دور الإخوان في إصلاح المجتمع ومحاربة الفساد (الحلقة الأخيرة)
دور الإخوان في إصلاح المجتمع ومحاربة الفساد (الحلقة الأخيرة)
علاج ظاهرة الفقر
الفقر، الجهل، المرض.. ثالوث خطير هدد أركان المجتمع المصري خاصةً وأركان الأمة الإسلامية عامةً خاصةً بعد وقوعها في قبضة المستعمر الغربي الذي عمل على نشر هذا الثالوث لتظل البلاد في حالة من التخلف والانحطاط، ولقد استمرت جهود الإخوان في محاربة الفساد وإصلاح المجتمع، وقد بيَّنا في حلقات سابقة مدى هذه الجهود، ونختتمها بجهودهم في التصدي لظاهرة الفقر والتي كانت قد فشت بين أبناء المجتمع المصري لتكون عبرةً لنا في إصلاح شئوننا وكيفية التغلب على هذه الظاهرة.
فقد عمل الإخوان على العناية الكاملة بموارد الثروة ومطاردة البؤس والفقر، وهو أساس الجهل والمرض، باستغلال الموارد الطبيعية، والعناية بالصناعة، وتنشيط التجارة، وتكوين الشركات الوطنية، وتشجيع الملكيات الصغيرة، وتحديد الصلة بين المالكين والمستأجرين، وإعادة النظر في الضرائب، وإقرار نظام الزكاة لإمداد الخدمات الاجتماعية النافعة حتى يكون في أموال الأغنياء حق معلوم للسائل والمحروم.
ونادى الإخوان بأن الفرد والأسرة في حاجة إلى إصلاح، والفقر والجهل والمرض في حاجة إلى علاج، ومطالب الأمة العليا وأهدافها القومية في حاجة إلى جهاد وكفاح، فساعدونا أيها الناس على ذلك كله.
وقد كان المجتمع المصري يعجُّ بالمتناقضات إبان فترة الاحتلال، ولقد وضح الشيخ محمد الغزالي في مجلة (التعارف) فكتب يقول: "إن الذي يسمع جعجعة الأدباء المصريين ويرى كثرة إنتاجهم بقطع النظر عن لون هذا الإنتاج؛ لن يداخله شك في أن نسبة المتعلمين أكثر من تسعة أعشار المائة، في حين أن الإحصاءات أشارت إلى أنها عشر واحد في المائة، والذي يرى الحفلات العامة وما يزين جوانبها من أزهار، وما يحفُّ بها من مرح سوف يحكم بأن هذه الأمة لا تعرف شقوة العيش ولا تعاسة الحياة، ولكنك تسخر إذا عرفت أن الطب يرجع كثيرًا من أمراض الفلاحين إلى سوء التغذية، وأن الفقر يحرم أطفال المدارس الإلزامية من تناول فطورهم، والذي يسمع أصوات الغناء وألحان الطرب وعربدة التمثيل وأضاحيك المهرجين سيظن أن هذه البلاد تدبر حاضرها وتؤمن مستقبلها فلا عجب أن تعنى بملاهيها، وكذلك تتبدى سلسلة مفارقات لا نهاية لها، وتظل الحقيقة الهائلة التي تصفع كل يوم من يتجاهلها: أن للجهل والفقر والمرض دولةً طائلةً تغتال الأجسام والأفهام".
وسبق أن أوضحنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة الحالة الاجتماعية التي كان يعيشها المجتمع المصري والطبقية التي سيطرت على كيانه، فرأينا فئةً بسيطةً تسيطر على زمام الأمور وهي فئة ارتمت في أحضان الاستعمار وارتمت على أعتابه، أما طبقة عموم الشعب المصري فقد عانت كثيرًا من الفقر والمرض والجهل، فأصبحت قلةً عدديةً تملك المال والأرض والقرار، وأغلبية كاسحة أجراء عبيدًا لا يملكون ربما قوت يومهم، حتى ذكر البابلي بك- مدير كلية البوليس- في تصريح له إبان الحرب العالمية الثانية أن عدد الشحاذين في مصر بلغ 500 ألف شحاذ، وكان دخل الفرد المشتغل بالزراعة- الذي يمثل غالب الشعب المصري- لا يكاد يتجاوز الأربعة جنيهات في كل عام، حتى إن هناك 12017 شخصًا يملكون 2 مليونًا و508 آلاف و286 فدانًا، ونحو 15 مليون شخص لا يملكون شيئًا.
أسباب تفشي الفقر في المجتمع
تعددت الأسباب التي كانت دافعًا لهذه الظاهرة ومنها:
1- غياب التوزيع العادل للثروات مما أنتج انقسام الناس في المجتمع إلى طبقات.
2- توقف الأغنياء عن إخراج الزكاة وقلة الصدقات.
3- إسراف الأغنياء في الزينة ومظاهر الترف واللهو بأنواعه المختلفة والاهتمام بالكماليات، في الوقت الذي يعيش فيه الملايين من الفقراء في شبه أكواخ، ويعاني أكثر من مليون شخص من الملاريا، وأكثر من 14 مليونًا من أمراض الرمد، و8 ملايين من أمراض معدية، و2 مليون من أمراض سرية، و2 مليون مرض معدٍ؛ بما يعني 3 أمراض للفرد الواحد من أبناء الطبقة المنتجة.
4- الحزبية المتناحرة والتي كانت تعمل على تحقيق مكاسب سياسية دون النظر إلى بؤس الفلاحين والعمال وباقي أفراد المجتمع؛ حيث إن رجال الأحزاب كانوا يسمعون عن الطبقات الفقيرة من خلال الكتب والمقالات، في حين أنهم يعيشون في دور أحزابهم المشيدة بأنواع من الأثاث يجهله أبناء الشعب.
5- فقد العمل؛ بسبب عدم توافر فرص عمل، إلى جانب اكتناز المال وعدم تداوله التداول الذي يوفر مسارات عمل أمام أفراد المجتمع، وهذا الأمر يرجع للحكومات والأغنياء.
6- العجز عن العمل لعدم الكفاءة أو لمرض أو لعدم وجود موهبة، ومرجعه في الأساس للفرد الذي ربما لا يهتم بتطوير نفسه والبحث الجيد والعمل بدأب.
كانت هذه الأسباب وراء تفشي ظاهرة الفقر وانتشار أعداد كبيرة من الفقراء، حتى إن الإمام البنا كتب تحت عنوان (الإسلام وكيف يحارب الجهل والفقر والمرض) يقول: "الإسلام شريعة الحياة، ينظم شئون الدنيا كما يدل على السعادة والفوز في الآخرة، فلا عجب أن يكون أفضل نظام جاء بعلاج الجهل والفقر والمرض؛ وهي آفات المجتمع ومصادر الألم والبؤس للناس، ولقد حارب الإسلام الفقر نظريًّا فجعله قرين الكفر، واستعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر". وحبب في المال الحلال الصالح فقال: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"، وجعل السعي في كسب العيش قربةً إلى الله تبارك وتعالى من أعظم القربات توجب مثوبته ومغفرته ومحبته، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب المؤمن المحترف"، كما روت عنه عائشة رضي الله عنها "من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له"..
ولقد نظم الإسلام محاربة الفقر اجتماعيًّا فطارد في نفس الفقير معنى الذلة، وأفهمه أن الفقر ليس في أعراض الحياة الدنيا، ولكنه في النفوس والأخلاق؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" فيما رواه البخاري ومسلم، ثم جعل للفقراء في أموال الأغنياء حقًّا معلومًا للسائل والمحروم، زكاةً واجبةً أو صدقةً يتقرب بها المتصدق إلى الله تبارك وتعالى، ومن لم يتقدم بزكاة ماله فله عذاب أليم في الآخرة، وكان للحاكم أن يجبره على إخراجها وأن يقتطعها منه ضريبة اجتماعية لا مناص له من أدائها: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة: من الآية 103)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ويأخذ بلهزمتيه"، وحين أخذ الناس بتعاليم هذا الدين السمح الحنيف لم يكونوا يعرفون هذه المشكلات المعقدة، مشكلات الفقر والجهل والمرض، فضلاً عن أن يستعصي عليهم حلها..
وما زال في أيدينا أن نتخلص من هذا البلاء المحيط وتلك الآفات المهلكة، ولا يكلفنا ذلك إلا أن نعود إلى الإسلام: ﴿.. قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة) فهل نعود؟!".
وقال أيضًا: "العناية بالشئون الاقتصادية، فإن حال الفقر المحض الذي يعانيه الناس تجعل النهوض الروحي بهم غير ميسور ما لم يتوفر لهم القوت الضروري الذي لا يجده الكثير منهم إلا بشق النفس، مع وفرة المشروعات الإصلاحية التي لو أخذت بها الحكومة لخففت ويلات الفقر على كثير من الناس ولا يحمل الناس على تأييد الحكومة والتمسك بها شيء ما يحملهم على ذلك عنايتها بأرزاقهم وتفكيرها في شئونهم الاقتصادية، ومن الخطأ أن تعمد الحكومة في هذا الظرف العصيب إلى فصل بعض عمال المياومة، أو الاستغناء عن بعض الموظفين وهي تستطيع توزيع العمل وإنقاص الأجور بدلاً من هذا الفصل الذي جر الويلات على كثير من الأسر والعائلات".
جهود الإخوان لعلاج الفقر
تعامل الإخوان مع قضية الفقر ليس ككونها قضيةً اجتماعيةً ذات أبعاد اقتصادية فحسب، بل نظروا إليها على أنها قضية متعددة الأبعاد، والقضاء على هذه الظاهرة يجب فهمها جيدًا من جوانبها المتعددة، ومحاولة تقديم الحل الشامل لها.
وقد رجع الإخوان كعادتهم إلى الحل الإسلامي لهذه القضية، والذي تعامل معها بهذا الشمول؛ حيث أشاروا إلى أن الإسلام بمبادئه نجح في القضاء على الفقر، وكان سر نجاحه أنه لم يحبس نفسه في الأوامر وحدها يلقيها في عنف وينفذها بجفاء، فقلما نجح تشريع أساسه الإكراه، ولكنه عمد إلى النفوس فهذبها ورققها وجعلها تفعل الخير كما تزاول متع الحياة، وقد عالج أسباب الفقر في علاجه لفقد العمل بأن طالب الدولة بإيجاد الأعمال وإدخال الصناعات، حتى إنه جعل كل صناعة تحتاج إليها الأمة فرضًا يجب على الأقل أن تقوم به طائفة، وطالب الأغنياء في سبيل ذلك ألا يكنزوا الذهب والفضة والمال، وأن يجعلوه متداولاً بين الناس حتى يكون نواة المؤسسات الضخمة والمشروعات النافعة، ثم حرم السؤال، وحض على العمل وجعله عبادةً تفضل العبادة، وجهادًا يفضل الجهاد.
أما العجز عن العمل والذي هو من أسباب الفقر فقد أشار الإخوان إلى أن الإسلام نظر إليه نظرةً تحترم الكفاءة وترحم الضعف، فلم يحرم الموهوبين من نتاج مواهبهم وثمار جهودهم، ولكنه حفظها عليهم وأبقاها لهم بشرط أن يكون للفقير فيها نصيب معلوم يأخذه من الدولة وهو مرفوع الرأس كما يأخذ الموظف منها أجره سواء بسواء.
ووزن الإخوان قضية الفقر بميزان متوازن يختلف عما يراه الناس، وذلك هو ميزان الإسلام، فبينما اعتبروا أن المال ليس هو القضية الكبرى التي من أجلها خلق الإنسان ولها يقضي حياته، إلا أنه في المقابل حثَّ على الكسب والعمل.
هذا بجانب ذم الحرص على المال الذي يؤدي إلى هلاك المجتمع، لكن في المقابل حرص الإخوان على ضرورة العمل والجد ومنع الفقر، فأشار إلى أن عوام الناس ربما يرون أن رقة الحال ضرب من التدين وأن الفقر في الدنيا أمارة على الغنى في الآخرة، وهذا خطأ بعيد، فالإسلام يعتبر الفقر مصيبةً ويعمل على تخليص الناس من أحزانها وآثارها جهد المستطاع.
ومحاربة الإسلام للفقر هي التي جعلته لا يرضى للمسلم أن يفتح بابًا للسؤال فيفتح عليه باب فقر، وهي التي جعلته يرفع منزلة العمل ويعد التعب فيه جهادًا في سبيل الله، والهجرة في طلبه هجرةً إلى الله، ولعل التنقل في جنبات الأرض ابتغاء الغنى والعفاف هو بعض ما يوصي به النظام القرآني.
كما تعامل الإخوان مع هذه القضية الخطيرة التي أصابت غالب أفراد المجتمع على عدة مستويات: المستوى الأول: وهو تشخيص الظاهرة، وبيان أسبابها، وتوضيح مظاهر تلك القضية وخطورتها، وآثارها على الأفراد والمجتمع والأمة بأسرها، أما المستوى الثاني: فقد قدم الإخوان فيه رؤيتهم لعلاج هذه المشكلة من خلال فهمهم للكتاب والسنة والتاريخ والحضارة الإسلامية، وذلك بناءً على حل الإسلام لهذه المشكلة تأصيلاً نظريًّا وواقعًا عمليًّا.
ولقد كتب الشيخ محمد الغزالي سلسلةً من المقالات بمجلة (التعارف) تحت عنوان: "حتى لا تكون دولة بين الأغنياء منكم"، أوضح فيها الحل الإسلامي لقضية الفقر؛ فأشار إلى أن إحدى السنن الإلهية المقررة في الكون: سنة تفاوت الناس في اقتسام خيرات الأرض ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)﴾ (النحل)، لكن الدين حرم انقسام الناس إلى طبقات على أساس ما يملكون من تراث مادي تختلف أنصبته.
وعلى المستوى الداخلي للإخوان حدد الإمام البنا منذ أن وضع رسالة (الأسر) عام 1943م، أن من أهداف الأسرة التربوية الثلاثة هدف التكافل الذي يُعان من خلاله الفقير في جو أسري يسوده الود والحب والأخوة، أما على مستوى المجتمع فقد أوردنا في الكتاب الرابع والخامس جانبًا من نشاط الإخوان في تقديم العون للفقراء والمحتاجين، وكيف اتخذ هذا النشاط أشكالاً متعددةً.
ولم يترك الإخوان وسيلةً لمحاربة الفقر داخل المجتمع إلا واستخدموها، حتى إنه في المذكرة التي رفعها المرشد العام للإخوان المسلمين الإمام البنا لرئيس الوزراء عام 1938م التي بيّن فيها موقف الإخوان من القضايا المختلفة آنذاك طالب فيها بالاقتصاد التام في الكماليات، وفي أبَّهة المناصب، وتعديل المرتبات الضخمة، وإلغاء مظاهر الترف الرسمي في دواوين الحكومة ومصالحها، وليبدأ بذلك حضرات الوزراء أنفسهم، ثم كبار الموظفين من بعدهم، وقد يكون في ذلك بعض الإرهاق.
ولعل أهم المشكلات التي حاول الإخوان علاجها في الريف المصري هي:
محاربة الفقر وتدني مستوى المعيشة فقد بلغ عدد الفلاحين في مصر عام 1941م، حوالي ثمانية ملايين، حسب التقرير الذي ذكره الإمام البنا في المؤتمر السادس، وكانت الأرض المنزرعة تقدر بحوالي ستة ملايين فدان، إلا أن التوزيع في الواقع كان يشير إلى أن أربعة ملايين فلاح لا يملكون أية مساحة من الأرض ويعملون أجراء، ومليونين من الفلاحين لا تزيد ملكية الواحد منهم على نصف فدان، وغالب المليونين الباقيين لا تزيد ملكيتهم على خمسة أفدنة؛ الأمر الذي يوضح جليًا ما يعانيه الفلاحون، وإلى أي مدى بلغ انحطاط مستوى المعيشة بينهم لدرجة مخيفة.
وحيال ذلك رأى الإخوان أن إصلاح القرية يتطلب إصلاحات أساسية منها: تحديد الملكيات الزراعية الكبيرة بوضع حد أعلى للملكية الزراعية تتراوح بين مائة إلى ثلاثمائة فدان ويوزع الزائد على ذلك على المعدمين وصغار الملاك بأسعار معقولة تؤدى على آجال طويلة، وتكون الدولة مسئولةً عن ذلك لإعادة التوازن، كما تكون مسئولةً عن توزيع جميع الأطيان المستصلحة والتي تستصلح على صغار الملاك والمعدمين خاصةً، وأن توزع أملاك الدولة فورًا عليهم.
كما رأوا ضرورة تحديد العلاقة بين المالك الزراعي والمستأجر بما يحقق العدل بين الطرفين، واقترح الإخوان في ذلك نظام المزارعة، وطالبوا باستكمال التشريعات العمالية لتشمل العمال الزراعيين، ولتكفل للعامل الزراعي وأسرته التأمينات ضد البطالة والعجز والوفاة، إضافةً إلى تشجيع الإرشاد الزراعي، وعمل نقابات للعمال الزراعيين.
وقد قامت الفكرة الاقتصادية الإسلامية على أساس عنصرين هما: حرية الملكية الفردية مع عدم إغفال العدالة الاجتماعية، ومن ثمَّ نادى الإخوان باختصار الملكيات الكبيرة مع تعويض أصحابها، وتوزيع هذه الأملاك على الفقراء المعدمين لزراعتها، كما توزع الأراضي الأميرية المستصلحة على صغار الملاك والمعدمين خاصةً، ولتحقيق ذلك لا بد من تنظيم الزكاة؛ لأنها العلاج الاقتصادي السليم للقضاء على الفقر.
وكتب الإمام البنا سلسلة مقالات في مجلة جريدة الإخوان المسلمين في الثلاثينيات تحت عنوان: (صوت من الريف) شخص فيها أوضاع الريف حيث التناقض الرهيب بين حياة الفلاحين البؤساء المعدمين وحياة العمد والأعيان المترفين، وأكد أن المسئول عن هذه الأوضاع الحكومات والوزراء.
كما اعتنى الإخوان بشئون الفقراء الصحية وغيرها فأنشؤوا في طنطا مستوصفًا كبيرًا وكان مؤسسة مجهزة تمام التجهيز بجميع الأدوات والأجهزة وغرف الكشف وأدوات التحليل والفحص، وقد أشرف على العلاج في المستوصف خلاصة أطباء المدينة في كل التخصصات، وقد بلغ عدد المرضى الذين عولجوا في هذا المستوصف خلال الشهرين والنصف الأول من إنشائه 1233 مريضًا بأمراض مختلفة.
وهكذا بدأت تنتشر مستوصفات الإخوان لمعالجة مرضى الشعب المصري في كافة أنحاء القطر من الإسكندرية إلى أسوان؛ حتى أنشأ إخوان الإسماعيلية مستوصفًا باسم الإمام الشهيد حسن البنا في وسط المدينة مكونًا من ثلاثة أدوار لعلاج الفقراء.
وقد دعا الأستاذ صالح عشماوي رئيس تحرير مجلة الإخوان كافة الإخوان بسرعة التبرع بما لديهم من مال عن طريق جريدة (الأهرام) التي كانت تتلقى التبرعات، وأن يدفعوا كل ذي مروءة وشهامة أن يجود بما لديه من مال أو كسوة أو غذاء، كما طالب بالإلحاح في الدعاء إلى الله لرفع البلاء عن إخوانهم في قنا وأسوان، وأن يشفي مرضاهم ويرحم موتاهم، وطالب إخوان شعبتي قنا وأسوان بضرورة الاعتناء بالمصابين ومواساة المفجوعين.
وعندما ظهر مرض الملاريا عام بقنا وأسوان انتفض الإخوان لهذه الكارثة الصحية، وانتقدوا هروب الأغنياء لترك إخوانهم الفقراء والبؤساء دون إعانة أو مواساة، وقد أثنوا على وزارة الصحة في سرعة تقديم العلاج اللازم، لكنهم أخذوا على الحكومة أن الناس كانوا يموتون من الفقر وقلة الطعام لا من قلة الدواء، وكانت النتيجة أن توفي الكثير لسوء التغذية مع توفر العلاج، وأوضح الإخوان أن لو كل مالك نصاب أخرج زكاة ماله ما مات هؤلاء، ولا وُجد فقير من الإسكندرية لأسوان.
جهود الإخوان وقرارات يوليو
ولقد توقفت هذه الجهود بعد قرار النقراشي باشا بحل جماعة الإخوان ومصادرة أموالهم، غير أن هذه المشروعات لم تتوقف خاصة بعد عودة الجماعة مرة أخرى عام 1951م.
وشارك الإخوان الضباط الأحرار ثورة يوليو 1952م بهدف إيجاد حكم إسلامي وطرد المحتل الإنجليزي، والتوسعة على الشعب، وقد كان رجال الثورة في بداية الأمر على ما يرام حتى دبت الخلافات بينهم وأخذت قراراتهم يصيبها التخبط بسبب الفرقة بين بعضهم، حتى أصدر رجال الثورة بعد ستة أسابيع فقط من نجاحها، قانون الإصلاح الزراعي الأول الرقم 178 لعام 1952 وحدد سقفًا للملكية قدره 200 فدان للمالك.
غير أن الإخوان كان لهم رأي في ذلك اختلف مع الحكومة حول نقطة مقدار الحد الأعلى للملكية حيث حددها الإخوان بـ 500 فدان حتى لا تترك أثرًا في النفوس، وأن ترك الأرض في أيدي أناس قادرين على إدارتها خير من توزيعها على أناس لا يحسنون التصرف فيها، وأن نظام الميراث الإسلامي سيتكفل بتفتيت هذه الملكية الكبيرة، ولقد وافق على رأي الإخوان كثير من ذوي الخبرة في الشئون الزراعية والاقتصادية أمثال الدكتور عبد العزيز أحمد والذي نشر بحثًا حول هذا الموضوع في جريدة (أخبار اليوم) في 23/8/1952م تحت عنوان "يجب أن يقترن تحديد الملكية بالتوسع الزراعي".
ولو نظرنا لوجهة نظر رجال الثورة لم نجدها قائمةً على دراسة لأنها لم تحدد كيف ستوزع هذه الملكيات؟ ومن أين ستسدد الحكومة سندات الأرض لأصحابها الأصليين؟ ولا من أين ستنفق الحكومة في مساعدة الفقراء على زراعة الأراضي؟، ومن ثمَّ كان هذا رأي الإخوان وأصحاب الخبرات أن تترك معظم الأرض في أيدي أصحابها القادرين على تنظم الدولة والحكومة الشئون بين المستأجر والمالك حتى إذا أخذ الفلاح الفقير الخبرة استطاع أن يحل مكان الغني دون أن يقع على الاثنين ضرر، بالإضافة دون أن تقع على الأرض ضرر؛ بسبب قلة خبرة الفلاح في إدارتها وقلة المال الذي سينفقه عليها ومن ثم سيؤدي إلى تبوير كثير من المساحات، ومن ثمَّ طالب الإخوان رجال الثورة أن يأخذوا بالتدريج في تنفيذ قانون الإصلاح حتى لا تزيد نسبة الفقر.
كما كان لطلبهم بجعل الحد الأقصى 500 فدان أثر اقتصادي؛ حيث تستطيع الحكومة تقييم التجربة على المساحات الكبيرة فإن نجحت استطاعت تقليل المساحة وجعلها 200 فدان، وإن فشلت لا تقع في مأزق لا تستطيع الخروج منه!!
خاصة أن الحكومة هي المنوط بها مساعدة أصحاب الملكيات الجدد بالسلفيات لفقرهم وعدم استطاعتهم الإنفاق على الأرض والحصول على السماد والبذور، وهذا ما لا تستطيع الحكومة تحمله، ومن ثمَّ تقع تحت ضغط أصحاب الملكيات الجدد لحاجتهم لهذه الأشياء وعدم قدرتهم على الإنفاق، وعدم قدرة الحكومة على الوفاء مما يؤدي لبوار الأرض، ولجوء هؤلاء الملاك الجدد للعمل بالأجرة عن أصحاب النفوذ.
كما أنه توجد صعوبة أخرى تواجه الحكومة وهي كيفية معرفة المزارع الصالح الذي يستحق هذه الأرض، والتي سيعتني بها خاصةً أن المحسوبية والرشوة وإيثار الأقارب سيكون لها دور كبير في الاستحواذ على الأراضي وظهور الإقطاع مرة أخرى، وهذا ما حدث بعد عدم سماع الحكومة للخبراء فظهر الإقطاع.
ولقد علق الدكتور أحمد عبد العزيز بقوله: "لو كانت الحكومة تفعل ذلك خشية أن يتصرف المالك فيما يزيد عن مائتي فدان بالبيع فعليها أن تسن قانونًا يحظر بيع الأراضي وتأجيرها الفلاح حتى يعم الرخاء ويتلاشى الفقر، كما أنها من الممكن سن قانون بتخفيض الإيجارات أو ربطها بالمحصول بحيث يقتسم المستأجر والمالك الإيراد بطريقة مناسبة، وكذلك من الممكن رفع أجور عمال الزراعة".
هذا غير الأراضي المستصلحة التي لن يستطيع المزارع البسيط زراعتها إذا وزعت عليه ضمن القانون؛ بسبب ارتفاع تكلفة زراعتها وتكلفة ضخ المياه لها بسبب ارتفاعها؛ خاصةً أن كثيرًا من أراضي مصر كانت تروى بنظام الراحة.
ولقد سبب قرار رجال الثورة في خلق البغضاء بين أصحاب الأراضي والفلاحين، هذا غير أن كثيرًا من الأراضي لم يستطع الفلاح حُسن التصرف فيها بسبب ضعف خبرته وقلة المال معه، ولقد كان دفاع الإخوان عن رأيهم حتى لا تزداد نسبة الفقراء.
بذلك نكن قد أنهينا جهود الإخوان المسلمين في محاربة الفساد وفي العادات السيئة التي غرسها الاستعمار في نفوس أبناء الشعب المصري وطبعه عليها.
وإن شاء الله نتحدث في حلقات قادمة عن الإخوان والتعليم، ثم والإخوان والسياسة، ثم الإخوان وعلاقتهم بالحركات التحررية في الدول العربية والإسلامية على حلقات متتابعة.
المراجع
1- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2003م.
2- البصائر للبحوث والدراسات: مجموعة رسائل الإمام البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2006م.
3- عبد الهادي عبد الحكيم: الدور السياسي لحركة الإخوان المسلمين، جامعة القاهرة، 1980م.