجأة من نومها تقول لي :- سمعت صوت مشي أخيك وارف في السجن ! وكان السجن وقتها في غاية الهدوء ، فالشباب عادوا من الخط . . والعناصر نائمة على الأغلب . . فلا تسمع أي حس . . فقلت لها : - ما هذا الكلام ؟ لا يوجد أي صوت . . وتقدمت من شق الطاقة لأتأكد فوجدتهم يقودون أخي وارف بالفعل من طرف سترته البنية التي أعرفها وقد طمشوا له عينيه وكبلوا يديه للوراء . . ورأيت حذاءه الرياضي الأبيض وحسين يسوقه ويقول له : - هيا إلى المنفردة . لكنني قلت لأمي وكأنني أحدثها من عالم آخر : لا أحد هناك . غير أن قلبي كان كأنما هبت النار فيه . . وغمرتني رغبة في البكاء وحاجة لإخبار أحد ، لكنني لم أستطع فعل أي شيء أمام أمي . . وبعد فترة وعندما أضربنا إضرابنا الثاني وأخرجونا إلى المنفردات فعلا عقوبة لنا تصادف أن وضعوا أمي وأم شيماء في زنزانة واحدة معا ، لى اذ بها نفس الزنزانة التي كان وارف معتقلا فيها ، في تلك اللحظات كانت أمي تتصنع وأم شيماء البكاء لترققا قلوب السجانين علينا ،لكنهما كانتا لا تكادان تتمالكان نفسيهما من الضحك . . فأخذتا منشفة ووضعتاها بين أسنانهما لإخفاء الضحكات ، والتفتت أمي كأنها تريد أن تدق الباب على السجان فرأت على الجدار رسم مسجد محفور وقد كتب تحته بنفس الطريقة : لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد . . الشهيد محمد وارف دباغ . فانقلب البكاء الذي كانت أمي تتصنعه حقيقيا ، وصارت تنادي عليهم تريد أن تعرف أين ولدها ومتى اعتقال . . لكن أحدا لم يجبها . . وظلت تعذبها الظنون وتقتلها الحيرة ولا من مجيب . . وتبين لي فيما بعد أنهم اعتقلوا وارف وغسان أول مرة في حماة وأفرجوا عنهما بعد أيام دون أن يثبت شيء على أي منهما ، ثم كان اعتقال وارف الثاني واحضاره إلى كفر سوسة والإفراج عنه من غير أن يدان بشيء أيضا ، وعندما استشهد بعد مدة استدعى المقدم ماجدة وقال لها ضمن ما قال :- أمسكناه في المرة الأولى لما ظننا أنه مجرم ، فلما تبين لنا أنه بريء أخرجناه . . وفي المرة الثانية ظنناه بريئا فأطلقناه أيضا ولكنه طلع مجرما غرر به أخوه فنال جزاءه بعد ذلك . . وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين !


نصف بلاطة للنوم !

وتستمر معاناة السجن وتزداد . . ووجدتني بعد فترة في المهجع قد ابتليت بالام شديدة في ظهري حتى لم أعد أستطيع رفعه ، وترافق ذلك مع حالة تقيؤ مستمر واسهال . . حتى كدت أموت يومها بالفعل ! كان نومي وقتها بجانب أنبوب السخان المركزي الذي كان عاطلا عن العمل بالطبع فلا نتلقى منه إلا برودته ورطوبة الماء المتكثف عليه ، ولم يكن لي خيار في المكان لأ ننا كنا لازدحام المهجع لا يكاد يجاوز نصيب الواحدة منا وقت النوم أكثر من نصف بلاطة وحسب ، ولو أرادت إحدانا أن تتقلب لاستدعى ذلك تحريك المهجع بأكمله لم أحس بالبرودة في البداية ، لكنني وجدتني فجأة لا أقدر على تحريك ظهري مع الأعراض المؤلمة الأخرى التي ذكرت . . فقامت البنات يطرقن الباب جميعا ويسألن العناصر أن يحضروا طبيبا لعلاجي لكنهم لم يجيبوا ، فطلبت الدكتورة عائشة منهم طستا من البلاستيك أحضروه لها بعد إلحاح وطول رجاء ، فجعلت تعمل لي مغاطس ماء ساخن متتالية خفت عليها الأوجاع بحمد الله بعد يومين .


إضراب جديد

ومرت الأيام ، وفي كل يوم كانت لنا قصة جديدة وتجربة وعبرة . . وكانت أمي لا تفوت فرصة تحقق لنا فيها بعض السلوى أو تؤرق فيها السجانين والعناصر إلا واغتنمتها ، وباتت سياسة واضحة عندها أن تبتكر مطاليب لنا أو باسمنا تحقق منها إحدى الغايتين أو كلاهما . . وذات يوم وبعدما رأيناهم سمحوا لمنيرة بتقديم امتحان الثانوية خطر على بال بعض البنات المطالبة بالمثل ، فكتبن إلى رئيس الفرع يسألنه السماح لنا بالكتب الجامعية التي ندرس بها وبتوفير جو ملائم للدراسة . . وبالطبع قوبل الطلب بالرفض والسخرية والتقريع ، فاقترحت أم شيماء أن نضرب عن الطعام حتى يستجيبوا ، وسرعان ما شجعتها أمي وأيدت أكثريتنا الفكرة ، فلما أتوا بطعام العشاء رفضنا استلامه .

سألونا : - لما ذ ا ؟ قلنا : مضربين . -السبب ؟ أجبنا : نريد أن نقدم امتحاناتنا أيضا . رد العنصر ابراهيم : إذا لم تأخذوا العشاء فسنأخذكم إلى المنفردات . فأجابته أمي : سيكون أحسن . . ستتنفس كل واحدة لوحدها على الأقل ! أغلق ابراهيم الباب بلؤم وذهب ليعود بعد قليل بضحكة صفراء يقول : - المعلم - أي رئيس الفرع يريدكم أن تتجهزوا لننقلكم إلى المنفردات بعد نصف ساعة .

وبالفعل لم تمض الفترة التي تحدث عنها حتى حضر وأخذ كل اثنتين منا إلى زنزانة من المنفردات ، فوضع أمي وأم شيماء في واحدة ، وماجدة وعائشة في أخرى ، ووضعني وفوزية حجازي في الثالثة ، وأما الحاجة مديحة فسألها ساخرا : - وماذا عنك أنت ؟ ألن تقدمي الثانوية أيضا ؟ فأجابته : أبوي . . أنا لا أعرف القراءة ولا الكتابة ! فتركها في المهجع . . وبقينا بضع ساعات شاهدت أمي خلالها اسم أخي وارف على الجدار فازدادت ثورتها وعلا صياحها . . ولم يلبثوا أن أعادونا إلى المهجع اخر الليل ، ولم يستجيبوا لطلبنا بالطبع ، لكننا كنا سعداء بهذا الأثر الذي تركناه والحركة التي أحدثناها رغم كل الضغوط والترهيب .


رصاص بعد منتصف الليل !

وفي يوم من الأيام وبعدما انتهى العشاء وهجع أكثر السجناء والسجانين مزق السكون عن غير سابق إنذار صوت الرصاص يلعلع على مقربة من السجن وكأنه فوق رؤوسنا . . واستنفر الفرع كله وهرع العناصر فأغلقوا الطاقات كلها وأطفؤوا الأ نوار ، وصاحوا بالمساجين وصوتهم يكاد لا يسمع مع أصوات خرطشة الأسلحة وأزيز الرصاص : - ولا حركة ! لم نفهم ما الذي يجري بالتحديد هل كان اشتباكا أم هجوما على الفرع ، لكن الرصاص كان يصل إلينا فيصيب حتى جدار المهجع من الخارج ولم يكن بينه وبين الشارع إلا فسحة صغيرة يليها السور فنحس وكأنما اخترقه . . حتى أن أمي نهضت فتوضأت وصلت صلاة الشهادة ثم احتمت وإيانا بالجدار خشية أن تبلغنا الطلقات ! وبلغنا فجأة من بين الأصوات المختلطة صرخة كالزعيق تبعها صياح العناصر المضطرب ينادي : فلان قتل . . تعالوا . . فقدرنا أنه أحد عناصر الحماية على الباب . . وبعد حوالي الساعة من بدء الإشتباك هدأت الأمور بالتدريج كما بدأت ، وحاولت الحاجة الإستعلام عما حدث من ابراهيم الذي كانت نوبته وقتها فنهرها وحذرها من إعادة السؤال ، وعدنا إلى ما كنا عليه لأيام قليلة أخر دون أن نعرف حقيقة ما جرى بالتحديد . .


إفراج . . ولكن إلى تدمر !

وذات يوم . . وبينما كانت الحاجة تحادث الشباب في الزنزانة المجاورة عبر الأنبوب أتاها من وراء الجدار صوت سائل منهم يسأل إن كان بيننا حمويات .

فقالت له نعم . . فقال لها : - يا خالتي نحن من حماة أيضا وسنخرج غدا إفراج ، فلو كانت لدى أي من الحمويات رسالة لأهاليهن اكتبوها وضعوها في شق الطاقة ونحن سنسحبها بإذن الله أثناء خروجنا إلى الخط بطريقة لا تشعر العناصر ونوصلها لهم .

والذي تبين بعدها أن هؤلاء الشباب المساكين وعدوا بالخروج في اليوم التالي بالفعل ولكن الخروج كان في الحقيقة إلى تدمر ! وفوجئنا عند الصباح بالمحقق يرسل وراء أمي بلا مقدمات أو سبب . . فتعود والدموع ملء عينيها تحدق في وتبكي . . فتملكني القلق والخوف عليها وهجمت أحضنها وأسألها ماذا حدث . . فقالت : - أخبرني أنهم سينقلونني إلى فرع اخر اليوم ولكنني أظنه كاذبا . . وأحس أنهم سيطلقونني اليوم .

وقصت علينا أن المحقق لما استدعاها ابتدرها يقول لها : - جهزي نفسك وأحضري أغراضك بسرعة . فسألته : وابنتي ؟ قال : ستبقى رهينة عن أخيها صفوان ولن تخرج حتى يسلم نفسه . . أو فاعتبري أنك لم تلدي هذه البنت وانسيها ! وجعلت أمي وهي تقص علينا ذلك تخلع ملابسها عنها وتعطينا إياها قطعة بعد قطعة ، وما أبقت إلا ما يسترها وحسب لعلمها أنه ليس لدينا ما يكفينا . . وسألتنا إن كان أي منا يريد إرسال رسالة أو توصيل خبر عنه ، فسارعت ماجدة وأخذت قلما من منيرة وكتبت رسالة لأهلها على ورق المحارم دستها أمي في كم سترتها ، وأخذت تعانقنا وتقبلنا وتدعو لنا وندعو لها وخرجت . . ولم تكد تبلغ الباب عند السلم وهي تستحلف العنصر أن يخبرها بموعد خروجنا لى اجابته الساخرة ورجاؤها المتكرر يبلغ مسامعنا فيزيدنا ألما وحسرة حتى انفلتت من بين يديه وقفلت راجعة ، ففتحت طاقة الباب وسألت بسرعة تقول : - نسيت هؤلاء الشباب جيراننا من بيت من كانوا ؟ ولم نكد نخبرها حتى كان حسين قد وصل إليها فأمسكها من ياقة جلبابها وجذبها مغلظا لها في الكلام . . وهي ترد عليه الكلمة بأخرى والعبارة بأشد منها حتى خرجت . . وكانت اخر مرة أراها فيها رحمها الله .

وأما رسالة ماجدة فعلمنا بعدها أن أمي توجهت أولا إلى بيتنا في دمشق الذي اعتقلنا فيه وقصت أخبارنا على البنات اللاتي كن معنا فسألنها أن يرين الرسالة ، لكنهن اجتهدن أن ينقلنها على ورقة عادية خشية أن تتمزق المحرمة ، فلما ذهبت أمي بها إلى أهل ماجدة لم يصدقوها لأنهم رأوا الخط مختلفا . . وظنوا وقد فقدوا الأمل بابنتهم أنها إنما تسري عنهم وحسب ، وظلوا في شكهم حتى فتحت الزيارات في سجن قطنا بعد سنين فرأتهم هناك ورأوها بعد طول فراق .


معززات مكرمات !

وتم الإفراج عن أمي في السادس عشر من شباط . . وتأكد لنا الخبر حينما استدعى المقدم ماجدة بعد أسبوع تقريبا لأنها قدمت طلبا له تسأل فيه حلا للوضع ، فقال لها بكل صلافة واستعلاء : - انظري . . لا توجد أحسن من جلستكن هذه أبدا . . أنتن هنا معززات مكرمات . . ومثل هذا الفرع لن تجدوا ! وأضاف يقول : هذه أم هبة أخرجناها فجلست هنا على الباب فترة طويلة تبكي ولا تعرف كيف تتصرف حتى أعطيتها أجرة الطريق من جيبي أنا . . وبالتأكيد كان ناصيف يكذب لأن أمي ظلت جالسة عند الباب ترفض التحرك قبل أن تعرف مصيرنا وتأمل أن تسمع قبل ذهابها ولو إشارة بقرب الإفراج عنا وإلى أين ستتجه الأمور ، لكن الإفراج لم يتم . . وسارت الأمور من سيء إلى أسوأ ، فلم تلبث أن انضمت دفعة جديدة من المعتقلات إلينا . . لتنفتح علينا قصص أخرى من الماسي والآلام . . ونبدأ فصلا جديدا من الكرب والمعاناة .


مزيد من الضيو ف . . مزيد من المآسي !

لم تكن يومان أو ثلاثة من الإفراج عن أمي قد انقضت حينما قرع علينا أبو عادل مدير السجن باب المهجع ضحى ذلك اليوم ودفع إلينا بسيدة تضع منديلا أسود انقلب لونه من الأعلى إلى الصفار الباهت . . وترتدي بالطو من الجوخ الأسود أيضا وتحمل في يدها بقجة جمعت فيها حاجياتها كما يفعل الشحاذون تماما ! أطلت ثم ارتدت للوراء لبرهة كانت كافية أن نلمح هيأتها الرثة وبقايا جدري أصابها منذ الطفولة فترك مع أصابع الزمن ندبا على وجهها المرهق . . فتبادر إلى أذهاننا أنها متسولة ألقوا القبض عليها وأحضروها لتشاركنا المكان ! فحوقلنا وقلنا لأ نفسنا ونحن بين النفور والإشفاق : وهل ينقصنا عذاب من هذا النوع مع كل الذي نلقاه . . روائح ومناظر الشحاذين ! لكن الباب فتح على اخره مرة ثانية واندفع أبو عادل يصيح بنا : -هيا . . انهضوا واستقبلوهن . . ودخلت السيدة نفسها تتبعها أخريات لا يختلفن في الهيئة الرثة عنها كثيرا : فهذه كالخادمة . . والأ خرى أشبه بالمتسولات . . وتلك تلبس مانطو ممزقا . . ورابعة ترتدي تنورة أطول منها وقد عقدت إيشاربها على رأسها أوثق ما تستطيع ، وعليها كنزة ضيقة تلتصق على جسدها وقد عفا عليها الزمن ، وفقدت أزرارها من الخلف فبقيت مفتوحة بعض الشيء . . ولم نكد نستوعب النظر إلى النساء الست القادمات حتى اندفعت أولاهن نحو الحاجة مديحة تعانقها وهي تصيح : - أبوي . . أنت هون ؟ وانفجرت السيدة في البكاء ، وبادرتها الحاجة بالدموع تقول : - حاجة رياض . . الحمد لله على سلامتك . أخيرا . . أخيرا وجدت ونيسا لي في هذا المكان .

وبحركة غير متكلفة دفعت الحاجة مديحة البنت التي كانت تجاورها في المجلس وأفسحت لصديقتها الحاجة رياض المكان فأجلستها فيه وما عادت تحركت عنه أبدا ! وتحركت بقية القادمات الجدد نحونا بتوجس طبيعي بادئ الأمر . . ثم لم تلبث النفوس أن استراحت . . وانفتحت جعب الحكايات . . وغص المهج بالعدد الذي زاد عن سعته . . لتزداد المعاناة وتتوالى أيام العذاب .


باب الحديد !

كانت القادمات من سجن المسلمية بحلب خمس هذه المرة : الحاجة رياض د. ولمى ع. ورغداء خ. ومنتهى ج. وإيمان ق. وكانت مهزلة إحضارهن إلى كفر سوسة لا تقل ألما عن مأساة اعتقالهن وتعذيبهن . . فلقد أركبوهن السيارة من سجن المسلمية بحلب وقد كبلوا كل اثنتين منهما معا والخبر يقول إنه إفراج ، وكان قد سبق بالفعل إطلاق سراح حوالي 16 سيدة أخرى كن معهن ، لكن السائق اتجه بهؤلاء الخمس على الطريق الموصل إلى دمشق ، فلما عبرت السيارة الكرة الأرضية مغادرة حلب لاحظت الحاجة رياض ذلك رغم أن الوقت كان مساء فقالت للسائق ببراءة : -أنا بيتي عند باب الحديد خيو . . يمكن ضيعت الطريق ! فأجابها بلؤم وسخرية : لا . . طولي بالك . . ما وصلنا باب الحديد بعد . . أريد أن أعمل لكم دورة حول حلب وأوصلكم بعدها كلكم إلى باب الحديد ! فلما فهمت الحاجة المقصود أغمي عليها . . واصفر وجه لمى وقد ظنت أنهم سيأخذوهن الان إلى غرفة الإعدام . . وجعل العناصر يسخرون منهن طوال الطريق ويزيدون قلقهن قلقا ورعبهن رعبا . . فلما وصلن إلينا كن في غاية التوتر والإجهاد . . لكن دقائق تالية مرت كانت كافية لتغير الحال . . ولتفتح كل منها جعبتها وتروي قصتها في رحلة الآلام .


تحويشة العمر !

كانت الحاجة رياض من النساء الطيبات البسيطات ، خرجت من المدرسة في الصف السادس ولم تكمل تعليمها ، ولم تتزوج رغم بلوغها الأربعينات ، لكنها - كالحاجة مديحة - من أسرة متدينة وأخت لأشقاء ملتزمين كانت لديهم منجرة في حلب ففتحوا فيها مخبأ للملاحقين قبل أن تنكشف فيعتقل واحد منهم ويهرب الآخر إلى عمان ، وفي مرة كانت الحاجة رياض ذاهبة إلى هناك لتزور أخاها في عمان قدمت لها إحدى السيدات بعض المال لتوزعه على أبناء الشباب الذين أعدموا ولا يكادون يجدون في هذا الظرف الصعب معينا أو مصدرا للكسب ، وبالفعل أخذت رياض المبلغ ووزعته كجزء من واجب أحسته نحو هؤلاء المساكين ، لكن اعترافا أتى عليها لا تدري من أين فاعتقلوها وجعلوا يعذبونها أشد العذاب ، وبعدما فتشوا بيتها ولم يجدوا شيئا جعلوا يهددونها لتخرج النقود التي أحضرتها من عمان ، لكنها كانت قد وزعت المبلغ كله ، فزادوا عليها التعذيب حتى اضطرت أن تخبرهم عن مبلغ من المال كانت قد جمعته على مدار حياتها وخبأته للطوارئ تحت أحد الكراسي ، فأعطتهم إياه مرغمة لتنجو بنفسها ، وكانت كلما تذكرت ذلك بعدها تبكي وتقول للحاجة مديحة بحسرة : - أخذوا تعبي وعرق جبيني يا حاجة وعملوهم من الإخوان . . إي ولي على الإخوان وساعتهم ! وكانت تنشد أحيانا بين الحسرة والطرافة تقول : - إلهي قد غدوت هنا سجينا . . لأني وزعت مصرات الإخوان المسلمين ا إ! وروت الحاجة رياض عن تعذيبها الأهوال بحق ، فلقد تمت تعريتها مثل أكثر المعتقلات بحلب ، وجعل عمر حميدة يسحبها من شعرها على الأرض فيرتطم رأسها بالأرض والجدار ، مما تسبب في كسر عظمة أنفها . . وأصابها بعسر دائم في التنفس ، فكانت المسكينة بعد ذلك دائمة التشخير . . وزاد حميدة على ذلك العذاب الوحشي فسلط على وجهها خرطوم ماء شديد لتصحو من الإغماء فخرق لها طبلة أذنها ، وكان من المضحكات المبكيات أنها اعتادت بعد ذلك أن تنام على أذنها السليمة فلا تعود تسمع شخيرها الذي كان يؤرق نوم المهجع كله ، فنضطر إلى إيقاظها آخر الأمر لتعدل من وضعيتها وتساعدنا على اقتناص ساعة نوم هنيئ ! وقام الجلادون أيضا بقلع أظافرها التي لم تنم حتى بعد وصولها إلى كفر سوسة ، وظل مكانها مزرقا لفترة طويلة بعدها ، وكان حميدة - كما روت يجلسها في ركن الغرفة ويناديها : -تعالي يا بقرة . . تعالي .

وهو يومىء لها برأسه لتأتي ، فتفهم المسكينة الإشارة ولا تسمع الكلام وتجيبه . . فيضج والعناصر والمحققون عليها بالضحك وهو يقول : -والله بتعرفي اسمك يا بقرة !


أربعمائة ليره بثماني سنوات !

أما منتهى ج . والتي لم تكن جاوزت وقتذاك السادسة عشرة من عمرها فكانت زوجة أحد الذين أعدمتهم السلطة عام 1979 بتهمة الإنضمام إلى تنظيم مسلح معارض للنظام ، وكانت منتهى قد تزوجت عن غير رضا والدها ، فلما أعدم الزوج وهي حامل رفض أهلها استقبالها في بيتهم ، وأمضت عدتها عند بيت إحماها ووالدها يقول على الملأ "عيني لا تشوفها . . هذا جزاؤها لأنها لم تسمع كلمتي أ ا ! وعاشت المسكينة بعدها على الصدقات ، وكانت من ثم إحدى من أوصلت الحاجة رياض لهن مالا من تبرع السيدة في عمان ، فلما اعتقلت رياض أخذوها في الليل لتدلهم على بيتها فلم تستطع الرفض بعد العذاب الشديد الذي ذاقته ، ولما اقتحموا على منتهى البيت خرجت وابنتها الرضيعة على يدها ، فانتزعوا الطفلة من بين أيديها ودفعو بها إلى الأهل واقتادوا منتهى إلى فرع المخابرات .

ومن سوء حظها أن اعترافا آخر أتى عليها في الوقت نفسه بأنها تلقت رسالة من مصطفى قصار عرض عليهما الزواج فيها ، فنالت كالأخريات أشد العذاب ، فعروها وعلقوها بالسقف وتناوبت عليها كل وسائل التعذيب . . وقالت لهم ببساطة أنها لا تنكر تلقي الرسالة لكنها أجابته من حينها بالرفض ، ولم تنكر تسلم المساعدة المالية التي لم تجاوز الأربعمائة ليرة . . لكنها أوضحت أنها كانت هدية نقوط لابنتها وهذا حق البنت ولا علاقة له بالأم أو بأي أحد اخر . . ولم يشفع ذلك لمنتهى فأرسلوها بعد التحقيق والعذاب المهين إلى سجن المسلمية ، ومن هناك إلى كفر سوسة .

ومع الحاجة رياض ومنتهى حضرت فتاة حلبية أخرى اسمها إيمان ق . وكانت في صفها الثامن أو التاسع ، ولم توجه إليها أية تهمة سوى نقل الرسالة من أخيها مصطفى إلى منتهى بطلب الزواج ، ولذلك لم يشددوا عليها في التحقيق ولا في التعذيب واعتبروا عملها نوعا من الطياشة والجهل ، ونجت بذلك ولله الحمد من التعرية والإساءات . . وقد تم الإفراج عنهاعام 84 مع أم شيماء . وأما رابعة القادمات رغداء خ .

فقد اعتقلت مع الخامسة لمى في بيروت عندما ذهبتا هناك على أساس أن تلتقيا بأحد الشباب الذي وعدهما بضمهما إلى التنظيم ، لكن الشاب كان قد اعتقل قبلهما فوجدتا المخابرات في انتظارهما واعتقلوهما من هناك ، ولم تعذبا كثيرا لصغر سنهما ، حيث كانتا في الصف التاسع ونجحتا وقتها على العاشر ، لكن لمى تحدثت بأنهم أحضروا أثناء التحقيق معها ابن عمها المتهم بتنظيمهما ليعترف عليهما أمامها ، وقالت بأنها رأته يحمل عينه على كفه عندما أحضروه والدم لا يزال يخرج منها ! ولشدة طيبتهما ولما أرادوا إعادة التحقيق معهما في كفر سوسة عادت لمى إلينا منفعلة تبكي بحرقة ، فسألتها الحاجة ملهوفة عم حدث ، فقالت بقلب محروق وانفعال بلغ مداه : - نسفني كف وسب والدي . . واعتبرت ذلك غاية الإهانة وأشد العذاب !


حزب الهرموشية !

لكن العذاب كان أشكالا في السجن وألوانا . . ضرب الكف ولسع الخيزران والسب والشتائم بعض من أصنافه وحسب ، ونوع اخر من أصنافه أن تضيق الزنزانة على بضعة عشر شخصا لا منفس لها ولا مخرج . . تتباين بعض الأحيان عاداتهم وتختلف اراؤهم وتتعارض انتماءاتهم ولا يجدون بدا إلا المجاورة بالقسر ! ومن هذا الصنف أتوا إلينا مرة بسجينة من قرى درعا تهمتها تهريب السلاح والمتاجرة فيه . دخلت علينا فجأة فرمتنا بنظرة غريبة ومن غير أية مقدمات قالت : -طقع . . كل من على شكله وقع ! لم ندر وقتها ما الذي كانت تتحدث عنه . . وعندما سألناها لاحقا قالت : - عندما نظرت إلى المهجع أول مرة رأيت هؤلاء الكبار اللاتي تنادوهن حجات قاعدات مع بعضهما البعض وأنتن لوحدكن فتصورت أن هؤلاء غيرأولئك . . وكل واحد جالس مع شكله ! كان اسمها كما أذكر أم جبري ، ضخمة البنية طويلة الجسم عريضة المنكبين ، لكنها كانت غاية في الجهل ابتداء بأولويات النظافة وانتهاء بالسياسة ! كانت وسخة جدا فلا تنظف لا جسدها ولا مكانها ولا حتى الحمام إذا استعملته . . والمكان كله شبر بشبر ! وزاد عليها وعلينا القمل الذي تسرب منها إلى المهجع لكنه ويا للعجب لم يطب له المقام إلا في رأس منيرة التي كانت تجاورها في مكان النوم . . فلما اشتد الأمر على منيرة قالت لها الحاجة : -عندي الدواء ! وطرقت الباب منادية على حسين فلما جاء سألته أن يحضرو ا بابور الكازا ويعيره لنا ففعل ، فتناولته بيد وأدنت رأس منيرة باليد الأخرى وسكبت الكاز على رأسها . . لكن الكاز انتهى وظل القمل غاية في الحيوية والنشاط إ! ولم يخرج إلا بخروج أم جبري هذه بعد شهر أو شهرين بوساطة من محمود الزعبي رئيس الوزراء وقتها ، بعدما كادت تصيبنا وتصيب حتى المحققين بالجنون ! ولقد كانوا يسألونها وقد ظنوا أن وراء تهريبها السلاح أمر جلل : - من أي حزب أنت ؟ فتجيب : من حزب الهرموشية . . تقصد القرية التي أتت منها . . فيعيدها إلى التعذيب ظنا أنها تراوغه ، والمسكينة من جهلها لا تعرف ما الذي يغضب المحقق ولا الذي يستغربه من إجاباتها !


بلاء أخف من بلإء!

لكن "أم جبري " كانت على ما فيها أرحم من صنف من السجينات أخر ابتلينا به . . وهن الشيوعيات الحاقدات . . ففي وقت لاحق وأثناء حوادث الإعتداء على المحجبات بدمشق أواخر عام 81 ألقوا القبض على عضوة في التنظيم الشيوعي وهي طالبة طب من دمشق من زميلات أخي في الجامعة اسمها فاديا لاذقاني ، كانت توزع منشورات باسم الإخوان لتأجيج التوتر كما يبدو ، وسرعان ما انقلب لتصبح مخبرة تنقل أخبارنا إلى رئيس الفرع أولا بأول ! كانت تفتخر بشيوعيتها وتتعالى بها علينا . . وكثيرا ما كانت النقاشات تدور بيننا حول ذلك بلا نتيجة ، لكن ذلك لم يكن ليمنع من إحسان الصحبة لولا أنها كانت تتعمد إزعاجنا والتشويش علينا ، فلقد سمحوا لها بالراديو مثل منيرة وبممنوعات علينا أخر ، فكنا إذا أردنا الصلاة أو قراءة القران رفعت صوته بالموسيقى والغناء لتشوش علينا ، أو وضعت السماعات على أذنيها مظهرة لنا الإنزعاج . . ولم تغير من سلوكها رغم تكرر الطلبات والرجاءات .

وعندما استشهد أهلي علمت فاديا بالخبر من المقدم وحدها ، فما وجدناها إلا وقد عادت بادية السرور تتدحرج على أرض المهجع وكأنما أصابها مس . . ولما سألناها عم حدث قالت : -سمحو الي بمسجلة . . لكن ذلك لم يدخل عقولنا ، فالراديو معها منذ وقت طويل ، والفرق بين الإثنين ليس بهذه الدرجة . . فعادت الحاجة بعد ذلك واستدرجتها على انفراد ، فما استحت أن تقول بأنها سمعت يومها خبر مقتل أهلي في أحداث حماة من المقدم فكان ذلك سبب فرحتها ! وكانت تتابع الأخبار بالراديو وتتتبع ما يجري في حماة وقتذاك ولكنها لم تخبرنا ولا كلمة . . وتظل تسهر من إذاعة لأخرى طوال الليل ونحن لا ندري عما يجري في الدنيا . وبقيت فاديا في "كفر سوسة" عندما نقلنا نحن إلى قطنا ليفرج عنها لاحقا . . وبعد ذلك أتت بنفسها فزارتنا في سجن قطنا" ، وكانت وكأنما تريد إغاظتنا تتحدث كيف أطلقوا سراحها ونالت حريتها فذهبت لتكمل دراستها في فرنسا وعادت الان في إجازة .


مسرحية التجسس !

وذات مرة أحضروا امرأة فلسطينية إلى إحدى المنفردات ولعبوا لعبة علينا قامت بها هذه المرأة التي تبين بعدها أنها مخبرة مثل منيرة التي قامت بتكملة الدور . ففي البداية قالت لنا فاديا صراحة أنهم طلبوا منها أن تجلس معها وتستدرجها على أساس أنها سجينة مثلها وتحلل لهم نفسيتها وتنقل لهم أخبارها ، وذهبت من المهجع إلى المنفردة وجلست معها اليوم الأول ثم عادت تقص علينا قصصها ، وظلت تقوم بهذا الدور الأسبوع فتأتي وتقص علينا بصراحة كيف أنها تدرس شخصية تلك السجينة وتقدم التقارير بها وتنقل أسرارها للمقدم . . حتى إذا زرعت الشفقة عليها في قلوبنا وجدناهم أحضروها إلينا من المنفردة ووضعوها معنا في المهجع بضعة أيام كنا نعاملها خلالهما أحسن المعاملة ونفتح لها قلوبنا كأية سجينة مظلومة ، وكانت من جهتها تتنقل من واحدة إلى أخرى تسمع قصتها وتستل الأسرار منها . . ثم لم يلبثوا أن نادوا عليها بالإفراج ففرحنا لها وجلسنا نودعها ، فجعلت تسالنا بكل تلقائيه إن كنا نريد إرسال أية رسائل أو معلومات لأحد لنا في الخارج ، ولا أدري ما سبب الشعور الذي تملكني والإحساس بانقباض القلب رأيتها تلح علي في طلب ولو حتى إشارة مني أو أثر تذهب بها إلى أقربائي وأهلي ، فبعد أن هممت بذلك عدت وانسحبت شاكرة وقامت أكثر البنات بإعطائها رسائل إلى أهاليهن وصلت كلها يد المقدم فاستطاع من خلال هذه المخبرة التي أجادت دورها بالتعاون مع فاديا أن يعرف الكثير عما يدور في هذا المهجع وبين نزيلاته المعتقلات ، لكن فاديا ظلت من خبثها تدعي استغرابها مما حدث ، وكان من دهائها أن شاركت حتى في الإضراب الأخير ، وكانت أكثر المتشددات في مراقبة من يهم بالتراجع أو نقض الإضراب . . وكل ذلك تمويها وتدليسا علينا لاستكمال المسرحية ! وفي نفس الفترة انضم إلى مهجعنا نزيلة جديدة اسمها ترفة لم تكن من اتجاهنا ولا من ديننا ، لكنها كانت على النقيض من فاديا هادئة الطباع سمحة الخلق لا تؤذي أحدا بقول أو فعل .

وترفة سيدة مسيحية من باب توما بدمشق في الثالثة والعشرين من عمرها ، كانت لديها - كما روت - مشكلة في الإنجاب ، فذهب بها زوجها إلى الإردن أولا ثم إلى العراق للعلاج ، لكن الزوج اعتقل بعد عودتهما بتهمة التعامل مع العراق واعتقلت معه ، ورغم أنها نفت علمها بأي شيء أو معرفتها إن كان زوجها قد فعل شيئا أم لا ، إلا أنها اقتيدت من بيتها إلى سجن كفر سوسة ، وتم تعذيبها أيضا قبل أن ينقلوها إلى المهجع معنا ، فكانت بيننا كواحدة منا . وعندما قررنا الإضراب أضربت أيضا واستمرت ثابتة حتى النهاية . . وتم نقلها عندما نقلونا إلى قطنا ، لتبقى معنا هناك إلى اخر فترة ولا يفرج عنها إلا بعدنا بشهور .


الضيف ضيف الله !

وتتابع وفود معتقلات جدد ومآس أجد . . فبعد كل من وفد أحضروا إلى مهجعنا الذي غص بنزلائه أختين من اللاذقية هما منى وأمل ف .

عمر الأولى35 أو 36 سنة وهي أم لثلاثة أبناء : بنتين وصبي ، والثانية عزباء في الثامنة أو التاسعة عشرة . وقد بدأت قصة منى التي كانت غاية في الطيب إلى درجة السذاجة بالفعل . . بدأت حينما قتل زوجها برصاصة طائشة أثناء عبوره منطقة كانت مسرحا لاشتباك بين المخابرات وعناصر مضادة في اللاذقية ، وكان - كما روت - يحمل ابنته على كتفه حينما أصابته طلقة اخترقت يده التي يمسك الطفلة بها واستقرت في قلبه فقتلته ، وظلت البنت على قيد الحياة .

وبعد مدة طرق بابها رجل من الملاحقين المشهورين في اللاذقية يسمونه أبا عنتر أو أحمد عنتر ادعى أنه بائع كاز فأرادت أن تشتري منه ، وبينما هو يؤدي عمله سالها إن كان يستطيع أن يختبئ عندها لأنه لا يجد له مأوى فوافقت على بساطتها وأدخلته فأوته . . ولكن أمره انكشف كما يبدو فداهمت المخابرات البيت ووجدوه مختبئا في إحدى الخزائن فرشوه مباشرة وأحضروها إلى السجن . . ولما ساكوها في التحقيق عن ذلك الشخص أجابت : -ضيف .

قالوا : ضيط ؟ هذا أكبر مجرم وأنت تسكنينه في بيتك !

قالت : لأن الضيف ضيف الله ! فسالها المحقق هازئا : ضيف الله ؟ قالت على طيبها وبساطتها : إي والله ! واحد أتاني يقول لا يوجد لي أحد وليس عندي مكان ويسألني الضيافة هل أرده ! وكانت قد اتفقت معه أو اتفق معها أنه إذا سالها شخص عن سبب وجوده معها تقول بأنه خطيب أختها . . فبلغهم ذلك أيضا . . وأحضروا الأخت التي لم تكن تعلم أي شيء عن أي شيء وأودعوها السجن معنا كل الفترة ، وأتوا بأبيهما وبأخيها فسجنوهما أيضا ، ثم أفرجوا عن الأخ وتركوا الأب . ولقد تبدت طيبتها من أول لحظة دخلت بها علينا وهي تبكي بحرقة وتنتحب كالأطفال . . وكالعادة التففنا حولها وحول أختها كأية قادمة جديدة خاصة وأنها محجبة وسألناهما : - من أنتما . . ولماذا أحضراكما ؟

فقصتا علينا القصة . . فسألناهما : -ولماذا تبكيان كل هذا البكاء وهم لم يعذبوكما بعد ولكما في الإعتقال مدة ؟ قالت منى : قال لي العنصر ادخلي فلما لم أدخل بسرعة سب أبي . قالت لها الحاجة : وماذا في ذلك ؟ قالت : أبي لا يسب ! ولقد ظلت منى معنا حتى عام 85 ثم نقلوها إلى اللاذقية ، وعادوا فأرجعوها بعد سنة إلى قطنا وانتقلت معنا إلى دوما حتى خرجنا جميعا ، وأما أختها فخرجت من كفر سوسة عام 1984.


عصة القبر !

ومن نزيلات مهجعنا كذلك كانت أم ياسين ساريج السيدة التي اتهم ابنها بتنفيذ حادثة الأزبكية بدمشق أواخر عام 1981 .

وكانوا في البداية قد أحضروا إلينا صورته مقتولا وقد تمزق وجهه فلا يكاد يبين منه شيء وسألونا إن كنا نعرفه فكان جوابنا النفي ، ومرروا الصورة على كل المهاجع فلم يتعرف عليه أحد ، وفي المساء أحضروا أمه وسألوها إن كانت تعرف عنه شيئا - ولم يكن الشاب ملاحقا فقالت لا أعرف . . وعندما أروها جثته ثبتها الله فلم تزد عن أن تقول : - حسبنا الله ونعم الوكيل .

وكانوا قد اعتقلوا معها زوجها وابنيهما أيضا وكان عمر أحدهما 16 والأخر 12 سنة ، فوضعوا الأب والأولاد في الجنوبي ووضعوها في المهجع معنا، وبقيت هناك فلم يفرج عنها إلا بعد نقلنا إلى سجن قطنا .

ولا أزال أذكر أنهم عندما أخرجونا إلى "المحكمة الميدا نية " عرض علينا رئيسها النقيب سليمان حبيب صورا من الجريدة لقتلى التفجير وهو يقول: دماء هؤلاء الأبرياء هي السبب في تشكيل المحكمة . . وهذه الدماء سنخرجها والله من رقابكم أنتم وبعد انتهاء من تلك "المحكمة" المهزلة ، وبينما كان أحد العناصر يعيدنا إلى المهجع قال لنا : - شايفين الحادثة التي صارت ، هذه الإخوان فعلوها . . ولازم تتأكدوا أن كل حادثة تحدث في الخارج ستنعكس على الذين في الداخل ! وفعلا كانوا كلما ضيقوا علينا نعلم لاحقا أن أمرا ما قد حدث في الخارج . . ونحس ذلك من منع التنفس فجأة أو إغلاق الطاقة علينا لعدة أيام . . ونتأكد أكثر من صياح الشباب الذي يتعالى وهم يتلقون مزيدا من التعذيب . . وكانت الحاجة رياض ببساطتها تقول عندها : ولي على قامتكم يا اخوان . . تعالوا شوفوا إيش صايرلنا . . أنتم تفعلون ما تريدون على كيفكم ونحن عصة القبر علينا !


سجن أم دير !

واذا كانت مشاهد السجن كلها مؤلمة وحالة السجينات وقصص المعتقلات تفيض بالأسى والمرارة فإن قصة هالة ن . قد تكون من أشد المشاهد التي رأيت إيلاما وأكثر ما سمعت وعايشت في السجن من قصص مرة . . فبينما كنت أنظر من شق الطاقة يوما شد انتباهي مشهد غير طبيعي أراه أمامي ، فالتفت إلى البنات وقلت لهن: كأنهم والله أتوا بواحدة أجنبية لا تفهم العربي ! هذا حسن يكلمها ويجذبها من كتفها وهي تنظر إليه مثل "الخوتة" ولا تفهم عليه . . لكنها تبدو أجنبية مسلمة لأنها تضع حجابا على رأسها .

كانوا قد أخرجوها كما يبدو من المنفردة إلى "الخط " حينما رأيتها أول مرة ، وانتظرت فرأيتهم حينما أعادوها ، ثم جعلت أراهم يأخذونها ويعيدونها قرابة شهر كامل على هذه الحال : كانوا يشحطونها شحطا ويدفعونها في كل خطوة لتنتقل إلى الخطوة التالية وكأن أعصابها قد أصيبت بالتشنج ، والجمود كسا سحنتها فلا تتكلم ولا تتألم ! كانوا يأخذونها إلى التحقيق ويعيدونها سحبا كالدابة أو كالميت ، ولا تزيد هي على الحملقة فيهم والنظر حولها نظرات بلا معنى ! وبعد شهر كأنما يئسوا منها فأتو بها إلى مهجعنا . . ولا أزال أذكر لحظة أن فتح السجان إبراهيم الباب علينا وهو ممسك إياها من كتفها وناداني : هبة . . قومي استلمي . . هذه وظيفتك . ودفع بنفس المرأة إلى المهجع ومضى .

نظرت فرأيتها وهي لا تزال بحجابها ترتدي بنطالا عريضا جدا يمسح الأرض . . وملابس كلها قذرة لم تنل نصيبا من النظافة منذ زمن لا يعلمه إلا الله ! انتظرنا لحظة أن تتحرك فلم تغادر المكان الذي دفعها إليه إبراهيم وظلت واقفة عنده لا تتزحزح . . تقدمنا جميعا نحوها وسألنا بلطف : " -ما اسمك ؟ فلم يجب أحد ! - من أين أنت ؟ لم ترد ! تقدمت الحاجة وقالت : - ابتعدوا قليلا . . والله ضبعتوها . فتأخرنا جميعا وتقدمت الحاجة فسألتها من جديد : -ما اسمك يا بنتي ؟ أجابت بصوت كأنما ينبعث من بئر خرب ونظرتها الوجلة مركزة على نقطة واحدة في أفق بعيد لا نراه ولا تتزحزح عنه : من أنت ؟ ومضت قرابة الساعة والسؤال يتردد ومحاولات استنطاقها ولو كلمة واحدة إضافية دون جدوى . . فيئسنا منها وتركناها .

ظنا : لعلها خائفة . . لندعها تهدأ بعض الشيء . وقتها كانت منيرة تستمع إلى الراديو . . وكانت عندما تلتقط إذاعة القران الكريم وعلى الأض برنامج "ناشئ في رحاب القران " ترفع الصوت أو تعطينا الجهاز لنسمع . . وغالبا ما كنا نضه على أنبوب التدفئة ليسمع الشباب في الزنزانة المجاورة أيضا ، وما أن فعلت وقتذاك وعلا صوت طفل بالتلاوة حتى وجدنا ضيفتنا الجديدة هجمت على الراديو وقالت بانفعال : -أغلقوه . . أغلقوه . . هذا يخلط بالقران . . حرام . . كل هذا كذب وافتراء ! قلنا جميعا وقد تملكتنا الدهشة : أستغفر الله . وقامت أم شيماء فأقفلت الراديو وهي تقول بجد : -يابنات هذه فيها شيء ! لكن هالة ظلت على وقفتها لا تتزحزح ولا تتحرك ولا تغير من وضعها . . صار الليل . . بعد منتصف الليل وهي كالخشبة لا تتحرك . . وعندما حاولنا تحريكها كانت كالمسمار المدقوق في الأرض ! فلم تتمالك الحاجة نفسها ودقت الباب وقالت لابراهيم لما حضر : -يا ابني هذه المخلوقة فيها شيء ؟ ما لها يبست مكانها ؟ نريد أن ننام . . نجلس . . نأكل . . نشرب . . وهي واقفة على وقفتها ! فقال ابراهيم : لا تصدقوها . . إنها تمثل . فسألته الحاجة : وهل هي كذلك منذ أن أتت هنا ؟

قال : نعم . . لكنها تمثل . . كله تمثيل بتمثيل . . تظن أنها ستتخلص من الإعتراف والتحقيق والشيء ثابت عليها . . لكن هذا شيء تحلم فيه ! تركته الحاجة وعادت إليها ثانية فسحبتها من يدها شيئا فشيئا وأجلستها بجانبها فاستجابت وجلست . . سالناهم أن يطفؤوا الضوء ففعلوا وأتينا لننام ، ولم تمض دقائق على ذلك حتى وجدتها متربعة فوق قدمي تحدق في وجهي ، فلما رأيتها كذلك لم أتمالك نفسي وصحت برعب : -حجة . . من شان الله تعالي وخذيها ! قامت البنات كلهن وقامت الحاجة يسألنني ماذا هناك . . فنظروا ورأوها . . وعادت هي فجلست منكمشة تنظر برعب وهلع إلينا ، فجاءت الحاجة وقالت لها بالإنسانية : -تعالي لعندي وانتي ابنتي . . وجعلت تحضنها وتلفها حتى أرجعتها إلى جانبها . . وعاد الهدوء شيئا فشيئا إلى المهجع . . وفي الصباح وبعد أن أدينا الصلاة وعدنا للنوم ثانية أحست وقد غفا الجميع تدفق أنفاس بالقرب مني ، فلما فتحت عيني رأيتها فوق رأسي هذه المرة تكشف الغطاء من جانبه وتتلصص بالنظرإلي ، فلما رأيتها هكذا تخيلت أنها تريد أن تخنقني فصحت صوتا بالمقلوب ولم أعد أقوى حتى على التحرك ، فيما تحركت هي بلا أدنى انفعال وجلست على جنب وكأن شيئا لم يكن ! وكانت ماجدة قد استيقظت على الصوت فسألتها : - ماذا تريدين ؟ هل تريدين شيئا ؟ فما وجدناها إلا وقد نطقت وقالت تسألها بلهجة جامدة : -ماهذا . . هل هذا بدير؟ قالت لها ماجدة : لا . . هذا ليس بدير . . هذا سجن ! فعادت إلى صمتها وظلت على جلستها لا تتحرك .


قذيفة بطاطا !

كان حجاب هالة وثيابها حينما جاءت وسخة جدا ، وبمرور الأيام وهي على حالتها تلك ازدادت نتانة واتساخا ، لكننا كلما حاولت أحدانا أن تقترب منها أو تلامس ثيابها انكمشت أكثر ومنعتها من الإقتراب! وظلت على هذه الحال ثمانية أشهر لا تحكي ولا تأكل ولا تشرب ولا تحرج إلى الحمام ! كنا نسقيها الماء بالغصب وندس لها اللقمة في فمها دسا فتبقى فيه ساعة ولا تبتلعها ! وتقوم في الليل لتدخل الحمام فنتظاهـر كلنا بالنوم ، فتبقي الستارة مكشوفة وتجعل تراقبنا دون أن تفعل شيئا ، فإذا رأت أحدا تحرك تخرج مباشرة ولم تسحب ثيابها عنها بعد وذات يوم جلست عائشة بجانبها وأعطتها حبة بطاطا مسلوقة وهي تقول لها : -خذي . . هذه بطاطا طيبة وحلوة . . وقشرتها لها وأرادت أن تطعمها إياها ، فخطفتها من يدها بسرعة وأطبقت عليها ثم عادت فرمتها . . وكنت وقتها أغسل ملابسي في الحمام فما وجدت إلا شيئا يرتطم برأسي . . نظرت فإذا بها قد قذفتني بالبطاطا فكادت أن تشجني ، فيما وقعت حبة البطاطا في التواليت !


كي. . واعتداء. . وافتراء !

وفي مرة أخرى وبعد شهر من حضورها قررنا أن نغير لها ملابسها بأي طريقة ، وكانت طوال هذه الفترة لم يمس جسدها الماء . لكنها ظلت تنفر وتزمجر كلما اقتربنا منها ، فجاءت الحاجة وأم شيماء إليها معا وقالتا لها: - انظري . . هذه ثياب جميلة وثيابك وسخة الان . . فكشت من جديد علامة الرفض ، فتقدمت أم شيماء لتخلع عنها ملابسها ، فصاحت صوتا يا لطيف ويا ساتر . . ورفضت بكل إصرار ، فلم نجد بدا إلا أن نمزق لها ثيابها تمزيقا لنلبسها الثياب النظيفة لأول مرة ، لكن جسدها ظل وسخا وطال شعرها فكانت تحكه بأظافرها الطويلة الوسخة وتظل تحكه وتحكه بشكل مقزز حتى رجحنا أن لديها قمل ، فقررنا إعادة المحاولة وجلست الحاجة والبنات يسايرنها حتى أدخلوها الحمام . . وما أن بدأن بخلع ثيابها حتى خرجت أصواتها وارتفع زعيقها ، وهرع العناصر يسألون ما الذي يجري فقالت لهم الحاجة : لا شيء . . نريد أن نحممها فقط . . نخاف أن تجرب إن تركناها مدة أكثر .

فقالوا لها : اعلموا أنها تمثل عليكم . . هي سفيهة . . فاجرة . . وظلوا حتى خروجها وانتقالنا إلى قطنا يتكلمون عنها بهدا الكلام . . وعندما حمموها وجدوا آثار ما يشبه الكي بسيخ محمى على أرجلها وفخذيها وجسمها من الأسفل . . لكن الأحجية لم تكن لتحل بعد ، وسر هذه المرأة ظل غامضا يستعصي علينا . . وفجأة وبعد خمسة أو ستة أشهر من وجودها معنا لاحظنا أن بطنها تنتفخ وتكبر وقد بدأت تتأوه وتتألمم ، ثم لم تلبث أن فقدت قدرتها على الإحتمال . . فجعلت تصيح وتستغيث ، فشككنا أنها حامل - ولم نكن قد عرفنا قصتها بعد - وقدرت الحاجة وقتها أنها ربما كانت متزوجة من أحد الشباب وكانا جالسين معا فحدثت مداهمة لقاعدتهم واستشهد الزوج أمامها فأتتها صدمة . . وهى الآن حامل .

ولما لاحظ العناصر ذلك أيضا نقلوا الخبر كما يبدو إلى رؤسائهم ، فأتى رئيس التحقيق وسأل عن الأمر وقال من ثم لعائشة : نريد أن نفحصها فربما تكون حاملا بالفعل. فقالت له عائشة : دعنا نفعل ذلك وسوف نخبركم .

وقامت بالفعل ففحصتها بين الصراخ والزعيق الذي صرع الدنيا فوجدتها قد تعرضت لاعتداء واضح لكنه لم يؤثر عليها كثيرا وليس هناك ما يشير إلى حمل ، وظلت على هذه الحال يومين كاملين حتى ظننا من شدة الألم الذي نزل بها أن منيتها قد دنت . . فجعلنا نقرع الباب عليهم وننادي : -هالة ستموت . . نريد طبيبا . . فأتى أحد العناصر يسأل ماذا حدث ، فقلنا له إنها تكاد تموت من الألم . . فأجابنا بكل برود وجلافة :- وماذا في ذلك؟ مسموح هنا حسب القانون أن يموت 7% من المساجين ! وأمام إلحاحنا الذي لم يتوقف ونحن نراها على هذه الحال أحضروا لها آخر الأمر طبيب الفرع المخصص لا لعلاج السجناء بالطبع وإنما للضباط والعناصر ، فلما كشف عليها قال لهم : -ليس لديها شيء . . مجرد إمساك. وأعطاها تحاميل ومرهما أذكر أنني وضعتهم لها بنفسي . . وبعد قليل يا لطيف دخلت الحمام فخنقتنا الرائحة حتى كدنا نموت ! وكان نهارا لا ينسى حتى طرقت الحاجة الباب وسألتهم أن يفتحوه قليلا قبل أن نختنق جميعا !فسألها مستغربا : ما هذا . . ماذا لديكم . . ماذا فعلتم ؟ فأجابته الحاجة تضحك : فعلتها المدللة !


شويط اللحم !

والذي يبدو أن مسؤولي الفرع قرروا بعد استمرار هالة بتصرفاتها تلك القيام بمحاولة جديدة لامتحانها ، فرأوا أن يخرجوا ابن خالها السجين في نفس الفرع ويجمعوهما معا ليروا رد فعلها من اللقاء ، فسألت الحاجة مديحة رئيس قسم التحقيق أبا فهد أن يسمح لها بمرافقتها علها تستأنس وتتكلم . . ففعل .

فأخرجوهم معا إلى غرفة التحقيق بالقبو وكانت هالة وقتها قد نزعت الحجاب بالمرة وما عادت تبالي بستر أو بلباس ، فخرجت منكوشة الشعر تلبس تنورة ممزقة وتحملق في المجهول ، فما أن راها ابن خالتها بهذه الحال حتى أخذ يناديها بألم : هالة . . هالة . . لماذا تفعلين هذا بنفسك ؟ أنا ابن خالك . . وأمسكها يهزها وهي لا حياة لمن تنادي . . والمسكين يبكي ويقول لها : -يا هالة . . أنا ابن خالك . . أنا فلان . . ولكنها لم تبد أي ردة فعل ولم تظهر أية حركة ، فأتى إبراهيم وفتح باب المهجع علينا ثم جرها إليه جرا ودفعها لتدخل ونحن كلنا نراقب ما جري فما دخلت ، ووضعت يديها على طرفي الباب ووقفت مكانها فاجتمع أربعة عناصر يدفعونها تارة ويسحبونها أخرى ولكنهم ما استطاعوا أن يزحزحونها قيد أنملة . . فأشعل أحدهم السيكارة وجعل يلسع لها يدها ويزيد ويكرر حتى وصلت والله رائحة شويط اللحم إلى أنوفنا وهي لا تزحزح أصبعا واحدا وكأنها لا تحس بشيء . . فلم أتمالك نفسي أمام هذا المنظر الرهيب وصرت أصرخ بلا وعي : - منشان الله . . والله حرام . . حرام . وفي آخر الأمر تعاونوا فحملوها حملا وألقوها كقطعة من خشب على أرض المهجع وأقفلوا الباب . ولم تمض فترة على ذلك اللقاء حتى وجدناهم يستدعونها ثانية لمقابلة والدتها التي علمنا من بعد أنها دفعت مبلغا كبيرا ثمن ذلك ، وكان والد هالة قد أصيب بجلطة إثر اعتقال ابنته فنقل إلى المستشفى ولكنه ما لبث أن مات هناك بعد فترة . . وحضرت الأم الملتاعة إلى السجن وهي لا تزال متشحة بالسواد ، لكن اللقاء أثر بالسلب على الأم والبنت معا ، ففيما ازدادت صدمة البنت وقد علمت بوفاة أبيها تعاظمت لوعة الأم التي هالها أن تجد ابنتها فقدت العقل وانقلبت في تصرفاتها وشكلها أسوأ من المجانين . . فأصاب الأخرى ما يشبه الإنهيار ، ولم يستطيعوا أن يخرجوها من الفرع إلا شحطا !


وتكلمت هالة !

وانتهت المقابلة ، ولكن عذاب المسكينة وتعذيبها لم ينته ، فبعد فترة من الزمان وكان قد انقض على وجودها معنا حوالي الثلاثة أشهر كان باب المهجع مفتوحا للتنفس ، فما وجدناها إلا وقد ارتدت ملابسها وحملت حقيبتها ووضعت غطاء صلاة على رأسها وركضت بلا مقدمات خارج المهجع . . فلما رآها السجان هيثم اندفع وراءها يريد الإمساك بها فزلقت قدمه ووقع على قفاه . . وركض بقية العناصر فأمسكوا بها وأعادوها !لى المهجع .

فسألتها الحاجة: إلى أين كنت ذاهبة ؟ قالت : عيد ميلاد أمي . . رايحة أحضر عيد ميلاد أمي ! ودخل ابراهيم وقد التأم منها بشكل كبير وكانت جالسة على الأرض مثلما ألقاها العناصر فصفعها على وجهها صفعة خبطت رأسها مرتين في الجدار،ثم أمسك بهاوهويصيح : تريدين أن تخدعيننا وتهربي يا . . . وبدأ يلف يدها وراء ظهرها . . ويصفعها . . ثم يدير يدها أكثر ويصفعها . . ونحن كلنا نصيح ونستغيث . . فلا هو يرحمها ولا وهى بين يديه تتلقى العذاب تنبس ببنت شفة ! وعلى هذه الحال ظلت هالة تتعذب وتعذبنا لعذابها حتى كانت أول مرة تكلمت فيها معي حينما كانت مستلقية ذات مرة ، فلاحظت أن أظافرها قد طالت جدا فقلت لنفسي : فلأحاول معها من جديد .

وسألتها: -قولي لي يا أختي . . ما اسمك ؟ ففوجئت بها تجيبني بصوت كأنما هو قادم من عالم اخر : -اسمي على كسمي . .اسمي مخبا بنسمي ! انتفضت وأنا أصيح : حجة . . حكت . . حكييت ! .

وسألتها من ثم وأنا بين مصدقة لما أسمع ومكذبة : - ما رأيك أن أقص لك أظافرك ؟ ومددت يدي أحاول أن أمسك بأصابعها فما وجدتها إلا وقد نترتهم من بين يدي نترا قطعني من الرعب ، فانكمشت على طرف وألغيت الفكرة وما عاودت الإقتراب ! وفي مرة تالية أردنا أن نحممها ثانية فقلنا لعلنا إذا أخرجناها إلى حمامات الشباب وجدت المكان أوسع فتستجيب بسهولة ، فلما أخرجناها وأخذنا معنا بقجة ثياب . . سألت : - إلى أين أنتم تأخذونني ؟ إلى التلفزيون ! ولم تلبث أن انفجرت في الصراخ والبكاء فأرجعناها! وفيما بعد وعندما بدأت تتقبل فكرة الحمام قالت للحاجة عندما: سألتها أن تتحمم : لن أفعل حتى تخلع لي هذه ثوبها.مشيرة إلى ماجدة .

فقالت لها الحاجة! - لكنها إذا فعلت فليس لديها ثوب آخر تلبسه . . أنا عندي ثوب والله أرسله أهلي لي وما مسسته أو لبسته وهو غالي علي . . : ولم تكن الحاجة قد لبسته من قبل بالفعل فأخرجته خصيصا لها لعلها تقبل به ،لكنها لم تفعل وكررت طلبها لثوب ماجدة، فخلعته ماجدة لها اخر الأمر.. وقامت الحاجة فأعطت ماجدة بدورها الثوب الجديد!


الأحمر ممنوع والماء مرفوض

وكان مما لاحظناه على هالة أنها تخاف كل شيء أحمر اللون وتنفر منه فعند ما كانت تشاهد ضوء سخان الحمام الأحمر كنا نحس بهلعها وتوترها وكأنه يثير شيئا بأعصابها لا نعلمه . . وكانت ماجدة تضع حلقا على شكل وردة فيه حجرة صغيرة حمراء ،فكانت هالة تحملق فيه أيضا وترتسم على وجهها معالم الخوف . . فقمنا وغطينا الزر بكيس ورق ، وخلعت ماجدة حلقها وأخفته . وكانت عائشة تضع نظارات طبية ،.

فكانت هالة تحملق في النظارات فترة طويلة..وتظل تدنو من وجهها وتبتعد وتعود فتدنو تنظر كما يبدو إلى صورتها المرتسمة على زجاج النظارات ولا تمل وبعد فترة وهكذا بلا مقدمات قالت إنها عطشى . . فملأنا لها كأسا ! من حنفية الحمام حيث نشرب كلنا،فنظرت إلينا هكذا جميعا وقالت بترفع."

-هل يسقي أحد بوله للثاني ! فقالت لها الحاجة :طيب . . سنأتي لك بأحسن كأس ماء في السجن كله وطرقت الباب فجاء أبو عادل يسأل ما الأمر، فقالت له الحاجة نريد كأس ماء للست هالة . . تريد أن تشرب .

- قال مستغربا:ألايوجدلديكم ماء؟ فأجابته الحاجة : الماء الذي لدينا لا يشرب مع هالة ! فذهب وأتى لها بكأس ماء أعطتها الحاجة إياه ،فنظرت في ثم فينا وقالت: هذا وسخ وبصقت فيه فسألته الحاجة أن يأتي بآخر ففعل ،ولما قدمته لها فعلت الشيء نفسه . .وعادت الحاجة فرجته أن يجلب لها كأسا آخر فاستجاب أيضا وكأنما اندمج في هذه التجربة المثيرة ! لكن الفعل تكرر وعاد فتكرر حتى اجتمعت أمامها سبع كاسات مصفوفة بصقت فيها جميعا وماشربت ولاقطرة! ومرة أخرى وفي إحدى جلسات التسلية كنا نمثل على أننا مثل اللاجئين الفلسطينيين نرسل سلامات لأهلنا عبر الراديو . . فكانت كل واحدة منا تعبر عن مشاعرها وأشواقها بهذه الطريقة ، فكانت الحاجة رياض تقول -أهدي سلامي إلى أمي . . يا حنونتي . . إيش عم تعملي هلق .ا أى أنك جالسة تنشقي وتبكي . . وتنخرط في البكاء . . فتبدأ المناحة ويبدأ الكل في البكاء على  ! أثرها. .فسألناها مرة: - هالة . . ألا تريدين أن تشاركي معنا في الإذاعة؟ وقالت لها أم شيماء: هيا هالة . .أنشدي لنا نشيدا.

فما وجدناها إلا وقد انبلقت مرة واحدة تنشد"توحيد ربي .- ومضت بها فما توقفت حتى نهاية النشيد وجاء السجان وقال : ما هذا؟ عاملين مولد نبوي فقالت له الحاجة : دعنا الآن بحالنا . . أغلق الطاقة واذهب الآن. وكأننا بفرحتنا بكلامها قد ولد لنا أول مولود، فجلسنا نحمد الله أنها نطقت وكسرت عن نفسها حاجز الصمت آخر الأمر


محاولة الإنتحار

ومضت الأيام . .وبدأت هالة تتحسن شيئا فشيئا حتى رجعت لطبيعتها بعد حوالى ثمانية أشهر من المعاناة، وعندما كنا نحدثها عن حالتها فيما بعد كانت تقول إنها ما أحست بأي شيء بعد ما كانت على طريق اللاذقية - دمشق . . وما عادت وعت شيئا . . وأما قصتها كما قصتها علينا بعد ذلك وسبب صدمته فكانت كالتالي : كانت هالة طالبة من أسرة متدينة تدرس في كلية العلوم في مدينتها باللاذقية، وكان لها ابن خال في صفه العاشر أو الحادي عشر يعتمد عليها بعض المرات في حل وظائفه وفهم دروس الرياضيات التي تستعصي عليه ، والذي يبدوأن هذا الشاب كان مرتبطا مع مجموعة من الشباب اعتقل أحدهم فدل عليه فاعتقلوه . . وأثناء التيحقيق معه كان السؤال التقليدي لهذا الشاب الصغير: من الذي يدرسك ويعلمك ؟ وكان القصد من السؤال الوصول إلى مسؤوله التنظيمي ،لكن الفتى لبراءته ذكر لهم اسم هالة لأنها تدرسه الرياضيات والفيزياء بالفعل ! فأحضروها إلى التحقيق فكبلوا أيديها وأرجلها . . ثم مزقوا عنها ملابسها . . ومع التعذيب الوحشي حاول رئيس الفرع الذي يحقق معها وعنصران أو ثلاثة اخرون معه الإعتداء عليها . . ثم ألقوها وحيدة في غرفة مهجورة تصفر الريح فيها فتجعلها تنتفض . . ويعركها البرد القارس فترتجف . . والعناصر تروح وتجيء خارج المكان فتوقع مع الرعب الذي يلف الأجواء ويلفها . .والعدوان الذي استهدف أشرف ما في حياتها . . ومن كثرة ما أخذوها وأعادوها إلى التحقيق . . تتوقع أنهم فى كل لحظه سيدخلون عليها ليعتدوا من جديد وفى وسط دوامه الذعر هذه وجدت هالة قطعة زجاج أو حديد صدئة في الغرفة ظنت أنها حبل النجاة . .وقامت وهي لا تكاد تعي فقطعت بها شريانها لتنهي المأساة . . وظلت تنزف وهم لا يشعرون بهاحتى حان وقت التحقيق معها من جديد فوجدوها على آخر نفس . . فأسعفوها ونقلوها إلى دمشق . . وبينما هي في الطريق بدأت تصحو من غيبوبتها فوجدت ابن خالتهاخلفها في السيارة مع عددآخرمن أصدقائه الأيام . تعرفهم جميعا، . " . " " ووجدت نفسها البنت الوحيدة بينهم فظنت أنهم يقتادونهم وإياها إلى الإعدام، فأصابتها صدمة نفسية أفقدتها القدرة على الكلام ولم تعد تستوعب بسببها ما الذي يدور،وبعد شهر من المبيت في المنفردده لم يكفوا فيه عن تعذيبها والتحقيق معها وصلت الينا على هذه الحال


أولادى حارقين قلبى

واستمر الحال من سيء إلى أسوأ،واستمر مهجعنا الذي غص حتى الثماله يستقبل المزيد من النزيلات الجدد كانت أم محمود حليمه التاليه فى الترتيب بعد دفعة الحاجه رياض وأم محمود هذه سيده قرويه عمرها35 عاما من قرية حريتان قرب حلب ، وزوجها صباب بيتون من قرية أخرى اسمها حيان . . وهى من الفلاحات الذكيات والواعيات جدا فلا يظنها المرء إلا دارسة ومتعلمة .

والذي يبدوأن زوجها بنى في بيته مخبأ للملاحقين من أبناء منطقته وآواهم فيه ثم أكتشف المخابرات الأمر فأمسكوا به ولكنهم لم يكتشفوا مكان القاعده فكمن عناصر منهم في البيت بوجود أم محمود وأولادها الخمسة ، فلما طال مكوثهم خرج الشباب الملاحقون من المخبأ واشتبكوا مع رجال المخابرات الموجودين فقتلوهم وفروا فلم يعد لهذه المرأه المسكينه بد من الهرب فحملت من استطاعت حمله من الأطفال وسحبت البقيه فى منتصف ليله مثلجه واتجهت الى بيت اهلها فى القريه المجاوره وليس ثمه من وسيلة للنجاة إلا المسير . . ويبدوأن الخابرات اكتشفوا ما حدث خلال ذلك ، فلما لم يجدوها في البيت تتبعوها إلى بيت أهلها وألقوا القبض عليها هناك ، واتهموها بأنها كانت على معرفة بالقاعدة وأنها تسترت عليها وساعدت على قتل العناصر . . فنقلوها إلى الأمن السياسي بحلب وهناك أذاقوها أشد العذاب حتى كسرت يدها وظلت طوال سجنها لا تستطيع أن تحركها بشكل طبيعي ، كما كسروا عظمة أنفها أيضا . . وبعد شهرين أو ثلاثة أتوا بها إلى كفر سوسة وأعادوا التحقيق معها من جديد فنكرت معرفتها بأي شيء ، وقالت أن زوجها بنى البيت ولم تكن موجودة .

وغالب الظن أنهم أعدموا الزوج في تدمر ، فيما بقي الأطفال الخمسة وهم بين 4 و 9 سنوات من العمر مع أبويها العجوزين ، فكان ذلك أكثر ما يؤلمها ويؤرقة ها باستمرار . . فلا تفتأ المسكينة تردد : - أولادي حارقين قلبي من جوه . . وتدمع عيناها دون أن تبكي كباقي النساء . . ولم يفرج عن أم محمود إلا عام 84 من قطنا .


جواسيس وعميلا ت. ورهينات !

ومن شركاء المهجع أيضا نزلت علينا ذات يوم امرأتان شقيقتان مسيحيتان من حلب متهمتان بالتجسس لصالح إسرائيل . . الصغرى اسمها جورجيت ويسمونها مارييت أحيانا عمرها 35 سنة ومتزوجة من علوي من القرداحة اسمه زهير كان هو زعيم الشبكة ، وأختها أم جورج في الستينات من العمر وزوجها علوي أيضا وهو مساعد في الشرطة .

وعلى الرغم من الفترة الطويلة التي أمضتها الأختان معنا في المهجع نفسه إلا أننا لم نستطع الإلمام بحقيقة القصة التي وراءهما لحرصهما وتكتمهما الشديد ، ولأن القصة كما بلغتنا بعض أطرافها معقدة جدا .

ولقد أحضروا الأختين في البداية مع زوج مارييت ، وعلى أثر ذلك اعتقل عدد كبير من الشبكة . . وكانوا في البداية يأخذون جورجيت كل يوم إلى التعذيب فيضج الفرع كله من صراخها ولاتعود الا على آخر نفس ، وكانت عائشة تجلس فتمسد لها أرجلها المزرقة بالماء الساخن وتربط لها الجراح وتشد الكدمات بشاشيات البنات ، وتظل تعمل لها "المساج بكل طيب خاطر ، حتى إذا هدأت الآلام عليها انتفضت كالجنية ومضت تلعب الورق مع الشيوعيات الأخريات . . وتستغرق في اللعب بكل عقلها وكأن شيئا لم يكن ! وعندما سألتها الحاجة مديحة مرة : -كيف كنت تصيحين من قليل والآن ربحت ؟ أجابتها : أنا أربح من الطرفين ! وبينما لم تكن الأختان تتكلمان الكثير عن وضعهما في البداية إلا أن أم جورج بدأت عندما اجتمعنا ثانية في قطنا تتكلم عن شقيقتها جورجيت وتتهمها بأنها كانت سبب وقوعها وتدعو عليها أن يحرقها الله في قبرها ! وكانوا قبل نقلنا إلى قطنا قد أتوا ونقلوا الأختين إلى سجن المزة فأعدموا جورجيت بعدما أمسكوا بقية الشبكة وأعادوا أختها إلى قطنا لنلتقيها ثانية هناك ، وهناك سمعنا أيضا نبأ إعدام زوجها من راديو صوت لبنان .

ومن السجينات اللاتي شاركننا المهجع من غير الإتجاه الذي صنفونا عليه كانت أختان أيضا من أرمن حلب من تنظيم معارض موال للعراق أتوا بهما مع بدايات عام 82 الأخت الكبرى اسمها كاميليا والصغرى جميلة ، وكانت هذه حاملا عند اعتقالهما اخر 81 أثناء عودتهما من العراق ولكنهما لم تكونا تتكلمان عن قصتهما ولم تعذبا ، وعاشتا مثلما عشنا وبقيتا إلى أن نقلنا إلى قطنا ، وخرجتا بعد نقلنا .

كذلك أحضروا وبشكل عابر سيدة من حمص من بيت النشواني اعتقلوها رهينة عن زوجها الذي هرب وأتوا بها إلى كفر سوسة ، ولكن هذه السيدة لم تبق كثيرا لأن لها ابن عم رائد في مخابرات اللاذقية سارع في التوسط للإفراج عنها .


العلاج الصحى . . شتائم!

كانت ظروف السجن وافتقاد أولويات الإحتياجات الصحية والغذائية سببا لإصابة الكثيرات منا بأمراض وعلل متعددة . . لكن الحسرة لم تكن بالإصابة قدر ما كانت من طريقة العلاج التخصصي لدى إدارة السجن ومسئوليه . . فبعدما أصابتني كأكثر النزيلات "زنطارية" في بداية قدومي وتخلصت ظاهر الأمر منها لم ألبث أن بدأت أحس آلاما في معدتي تتزايد باستمرار . . واشتد الألم والأعراض علي حتى صرت أستفرغ دما ولا أكاد أستسيغ تناول أي طعام . . وسرعان ما شخصت عائشة حالتي بالقرحة . . وصارت وباقي البنات يحاولن تخير غذاء صحي مناسب لي من هذا الذي كان ينالنا منهم . . لكن الأمر ازداد سوءا بانعدام الغذاء الصحي وتراكم الإنفعالات والحسرات . . ووصلت آلامي مرحلة متقدمة ، فقدمنا طلبا للمقدم نشرح فيه حالتي ونطلب فيه غذاء يناسب المرض . . فاستدعاني متكرما ببعض من وقته الثمين ، كل ما قدمه لي وقتها أن أسمعني محاضرة مطولة حافلة بالشتائم عن أخي "المجرم " . . ثم أعادني أسوأ حالا مما أتيت ! ولقد شاعت بيننا كذلك إصابات فقر الدم وتسوس الأسنان ، وذات مرة اشتد على أم شيماء النخر في ضرسها فسألتهم أن يعطوها مسكنا فلم يجيبوا طلبها ، لكنها استمرت مع تعاظم الألم في الإلحاح ، وصارت البنات تلح في السؤال معها وقد كادت تموت بالفعل من الألم ، وأخيرا أخذوها إلي طبيب لم تدر من هو أو أين كان إ! فلقد قيدوها وعصبوا عينيها ونقلوها بالسيارة المخصصة لنقل المساجين إليه ، وهناك ومن غير مخدر خلع هذا الطبيب لها الضرس وأجرى لها في جلسة واحدة جراحة في فكها الذي أصابه الإلتهاب ووصل التسوس فيه إلى العظم ، فعادت بألم أشد ومعاناة استمرت معها لفترة غير قليلة .

كذلك أصيبت كثير من البنات بنقص في الكلس تسبب لرغداء بدوخة مزمنة ، حتى أنها عندما أرادت أن تنهض من التواليت ذات مرة لم تستطع فسقطت على الأرض وارتطم رأسها بالجدار وأسرعت البنات فحملنها من مكانها حملا . . ومن حينها بدأنا نأكل قشر البيض الذي نحصل عليه . . ندقه ليصبح ناعما كالطحين ونستفه ! وكذلك بدأنا نفعل بقشر البطاطا إذا وصلتنا ! ومع مرور الأيام بدأ بعض العناصر يسمحون لنا في أحيان نادرة باستخدام غلاية كهربائية لتسخين بعض الماء ، وكان بعضهم يمن علينا ببقايا الشاي الذي شربوه فنسخنه من جديد ونشربه ، وفي فترة لاحقة استطعنا أن نستعير منهم "البابور" لطهي الطعام أو تسخينه ، فكنا إذا حصلنا على بقايا الفروج المخصص لنا فتتناه ولوحناه على النار بلا أية إضافات على الأغلب .

وكانوا يأتون بفروج واحد للمهجع كل أسبوع فيستل العناصر منه القطع اللذيذة ويرسلون البقايا لنا ، فنتوزعه وقد بلغنا 14 سجينة اخر الأمر بأن نفرطه كله ونفتته كالخيطان ونضع عليه بعض البهار ونتوزعه بالملعقة ، فتنال واحدتنا نصف ملعقة منه تفردها على الخبز وتلفه بغطاء اخر من الخبز وتتناوله ملتذة وهي تجهد في تخيل أن ما تمضغه الان لحم دجاج بالفعل !


عقوبات حسب المزاج !

وعلى الرغم من سوء حالنا وشدة معاناتنا إلا أن حياة السجناء الشباب بالمقارنة معنا كانت جحيعا بالفعل . . ففي الوقت الذي كنا نكاد نختنق من ضيق المكان حينما بدأ عددنا في المهجع يزيد على بضعة عشر امرأة كانوا يحشرون حوالي الخمسين من الشباب في المهجع الواحد فلا يجدون حتى النفس الكافي أثناء النهار ، واذا ناموا لا يملكوا لضيق المكان إلا أن يرفعوا أرجلهم على الجدار ويتناوبون برغم ذلك النوم ! وكان هناك عنصر يتجول أمام المهاجع باستمرار ، فإذا سمع أدنى حركة من داخل المهجع ضرب الباب الحديدي بالكابل الذي معه وصرخ فيهم ليخرسوا . . ويظل يذهب ويجيء في الليل و الطاقات مفتوحة عليهم ، فإذا شاهد أحدا يتمتم أو يتقلب فالعقوبة حسب ما يقتضيه مزاجه وهواه ليلتها . . أبسطها السباب والشتيمة وغالبها الفلق في منتصف الليل ! وكان كل عنصر يتحكم فيهم حسب مزاجه : ناموا الآن . . أفيقوا الان . . الآن طعام . . أو موعد "الخط " . . وفي اخر الأمر لم تعد تفرق مع الشباب فصاروا يقفوا ويصلوا جماعة ويجهروا بها حتى يصل صلاتهم وتكبيراتهم إلينا . .

لدرجة أن الحاجة كانت تقتدي بهم بعض الأحيان ! فإذا سمعهم العناصر نالوا نصيبهم برضا وتسليم وإلا مرت بسلام ! وأذكر أن واحدا من المهجع المجاور لنا عاد ذات مرة بعدما أخرجوهم إلى "الخط " وطلب الخروج ثانية للحمام ، فكان الجواب الأول شتائم مقذعة ، لكن الشاب كان كما يبدو محتاجا للذهاب بالفعل فعاد يرجو العنصر ويسأله الإذن من جديد ، فجاءه ذاك وأخرجه مع أبشع المسبات والشتائم واقتاده أمام مهجعنا وجعل يضربه ويضربه ولا يتوقف ، وفي آخر الأمر دقت الحاجة الباب تقول له : إي خيوإيش عمل ؟ إي والله ما كفر ! بدو يطلع على الحمام . . إي حضرت جنابك بتطلع في اليوم عشرين مرة ! أليس بني ادم أيضا ! وأما خروج الشباب للإغتسال فكان عذابا آخر .

كانوا يخرجون سكان المهجع مجموعة بعد أخرى ، فكان إذا ضرب على الباب بالكابل أو بالعصا ضربتين وخاصة ياسين فمعناه أن يكون الجميع جاهزين في الخارج ! فكان المساكين يدخلون بثيابهم ولا يكادون يفتحون الدوش عليهم حتى تحين إشارة الإنتهاء . . وأظن بعضهم لم يكن يتحمم تفضيلا منه السلامة على النظافة ! كذلك كانت الحلاقة إحدى عذابات الشباب الدورية التي لا بد منها . . فكان العنصر الموكل بذلك يتربع هو على الكرسي ليمر الشباب واحدا بعد الآخر بين يديه راكعين على ركبهم ، فيتناول رأس الواحد منهم وكأنه دابة بين يديه ويمر بالآلة عليه لا يبالي جرح له خدا أو شج له رأسا أو أصاب عينا . . والشاب المسكين لا يجد فرصة للتأوه أو التشكي لأنه إن فعل ضوعف له العذاب وخص بفلقة أو لسعة كبل هو في غنى عنها ! وأما نحن فقد عفينا من الحلاقة ولله الحمد ، ولكن انعدام النظافة وقلة الماء جعل شعورنا التي طالت مشكلة وعبئا علينا ، خاصة وأن صغر السخان لم يكن يتيح لأكثر من واحدة بالإستحمام كل يوم ، وصعوبة الغسيل مع قلة الملابس كان يضطرنا للبقاء فيها فترات طويلة . . وكثيرا ما كانت واحدتنا تضطر إلى انتظار ثيابها لتجف فتلبسها ثانية . . وحتى تجف كنا ننشرها على حبل مطاط أخرجناه من إحدى قطع الملابس التي معنا ، لكن صغر الغرفة وكثرة نزلائها كان يكثف الأ نفاس على رطوبة الثوب فتبدأ القطرات المتكثفة تنقط فوقنا ، وليس لنا من حيلة حيالها إلا الصبر والإحتساب !


الدم ... والقمل ... والسل !

ومن برامج السجن الدورية كان التفتيش على أمن المهجع كل أسبوع ! كان ابراهيم يأتي في نوبته فيتفقد النافذة التي في الجدار فيهز قضبانها الحديدية ويتأكد أن أحدا لم يمسها بسوء ، فتصيح به الحاجة دون أن تتمكن من ضبط نفسها: ماذا يمكن أن يحدث في رأيك ؟ هل يمكننا نحن النساء أن نخلعه مثلا ! فيجيبها ببرود : إنها الأوامر . . وينبغي أن أنفذها ! لكن ذلك لم يكن الإزعاج "الوقائي " الوحيد . . فيوم تعقيم البطانيات - حفاظا على الصحة العامة كما يفترض - كان يوم عذاب شنيع آخر لنا ! فقد كانوا يجمعون بطانيات المهاجع كلها ولا ندري بماذا يجمعونها ثم يعيدونها رطبة إلينا ورائحتها تعم السجن كله حتى نكاد ختنق بالفعل منها . . لكن الأمر كان أشد رهبة وأسوأ وقعا حينما تنتشر الأوبئة والأمراض أو الحشرات ! فبعد شهرين تقريبا من دخولنا السجن انتشر القمل بين السجناء دون أن يصيبنا هذه المرة ، لكنهم دخلوا مهجعنا ورشوا المبيد ونحن فيه بالطبع فقط على سبيل الإحتياط ، فصرنا نتقيؤ كلنا ولا نكاد نقوى على التنفس لساعات ! ومع ذلك وجدنا بلاءنا أخف مما نزل بالشباب الذين كانوا ينادونهم واحدا بعد الآخر إلى طاقة المهجع أو الزنزانة ويأمرونهم أن يمدوا رؤوسهم منها ليغرقوا الرأس كله بالمبيد وبعد سنة تقريبا واشتداد العذاب وانعدام أبسط الإحتياجات الغذائية والصحية انتشر السل هذه المرة بين المساجين المساكين ، فكنا نحسهم من صوت سعالهم في جوف الليل أو نراهم عند خروجهم إلى "الخط " يعكز بعضهم بعضا أو يحملون من شارف منهم على النهاية حملا إلى الحمام .

وأذكر أنني كان دوري مساء أحد الأيام لرمي القمامة كالعادة في المطبخ ، وكان ابراهيم قد فتح الباب لي وسبقني إلى المطبخ ، فوجدته وبيده سكين يقول لي من غيرسبب : -والله هذه حلال تدخل بقلبك ! لكنني لم أرد ودخلت بالقمامة لأرميها ، فلما أصبحت في الداخل وجدت حسين قادما دون أن يراني وبيده طاسة الطعام مملوءة بالدم يقول له : سيدي مات ! فقال له ابراهيم : إلى جهنم . . أغلق عليه باب المنفردة الآن لنرى ماذا نفعل .

فلما عدت إلى مهجعنا نظرت بعد قليل من شق الطاقة فوجدتهم يحملون أحد الشباب ميتا بالفعل وينقلونه من المنفردة حيث كان ، وحكيت ما جرى للبنات فقالت الحاجة أنها رأتهم ينقلونه بالأمس من المهجع إلى المنفردة ويكاد من ضعفه يحملونه حملا . . ولم يلبث أن حضر أحد العناصر فجعلت الحاجة تستدرجه كعادتها وسألته عن هذا الشاب الذي مات . . فأجابها اخر الأمرأنه مات ميتة طبيعية . . بمرض السل !


الشياه والجزار !

وإذا كانت صور المرض ومشاهد أيام انتشار الأوبئة مؤلمة لا ريب فإن مما لا يمكن نسيانه مشاهد الذين ماتوا تحت التعذيب أو أولئك الذين كان الموت أكثر راحة لهم ربما من العذاب ! فذات ليلة أطفأوا الأ نوار فجأة وأغلقوا الطاقات ولن يبق منيرا إلا ضوء الممر الذي مكننا أن نراهم يحملون جثة شاب يلبس طقما وكرافة ويرمونها في المنفردة . . ولم تفلح الحاجة ولا أحد سواها هذه المرة في معرفة ما حدث ، لكن الأرجح أنه مات ليلتها تحت التعذيب . وفي مرة غيرها رأيناهم وقد أحضروا أحد القرويين وقد عروه من ثيابه كلها ووقفت مجموعة من العناصر في أول الممر ومجموعة غيرهم في آخره وجعلوا يلسعونه بادئ الأمر بالكابلات والخيزران ويأمرونه بالجري بينهم جيئة وذهابا ويحملونه أن يضع يديه فوق رأسه ، وكان الأمر له أن يسرع مرة وأن يبطىء أخرى . . وهكذا حتى أنهكوه . . ثم اقتادوه - ونحن نتابع ما يجري من خلال شق الطاقة أو من تتبع الصوت - إلى الحمامات ، فكانوا يفتحون الماء البارد عليه لوهلة ثم يحولونه إلى الساخن مرة . . والمسكين بين يديهم لا حول له ولا قوة يصيح ويولول كالشاة بين يدي الجزار!


عملية تجميل وهستيريا !

وتزامنا مع أحداث حماة - التي لم نعلم عنها بالطبع وقتذاك - ازدادت عمليات التعذيب في الفرع حتى صرنا نحن الذين نسمع الأصوات فقط نستجير من هولها . . إلى درجة أن الحاجة مديحة قالت لهم آخر الأمر ترجوهم أن ينقلونا إلى مهجع آخر بعيد بعض الشيء عن غرفة التعذيب لأننا لم نعد نحتمل ! وبمقدار ما كان التعذيب يشتد كان عدد الضحايا في ازدياد . . وكثيرا ما صرنا نراهم يسحبون الشاب محطما أو ميتا فيلفونه بالبطانيات ويأخذونه إلى حيث لم نكن نعلم . . ولا أزال أذكر كيف أخرجوا أحد هؤلاء المساكين من غرفة التعذيب وألقوه أمام باب مهجعنا ليفسحوا مكانا لغيره حتى يتذوق الأهوال . . فجعل هذا المسكين وقد تدلى لسانه والدم يغطي جسده كله يسألهم جرعة ماء ولا من مجيب . . فلما طال به الأمر أرقنا له من تحت الباب بعض الماء فجعل يلعقه بلسانه لعقا من على الأرض .

ولقد تسببت وحشية التعذيب في إصابة عدد غير قليل من السجناء بالإنهيارات العصبية والهستيريا . . وأذكر أن واحدا من هؤلاء كان نزيل المهجع الذي يجاورنا ، فكنا نسمعه ينخرط في نوبة ضحك مفاجئة حتى لا يكاد يتوقف ، أو ينشج بالبكاء فيعم الحزن المهجع كله وهو على هذه الحال لأيام .

ولقد أتى العناصر مرة إلينا وسألونا إن كان لدينا حبا مهدئا - وكانت الحاجة مديحة تستخدمه أحيانا لعلاج رجفة أصابتها بسبب تعذيب الكهرباء - فسألته كعادتها بين المزاح والجد: وماذا هناك؟ من هستر منكم ؟ فقال لها : هناك واحد بعيد عنك معه هستيريا بكاء حتى أقلق لنا نومنا ببكائه ! وفي مرة أخرى أصابت شابا اخر هستيريا الضحك حتى كأنما فقد عقله ، فرأيتهم من شق الطاقة أخرجونه إلى الممر وخلعوا عنه ثيابه وأجلسوه على الدرج وجعلوا كلما هدأ أزوه ليضحك فينفجرون بضحكاتهم الفاجرة لا يراعون قيمة لإنسانية أو حرمة لضعف ولا مرض .

ومن المشاهد التي لا تنسى أيضا ليلة تفجير الآمرية الجوية بدمشق عندما قرعوا علينا الباب وسألونا إن كان لدينا قلم كحل أو أصبع حمرة . . قالت له الحاجة مستغربة : - وهل ترانا جايين من عرس أبوي ! من أين لنا بالكحل والحمرة في هذا المكان ! قال العنصر: لعل وعسى . . ثم مضى . . ولم يلبثوا أن أخرجوا شابا من زنزانته وأجلسوه قريبا من باب مهجعنا ، فرأينا آثار التعذيب تملؤ وجهه وجسده . . ورأيناهم وقد كبلوه من يديه ورجليه بالكرسي . . التفوا حوله يحاولون إخفاء ما أمكن من آثار التعذيب عن وجهه وعمل "مكياج " له . . وبوسائلها الخاصة أيضا فهمت الحاجة مديحة بعدها أن الآمرية قد ضربت وقتها ، وأنهم أرادوا أن يخرجوه في تلك الليلة ليعترف بشيء يريدونه على التلفزيون !


تبييض السجون !

وتتعدد عذابات السجن وتتنوع . . لكن عذابات الجسد كانت على شدتها تندمل ولو بعد حين ، أما عذاب الروح وقلق النفوس فلم يكن من السهل التخلص منه . . وكان طبيعيا مقابل انعدام حريتنا وطول معاناتنا أن نتلهف للفرج كل حين ، ونتعلق بالأمل ولو كان قشة ، ويبدو أن حال الناس في هذا المقام مختلف . . وقدراتهم على الإحتمال تتفاوت . . تماما مثلما كانت قدرة العناصر والضباط على اللعب على هذا الوتر فائقة ! ولعل أكثر من برع في هذا أبو رامي رئيس إحدى النوبات . . وأكثر من وقع ضحية لاحتياله وكذبه الحاجتان . . فطالما كان يعدهما بدنو العفو واقتراب يوم الإفراج فتصدقانه وتمضيان معه ، فإذا تكشف كذبه عاد ونسج لهما كذبة جديدة سخرية بهما وتسرية عن نفسه المريضة ! وكان قد أخبر الحاجة رياض يوما أنه إذا قال لها عبارة "دقي البابور" فهي الإشارة . . وأتى مرة يتمشى بجانب المهجع فالقى هذه الكلمة ومضى . . وسرعان ما نهضت الحاجة تدق الباب وتستفسر عنه وتسأل وهو لا يجيب . . وتعاود فترسل وراءه فلا يأتي ، وانقضت الساعات وهي على أعصابها تترقب حتى عاد ثانية فقال لها : - غدا الساعة 12 بكل تأكيد ، ولكن قبل أن تخرجوا أتيت لك بكمية من الصوف وأريدك أن تغزليها لي كنزة قبل خروجكم .

فوافقت المسكينة على الفور وجلست والحاجة مديحة تعملان فيها طوال الليل ، فما طلع الصباح حتى كانتا قد أتمتاها ! فلما استلمها أحضر كمية أخرى من الصوف وقال لهما : -أريد كنزة أخرى بلا أكمام هذه المرة . . وموعدنا قبل الثانية عشرة . . فجلست المسكينتان تغزلان فيها حتى أتمتاها أيضا وأرسلتاها إليه . . ثم جمعتا أغراضهما وهيأتا أشياءهما وجلستا تنتظران . . ومرت الساعة الثانية عشر . . وحل المساء . . وانتصف الليل . . ولم يظهر أبو رامي ولا جاء العفو فأدركتا اللعبه وجعلت الحاجه رياض تدعو عليه وتشكيه الى الله و المسكينه تكاد من غيظها ان تموت وتكررت اللعبه ولكن اللوعه والمعاناه التى كنا فيها كانت تجعلنا نأمل حتى بالوهم وذات مرهقالوا لنا الشىء نفسه فتجهزنا جميعا وجلسنا ننتظر الساعه الثانيه عشرخلف الباب لكن الموعد مر وفات ومضى اليوم كله وانقضى الليل ولم يأتى الفرج فاذا سألنا قالوا :تأخر الموعد لساعات فقط لأنهم يشتغلون لكم بالاوراق وجاء ظهر اليوم الثانى دون نتيجه فلما عاودنا السؤال فاجأنا احد العناصر يقول: خلاص ليس هناك خروج الإخوان ضربوا أمريه الطيران بدمشق وألغيت الطلعه وأنتم هنا الان بسبب جريمه الإخوان وكلما فعلوا شيئا فستدفون الثمن ولقد كان من المضحكات المبكيات فى قصه وعود الافراج الكاذبه الحديث الذى سرى عن (تبييض السجون) فاندفعت لحاجه رياض تسأل بلهفه :متى؟ فأجابها بعد يومين وكان كل الذى دار فى الخاطر ان التبييض يعنى الاخلاء والعفو العام ولكننا لم نجدهم بعد يومين الا وقد أتوا بجرادل الدهان وصبغوا ممرات السجن كلها بالابيض ليغطوا ما تلطخت به من دماء السجناء وجنايات السجانين فقالت لهم الحاجه بمراره:هل هذا تبييض السجون عندكم ؟ أجاب :نعم ها نحن فعلا قد بيضناها فكانت مناسبه جديده جددت فيها الحاجه رياض الاحزان لايام تاليه وهى تندب وتبكى فبكينا وتحرك فينا الاحزان واللوعه والجراح


المحكمه الميدانيه

كانت قرابه ثمانيه شهور على اعتقالنا قد انقضت حينما نادوا فجأه أول ما نادوا على رغداء خ ولمى ع وجاء العنصر فأخذهما معا ظنا بادىء الامر أنها زياره لكن ساعه تلتها ساعه اخرى مرتا دون أن نسمع لهما حسا ولم يلبث العناصر ان اتوا بعد قليل وأخذوا واحده ثالثه ورابعه وعندما وصلوا الى السابعه ولم يعد اى منهن قلنا لها:اذا أنزلوك وكانت زياره فقط فتصنعى السعال ،واذا كانت غير ذلك فلا تفعلى شيئا وسنفهم ان الامر مختلف فلما أنزلوها من الطابق العلوى الى القبو ثانيه ساقوها الى غرفه اخرى لكننا شعرنا بقدومها وتنصتنا جيدا ننتظر اشارتها فلم تسعل ولم تفعل شيئا فتأكد لن أن هناك شيئا ما وبعد ما مرت ساعه أخرى وجدناهم فجأه وقد أحضروهن جميعا مصفرات الوجوه باديات الاضطراب ومن شفاههن المرتعشه سمعنا لاول مره عباره (المحكمه الميدانيه)! كانت المحكمه برئاسه النقيب سليمان حبيب وهو ضابط من القرداحه كث الشعر هزيل الجسم قصير القامه لايكاد يظهر من وراء الطاوله ومعه اربعه ضباط آخرون كانوا يعيدون قراءة ملف كل واحده من البنات عليها ويسردون ما ألصق بها من تهم واعترافات ويسألونها ان كانت تقر بما تسمع ام لا ثم ما كانالا ان توقع وتمضى !لم يكن هناك تعذيب وقتها ولكن التهديدات لم تنعدم فعلى سبيل المثال وعندما نفت ماجده الاتهامات وقالت بأن اعترافاتها اخذت كلها تحت التعذيب قال لها النقيب حبيب:اذا لم تقولى الصدق فسأرميك من الشباك وأحكم عليك بالاعدام وأحرمك شمه النفس! ثم لم يلبث المقدم ناصف ان أرسل ورائها فى اليوم التالى وقال لها :انت قلت فى المحكمه بالامس أنهم عذبوك من هذا الذى عذبك ؟ هل ضربك أحد ؟ هل اذاك أحد حقا؟ فقالت له بارتباك وهي تعلم أنه عذبها بنفسه وأذاقها طعم السياط والخيزران بيديه : نعم . قال لها مزمجرا : من ؟ من عذبك ؟ قالت وقد تملكها الخوف والإضطراب : لا أعرف . . فقال لها بدهاء :لا، لم يعذبك أحد ولم يمسك أحد، عندنا هنا ممنوع أن يلمس أحد أحدا أبدا ولكنك غير صحيانة ! الظاهر أنك كنت خايفة جدا . . وليش حتى تخافي ؟ ! ولم تكن التهديدات بأقل إيلاما من عبارات السخرية وبذاءة اللسان لدى أعضاء المحكمة ورئيسها كلهم ، فعندما نفت ماجدة أمامهم الإتهامات الملفقة عن علاقتها بخالد الشيخ (أحد المعتقلين ) صاح فيها رئيس المحكمة : هل من الضروري أن أحكي لك ماذا قال خالد الشيخ عن لون رجليك ! فانفجر الضباط الأربعة بالضحك الفاجر وأخذوا يتندرون عليها ويهزأون بها والمسكينة تنتحب بحرقة حتى كادت أن تصاب بانهيار . .كذلك عادت الحاجة رياض من هذه المحكمة وهي تندب وتبكي ، فلما سألناها عم حدث قالت أنه صاح فيها : أنت لازم ما تخرجي من السجن وتبقي فيه مثل أهل الكهف . . فكانت تبكي من طيب قلبها وتقول للحاجة مديحة : أبوي يا حجة . . بكرة انت بتطلعي وأبقى أنا هنا أسند الحيطان ! وأما هالة المسكينة فكانت لا تزال مريضة وقتها لا تعي ما حولها ورغم ذلك قرروا أن يأخذوها إلى المحكمة كالأخريات ، فكانوا يسحبونها كالدابة سحبا لتعود دائما متسخة الثياب معفرة بالطين الذي كان يملأ الدرج والممرات أيامها في فصل الشتاء .


عرض بالزواج . . و آخر بالعمالة !

وبعد أن انتهت اللجنة من مقابلة سبع منا وحسب انتقلت تؤدي الدور نفسه في سجون أخرى ، ثم عادت بعد شهرين لتحاكم جميع نزيلات المهجع من المتهمات بالإنتساب إلى الإخوان فقط ، فلما أخرجوني أنا إلى المحكمة وقرأوا علي إضبارة التحقيق وما تضمنته من اتهامات سألني النقيب بعدها : - ما هي علاقتك بمخلص قنوت ؟

قلت : لا أعرفه .

قال : ألا توجد بينك وبينه علاقة تنظيمية؟

قلت :أبدا .

فعاد يقول : لكنه اعترف بأنه يعرفك .

قلت :هذاغيرصحيح .

وبالفعل فلم أكن أعرف هذا الشاب ولا التقيته رغم أنه كان طبيبا من أصدقاء أخي ، وهذا كله من افتراءات عبد الكريم رجب . وسرعان ما وجدتهم يدخلون المسكين علينا يسحبونه على الأرض سحبا ولا تزال واضحة عليه اثار الرصاصات التي أصابته وهو يحاول الهرب أثناء القبض عليه ، فلما أدخلوه سأله رئيس المحكمة :

- هل تعرفها ؟

- أجاب : لا .

- فسألني ؟ هل تعرفين هذا الشخص ؟

- قلت :لا .

- فقال للذي أحضره : خلاص . . خذه من هنا ، هذا انتهى أجله !

- وبالفعل وحسبما سمعت فقد تم إعدامه فيما بعد في تدمر وكانوا قد أتوا به من هناك . . فلما أخرجوه عاد النقيب وسألني : -إذا فأنت لا تقرين بالتهم التي سمعتها تتلى عليك ؟

قلت : لا .

قال : لماذا ؟ هل أجبرك أحد على أن تقولي هذا الكلام وتعترفي به ؟

قلت له : أنا لم أقل هذا الحكي وأكلت قتل الدنيا قبل أن يكتبوه على لساني . .

فسألني مبديا استغرابا كاذبا : يعني عذبوك ؟

قلت له : نعم عذبوني ،ألا تعرف ذلك ؟

قال : لا ، لا أعرف ! وكان "أبو فارس " رئيس قسم التحقيق وقتذاك والذي أحضرني من المهجع يقف في الخارج فناداه وقال له : - انظر . . هذه ورفيقتها ماجدة بتشكلوا لهما مجلس رحمة . .

وأمرني بالذهاب بعد أن طلب مني التوقيع على المحضر الجديد الذي يكتبه . وبعد أربعة أو خمسة أيام استدعتنا اللجنة ثانية أنا وماجدة بشكل منفرد ، وعندما ذهبت طلب مني النقيب سليمان نفسه أن أحكي له لمحة عن حياتي ، فتكلمت بصفة عامة وأكدت له أنني لست منظمة ونفيت الإتهامات من جديد ، فقال لي: طيب أريد أن أسألك سؤالا : لو أردنا أن نزوجك واحدا بعثيا من عندنا هل تقبلين ؟ قلت على الفور : لا. قال: لماذا ؟

قلت : لأنني أولا لا أتزوج من غير إرادة أهلي وعلمهم ، وثانيا لأنني لا أريد أن أتزوج الآن.. قال ثانية : لماذا ؟

أجبت : لأ نني أريد الآن إكمال دراستي والفكرة ليست على بالي. فقال بخسة : إي والله لو أنني أخرجت لك الآن واحد من تحت - يقصد من الشباب - بتوافقي عليه برجليك قبل إيديك ! قلت له :لكن هذا الكلام غير صحيح.

قال : إي علي ! ثم غير دفة الحديث فأشار إلى جريدة كويتية بين يديه وقال لي: انظري كيف يشحد الإخوان عليكم في الخارج . . في الكويت والعراق . . ولم أستطع أن أرى شيئا بالطبع ولكنه جعل يقرأ لي أن هبة وزوجها وأولادها في سجون سوريا . . وماجدة وأولادها كذلك بعد أن استشهد زوجها . . مبالغات وتضخيمات من هذا النوع .

فقلت له : الحمد لله أنني هنا لا أدري ما الذي يجري في الخارج ! وانتهى "مجلس الرحمة" هذا من غير أن نعرف ما الذي انتهى إليه ولا الأحكام التي صدرت عنه . . وعدت إلى، المهجع لتتبعني ماجدة بعد قليل ، لكنها سرعان ما اتجهت إلى فراشها وجلست وحدها متقوقعة على نفسها لا تتكلم لا تجيب ، ثم وفي منتصف الليل نهضت إلي تقول لي بحرقة : -لم أعد أستطيع التحمل . . أكاد أن أنفجر . . سألتها : ما الذي جرى ؟

قالت : منشان الله لا تقولي لأحد ، ولو أحد سألك قولي بأنك ما سمعت شيئا . . قلت : خيرإن شاء الله ! قالت : هذا أبو فارس عرض علي أن يخرجونني مقابل أن أتعامل معهم وأنا لم أعرف بماذا أجيبه فأعطاني مهلة يومين لأرد له الجواب . . فلما أدركت ما تعنيه وتعاني منه قمت واحتضنتها وأنا أقول لها : لا تجزعي ولا تصدقي . . هو يكذب عليك فقط حتى يرى ردة فعلك ويلعب بأعصابك وحسب . . فلا تصدقيه ولا تهتمي . ومضت الأيام بالفعل . . لم يفتح أحد الموضوع معها ولم يكلمها أبو فارس بشيء . . فتأكد لها أن الأمر كان لعبة خسيسة منه وحسب . . وتأكد لنا جميعا أن هؤلاء القوم لهم قلوب أقسى من قلب الوحش ، ونفوس أحط من أن يحيط بها وصف أو بيان !


التنفس !

وفي يوم من الأيام وبعد أكثر من ثمانية أشهر وقد اشتد الكرب وضاقت بالمهجع الأنفاس وازدحمت الفرش وتلاصقت الأكتاف . . وبعد طلبات عدة جاءنا الإذن أخيرا بالتنفس من عشر دقائق إلى نصف ساعة كاملة . . كل بضعة أيام !

كانت هناك باحة خاصة لهذا الغرض في القسم الجنوبي من السجن ننزل إليها بأربع أو خمس درجات تحت الأرض ، كانوا يقتادوننا إليها مشيا يرافقنا ثلاثة أو أربعة عناصر وينزلوننا إليها ، فإذا نظرنا أعلى منا لا نكاد نرى السماء لكثرة ما يحيط بالساحة من أبنية وجدران اسمنتية صماء . . وسرعان ما علمنا أنهم يخرجوننا أولا ثم يعيدوننا ليخرج الشباب إلى الساحة نفسها للتنفس . . فوجدناها وسيلة للإتصال غير المباشر معهم خاصة حينما رأت الحاجة رياض توقيع أخيها على الجدار وعلمت أنه هناك . . ووجدناهم يكتبون بضع كلمات لنا على الجدار فيسألون : هل فلانة موجودة ؟ فكنا نجيب بما نعلم . وفي مرة تالية سألتهم الحاجة رياض عن أخيها فكتبوا : لا . . فعلمنا أنه نقل إلى تدمر على الأغلب .

وسألتهم أنا في مرة غيرها عن خالد الشيخ الذي طالما سألوني عنه في التحقيق وكان أحد أصدقاء أخي صفوان ، فكتبوا : لا . . ورسموا ما يشبه الجمجمة وعظمتين ، ففهمت أنه أعدم !

وذات مرة ونحن في فترة التنفس نتمشى أنا وماجدة وكنا معا بجانب الجدار فوجئنا برأس يعلوه الصابون يمتد من نافذة على الجدار ثم يختفي . . فعلمنا بعد التدقيق أنها نوافذ حمامات الشباب وأن واحدا منهم حاول كما يبدو اغتنام الفرصة ليتكلم معنا لكن العنصر لمحه فعاد . . فلما عرفنا ذلك صرنا إذا شعرنا بوجود أحد في الحمام ذهبت إحدانا إلى العنصر المكلف بمراقبتنا لتلهيه بالكلام ونحاول نحن خلال ذلك التحدث مع السجناء ، فكانت وسيلة مبتكرة للسؤال عن سجناء نعرفهم والإستعلام عمن لها أقرباء أو أهالي معتقلون .

وذات مرة فوجئنا بأحدهم ألقى إلينا مبلغ مائة ليرة دون أن يشعر العناصر بشيء ، فأخذتها إحدى البنات ووضعتها في الحساب الجماعي للمهجع . وتكرر الأمر مرة ثانية فرموا إلينا بمائتي ليرة ، لكن عنصر المراقبة اكتشف الأمر في الثالثة فقامت القيامة على الشباب المساكين ، ونال المهجع الجنوبي كله نصيبا وافرا من الإهانة والتعذيب فما عادوا لتكرارها أبدا !


وتجدد الإضراب . .

والذي حصل أن الحادثة على مرارتها لم تكن نهاية الإتصال بالشباب قدر ما كانت بداية لمرحلة جديدة ومنعطف هام في حياتنا كلها . . فذات يوم لاحق ، وبينما كنا عائدات من التنفس بشكل عادي لمحنا طفلين صغيرين أنيقي الثياب تبدو عليهما سيماء النعمة والرفاهية . . ولم نلبث أن علمنا من العناصر أنهما ابنا المقدم ناصيف أحضرهما معه كما يبدو لشأن ما ، فلما لمحانا بدورهما نادى الأخ أخته يقول: تعالي . . تعالي جاءت السجينات.

فحرك ذلك في أم محمود حليمة شوقها لأولادها الذين لم تكن تكف عن التلوع عليهم ، وهمت أن تحضن الطفل فخاف وهرب ، فلما وصلنا المهجع كانت ثورة عواطفها وأشواقها قد انفجرت ففجرت معها شجون بقية الأمهات ، وعلا النشيج والنحيب فأغرقنا جميعا في حناياه . . وفاض بنا إلى حالنا الالم حتى أطل السؤال الذي لا يغيب : -حتى متى ؟

ولم نلبث أن طرحنا فكرة الإضراب من جديد إلى تلبى مطالبنا ويجدوا لنا حلا . . وكان وقت العشاء قد دنا فقمنا وجمعنا كل ما كان قد توفر لنا من طعام وصلنا عن طريق الشباب بالخفية أو وفرناه من بقايا الزيارات فتوازعناه وأكلناه . . وعقدنا عزمنا على ا لإضراب ، فلما أحضروا الطعام لم ينهض أحد لاستلامه من الطاقة ، فسأل العنصر باستغراب : - لماذا لا تردون ؟ قالت له الحاجة : لا نريد أن نأكل ولا أن نشرب . قال مندهشا هذه اللهجة الجديدة : أف ! خير . . خير . . طولوا بالكم ! قالت : لا نريد . . خذوا أكلكم ونحن بغنى عنكم . وأغلقت الطاقة . . فذهب العنصر وأخبر رئيس نوبته أبا عادل الذي جاء محموقا وفتح الطاقة بسرعة وقال : - ماذا هناك ؟ خير ! ردت الحاجة وقد وسكت الجميع : لا شيء . فسأل ثانية : - لماذا لا تأخذون العشاء ؟ ونادى على العنصر ليفتح الباب وأمره أن يضع الطعام قريبا منا ففعل . . فعاد وأغلقه وهو يقول بجفاف: اللي بياكل على ضرسه بينفع نفسه . . وذهب . . وبعد حوالي نصف الساعة عاد ففتح الطاقة وسأل : - شو أكلتم ؟ فلم يجبه أحد.

فلما نظر ووجد الطعام مكانه احتد جدا وأمر العنصر بإخراجه ثم انصرف بادي الغضب وهو يقول: أنتم أحرار . في اليوم الثاني أحضروا الفطور فلم نأخذه .

الغداء كذلك . . وصار العناصر ورؤساء الدفعات يذهبون ويعودون إلينا يقولون لنا : ما بصير . . أنتم الآن لا تضروا إلا أنفسكم ولن يرد عليكم أحد.. ولأن أحدهم إذا أفلح في كسر إضرابنا يرفع ويأخذ مكافأة فقد جاء من الجملة أبو شادي رئيس نوبة في القسم الجنوبي يحاول معنا أيضا ، وجعل يحاول فتح حوار معنا مظهرا عذوبة في الكلام ولطفا مصطنعا في الخطاب . . فقلنا له بصراحة: إما أن تجدوا لنا حلا فتفتحوا لنا الزيارات لنلتقي أبناءنا وأهالينا أو تخرجونا وتعدمونا ! فأجابنا بكل تبجح : - تأكدوا أن أهاليكم إذا وصلوا هنا فنحن لا نردهم . . ولكنهم هم الذين لا يسألون عنكم ! فقالت له ماجدة وقد أخذتنا الحماسة جميعا : لأن أهلنا يخافون أصلا أن يأتوا هنا . . اسم الفرع وحده يخيفهم . ولم يصل الحوار بنا إلى شيء ، ومر اليوم الثاني على هذه الحال ، فلما حل الثالث جدت بعض التطورات . . فقست المعاملة ، وحضر أبو رامى رئيس النوبة الثانية ونادانا بجفاء : هيا . . كل المضربات إلى الخارج.

فراعه أن خرجنا كلنا بما فينا الشيوعيات والمسيحيات والمتهمات بالبعث العراقي . . فنظر إلينا نظرة ملؤها الإستغراب والغضب معا يقول : - والله حلوة . . عاملين اتحاد افرو - اسيوي ! واقتادنا إلى غرفة التحقيق في القبو فيما بدأ اثنان من العناصر بتفتيش المهجع وتقليب الأغراض والبحث عن أي شيء يمكن أن يؤكل ليصادروه ، فعثروا على بعض المعلبات مما كان الشباب قد أرسلوها لنا ، فأخرج منيرة وأمرها أن تفتح كل العلب وترمي بها في برميل الزبالة أمام عينيه. . فيما أخذ عنصر اخر يتسلى ويسألنا عما نريد وما هى طلباتنا ، فقطعنا عليه الطريق وقلنا له : -أنتم تعرفون ما هي طلباتنا وماذا نريد ولا حاجة لمزيد من الكلام . وبعدما انتهى تفتيش المهجع أعادونا إليه ، وقطعوا الماء عنه ، وبدأ الجوع والعطش ينهشان في بقية جلدنا المنهك نهشا أمر من السكاكين.


من أجل سن ثوم !

وواقع الأمر فإنني ومنذ اليوم الثاني فقدت القدرة على الاستمرار من الإعياء ، وبدأت أتفرغ دما بسبب القرحة، ولم نلبث أن اكتشفنا أنا وماجدة طبق بيض سبق واشتريته من المشتريات كان على سطح أرفف حديدية ركبوها لنا في المهجع فأعماهم الله من أن يعثروا عليه ، وكانت هالة مصابة بالقرحة أيضا فخبأت قليلا من حليب النيدو وبعض السكر للإحتياط ، فجعلت البنات يذبن بعض السكر بالماء اخر كل ليلة ويشربن منه ملعقة ملعقة لكل واحدة ليتقوين بعض الشيء ، واتفقت ماجدة وهالة أن تتركا الحليب والبيض لي وحدي ، ولم تخبرا أحدا بذلك حتى لا يفت من عزم أي منا ، ولأن الإتفاق تم على أنه إذا فكت أي واحدة منا إضرابها فسيتبعها الجميع ويضيع كل الجهد هباء ، لكن حالتي الصحية المتردية جعلت ماجدة وهالة ترخصا لي في الإنفراد ببعض ما يقيتني ، فصرت ألعق من الحليب بعض الشيء ، وكانت ماجدة تأخذ بيضة كل يوم إلى الحمام فتنقرها من طرفيها وتتركها هناك وتخرج ، فأدخل بدوري فأشرقها نيئة بالطبع وأرمي القشر في الحمام . . ولم تدر البنات بذلك إلا عندما صرنا في قطنا وأبحنا لهم بالسر . . فكدن من استغرابهن وغيظهن وقتها أن يخنقنني ! ولقد حدث ذات يوم أن انتشرت رائحة ثوم في المهجع فجأة ، فصرنا نتساءل ونسأل ، إلى أن أحسسنا بالرائحة تصدر من فم أم شيماء ، فلما سألوها أقسمت أنه سن ثوم واحد وجدته بين ثنايا فراشها فأكلته ، فقامت القيامة أيضا على سن الثوم ذاك ! ولكن الإضراب صمد واستمر ، ولم يفلح الترغيب ولا الترهيب في إثنائنا عن الاستمرار ، رغم أن حالة البنات بدأت تسوء وتسوء . . والإعياء ألقى بكلكله عليهن .


زعيمة الإضراب !

ودخلنا رابع يوم للإضراب . . وفوجئنا بأبي عادل يفتح الباب علينا عند الصباح وينادي بشراسة ظاهرة: تعالوا هنا . . من زعيمة الإضراب بينكن ؟

فأجبنا بصوت واحد : ما عندنا زعيمة في المهجع .

قال : من اقترحت عليكن الإضراب ؟

قلنا : لا أحد .

قال بحنق : لابد وأن واحدة منكن قالت تعالوا نضرب يابنات . . فمن هي ؟

ولما لم يجبه أحد جعل يتفحص وجوهنا فوقع نظره على أم شيماء فوجدها أكبرنا جسما وأطولنا قامة فقال لها: تعالي . . أنت زعيمة الإضراب !

فسألته الحاجة : إلى أين أنت اخذها ؟

قال : لتنال جزاءها .

فهبت ماجدة تقول له : لا . . أنا زعيمة الإضراب . . لماذا أخذت أم شيماء؟

أجاب : لأن شكلها يوحي بذلك ، ولكن ما دمت اعترفت فتعالي . . ولا أزال أذكر كيف لبست المسكينة حذاءها المهترئ وخرجت وهي ترتدي ثوبا كان أخضر اللون قبل سنين ولكن الأيام جعلته انقلب إلى الصفرة . . وتحته بنطال بيجاما على غير مقاسها يصل الأرض ، وعلى رأسها شاشية كالفلاحات أكل الدهر عليها وشرب ! فلما وصل بها غرفة التحقيق في القبو نفسه سألها ثانية : - أنت إذا زعيمة الإضراب . قالت له : لا . قال : ولماذا تكذبين إذا ؟

أجابته : لأنه ليس لدينا لا زعيمة إضراب ولا زعيمة مهجع . . ومع ذلك أردت أن تأخذ أم شيماء بالتهمة .

فقال لها وقد اشتد غيظه : إذا ولأنك بدلت نفسك عن أم شيماء فلا بد وأن تعذبي مكانها . . وجعل يحاول وضعها على الدولاب وهي تصيح به : لا أريد أن اكل . . ما دخلكم في ؟ أنا أتحمل مسئولية نفسي . . فلما وجدها على هذا الإصرار والثبات أعادها وأعفاها من التعذيب ونجت برحمة الله .


ترغيب . .وترهيب !

وإذا كانت ماجدة قد نجت من التعذيب فإن الشباب الذين تضامنوا معنا وأضربوا نالوا الأمرين بسبب ذلك! فعندما بلغ نبأ الإضراب المهاجع الأخرى أعلن الشباب في السجن كله حتى الجنوبي منه الإضراب أيضا تضامنا معنا . . لكن الأوامر صدرت بسرعة وأسرع الجلادون والعناصر فعمموا عقوبة الفلقة" على كل سجين على الماشي جعلتهم يتوقفون عن المتابعة ويكسرون إضرابهم تجنبا لمزيد من التعذيب . . ولم يلبث المقدم ناصيف أن أتى بنفسه صبيحة اليوم الخامس فأخرج عائشة إلى غرفة التحقيق وحدها وأتى برغيف خبز وجبن وقال لها: ستأكلي الان أمامي .

فرفضت . . فثار عليها وجعل يشتمها ويقول لها : أكيد أنتم لكم صلة بالخارج وتريدون استغلال أحداث لبنان لإحراج الحكومة . ولم ندر وقتها ما الذي يجري لا في لبنان أو سورية ولا حتى في الزنزانة التي بجانبنا ! فلما اشتد بالكلام والتهديد عليها خافت من أن يعذبها من جديد فتناولت قطعة جبنة وأكلتها ، فلما عادت إلى المهجع وقصت علينا ما جرى قامت قيامة البنات ثانية وخربوا الدنيا فوق رأسها على هذه اللقمة . . وصبيحة اليوم التالي عاد المقدم وجعل يخرج البنات واحدة إثر أخرى ويحاول أن يدس الطعام في فمهن بالغصب فكن يرفضن ويمتنعن ، فإذا أفلح وأدخل اللقمة في فم واحدة منهن رفضت أن تبتلعها . . فلما وصل الدور على هالة وتصرفت التصرف نفسه - وكانت قد عادت طبيعية وقتذاك - رماها على الأرض وجعل يركلها برجليه ويصفعها كالمجنون بيديه ويقول لها : أصلا أنت عقوبتك ستكون لوحدك . . وسنعيد لك محكمتك (الميدانية) على ما تفعلين . . مشيرا إلى الرسالة التي كتبتها لوالدتها وأرسلتها مع السجينة الفلسطينية التي تبين أنها نقلتها للمقدم .

لكن أحدا برغم ذلك لم يأكل ، وتوقف عن إحضاري وكنت الوحيدة التي بقيت في المهجع ، فلما عدن هناك ازدنا كلنا صلابة وتصميما على الإستمرار والتحدي وقد لمسنا تأثير الإضراب عليهم ، وعاد العناصر يحاولون واحدا بعد الآخر باللين وبالخادعة أن ينهوا إضرابنا ، فأعادوا لنا الماء أولا ، وصاروا يتفننون في إحضار الأطعمة الشهية التي لم نحلم أن نراها في هذا المكان ليغرونا بها . . وذات مرة حضر هيثم بطبق من لبن سميك ما عهدناه من قبل أبدا ، واخر من أجود أنواع المشمش وأشهاها ، وثالث من صنف اخر . . لكن أحدا برغم الجوع المفرط والإعياء لم يمس أي شيء . . فلما عاد ووجد مسعاه قد فشل كما فشل سابقوه تملكه الغضب . . ونزلت عليه اللعنات . . فأمر عنصرا أن يخرج الصحون ، وجعل وهو يشتم الرب والدين يركلها بقدمه فتتطاير في الممر وتتناثر محتوياتها على الأرض والجدران . . واشتد الإرهاق بالبنات وزادت المعاناة ، وصارت بعضهن تسقط مغميا عليها وتقيء أخريات . . وغالبيتنا مصابات بفقر الدم أصلا . . ولم تعد إحدانا تقوى حتى على النهوض ، فشددنا البطانيات على بطوننا وصرنا حتى الصلاة نؤديها إيماء . . وبعد ذلك كله وحينما أسقط في أيديهم جاءنا أبو شادي فسألنا بلهجة بادية الجد : - قوموا وقولوا لي ما هي طلباتكم . فقالت له رغداء والكل ممد على الأرض لا يقوى على الحراك : - أنا أريد إذا متنا أن تقبرونا في حفرة واحدة .

فأجابها ساخرا : طلبك على العين والرأس ، ولكن ألا توجد لديكن أية طلبات أخرى ؟ قالت ماجدة : أريد أن أرى أبي قبل أن أموت ولو لدقيقتين .

فسألها : لماذا؟ قالت : لأقبل يديه وأكسب رضاه وحسب . فقال متهكما كعادته : والله مرضية كثير! لو كنت مرضية بالفعل لما كانت هذه حالك .

ثم أغلق الباب بلؤم ومض . . ولم يلبث أن عاد ومعه عدة صناديق من المحارم النسائية "دليلة" . . فقالت له الحاجة مستغربة : ماذا تفعل . . وماذا تريدنا أن نفعل بكل هذه الصناديق ؟ قال : ألم تطلبوها بأنفسكم ؟ ألا ترون كيف نلبي لكم كل طلباتكم في الحال ! فقالت الحاجة وقد تملكنا الغيظ جميعا : ماذا ؟ طلبناهم من أول ما وصلنا الفرع وبقينا نطلب ونطلب ولم تردوا . . الآن فقط !

قال : الان فقط وصلني الخبر ! فأجابته وقد كللنا جميعا من التعاطي الممل معهم : خلاص . . لا نريدهم ولا نريد شيئا غيرها . . فقط أغلقوا هذا الباب علينا حتى يأتينا النزع ونموت ثم افعلوا بنا ما تشاؤون ! فقال بلؤم وتهكم : لا . . اطمئني فلن تموتي . . أنت كالقطة بسبعة أرواح ! وجعل يروح ويغدو على مدار اليوم مكررا محاولاته السمجة عسانا نفك الإضراب على يديه فيحوز الجائزة . . حتى ضقنا منه أكثر من ضيقنا بالجوع . . وأنهكنا من كثرة الأخذ والرد أكثر مما أنهكنا العناء والتعب !


رحلة جديده إلى المجهول !

واستمر الإضراب . . ودخل يومه السابع لنفاجأ في الصباح الباكر بكلبشات الحديد تطرق باب المهجع ففزعنا جميعا ونهضنا برغم الإعياء خائفات ، وكنت وقتها في الحمام فسمعت أبا طلال ينادي اسمي بصوت عال يختلط بصوت الكلبشات تتأرجح بين يديه . . وكرر النداء مرتين أو ثلاث وهو يقول: بسرعة..بسرعة.

فما ظننت إلا أن ساعة الإعدام قد دنت بالفعل ، وها هو ذا أت ليقتادني إليه . . فجلست مكاني من الرعب لا أستطيع أن أرد أو أنهض ، وما عدت أعرف ما حصل ! فجاءت البنات وأنهضنني ثم أخرجنني إليه ، فرأيته وأنا شبه غائبة وضع القيد في يدي . . فنادته الحاجة : - فقط وحدها ؟ خذونا معها . . أهي الوحيدة التي تستاهل الإعدام ! كلنا نستاهله . . هيا دعونا نرتاح من هذا العمر! لكنه لم يلتفت إليها وجعل ينادي أسماءنا واحدة تلو الأخرى ويخرجنا إلى الممر ويضع القيود بأيدينا . . ولما لم يأت اسم سجينات التنظيمات الأخرى في القائمة اندفعن نحونا تتقدمهن منيرة وهي تقول له بانفعال: انتظر . . نريد أن نذهب معهن . . فصاح فيها بحنق وهو يدفعها بكل فظاظة : شـ . . ر . . وقعت على الأرض ، ورد الباقيات بنفس الغلظة إلى المهجع ثم اقتادنا إلى مكتب الأمانات فدفعوا إلينا أشياءنا هناك ، واكتشفت الحاجة في هذا الموقف الحرج أنهم سرقوا ذهبها الذي أخذوه منها ساعة القدوم ، ورغم إلحاحها وإصرارها إلا أنها لم تفلح في الحصول على شيء منه ، واقتادنا أبو طلال بعدها إلى باحة الفرع ، فوجدت نفسي أول الواصلات ، ووجدته يجذبني بقوة ويقول لي: قفي هنا.

فلما تلفت وجدتني في منتصف الساحة وقد اجتمعت حولي جميع العناصر ، والمقدم ناصيف يطل علينا من الأعلى من خلف شباك مكتبه . وأتاني صوت أبي طلال وقد أطرقت رأسي ينادي : ارفعي رأسك . قلت له : لا أريد أن أرفعه .

قال : سأنزع لك الحجاب في الحال . قلت : افعل ما تريد . قال : ألا ترين كم يوجد عناصر حولك ؟ إذا لم تفكي الإضراب الان فسأهينك أمام هؤلاء جميعا .

قلت له : إفعل ماتريد . . ماذا يمكن أن تفعل أكثر مما فعلتم ! فعصب كثيرا وجعل يشتمني بعبارات قبيحة ويسب الدين . . فلما لم أرد بشيء التفت وصاح لماجدة فوضع الكلبشات لي ولها سويا وعاد يقول لي : -أتعرفي لماذا يقف هؤلاء العناصر هنا كلهم ؟ قلت وأنا في غاية التوتر والإرهاق : لا . . لا أعرف . أجاب : هؤلاء أخرجناهم ليتفرجوا عليكم لأنكم صرتم فرجة ! وجعل يهدد البنات ويقول لهن بصوت عال : - نحن أخرجناكم الان ليتفرجوا عليكن . . وإذا لم تفكوا الإضراب فسننزع الحجاب عنكن وسنهينكن . . وأنتن تعرفن كيف تكون إهانتكن . . وجعل يرغي ويزبد وينادي كأنما أصابه مس : -يا بنات الـ. .يا كذا . . والله سنفعل بكن . . . ثم جعل يخرجنا بالتتابع فيكبل كل اثنتين منا سويا ويقتادهما إلى السيارة مباشرة . . ووجدت نفسي الأولى بينهن فلم أجرؤ على الصعود ولم أعد أقوى حتى على رفع قدمي . . ووجدتني تدفعني أياد من ورائي قسرا لأجد نفسي وماجدة مكبلة معي في قفص حقيقي له قضبان وباب وقفل ! ووجدنا بقية البنات تدخلن بعدنا واحدة تلو الأخرى لاهثات الأنفاس . . عندها أحسسنا أن الأمل في الإفراج عنا أو في حل مشاكلنا قد مات . . وأيقنا وقتها أنهم سيقتادوننا الآن إلى تدمر أو إلى ساحة أخرى للإعدام وأنها النهاية . . فداخ البعض . . وأغمي على بعض . . ووجدنا الحاجة أخرجت ليمونة لا ندري من أين وجعلت تقشرها بيديها وتمسح بها على وجوههن . . فيما أقفل باب السيارة علينا . . وبدأت رحلة جديدة بنا إلى المجهول !.


الفصل الثالث : سجن قطنا ، الموت البطيء (أكتوبر 1982 - 1985 )

سجن قطنا ، الموت البطئ

أخذت السيارة تنهب الأرض نهبا وتكاد في كل انعطافة لها تلفظنا إلى الخارج لولا أن تتلقانا القضبان الصماء تارة وأجساد بعضنا البعض المنهكة تارة أخرى . . وفيما جلس اثنان من الحرس بيننا وبين حجرة القيادة واثنان اخران بين القفص الذي أغلق علينا بإحكام والباب الخلفي مدججين كلهم بالسلاح ، بقي أبو طلال في المقدمة بجوار السائق وحده .

كنا أنا وماجدة وأم شيماء والحاجتان ومنتهى وايمان ورغداء ومنى وحليمة وأم محمود وأمل . . وفي بداية المشوار الذي استغرق قرابة الساعة أصابني الدوار ، فلما تلفت لأستنجد بأحد حولي وجدت أكثر البنات مغمى عليهن ! فقد اجتمع علينا الجوع والإرهاق والرعب والهم . . وكانت شهور قد مضت علينا لم نركب فيها سيارة ولا سطعت علينا الشمس بهذا الطول . . وأما أنا وبعد أن بدأت استعادة وعيي حاولت أن أحرك يدي في القيد فشد عليها أكثر ، فلما حاولت تخفيف هذا الضغط ازداد واشتد حتى ازرقت أناملي وأحسست أنها ستنقطع ! ولم نلبث وقد بلغ الكرب مداه أن توقفت بنا السيارة عند حاجز للشرطة المدنية ، وتقدم أحدهم ففتح الباب الخلفي لبرهة وكأنما أرادوا أن ينزلونا . . وقتها استطعت أن ألمح قوسا معدنيا فوقنا مكتوب عليه بخط عريض "سجن قطنا المدني " لكن الباب عاد فأقفل ، وعادوا فساروا بنا إلى الداخل ليتوقفوا عند باب اخر جرت عنده كما تبدى عملية التسليم والإستلام ، وبعد انتظار ربع ساعة تقريبا ريثما سلموا الأوراق واستلموها جاء أحد أفراد الشرطة ففتح باب السيارة ودعانا للنزول .

كنا لا نزال كالخارجين من القبور لا نستوعب ما يدور ولا نقوى من الإعياء أن نتحرك . . وأذكرأنني سحبت نفسي سحبا وجاء الشرطي فأسندني ثم أمسكني من يدي وأنزلني . . وارتمينا جميعا من فورنا على الأ رض وافترشناها كالشحاذين ! فيما تحلق بعض رجال الشرطة حولنا يتهامسون ويحوقلون ، وأخذ آخرون يطلون من شبابيك المخفر علينا وكأننا مخلوقات من كوكب اخر !

كان منظرنا محزنا مثلما كان غريبا ورهيبا . . فالوجوه مصفرة من الهزال باهتة من اعتياد الظلمة والبعد عن ضوء الشمس ، والثياب رثة ممزقة تراخت فوق أجسادنا المنحولة وقد تغيرت ألوانها واختلطت الرقع عليها فكادت أن تغطيها . . وفوق ذلك كنا لا نزال مقيدات الأيادي نتحرك - إذا استطعنا - أزواجا بالكلبشات ! وتبين فوق ذلك أن أبا طلال قد نسي مفاتيح الكلبشات في كفر سوسة عمدا لا ندري أم سهوا ، فتركنا على حالنا في القيود فوق الرصيف ومض ليحضرها . . لكن وما أن تحركت سيارة المخابرات حتى أقبل الشرطة علينا يدعوننا للدخول إلى غرفتهم إكراما لنا ، ولما لم نقو حتى على الإنتقال سحبونا سحبا وأجلسونا هناك في انتظار عودة أبي طلال بالمفاتيح .

كانت غرفة الخفر بسيطة المحتويات تضم طاولة مكتب وخزانة السلاح وبعض الكراسي ، وكان العناصر يطلون من الباب بين الحين والآخر ينظرون إلينا نظرات يختلط الإشفاق فيها بالإستغراب ، ولا تالبث أن تدمع عيونهم ويبكون مثل النساء ! وأقبل واحد منهم في الخمسينيات من عمره وحاول أن يفك الكلبشات من أيدينا مرات عديدة فلم يستطع . . فجعل يواسينا والدموع تسيل على خديه ويقول : اطمئنوا أخواتي اطمئنوا . . الان ستنتقلون إلى الداخل وتعيشون عيشة طبيعية من جديد . . وجعل يشير من النافذة ويقول وهو لا يتمالك نفسه من البكاء : انظروا . . يوجد أولاد هناك . . وشجر . . ونسوان . . هناك واحدة من حماة اسمها غزوة . . وهناك غيرها فلانة وفلانة ، يالله إن شاء الله الآن تتنشطوا وتعودوا إلى حياتكم الطبيعية . . وعندما لمحت أم محمود ولدا هناك تنهدت وقالت له : وهل إذا وجدنا أولادا هنا سيعوضوننا عن أولادنا ؟ فقال لها : منشان الله . . والله إن شاء الله سيأتي أولادك وترينهم وتطمئني عليهم . . ومض الرجل الطيب مسرعا فأحضر لنا شايا نشربه ونحن لا نكاد نصدق ما يجري ، ولم يلبث مدير السجن المساعد أبو مطيع أن جاء مع وصول أبي طلال بالمفاتيح بعد قرابة الساعتين ، ففك لنا الكلبشات واحدة بعد الأخرى ، ومن غير أن يقول لنا أية كلمة مضى بالعناصر والسيارة . . فيما أخذ أبو مطيع يهدئ من روعنا ويؤكد لنا أن هذا المكان مختلف جدا، ولن يكون هناك أي تعذيب ولا خوف بعد اليوم . . ودخل إلى منطقة المهاجع ونحن نتبعه ، فلما دخلت أولانا - وكانت أم شيماء - وجدنا السجينات جميعا هجمن عليها يعانقنها ويحملنها إلى المهجع حملا . . وهي تناديهم ولا يسمعون ترجوهم أن يتركوها لتمشي بنفسها . . والذي تبين أن أبا مطيع دخل على السجينات وأخبرهن بأن نساء خارجات من أحداث حماة أتين إليكن . . منهن المكسورة والمجروحة والمصابة ، .

وهن في أسوأ حال . ولم يكن الرجل متصنعا ولا كاذبا وقتها ، وظننا كذلك فعلا نتيجة الحالة المزرية التي كنا عليها بعد ثلاث سنوات من العيش في قبو لا يشبهه من بقاع الدنيا شيء إلا حفرة القبر!


أحكام شكلية : عشر سنوات فقط !

كان سجن قطنا عبارة عن بناء حجري أشبه ما يكون بالبيوت العربية القديمة تتوزع الغرف فيه على محيط باحته ، وتفصل بين هذه الباحة وبينهم القضبان الحديدية فتجعل من كل حجرة مهجعا مستقلا بذاته . وعلاوة على مهجع مخصص من قبل للسجينات السياسيات كانت المهاجع الأخرى موزعة حسب القضايا التي حبست السجينات على ذممها ، فثمة مهجعان للمتهمات بالقتل ، وآخر للحشيش والمخدرات ، والرابع للدعارة . . وثمة غرفة خامسة أشبه بالزنزا نة المنفردة كانت والدة مهدي علواني الذي أعدم مع مجموعة من الشباب في أواخر عام 79 مسجونة فيها وحدها ثم أفرج عنها قبل أن نأتي . . لكن وبرغم المجاورة فإن الإختلاط بين السياسيات والقضائيات كان ممنوعا ، وكانوا ساعة أن وصلنا قد سمحوا للسياسيات بالخروج لاستقبالنا ، لكن بعضا ممن كن يعرفننا لم تتمكن من التعرف علينا بادئ الأمر ! فسناء س .

التي كانت معي في الجامعة جعلت تحملق في وتقول : -غيرمعقول . . هل هذا أنت ؟ ماذا حصل . . هل جففوكم في العلب ! وأقبلت غزوة ك . أيضا تستقبلنا بضحكتها وفكاهاتها . . وغمرت الفرحة قلوبنا وقلوبهن وكأننا التقينا في بيوتنا معززات مكرمات ! وبين خليط من القبلات والدمعات والتنهدات جلست كل واحدة تقص قصتها . . ولم يلبث أن حضر العقيد موفق السمان قائد المنطقة ورئيس السجن فسلم علينا ورحب بنا وقال لنا أنتم هنا في أمانتنا ولن تجدوا إلا خيرا ، وجعل يؤكد علينا أنه لم تعد للمخابرات أية علاقة بنا ، وأنه لم يعد لذلك أي معنى للاستمرار في الإضراب ، راجيا إيانا أن ننهيه للتو ونصبر ونحتسب حتى يأذن الله بالفرج . . وحضر أحد رجال الشرطة بكرسي للعقيد فجلس عليه أمامنا ، ولم يلبث أن أخرج أوراقا بيده وقد ارتسمت معالم الجدية أكثر على قسمات وجهه وقال لنا دون أن تختفي ظلال الحرج عن نبرته : - اسمعوني الآن . . لا أريد بكاء ولا نواحا . . اسمعوا فقط . فسألته الحاجة : ليش إيش في ؟ قال : هذه ورقة الأحكام التي بلغتنا سأقرأها عليكم لتعلم كل منكم حكمها.

ومن غير أن يترك لنا فرصة لاسترداد الأنفاس شرع يقرأ : حكمت محكمة أمن الدولة على المتهمة هبة دباغ بعشر سنوات مع الأشغال الشاقة . . فصاحت الحاجة رياض : اه . . ولي على قامتي ان شا الله يا هبة .

وهجمت علي وضمتني وهي تبكي وتنوح . . وردت الحاجة مديحة معها: -ولي على قامتي ان شالله . . عشرسنين ! لكن أثر المفاجأة والتأثر بما سمعوه لم يلبث أن تقلص عندما تذكرت كل منهن نفسها وجال بخاطر كل منهن عدد السنين التي حكمت بها أيضا ، وسرعان ما اتجهت الأنظار إلى المقدم ثانية وقد بدأ يكمل قراءة بقية الأحكام : حكمت محكمة أمن الدولة على المتهمة رياض د.

بعشرين عاما مع الأشغال الشاقة ! فصاحت به بانفعال : وقف أبوي ليكون دبانة عملت نقطة هنا بالغلط ! ماذا ؟ هل قلت 25 عاما ؟ غير معقول فتركوني واتجهوا إليها وقد تضاعف حكمها يواسونها ويخففون ما وسعهم عنها . . ثم تتابعت قراءة الأحكام : منتهى ج . عشرون سنة . الحاجة مديحة عشر سنوات . رغداءخ . ومنى ع . أربع سنوات (لكنهما جلستا معنا السنين العشرة) ! أم شيماء 4 سنين . عائثة ق . أربع سنوات . حورية أم محمود عشرة .

منى ف . وأختها عشرة . ماجدة ل . عشرون . هالة عشرة . ترفة عشرة سنين . . ولما انتهى من الأسماء كلها ورأى حالة الوجوم التي كستنا وتأثرنا وبكاء من يبكي منا ونحن مضربات بالأصل وحالتنا حالة قال لنا مواسيا: هذه مجرد أحكام شكلية وحسب ، وان شاء الله تخرجوا قبل ذلك ولا تطولوا ، ولا أحد جاء هنا إلا وخرج . . ثم جعل يحدثنا عن حقوقنا هنا والمزايا المتحققة لنا ، وأخذ يشجعنا هنا لكي نتناول الآن طعام الإفطار ونعود إلى حياتنا الطبيعية . . وخلال ذلك أعدت البنات لنا مائدة طويلة على طول المهجع الذي خصصوه من فورهم لنا نحن القادمات الجدد ، فالتفت إلى ماجدة وأنا أصيح ولا أكاد أصدق نفسي : - بندورة . . خيار . . بقدونس . . وبيض إ! لكننا وعلى الرغم من الجوع الشديد والطعام الشهي إلا أننا وما أن ابتلعنا اللقمة الأولى بعد سبعة أيام من الإضراب حتى أصبنا جميعا بمغص في المعدة وعجزنا عن الإستمرار . . لكننا أنهينا إضرابنا واستعدنا بعضا من حيويتنا ، وكانت سعادتنا غامرة وقد لمسنا نجاح إضرابنا ولو إلى حد ، وبدأنا وقد حدثتنا سابقاتنا عن نظام الزيارة الأسبوعي لكل الأهالي . . بدأنا نعد الأيام انتظارا ليوم الجمعة الآتي . . وننسج الأحلام من ظهيرة يوم الأربعاء الذي وصلنا فيه ترقبا لهذا اللقاء الذي طال .


أشغال شاقة !

كان مهجعنا عبارة عن غرفة مستطيلة الشكل لا يجاوز طولها خمسة أمتار تقع في زاوية السجن اليسرى، وبعد أن يتجاوز الداخل درجة حجرية في البداية تنخفض أرضية المهجع بما يسمى "العتبة" ثم تعود لترتفع إلى المستوى الأ ول من جديد .

وفي الزاوية اليسرى هناك حجرة الحمام ، وثمة نافذتان تطلان على باحة السجن على يمين الباب .

وبعد أن استلمنا المهجع وعلمت كل منا حكمها عاد مدير السجن فسلمنا فرش إسفنج ومخدات وبطانيات على عددنا ، لكنهما كانت كلها قديمة ومستعملة ومنتنة ، وسرعان ما دب الخلاف بين القادمات وهن يتسابقن للفوز بأحسن الفرش والبطانيات وأفضل الأماكن ، وبالطبع لم تتسع الغرفة لنا جميعا ، وحسما للخلاف صارت فرشتى انا وأختي على العتبة ونصفها الآخر على الخلاء ! وبعد أن مرت الأزمة على خير واستطعنا آخر الأمر الإستقرار على حال جعلنا ننظف المكان معا ونعد مسكننا الجديد فيه .

وخلال ذلك لاحظنا أن بعض زوايا الغرفة متآكلة من القدم ، وجانبا من الدرجة التي على الباب مكسور بما يهدد أي عابر بالزلق ، فسالنا مدير السجن أبا مطيع إن كان بالإمكان السماخ لنا ببعض الإسمنت لترميمها فوافق ، وفي اليوم الثاني جاءنا مبكرا وفتح علينا الباب فخرجت الحاجة رياض أول من خرج ، فما أن راها وناداها حتى وجدناها وقد أغمي عليها ، وأسرعت الحاجة مديحة فسكبت عليها الماء وصحتها ،فلما فتحت عينيها تشبثت بها وهي تقول : - أبوي يا حاجة ، يريدون أن يأخذونني إلى الأشغال الشاقة! من شان الله تكلمي معه . . قولي له لا أستطيع . . ضغطي يرتفع . . ونفسي والله يضيق ولا أتحمل . . وصارت المسكينة تبكي كالممسوس . . فخرجت الحاجة مديحة وقد تملكتها الدهشة وسالته : -ما الذي حدث . . إلى أين ستأخذها ؟ قال الرجل باستغراب واضطراب : والله لم أفعل لها أي شيء . . لم أزد عن أن أقول لها تعالي يا حاجة وخذي الإسمنت . لكنها وكما علمنا بعده ، ولضعف سمعها من جهة ورواسب الخوف التي لا تزال تملؤ نفسها من جهة أخرى ظنت أنه يريد أخذها لتبدأ تنفيذ حكم الأشغال الشاقة . . فأغمي عليها !


ولاده "معقل " في المعتقل !

كان مهجع السياسيات قبلنا غاصا كذلك بنزيلاته القادمات من شتى المحافظات : غزوة ك . من حماة ، وسناء د .

من دمشق ، وأم معقل وولدها الذي ولدته في السجن أيضا ، وأم هيثم من جسر الشغور ، وأم عبد الباسط وابنتها عائدة وهما من الجسر أيضا ، وسنيحة وفاطمة من اللاذقية ، وأم محمود كامل من اللاذقية أيضا . ولكل من هؤلاء كانت قصة . . ولكل منهن مأساة وغصة .

كانت غزوة طبيبة أسنان من حماة ساعدت بشراء بيت في دمشق للشباب الملاحقين ، ولكن عبد الكريم رجب اكتشف ذلك وأبلغ عنها فاعتقلوها من عيادتها في صوران ، وفي البداية أحضروها إلى فرع الأمن السياسي بحماة ثم نقلوها إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق ، وبقيت هناك حوالي 6- 8 أشهر أحضروها بعدها إلى قطنا لتبقى معنا إلى النهاية . أما سناء ر .

فيبدوأن أحدا ما قد استعمل هويتها في شراء بيت وهي لا تدري ، وانكشف البيت بعدما تبين أنه باسمها فاعتقلوها وأتوا بها ، وسناء من مواليد1965 وكانت معنا في كلية الشريعة ، وقد اعتقلوها في نفس اليوم الذي اعتقلت فيه ولكن الجهة التي فعلت ذلك كانت التحقيق العسكري ، وأثناء التحقيق معها سألوها عني ثم طلبوا منها أن تأخذهم إلى بيتي في دمشق ، وبالفعل ذهبوا معها إلى البيت وقدموها أمامهم لتقرع الباب ، فلما فعلت خرجت لها أمي وكنت بالطبع قد اعتقلت الليلة السابقة ولا يزال العناصر كامنين في البيت ، فلما رأتها أمي قالت لها إذهبي ولا تعودي ثانية في محاولة لإنقاذها من الإعتقال ، لكن الدورية التي وراءها والعناصر في الداخل سرعان ما اتصلوا معا وعلموا أن جهة أخرى اعتقلتني فعادوا بها إلى الفرع من جديد . وأما ثالثة السجينات مطيعة ح .

أم معقل فكانت معلمة مدرسة شملها قرار تحويل المدرسين المشكوك في ولائهم للنظام وتحويلهم أواخر السبعينات إلى الوظائف الإدارية ، فمنعت من التدريس وتم تحويلها إلى أحد المستوصفات كموظفة إدارية . . وأثناء ذلك لوحق زوجها ولكنه تمكن من الهرب ، فأتوا واعتقلوها مكانه إضافة إلى اعتقال والده كرهينة! وكانت مطيعة أيام اعتقالها في أواخر الثلاثينات من عمرها وأما لأربعة أولاد، وتحمل الخامس في اخر شهور الحمل ، لكن ذلك كله لم يشفع لها ، فأتوا وأخذوها رهينة عن زوجها ووضعوها مؤقتا في مستوصف عسكري تابع للأمن السياسي بالجسر ، وهناك وفي الحجرة التي اعتقلوها فيها ونتيجة الخوف والتهديدات التي أسمعوها إياها جاءها الطلق على غير موعد ، فجعلت تدق الباب عليهم وتستغيث وهي تخبرهم أنها تضع مولودا دون أن يجيبها أحد ، فلما خرج المولود وعلا بكاؤه سمحوا لإحدى الممرضات بالدخول إليها لمساعدتها . . لكن كل شيء كان قد تم ! وبعد ذلك نقلوها والمولود إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق وبقيت هناك عدة شهور قبل أن ينقلوها إلى سجن قطنا فنلتقيهما هناك ولم يكن معقل قد جاوز شهوره السبعة أو الثمانية بعد . . ولقد أطلقت حليمة عليه اسم معقل تيمنا بالصحابي معقل بن يساراضافة إلى أنه ولد في المعتقل . . وعلى الرغم من أنها كانت غاية في الصبر إلا أنها ذاقت المر كثيرا من أجله ، وعلاوة على لوعتها المستمرة وهي ترى ابنها يقضي طفولته الغضة في السجن من غير ذنب ولا سبب ، وترى مستقبله مجهولا كمستقبلها رهن المهاجع والزنازين والسجون . . علاوة على ذلك الإحساس المؤلم فقد كانت أشد ما تعاني بشأنه وهي تراه بين أيدي الجميع ووفق هواهن . . وكل منهن تفرغ فيه شوقها لبنيها أو تسلي به مللها من رتابة الحياة حولها فتحاول أن تعلمه ما يروق لها حتى ولو لم يرق للأم ! وتجذبه إليها أو تستبقيه معها حتى ولو لم يرضها ذلك ! ولقد تسبب لها بعض من ذلك بكثير من المشاكل والحرج . . فمن أين لا تدري بالتحديد تعلم الولد أول ما تعلم النطق أن يقول "طظ أسد". . فكان كلما سمع اسمه أو رأى صورته قال ذلك . . وذات مرة مرض معقل وازدادت شكاته فسمحوا بنقله إلى المستوصف للكشف عليه ، وهناك وهو بحالته تلك رأى صورة الرئيس معلقة ، فما أن راها حتى صاح "طظ أسد بين الناس . . ولم تدر أمه وقتها كيف نجت لكنها وفي مرة تالية وعندما أخذوها إلى المحكمة الميدانية كان لا بد وأن تصطحبه معها ، فلما كانوا أمام اللجنة التفت معقل فرأى تمثال رأس الأسد في زاوية الغرفة قريبا منه فبصق عليه وقال نفس العبارة ، فأمر الضابط باقتياد الأم وابنها فورا إلى المنفردة للتأديب ، فجعل معقل يبكي وهو يصيح "طظ أسد". . وصارت أمه كلما حاولمت أن تسكته أو تسد له فمه ازداد صياحا وتردادا للعبارة . . وكان عليها أن تتحمل المعاناة في المنفردة من جديد بسببه أو بسبب من لقنوه العبارة وحملوها الثمن !


إثاره الشغب إ!

وممن سبقننا إلى قطنا أيضا كانت أم هيثم من جسر الشغور أيضا ، وهي أم لأربعة أطفال شارك زوجها في إيواء بعض الملاحقين ببيتهم فداهمته الخابرات واشتبكت معهم ، فقتل البعض وفر اخرون واعتقل أبو هيثم وزوجته وذاقا معا أشد أنواع العذاب . . وفيما تم إعدام الزوج فيما بعد كما ترجح أم هيثم فقد تم استبقاؤها في السجن بتهمة إثارة الشغب . . وهي نفس التهمة التي وجهت لأم معقل وأم عبد الباسط وابنتها عائدة في المحكمة الميدانية ولم يخرج هؤلاء جميعا إلا أواخر عام 85. وأماسميحة وفاطمة ، وهما بنات خال وبنات عمة من مرج خوخة بمحافظة اللاذقية فقد خرجتا مع مجموعة من أقربائهما الملاحقين الذين التجأوا إلى الجبال حول قريتهم .

وكان عمر فاطمة وقتها15 سنة وسنيحة 16 سنة ، وكانت معهم بنت ثالثة اسمها غنية عمرها 18 سنة . وهناك في الجبل جلست البنات مع المجموعة الهاربة يطبخن لهم ويساعدنهم في بعض الأمور حتى جاءت عليهم فسادة فداهمتهم الخابرات وحصلت مقاومة انتهت باستشهاد غنية وبعض الشباب الآخرين ، واعتقال سميحة وفاطمة . وقد أخذوهما بادئ الأمر إلى سجن الشيخ حسن بدمشق ليومين أو ثلاثة لم تسلما خلالها من التعذيب ثم أحضروهما إلى قطنا .

وفيما لم يسلموا غنية لأهلها ودفنوها بأنفسهم فقد تم نقل الشباب الذين اعتقلوا معهما إلى تدمر جميعا . وكان من نزيلات المهجع الثاني قبلنا أيضا سيدة من اللاذقية اسمها أم محمود كامل في الخمسينيات من عمرها ، ومي جدة وأم لأربعة أو خمسة أبناء .

وكان اعتقال أم محمود قبل اعتقالنا بأيام فقط بتهمة مساعدة الملاحقين بتأمين وثائق سفر لهم عن طريق أحد أقربائها . وفي البداية تم سجنها في كفر سوسة قبل أن نأتي هناك ولكنهم نقلوها بسرعة إلى قطنا . وقد تحدثت أنهم عذبوها وضربوها دونما أية مراعاة لسنها ، وظلت في السجن بعد ذلك ولم تخرج إلا معنا .


تجسس مزدوج !

ومن نزيلات قطنا كانت أسماء الفيصل زوجة رياض الترك الزعيم الشيوعي المعروف ، وهي طبيبة في الخمسينيات من عمرها ، وكانت موجودة هناك في المهجع الثاني من قبل أن نأتي ، وأظن أنها كانت قد أمضت في السجن ثلاث سنين قبلنا ، لكنه تم الإفراج عنها بعد أشهر قليلة من لقائنا بها ، وبرغم قصر الفترة إلا أنها تركت في نفوسنا انطباعا حسنا عنها ولمسنا طيبها وحسن تصرفاتها معنا ، وذلك على العكس من أميرة زركلي التي كانت شريكتها في المهجع عند وصولنا أيضا ، وهي سيدة دمشقية كردية الأصل في الخامسة والأربعين من عمرها ، متزوجة من عراقي وتشتغل معه في السفارة العراقية ومتهمة بالتجسس المزدوج لصالح العراق وسورية معا ! وبعد اكتشافها سجنت في سورية فيما صدر عليها الحكم في العراق بالإعدام غيابيا وطلقها زوجها بعد ذلك ، وخرجنا من السجن وهي لا تزال فيه .

وكانت هذه السيدة لا تكف عن إيذائنا وإثارة المشاكل معنا والحديث بالسوء دوما عن الإخوان ، وكانت لا تكف عن ترديد قولها على مسامعنا : - بكره شوفوا . . ستخرج كل السجينات وسجينات الإخوان جالسات ينظرن مساكين بأعينهن . . والذي حصل أننا خرجنا جميعا في النهاية وبقيت هي تنظر إلينا بأعينها سبحان الله . . ولم يفرجوا عنها إلا بعدنا بسنة أو ربما سنتين !


ضحايا !

كانت حياة السجن في قطنا مختلفة عن سابقتها بكفرسوسة لا ريب ، والميزات والتحسن الذي وجدناها نعمة كبرى ، لكن السجن يظل في كل الإعتبارات هو السجن . . والقيد قيد حتى ولو كان من ذهب . . وبعد أن يفقد الإنسان في السجن طعم الحرية تمتد بين ناظريه من ثم قائمة أطول من أن تعد من أصناف المشاكل والالام والمعاناة المتنوعة . . وعلى العموم كنا في النتيجة مجبرين على التكيف والتعايش . . نحاول كلما ضاقت علينا الحال أن نجد منفسا جديدا يعيننا ويهون علينا الخطوب .

لم نكن نختلط في البداية مع السجينات القضائيات لأن الأبواب كانت تفتح لنا بالتناوب ، مجموعة في الصباح والأخرى في المساء ثم يعكسون الآية في اليوم التالي ، لكننا كنا نتكلم معهن من وراء القضبان ونستمع إلى قصصهن فنجد في ذلك بعض التسلية والترويح . . وكنا ننصحهن أحيانا ونريهن أغلاطهن ، لكننا وجدنا الكثيرات منهن كن ضحايا سوء تربية الأهل أو ظروف السوء التي أحاطت بنشأتهن .

ولقد نجحنا ذات مرة في المساعدة على استنقاذ إحداهن من واقعها السيىء ومستقبلها المظلم ، فنتيجة لخلاف معهم قام أهل هذه الفتاة بطردها من البيت بلا رجعة ، فلم تجد من يؤويها إلا امرأة قوادة أخذتها إلى بيتها ومضت بها في هذا الطريق ، فلما أحسسنا أنها ضحية تدفع ثمن سوء تصرفات الغير سعينا للإتصال بباحثة اجتماعية كانت تأتي ضمن مجموعة من الباحثات لتعمل وسط السجينات ، وعلى الرغم من أن الإتصال كان محظورا بيننا وبين هؤلاء الباحثات أو حتى مع طلاب الحقوق الذين يحضرون دوريا لدراسة حال السجن والسجناء القضائيين ، إلا أننا وفقنا في الإتصال معها بطريقة ما ، وبعدما أطلعناها على رأينا ومعلوماتنا تفاعلت الباحثة معنا ومع السجينة ، ولم تلبث أن أخذتها إلى المحكمة وعالجت لها وضعها هناك ووجدوا لها من ثم شابا زوجوها إياه .


القروانة !

وإذا كان المقام هنا هو الحديث عن مواصفات سجن قطنا فإن من الطريف الإشارة إلى وضع الطعام الذي كنا نتناوله في هذا المنزل الجديد ! فلقد كانت الوجبات الرئيسية تأتينا من سجن القلعة بحلل أو صواني معدنية ، لكن "القروانة" ما كانت تصل إلا وقد كدنا نموت كلنا من الجوع . . فلقد كان على السيارة أن تقل السجينات القضائيات إلى المحكمة وترجعهن وتأتي بالطعام في الطريق . . فإذا وصل أنزله الشرطة في باحة السجن وفتحوا للسجينات ليتجمعن ويتوزعنه بينهن . . لكن المشاكل والخناقات سرعان ما كانت تندلع : وضعتي لها أكثر . . وأقل . . ونريد هذه أن توزع لنا . . ولا نريد تلك . . ولا ينتهي الأمر إلا وقد تفرقت القلوب واشمأزت النفوس . . فلما ازدادت المشاكل عين مدير السجن غزوة لهذه المهمة ، وظلت المسكينة حتى خروجها موكلة بتوزيع وجبات الطعام على كل السجينات ! واذا كانت هذه كيفية توزيع الطعام فإن نوعيته كانت قصة أخرى . . فكثيرا ما كنا إذا حضرالطعام وبدأنا نحركه طفت الصراصير على سطحه أو تمهلت حتى نلتقطها بين الأسنان ! وكان اعتياديا أن تصلنا الصواني وآثار أقدام المرافقين منطبعة عليها وقد وطأتها أثناء النقل . . واذا بكر السائق في الوصول لسبب ما رمى "القروانة" على باب السجن الخارجي فتسبقنا الكلاب والقطط إلى الطعام قبل أن يحضر مدير السجن ويفتح الباب ! وصرنا لذلك نطلب من إحدى السجانات أن تشتري لنا - سرا بالطبع - مع طعامها شيئا نأكله . .

وبعد ذلك سمحوا لنا رسميا بذلك فصارت أم ديبو السجانة الأخرى - تأتي بالأغراض وتبيعها لنا ولكن بأسعار مضاعفة إ! كذلك كانت هناك مشكلة أخرى في الماء الذي لم يكن يصل عبر الحنفيات في المهاجع ، وإنما كان علينا أن ننتظر وصولها إلى المهاجع بالتناوب من حنفية رئيسية في السجن مددوا منها خرطوما متفرعا على كل الغرف ، وكانوا يديرونه على المهاجع بالساعة ، ويتحكم كل مهجع بالمهجع الذي يليه إذا شاء . . وكان الماء لذلك أحد أسباب المشاكل بيننا ! وعندما حضر جهاز التلفزيون إلى المهجع بمرسوم من إدارة المخابرات لتثقيفنا "ثوريا" وإطلاعنا على منجزات النظام الرائدة إ! حضر سبب جديد للخلاف بين النزيلات . . وكان من طرائف التلفزيون أن الحاجة رياض تصر على أن يلتزم الجميع الهدوء والسكينة ويصغوا باهتمام إلى كل نشرات الأخبار لعل خبرا يصدر بالعفو عنا فتكون أول من يتلقاه ! ولقد حصل فيما بعد وأثناء ما سمي ببيعة الأبد للرئيس الأسد عام 85 أن صدر عفو بالفعل ولكن عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية فقط ، لكن الحاجة رياض التي واظبت على سماع الأخبار انتظارا لمثل هذا النبأ سقطت فور سماع الموجز مغشيا عليها وهي تصيح : - الحمد لله سأرى أمي . . فلما سمعنا التفاصيل أسقط في نفوسنا وسقطنا مكسوري الخاطر ، لكنها كانت فاجعة بالنسبة للحاجة رياض . . بقيت أياما على اثرها غارقة في لجج الدموع والأحزان !


حريق !

ومما لا يغيب عن البال من أيام سجن قطنا النار التي شبت أكثر من مرة هناك شاهدا جديدا على قساوة الحياة التي نحياها وعنصرا اخر من عناصر الألم والتوتر والإضطراب التي تلفنا باستمرار . . ففي المرة الأولى اشتعلت النار في حمام مهجع القتل فالتهمت سجينة متهمة بقتل زوجها اسمها فاطمة . . وامتدت النار إلى المهجع كله فأحرقته وكادت تودي بحياة السجينات الأخريات . . ووقتها كنت أنا وماجدة على شباك مهجعنا المطل عليهن نقرأ القرآن بعد المغرب . . فجعلن ينادين علي وقتها ويستغثن بي ، لكن الأبواب كانت مقفلة علينا جميعا ، فجعلنا ننادي بدورنا على السجانة أم ديبو لتفعل شيئا ، لكنها لم تكن ترد علينا في العادة بعد إقفال المهاجع ولا تستجيب . . فلما وصلت ألسنة النار إلى ساحة السجن وغطى الدخان المكان كله وكاد الحريق يطال أشرطة الكهرباء وأوعية الغاز في المطبخ المجاور . . قرعت أم ديبو جرس الإنذار آخر الأمر . . وحضر العناصر يحاولون في ظلمة الليل تبين مصدر الحريق دون جدوى . .

وفي النهاية وأثناء الهرج والمرج قامت إحدى سجينات المهجع نفسه فأطفأت ببطانيتها النار عن السجينة التي شبت بها النار وعن المكان . . لكن الناركانت قد التهمت جزءا كبيرا من جسد فاطمة فأسلمت الروح بعد أسبوع . . وكان أنين المسكينة طوال ذلك وهي في غيبوبتها يمنعنا النوم ويزيد من عذابنا النفسي . . ورائحة لحمها المتقيح تزكم الأنوف وتزيد في معاناتنا وألمنا . . وأما المرة الثانية فكانت في مهجعنما نفسه عندما اندلعت النار في "البابور" أثناء استحمام واحدة من البنات ، فقامت من اضطرابها بقفل الباب بدلا من فتحه والتجأت إلى الزاوية التي تقابله من الحمام ، فصارت النار بينها وبين الباب وكادت الأخرى تحترق ، لكن لطف الله تداركها وتداركنا . . فاضطررنا إلى كسر القفل ، ودخلت ماجدة جزاها الله خيرا فحملت البابور لا تبالي بالنار المشتعلة فيه ، فأخرجته إلى العتبة وألقته هناك ، واحترقت يدها بسبب ذلك .


رحمهم الله !

واذا كانت ميزات سجن قطنا المدني الإيجابية لا تعد قياسا بكفر سوسة ، إلا أن السماح بالزيارات كانت في طليعة ذلك كله . ولقد تنعمنا في فترة من الفترات بحرية المراسلة ، فكتبت إلى بيت أخي بحلب وبيت عمتي وحتى أم شيماء بالسعودية . . وكنت أتلقى البريد منهم جميعا ، لكن ذلك لم يدم أكثر من شهرين أو ثلاثة ثم عاد نظام الرقابة الصارم على الرسائل وعلى الكتب والمطبوعات ، فيما استمرت الزيارة الأ سبوعية كل يوم جمعة ولم تتوقف.

كان الاهالى يتوافدون من شتى المحافظات الى سجن قطنا منذ الفجر يترقبون ساعة اللقاء . . وبعد أن يتجمعوا على البوابة ساعات طوالا ويعن على بال المسؤول يومها السماح لهم بالدخول يكون النهار قد انتصف عى أحسن الأحوال . . فيسوقونهم إلى قاعة الزيارة كأول خطوة ، وبعد أن يتم تفتيش "الزيارات " أو الهدايا والأغراض التي جلبها الزائرون فيستبعد ما قد يخالف التعليمات أو لا يوافق هوى العنصر القائم على التفتيش ، ويجاز المسموح أو ما يمكن أن ينال العنصر نفسه نصيبا منه أو عطاء عليه . . بعد ذلك يطل الزوار علينا وبيننا وبينهم حاجزان من القضبان بينهما ممر يبقى رجال الشرطة يتسكعون فيه يراقبون أحاديثنا ويتدخلون فيها بعض الأحيان وفينا إ! وكانت ليلة لا توصف ونحن ننتظر أول يوم جمعة بعد وصولنا لنطلب من أهالي السجينات قبلنا الإتصال بأهالينا وإخبارهم بانتقالنا وبمكاننا ، فلما حضر أهل غزوة حينها رجوتهم أن يفعلوا ذلك مع أهلي لعلهم يحضرون الجمعة التالية ، ولم أكن أعلم أن أحدا منهم لم يعد على قيد الحياة وأنهم قد قضوا نحبهم قبل حوالي ثمانية أشهر في أحداث حماة ، لكن أهل غزوة كانوا يعلمون بالطبع ، علاوة على أن والدتها نفسها استشهدت في الأحداث ، لكنهم عادوا في الأسبوع التالي واعتذروا بأنهم لم يعرفوا مكان أهلي بعد التغيير الكبير الذي حصل في المدينة . . وجعلوا يحدثونني عن الأحداث ولكن أحدا لم يذكر شيئا عن أهلي وعائلتي . . وفي الزيارة التالية حضر أهل رفيقتي سناء فرجوتهم أن يذهبوا إلى دار عمتي في دمشق ويخبروها بانتقالي ، فلما اجتمعوا معها وعلموا أخبار أهلي منها أشفقوا علي ولم يثاؤوا إخباري ، وأجابوني في زيارتهم التالية أنهم لم يستدلوا على البيت ، وفي الزيارة التي تلتها قالوا أنهم ذهبوا فوجدوها مريضة ولم يسالموها عن أهلي ، وبدأت أحس أن في الأمر شيئا غيرطبيعي ،فلما ذهبوا قلت لسناء مواجهة : - تعالي لأقول لك . . أمك ذهبت إلى عمتي وعمتي قالت لها شيئا . . فماذا هناك ؟ هل مات أبى فلم تتمالك نفسها وردت بصوت خافت : الله يرحمه . قلحت : الله يرحمه . . إذا كان مات فالله يرحمه .

فقالت لي : هكذا بكل سهولة الله يرحمه ؟ قلت لها وكأن ألم السجن يسهل على الإنسان كل شيء : الله يرحمه . . ماذا يمكن أن أفعل له إذا مات ؟ لو نطحت رأسي بالجدار فلن يرجع ! فوجدتها تبكي وبقايا كلام لا تزال على شفتيها ، فقلت لها : هل مات أحد اخر معه ؟ فأشارت لي نعم برأسها . قلت لها : أمي ماتت ؟ قالت : الله يرحمها . صحت : ولي . . وأين إخوتي إذا ؟ فقالت لي : ذهبوا مع أمك . . لم ترض بأن تتركهم فأخذتهم معها ! قلت لها : بماذا تخرفين . . هل تمزحين ؟ كل إخوتي ماتوا ! قالت : إي كلهم . . الله يرحمهم . . أليس ذلك أحسن من أن يبقى أحد منهم وينشغل بالك عليه ! قلت وأنا كمن يتخبط في كابوس مرعب : إي طيب خلاص . . لا تزيدي .

وما عدت أريد أن أفهم أي شيء أو أسمع المزيد . . ولم تلبث عمتي وعمي أن حضرا في الزيارة التالية فلفت نظري أن وجدتها تلبس السواد وساكتها مستغربة : -عمتي . . لماذا تلبسين الأسود ؟ فقالت لي : هيك والله جاي على بالي الأسود ! قلت لها : هل توفيت جدتي ؟ قالت لي : لا . قلت : إذا لماذا تلبسين الأسود ! غمزني عمي بطرف عينه لأغير الموضوع ، لكنني لم أتمالك نفسي وقلت له : -عمي . . لماذا تغمزني ! هل هناك شيء ؟

قال لي وهو لا يريد إعادة القصة أمام عمتي التي صدمت جدا بما حدث : -لاشيء . . للأشيء حدث . فقلت لها من جديد : صحيح لماذا تلبسين الأسود؟ ترى نقز قلبي ! فابتسمت لي ابتسامة حزن وابتدرني عمي بقوله : - كيف تسالينها هذا السؤال . . ألا تعرفين الخبر ؟ قلت وكأني عدت إلى ذاكرتي تلك اللحظة وحسب : نعم . . عندي خبر بأن أهلي استشهدوا ، لكن أنا أسالها لماذا هي لابسة الأسود . . ولم يخطر لي أنها تلبسه على أهلي . . ونسيت أنها متشحة بالسواد حزنا على بيت أخيها ! فقال لي عمي وهو يراني أمامه أتصرف ببلاهة : إي حزنانة على أهلك . . هل فهمت ! قلت لها : أنظري ، إذا مرة ثانية ستأتين لابسة أسود لعندي فلا تأتي . . لأن الشهيد حي مو ميت ، واذا أردت أن تحزني عليهم لأنهم أحياء فلا تأتي لعندي.


وشاب الشهود !

كانت العبارة قاسية على عمتي ، لكن الحالة كانت أقسى على نفسي وأشد ، ورغم أن عمتي انفجرت وقتها في البكاء وأخذ عمي يهدىء من روعها فما سكتت إلا بصعوبة ، إلا أنها تفهمت حالتي لا ريب ، ولما عادت في المرة التالية أتت وقد غيرت السواد بالفعل . . لكنني لم أسمع قصة أهلي بالتفصيل إلا من أم ماجدة التي حضر والدها أول مرة فلم تكد تعرفه من الشيب الذي غطى رأسه والكرسي المتحرك الذي أقعده نبأ اعتقالها عليه ، فلما تأكدت أنه أباها جعلت تقفز من فرحتها وقد عقدت الفرحة لسانها فلا تستطيع الكلام ، فلما استدركت نفسها قالت لأبيها وكأنها تعتذر : - والله ما عرفتك . . تاري شايب . . فقال لها : والله شيبتيني يا بنتي ! وكان والدها حزبيا ضد الإخوان فتوقعت أن تكون لديه ردة فعل ضدها أيضا ، لكنه لما راها أول ما حضر بكى وهو يقول : - انظري . . أنا ات ورافع رأسي ولي الشرف والحمد لله . وفي الزيارة التالية حضرت أم ماجدة فكانت فرحتنا معا بها لا توصف ، وأبلغتني أم ماجدة أول ما أبلغتني باستشهاد أخي وارف ، وقصت علي القصة من بداياتها ، فقالت بأن الخابرات كانوا بعد خروج أمي من السجن قد استبقوا كمينا في بيتنا وفي ظنهم أن إخوتي سيأتون للسلام على أمي بعد خروجها فيعتقلونهم ، فلما لم يجدوا جدوى من ذلك ولم يحضر أي منهم جعلوا يعتدون بالتعذيب على أبي ، فيخرجونه بين فينة وأخرى إلى حديقة كبيرة كانت أمام بيتنا على طرف العاصي ويعذبونه أمام الناس فيها ، فيضربونه مرة ، ويحرقون له ذقنه مرة ، ويجرجرونه في الشارع أخرى ، إهانة وإذلالا له وتخويفا لغيره . . وكانت أمي تخرج عليهم وهي تصيح وتدعو ، فيقول لها مسؤول الدورية : - سلمينا أولادك لنكف عن زوجك ونعطيك ابنتك . . فترد عليه بتحد كعادتها : سلمني إياها بيدي . . حتى أراها بعيني وأمسكها بيدي لأقول لك أين بقية أولادي ، لكن والله طالما أنها غير موجودة أمام عيني فلن تأخذ شيئا ولو قتلتني . ثم كانت الفاجعة التالية حينما استشهد أخي وارف في حلب (وكان عمره 18 عاما وحسب ) أثناء مداهمة بيت أوت إليه مجموعة من الملاحقين كان من بينهم وذلك قبل 16 يوما فقط من استشهاد أهلي ، وبرغم الفاجعة فإن أمي اثرت أن تكتم الخبر عن أبي وهو بحالته تلك فكانت تذهب عند أم ماجدة وتخرج صورة وارف هناك وتبكي عليها ما شاءت حتى تطفىء حرقة قلبها فتعود إلى البيت . . لكن ذلك لم يمنعها أن تحاول زيارتي في السجن بأي وسيلة ، ولم تمنعها النوازل أن تمضى إلى كفر سوسة مع أم ماجدة مرة فتقابل ناصيف من جديد وتساس إذنا بزيارتي ، فكان كل الذي أجابها به : - والله آسفين ، هذا الإسم غير موجود عندنا ! فكادت أمي - كما روت لي أم ماجدة أن تجن . . وعندما تركت مكتبه وقفت أمام نافذة مهجعنا المطلة على ساحة الفرع الداخلية والتفتت إلى أحد العناصر من لهفتها تساله راجية أن يخبرها ولو بإشارة من طرف عينه إن كنت لا أزال هناك أم لا ، لكنها لم تحظ حتى بتلك الإشارة وغادرت ملوعة القلب دون أن تراني أو تسمع عني أي شيء . . وظلت وظلوا جميعا على حالتهم تلك حتى كانت بداية الأحداث في حماة .


شهداء أحياء

كنا لا نزال في سجن كفر سوسة حينما تفجرت أحداث حماة الشهيرة في شباط 82 لكننا في عزلتنا المفروضة وقتذاك لم نسمع بأدنى خبر عنها ، وعلى الرغم من تسرب بعض الأنباء لبعض البنات بيننا إلا أن المقدم ناصيف حذرهن أشد التحذير من أن يتحدثن عنها أو أن يعلمنني بشيء عن مصيرأهلي ، فلما نقلنا إلى قطنا بدأ الخبر يصل إلي والقص التي لا تصدق والفاجعة الرهيبة تبلغني من هنا وهناك ، فلما حضرت أم ماجدة روت لي المزيد من تفاصيل ما جرى وخاصة فيما يتعلق بأهلي رحمهم الله ، وقالت بأن البداية كانت حينما رأت في منامها أن إخوتي الصغار ينامون على سرير واحد ولكنهم غارقون في الماء ، وأحست أنهم برغم غرقهم فقد كانوا يتمايلون في الماء الصافي وهم أحياء . . ثم رأت أمي تدخل وترقي عليها فتنقسم في حجرها إلى قسمين . . فلما استيقظت حدثها قلبها بأن أهلي في خطر، فقامت من فورها ورجت زوجها أن يذهب ويستطلع أمرهم ، ويجهد لكي يعود بهم معه إلى البيت ، ولما كان أهل ماجدة قد انتقلوا من "حي الطوافرة" الذي جاورونا فيه طويلا إلى حي جديد على طريق حمص ، مما جعلهم عمليا من سكان الضواحي ، فقد كان عليه أن يقطع مسافة طويلة حتى يبالغ محيط المدينة القديم ، فلما خرج بعد صلاة صباح ذلك اليوم وشارف حماة وجدها مطوقة من كل مداخلها ، فلم يستطع التقدم أكثر وعاد ناجيا بنفسه . . وانفجرت الأحداث . . وعم القتل والتدمير . . وانقطعت حماة عن العالم بينما المذابح تجري في شوارعها وأهلها يموتون بالمئات . . وأثناء ذلك حاولت عمتي من جهتها الذهاب من دمشق إلى حماة لاستطلاغ حال أهلي ومساعدتهم في شيء ، ورغم أن محاولتها تلك كانت انتحارية لم يوافقها عليها حتى زوجها ، إلا أنها أصرت على المحاولة ، وتمكنت من دخول المدينة بالفعل حتى شارفت على الحي الذي نسكن فيه ، إلا أن القوات العسكرية ردتها من هناك وما سمحوا لها بالإستمرار ، ووقتها كانت أربعة أيام قد مضت على أبي وهو ملقى في الشارع لا يجرؤ أحد حتى على رفع جثته !


كسره خبزو حسب !

أما حادثة استشهادهم فبدأت عندما اعتصم أفراد من المقاومة في حينا واستعصى على القوات الحكومية اقتحامه ، فأحكموا الحصار حوله ومنعوا المؤن والكهرباء والماء عن الحي كله ، واستمر الحصار لسبعة أيام كما سمعت حتى لم يبق في بيتنا من الطعام أو الماء شيء ، فخرج أبي وجعل يسأل طليعة القوات المحاصرة بعض ما يقيت الأطفال ، وروى لي خالي الذي كان يشهد الحادثة من شباك بيته المطل على المكان أن الجندي انتهر أبي وأمره بالعودة من حيث أتى ، لكن أحدا لم يكن ليستطيع أن يسكت جوع الأطفال ، فخرج أبي مرة أخرى يقول للجنود : -فقط نريد قطعة خبزللصغار. فأجابه الجندي منتهرا : إرجع أحسن ما أرشك وأرميك بالأرض . لكن ذلك لم يرد أبي إلا لبرهة ، عاد للمرة الثالثة بعدها يسالهم خبزا فالأولاد يكادون يموتون . . في تلك المرة لم يجبه الجنود إلا بزخة رصاص أردته على باب بيته . . وصاح خالي من بيته المقابل وسقط من هول المنظر مغشيا عليه ، فلما ركضت زوجة ابنه لتحمله لمحها الجنود فالقوا على البيت قنبلة ضوئية لتكشف كل ما فيه واقتحموا عليهم وانتشروا في كل مكان فيه متدرعين بالنساء والأطفال فيه . . في تلك اللحظات وعندما سقط أبي برصاص الجنود سمع أخي ماهر الصوت من قبو البيت حيث كان الجميع قد التجأ فخرج ليستطلع الأمر ، فلما رأى أباه صريعا أمامه ارتد إلى حجرته وتناول سلاحا كان "شبيبة الثورة" قد سلموه إياه ليدافع عن أمن الثورة" ولم يكن عمره قد جاوز الثالثة عشرة بعد ! واندفع ماهر خارج البيت يطلق النار على الجنود الذين قتلوا أباه ، فأصاب منهم من أصاب قبل أن يردوه هو الآخر قتيلا . . ولقد قال ناصيف خير بك لماجدة ولبقية رفيقاتي بعد ذلك عنه بكل صراحة : -أعطيناه السلاح ليحمينا به فقتلنا به . . هؤلاء كلهم خونة . . ولذلك جعلنا الصغير فيهم أربع قطع لأن بذرته إخوان وكان سيطلع إخوان ! بعد ذلك خرجت أمي تدعو عليهم وتبكي وتستنزل اللعنات ، فأكملوا جريمتهم ورشوها أمام الباب أيضا . . ثم دخلوا على البيت فأجهزوا على كل من بقي فيه : ياسر ابن أربعة أعوام ، وقمر ابنة خمسة ، ورنا في السادسة ، وصفا التي كانت قد دخلت المدرسة في أول سنة لها وقد بلغت لتوها السبعة أعوام ، ثم أختي ظلال التي كانت في العشرين تقريبا . . وأما أخوتي الثلاثة المتبقين فكان صفوان أولهم خارج سورية ، وغسان وسامر متخفيان في حلب ، فكانوا الناجين من بين بقية الأسرة التي قضت جميعا ، وبالطبع فقد تم جمع جثث الجميع مع بقية القتلى في البلد ودفنوا في مقابر جماعية دونما تمييز وذلك قبل أن يتم رفع حظر التجول ووقف القتل والتدمير بأيام . . وعندما تمكن الناس من الخروج من مخابئهم اخر الأمر وتوجه عمي وزوجته ليروا ما حدث لم يجدوا إلا غطاء رأس أمي عند بوابة البيت وسط بقعة كبيرة من الدم ، ووجدوا على جدران القبو وفوق أرضه دم إخوتي البقية ولا أثر لجثة أي منهم .


حي على الجهاد

وأما أخي عامر الذي كان في الرابعة عشر من عمره فقد استشهد في نفس الفترة بعيدا عن أهلي في شارع 8 اذار . وكانت أمي قد أرسلت عامر ليجلس مع جدته في بيت أخيها المسافرإلى السعودية حتى لا يأتي المخابرات ويجدوا البيت خاليا فيسرقونه كعادتهم ، لكنهم لما أتوا للتفتيش فعلوا ما هو أسوأ . . فعندما وجدوا عودا من ممتلكات خالي جلسوا يدقون عليه وقد انهمك بقيتهم في العبث بمحتويات الغرف الأخرى بلا رقيب أو حسيب ، ثم طلبوا من جدتي وسط قهقهاتهم الفاجرة أن تقوم فترقص لهم ، في الوقت الذي اختبأ عامر تحت السرير فما وجدوه ، ومن رعبها وخشية منها أن يتمادوا معها أو أن يعثروا على أخي قامت جدتي بسنها الذي قارب السبعين فامتثلت ورقصت بهيبتها ووقارها وتقاها لهم . . فلما انصرفوا وقد نهبوا ما أرادوا وحطموا أكثر مما نهبوا نادى مناد في المآذن ا احي على الجهادا ا . . فخلع أخي ساعته وتوضأ وصلى ركعتين سنة الشهادة ودفع إليها بالساعة وقال لها : - هذه الساعة ذكرى مني خليها معك وأعطيها لأمي ذكرى وادعي لي .. وخرج راكضا وجدتي تناديه أن يا عامر تعال وهو لا يستجيب . . ورأته آخر ما رأته وقد دخل سوق الطويل حيث كان الإخوان يعتصمون بداخله ، ولم يخرج بعدها إلا مرة واحدة طرق الباب فيها على إحدى القريبات حافي القدمين ممزق الثياب يسالها أن تمنحه أي نوع من الطعام أو اللباس لديها ، وأخبرها بأن رفاقه يكادون يموتون من الجوع والبرد . . ولم يكن لدى هذه العائلة من الأولاد إلا البنات ، فاحتارت أول الأمر ، ثم أعطته ما توفرمن جاكيتات وكنزات كبيرة الحجم يمكن للشباب أن يستخدمونها ، وأعدت له بعض الطعام وأشياء أخرى أخذها وذهمب ، وفي اليوم التالي وجدوه مستشهدا في نفس الشارع ، فأتى رفاقه ودفنوه مكان مسجد هدمته المخابرات ، وبعد انتهاء الأحداث حفروا ثانية ونقلوا الجثة إلى المقبرة ، ولكننا لم نعرف للأسف أين بالتحديد لأن الذي دفنه استشهد أيضا ! وهكذا تلقيت نبأ استشهاد والدي وخمسة من إخوتي مرة واحدة ، وبلغني الخبر الذي كانت البنات تخفينه عني طوال شهور رحمة بحالي وإشفاقا على ، إلا أنني سبحان الله لم أحس الخبر مفجعا كما ظن الآخرون ، ولم أحزن عليهم حزني على أحبة فقدتهم لأنهم في حالتهم هذه شهداء إن شاء الله . . وكل منا يدعو الله متمنيا أن يرزقه الشهادة كرما منه سبحانه وفضلا ، فكيف يحزن إن أكرم الله بها أحب الأحبة وأقرب الناس إليه ؟ إننا نخاف من الموت فقط حيث الحساب والسؤال والإمتحان. . وأما الشهادة فهي الحياة الحقيقية ، وهي النعمة التى لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم .


إبر للعقم . . لا للألم !

ومرت الأيام . . وعادت دورة الحياة المملة ومعاناتها تجثم على الصدور أثقل من الصخر الأصم . . ثم لم ألبث أن سقطت فريسة أمراض متتالية لم أعهدها في نفسي من قبل . . ووجدتني أسقط من ثم بيد طبيب حاقد من أبناء طائفة النظام أسوأ من قطاع الطرق . . اتخذ المرض ذريعة ليفعل بي ما لايخطرعلى قلب إبليس ! كان الدكتور سمير كما ينادونه طبيبا زائرا مكلفا بعلاج القضائيات في الأصل ، فلما ازداد عدد السجينات السياسيات وتزايدت مشاكلهن الصحية جعل يخصص بضع دقائق من وقته بين الحين والاخر لمقابلة أصحاب الحالات الشديدة منهن ، ولا يزيد عن أن يعطي أسوأهن حالا بعض حبوب مسكنة لا تنفعهم بشيء ! وكان سميرهذالئيما جدا نحس أنه يعاملنا معاملة مخابرات لاطبيب وعندما نشكوله شيئا لا يزيد عن أن يهزأ بنا ويكرر علينا عبارة واحدة بشكل آلي "ما فيكم شيء ا ا . . حتى أننا لكثرة ما سمعنا عبارته تلك لم نعد نساله شيئا اخر الأمر .

وكنت في البداية وعندما أخذت القرحة التي ورثتها من كفر سوسة تشتد علي الامها قد طلبت مقابلته وشرحت له حالتي وحدثته بما أعاني ، لكنه قاطعني في نصف حديثي ولم يزد عن أن قال لي : - هذه الأعراض لا دواء لها ، وعليك أنت أن تعالجي نفسك بنفسك ! وأكرمنا الله وقتها حين بدأ قريب إحدى السجينات معنا وهو طبيب متمرن بالتردد علينا وتقديم الأدوية والعلاجات اللازمة لنا بالسر غالب الأحيان ، والتي وجدت عليها تحسنا كبيرا وبدأت أتعافى من قرحتي شيئا فشيئا ، لكن أعراضا أخرى بدأت تنتابني خلال ابتداء دورتي الشهرية تصحبها الام شديدة ، فاضطررت من شدتها مرة أن أطلب مقابلة الدكتور سمير مرة أخرى وأساله ولو نوعا من المسكنات يخفف عني الألم ، ولم يلبث بعد أيام أن استدعى الحاجه مديحة وقال لها أنهم شكلوا لي لجنة للنظر في هذا الوجع الذي يأتيني وقرروا لي العلاخ ، ووجدته يرسل لي علبة إبر أخذت اثنتين منهما بالفعل قبل أن يأتي الطبيب من جديد فتحدثه قريبته بالموضوع ، فلما سالها أن يرى الإبر وأتت بها إليه لم يصدق ما يرى ، وصاح فيها وقد تملكه الذهول : -هذه إبرللعقم لا للالم وهرع غاضبا ذهب إلى موفق السمان مدير المنطقة ورئيس السجن وحكى له ما حدث ، ومن غير أية مقدمات انقطع الدكتور سمير عن الحضور إلى السجن وانقطعت أخباره . . لكن أحدا لم يأت ليحقق في تلك الجريمة أو يستفسر عن حالتي . . مثلما لم يأت طبيب اخر مكانه ولم يحضروا أي بديل .


بول أم دم !

ذهب الدكتور سمير إلى حيث لا أعرف . . لكن الألم لم يذهب . . والبلاء لم ينته . . وسرعان ما بدأت أحس أعراضا مغايرة في منطقة أخرى من جسدي . . وبازدياد نوبات الألم الذي استمر شهورا أغالبه ويغالبني حتى غلبني في النهاية تبين لي أنه التهاب الكلى . . فصار الدم يخرج مع البول مني وحصل معي استفراغ متواصل واسهال مستمر ، ومع استمرار الظروف الصحية السيئة تفاقمت الحالة حتى فاقت أي احتمال . . وأمضيت شهر رمضان من عام 1454 (يونيو 84) كله على هذه الحال لم أستطع بالطبع أن أصوم يوما واحدا منه ولا حتى أن أصلي . . ولم تكن زميلاتي في المهجع يستطعن النوم من كثرة تأوهي ونحيبي ، ولم أعد أستطيع من شدة ضعفي القيام حتى إلى الحمام ، فكانت البنات يحملنني إليه حملا . . وفي تلك الفترة انتشر الفسفس في السجن فكان ابتلاء آخر زيادة على ما أنا عليه ، وكان إذا سكنت الامي لحظة تقدمت هذه الحشرات المقيتة لتذيقني بعضاتها طعما جديدا من الألم ! وكانت ماجدة جزاها الله خيرا وأجزل ثوابها تسهر الليل عند طرف وسادتي لتلتقطهم عني بيديها ما وسعها الجهد والجلد . . وفي النهاية وعندما قاربت بالفعل على الموت تدخل العميد موفق السمان وسمح بإخراجي على مسؤوليته الخاصة وعرضي على طبيب مختص ، وأخذوني بالفعل بسيارة الشرطة وداروا بي في قطنا حتى وجدوا طبيبة أخصائية أمراض الكلى فحصتني وأعطتني إبرة مسكن وقالت لهم أنني أحتاج إلى تحليل ، فلما أخذوا البول ليحللونه سأل المحلل السجانة التي أخذته : - هل هذا دم أم بول . . أو أن الزجاجة لونها بني ؟ وبعد ظهور النتيجة وصفت لي الطبيبة ست إبر كل اليوم كانت تعطيني إياهم أم معقل بنفسها ، لكن أجنابي تعقرت ولم أشعر بأي تحسن . . فقامت إدارة السجن أخيرا بإرسال كتاب إلى أمن الدولة بكفر سوسة شرحوا لهم فيها حالتي وطلبوا إذنا لأخذي إلى مستشفى المواساة ، فأتت الإجابة بالموافقة المبدئية معلقة على تقرير الطبيب هناك ، ووجدتني في اليوم التالي محمولة في سيارة الشرطة إلى هناك وأنا أقرب للغيبوبة مني إلى الصحو . . وهناك وجدت جمعا من الطلاب التفوا حولي كأنما يريد كل منهم أن يتدرب في ، وتقدمت طبيبة من بينهن فخلعت عني جلبابي وفحصتني بشكل سريع ثم أعطتني إبرة مسكن في الوريد لم أعد أحس بعدها بشيء . . وعندما استعدت وعيي وجدتني في المهجع من جديد تتحلق البنات حولي وكأنني في النزع الأخير ! وسرعان ما انتهى مفعول إبرة المسكن دون أي تحسن ، فعادوا بعد يومين أو ثلاثة وأنزلوني إلى المستشفى مرة ثانية ، وتكرر ذلك ثلاث مرات أو أربع لم أزدد فيهن إلا رهقا وثقوبا في أوردة الساعدين ! وفي المرة الأخيرة أبلغت صديقتنا السجينة قريبها الطبيب فوجدته يستقبلني هناك ومعه أخي وابنة عمي التي كانت تتدرب في نفس المستشفى ، وقاموا فور استلامي فأخذوني إلى الطابق العلوي حيث تشتد العناية وتأخذ الفحوصات مسارا جادا هناك . . وهناك وجدت من عجائب الأقدار أحد الأطباء يهرع إلي فينتحي بي جانبا ويسالني بانفعال : - ألست أخت صفوان دثغ ؟ قلت له :نعم . قال والكلمات ترتجف على شفتيه من التأثر والإرتباك معا : ماذا حدث له . . ولماذا أنت مسجونة؟ ولم يدع لي الفرصة للجواب الذي لا يخفى فقال وهو دامع العينين : -معليش بيعين الله . . وأسر لي وهو يكمل فحوصاته بأنه كان وصفوان زملاء في الكلية ، وأنه لذلك سيجهد لكي يبقيني في المستشفى لاستكمال العلاج . . إذا تمكن . ولما كتب ذلك في تقريري ومضى به إلى مدير المسمتشفى وافق عليه شريطة موافقة الجهات الأمنية . . وبكل طيب وحسن خلق تقبل الخبر الشرطي الذي كان مكلفا بمرافقتي ، وطلب مني الإنتظار على باب المستشفى مع أخي ريثما يمضي فيحضر الموافقة من سجن القلعة .


فرصة ذهبية للهرب !

مضت سيارة الشرطة ووجدتني من شدة ضعفي لا أستطيع أن أرى الدرج أمامي وأصبت بالدوار ، فجرني أخي من يدي وأنزلني وكأنني عمياء ! وجلسنا في الخارج على كرسي للإنتظار وحيدين لا رقيب علينا ولا حسيب ، عندها سالني أخي : - ما رأيك لو أهربك الآن ؟ قلت له وأنا لا أكاد أجد للحرية مع السقام والإعياء معنى : - لا أريد . . سيلقطوننا من على الحدود ويرجعوننا فيزيد بلاؤنا بلاء .

ولم تمض دقائق حتى عادت سيارة الشرطة وأطل العناصر من نافذتها يسالوننا إن كنا نفضل الذهاب معهم بدل الإنتظار الممل فوافقنا . . وجعلت السيارة تخترق أحياء دمشق متجهة نحو قلعتها التي تتوسط أحياءها القديمة ، ووجدت الناس كل في شغله بين بائع و مشتري ، وطالب وعامل ، وموظف وتاجر . . كلهم غارقون في دوامة الحياة يشغلهم تأمين احتياجاتهم الأولية عن ذاك الذي يجري بينهم دون أو يبصروه أو يسمعوه . . وترهقهم مشقة الحياة عن أن يلتفتوا ليتفكروا إلى أين تمضي قاطرة الظلم بالوطن ! فلما وصلنا سجن القلعة وهرع أحد عناصر الشرطة الذين يرافقوننا بيده الأوراق يأمل أن يجد لها توقيع الموافقة ارتد بعد هنيهة مكسور الخاطر وقد نال الطلب الرفض . . لكن نفسي التي اعتادت الإحباطات باتت تتقبلها بدون انفعال . . وقفلنا راجعين إلى سجن قطنا أكمل مع نزيلات المهجعين أيام الأسر والمعاناة . . وكثف الطبيب قريب زميلتنا زياراته محملا بالأدوية والعلاجات ، وبالمواظبة على تناولها تحسنت حالتي شيئا فشيئا ، وبعد مضي شهر كامل تمكنت من الخروج إلى الحمام أول مرة بدون مساعدة من أحد ، وبقيت سنتين تاليتين لا أشتغل أي شيء في الغرفة مثلما يتوجب علي ، وظلت رفيقاتي يجزيهن الله الخير يحمنني خلال ذلك ويغسلن لي ملابسي . . ويستتفدن من أية فرصة متاحة ليحضرن لي االطعام الصحي والعصير والمقويات .


الولد الضائع

كانت حياة السجن مزيجا من المعاناة والغرابات ، ففي هذا المجتمع الفريد تتوقع أي شيء في أي وقت ، وتقابل من أصناف المشاهد غير المعتادة ما لا يعد . . وتظل الأيام حبلى والمغيبات أسرار وألغاز حتى يحين الميعاد ! وعلى غيرميعاد وخارج كل التوقعات بدأت قصة ذلك الغلام الضائع الذي التقطه الشرطة من حي من أحياء دمشق . . وبما يفوق شتى التوقعات انتهت من غير ميعاد قصته الغريبة ! كان منظرا مؤذيا للشعور أن ترى غلاما لم يمد يبلغ السادسة من عمره سجينا على غير إرادة منه في غرفة المتهمات بالدعارة إ! لكن الشرطة الذين التقطوه تائها في دمشق وضعوه هناك انتظارا للعثور على أهله ،غير أن شهورا خمسة انقضت دون أن يظهر له أهل أو أقارب ، وكان مما يزيد في الحسرات أن الفتى أخرس لا ينطق ولا يتكلم حتى باسمه . . فصار الجميع ينادونه أحمد . وكأنما وجدت السجينات في أحمد هذا الخادم المطيع ، فكن يأمرنه وينتهرنه ويضربنه في بعض الأحيان . . وذات مرة وأنا جالسة بعد الإفطار في رمضان اكل بعض الحلوى على شباك المهجح - وكانوا يفتحون كل المهاجع للتنفس بعد الإفطار - وجدت أحمد يقترب مني محملقا في الصندوق وهو يمد يده ويقول : - أعطيني واحدة . لم أصدق أذني في البدء . . فطوال الشهور المنصرمة لم نسمع الولد ينطق ببنت شفة . . وها هو ذا الآن يتكلم ! فلم أتمالك نفسي ووحدتني أصيح : -يابنات . . أحمد حكى . فلما قلنا ذلك للشرطي تأثر وقال : - اتركوه إذا عندكم . يبدو أن جو الغرفة هناك لم يعجبه.

فلما التففنا حوله وجدناه يتكلم بشكل طبيعي ، وجاءت الحاجة فسالته أول ما سالته عن اسمه ، فقال : -أحمد بدر الدين .

سالته : من أين أنت أبوي ؟ قال : أنا من حماة . قالت وقد تعجبنا كلنا من الجواب : وماالذي أتى بك إلى الشام ؟ قال الفتى ومسحة انكسار جلي ترتسم على ملامحمه: أنا لموني مع الأولاد الذين لموهم في حماة بعد الأحدات وأتوا بي ووضعوني في الجامع الأموي ثم لم أعرف أين أذهب . سالته الحاجة : وأين أهلك ؟ فصاريبكي ثم قال لها : ماتوا .

سالته : كيف ؟ قال : أرسلتني أمي عند أبي إلى الدكان فوجدت الحائط واقعا فوقه وهو ميت والدم طالع منه . . ذهبت إلى البيت أبكى أريد أن أخبر أمي فوجدتها مقتولة أيضا ! والتفت الفتى نحو الحاجة باضطراب وقال لها : لا تقولي لأحد . . إذا سمعت أحدا يذكر اسمي فهذا معناه أنك أنت التى تكلمت . . أرجوك لا تقولي لأحد وتفهمنا جميعا حالة الطفل وتفطرت عليه القلوب . . وصارت له الحظوة والمنزلة بين البنات . . وذات يوم وبينما كنت أخيط مرة على ماكينة يدوية كان أهل رغداء قد تمكنوا من إدخالها الى السجن بعد جهد كبيروجدته يقول لي :منشان الله شيلي هالماكينه من وجهى لا أحب أن أرى أحدا يخيط . ". قلت له : لماذا ؟ فبكى . . فجعلت الحاجة تسايره وتلح عليه حتى تكلم وقال : - لأن أمي كانت خياطة ، وكانت لديها ماكينة تشبه هذه الماكينة التي مع هبة . . وكانت أمي تضع غطاء صلاة مثلها أيضا وتجلس لتخيط وفي مرة ثانية وكنا ننادي عاثشة بعيشة فقال للحاجة :منشان الله لا تنادونها عيشة .

قالت له : وماذا تريد أن نناديها ؟ قال : نادوها أم النظارات . سالته : ولماذا ؟ قال : لأن أمي اسمها عائشة .

قالت له : وأبوك . . ماذا يشتغل ؟ قال : عنده مكتبة قرآن بالحاضر . سالته :أين ؟ فوصف لها المحل وصفا دقيقا كأنه يراه فازددنا تأثرا عليه وتعاطفا معه . . وجلس أحمد معنا وهو يبدع يوما بعد يوم على غير كل الأولاد . . كان ولدا عبقريا بالفعل . . لا توجد طبخة ولا خياطة ولا شغلة إلا وتعلمها . . وكان يؤذن أجمل أذان ويتلو القران أحلى تلاوة . . واذا دعا بعد الصلاة يقول : اللهم أنزل قنبلة على سجن تدمر! وسمع المقدم موفق السمان مدير السجن بقصة الفتى ، فلما التقآه عطف عليه وصار يأخذه معه إلى البيت فيحممه ويدللة أيما دلال ، وكان للمقدم بنت وصبي متقاربان في العمر مع أحمد ، فصار يأخذه معهما إلى المسبح ، ووضع له سائقا خاصا ليتنقل به بين السجن والبيت ، وأخذه مرة إلى المحل الذي يشتري منه احتياجات بيته ، لكن الولد تعلم على المكان فصار يذهب إلى البائع وحده يقول له أعطني كذا وكذا على اسم العقيد ، ثم يضع هذه الأشياء بصندوق ويذهب إلى محطة القطار فيبيعهم فيه ويرجع إلى السجن عندنا ، فإذا حضر المقدم يسأل عليه رآه بيننا ، وإذا غاب عنا نظنه عند المقدم . . حتى إذا حان اخر الشهر وجد المسكين فاتورة كبيرة عليه لم يدر من أين ، فلما استعلم أخبره البائع أن أحمد كان يشتري على اسمه . . فسكت !


شخصيتان .. وصفعتان !

وانتشر صيت أحمد وذاع حتى بين الأهالي ، فصاروا إذا حضروا لم يغب نصيبه من الهدايا ، واذا انصرفوا تنافسوا من سيأخذه ليزور عنده . . وصار أحمد حكاية وتنعم إلى حد البطر . . وصار إذا قالت له واحدة منا : لم فعلت هذا؟ رعف بسرعة وأغمي عليه وأخذمع الأيام يحب أناسا ويكره اخرين ! ولا يتورع أن يرمي العداوة بين واحدة وأخرى وتكشفت له قدرات رهيبة في هذا السياق . وذات مرة لم يعجبه في عائشة شيئا ما فمضى إلى الشرطي وقال له : -عيطت علي .

فانفعل الشرطي حنوا على الولد وقال لها : إذا تكررت الحادثة مرة ثانية فسأمنع عنك الزيارات ! وكأن قلبها كان دليلها بالفعل ، فلقد قالت لنا مبكرا إن لهذا الولد شخصيتان . . وهو غير طبيعي .

لكن الأمورلم تتكشف حتى ظهيرة يوم كان مقررا أن يذهب أحمد فيه ليزور أقارب للحاجة في حمص ، وبينما كانت الحاجة تلبسه البوط الجديد وقد أجلسته في حضنها وقف أحد الشرطة في الخارج ونادى : - سمير جفان .

فما وجدنا الولد إلا وقد تفجر الرعاف من أنفه وأغمي عليه . . فقالت له الحاجة مستغربة : -على من كنت تصيح ؟ قال لها : ألم تري كيف وقع صاحبكم على الأرض ؟ قالت له : لماذا ؟ قال : هذا ليس اسمه أحمد . . هذا اسمه الحقيقي سمير جفان . . ألم تروا صورته قبل مدة في التلفزيون ؟ وتذكرنا وقتها أنهم أعلنوا بالفعل عن ولد ضائع وعرضوا صورته ورأيناها ، ولكن أحدا لم يخطر على باله وقتها أنه هو نفسه . . وتذكرنا كذلك أنه عندما رآها حينذاك أسرع فأطفأ التلفزيون وكأنه يلعب " وبين الحيرة والعجب جعلوا يغسلون له وجهه والدم يدلق من أنفه دلقا ، ثم لم نجد إلا رجلا كبيرا في السن يقف على الشبك وهو يبكي ويطرق رأسه عليه . . فعلمنا أنه أباه ! وهنا دخل الشرطي فأخذ الولد للمقدم ، فلما ساله : - من علمك أن تقول أن اسمي كذا وتدعي بأن أهلك استشهدوا في الأ حداث ؟ قال له : هبة .

قال له : أكيد هبة ؟ قال له : نعم . . أنا ما الذي يدريني ؟ هي كانت تعلمني وتقول لي إحك كذا واعمل كذا .

ولم أجد إلا وقد ناداني المقدم لمقابلته ، ومن غير أن أعي ما الذي يجري نزل بي بهدلة يقول : - الله لا يعطيك العافية . . تريدي أن تسيئى إلى سمعة الدولة . . أنت حاقدة . . لئيمة . . أنا فكرتك غير ذلك . . فقالت له الحاجة مديحة التي تبعتني : طول بالك أبوي . . ماذا حدث ؟ فقال لها : هي تريد أن تنزع سمعة الدولة . . هذه حاقدة . . قلبها مليان . . سالته : لماذ ا ؟ قال لها : هي علمت الولد يقول كل هذا . . . قالت له الحاجة : تعال أقول لك . . كل البنات قربوا صوبه إلا هي لا سايرته ولا شيء . فردني المقدم إلى مكاني وقد ازداد تعجبه وحيرته . . وعادت الحاجة معي تهدئ من روعي . . فلما قابلت الشرطي أثناء رجوعنا سالته أن يشرح لها ما الذي يجري . . فقال لها : -هذا الولد يخرب بيته . . عمال يلعب علينا كلنا كبيرنا وصغيرنا ويدعي اليتم وهو له أهل . . وأضاف : وهذه أمه وهذا أبوه المسكين يقولان الآن بأنه يعمل فيهم مثل هذا الفصل بين كل فترة وفترة . . فيهرب من البيت ويختلق القصص الغريبة ليخدع بها الناس ! وهنا اقتاد المقدم الولد إلى غرفة التحقيق وساله بحضورأبيه عمن علمه ذلك حقيقة ، فاعترف الولد أنها فعلته وحده وأنني لم أعلمه أي شيء ، فما تمالك المقدم نفسه وصفعه من الغيظ صفعتين على وجهه كادتا تقضيان عليه . . ومع ذلك فلم يغير الولد من تصرفاته أو يبدي ندما ولا اعتذارا . . ومضى مع أهله يقدم رجلا ويؤخر أخرى ونحن كلنا كأننا في مشهد من مشاهد الأفلام السينمائية بين مصدق ومكذب !


إ فرا ج

كان عام 84 قد انتصف وانسلخت من العمر سنون وشهور ما عدنا نبالي حتى بعدها . . وكان يوما عاديا كمئات من أيام السجن المملة غيره يوم أن دخل أبو مطيع مدير السجن علينا فجأة وصاح على باب المهجع : -إيمان ت .إيمان ق .عائشة ق . حليمة . . فلما التفتن إليه وتقدمن يستطلعن الخبر ألقى إليهن العبارة كالقنبلة وقال -هيا . .جهزن أنفسكن . . إفراج ! لم تستوعب البنات العبارة بادئ الأمر . . وظن أن ثمة خطأ ما . . في النقل أو في التلقي . . فلما عاد وأكد ما قال احتبست الكلمات واختلجت في الصدور القلوب . . ولم تلبث أم شيماء وايمان أن ردتا دامعتي العينين : -لا نخرج إلا مع كل السجينات . . - وتقدمت إيمان فجثت عند رأسي وكنت لا أزال مريضة وقتها وصارت تبكي وتقول لهم : -لن أخرج إلا أن تخرجوا هبة معي .

فقال لها أبومطيع : - بإمكانك أن تبقي هنا على الرحب والسعة لولا أن الأمر أتى بالإفراج ، لكن بإمكانك أن تخرجي وتجلسي تنتظرينها على باب السجن ماشاء الله ! قالت له : لا لن أخرج . . لن أخرج . . ووقفت أم شيماء تبكي من جهتها وتقول لي : -كيف سأخرج وأنت لا تزالين هنا ؟ وأخيرا لم يجد إلا أن يسحبهما سحبا وهما تحاولان التشبث بالشبك وبالقضبان ولا تكفا عن النحيب حتى خرجتا . . وعلمنا بعدها أنهم أخذوهن إلى أمن الدولة في البداية ثم أفرجوا عنهن من هناك وما عدت رأيتهن بعدها .

لكن خروج هذه الدفعة ثم الإفراج عن سناء بعد أسابيع قليلة وبمناسبة الحركة التصحيحية فيما أذكر أحيا فينا الأمل ، وظننا بأن باب الفرج قد فتح وأن أيام خروجنا قد دنت أيضا . . غيرأن الأيام التالية كذبت ظنوننا . . فمات الأمل من جديد . . وعاد مزيد من السجينات يفدن علينا دفعة وراء دفعة ، فيحرك فينا الألم الراكد ، ويزيد فينا الشعور بأنها حياة ها هنا بين المهاجع والزنازين إلى الأ بد ! في السبعينات وأحرقوا لحيته ! كانت أم خالد أمية أ .

وأم زهير أ . قد أمضيتا عاما كاملا في سجن التحقيق العسكري بدمشق قبل أن يأتوا بهما إلى قطنا أواخر عام 84 ، لكن كلتيهما كانتا قد فقدتا أحب الأحباب من عائلتيهما وعانتا في سبيلهم الكثير . وأما أمية فهي ابنة عالم شهيرمن علماء دمشق هو الشيخ أحمد أ .

الذي استشهد اثنان من أبنائه (علاء ومصطفى) واعتقل الثالث والأكبر (شهاب ) ويقال أنهم أعدموه بتدمر فيما بعد . . ولقد تم اعتقال أفراد العائلة كلهم مرتين أو ثلاث بما فيهم إحدى حفيدات الشيخ أحمد الطفلة شيماء وكان عمرها سنتين فقط ، فيما كان الشيخ أحمد في السبعينات من عمره ! ولا أزال أذكر كيف قال الرائد عبد العزيز ثلجة في التحقيق : - انظري . . هذا الشيخ أحمد عامل حاله شيخ أنا أحرقت له لحيته بالنار ! وكانوا قد اعتقلوهم أول مرة ثم أطلقوا سراحهم ، فلما استشهد ولداه أعادوهم إلى الإعتقال ! وأما أمية فقد نالت نقمة مضاعفة مرة بسبب والدها وإخوتها والثانية بسبب زوجهاوهو طبيب من حلب اسمه صالح خ .

- اعتقل قبل أن نعتقل نحن بعام كامل بتهمة التعامل مع الإخوان ومدهم بالمال ، وفي البداية اعتقلوا ابنهم معه وكان عمره 16 سنة فقط ثم أطلقوا سراحه لاحقا على أساس أن يتعامل معهم ، لكن أمه هربته إلى تركيا مباشرة لتنجو به ، فلما عادت تم اعتقالها ، وبقيت قرابة العام في سجن التحقيق العسكري قبل أن تنقل إلى قطنا .

وفيما تم الإفراج عن أم خالد بعد بذل وساطات كبيرة في العام التالي ، فإن زوجها لم يخرج إلا بعد خروجنا بأكثر من عام .

ولا أزال أذكر أنها لما دخلت المهجع في قطنا ورأتني أمامها شهقت وهي تقول لي : - أنت هنا ؟ ألم يرموك من الطائرة ؟ قلت وقد تملكني الدهشه .

ماذا ماذا تقصدين : قالت : سمعنا والله أنهم رموك من الطائرة وبكينا عليك وقتها أشد البكاء إ! وأما أم زهير التي كانت في الأربعينات من عمرها فقد استشهد أخواها أيضا مع بدايات الأحداث في مواجهات مع المخابرات بدمشق ، وصارت لهما شهرة وصيت وقتذاك ، وكا نت أم زهير قد ذهبت لتأدية فريضة الحج بشكل عادي ، فلما عادت اعتقلوها أيضا من غير سبب واضح ، وأمضت قرابة السنة في سجن التحقيق العسكري قبل أن ترافق أم خالد إلى قطنا وتخرج معها عام 85 .


سنوات عجاف

كانت ثلاثة أيام وحسب قد مضت على زواج السيدة ابتسام ع . من زوجها الطبيب الذي يؤدي خدمته الإلزامية في اللاذقية حينما تم اعتقاله وشقيقه لسبب لا تعرفه ابتسام إلى اليوم . . فبذلت المسكينة وعائلتها الكثير من النقود ووسطوا وهم من عائلة معروفة في اللاذقية الوساطات الكبيرة حتى تمكنت من زيارته في تدمر خمس دقائق فقط لم تكن كافية حتى لتلتقط أنفاسها وهي تراه بحالة من التعذيب والهوان مزرية . . وبعد أقل من شهر واحد على تلك الزيارة وجدت ابتسام نفسها مكبلة الأيدي ، يقتادها عناصر المخابرات العسكرية إلى فرع التحقيق العسكري في اللاذقية ثم إلى الفرع الرئيسي في دمشق . . لتمضي سبعة أو ثمانية أشهر من الضياع هناك قبل أن تحط بها الرحال بيننا بعد بضعة أسابيع وحسب من وصول مجموعة أمية ، فتمضي معنا من غير ما سبب تعرفه بضع سنوات عجاف ، وأما الزوج فظلت أخباره منقطعة عنها حتى بعدما خرجت من السجن ، وكان اخر ما بلغها من أنباء تسربت عن حالته المؤلمة أنه أصيب بالسل ، ونقل من مهجع كان فيه في سجن تدمرإلى مكان مجهول!


شو الك بالقصر

لم تمض أسابيع قليلة من وصول ابتسام حتى أطلت ضيفة جديدة علينا هي أمل ل . قادمة من سجن الأمن السياسي بحماة . وكانت أمل قد خرجت أثناء الأحداث إلى الإمارات حيث يقيم إخوة لها هناك ، فلما عادت عام 85 لزيارة أهلها وبلدها ألقوا القبض عليها في المطار واقتادوها مباشرة إلى الأمن السياسي بحماة ، وتم تعذيبها هناك بشكل قاس لتعترف بعلاقاتها التنظيمية وبأحوال إخوتها الملاحقين ونشاطاتهم ، ولقد حدثني زوج عمتي وكان وقتها في السجن نفسه أنهم كانوا لا يستطيعون النوم عند سماع صوتها في التعذيب وبعد ذلك نقلت أمل إلى قطنا وظلت هناك حتى خرجت معنا بعد قرابة خمس سنوات . . ورغم ذلك وعندما انعقدت لجنة النظر في أمرنا في الفترة الأخيرة برئاسة حسن الخليل رمقها من عليائه بنظرة امتهان وقرف وهو يقول : -شو إلك بالقصر . . مبارح العصر وجاية لتطلعي معهم !


الطفلة العجوز !

وانقضت أسابيع قليلة أخر . . وحضر ضيوف جدد لينضموا إلينا في رحلة الشقاء . . وكأن هذا الوطن ضاق بالصالحات فما عاد يرى لهن مكانا فيه إلا هذين المهجعين المتكدسين ! كانت القادمتان هذه المرة أختين شقيقتين من حلب أولاهما رغيدة ق .

وهي مدرسة تربية إسلامية والأخرى عائشة مدرسة لغة انجليزية . ولقد ابتدأت حكاية الأختين المنكوبتين حينما لوحق زوج رغيدة وهو مهندس ولها منه ولدان وبنت وانقطعت عنها أخباره ، ثم لم تلبث وأن بلغها نبأ استشهاده في دمشق ، فلم تجد من وسيلة لإعالة أسرتها إلا أن تذهب إلى السعودية وتتعاقد هناك كمدرسة ، وذهبت معها أختها عائشة وزوجها ، وأمضوا هناك بضع سنين قبل أن يقرروا العودة لأول مرة وزيارة الأهل والبلد وحضور زفاف واحدة من بنات أخيها . . وحملت الأسرتان أفرادهما في سيارة جيمس مليئة بالهدايا والتحف النادرة وبجهاز كامل للعروس . . فلما وصلوا حدود درعا أوقفهم أمن الجمارك فهالهم ما معهم من متاع ثمين ، ولم يلبثوا أن غابوا عنهم لحظات ثم عادوا يخبرونهم بأنهم مطلوبون لمخابرات أمن الدولة . . فأخذوا السيارة بما فيها واقتادوا الأختين والزوج إلى سجن كفر سوسة ، وأرسلوا وراء أهلهم فسلموهم أولاد عائشة التسعة وابناء رغيدة الثلاثة ! وفي كفر سوسة لم يتورع المحققون هناك عن تعذيب الأختين رغم أن عائشة كانت حاملا في شهرها السادس أو السابع ، وكان من المضحكات المبكيات أنهم أرادوا من رغيدة معلومات عن زوجها الذي استشهد قبل سنوات ! ثم لم يلبثوا وأن اتهموا كلا الأختين بالتنظيم . . وبعد شهرين من المعاناة والعذاب حولوهما إلى قطنا . . فلما وصلتا كانت عائشة في شهرها التاسع وقد سلم الله لها الحمل . . ولما دنا ميعاد الولادة رجونا المقدم مدير السجن أن يسمح لرغداء س .

القابلة أن تأتي لتزور الليلة عندنا من مهجعها الثاني . . فوافق دون أن يعلم السبب . . وظلت رغيدة تعاني ألم الطلق حتى ولدت مع تباشير الفجر بنتا سمتها تسنيم . . ولا أزال أذكر أنها كانت صباحية العيد الكبير . . فلما جاءت المولودة أحسست حينما نظرت إليها أن شعر رأسي قد وقف من كثرة ما كانت هزيلة مجعدة الجلد كعجوز في اخر العمر ! وبقيت رغيدة معنا إلى اخر فترة فيما خرجت عائشة قبل انتقالنا إلى دوما . . وأما زوجها فلم يخرج إلا بعدنا بشهور . . وعندما طالبوا بالسيارة وما كان فيها ورغم وساطات وسطوها لذلك فإنهم لم يحصلوا حتى على جواب !


الشيوعية الغامضة !

وفي تلك الفترة وضمن النزيلات الجدد حضرت ذات يوم سيدة من التل اسمها هند قهوجي وهي ابنة عمة فاديا لاذقاني ومسؤولتها وزعيمة في التنظيم الشيوعي . وهند مهندسة متزوجة لم تكن قد بلغت الثلاثين بعد ،وأغلب الظن أن زوجها كان معتقلا كذلك ، لكننا لم نعرف كيف اعتقلت بالتحديد فقد كانت في المهجع الثاني وكانت غامضة وكتومة . وقد خرجت مع بقية الشيوعيات في دفعة واحدة بعد الإفراج عنا بعدة أشهر .


نزيلات تدمر !

كان سجن تدمر حتى ذلك التاريخ كالقبر المقفل . . الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود ! فلما خرجت مجموعة من النساء منه وقدمن إلينا كانت حادثة أشبه بالمعجزات وسرعان ما بلغنا أن سبب إحضارهن هو انتشار السل والجرب هناك ، إضافة إلى الإنتهاء من بناء سجن جديد دشنوه لخدمة الوطن هو سجن "صيدنايا! ولهذه الأسباب قاموا أولا بتصفية المعتقلين لديهم ، فأعدموا الذين قرروا إعدامهم ، ونقلوا بقية من يريدون الإبقاء عليهم وجرى نقل النساء إلى قطنا ضمن هذا السياق وتجميعهن في نفس المكان . وضمن السياق نفسه وصلت خمس نسوة إلينا في دفعة واحدة فيما تم التصرف مع بقية النساء المعتقلات هناك بطرق مختلفة .


مأساه "أم حسان"

كانت ثلاث من القادمات من أسرة واحدة : أم حسان خديجة س . التي كانت في الخمسينات من العمر ومعها ابنتاها سلوى ويسرى ح .

وكان زوج أم حسان ووالد البنتين قد شارك في إيواء مجموعة من الملاحقين في بيتهم بحماة قبل الأحداث ثم قدم الأب ابنتيه عروسين لاثنين راقا له من هؤلاء الشباب ، فلما قامت الأحداث واجتيحت حماة خرجت العائلة إلى القرى المحيطة نجاة بأنفسهم مثلما فعل ألوف الناس وقتذاك لكن يسرى إحدى البنتين - اثرت البقاء وزوجها في قاعدة ثانية مع مجموعة من الملاحقين الآخرين ، غير أن أمرهما اكتشف وداهمت المخابرات المكان فقاومت المجموعة لفترة تمكن زوج يسرى خلالها من الهرب ، فيما قتل شاب كان معهم اسمه أبو خالد ، روت يسرى أنه كان مصابا بشلل نصفي من قبل ، وأصيبت في الإشتباك زوجته ليلى ب . وابنته التي لم يتجاوز عمرها 20 يوما ، وتم في النهاية اعتقال يسرى وليلى فيما لفظت الطفلة أنفاسها دون أن يعنى بأمرها أحد .

وسرعان مما اضطرت يسرى أمام وحشية المحققين والجلادين أن تعترف على مكان أهلها في القرية وتدلهم عليها ، فاعتقلت أم حسان وسلوى وتمكن الأب وقتها من الفرار ، لكن أخت أم حسان وزوجها اعتقلا في نفس البيت ، وقيل بأن الأخت وزوجها قتلا نفسيهما بابتلاغ السم في الزنزانة قبل أن يبدأ التحقيق معهما ، وأما أم حسان فقد تمكن المخابرات من ادراكها واخراج حبة مماثلة من فمها قبل أن تبتلعها ، وجلست المسكينة في السجن موزعة البال بين حالها الرعيب وحال أختها وزوجها وأبنائهم السبعة في الخارج لا معيل لهم ، وأبنائها هي البقية فواز الذي لم يبلغ ثلاث سنوات بعد وأمل ونرجس وغزوان الذي دخل صفه السادس حينذاك . . ثم كانت مصيبتهم التالية حينما اعتقل الزوج عام 85 فاضطر غزوان إلى ترك الدراسة والعمل في محل تصليح سيارات ليقيت نفسه وإخوته ولم يعبث الوالد أن أفرج عنه بعد تعذيب وحشي ليسلم أنفاسه بسبب ذلك بين أولاده بعد أيام ! وكثيرا ما كانت أم حسان وقد اجتمعت على كاهلها هذه الهموم تفقد أعصابها فتصيح في وجوهنا وتقذف ما يصل إلى يديها في كل اتجاه وأكثر ما كانت المسكينة تفعل ذلك يوم أن يأتي أولادها لزيارتها يجر بعضهم بعضا ويحمل واحدهم أخاه أو أخته بالتناوب ليقفوا على الشباك ويستطيعوا رؤية أمهم . . فإذا ذهبوا ازدادت لوعتها وتفجرت الامها فتراها تلطم خديها وتمضي ساعات وأياما ربما في البكاء .

وعندما أفرج عنا وخرجت أم حسان وابنتاها معنا وجدت المسكينة أنهم سرقوا لها الذهب الذي أخذوه منها في الأمانات ، وأنهم دمروا بيتهم فى حماة بحجة أنه كان قاعدة للمجاهدين ، فلم يجدوا بعد كل هذه الماسي إلا أن يسكنوا بيتا طينيا من غرفتين ضيقتين كان المطر إذا نزل اخترق السقف الرث وفاض عليهم بلا استئذان !وأما أولاد أخت أم حسان السبعة فلم يجدوا من حظ الدنيا إلا أن يأخذهم بعض المشفقين إلى عمان ليقيموا مع الأسر السورية الملتجئة هناك ، ولم يلبث الولد الأصغر المعوق أن مات لانعدام العناية ، وأسرع من قام بالإشراف على هؤلاء المساكين فزوج البنتين الكبيرتين يوم أن بلغتا إحدى عشرسنة . . وحسب !


السيلون !

لكن مأساة هذه العائلة الممتحنة لم تتوقف عند هذا الحد ، بل ربما كان ذلك كله الجانب الأسهل منها ، فبعد أن أنهى فرع الأمن السياسي استجوابهم في حماة أرسلوهم ومعهم ليلى ب . إلى تدمر وقد اعترفن بالمشاركة في مساعدة شباب ملاحقين بايوائهم . . وهناك في هذا المكان المرعب الذي كن يرين منه مواكب المعتقلين تساق صباح كل يوم إلى الإعدام حان موعد ولادة سلوى دون أن تكون لديهن أية وسيلة لذلك أو حتى أي ملابس للمولود القادم ، لكن الله رحمهن بوجود قابلة من حماة معتقلة معهن اسمها رغداءس . فلما جاء سلوى الطلق كتمن الخبر وصياحها معه خشية أن يكون ذلك سبب عذاب جديد لها أو حتى لهن حتى إذا ولدت سمع أحد الحرس على السطح بكاء المولودة فسأل فأخبرنه ، فجاء هذا الشاب الذي لم تمت فيه بقايا الإنسانية بعد وأدلى لهن علبة صفيح فارغة وعود كبريت فأشعلن من ثيابهن فيها ما يكفي لتسخين ماء حمموا به المولودة ، وروت الأم بنفسها أنهن قصصن لها الحبل السري بقطعة تنك اقتطعنها من علبة الصفيح تلك ! غيرأن المأساة لم تنته أيضا ، والخطر لم يبتعد عن هذه المولودة البريئة التي أسمتها الأم سمية . . فلقد قامت إحدى المعتقلات معهن وهي مسيحية اسمها أم طوني متهمة ببيع جوازات سفر للملاحقين ، فلما اعتقلت تحولت تماما مثل فاديا الشيوعية إلى مخبرة لتنال حظوة في السجن وبعض المزايا الرخيصة ، وقامت بإلإبلاغ عن هذا العنصر الذي ساعدهن بالتنكة الفارغة وعود الكبريت . . فحضر مدير السجن المقدم فيصل غانم وجعل يسمعهن سيلا من الشتائم والإهانات والتهديدات كعادته ، ثم أخرج عائدة ك . - إحدى المعتقلات - فنزع عن رأسها الحجاب وجعل يدوسه بقدميه والشتائم لا تزال تتدفق من فمه المنتن . . فلما انتهى وهدأت نفسه أمر بمعاقبة المهجع كله ونقله إلى "السيلون ا ا إ! و"السيلون " هذا عبارة عن قبو كبير رطب ومعتم لا منفس فيه ، مسكون بالعناكب والصراصير والحشرات ، وقتها كان عمر سمية عشرين يوما فقط ، وكان عليها أن تنتقل إلى "السيلون " مع بقية السجينات ، فأصيبت المسكينة من حينها . بربو مزمن لم تشف منه إلى الآن . لا أزال أذكر أنهم يوم أتوا إلى قطنا بعدما أمضوا سنتين قي تدمر وبضع أسابيع بعدها في سجن حمص وبينما وقفت النساء تفتشهن الشرطيات وتتسلمن أماناتهن تسللت سمية ببراءة الأطفال من بينهن ودخلت بين أرجل الشرطة نحونا ، فركضت أنا فرحة بمولود صغير بيننا لأحملها ، فلما رفعتها أحسست أنها طارت من خفتها وضعفها من يدي وكادت أن تفلت مني في الهواء !


التهاب في الاعصاب

حضرت أم حسان وابنتاها ومع هؤلاء حضرت أيضا رغداء س . ومنى ب . وأما مجموع النساء في تدمركما روين فكان قد وصل أيامهن إلى إحدى عشرة : الخمس اللاتي وصلن قطنا وست أخريات هن : عائشة أ . ونهلة ز . وعائدة ك . وسلسبيلة أ . وليلى ب . وأع طوني . . وأما عائدة وعائشة فقد نقلوهما بعدها إلى سحن حلب لنعود قنلتقيهما في مراحل سجننا الأخيرة ، فيما نقلوا سلسبيلة مع مجموعة أم حسان إلى سجن حمص في البداية ، ولكنهم نسوها هناك كما تبين لاحقا ، ولم يفطنوا لغيابها إلا بعد سنين ! وأفرجوا عن ليلى ونهلة وأم طوني من تدمر مباشرة نتيجة واسطة وتدخلات ثقيلة للأولى ، وبعدما اشتد المرض بالثانية حتى قاربت الهلاك وأحسنت الثالثة التعامل معهم فتخرجت من السجن مخبرة محترفة كانت رغداء ومنى صديقتين حميمتين كلاهما من حماة أما رغداء فكانت قابلة وأما منى فخريجة كلية الشريعة ومدرسة ديانة . وكانت منى وزوجها قد شاركا في تأمين مأوى لمجموعة من الملاحقين تم اكتشافه بعد أحداث حماة فهرب زوجها والشباب جميعا واعتقلت المسكينة ، وهناك في الأمن السياسي بحماة عذبوها كثيرا لتعترف أنها منظمة وتدلهم على مكان زوجها ومن كان معهم في القاعدة ، ونتيجة التعذيب بالكهرباء أصيبت المسكينة بالتهاب في أعصاب أرجلها فلم تعد تستطيع حتى النوم إذا لم تسلط المروحة عليهما من شدة الألم . . وبعد العذاب والتحقيق أرسلوها إلى تدمر . . وأرسلوا معها رغداء التي اعتقلت في نفس الفترة من مكان عملها كقابلة في المستشفى لكن رغداء لم تتكلم عن تعذيبها أو الظروف التي مرت بها وكانت من النوع الكتوم والهادئ تحتسب ما أصابها عند الله .


سجينة طي النسيان !

هؤلاء كن الخمس الذين حضرن من تدمر والتقيناهن في قطنا ، وأما الست الأخريات فقد التقينا ثلاثا منهن في مراحل سجننا الأخيرة هن : عائدة ك . وعائشة أ . وسلسبيلة أ . وسمعنا قصص الأخريات الباقيات ولكننا لم نرهن . كانت عائدة مهندسة عاملة من حلب أتى الطلب عليها في بدايات الأحداث ولكنها نجت ، ولأ نها وحيدة أهلها وخشية عليها أحضرها والدها الى بيتنا في دمشق لتسكن مع صديقات لها بيننا ، ثم لم تلبث أن اطمأنت فعادت إلى حلب وبقيت بسلام هناك إلى أن اشتدت الأحداث فعادوا واعتقلوها بوشاية من سامح كيالي أيضا . . ولقد بلغنا أنها عذبت عذابا شديدأ في فرع المخابرات ولاقت كأكثر اللاتي لاقين على أيدي عمر حميدة ومصطفى التاجر ولكنها كانت تؤثر الكتمان ولا تتحدث بشيء ولم يكن لقاؤنا إلا في الأسابيع الأخيرة من سجننا حينما جمعنا في سجن التحقيق العسكري بدمشق قبل أن يتم الإفراج عنا . كذلك كان لقائي مع عائشة أ . في نفس الفترة وفي نفس المكان . وعائشة معلمة مدرسة من حلب اعتقلت في نفس الفترة مع عائدة ولكنني لم أعرف السبب ولا التفاصيل . وأما سلسبيلة أ . فهي سيدة مربية من حمص كانت في الستينات من عمرها اعتقلت لعلاقة أخيها بالإخوان واعتقلوا معها ابنها وكان عمره حوالي 16 سنة وقتذاك . . وعلمت أنها تعذبت أيضا ولكني لا أعرف التفاصيل لأني لم أجلس معها إلا الأسابيع الأخيرة . وكانوا قد نسوها في سجن حمص بعد أن نقلوها مع الأخريات من تدمر ، وعندما قرروا الإفراج عنا ورد اسمها في القائمة ولكنهم لم يعودوا يعرفوا في أي فرع هي وفي اخر الأمر جاء مدير سجن التحقيق العسكري إلينا وسالنا : - هل تعرفون هذا الإسم وأين هي ؟ فقالت له البنات : نعم ، كانت في سجن حمص وربما لا تزال هناك . وبالفعل ذهبوا فوجدوها باقية هناك في الزنزانة وحدها ! وبعد الإفراج عنها وجدتهم قد صادروا لها البيت ، ولم يسمحوا لها حتى الان بالخروج من سوريا رغم أن زوجها وأولادها يقيمون في السعودية ، وأما أخوها الذي اعتقل معها فلا يعلمون عنه شيئا إلى الان !


على لوح الخشب !

كانت نهلة ز . إحدى النساء الثلاث اللاتي أفرج عنهن من تدمر مباشرة مهندسة كهرباء من زميلات عائدة ، وكان زوجها قد فتح بيته مأوى لبعض الشباب المطلوبين ، لكن السلطة علمت بالأمر فداهم رجال الخابرات البيت وكمنوا فيه ، وخشية على نفسها من هؤلاء الوحوش وصيانة لعرضها وشرفها ركضت فور اقتحامهم البيت وألقت بنفسها منشرفته بالطابق الثالث ، فلما سقطت أصيبت بكسور عديدة لكنها ظلت على قيد الحياة ، وظن الناس أن سيارة صدمتها فركضوا وخبروا الشرطة المدنية لإسعافها ، فلما حضروا وسألوها عم حدث وجدت نفسها تخبرهم بأن الإخوان أتوا إلى البيت وأصروا على الدخول وحبسوني فرميت نفسي ، فجاءت دورية مخابرات أخرى وحصل اشتباك بينهم وبين العناصر الكامنة في البيت وكل يظن الأخرين من الإخوان ، فلما اكتشفوا الأمر كانت إصابات عديدة قد وقعت بينهم فحقدوا عليها أكثر ، وتركوها طوال فترة اعتقالها بدون علاج ممددة على لوح خشبي لا تستطيع التحرك عنه بسبب كسر رئيسي أصاب حوضها ، حتى كاد عظمها المهشم أن يصاب بالتسوس . . وزاد من معاناتها المسكينة حينما اكتشفت في تدمر أنها كانت حاملا في شهورها الثلاثة الأولى تقريبا ، لكنها وبسبب حالتها المفجعة أصيبت بنزيف مستمر انتهى بها إلى الإجهاض ، وازدادت حالتها في التردي يوما بعد يوم حتى اضطروا بعد سبعة أو ثمانية أشهر إلى الإفراج عنها تخلصا من مسئوليتها !وأما خامسة الخمسة واخر السجينات العشر فكانت امرأة مسيحية من حمص تسمى أم طوني ، باعت جوازات سفر لبعض الملاحقين مقابل المال ثم اكتشف أمرها فاعتقلت ، لكنها تحولت - كما قلت - إلى صف المخابرات وصارت مخبرة لهم على السجينات في تدمر ، وتم الإفراج عنها اخر الأمر بعدما قرروا غربلة السجناء والسجينات .


إنى أتنفس تحت الماء  !

مر شهر وبعض الشهر واندمجت القادمات الجدد في منزلهن الجديد واندمجنا معهن على الرغم من تقلص الأشبار القليلة الممنوحة لنا في المهجعين . . ولم تلبث وافدات أخر أن أحضرن إلينا قادمات من أماكن متفرقة . كانت القادمات ثلاث هذه المرة : سميرة ت . ونجوى ج . وأم زهير نجاح أ . وأما أم زهير هذه فأتوا بها من الأمن السياسي بحماة ومرروها على أمن الدولة بكفر سوسة ، وأما نجوى فكانمت في سجن المسلمية بحلب ومرت على نفس الفرع كفر سوسة ليأتوا بها بعد ذلك إلينا ، وأتوا بسميرة من أمن الدولة بحماة مباشرة . كانت القصص الجديدة للقادمات الجدد فصلا اخر من فصول الظلم والوحشية التي تدار بها شئون البلاد والعباد في سورية . . وكانت أبسط الحالات لا تقل أبدا بمدلولاتها عن أشدها ألما وعذابا وظلما . فأما سميرة ت . وكانت في العشرينات من عمرها وأما لثلاثة أطفال أحدهم في شهره الثامن فقد استشهد زوجها في أحداث حماة دون أن تعرف كيف بالتحديد ، لكن الرواية التي بلغتها تقول بأنهم رأوه جثته في ساحة العاصي وقد كتب اسمه عليها محروقا بالنار ! وكان الزوج صباب بيتون ، وبعد الأحداث جاءت عليها فسادة أن لديها قاعدة في البيت ، ولما داهمت المخابرات البيت وجدوا غرفة خفية فيه بالفعل كان الزوج قد بناها دون أن تدري ، ولكنهم لم يجدوا في هذا المخبأ إلا بعض الكتب ، لكن ذلك كان سببا كافيا لهم ليبدأوا تعذيبها في البيت نفسه ، فربطوها بملاءة السرير وعصبوا لها أعينها وصاروايضربونها لتعترف من كان في المخبأ ، وجعل أحدهم يغني لها ساخرا : إني أتنفس تحت الماء . . إني أغرق ! بعدها أخذوها إلى الأمن السياسي وأكملوا لها التحقيق والتعذيب ولكن شيئا لم يثبت عليها ، ورغم ذلك بقيت سجينة معنا حتى النهاية ! وأما أم زهير نجاح أ . فهي سيدة جاوزت الخمسين من عمرها كانت قد مضت بزوجها المريض بالقلب إلى عمان لإجراء عملية جراحية له هناك ،وتمت العملية بالفعل ولكن الرجل الذي جاوز الخامسة والستين لم يحتمل المضاعفات فتوفي بعدها بأيام ، ودفنته أم زهير هناك ورجعتإلى سوريا . . ولكن المخبرين الذين نشطوا بعد أحداث حماة أشاعوا أنها أتت بنقود معها وأوصلت رسائل في ذهابها ، فاعتقلها الأمن السياسي في حماة قبل أن تنقل إلى قطنا . ولم يكن لأم زهير أية علاقة بما قالوا ، ولكنهم كانوا حاقدين على عائلتهم كثيرا . . ففي بداية الأحداث وعندما كانوا ينتقمون من اباء الملاحقين والأغنياء والأطباء ووجهاء البلد أخرجوا إخوانها الثلاثة مع طاهر حداد وممرضه رشيد قطرنجي ودفعة من الرجال الاخرين وأتوا بهم تحت الشتائم والكرابيج إلى سوق الطويل ، وهناك ومن غير تفسير أمروهم أن يعودوا من حيث أتوا لأن الأمر انتهى ، فصدق المساكين وأداروا ظهورهم راجعين ، فما أن استداروا حتى فتح رجال الأمن نار الرشاشات عليهم فسقطوا قتلى جميعا إلا واحدا من الإخوة الثلاثة أصيب بقدمه وسقط على الأرض وسقط القتلى الآخرون فوقه ، فلما غادر القتلة المكان وقد ظنوه ضمن الهالكين تحامل على نفسه وزحف إلى بيته فأسعفوه هناك ثم غادر البلاد بعدها إلى غير رجعة .


طعامهم التسبيح والتهليل !

واذا كانت مآسي السجينات مرة الطعم كلها فإن منهن من ذاقت ما يفوق مرارة العلقم بعض الأحيان ! وتشتد الكروب ببعضهن حتى لا تجد لها من دون الله كاشفة ! ومن هؤلاء كانت قصة هالة التي عافاها المولى سبحانه أخر الأمر . . وكانت قصة نجوى ج . التي ارتكست في تداعيات نفسية مؤلمة لم تنج المسكينة منها حتى اخر يوم ! كانت نجوى طالبة متفوقة في سنتها الثانية بكلية الطب البشري بحلب ، وكانت مخطوبة لأحد الشباب الذين لوحقوا من بعد ضمن ألوف من خيرة الشباب مثله ، فلما اختفى ذهبت إلى الأردن تبحث عنه فيما يبدو يرافقها أبوها بعد إلحاح ورجاء منها . . وفي طريق عودتهما ألقي القبض عليهما بتهمة العمل كمراسلين للإخوان بين الداخل والخارج ! فوجدت الأم نفسها من غير معيل ولا نصير مرة واحدة ، ولم تجد ما تنفق به على أطفالها الثلاث البقية فأخرجتهم من المدارس وأرسلت أكبرهم وكان في الصف السادس أو السابع ليشتغل بمصنع للشوكولاته ويقيت العائلة . . ثم لم تلبث الأم وأن أصيبت من وقع المأساة بنزيف اضطر الأطباء أن يستأصلوا لها الرحم ، فلما بلغ ذلك نجوى ولأنها من النوع الحساس جدا فقد أخذت تعيش هم أمها وإخوتها في الخارج وهم أبيها الذي غيبه السجن ولا تعلم عن مصيره شيئا . . وأخذ يتكرس في نفسها الإحساس بأن ذلك كله قد حدث بسببها ، فسقطت بذلك في عقدة الذنب وصارت لا تكف عن ملامة نفسها بشكل قاس ومستمر . . وأخذت الحالة تتطور من سيء إلى أسوأ وهي تعيش أبشع الظروف في أقبية السجون وبين وحوش من المحققين والجلادين لا تعرف قلوبهم إنسانية ولا رحمة . . وكانت عندما أتوا بها من حلب إلى قطنا أول الأمر في بدايات المرض ، فكنا نلحظها دائمة الشرود غريبة التصرفات ، ثم اشتدت حالتها بعد انتقالنا إلى دوما فصارت الحالة صعبة وبشعة جدا حتى جعلتنا نعيش كلنا على أعصابنا . كان فراش نجوى إلى جانبي بعد ماجدة ، وفي البداية كانت إذا أحست باقتراب المرض منها تقول لنا : -يا بنات . . يا هبة . . انظري . . لا تتركي أمامي لا إبرة ولا مقصا ولا سكين ولا شوكة ولا ملعقة ولا أية قطعة حديد . . وشيئا فشيئا يأخذ مرضها في الإزدياد فلا تعود تنام وتظل تتمشى في المهجع بين الفرشات ليل نهار . . وكأن المرض كان يأتيها على دين ، فتراها تبالغ في تحجبها وتأتي فتسالمني أن أطيل لها كل أكمام ملابسها رغم أنها طويلة أكثر من اللازم . . وكان أهلها يأتون لها بصابون غار فلا نراها إلا عاكفة عليه تحفر فيه وتحفر وتظل تحفر حتى تبلغ الطرف الآخر منه فتقول لي : - انظري . . أي شيء يعمله الإنسان يوحي إلى لفظ الجلالة ! انظري . . هذه لا إله إلا الله . . هذه لا أدري ماذا ! وكانت إذا حان وقت النوم مضت معنا إلى فراشها الذي كان التالي بجانبي بعد ماجدة ، لكنها تظل يقظة جاحظة العينين ، حتى إذا انتصف الليل انتفضت من مكانها بلا مقدمات فتخطت ماجدة لتأتي فتلكزني من رجلي لتوقظني وتقول لي : -تعالي أحييها معي. ورغم أن المفاجأة تكون قد أرعبتني بحق إلا أنني كنت أمضي معها وأسايرها . . وأحيانا كانت تجلسني في فراشها وتلتصق بي وتقول لي : - تعالي نذكر الله الليلة . . لكنها كانت تمضي أياما على هذه الحالة لا تأكل ولا تشرب ، فأسألها : - ألم تجوعي ؟ فتجيبني : طعامهم التسبيح والتهليل ! فأجلس بجانبها نسبح وأنا على أعصابي . . فإذا أصبحت قامت توزع ما تملك من ملابس وأغراض حتى لا يبقى لديها إلا الثياب التي عليها . . وغالبا ما تعطي ذلك لسجينة أخرى من القضائيات مريضة مثلها كانت هاربة من مستشفى الأمراض العقلية ! ورغم أن نجوى كانت تخف في البداية وتعود فتنتكس إلا أنها الإنتكاس استمر معها لاحقا ، وساءت أمورها أكثر فأكثر واشتدت تصرفاتها غرابة وايلاما ، واشتد انعكاس ذلك على من حولها وبالأخص جارتيها في السرير ماجدة وأنا ! حتى أننا صرنا من كثرة ما عانينا معها نستيقظ في الليل بدون إرادتنا ونجهش بالبكاء . . أو تزدحم الكوابيس على ماجدة فلا نراها إلا وهي تصيح وتستغيث وهي في عز النوم ! ولقد انعكست حالة نجوى أيضا على والدتها المسكينة من بعد وزادت في الضغوط عليها فكأنما أصاب الأخرى شيء . . فصارت - حتى بعد أن أفرج عن نجوى وأبيها - كأنما تفقد ذاكرتها أو جزءا من وعيها فتهيم على وجهها في الطرقات ، أو تمضي فتزور أحدا من أقربائها ومعارفها وتمضي عندهم الأيام دون أن تخبر من عائلتها أحدا ، بينما يبحث المساكين عنها في المستشفيات ومراكز الشرطة دون نتيجة ! وعندما تقرر الإفراج عنا في النهاية كانت نجوى مع اخر دفعة تخرج من بيننا وكأنهم أرادوا أن يفقدوها آخر ما تبقى لها من عقل . . وكانت مسكينة الوحيدة التي أطلقوها في دمشق ورفضوا أن يأخذوها إلى مدينتها كما فعلوا مع باقي السجينات جميعا! هؤلاء كن كل السجينات اللاتي قضين سنوات من العذاب والمعاناة معنا ، وكان هناك غيرهن يحضرونهن لفترات ثم يطلق سراحهن . . ومن هؤلاء كانت مجموعة نسوة من قرية قرب حماة هن أم وكناتها الثلاث وأولاد صغار معهن . . كان زوج إحداهن قد لوحق كما يبدو فأراد تهريبهن خارج سوريا لكن دوريات الحدود اعتقلت المجموعه كلها ، وفيما لم تعد تصل عن الولد أية معلومات فقد أمضت النسوة والأولاد في قرابة العام معنا في مهجعنا كنا نجلس خلالها فوق بعضنا البعض من الإزدحام . . ثم أفرج عنهم . في مرة أخرى - وكانت المرة الوحيدة التي يشركون فيها سجينة قضائية معنا - أتوا بأخت جورجينا رزق (ملكة جمال لبنان وقتذاك ) متهمة بقتل زوجها ، وكانوا كأنما يخشون أن يتسلل أحد من أقارب زوجها المتنفذين ( من ال الجندي ) فيقتلها ، فشددوا الحراسة على السجن ووضعوها في مهجعنا ، وبقيت تشاركنا المكان قرابة السنة ثم خرجت براءة . . وكانت كلما نزلت إلى المحكمة تستعير ثيابا سوداء منا وتغطي رأسها متظاهرة بالحزن على زوجها . . أما تعاملها معنا فكان جيدا مثلما كان تعاملنا نحن معها ، وكان طبيعيا بحكم حياتها معنا أن تظهر تعاطفا وتفهما حتى أفرج عنها وانقطعت أخبارها .


لجنة التأهيل والأستغلال

كانت حياة السجينات القضائيات تسير إلى جانب حياتنا نشاركهن ويشاركننا المكان والظرف وجزءا من المعاناة ، لكنهم كانوا على الدوام أقل منا تقييدا وأكثر انفراجا . . وغالبا ما كن وكان الآخرون ينظرون إلينا نظرة احترام لأننا هنا من أجل رأينا لا من أجل أي جريمة ارتكبناها . . لكن المسؤولين كانوا بحكم موقف النظام منا يقسون علينا ولا يستجيبون لطلباتنا . . ولا يقصرون لاقتناص أي فرصة لاستغلالنا .. وفي هذا السياق كانت تجربتنا مع لجنة إدارة السجون التي تشرف افتراضا على حال المسجونين القضائيين وتحاول إعادة تأهيلهم ليعودوا مواطنين صالحين . . لكننا ولما رفعنا طلبا عام 84 للسماح لنا بتقديم امتحاناتنا الدراسية تدخلوا ووعدونا بدراسة الأمر ورفع كتاب للمسؤولين ، وقالوا لنا ادرسوا ريثما يأتي الجواب . . فجلسنا ندرس ونستعد للإمتحان حتى عاد الجواب في النهاية مع عدم الموافقة . . وكنوع من التسرية اقترح علينا مسؤول اللجنة (أبو سامر) أن يأتوا لنا بشغل نشتغله مقابل أجر فوافقنا ، فأتوا لنا بكميات من الخرز جلسنا نضمه إلى بعضه في عمل مرهق بالفعل ، حتى إذا أنهيناه اخر الأمر وقد بلغ الجهد منا مبلغا أخذوه دون أن يعطونا من الأجر شيئا ! ولما خشينا في الوقت نفسه أن يستخدموا هذه الأشغال في أشياء لا تجوز كأثواب للرقص مثلا فقد توقفنا عن استلام المزيد . . ولكن جهدنا وأجرنا ذهبا مع اللجنة هباء !


عرض للزواج !

وتتالت الأيام في قطنا ونحن أسرى القضبان والجدران من جهة وأسرى الحياة الرتيبة والبرنامج الممل المتكرر من جهة أخرى . . وعلى الرغم من العزاء الذي كنا نجده في الزيارات بلقاء الأهل والأقارب إلا أن المستجدات التي تلت جعلتني أعيش كربا جديدا بسبب بعض الزيارات والزائرين ! كانت أواخر عام 85 حينما حضرت خالتي لأول مرة تزورني في قطنا رغم المرات العديدة التي أرسلت لها السلامات فيها ورجوت حضورها دون جواب . . فلما رأيتها على طرف الشبك الاخر لم أتمالك نفسي وانفجرت في البكاء وكأني أرى أمي أمامي وأتحسس ألم فقدها لأول مرة في قلبي . . لكن شعورا بالإنقباض بدأ يستولي علي ساعة بعد ساعة وأنا أستمع إليها وأتلقى عرضا منها غاية في الغرابة ! قالت خالتي إنها لم تزرني سابقا لأن أخي كان يمنعها من ذلك ويحذرها منه . . ولكنها قررت الحضور الآن لأن وساطة جدية تجري الأن للإفراج عني ، وأن الشرط الوحيد لذلك أن أخرج من السجن متزوجة ! ولما أبديت تعجبي من هذا الشرط الذي لا ينسجم مع طبيعة ظرفي ولا طبيعة الواسطة التي تتحدث عنها عادت وأكدت أنه الشرط الأول . . وعلى الرغم مما سمعته من رفضي لفكرة الزواج أساسا وأنا في هذه الحال ، ولربط الزواج بالإفراج عني بكيفية غريبة لا تفهم . . فقد غادرتني مؤكدة أنها بانتظار جوابي في أقرب وقت . وفي اليوم التالي مباشرة فوجئت بابنها يطلب زيارتي ، فلما خرجت لمقابلته أخبرني بأنه يخدم عسكريته الآن وأنه انتقل إلى قطنا من أجلي فقط . . ومن أجل أن يكون قريبا مني ! وجعل يتحدث أحاديث الجهال الفارغة بدون حياء . . فلم أجد إلا أن أترك المكان وأعود للمهجع . لكنه لم يلبث بعد يومين أو ثلاثة وأن عاد يطلب مقابلتي ، فقلت للسجانة أمامه : -إذا جاء مرة أخرى فلا تفتحي له الباب لأني لا أريد زيارة كهذه . ومن غير مقدمات أو منطق وجدته يعود وخالتي اخر الأسبوع وقد أحضرا معهما خاتم خطبة ! فلم أجد بدا من تغييرلهجتي معها ومقابلة تصرفاتها الغريبة هذه بشيء من الصرامة فسألتها : - ومن قال لك أنني وافقت ؟ أنا لا أريد لا أن أخطب ولا أن أخرج . . فما رأيك ؟ قالت : لماذا ؟ ألا يعجبك ابني ؟ قلت لها : لا . . ابنك على العين والرأس ولكني لا أريده . قالت : طيب إذا لم توافقي على الخطبة فاتركي الخاتم عندك . ورمته لي وذهبت . . فلما ناديت السجان ليعيده إليها كانت قد غادرت فتركته معي . وفي اليوم التالي أتى ابن خالتي وحده من جديد فجعل يرجوني أن أعطيه ولو قصاصة ورق يأخذها إلى أخي صفوان خارج سورية لكي ينال موافقته شخصيا على الخطبة . . وبدأت أتبين معالم مؤامرة ترسم بدهاء أثبتت الأيام حقيقة وجودها ، فاللعبة كلها كانت تدور برعاية المخابرات أنفسهم وبالتعاون مع خالتي التي تأكد لي بعدها أنها وابنها يتعاملان معهم بشكل مباشر . . وكان الغرض أن يتم إرسالي كطعم لاصطياد أخي صفوان حينما يأتي ليصحبني من مكان الإفراج عني في تركيا . . ولقد أكملوا حبك اللعبة بإرسال شخص ثالث بعد أسبوع تقريبا - وكان يومها وقفة عيد الأضحى - هو ابن احما أخي غسان واسمه حسني ابراهيم باشا ، وكان يأتي كذلك لزيارتي أول مرة . . فتفاجأت جدا خاصة وأنني سمعت من قبل أنه مخبر للسلطة ، وازددت تحفظا واستغرابا وأنا أسمعه يعرض علي العرض نفسه ويقول : - نحن نعمل لك واسطة ثقيلة جدا ، واذا تعاونت معنا فسوف تكونين رابع أيام العيد في تركيا . قلت مستغربة : ولماذا مباشرة خارج سورية؟ لا أريد ذلك . . أريد أن أبقى في بلدي . فقال لي : هكذا جاء الشرط . ولما سألته : وماذا سأفعل بتركيا؟ قال : تذهبي عند أخيك . وهكذا تبلورت شكوكي أكثر ، وسرعان ما اتضحت أمامي معالم المؤامرة . . إذ لم يكد حسني هذا يمضي وتقفل الأبواب علينا وقد دنا وقت الغروب ، وبينما كنا نستعد للإفطار وقد أمضينا اليوم صياما حتى دخل علينا أحد عناصر الشرطة الطيبين على غير العادة وجعل ينظر إلينا ثم يتوقف بنظره علي . . ثم يعود فيخرج ثانية يحوقل أمام الباب . فلما رأيناه لا يتحدث بشيء بادرته الحاجة بالسؤال : -ماذا هناك أبوي ؟ قل لي . . هل هناك شيء ؟ فناداها إلى خارج المهجع وقال لها بتأثر واضح : - هناك دورية من أمن الدولة أتت تريد أن تأخذ هبة . . فقالت له وقد اتجهت نحوي بالكلام : قل لنا ذلك خيو . . هبة الحمد لله إيمانها جيد ولن تخاف . . ودخلت الحاجة تقول لي : قومي أبوي وجهزي نفسك . . ضبوا لها يا بنات بدل وجهزوا لها فرشاة أسنان وسجادة صلاة . . قلت لها : لماذا ؟هل هناك شيء ؟ قالت تريد أن تخفف عني : إي معليش لا تخافي . . المخابرات أتوا ليأخذوك . . ونحن تعودنا على هذا الشيء . أحسست لحظتها أن قلبي يقفز قفزا كالكرة . . وجعلت كل الظنون السوداء تدهمني معا . . ووجدتني لا أدري كيف أحمل حقيبة صغيرة أعدتها البنات لي وأتبع الشرطي الذي انهمر في البكاء فزادني رعبا وتخوفا ، ووجدتني في مكتب مدير السجن ينتظرني رجل بثيابه المدنية عرفت بعدها أنه المقدم عمر مدير سجن التحقيق العسكري ، لكنه لم يزد عن أن سالنى : - حضرتك هبة؟ قلت له : نعم . قال : ستتفضلي معنا . ساكته : هل هناك شيء ؟ قال : لا . . مشوار صغير ! قلت له وقد أسقط في يدي : أنا أعرف مشاويركم . . خمس دقائق كهذه التي صارت خمس سنوات إلى اليوم !


الفصل الرابع: سجن التحقيق العسكرى فى غيابة الجب (أغسطس 1985 أكتوبر 1989)

سجن التحقيق العسكرى

كانت سيارة المخابرات المدنية التي أقلتني تنهب الأرض نهبا فيما كانت رجلي ترتجف من شدة اضطرابي فتصعد وتنزل بشكل لا إرادي حتى اضطررت أن أثبتها بيدي الإثنتين فلا تفضحني ! كنت أحس السيارة تقفز بنا قفزا فوق باقي السيارات من سرعتها ، ورأسي يرتطم بالسقف مع كل انعطافة منها أو لفتة ويعود فيرتج بين كتفي . . فيما تطلق سيارة المرافقة الأمامية أضواءها الباهرة وبوقها المرعب فتنفر السيارات والناس من حولنا مذعورين ، وتكمل سيارة الحماية الخلفية المشهد فتزمجر بمحركها لتزيد الناس إرهابا وخوفا . . وحينما مر موكبنا على "جديدة عرطوز" حيث المكان المخصص لإعدامات العسكريين قلت لنفسي : - إذا هم اخذينني إلى الإعدام . لكننا تجاوزنا وقد أطبقت ظلمة الليل علينا حتى وصلنا فرع التحقيق العسكري بالمزة فاستقبلتنا الأبواب مفتوحة بالإنتظار ، وسرعان ما ولجت السيارات الثلاث داخل الأسوار الشاهقة فلم تعد لي من وقتها صلة بالعالم في الخارج .

توقفت السيارة أمام باب المبنى وتقدم المقدم مني فعصب لي عيني وكبل يدي إلى الخلف وأنا لا أزال مكاني، فقلت له : لكنني حتى أثناء التحقيق الأصلي لم أطمش ولم أكلبش . فقال وهو يجذبني من كتفي : القوانين هنا غيرها هناك . ووجدته يصعدني على درج طويل ثم لم يلبث أن أنزلني ثانية وعاد يصعد بي وذلك حتى أفقد القدرة على معرفة المكان أو تمييز الإتجاهات . . وبعد رحلة من الصعود والهبوط زادت من توتري واجهادي وأنا لم أتناول شيئا بعد الإفطار أدخلني في ممر طويل وأدارني باتجاه الجدار وقال لي انتظري ، وبعد خمس دقائق فتح الباب الذي يليني وسمعت صوتا يقول : أدخلها. فدخلت لا أكاد أدري إلى أين ، ويد المقدم تقودني إلى كرسي أجلسني عليه فجلست ، ومن طرف العصابة التي انزلقت عن عيني بعض الشيء استطعت أن ألمح ظل طاولة أمامي وهيئة رجل ما يجلس خلفها ويسالنى : - ماذا ترين أمامك ؟ قلت له : لاشيء . كان محدثي هو العقيد كمال يوسف رئيس الفرع ، وكان أشد ما يخاف على نفسه ربما لأنه مسيحي لا تحميه طائفته كأكثر الضباط الاخرين ، فكان يشدد على أن لا يعرف صورته أحد . . ووجدته يلتفت على عنصر معنا ويسأله : - وأين ذاك الآخر ؟ فأجابه من غير أن أدري عمن كانا يتحدثان : إنه تحت في المنفردة 24 سيدي .. لكن الرعب تملك قلبي من جديد ، وقلت لنفسي إنه أخي إذا وقع بأيديهم وكانوا يحققون معه للتو . وعاد العقيد فسأل : - وكيف وضعيته ؟ أجاب الاخر : جالس على الأرض ومكلبش من يديه ورجليه للوراء ومطمش سيدي . فلما أحس أنني تلقيت الرسالة المطلوبة وأصابني الرعب التفت إلي يقول : -إي يا ست هبة . . شوفي . . إذا بدك تحكي معنا الصدق فهناك أمل أن نخرجك ، واذا بدك تكذبي فلا مجال أن تخرجي أبدا . قلت له : بكون أحسن. قال ببرود : وليش بكون أحسن ؟

قلت : لأن أي شيء ستسالنى عنه ليست لدي أي معلومة عنه ، فأنا في السجن منذ خمس سنوات ، وعلى علمك أن السجين لا تدخل إليه أخبار ولا تخرج عنه أخبار . . وأنا حتى التلفزيون لا أراه . قال : ولا تعاشري أحدا من السجينات ؟ قلت له :لا . قال : ليش ؟هل أنت شيء مختلف عنهم ! قلت له : لا لكن الله أعطى لكل إنسان طبيعة وأنا لا أحب أن أتكلم مع أحد . قال : ولا حتى مع القضائيات ؟ قلت له : أصلا أنا القضائيات لا أتكلم معهن . قال :ليش غيرخلقة !

قلت له : لا ، لكن أنا طبعي هكذا لا أحب أن أتكلم حتى مع رفيقاتي اللاتي معي في المهجع .

فقال لي : لا . . بدك تقولي لي من هو بيت سرك . قلت : ليس لدي بيت للسر ولا أحتاجه . ثم ما هو هذا السر الذي سأخبؤه هنا وهناك . فقال لي : لا لك . . لا تظني أنني لا أعرف شيئا عن السجينات . . صحيح وضعناكم في سجن مدني لكن أنا أعرف كل شيء عنكم . قلت له : إذا من هو بيت سري يا شاطر إذا بتعرف؟ فقال لي : ماجدة . فلما ذكر اسمها تذكرت للتو كيف كان ابن خالتي يتضايق منها عندما يأتي في زيارته السمجه لأنها كانت تقف قريبا مني وتشجعني على صده ورده وتجيبه أحيانا بنفسها وتسال أن يدعني وشأني. فيتضايق جدا ، ومن أجل هذا نقل لهم أنها بيت سري ، ومن هنا عرفت أنه ذهب وفسد علي . . فلما تلمحت ذلك في ذهني قلت للمقدم : -هذه لا بيت سري ولا شيء . . فقط مجرد واحدة جالسة بجانبي

ألا أتكلم معها أكثر من البعيدة عني خاصة وأنها كانت زميلتي في الجامعة؟ ثم ما هو السر الذي تتوقع أن أخبئه عنك ؟ فقال لي : لا أعرف وأنت التي ستقولين لي . قلت له : أنا ما عندي سر واذا بدك رجعني إلى السجن فأنا أحب إلى قلبي أن أجلس في السجن طول عمري ولا تتهمني تهمة ليس لها و جود . فقال لي : طيب أنت من يأتي لزيارتك ؟ قلت له : تأتي ابنة عمي - وكانوا يعلمون أنها تدرس الطب بدمشق وتأتي لزيارتي أحيانا - وأحيانا في السنة مرة تأتي عمتي أو عمي. فسالنى : فقط . . لا أحد اخر؟ قلت :لا. قال لي ساخرا : وهذا حسني . . ألم يحضر لزيارتك ؟ ولأن اللعبة لم تكن قد اتضحت لي تماما ولم أتبين نواياهم وقتها والدور الذي يؤديه كل منهم فقد أشفقت أن أذكر اسمه في زيارته الوحيدة لي فأضره ، لكنه لما ذكره أمامي قلت له : - أظن أنني نسيته لأنها المرة الوحيدة التي زارني فيها . فقال لي : طيب سأعطيك ورقة لتكتبي فيها من يأتي ليزورك بدون كذب . قلت له ؟ أنا لا أكذب .إن شاء الله . فأشار إلى عنصر منهم وقال له: خذها إلى الغرفة الثانية . وهناك أعطاني العنصر ورقة وقلما قبل أن يرفع الغطاء عن عيني ويمضي . وبعد عشر دقائق كتبت خلالها نفس الكلام الذي قلته عاد العنصر ثانية فعصب لي عيني ثانية وقادني إلى المقدم الذي سألنى : -خلاص ما عندك أي شيء اخرتقولينه ؟ قلت له : لا. فقال له : خذها إلى المنفردة . ووجدت العنصر يجذبني من جديد وينزل بي الدرج مطمشة ومكلبشة إلى الطابق الأرضي ، وهناك عاد فأخرجني من المبنى وأركبني السيارة وجعلوا يلفون بي حول المبنى قبل أن يعيدونني إلى الباب نفسه وينزل بي إلى القبو هذه المرة بأربعين درجة !


ليلة عيد . . وقبرسعيد !

كان الدرج حجريا متآكلا من كثرة ما تعاقبت عليه الأرجل متقعرا من شدة ما وطأته الأقدام ! وعندما بلغنا أسفله أدخلوني أول الأمر على غرفة الإستعلامات ، وهناك أخذوا مني الساعة التي جاوز الوقت فيها منتصف الليل والمشط والنقود التي كانت معي ووضعوهم في ظرف كتبوا عليه اسمي والتهمة "إخوان مسلمين " . . بعدها أدخلني غرفة مكتب صغيرة وأجلسني على كرسي فيها وهم بالذهاب ، فقلت له : - ممكن أن أرفع الطماشة الان ؟ قال : لا . قلت له : لكنني عندما أضعها أصاب بضيق شديد في التنفس . قال : وما دخل الطماشة بنفسك ؟ قلت :ولو . . حالة نفسية . فلم يجبني وذهب . . وبعد قليل دخل عنصر اخر فسألته السؤال نفسه وقلت له السبب فقال لي : -بإمكانك أن تلحلحيها قليلا إذا أحسست بضيق النفس فعلا . كانت الساعة قد جاوزت الواحدة ليلا ، لكنني ورغم الإرهاق والتعب الشديدين فإن النوم جفاني ، وأعادني السهاد إلى أحاسيس أول أيام اعتقالي قبل خمس سنوات ، والتوتر والتوجس والخوف من المجهول عادت فبسطت أرديتها الكئيبة على قلبي الأن من جديد فأثقلته . كنت أحسهم أمام الغرفة يروحون ويغدون وهم يحيون ليلة العيد على طريقتهم مثلما أحيوا ليلة رأس السنة وقتذاك ، وأصداء ضحكاتهم الفاجرة وكلماتهم البذيئة تطرق أذني طوال الوقت . وكان السؤال لا يكف عن الدوران على محيط رأسي : لماذا أحضروني وحدي وبعد كل هذه السنوات . . ولماذا لم يسألوني عن أي شيء جاد إلى الآن . . وماذا ينوون أن يفعلوا بي . . فلما طلع الصباح وبدأ يوم جديد من الحياة طلبت أن أذهب إلى الحمام فأخذوني إلى مرفق يستعمله العناصر أنفسهم ، لكنني وجدت بابه مرتفعا عن الأرض بمقدار شبر وهم يجلسون أمامه ، فخفت ولم أحس بالإرتياح وقلت له : - لم أعد أريد . وعدت إلى الكرسي نفسه وبقيت على نفس الحال إلى وقت العصر دون أن يعيرني أحد انتباها أو يسالنى سؤالا أو حتى يتذكرني بوجبة طعام . فلما كان العصر أتاني أحد العناصر وأخذني عبر الممرات المتعرجة إلى المنفردة التي خصصوها لي ، وفي الطريق إلى هناك وجدت مجموعة من السجناء أخرجوهم من المهجع بملابس خفيفة وقام عليهم طبيب وأظنه كان سجينا أيضا كان يفحص لهم دمهم ، ولا أدري ما الذي كان منتشرا فيهم من مرض أو فقر دم ، لكنهم وما أن دنوت منهم حتى انفجرت صيحة السجان فيهم : - وجهك إلى الجدار . . وفرقع الكرباج في نفس اللحظة التي التصقت فيها وجوههم بالجدار دون أن أقدر على استيعاب ما حدث . . وعندما وصلنا المنفردة وفتح السجان بابها الثقيل ساكته : - هل سأبقى هنا ؟ قال وعلى ناظريه ترتسم ملامح السخرية : - نعم . . هذه أحسن منفردة وأعلى درجات المنفردات . . إحمدي ربك أنك هنا ! قلت : ماذا ! أجابني : نعم . . هذه المنفردات جديدة كلها لم يجلس فيها أحد من قبل . . فاحمدي ربك وأدخلي. ورمى لي ببطانيتين رثتين ثم أغلق علي الباب الحديدي الثقيل ومضى . . وما أن فعل حتى أحسست نفسي أنني اختنقت . . متر ونصف بمتر ونصف من الأرض وحسب . . الجدران سميكه جدا . . والسقف منخفض إلى درجة أنني كنت أستطيع لمسه . . وفي وسطه فتحة للتهوية لكنها كانت عاطلة عندي وليس هناك أي فتحة غيرها أو شباك . . وبين الباب والجدار الذي يليه توجد طاقة عميقة في آخرها لمبة ضعيفة الضوء بيني وبينها طبقتان من الشبك فلا تكاد تنيرإلا نفسها ! فلما أغلق الباب أحسست أنه قبرني وذهب . . وشعرت أنني على بوابة الموت بالفعل . . ولم أعد أستطيع جذب النفس . . كانت لحظة صعبة جدا لم أستطع تحملها ، ولم أعد أستطيع استيعاب ما يجري . . أو لماذا يفعلون بي كل هذا ! ومن تعبي ورعبي كأنما ارتخت أعصابي وخارت قوتي فما شعرت بنفسي إلا وباب المنفردة مفتوحا والدنيا ظلام جدا والعنصر واقف على الباب يلكزني بعصا يمسكها بطرف يده ويقول : - قومي . . قومي. فلما استجمعت نفسي وحاولت استرجاع الأحداث أدركت أن الليل قد حل وقد حضر وقت الخروج إلى الخط . . وقدرت أنني كأنما أغمي علي ، لكنني وعندما استيقظت ووجدته أمامي أحسمت كأنه عزرائيل . . ولم أعد أستطيع حتى أن أدرك حقيقة شعوري : هل أنا متضايقة . . زعلانة . . خائفة ؟ كله مع بعض ! لم أعد أحس لا بالزمان ولا بالمكان فلم تكن معي ساعة ولم أعد أعرف الليل من النهار . . فلما ناداني نهضت وأعصابي على أشد ما تكون توترا . . فلم أكن أعرف ما الذي يجري هنا ، ولا طبيعة هؤلاء العناصر . . وتبعته إلى الحمام حيث اقتادني فوجدته كبيرا جدا . . ووسخأ إلى أبعد الحدود ، لكنني تمالكت نفسي وغسلت وجهي وعدت . . فوجدته أحضر لي طعاما رددته بلا شهية ، فلم تكن لي نفس وقتذاك لتناول أي شيء ، فأدخلني ثانية وأقفل علي . . فلم أكد أبلغ الأرض وأنا أتلمس موضي كالعميان حتى انطلق عنين صاخب خلف الجدار عن يمين زنزانتي جعل بدني ينتفض كالملسوع ، لكنني سرعان ما أدركت أنه صوت جهاز التكييف المركزي الذي لم يلبث أن توقف بعد خمس دقائق كما بدأ فعم السكون المكان من جديد ، ثم عاد فانطلق بعنينه الهادر مرة أخرى فكأنما هو وحش سجين يشتكي عنت السجن مثلي ، وبقي الهدير على هذه الدورة المتناوبة يطرق أذني تارة بعد أخرى فكأنه في كل دورة له يخرز فيهما خرزا . . حتى بت لا أكاد أسمع إلا الطنين ، ووجدتني بذلك ومع عتمة الزنزانة وكأنما فقدت الحواس ، فعدت إلى ما يشبه الإغماء ، ولم أصح إلا صباح اليوم التالي على تكبيرات العيد !


تكبيرات العيد من زنزانة رياض الترك!

كانت التكبيرات تنطلق من جهاز راديو جلس جاري في الزنزانة المقابلة الزعيم الشيوعي المعارض رياض الترك يستمع إليه ضمن بعض الإستثناء ات التي نالها في منفردته التي أمضى فيها أكثر من عشر سنين ! كان الممر الذي تقع فيه زنزانتي يضم أربع منفردات كل اثنتين منهما تقابلان الإثنتين الأ خريين ، فكانت زنزانتي الأ ولى من اليسار ، ومجاورتي التي تليها فارغة ، وفي مقابلها كانت زنزانة رياض الترك ، بينما كانت الزنزانة التي في مقابل زنزانتي فارغة في البداية ثم أتوا بعدها بشاب وضعوه فيها ، ولم أره إلا مرة واحدة عندما كان باب زنزانتي مفتوحا للتنفس وأتوا بقصعة الطعام له فمد رأسه ليأخذه ، ولم أعلم أي شيء عنه إلا أنه كان يطلب الخروج للوضوء . وأما رياض الترك فكانت له بعض الميزات عن السجناء الآخرين ، فبين حين وآخر كانت تأتيه زيارات من الخارج ، كما سمحوا له بإحضار الراديو ، وبطهي بعض الطعام لنفسه ، وكثيرا ما كان العناصر يجلسون عنده ليطبخ لهم أو يأخذونه ليجلي لهم الصحون ! وبعد مدة جعل رياض الترك كلما طبخ طبخة سكب لي لقيمات منها ، لكنني لم أكن اكلها وأعيدها مع العنصر إليه . كذلك كان يرسل لي محارم وشايا وأشياء مشابهة . وفي إحدى المرات التي كان باب زنزانتي فيها مفتوحا رأيته وكأنما طلب من العنصر أن يراني فأذن له ، فذهب وعاد مرتين من أمامي استطعت خلالها أن ألمحه لمحا لكنه لم يقل أي شيء . . ولأنه كان صباح العيد فقد انطلقت التكبيرات من الراديو فصحوت عليها . . لكن البشريات التي يحملها العيد للناس انقلبت حسرات في قلبي وضيقا وكآبة ، ووجدتني أنخرط في البكاء دون إرادة مني . . الناس في الخارج تعيش بهجة العيد وكل هؤلاء الذين في السجن لا يحسون للعيد وجودا ولا معنى . . ولا يعرفون حتى الليل من النهار وما هي إلا برهة حتى فتح الباب علي ووجدت عنصرا اخر قصير القامة طويل الشاربين لا يبعث شكله على الإرتياح ابتدرني بالسؤال : -أنت ما اسمك ؟ قلت له : لماذا ؟ قال : أريد أن أعرف لأن واحدة كانت هنا تشبهك كثيرا . . ربما هي أنت ! هل سبق لك وأتيت إلى هنا ؟ قلت له : لا . وكانت رفيقتي ابتسام التي أحضروها إلى قطنا قبل شهور قليلة قد مرت على هذا السجن من قبل فرجحت أنه يقصدها ، ولما سألته عن اسمها تأكد ذلك ، فسالنى من جديد : - وما اسمك أنت ؟ قلت له وقد أحسست أنه يريد أن يتسلى بي وحسب : - وماذا يلزمك اسمي ؟ إذا أردت فاذهب وانظر إليه عندكم . فلم يلبث وأن غاب قليلا ثم عاد ففتح الباب ثانية لأجد أمامي المقدم عمر مدير السجن الذي أحضرني وحوله عناصر بيد أحدهم طبق فيه برغل ، أدناه من الأرض فدفعه المقدم برجله نحوي وهو يقول لي : -وقفي على حيلك . قلت له :لا أستطيع . . فقال : ما اسمك ؟ أجبته : ألم تأخذه بالأمس ؟ قال : جاوبيني . . ما أوقحك . وجعل يشتمني ويصيح في ، فتملكني الغضب وصحت فيه : - هل لي أن أعرف لماذا وضعتموني هنا. قال : بكره بتعرفي من نفسك. قلت له :لكنني لم أفعل شيئا. قال ببرود : إن لم تفعلي شيئا غدا يخرجوك. قلت له راجية : قل لي فقط ما هي تهمتي . . وإلى متى سأبقى هنا . . كنت أحس أنني سأجن فعلا إذا بقيت هنا . . وجاء جوابه ليعمق في هذا الشعور . . فقال وهو يغلق الباب علي :ألا تعرفي حالك أنك مجرمة . ومضى ليكمل جولة التعييد على بقية السجناء في الوقت الذي أحسست أنني على حافة الإنهيار تماما ، ولم أجد من سلوى إلا أن أنفجر بالبكاء في عتمة هذا القبر الكئيب ، وأتجه إلى الله بقلبي أتطلع إلى فرجه الكريم . ولم تمض دقائق إلا والباب يطرق من جديد . . وأطل على عنصر اخر يقول لي هامسا : لا تخافي يا أختي فأنا مثل أخيك . . قولي لي . . كم تريدينني أن أفتح لك الباب ؟ قلت وأنا لا أكاد أصدق : لو كان اختياري لقلت طول الوقت . . فأنا على هذه الحالة لا أستطيع أن أتنفس ، والمكيف الذي يعن طوال اليوم بجانب رأسي لا يصلني من هوائه شيء . فقال لي : كرمال عينك راح أفتح لك الباب طول الليل ، لكن لو سألك أي أحد لا تقولي من فتحه . ثم أعطاني ليرة معدنية وقال لي : خذي هذه الليرة ، واذا احتجت أي شيء وقت دفعتي فلا تدقي إلا دقة واحدة بها على الباب أكون موجودا بعدها عندك ومضى هذا السجان الذي سأدعوه هنا (س) وترك باب الزنزا نة مفتوحا علي ، فكأنما هي طاقة فتحت بين رحمة الله وبيني ، وصار "س " يطل علي في كل نوباته فيفتح لي الباب ويسالنى عن احتياجاتي ، ولم يلبث أن جعل يحضر لي زجاجات حليب يوزعونها على العناصر فيضعها عند طرف الباب ويذهب ، فصرت لا أطلب شيئا من أحد غيره أبدا ، وعندما يحين وقت نوبته أدق الدقة كما قال لي فيأتي وأخبره إن كنت أريد الحمام أو الطعام . . ولما أحسست بالفعل أنه ادمي وأمين رجوته مرة أن يحضر لي مشطا وقصاصة أظافر ، فسالنى : -ألا يوجد معك مشط ؟ قلت له :أخذوه مني . فقال لي قدمي كتابا للمقدم . فلما قدمت الكتاب وجدتهم يحضرون لي مشطا اخر كأنه من قذارته قد تمشط به كل المساجين قبلي . . ولكثرة الوسخ المحشو بين أسنانه لم أتمكن من تنظيفه بأي وسيلة . . فلما تقدمت بطلب اخرأتاني الجواب بالمنع ، لكن حوالي عشرة أيام كانت قد مضت علي وقتذاك وأنا لا أستطيع في هذا المكان الإغتسال أو حتى تمشيط شعري المغطى طوال الليل والنهار تحت الحجاب حتى خشيت أن أصالب بالقمل بالفعل ، فوجدتني أتجرأ وأسأل "س " عن الإغتسال وأرجوه أن يحضر لي مشطا وقصاصة أظافر معه ، فتأسف لي في البداية واعتذر بأن ذلك الطلب ممنوع ، لكنه ذهب بعدها وأحضر لي على مسؤوليته مشطا رجاليا صغيرا من عند رياض الترك وقراضة الأظافر التي طلبت ، وأحضر لي صابونة أيضا وشحاطة بلاستيك . . وحوالي الثانية ليلا وجدته يطرق علي الباب ويسالنى أن أتبعه إلى الحمام التي كانت في منتصف ممر طويل يحتوي كله على زنزانات ومهاجع متتالية ، فأحست وهو يأخذني والسكون يغمر المكان بالرهبة والرعب ، فلما بلغنا الحمام وجدت على بابه عنصرا اخر اسمه ياسين أمره "س " أن يجلس على الباب فيغلقه من الخارج ولا يترك أي إنسان يدخل إليه . ولما دخلت الباب الحديدي وجدت مجموعة مغاسل وتواليتات تليها مقاسم لثلاثة حمامات لها أبواب ولكنها مرفوعة عن الأرض أيضا . . فلما دخلت أحسست بقلبي أن هذا العنصر سيتبعني فلم أخلع ثيابي ، ولم ألبث وأن سمعت حسيس خطوات تتقدم نحوي ، فلما نظرت أسفل الباب رأيت حذاءه بالفعل ، ففتحت بسرعة وجريت خارج المكان كله إلى الممر وهو يناديني : -أين . . إلى أين ؟ قلت له وأنا أصيح : - أريد رئيس السجن حالا . . ماذا تفعل أنت هنا يا قليل الأدب . . فجعل يجري ورائي ويناديني لأرجع ويقول : - تعالي . . أنت الآن تخالفين نظام السجن . . قلت له وأنا أرفع صوتي أكثر وأتجه نحو زنزانتي : أحضر لي مدير السجن حتى لا أخالف النظام فيه . وكأنما سمع "س " الصوت فحضر يسأل ماذا حدث ، فلما أخبرته صاح فيه بغضب : - بدل أن تحرسها كما قلت لك عملت هذا العمل يا حقير . . واتجه إلي يعتذر ويقول : - إمسحيها بذقني هذه المرة يا أختي وعودي فتحممي . . وأعادني من جديد فدخلت وأقفلت الباب من الداخل وبقيت قرابة الساعة لا أجرؤ أن أخلع ثيابي ، حتى إذا أحسست بالإطمئنان وتأكد لي أن لا أحد هناك فتحت الماء علي ، فلما انتهيت وخرجت وجدت ياسين هذا مكانه على الكرسي ، ورأيته ينظر إلي من جديد ويقول بكل وقاحة : - ألا تريدين رؤية هذا الوجه الحلو بالمراة . . إذا أردت أنا معي واحد ة . أجبته باحتقار: الله لا يعطيك العافية. ولم يكن أمامي إلا أن أعود إلى منفردتي تتعاقب علي الأيام من غير أن أدري سببا لوجودي هناك أو نهاية لحالي . وبعد حوالي عشرة أيام من وصولي وفي ظهيرة يوم اشتد فيه الحر في القبو وازدحمت الأ نفاس وأطبقت علينا رائحة العفونة مختلطة بالعرق وبالأنفاس حضر المقدم عمر فناداني ووضع الطماشة على عيني ثانية وكلبشني إلى الوراء وجعل يقودني بين المتاهات هناك فأحسست أنه خنقني ، فلما سألته أن يمنحني فرصة أتنفس فيها من غير هذه العصابة لأنني أكاد أختنق بالفعل قال لي : -حتى لو مت بحق فلن أرفعها لك . . هكذا يقول النظام ! ثم أخذني إلى رئيس الفرع كمال يوسف مرة ثانية معصوبة ومكبلة ، لكن ذاك لم يزد عن أن سالنى : -هل لديك شيء تقولينه ؟ قلت باستغراب : لا . . لماذا . فقال له من غيرأن يأبه لسؤالي : خذها . . وأعادوني إلى المنفردة كما جئت لأكمل فيها عشرين يوما لا أرى فيها الشمس ولا القمر . . ولا أعرف الليل من النهار ولا الصباح من المساء إلا من تبدل الحرس ومن صوت إذاعة لندن التي تبلغنى من زنزانة رياض الترك عصر كل يوم !


عسر ويسر

وتظل رحمة الله أكبر وأوسع ، فما هي أيام حتى أرسل سبحانه إلي مجندا اخر في النوبة الثانية يؤدي خدمته العسكرية ، صار يعاملني بشكل جيد أيضا ويحضر لي أشياء خاصة ويسمح لي بالخروج إلى الحمام مرات أكثر لأغسل وأشرب . . وعندما أخبرته أن التكييف في زنزانتي لا يعمل ذهب وأصلحه حتى اشتغل اخر الأمر ، وكان عندما أخرج إلى الحمام في نوبته يأتي بسجين اخر ليمسح لي المنفردة وينظفها وينفض لي البطانيات ويرتب الزنزانة لي قدرالمستطاع . لكن هذه النماذج كانت الإستثناء في هذا المكان الظالم أهله ، وكان سوء الخلق وانعدام المروءة والكرامة والأدب هو الأصل الأصيل . . فالعناصر دائما يحملون عصيا أو خيزرانات أو كابلات ، وكان المقدم عمر يحمل كلبشات وطماشات باستمرار ، لكنني لم أكن أسمع أصوات تعذيب هناك لأن غرفة التحقيق كانت كما يبدو بعيدة . وفي إحدىالمرات جاءني عنصر من هؤلاء ببقايا صندويتشة فلافل أكل أكثرهاوأبقى الجزء الأخيرلي . . فجاءيقول لي : - ألست جائعة ؟ قلت : لا . . لكن وقبل أن تسالمني هذا السؤال أريد أن أسألك أنا إلى متى سأبقى أنا جالسة هنا؟ قال : والله لا أعرف . . هذه ليست شغلتنا . قلت له : طيب . . حسبي الله . لكنه بدل أن ينصرف تقدم فجلس القرفصاء أمامي وهو يرتدي جلابية بيضاء رقيقة تكشف مظهره المقرف وقال لي : - هل تحبين أن تخرجي إذا أراد أحد أن يخرجك ؟ قلت له : لا . قال : عجيب . . لم أرأحدا يحب قعدة السجن غيرك . قلت له : الحمدلله . قال : لكن والله أنا مستغرب . . لماذا أحضروك إلى هنا بعد خمس سنوات من اعتقالك . . ألم تعرفي السبب ؟ قلت له : لا ،لم أعرف ، هكذا كتب الله . فقال لي : طيب إذا أخرجوك الآن . . أنت والله مثل أختي وأنا أعيش لوحدي عسكري . . وأنت تعرفي حياة العسكري . . مستأجر غرفتين بالمهاجرين ، أعطيك غرفة لك وأنام أنا في الغرفة الأخرى . قلت له أنتهره وقد بدا لي أنه يتمادى : وما هي المناسبة؟ قال : حسبما دريت أنه لا أحد لك . قلت له : ومن قال لك ؟ قال : أهلك قتلوا بأحداث حماة . قلت له : وإذا لم يكن للواحد أهل أما له الله ؟ أنا لي الله . . فقال لي وكأنما التأم مني لأني لا أسايره : يعني ما بتحبي تطلعي . قلت له : لا . فخرج وأغلق باب المنفردة علي وجعل يلعب بزر الضوء الذي ينير الكوة في زنزانتي حتى أحرقه ، فأحسست أن في نيته أن يطفئ الضوء علي ليدخل في العتمة . ووقتها كانوا قد أعطوني وجبة الطعام في طبق من بلاستيك ميلامين ثقيل الوزن ، فأفرغت الطعام منه وحملته بيدي وصحت : -من هناك . فلم يرد . . وما وجدته إلا وهو يفتح باب المنفردة ببطء ويحاول الإنسلال للداخل . . فطبقته بوجهه بقوة وصحت له : - والله العظيم إذا لم تترك الباب فسأجمع عليك العناصر الموجودة . قال بخبث : ولماذا ؟ أنا أريد أن أدخل وأصلح لك الضوء . قلت له : وما الذي أدراك أن الضوء عندي احترق ؟ بقيت تلعب به حتى حرقته يا سفيه ! وصرت أنادي على "س " وظللت أصيح وأصرخ وأطرق بالصحن الذي بيدي على الباب حتى حضر وعدد اخر من العناصر يسألونني ماذا حدث . . قلت : - هذا الحقير ظل يلعب بالضوء حتى حرقه وقال يريد أن يدخل بعدها في العتمة ليرى ما حدث . فأخذوه عني وهم لا يكتمون شتائمهم له ، لكنهم ذهبوا في نفس الوقت إلى الزنزا نة المقابلة وأخذوا اللمبة منها فركبوها لي ، وتركوا ذاك السجين المسكين هناك في الظلام !


وساطة فاشلة

وفي نفس ذلك اليوم كانوا قد أخرجوا كل بطانيات الفرع ليعقمونها لا أدري أين ثم أعادوها إلى الممر ليوزعونها على السجناء من جديد ، فجاءني أحد العناصر المناوبة وقال لي : - سأخرجك الان لتختاري البطانيات التي تريدينها . وبعد أن أخذتها وعدت لحق بي وناداني : -أريد أن أقول لك شيئا . . إن شاء الله ستخرجي قريبا لأنهم لا يأتون بأحد هنا إلا إذا كان على وشك الخروج ، وأنت حسبما علمت أتتك واسطة وسيفرجون عنك . قلت له :إن شاء الله . قال : لكن لا تقولي لأحد لإنهم إذا دروا أنني أخبرتك والله بيخربوا بيتى . قلت له : الله يجزيك الخير . فلما انصرف وانتهت نوبته وحل الصباح حضر عنصر اخر كبير الشاربين جاحظ العينين قصير القامة اعتدت مشاهدته بين حين وآخر بين بقية العناصر فأنفر من مرآه ، ووجدته ومن غير استئذان ولا إعلام يفتح الباب علي ويسالني : - لماذا تبكين ؟ قلت وقد أربكتني المفاجأة : - ماذا ؟ أنا لا أبكي . . ثم كيف تفتح علي الباب من غيرأن تعطيني خبرا بذلك ! قال : كنت مارا من هنا فأردت أن أرى إن كان أحد قد ضايقك ! أجبت : لا شكرا ، ولو سمحت أغلق الباب فأنا لا أريد رؤية أحد . فقال وهو يدنو مني خطوة بعد خطوة : - لا والله أنا حابب أطمئن عليك . . والله أنا قلبي مشغول عليك . . كنت جالسة وقتها في زاوية الزنزانة متكومة على نفسي ، فلما أحسست بنيته العاطلة نهضت بسرعة أريد أن أقفل الباب ، لكنه أمسك بيدي يريد أن يتمادى ، فاستجمعت نفسي ودفعته وأطبقت الباب في وجهه وأنا أصيح : -إذا لم تخرج فسأجمع عليك أهل السجن جميعا . . فانصرف لبرهة لم تكن كافية حتى لالتقاط أنفاسي ، ولم يلبث أن عاد يقول لي : - هيا جهزي نفسك والبسي . . هذا آخر يوم لك هنا . . سيفرجون اليوم عنك . فجمعت ما لدي من أغراض وكنت بطبيعة الحال لا أملك إلا الملابس التي علي ، ولما خطوت خارج الزنزانة لم أجده إلا خلفي بين الجدار وبيني يحاول أن يحيط رأسي بذراعيه ، فانتفضت برعب وغضب ودفعته عني بقوة وركضت إلى الأمام وأنا أشتمه وأحقره وهو لا يبالي يقول لي ببلاهة : - والله كنت حابب أشرب معاك كاسة شاي . . والله لهلقا سخنة إذا بتحبي . فلما دنونا من أحد الأ بواب دفعني إلى الداخل ومضى ، وهناك وجدت عنصرا اخر برتبة مساعد اسمه جلال أجلسني وقال لي : - هناك واسطة أتتك من التحقيق العسكري للإفراج عنك لكن فرع أمن الدولة الذي اعتقلك مانع . . ولذلك فسوف نعيدك الان إلى قطنا. ومن غير أن أجيب بكلمة واحدة نادى عنصرا آخر أعادنى إلى الغرفة الأولى التي وضعوني فيها أول ما وصلت القبو . . وبقيت هناك من الظهر إلى قرابة العاشرة أو الحادية عشرة ليلا ، أخرجوني اخر الأمر فسلموني أماناتي وأركبوني السيارة إلى قطنا . . والذي يبدو أنهم كانوا ينوون الإفراج عني بالفعل ضمن مخططهم ، فلما أحسوا أنه سيفشل ألغوا الفكرة وأعادوني من حيث أتيت.


إشاعات المغرضين

عدت إلى قطنا كما جئت بسيارة تنهب الأرض نهبا في ظلمة الليل وتكاد تفترس العابرين في جريانها الأرعن ، فلما وصلنا وسلموني للشرطة هناك أحست رفيقاتي بوصولي فعلا صراخهن وارتفعت زغاريدهن وتسلقن الشبابيك والأ بواب مقفلة عليهن - كالعصافير يتقافزن فوق بعضهن البعض ، ولم يهدأن حتى هددهن الشرطي بأخذي إلى مكان اخر إن لم يستجيبوا ، فنزلن يتطلعن إلي بشوق ومحبة ، فلما أدخلني السور صرن ينادينني من كلا المهجعين : - تعالي هنا . . تعالي إلينا . . وأخذن في كل مهجع يسألن الشرطي أن يفتح لهن أولا ليستقبلنني ، فلم يجد إلا أن يفتح المهجعين اخر الأمر معا ، وتركنا نجتمع ليلتها في واحد من اللقاء ات الجميلة التي لا أنساها أبدا . . ولا أزال أذكر كيف اندفع معقل وسمية نحوي وركضا مع البنات لاستقبالي وقد أخذا حفاضتيهما ووضعاها على رأسيهما مثلما فعلت البنات بحجاباتهن وركضا يستقبلانني بالأحضان والقبلات ! ولم ينغص علي فرحة اللقاء إلا ما سمعته من أن أميرة زركلي والسجانة أم جميل التي كانت دائبة الإساءة لنا قد أشاعتا بعد مغادرتي بأنني أدنت بالإتصال مع الإخوان من داخل السجن وبتلقي رسائل ونقودا منهم . . ولذلك كانت البنات في غاية القلق علي طوال هذه المدة ، ولم يصدقن أنني سأعود إليهن من جديد . . لكنني عدت بمشيئة الله .


البقره الزرقاء !

عدت إلى قطنا حيث تخف المعاناة مقارنة بالسجن الذي أتيت منه ولكنها لا تنتهي . . ولم يجدد من رتابة حياتنا المملة إلا حدث الإفراج عن دفعة أخرى من السجينات كن أم معقل وأم هيثم وأم عبد الباسط وابنتها عائدة . . ثم لم تلبث وأن لحقت بهن أم خالد وأم زهير بعد عدة أشهر . . وكان الإفراج عنهن جميعا بنفس الطريقة والترتيب ، فقد قرأوا أسماءهن عند الصباح وأعطوهن فرصة ليجمعن حاجياتهن ، ثم أخذوهن إلى التحقيق العسكري ليفرج عنهن من هناك . . وكان منظرا مؤثرا بالفعل خروج معقل الذي ولد في المعتقل وشب وترعرع فيه حتى قارب من العمر خمس سنين ! ولا أزال أذكر حين غادر حدود السجن لأول مرة عندما أخرجه أخي غسان في إحدى زياراته بإذن من مدير السجن ، فلما عاد جعل يحكي لأمه مشاهداته الأولى في عالم الإنسان الطبيعى ويقول لها بانفعال : " - ماما . . ماما . . أنا رأيت واحدا يمشي على أربع أرجل . . فلما سألت أخي عما يعنيه قال لي ضاحكا : لقد رأى الحمار ! وقال لي أنه وضع رجله على الأرض ليمشي فتحركت حجرة تحت رجله فغشي في البكاء ! وعندما أراد مدير السجن أن يحرك دراجته النارية خاف واضطرب والتصق بأخى كأنما يستغيث به ! - وفي المرة الثانية وعندما بلغ ثلاث سنوات أرسلوه إلى الضيعة عند بيت جده حتى يتأقلم قليلا مع الناس ويرى إخوته ، لكنهم ومن كثرة ما رأورا منه لم يصدقوا كيف أعادوه ! ولقد روت جدته أنه كان يتناول الأحجار فيرمي بها إخوته ويشج رؤوسهم وهو لا يدرك أن الحجارة يمكن أن تؤذي ! ولما ساكناه عم رأى هناك قال : -رأيت بقرة زرقاء بتبش حليب ! وفهمنا بعد الشرح والإستقصاء أنه شاهد كيف تحلب البقرة فظنها تبول حليبا ، ولعدم معرفته بالألوان ظنها زرقاء ! ومثلما كان وداع معقل مؤثرا فقد كان استقباله بعد بضعة أشهر حينيما أتى في زيارة مع والدته مؤثرا أيضا . . فلقد تجمعت البنات حوله ينتظرن أن يسمعن منه كلمته الأثيرة "طظ أسد . . " لكن أمه بادرت وسألته لتسمعنا الفارق وترينا أثر الحرية عليه : قل لهم حبيبي ماذا تعلمت في المدرسة . فجعل مقبل الذي أنفق سنوات عمره الخمس الأولى وراء القضبان بسبب هذا النظام الظالم يسمعنا أغنيات المديح والتمجيد للثورة وللقائد الأسد  ! ولقد روت لنا أمه أنها لما أخبرته عن زيارتنا أخذ يبكي . . فلما سألته عن السبب قال لها : الان أبو مصطفى يدخلني المهجع ويقفل علي . ولم يدخل مقبل علينا إلا بثق الأنفس رغم تطمينات أمه وأبي مصطفى نفسه ، وعندما صار بيننا جعل وقد ذاق بعض معاني الحرية في الخارج يوزع علينا نظرات التحسر والأسف ، ولا يكف عن مراقبة الباب خشية أن يغلق عليه من جديد !


الفصل الخامس : سجن دوما .. معركة مع الزمن (نوفمبر1985 - أكتوبر 1989)

سجن دوما ، معركة مع الزمن

مرت أسابيع أخر ونحن في قطنا نمضغ الأيام ونزدرد الأسى . . ونحس كلما تطاول العهد وتباعد الزمان أنها رحلة إلى النهاية ليس عنها من فكاك ! وبرغم الأنباء التي كانت بدأت تتسرب إلينا من قبل عن نية نقلنا إلى سجن آخر . . ورغم إشارات من بعض مسئولي السجن لنا بتخفيف الأغراض والإستعداد لرحيل قريب ، إلا أننا وكأننا ألغينا كلمات الإفراج والخلاص وحتى الإنتقال من قواميسنا . . وبتنا نعيش يومنا وحسب في هذا القمقم الذي ضاق حتى بالأنفاس ! لكننا وفي صباح تشريني بارد وجدنا مدير السجن ومجموعة من الشرطة معه يدخلون من غير مقدمات علينا ويقولون لنا جهزوا أنفسكن للنقل صباح الغد ! كان السؤال الأول الذي قفز إلى أذهاننا : إلى أين ؟ فلما بلغنا الجواب : إلى سجن دوما المدني حضر بداهة إلينا السؤال التالي : لماذا ؟ وكانت الإجابة حينها بأن السجن هنا ضاق بنزيلاته ، وأن الحكومة انتهت من بناء سجن جديد في "عدرا" فنقلوا سجناء دوما إليه لينقلونا إلى هناك ويحولوا قطنا إلى مجرد مخفر . لكن إشاعة سرت وقتذاك - ولكنني لم أدر بها إلا بعد الإفراج عنا روجت بأن النقل كان بسببي أنا ! وأن أخبارا تسربت عن اعتزام اخوتي القدوم واختطافي من السجن ، وأن زوجة أخي غسان علمت بذلك وأخبرتهم فقاموا بنقلنا بناء على ذلك إ! ولم أفاجأ حينما سمعت القصة حينها لأنني كنت قد وجدت من زوجة أخي ما يؤكد تعاملها مع المخابرات . . مثلما وجدت عددا غيرها من الأقارب وأبناء البلد تحولوا إلى صف النظام وجندوا أنفسهم جواسيس لديه طمعا بمكاسب رخيصة ينالونها أو خوفا من مشاكل ومتاعب قد يواجهونها إ! وعلى كل حال تم الإشعار بالنقل ، ووجدتنا نهرع لنلملم ما تكدس لدينا من متاع وحاجيات . . وفي صباح اليوم التالي انتشر الحرس على الأسطحة وتوزعوا على المداخل والأ بواب . . وتقدمت شاحنة كبيرة في البداية لنقل الأمتعة والأكياس وغالونات الكاز التي كنا قد اشتريناها لنملأ بها وقود الحمام . . حتى إذا امتلأت الشاحنة وكادت أن تفيض تحركت باتجاه منزلنا الجديد ، أخرجونا بعدها اثنتين اثنتين فكبلونا وأصعدونا واحدا من باصات النقل الداخلي ، وصعدت مجموعة من الشرطة المسلحين فجلسوا عند البابين الأمامي والخلفي ، ومضوا بنا قرابة العشرين سجينة نحو دوما من طريق خارج المدينة ، تتقدمنا سيارة شرطة وتتبعنا اثنتان أخريان للحماية والحراسة . . وزاد من كآبة الحال الغيوم الداكنة التي كست السماء يومها فحجبت الشمس وأحالت الدنيا من حولنا كئيبة مظلمة . . وعندما وصلنا اخر الأمر كنا متعبين جدا وجائعين وقلقين . . ووجدناهم وقد ألقوا أمتعتنا في ساحة السجن فاختلط منها وتداخل قدر ما تكسر أو فقد ! وكان أكثر السرقات وضوحا جالونات الوقود التي كانت عزيزة علينا لأننا لم نحصل عليهم إلا بشق الأنفس . . وعندما طالبنا الشرطة بها نفوا مسؤوليتهم عنها وتلعثموا في الإجابة . . ووعد بعضهم بالمساعدة في استرجاع بعض منها ولكن شيئا لم يرجع . . ووجدتنا من ثم نقاد إلى منزلنا الجديد ، فأعطونا مهجعين للسياسيات دب الخلاف كالعادة حول التوزع عليهما وتقاسم الأماكن فيهما رغم أن ذلك تقرر من إدارة السجن قبل أن نحضر !


إضراب جديد

كان سجن دوما أشبه ما يكون في بنائه بالبيوت العربية القديمة . . فالجدران الحجرية وبركة الماء في منتصف الباحة تحيطها أحواض الزراعة من كل جوانبها . . وطريقة بناء الغرف نفسها كلها تقول ذلك . . وعدا عن مطبخ وحمام وغرفة طبابة وأخرى لبيع الحاجيات الرئيسية كنا نسميها ندوة السجن . . واضافة إلى ثلاث غرف صغيرة كانت تستعمل كزنزانات منفردة ، كانت ثمة ست مهاجع رئيسيه : الأول من اليمين لمتهمات الدعارة ، والثاني بعده للقتل ، والأول من اليسار للحشيش ، تليه غرفة القتل والسرقة ، وبينهما غرفة كانت لمحو الأمية ثم ألغي هذا البرنامج فتحولت إلى غرفة عامة . وفي صدارة البناء كان مهجعا السجينات السياسيات وجدت مكاني في المهجع الأيسر منهما ، وهو بناء طويل وضيق بعض الشيء ، ترتفع فيه مصطبتان عن اليمين والشمال تتوزع الفرش فوقهما بانتظام ، وبينهما ممر على ضفتيه خزائن صغيرة تحت المصطبتين خصصت لاستيعاب حاجيات كل شخص من النزيلات .


مخبرة كل العهود !

كان ثمة مفاجأة تنتظرنا في دوما ، ففي أواخر أيام قطنا تم نقل المقدم موفق السمان بسبب تقرير مغرض اتهمه بالتعاون مع الإخوان  ! فلما وصلنا دوما وجدنا الشخص نفسه هناك ، لكن استئناسنا لم يطل ، واستبشارنا انحل مكانه ، فالمقدم مدير السجن الذي يليه وهو درزي من عائلة السبع أذاقنا السم بالفعل ! فلم يمض الأسبوع الأول على وصولنا حتى أصدرمجموعة قرارات صارمة حرمتنا من كثير من الحقوق المهمة التي اكتسبناها من قبل . . ففي البداية وبينما كنا خارج مهاجعنا وقت التنفس حضر المقدم السبع وأمرنا أن نخرج إلى الساحة كل ما لدينا من مواقد غاز لأنها ممنوعة ، ولأننا لا نستطيع إلا الإمتثال فقد أخرجنا ما طلب ولكننا رفضنا دخول المهاجع احتجاجا على القرار . . وبعد مداولات لم تطل سمح لنا بإعادة المواقد ، لكنه وبعد أيام قليلة قام أثناء وجودنا في المهجع بجولة تفتيشية مفاجئة صادر عناصر الشرطة خلالها مواقدنا وكل الأدوات المعدنية والزجاجية التي لدينا بعدما أحكموا إقفال الأ بواب علينا ير لا نعاود الإعتصام في الخارج . . فلم نجد بدا إلا أن نرسل كتابا من خلال إحدى السجانات لرئيس السجن المقدم موفق السمان نخبره بالأمر . . فتدخل المقدم وأعاد لنا الأغراض . . لكن المقدم السبع لم يتوقف عن مساعيه في التضييق علينا . . ووجد في أميرة زركلي - مخبرة كل العهود خير معين له على نبش أسرارنا ورصد تحركاتنا ، وما هي إلا أيام حتى فاجأنا بقرار أقسى وأغرب ، فأمر بمنع الزيارات عن اللاتي لم تصدر أحكام بحقهن من "المحكمة الميدانية" . . وكانت أكثرية السجينات واقع الحال تجهلن أحكامهن رغم مرورهن على المحكمة التي اعتبرت أحكامها سرية ! وسرعان ما سرت فينا روح المقاومة من جديد ، وقررنا بالإتفاق أن تبدأ المتضررات إضرابا عن الطعام حتى يتراجع عن هذا القرار ، فبلغ عدد المضربات حوالي العشرين كن جميعا من المسجلات تحت اسم الإخوان هذه المرة ، لأن الزيارات لم تمنع عن الشيوعيات بالأصل رغم أنهن لم تكن محكومات . . وأما نحن اللاتي نعلم أحكامنا فلم نشاركهن الإضراب بالإتفاق فيما بيننا حتى لا يمنع زياراتنا أيضا ويقفل الباب الذي كنا نتصل نحن وهن جميعا بأهالينا عبره . . لكنه رغم ذلك أصدر أمرا بمنعنا من الإقتراب من الشباك أثناء الزيارات حتى لا نوصل الخبر للخارج . . واستمر الإضراب واحدا أو إثنين وعشرين يوما كادت المضربات في أواخرها أن يمتن بالفعل . . وصرنا حينها نحملهن إلى الحمام حملا ونغير لهن ثيابهن وننظف أماكن نومهن وقد فقدن كل مقدرة على الحركة والتنقل . . فتعبنا كما لو كنا مضربات معهن تماما ، خاصة وأننا كنا نأكل أقل القليل وبالسر احتراما لشعورهن . . وصارت منهن من يرتفع ضغطها أو تأتيها حركات عصبية . . فأحضروا طبيب الفرع المخصص للشرطة والضباط بالطبع للكشف الدوري عليهن ، فكنا نحملهن إليه في البطانيات حملا كأنهن قتيلات !


سم ودم!

لم ينقض شهر على ممارسات المقدم السبع الذي لم يكترث بما حصل حتى صدرقرار مفاجىء لم ندر سببا له يقضي بنقله ،لكن فرحتنا لم تتم ومأساتنا معه لم تنته ، فلقد أحضروا مكانه مقدما اسماعيليا من السلمية اسمه عماد لم يكن أقل لؤما منه . . وكان عماد هذا إذا التأم انقلب وجهه إلى لونين : أصفر كالسم وأحمر كالدم ! لكننا وقد فاض بنا الكيل وما عاد لدينا جلد على احتمال الظلم قررنا التصدي له أيضا ، ويبدو أنه بطياشته وعنجهيته أراد أن يخضعنا بالطريقة التي اعتادها وأمثاله مع السجينات القضائيات ، فأقبل علينا صباح أحد الأيام وأراد أن يضرب إحدى السجينات من بيننا لتمتثل لأوامره ، فما كان منها إلا أن ردت عليه بصفعه على وجهه جعلته يرتد مبهونا وقد تهاوى انتفاخه الزائف . . وصار يهددها بالجزاء وبالعقوبات ، فقمنا كلنا عليه نقول له إن هذا ليس بحقك ولا بصلاحياتك . . وهذا القرار بمنع الزيارات كله من عندك . . وعندما أسقط من يده وأحس خطورة ما يجري وقد شارفت بعض المضربات على الموت بالفعل وعد أن يكتب إلى إدارة المخابرات ليطلب الأحكام ويتحقق من وضعنا ، لكن الأهالي كانوا أسرع بالإتصال معهم والحصول على أذونات بالزيارة ، فأنهت المضربات إضرا بهن ، وخفت الضغوط والقيود بعض الشيء وإن لم تنته ، ولكنه استمر يضايقنا أيام الزيارات ولا يسمح للأهالي بالدخول إلا بعد أن تدنو الساعة من الثانية أو الثالثة . . ولقد حدثتنا أم ماجدة فيما بعد أنها كم وكم قبلت الأرض على باب السجن تقول له أو لمسؤول الزيارات : دعني أقبل رجلك وأدخل هذه الأغراض لابنتي فقط . . فيرفض . . فإذا أسقط في يدها كتبت ورقة صغيرة تطمئن ابنتها فيها ببضع كلمات وترجوه أن يوصلها لها ، فكان يأخذها ويمزقها أمامها ويطؤها بقدميه أمامها دونما رحمة !


من السياسة الى الاقتصاد !

كانت فاتحة الوافدات الجدد علينا في دوما فتاة فلسطينية الأصل في الثلاثينات من عمرها اسمها جميلة البطش ، كانت تدرس في سوريا واتهمت مع مجموعة من تنظيم شيوعي بتفجير الفندق السياحي بحلب وإحدى السفارات بدمشق وبأشياء أخرى . وكان قد ألقي القبض عليها عام 79 وحكمتها محكمة أمن الدولة العليا بالسجن المؤبد . . وبعد أن أمضت قرابة السبع سنوات في سجن المسلمية بحلب نقلت إلى دوما مع بداية انتقالنا عام 86 ولم تخرج إلا بعدنا بسنتين . . وبرغم مشاركتها السجن معنا لأكثر من سنتين إلا أنها كانت تميل إلى العزلة ولا تختلط حتى مع الشيوعيات الأخريات . . وبعد جميلة بأسابيع أحضروا طالبة أدب فرنسي من دمشق اسمها هلال معتقلة بتهمة تخريب الإقتصاد ! فقد كان أبوها كبير صرافي دمشق ولوحق أثناء التضييق على الصرافين فهرب خارج سوريا. . ولم يلبث بعد فترة وأن أرسل سبعة ملايين ليرة ونصف من الأردن وطلب من ابنته أن تعطيها لصراف اخر في دمشق . . فلما ذهبت إلى البيت المطلوب تصادف ذلك مع قيام الإخوان بتوزيع منشورات في المنطقة فظنوها واحدة منهم ، فلما فتشوا سيارتها ووجدوا هذا المبلغ الكبير نسوا الإخوان والمنشورات وأخذوا النقود والسيارة . . ولم يعيدوا لها من ذلك شيئا حتى بعد الإفراج عنها بعد ثلاث سنوات !


رهينة الجبناء !

وتتالت الأيام وحلت علينا ضيفة جديدة هي عزيزة جلود زوجة النقيب إبراهيم اليوسف . . وكانت عزيزة قد اعتقلت أول مرة بعد حادثه المدفعية نالت فيها أشد العذاب ، ثم أفرجوا عنها لتكون طعما يمكنهم من اصطياد زوجها ، فلما لم يصلوا إلى شيء من خلالها أعادوا اعتقالها ثانية فوجدوها حاملا ، فقالوا لها إذا فأنت تعرفين مكان زوجك وتقابلينه ، وكان عمر حميدة يضربها على بطنها وينادي كالممسوس على الجنين يقول له :إنزل . . إنزل واشهد اللهم إني بعثي ! لكن الله حفظ لها الطفل وعادوا فأفرجوا عنها بعد أن سجنوها في ثكنة هنانو وعذبوها هناك أيضا . . وعندما خرجت وضعت مولودها اسماعيل قبل أن يعتقلوها للمرة الأخيرة واسماعيل معها في شهره الأول أو الثاني ، وبقيا معا في المنفردة بسجن المسلمية أربع سنوات . . وهناك ، وعلاوة على معاناة السجن المرة فقد مرت عزيزة بظرف رهيب جعلها تعيش كابوسا مرعبا لا مثيل له ، فخلال تلك الفترة حدثت عملية تمرد قام بها بعض السجناء . . فاعتصموا في مهجعهم احتجاجا على التعذيب والإرهاب وسوء المعاملة وأحرقوا فرشهم ورفضوا الإنصياع لأوامر المخابرات بإخلاء المكان . وقتها ظن أولاء أن مجموعة من المسلحين تسللت إلى داخل السجن وقامت بالتمرد فما عادوا يجرؤون على الإقتراب . . فبادروا بخستهم إلى جذب عزيزة من زنزانتها وقدموها كرهينة وصاروا يساوموا الشباب عليها : إذا لم تسلموا أنفسكم فسنقتلها . . فعاشت المسكينة على أعصابها يومين من الرعب كاملين . . أتوا خلالها بقناص قتل المعتصمين أمام عينيها واحدا بعد الآخر حتى أنهوا الموضوع ! وعندما نقلوها من بعد إلى دمشق تمكن أهلها من أخذ إسماعيل معهم ليعيش مع إخوته في بيت والدها طوال الفترة القادمة ، حيث ظل أهل أبيهم كلهم في السجن ! وقد مكثت عزيزة في سجن التحقيق العسكري ثمانية أشهر ثم نقلوها إلى دوما والتقينا معها هناك لنبقى معا حتى الإفراج عنا . . ورغم أنهم تلوا اسمها مع قائمة الذين شملهم العفو فقد نقلوها إلى سجن المسلمية من جديد واحتفظوا بها هناك لمدة سنتين إضافيتين في زنزانة منفردة سيئة جدا تحوطها معاملة أسوأ . . فلم يسمحوا لها في البداية برؤية أحد أبدا من أهلها حتى أصيبت المسكينة بانهيار عصبي . . وبعد فترة طويلة سمحوا لأبنائها فقط بزيارتها وظل الحظر على بقية الأهل قائما . . وكانت عزيزة في قلق دائم على أولادها خاصة بعد تهديدات العميد حسن خليك رئيس اللجنة التي قابلتنا قبل الإفراج ، والذي قال لها بلسان ينفث الحقد والمقت : - ثأر الذين قتلهم زوجك المجرم ما نسى واهل القتلى نار قلوبهم تخمد . . وهم مستعدون في أية لحظة لكي يأخذوا به . . وأضاف يقول لها : أنت يجب ألا تعيشي قريبا من أولادك . . لازم تبقي بعيدا عنهم حتى لا تشربينهم الحقد والإجرام ! ولذلك كانت المسكينة في خوف دائم عليهم من نقمة العلويين وهاجس مستمر أين ستخفيهم . . ولقد سلم الله لها إياهم وأتى اسماعيل فزارنا في دوما مع جده في العيد وقد بلغ سبع أو ثماني سنين ، وكان ما شاء الله ذكيا جدا . . وعندما أدخلناه ووضعنا لهم إفطارا وأردت أن أضع له عيدية بجيبه نظرإلي دامع العينين وقال : - نحن في الخارج نستطيع أن نأتي بنقود ، ولكنكم لا تستطيعون وأنتم هنا أن تأتوا بثيء ! وأقسم ألا يأخذها أبدا إ!


مع الشيوعيات . . في فراش واحد !

كان عدد نزيلات مهجعنا قد وصل إلى قرابة الأربعة والعشرين حينما أصبحنا ذات يوم وحوالي 14 معتقلة من الشيوعيات على الباب . . ومدير السجن يأمرنا أن نستوعبهن معنا . . وأن تقتسم كل سجينة من الإخوان الفراش مع أخرى شيوعية ! . كانت القادمات قد اعتقلن دفعة واحدة بعد انكشاف تنظيمهن وتورطه بالعمل المسلح ضد النظام . . وروت القادمات أنهن أتين من التحقيق العسكري بعد أن ذاقوا هناك العذاب الشديد شبابا وبنات معا ، وروين أن الكثير من المعتقلين معهن أصيبوا بالشلل النصفي نتيجة تعذيبهم على الكرسي الذي يتسبب بعد طي الإنسان بداخله في كسر عموده الفقري . وعلى الرغم من تعاطفنا مع كل سجين وترحيبنا بكل قادم بغض النظر عن اتجاهه أو تنظيمه إلا أن التعايش مع الشيوعيات وقد قارب عددهن الثلاثين وصل إلى نقطة الإستحالة ! فأكثرهن لم يكن ابتداء متعاونات ولا يتورعن عن إظهار العداوة وعدم الإحترام . . ولم يكن يبالين بالطهارة والنجاسة مثلنا ، ولا يعتنين بالنظافة مثلما نفعل ، وكنا حينما نستيقظ لنصلي في الليل لا نستطيع ذلك إلا إذا طوينا فرشتنا وفرشة التي بجانبنا حتى يتسع المكان للإثنتين معا ، فصار ذلك غاية في الصعوبة وهن معنا على فراش واحد ! ولقد حاولنا تحملهن في الليالي الأولى فأعطينا إحداهن فراشا وبت أنا وماجدة في الفراش الاخر ، لكننا وبمرور الأيام لم نعد نحتمل ، وخاصة أن منهن شديدات الوساخة تفوح الرائحة السيئة منهن أنى التفتن أو تقلبن! فاتفقنا معهن اخر الأمر أن نعطيهن قسما من المهجع يتقاسمنه فيما بينهن ونجتمع نحن على بعضنا في القسم الاخر . . فوافقن على ذلك وسررن له جدا، لكن المشاكل كانت تندلى كل مساء حول الأمكنة والفرش التي تأخذ مكان فرش أخرى . . وكنت أنا وماجدة ننتظر إلى الأخير حتى تستقر الأمور وننال ولو جزءا من المكان ننام عليه ، وكثيرا ما كانت المشاكل تتصاعد فتقلب هذه فراش تلك أو ترمي لها أغراضها . . حتى تتدخل الشرطة ولا تنتهي المشكلة برغم ذلك !


( الخلية )!

واستمتعت الشيوعيات بالوضع الجديد ، وصرن يعقدن في هذه المنطقة اجتماعهن الذي يسمينه "الخلية" . . حتى أقلقونا أيامها وصرعونا بماركس ولينين . . وأذكر أنني كنت مريضة مرة بحمى التيفوئيد وتصادف ذلك أثناء اجتماع خليتهن ، وكنت أتأوه من ألمي ولا أستطيع تحمله . . فأحسوا وكأنني أعطل عليهن الإجتماع . . فاقترحت إحداهن وكانت طبيبة متخرجة اسمها تماضر العبد الله أن يعطوني مسكنا . . فوافقت البنات وذهبن إلى الممرض وأحضرن منه إبرة مسكن أخذتها تماضر وحقنتني بها في الوريد مرة واحدة وبشكل سريع ، فوجدتني خلال لحظات أفقد الإحساس بفكي ولا أستطيع تحريكه ولو بكلمة . . ثم غبت عن الوعي و لم اعد احس بشيء فقامت كل البنات من قسمنا عليهإ يشتمونها ويحقرونها وصاحت فيها الحاجه غاضبه لم لم تقولى انك تريدين قتلها من اجل اجتماعكم الملعون ومع الايام ازداد التوتر بيننا وبينهن يزيد فيه ضيق المكان وبؤس الحال وكثيرا ما كانت النقاشات معهن تتطور الى خناقه يختمها وهن يقلن لنا : بكره يااخوان اذا استلمنا الحكم فسنعلق مشانقكم فى وسط دمشق


الحج اليومى

ولقد كان تعليق المشانق اهون ربما من الحياه الرتيبيه الممله بلا هدف ولاأمل ومع ازديادالأعداد ومجاورة الشيوعيات وكثرة التضييق والتشديد من إدارة السجن ومديريه ازداد إحساسنا بنفاذ الصبر فدبت الفوضى واختلطت الأمور وصار اعتياديا قيام المشاحنات وسماع المشاجرات وكان الماء ينقطع أحيانا فلا يصل دور الحمام لواحده منا الا مره فى الشهر وأما الزيارات فكانت لاتمر دوما على خير فإما أن يمنعوا الزياره عن الجميع أو يؤخروا اللقاءات الى آخر الوقت وكثيرا ما كانو يبالغون فى تفتيش الطعام حتى يفسدونه ويمدون أيديهم فيه ويقلبونه حتى تنفر منه النفوس ولقد وصل الامر بنا الى شدة الضجر أن ابتكرنا فى الفتره الأخيره حجا نؤدى مناسكه كل يوم فاتخذنا من البركه وسط الباحه مااعتبرناه الكعبه وحددنا أماكن أخرى حولها للسعى وكنا نندفع كلنا بلا إستثناء صباح كل يوم فنطوف ونسعى ونلبى وفى إحدى المرات دخل علينا عنصر من الشرطه ونحن بهذا الحال فسأل مستغربا ما الذى يجرى فقالت له إحدانا وكلنا منهمكات فىالتلبيه والهروله إننا نحج فقال الرجل محولقا يبدو والله أن نهايتكن جميعا فى مستشفى ابن سيناء للمجانين


ريمى

وإذا كانت ذكريات دوما كباقى السجون التى نزلنا فيها محفوره فى القلب لا تنسى فإن ريمى أحد معالم تلك المرحلة التى لا تغيب عن البال وريمى فى الحقيقة قط أنيس أتى به أهل إحدى القضائيات لها وهو صغير جدا فاشتريناه فكان كأنما أرسله الله لنل رحمة وسلوى فى هذا المكان الموحش وعدا عن متعة اللعب فيه والفرجه عليه والإستئناس بوجوده كان ريمى غاية فى النظافه وفى الذكاء وكنا إذا أردنا غرضا من المهجع الثانى ربطنا له ورقه بما نريد على رقبته وأرسلناه فيذهب ويوصلها للمهجع الثانى ويعود بالطلب وكان أيام الزياره يساعدنا فى نقل الأغرض من مكان استقبال الزولر الى المهجع ينقلها قطعه بعد أخرى بفمه وكثيرا ما كان يوقظنا للتهجد إذا لم نستيقظ وينام عند أقدامنا فى الليل كالحارس الأمين وذات مره حضر قائد شرطة دمشق للتفتيش على السجن فلمح ريمى بيننا فثارت ثائرته لأن الحيوانات ممنوعه فى هذا المكان ونادى أحد العناصر وقال له تضعه فى كيس وتأخذه فترميه خارج دمشق فنفذ الشرطى الأمر وذهب بريمى ونحن فى حزن عليه ولوعة وكأننا فقدنا أخا أو قريبا لكننا وبعد ثلاثة أيام وحسب وجدناه وقت الضحى يعود متسللا الى المهجع وقد اتسخ جلده وساءت حالته فلما رأيناه عمت الفرحه وركضت البنات نحوه وكأنما هو أمهم وأبوهم وبعد خروجنا عادت واحده منهن الى دوما خصيصا وأخذته معها الى حلب.


الفصل السادس : الفرج والإفراج (ديسمبر 1989)

مرت قرابة أربع سنين أخرى انسلخت من أعمارنا دون أن نحس لهن بمعنى أو أثر . . وحل الشتاء من جديد في دوما ونحن لا نكاد نميز بين فصل وفصل أو عام وآخر . . وبينا نحن في حياتنا الرتيبة الخامدة كسر حاجز الصمت ذات يوم من أيام أكتوبر الباردة عام 89نداء مناد على عزيزة جلود وغزوة ك . أن تجمعا حاجياتهما وتستعدان للمغادرة . إلى أين . . ولماذا ؟ وما الذي حصل ؟ لم يجبنا أحد . . فظننا أن تحقيقا جديدا قد فتح أو محكمة ميدانية عادت للعمل وأنهما عائدتان إلينا خلال أيام . . لكن أسبوعا مر دون خبر . . ولم يلبث المنادي أن نادى من جديد على أم حسان وابنتيها سلوى ويسرى . . ومضت بهما سيارة المخابرات ولم تعد أخبارهم تصل إلينا مثل من سبق . .


حلم وبشاره !

كنت في تلك السنوات التي انقضت لا أنفك أرى أمي في المنام حاملا باستمرار وقد حان موعد ولادتها وأتاها الطلق ولا تلد . . لكنني وفي ليلتي تلك رأيتها رحمها الله تطلق ثم تلد . . فلما رويت الرؤيا للحاجة استبشرت بدنو الفرج . . وكان ما قالته سبحان الله . . إذ لم يلبث مدير السجن أن حضر إلى المهجع في الصباح وقرأ أسماء حوالي 12 منا : أنا وماجدة وأم ياسر ولما ورغداء ومنتهى وهالة ونجوى والحاجتين . . وأتبع قراءة الأسماء بكلمة واحدة : إفراج ! لكننا ومن كثرة ما كان يفعل ذلك دائما ويعدنا بالعفو وبالخروج ولا يحدث شيء بعدها لم نتحرك من أماكننا . . وأذكر أنني كنت وماجدة جالستين على طرف البركة نقرأ القران حينما حضر من جديد وهو يصيح فينا : - قوموا بقا . . تحركوا . لكننا لم نحرك ساكنا وقلنا له : -يكفي كذبا علينا . . لا نحتاج هذا المزيد من الكذب ! لكنه أقسم أنه صادق اليوم . . وأرانا قائمة الأسماء مطبوعة في قرار رسمي . . ورغم ذلك فلم نغير من جلستنا ونحن لا نزال نظنه كاذبا . . فقال لنا بانفعال : - سأدخل لكم دورية المخابرات التي أتت لتأخذكم حتى تصدقوني . فلما رأيناهم بالفعل وتحققنا من جدية الخبر هذه المرة انفجرنا بالتكبير الذي اختلطت الزغاريد فيه مع الدموع والنحيب وفرقعة القبلات إ! وتنشطنا جميعا وقمنا نجمع أغراضنا مثلما اتفق . . وأذكر أنني وماجدة جمعنا كل أغراضنا في كيس كبير بلا وعي وسحبناه وراءنا ، فكانت الأشياء تتساقط منه ولا نبالي . . ولا نكاد نستوعب ما يجري ونحن بين التصديق والتكذيب . . وقام السجن كله على سماع الخبر ولم يقعد ، وخرجت كل السجينات القضائيات يهنئننا ويناد ين : - خرجت السياسيات . . وتقدم منا رجال الشرطة وموظفو السجن الطيبون هذا يسألنا عن صحة النبأ . . وذاك يهنؤنا بحرارة ودموعه تجري من الفرحة كالنساء . . ساعة لا يستطيع المرء أن يصف شعوره فيها . . وكأنني لم أعد بوعيي . . ولم أعد أذكر حتى كيف خرجنا إلى السيارة . . أو ماذا كان شكلها . . أو كيف تسلسلت الأحداث . . لكنني لا أنسى كيف لحق بنا القط "ريمي " يبكي والله وتنهمر دموعه وكأنه إنسان ! وأركبونا السيارة في النهاية لنجد أنفسنا أمام بوابة فرع التحقيق العسكري ونحن أشبه ما نكون نسبح في حلم غريب !


نحن هنا !

من بوابة الفرع إلى غرفة الاستعلامات قادنا العناصر ونحن لا نزال مكبلين حتى نسلم أماناتنا ونملأ بيانات القدوم ، ثم أنزلونا إلى القبو عبر الدرج المقيت نفسه ، ووضعونا في مهجع واحد في القسم الشمالي هذه المرة ، وبينما كنا نعبر الممر سمعت البنات اللاتي سبقننا أصواتنا كما يبدو فصرن يضربن على الباب ويقلن لنا: نحن هنا. وقتها لم نعد نأبه بالعناصر الذين كانوا يصيحون فيهن وفينا لنسكت . . وأخذنا نتبادل عبارات الترحيب والشوق والتبريك . . ووجدنا أنفسنا أخيرا في مهجعنا الجديد أربعة عشر سجينة نكاد لا نجد مكانا للنفس . . فقرعنا الباب وقلنا لهم ذلك ، فأجابنا العنصر : - هذا المهجع الذي تقولون أنه لا يتسع لكن كان اتسع قبلكن لاثنين وتسعين شخصا من الشباب ! وكنا لما رفعنا رؤوسنا نستطلع المكان لمحنا في سقف المهجع رغم ارتفاعه الشاهق رسما لمسجد كما اعتاد سجناء الإخوان أن يفعلوا وتحته اسم شخص ما . . واستغربنا وقتها كيف وصل هذا الشخص إلى أعلى وتمكن من رسمه . . فلما أجابنا جوابه ذاك الذي تقشعر له الأبدان قالت له الحاجة مديحة : - الآن فهمنا خيو . . معنى ذلك أنهم كانوا وصلوا إلى السقف فوق بعضهم البعض !


مزاح فقط !

مرت الليلة الأولى والثانية . . والثالثة ونحن نبيت وراء الباب جميعا ننتظر الإفراج كل لحظة ونظنه بات قاب قوسين أو أدنى . . فلما لم ننل إلا السراب وعدنا نتقلب بين التسويف والتجاهل خبت فرحتنا من جديد اين وانتكست أمالنا . . وعادت رتابة نظام السجن تلفنا مرة أخرى زاد عليها أننا عدنا إلى أيدي المخابرات مباشرة وخضعنا من جديد لأجواء الرعب والارهاب . كانت أيامنا في التحقيق العسكري كما فهمنما لاحقا أقرب ما تكون إلى فترة تأديب . . عاملونا فيها بقسوة بالغة ، وضيقوا فيها علينا أشد مما كان التضييق حتى أيام كفرسوسة . . فالطعام أقل مما يكفي لنصف عددنا ، والزنزانة مقفلة الأ بواب فلا نغادرها إلا للتنفس حسبما يقتضي مزاج العنصر وقتذاك : عشر دقائق أو ربع الساعة في اليوم وحسب ، نمضيها في باحة داخلية ضيقة تحيطها الجدران المرتفعة من كل الإتجاهات ، لكن الجوع والقلق والأ بواب المغلقة لم تكن لتفعل فينما ما تفعله صيحات الإستغاثة وصراخ المعذبين من حولنا . فعندما يحين وقت تنفس الشباب كانوا يخرجونهم راكضين لا ينتعلون في أرجلهم رغم شدة البرد شيئا . . يهرولون حفايا تتبعهم الكرابيج والكابلات وكأنهم قطيع غنم ! ومن شدة اصفرارهم كنا نحس وكأن شعلة ضوء تخرج من كل فرد منهم . . ولا أزال أذكرأن أحد السجناء تأخر في إحدى المرات داخل الحمام بضع ثوان . . وكان بابه مجاورا لباب سجننا ، فأخرجه العنصر المكلف بمراقبته وصار يعذبه عذابا أسوأ من عذاب العبيد. . فبعد اللسعات التقليدية بالكابل جعل هذا العنصر يأمره ونحن نسمع مايدور ويقول له: إحمل الشحاطة بفمك . فيمتثل المسكين لاحيلة له ويحملها . . فيقول له ثانية : - إزحف بها إلى التواليت . . والتواليت هناك يقرف الواحد من الإقتراب أو النظر إليه . . لكن هذا المجرم كان يقوده والشحاطة في فمه إلى هناك فيطمس له رأسه في الحفرة ثم يخرجه ، ويعود بعدها فيأمره أن يحمل الشحاطة ثانية بفمه . . ليعود ويسوقه في اتجاه آخر وهو لا يكف عن لسعه وسلخه بالكابل . . وذاك يصيح ويستغيث وليس من مجيب . . وعندما فاض بنا الصبردقت الحاجة الباب وهي تصيح فيه : -هل أنتم يهود ؟ ألا توجد رحمة في قلوبكم ؟ وجعلنا ننادي جميعا ونقول له : - منشان الله إذا ما بدك ترحمه إرحمنا نحن وخذوه إلى مكان آخر عذبه فيه ! فقال السفيه وظل ابتسامته الساخرة يتراءى لنا من وراء باب ا لحديد : -ليش شوفي ؟ نحن نمزح مع بعضنا فقط ! . وفي مرة أخرى كانوا يوزعون الطعام ، وهناك في فرع التحقيق العسكري كانت الطاقة أسفل باب المهجع ، فكان أحد السجناء يحمل الطعام ويضعه عند الطاقة تم يأتي العنصر من ورائه فيفتح الطاقة لنسحب القصعه . . وذات يوم سألتنا عزيزة أن نحاول السؤال عن بيت أهل زوجها إن كانوا معنا في نفس السجن . . فلما جاء السجين وكان دوري يومها دفعت الطاقة فوجدتها مفتوحة ، فمددت رأسي وسألته : -هل سمعت ببيت اليوسف ؟ فقال لي : نعم . . أتوا بهم جميعا إلى المهجع الجنوبي . . ولم يكد المسكين يتم جملته حتى كان العنصر وراءه ، فأمسكه وسحبه وبدأ يضربه ويعذبه على باب مهجعنا وذاك يصيح ويستغيث : -لم يكن ذنبي . . هي التي كلمتني . . ولم أرد عليها . . وقامت الحاجة فصاحت عليه وقالت له لعله يغفل عنه قليلا : -فعلا لم يكن ذنبه . . هذه مقروفة العمرساءلته عن الطعام فقط . . لكنه لم يتوقف أو يلتفت إليها . . ومضى يتابع الضرب والتعذيب حتى شبع  !


الرئيس ما كان له خبر !

ومرت أيام أخر . . وبدأت ملامح أكثر جدية تتبدى عن اقتراب أيام الفرج والإفراج . . فبدأوا يخرجوننا إلى المكاتب في القبو نفسه ويعطوننا استمارات لنملأها بمعلومات مفصلة عن تاريخ حياتنا . . وصورونا مرات عديدة بأوضاع واتجاهات مختلفة ونحن نمسك بأيدينا لوحة الأرقام . . وبعد15 يوما تقريبا أبلغونا عن صدور العفو بشكل رسمي . وقتها سألت الحاجة مديحة رئيس الدفعة وقتها : - خيو . . وليش تذكرتونا الآن بعد كل هذه السنين . . ما هي ا لمنا سبة ؟ فقال لها : والله الرئيس ما كان له خبركم . قالت له : يعني الآن وصله خبرنا ؟ قال لها : نعم . قالت : بالله عليك مض علينا تسع سنين وماله خبر! قال : إي والله . . والله يا حاجة لو له خبركم من زمن كان طالعكم . . لكن من أول ما دري قال طالعوهن إ! فقالت له الحاجة : وما الذي يمنعكم من إخراجنا إذا ! فأخبرها أن سورية الآن حزينة تضامنا مع لبنان الذي قتل رئيسيه رينيه معوض قبل أيام . . وقد صدر الأمر لذلك بتنكيس الأعلام وإغلاق الدوائر الرسمية لهذه المناسبة . . وبالفعل فقد بقينا في الإنتظار أسبوعين أو ثلاثة أخر. . وخلال ذلك أخرجونا مرتين إلى لجنة شكلوها من أجل إبلاغنا النبأ وتوديعنا بما يليق كانت برئاسة العميد حسن الخليل ومعه كمال يوسف رئيس الفرع وضباط آخرون . . فلما حان دوري قابلني كمال يوسف وأنا مثل الأخريات معصوبة العينين وقال لي : - لا تظني أننا أخرجناك وتأخدي راحتك . . أنا من أهلك حاطط لك مخابرات. قلت له : وحتى . .أنا أصلا لم أعمل شيئا . . فقام يشتمني بكلام قبيح ويقول لي أنني مجرمة ولا زلت أنكر . . وقال لي أيضا أن علي الإبلاغ عن أي شخص مطلوب يتصل بي أو حتى أراه . . وكذلك قسى على عزيزة جلود وحدثها عن أولادها ما سبق وذكرته . . وقال لأمل : - شو إلك بالقصر مبارح العصر وجاية لتطلعي ! وكانت كل مهمة اللجنة أن تؤكد لنا أننا لا نستاهل الطلعة ، وإننا لا نزال في دائرة الإدانة . . ولكن كرم الرئيس وعفوه وحده هو الذي أخرجنا إ!


تأهيل أم تجميل !

وضمن مظاهر الكرم الحاتمي الذي تدفق علينا من أصحاب الفضل . . جلادينا المحترمين أنهم بدأوا قبيل الإفراج عنا بما يمكن تسميته تأهيلا لسمية ابنة سلوى التي ولدت في تدمر وترعرعت بين سجون حمص وقطنا ودوما . . وحلت آخر الأمر في العسكري وقد بلغت سن المدرسة ، ولكنها تبدو لمن يراها لا تزال في سنوات عمرها الأولى من الهزال . . ولربما أصابت الرعدة ناظرها لأول مرة من شدة ضعفها واصفرار وجهها . . وتحاشيا لمزيد من الأدلة اليقينية على جرائم النظام ، وحتى لا تخرج هذه البنت إلى المجتمع فيراها الرائح والغادي بهذه الصورة فيسألوا ويعرفوا عن الفاجعة كان برنامج التأهيل هذا . . فكانوا يأخذونها وأمها كل يوم إلى باحة الفرع خارج القبو ويتركونها تتعرف على العالم من حولها ، ويقدمون لها طعاما إضافيا وحلوى وألعابا تستعيد بهم بعضا من طفولتها السليبة . . وفي يوم من الأيام حضر رئيس الفرع وهي هناك فوقفت سيارته ونزل السائق ففتح له الباب وتناول الحقيبة منه وتبعه بعدما نزل إلى مكتبه . . فلما لمح سمية قبل أن يدخل ناداها وأدخلها معه وجعل يداعبها ويتحدث معها ، فلما عادت من عنده قالت لأمها : 227

- ماما أنا غدا عندما أكبر أريد أن أصبح عقيد ! فسالتها سلوى : ولماذا ؟ قالت لها : حتى تكون عندي سيارة وشوفير أي شوفير - يسوق لي السيارة ويحمل لي سنتايتي - شنتايتي - ويدخلني إلى غرفتي مثل غرفة هذا العقيد كمال ! ولما سالتها : كيف مثل غرفته ؟ قالت سمية : يعني فيها سجاد ممدود بالأرض وأضواء وأشياء حلوة ما في منها عندنا ! وكانت سمية تقليدا للسجناء قد كتبت اسمها على الجدار للذكرى . . ولكم كان مؤثرا أن يقرأ المرء ما كتبت هذه الطفلة البريئة تحته تقول : أنا من مواليد تدمر . . سكنت في سجن كذا . . وسجن كذا . . وكذا . . مسجلة كل اسم وتاريخ كل سجن تنقلت مع والدتها إليه !


المقدم المخمور !

وكان رئيس الفرع كمال اليوسف على عنجهيته وتجبره يتصرف إذا جن الليل وحان موعد الكاس والطاس أسفه من الأطفال ! وكثيرا ما كان يرسل وراء غزوة فيأمرها بالجلوس في مكتبه ويمضي يحدثها وهو في نصف وعيه يهدر بما لا يقيم أي معنى . . أو ينزل بنفسه إلى القبو فيقف على طاقة المهجع ويناديها لتتكلم معه . . فكانت المسكينة تمتنع أكثر الأحيان ولا تستجيب . . وأذكر أننا كنا نياما مرة وقد جاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل . . فما وجدنا إلا وطاقة الباب قد فتحت وأطل أحد ما برأسه علينا ، وكانت العادة التي جرت أن يدق أولا لنضع على رؤوسنا ، لكن هذا الطارق المجهول فتح الطاقة على حين غرة وأطل يحملق فينا بعينين محمرتين كالدم ، فما وجدنا أنفسنا ألا ونحن ننادي بصوت واحد: الله لا يعطيك العافية . . ومنا من بصقت بوجهة ومنا من صاحت فيه : -أغلق الطاقة وانقلع . . من سمح لك . . ياقليل الأدب . . يا قليل الذوق . . فقام من المفاجأة بشكل غير إرادي وسحب نفسه قليلا ، ثم كأنما تذكر أنه هو رئيس الفرع فمد رأسه وقال : - من هذه قليلة الأدب التي ترفع صوتها . . لكنه وبسبب لهجته المثقلة من السكرلم نعرفه . . وعدنا فسحبنا باب الطاقة وأغلقناه في وجهه . . وفي الصباح خرجت الحاجة تقول للعنصر : - خيو . . نريد أن نقدم طلبا لرئيس الفرع . قال لها : بأية مناسبة ؟ قالت : هناك عنصر قليل الأدب فتح الطاقة علينا بالأمس ومد رأسه . سالها : أية ساعة . فلما أجابته قال لها : - دعني أقول لك شيئا . . لا تتكلمي بما حصل لأن الذي تتحدثين عنه كان رئيس الفرع نفسه ! فشهقت الحاجة وقالت : الله يلعنه ! وعلمنا من البنات في التنفس بعدها أنه بعدما غادرنا أمضى الليلة على باب المهجع الثاني يحاول محادثة غزوة والمسكينة مقطوعة من الرعب لا تدري كيف تتهرب منه !


مد .. وجزر !

ومضت الأيام ونحن كأنما نتقلب على السفود . . حتى دنت أواخر ديسمبر فأتوا صباح يوم منه وقرأوا أسماءنا جميعا وقالوا جهزوا أنفسكم . . تجهزنا أسرع من البرق ، ودبت الفرحة من جديد . . لكن النهار مضى ولم يحدث شيء . . قرعنا الباب وسالناهم: ماذا جرى ؟ فقالوا من غير أن يذكروا السبب : تأجلت للغد . . وفي الصباح التالي حضروا ونادوا أم حسان وابنتيها سلوى ويسرى ومعهم سمية ، وكانوا قد جمعوهن معنا عند وصولنا لضيق المهجع الذي كانوا فيه ، فلما خرجن لم يذكروا لهن عن الإفراج شيئا . . وظننا أنهن ستنقلن إلى المهجع الآخر من جديد ،لكننا لما سالمنا عنهن بعدها . . قالوا لنا : خرجوا . فقلنا لأنفسنا إذا هؤلاء اللاتي صدر العفو عنهن وخرجن ، وأما نحن فقد فاتنا القطار! وقطعنا الأمل وعدنا للتشاؤم . . وجعلت عزيزة تبكي سبحان الله و تقول :أن قلبي يحسسني أني لن أخرج معكن . . وسترون ! وبالفعل خرجنا نحن وبقيت المسكينة من غير ذنب ولا سبب سنتين تاليتين بعدنا . وبعد يومين نادوا على غزوة من المهجع الثاني وحدها وأطلقوا سراحها . . وأخيرا ونحن نصارع الهواجس ونتقلب بين المد والجزر أتوا صباح الرابم والعشرين من ديسمبر وأبلغونا أن ساعة الإفراج قد حانت هذه المرة . . وأخرجونا ونحن بين مصدق ومكذب لتسلم الأمانات وملء الإستمارات . . لكننا لم نكد نغادر المهجع حتى تراجعوا وقالوا أن الأمر تأجل للمساء ! وعادوا فكرروا نفس الأمر في الليل ، فأخرجونا إلى غرفة الأمانات وأوقفونا في طابور طويل . . وبينما نحن ننتظر على أعصابنا طفح الكيل بأمل فمالت على بنت بجانبها وقالت لها : - والله كأننا واقفين بانتظار بطاقات التموين في المؤسسة! فالتقط أحد العناصر العبارة واهتبلها فرصة فقال للمقدم عمر : - سيدي . . أتسمع ما تقوله ؟ فسأله ذاك : ماذا قالت ؟ قال : سيدي هؤلاء لا يتوبون . . ويبقون يتحدثون في السياسة ونقل له العبارة مثلما يحلو له . . فجاء المقدم وكأنما لسعته أفعى يرغي بالشتائم ويزيد وهو يصيح : - والله أنتو ما لازم تخرجو . . لا زم تنقبروا هون حتى الموت . . حتى إذا أكمل قاموس الشتائم التي يحفظها عن ظهر قلب وتسلمنا آخر الأمر أماناتنا وملأنا كل الإستمارات ووقعناها قالوا لنا بأن الأمر تأجل إلى صباح الغد بسبب الضباب . . وأعادونا إلى المهجع الثاني الذي كانت البنات فيه ، فتكومنا كلنا وراء الباب مترقبات متحفزات لا نستطيع النوم . . وعدنا إلى التشاؤم من جديد ، وتذكرنا كيف وعدوا الشباب بالإفراج في كفر سوسة ثم نقلوهم إلى تدمر! وبقينا طوال الليل نستسلم لهذه المشاعر المرة حينا . . وحينا لمداعبات الأمل ولمحاته اللذيذة والتفكر فيما يمكن أن نفعله إذا خرجنا . . لكنني كنت واقع الأمر أحس نفسي عاجزة عن تصور ما الذي يمكن أن أفعله إذا خرجت . . وكأن العقل لدي قد توقف قبل هذه المرحلة وما عاد يستطيع استيعاب معنى الخروج أوالى أين يمكن أن يكون . . كانت البعض تقلن : أنا سأعود لأكمل دراستي . . أو إلى وظيفتي من جديد . . ومنهن من كانت تقسم أنها لن تعود إلى الوظيفة الحكومية أبدا. . وستمضي العمر بين الأهل والأحباب . . وأما أنا فلم أعد أستطيع حتى أن أفكر في هذا الإتجاه . . وأراه حتى اللحظة شيئا مقطوعا منه الأمل ولا يتصوره العقل . . ذاك الذي كان بيننا وبين أن نبلغه مجرد مطلع الفجر!


حتى مطلع الفجر !

واذا كانت ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من ديسمبر تلك ليلة لا تنسى فإن مما لا ينسى فيها أولئك الشباب السجناء الذين أحيوا الليلة معنا في مهجعهم المقابل يتلون القران والتسابيح والأذكار وقد بلغهم قرب الإفراج عنا على نية الفرج والتسهيل ، وكنا نتلمس من إشارات منهم أنهم يعيشون همنا ومشغولون بنا أكثر من أنفسهم . . وعلى الرغم من الخاطرة البالغة فقد استمروا يجهرون بالتلاوة والدعاء ليبلغنا في ظلمة الليل فكأنما هو النور يتنزل من السماء . . وسلمهم الله من الحرس فاستمروا في دأب ونشاط حتى مطلع الفجر . ودنا الفجر وكنا كلنا ميتات من التعب والنعاس والجوع . . لكن ترقب الإفراج كان يغلب كل الأحاسيس والمعاني والمعاناة الأخرى . . فجعلنا نطرق الباب مرة بعد مرة نسأل الحرس ما الذي حصل . . ومتى سيفتح هذا الباب بيننا وبين الحرية من غير رجعة . . حتى فاض الصبر بالعنصر فقال لنا آخر الأمر : توقفوا عن الطرق . . عندما نريد أن نخرجكم فسنفتح لكن الباب ونقول لكن اخرجوا . . فلما فتحوا الباب وقالوها كنا كالموج المختزن خلف سد تفجرت بوابته . . واندفعنا فوق بعضنا البعض وكأننا خائفات أن يغلقوه علينا من جديد . . ولما تجمعنا في الممروقد تثبتت عيوننا على الباب بين القبو وساحة السجن في الأعلى قرأوا أسماءنا جميعا ، ووجدناهم قد أخذوا الحاجتين مديحة ورياض ومعهما نجوى وسلسبيلة إلى المهجع الثاني دون أن نعلم لماذا ، وهناك أخبروهم بأن دورهم في الإفراج لم يحن بعد فكدن أن يمتن بأرضهن . . وأصيبت الحاجة رياض بما يشبه الإنهيار العصبي وقد كانت تظن أنها ستكون أول الخارجات . . وأما نحن الذين بقينا أربعة عشر امرأة - سبع من حلب وسبع أخريات من حماة - فأخرجونا وقتها إلى باحة الفرع والشمس لا تزال تتسلق السماء في أول إشراقتها . . فكنا ونحن نعبر من العتمة إلى الضوء مهلهلات الثياب صفر الوجوه كالخارجات من القبر إلى دنيا الناس بعد غياب ! ولم نتمالك أنفسنا جميعا فوقفنا كلنا نتأمل الشروق الدافن ونتلو الشهادتين وقد انفجرت بعضنا في البكاء ، فنظر رئيس الدورية إلينا مستغربا وقال : - ماذا هناك ؟ لماذا وقفتم كلكم ؟ فقالت له أم زهير : بعد تسع سنين هذه أول مرة نرى فيها الشمس وقت شروقها . . ماذا تريدنا أن نفعل وسرعان ما وجدناه أحضر الكلبشات وعاد ، فسألناه وقد غاصت قلوبنا بين الضلوع من جديد : -لم هذه الكلبشات ؟ قال : هذا القانون . . لازم تتكلبشوا حتى تقطعوا ضواحي دمشق . كمدنا مرة أخرى بعد شعور الفرح الذي لا يوصف . . وبدأنا تراودنا المخاوف مجددا من أنهم سينقلوننا إلى سجن اخر وحسب . . لكن الأحداث مضت متسارعة . . فتلوا أسماءنا مرة أخرى . . وتحققوا من عددنا وشخصياتنا ، ثم أصعدونا إلى "الميكرو" ونحن مكبلات . . وصعد معنا ثلاثة عناصر من المخابرات جلس اثنان منهم في الأمام وأخذ الثالث مكانه عند الباب في الخلف . وعندما تحركنا سالمت ماجدة أقرب العناصر إليها إن كنا خارجات إلى بيوتنا بالفعل أم أنه مجرد نقل من مكان إلى اخر . . فطمأنها وأكد لها أنه إفراج حقيقي . . فساكته وهي تستحلفه : -قل لي . . هناك طلعة للشباب ؟ قال لها : والله لا أعرف . لكنها ظلت تلح عليه حتى قال لها : نعم هناك أمل ولكن ليس الآن . . لكنهم أخرجوكم أولا ليتخلصوا من همكم !


تهاني العام الجديد !

ومض الباص بنا نريده أن يطير أسرع من السحاب ويبلغنا بيوتنا للتو . . لكننا كنا في نفس الوقت وكأننا نفكر بعقل واحد في الأتي المجهول : كيف سنفترق اليوم ونصحو في الغد بعيدين عن بعضنا البعض بعد تسع سنوات من صحبة العسر واليسر؟ إلى أين سنذهب . . ومن سنلتقي . . وماذا عمن مات أو قتل . . ماذا عن حماة التي تهدمت . . والأحياء التي سويت بالأرض . . والأحباب الذين واراهم الثرى وقد كانوا بهجة العمر كله إ! وظلت دوامة التساؤلات تعصف بنا حتى بلغنا مشارف حماة وفكوا لنا الكلبشات من أيدينا وقالوا للحمويات أن يستعددن للمغادرة . . فالركب سيكمل بالبقية إلى حلب . وجعلنا نقبل الحلبيات ويقبلننا ويستسمح بعضنا البعض ونتواصى بالزيارة القريبة والإتصال المستمر . . وتوقف الباص أخيرا أمام فرع الأمن العسكري على مشارف المدينة ، وتخطى السائق البوا بة ونزل رئيس الدورية التي رافقتنا فتبادل بعض الكلمات مع مسؤولي الفرع قبل أن يأمرننا بالنزول . . وعاد وبقية العناصر معه إلى الباص وهم يهنؤوننا على الإفراج ويقولون وهم يبتسمون : -الحمدلله خلصنا منكم ومن نقكم . .


كل عام. . وأنتم بخير !

وذهب الركب باتجاه حلب . . ووجدنا عناصر أخرى تستقبلنا هناك بلا اكتراث . . ولم نلبث أن طرق أسماعنا عبارات التهنئة بالعام الجديد يتبادلونها بينهم . . فتذكرنا أن رأس السنة على الأبواب. . ولكننا لم ندرك أننا ينبغي لذلك أن ننتظر مزيدا من الوقت ليحضر رئيس الفرع من مراسم التعييد ! وفي غرفة من غرف الفرع الباردة تكومنا واحدة تلو الأخرى ليست لنا من حيلة إلا الإنتظار . . وبعد ساعات كنا لا نملك إلا التحديق بوجوه بعضنا البعض وارسال الزفرات حضر أحد العناصر وسأل كل واحدة أن تعطيه رقم هاتف ولي أمرها الذي تريد أن يستلمها .؟. وكان الأهالي قد سمعوا قبل أيام عن نبأ الإفراج فذهب الآباء إلى دوما أولا ليسألوا فقال لهم المقدم هناك بأننا نقلنا إلى سجن(عدرا) ! فلما ذهبوا هناك لم يجدوا عنا أي خبر . . ولم يعودوا يعرفوا عنا أي شيء . فلما اتصلوا بهم بدأوا يتوافدون على باب الفرع بين مصدق ومكذب . . واجتمع أكثر آباء البنات واخوانهن وأنا لم يحضر لاستلامي أحد ! وعندما حضر العنصر وسالنى عن هاتف ولي أمري لم أدر بم أجيب . . ولم أجد شيئا أعطيه أو اسما من الأحياء أذكره ! وكانوا قد اتصلوا بوالد ماجدة وقالوا له مثلما قالوا للآخرين -تعال واستلم ابنتك . . فظنها مداعبة من أحد ما وأقفل الخط ! فذهبوا إلى البيت وأحضروه بأنفسهم وهو لا يزال يظن الأمر لعبة . . فلما راها بعينيه كاد أن يغشى عليه . . وأخذ وهو يحتضنها ينظرإلي ويبكي وهو يتمتم : - وأنت من الذي سيأتي ويأخذك ! فلما عاد العنصر يسألنى وقد كاد ينفض الجميع - مع من أريد الذهاب ، قلت مع أبي ماجدة . وأثناء ذلك حضر شقيق واحدة أخرى من البنات وعرض أن يصحبني برفقتها . . فلما اخترت والد ماجدة اتصل ذاك ببيت عمي بعدما أخرج رقمهم من الدليل، لكن عمي وزوجته كانا في حمص وبقيت خالة الأولاد معهم في البيت ، فلما أبلغها بالنبأ اتصلت بخالي هناك وأخبرتهم أن شخصا اتصل وقال بأن هبة طلعت واذهبوا لتأخذوها . فقالت لها عمتي : يكفي كذبا واذا اتصل ثانية أغلقي الخط بوجهه ! فاتصل مرة ثانية وقال لها : - هبة عند بيت رفيقتها ماجدة . . اذهبوا وأتوا بها . فأعطته رقم حمص ليحدثهم مباشرة ، فلما اتصل سألته عمتي : - من حضرتك ؟ قال : فاعل خير. فخافوا من ذلك وارتابوا . . لكنها وبعدما أقفلت الخط رأت أن تتصل ببيت أهل ماجدة فتأكد لها الخبر ، لكنها ولما طلبت أن تتكلم معي حتى تصدق ونادوني لأحدثها وجدتني وكأنما نسيت كيف يكون الحديث على التلفون ! ولم تكد تسمع صوتي حتى وجدتها حضرت أسرع مما أتخيل ! ودخلت فاحتضنتني ورجعت تقبلني وأنا جامدة مكاني وكأنني لم أعد أميز بين الفرح والحزن ! اختلط الشعوران عندي فلم أعد أعرف ماذا أفعل أو الى أين ينبغي أن أذهب ! وكان أهل الحي قد اجتمعوا رجالا ونساء وأطفالا يهنئون بسلامتنا ويباركون لنا . . لكن ظلال التوجس كانت بادية على الوجوه وهم يحملقون فينا ولا يزيدون على أن يحمدوا الله . واقتادتني عمتي من يدي . . وأم ماجدة من ورائنا ترقبنا دامعة العينين وقد أرادتني أن أبيت عندهم الليلة . . وكنت أود ذلك أيضا وأحسها بمنزلة أمي رحمها الله . . وكانت قد رأتني قبل يوم في نومها أنني أرسلت لها بطاقة عليها رسم المسجد الأقصى وكتبت لها تحتها : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد ا لأقصى ) فتفاءلت بذلك وذهبت للشيخ ففسر لها المنام وبشرها بقرب فك أسرنا . . وكان ذلك في اليوم الثاني بالفعل ..


ظلال الفاجعة   

وفي تلك الليلة الباردة أواخر عام 89 ولجت سيارة عمتي وقد قاربت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل . . وتكورت على نفسي أتقي البرد القارس والقادم المجهول . . وبينما كانت السيارة تعبر بنا المدينة من طرف إلى طرف ، كانت المشاهد أمامي تنطق بالوحشة أنى اتجهت . . فالدمار الذي مضت عليه سبع سنوات لا تزال ظلاله تنطق بالفاجعة . . والشوارع المقفرة تحكي حال القلوب المقفرة . . والنواعير التي طالما حركت بأنينها شجى القلوب أراها جامدة خامدة . . وقد جف من تحتها العاصي وتيبست حولها الأشجار والحقول . كان كل شيء عهدته في المدينة قد تغير ، وماتت على شفاه المشاهد هيئة الحياة . . وحدها سيارات المخابرات لم تتغير برغم السنين . . ها هي ذي تحتل مفارق الطرقات أو تطل مقدماتها من بين الأزقة تترصد الساعة ربما أحلام النائمين ! وقتها ارتد بي البصر إلى دمشق عام 85 وعدت بالذاكرة إلى ليلة رأس السنة في بيتنا بالبرامكة قبل تسع سنوات بالتحديد . . ليلة أن اصطفت سيارات المخابرات على طول الشارع في منتصف الليل . . وسألنى رئيسهم أن أذهب معه خمس دقائق وحسب ، فانتزعوني من الحياة تسع سنوات كاملات . . دون أن أعرف سببا لذلك إلى اليوم !


للمزيد عن الإخوان في سوريا

مراقبو الإخوان في سوريا

1- الشيخ الدكتور مصطفي السباعي (1945-1964م) أول مراقباً عاماً للإخوان المسلمين بسوريا ولبنان.

2- الأستاذ عصام العطار (1964- 1973م).

3- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1973-1975م).

4- الأستاذ عدنان سعد الدين (1975-1981م).

5- الدكتور حسن هويدي (1981- 1985م).

6- الدكتور منير الغضبان (لمدة ستة أشهر عام 1985م)

7- الأستاذ محمد ديب الجاجي (1985م لمدة ستة أشهر).

8- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1986- 1991م)

9- د. حسن هويدي (1991- 1996م).

10- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني (1996- أغسطس 2010م)

11- المهندس محمد رياض شقفة (أغسطس 2010)

.

من أعلام الإخوان في سوريا
أقرأ-أيضًا.png

كتب متعلقة

ملفات متعلقة

مقالات متعلقة

تابع مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

وثائق ومتعلقات أخرى

وصلات خارجية

الموقع الرسمي لإخوان سوريا

وصلات فيديو

.