دور الإخوان في إصلاح المجتمع ومحاربة الفساد (12)
التصدي للميسر والقمار
على مدار إحدى عشرة حلقةً عرضنا فيها جهود جماعة الإخوان المسلمين في تحقيق أهدافها التي نشأت من أجلها، وهي إصلاح المجتمع ومحاربة الفساد، وإن شاء الله في الحلقات القادمة سنكمل عرض إصلاحهم الاجتماعي ثم إصلاحاتهم في الحياة الاقتصادية والمؤسسات التي استطاعوا أن يحوِّلوا بها أقوالهم إلى أفعال، ثم نُتبع ذلك بإصلاحاتهم في الجوانب السياسية، وليس ذلك وفقط، بل التربية والتكوين الداخلي للصف الداخلي للجماعة، حتى نبرز في النهاية- ليس بالقول، بل بالأفعال- أن الإخوان قد تحقَّق فيهم الفهم الشامل للإسلام وليس جانبًا على حساب جانب آخر، أو العمل من أجل غاية وهدف على حساب أهدافهم الأخرى، ولندرك أن هذه الأهداف والغايات مستمرة وستستمر مع الجماعة حتى يتحقَّق الهدف الأعظم، وهو عودة الأمة إلى معاني الإسلام الصحيحة والفهم الشامل له.
جهود الإخوان قبل الحرب
ومن مظاهر الفساد الاجتماعي التي قاومها الإخوان في ذلك العصر: الميسر، "والميسر داء قتّال انتشرت جراثيمه بين الطبقات؛ غنيِّها وفقيرها، عظيمها وحقيرها، انتشارَ جراثيم الأوبئة في جسم الإنسان، فعمَّت الأرجاءَ جميعها، فترى دُوره في كل وقت مكتظة باللاعبين.
وكان منتشرًا في هذه الفترة من أنواع الميسر الشيء الكثير، مثل أوراق اليانصيب، وما إلى ذلك، وكلها متاحة مرخَّص فيها، وهي بالوعات تبتلع أموال الأغنياء وتكتسح أرزاق الفقراء.
فتصدى الإخوان المسلمون لهذه الموبقات، وبيَّنوا للناس أن لعب الميسر مُغضِبٌ للرحمن، وجالبٌ للعداوة والبغضاء، وكم أفسد من أخلاقٍ ودنَّس من نفوسٍ، وأتلف من أموال وأضاع ثروات كبيرة، وهدَّم بيوتًا مشيدة، وجرَّ على أصحابها الدمار والوبال!!؛ ولذلك أجمعت الشرائع الإلهية على منعه وتحريمه، وقرنه الله تعالى بالخمر والأنصاب والاستقسام بالأزلام؛ فهو رجسٌ من عمل الشيطان.
كما ذكروا أن الأسباب الداعية إلى لعب الميسر هي أن الإنسان يحب كسب المال عفوًا بدون نَصَبٍ أو تعب، وأوضحوا أن هذا عمل الجهلاء؛ لأن الإنسان خُلق ليعمل لا ليكسل، خُلق ليجهد لا ليلهو، الحياة جد وعمل لا حياة خمول وكسل؛ فصاحب الرأي السديد والعقل الراجح مَن جَهَدَ واجتهد، وكسب معاشه بعرق جبينه واكتحل أشواك التعب في سبيل معاشه وقوته؛ لا يجلس في النوادي والمقاهي مواصلاً سواد ليله ببياض نهاره في لعب القمار، كما طالبوا "الحكومة أن تضع القوانين الصارمة وتزجَّ اللاعبين في غياهب السجون حتى تستأصل هذا المرض الوبيل والداء القتَّال الذي يسبِّب ضياع الأموال والعقار".
ولقد قامت شعب الإخوان بجهودٍ مشكورةٍ في هذا الصدد، على سبيل المثال "شعبة القناطر الخيرية"، والتي عقدت اجتماعًا في يوم الثلاثاء الموافق 5 شوال سنة 1354هـ- 31 ديسمبر سنة 1935م، وكانت مطالب هذا الاجتماع "محاربة الخمر، محاربة الزنا، محاربة الميسر، محاربة التبشير، وجوب إغلاق المحال التجارية وقت صلاة الجمعة"، كما اتفقوا على طبع نداء لتذكير الغافلين بأضرار الخمر والميسر الدينية والأدبية والمالية والخلقية، وتوزيعه على أهالي القناطر الخيرية، وإرساله إلى "مجلة الإخوان" ليُطبع بها، وعُهد بكتابة صيغته إلى الأخوين إسماعيل عبد التواب وحسين حسن عليوة، وقيام أعضاء الجمعية مساء السبت 9 شوال سنة 1354هـ بعد صلاة العشاء لزيارة بعض المقاهي البلدية والتحدث إلى مَن فيها عن الأضرار التي تنجم عن ارتكاب أمِّ الكبائر والميسر، وإخطار حضرة صاحب الفضيلة إمام مسجد الأوقاف بخطاب مستعجل للفت نظر فضيلته إلى ما آلت إليه الحالة من انتشار الخمر والميسر، رجاءَ أن يكون موضوع خطبته في يوم الجمعة 8 شوال سنة 1354هـ في محاربة الخمر والميسر وتبيين أضرارهما الأدبية والدينية والخلقية.
وفي عام 1938م رفض الإخوان بشدة عزمَ حكومة محمد محمود باشا إقامةَ مدينة للملاهي عمادها الخمر والميسر، وطالبوا بتقوى الله في المجتمع.
وقد سُرَّ الإخوان كثيرًا عندما وجدوا لأعمالهم صدى داخل البرلمان؛ فعندما هاجم النائب سعد اللبان الجمعيات التي تطلق على أنفسها جمعيات البر والإحسان، وتُقيم حفلات راقصة صاخبة يُباح فيها الخمر والميسر أيَّده الإخوان في هذه الحملة، معتبرين أن هذه الجمعيات إنما تنشر الإثم والفسوق باسم البر والإحسان؛ من عرضِ فصولٍ من الرقص، والتمثيل، والغناء.
جهودهم أثناء الحرب وبعدها
وعندما أقال الملك وزارة الوفد أواخر عام 1944م وجاء بوزارة أحمد ماهر وأجرى الانتخابات تقدَّم الإمام البنا وبعض إخوانه للترشيح في هذه الانتخابات؛ ليُصلحوا المجتمع عبر المنابر الشرعية، غير أن أحمد ماهر زوَّر الانتخابات وأسقط كلَّ مرشَّحي الإخوان، فكان المرشَّحون الإخوان يُصدرون النشرات التي تُعرِّف الناخب منهجهم؛ ومنها نشرة انتخابية رقم 1، وجاء فيها:
اليوم يتقدَّم إليها جماعة من الإخوان المسلمين بأشخاصهم التي أوقفت على الجهاد في سبيل مطالبك الوطنية والاجتماعية، وبمنهاجهم الذي يُستمدُّ من كتاب الله ويعتمد على وحي السماء حين فشلت توجيهات الأرض، وكل ذلك يلزمكم أيها النواب أن تلزموا الحكومة تحقيق هذه الأهداف:
1- المحافظة التامة على حرية وادي النيل ووحدته واستقلاله، ودفع كل سلطان أجنبي عنه.
2- توثيق الروابط الكاملة بالأمم العربية والإسلامية، ومساعدة هذه الأقطار على استكمال حريتها واستقلالها؛ فهم جيراننا في الوطن، وإخواننا في الدين، وبنو عمنا في النسب، وشركاؤنا في اللغة والمصالح، والآلام والآمال.
3- صبغ الحياة الاجتماعية بهذه الصبغة الإسلامية المجيدة ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: 138)؛ فالتشريع والتعليم والتقاليد يجب أن يكون أساسها تعاليم الإسلام الحنيف، والمنكرات والموبقات التي يحاربها هديه السامي من: الخمر، والزنا، والقمار، واللهو، والمجون، والاختلاط الشائن، والعبث الفاسد، والغناء المبتذل، والتمثيل الخليع، والمؤلفات والمكتبات المفسدة.. كلها يجب أن تعتبر جرائم يعاقب عليها القانون وتطاردها الحكومة.
وليس في ذلك معنى للتعصب؛ فإن الإسلام بريء من هذا كله، ولكن معناه انتصار للفضيلة التي جاءت بها الأديان جميعًا، ومطاردة الجريمة التي طاردتها الأديان جميعًا، وإيقاظ للضمائر التي لا تستيقظ بغير دين، وإنصاف للناس حتى يأخذ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه.
4- العناية الكاملة بموارد الثروة ومطاردة البؤس والفقر، وهو أساس الجهل والمرض؛ باستغلال الموارد الطبيعية، والعناية بالصناعة، وتنشيط التجارة، وتكوين الشركات الوطنية، وتشجيع الملكيات الصغيرة، وتحديد الصلة بين المالكين والمستأجرين، وإعادة النظر في الضرائب، وإقرار نظام الزكاة لإمداد الخدمات الاجتماعية النافعة؛ حتى يكون في أموال الأغنياء حق معلوم للسائل والمحروم.
وتحت عنوان "الإضاءة على الشواطئ" طالب الإخوان الحكومة بإنارة الشواطئ؛ توفيرًا للأمن وصيانةً للآداب العامة, وحتى لا تُستغلَّ الشواطئ ليلاً في الأعمال المنافية للآداب, كما طالبوا بمنع شرب الخمر عليها أو لعب الميسر أو السهر لساعاتٍ متأخرة من الليل، فتتحوَّل هذه الشواطئ إلى باراتٍ وبؤر للمنكرات.
وأخذ الإخوان على وزارة الأوقاف موقفها من تأجير جزءٍ من الأوقاف في وسط القاهرة ليكون مركزًا لترويج الخمر والميسر، بل عمل الدعاية له.
واستمرت جهود الإخوان في التصدي لكل عوامل انهيار المجتمع؛ فقد كتب الأستاذ عبد الحكيم الوشاحي في عموده بمجلة الإخوان تحت عنوان "ورقة اليانصيب" وضَّح فيه انتشار ظاهرة ببيع ورق اليانصيب، حتى إن الطرقات أصبحت مليئةً بهؤلاء الباعة بين شبابٍ وشيوخٍ ونساءٍ وأطفالٍ، حتى أصبح هذا الشيء المحرَّم أسهلَ مشروع للتربُّح الحرام.
وكان أكثر أنواع المقامرة والميسر انتشارًا هو سباق الخيل، والذي كان يقام لصالح جمعية خيرية أو مبرَّة إصلاحية، وأوضح الإخوان أن الغايةَ لا تبرِّر الوسيلة، وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فإذا لم يكن من سبيلٍ لجمع المال من الموسرين إلا موائد القمار وحفلات السباق، فلتقفل هذه الجمعيات الخيرية التي تعتمد على ما حرَّمه الله.
وعندما سنَّت الحكومة قانونًا ينظِّم لعب الميسر عام 1947م طالب الإخوان بسن قانون يلغي الميسر لا ينظِّمه, وقالوا لو كانت الحكومة جادة في حماية المجتمع والأسر من هذه الآفة الاجتماعية لكان يكفيها أن تُصدر قانونًا من مادة واحدة يحرِّم جميع أنواع الميسر في النوادي العامة والخاصة؛ فهذا أجدى لحماية المجتمع.
كما أوضحوا أن الميسر والخمر أدَّيا إلى زيادة معدل الجريمة والقتل في المجتمع؛ فقد وصل عدد حوادث القتل في مصر عام 1947 إلى 102 مقارنةً بعام 1946، والتي بلغت 79، وهذه الزيادة من جرَّاء ما يحدث في أندية القمار.
وكتب الإمام البنا مقالاً تحت عنوان "أضرار المقامرة" أوضح فيه الدوافع النفسية إلى القمار، فقال فيه: يقول النفسيون: إن كل عملٍ من أعمال الإنسان نتيجةُ ميلٍ خاص وغريزة معينة تدخل في تكوين النفس الأساسي، فإن كان هذا الميل صالحًا وهذه الغريزة مهذَّبة كان العمل شريفًا نافعًا، وبالعكس.. إذا كان هذا الميل وضيعًا والغريزة إلى الحيوانية الأولى أقرب منها إلى الإنسانية كان العمل دنيئًا ضارًّا كثيرًا؛ ما يدفع صاحبه إلى الهلاك والإجرام، مثال ذلك أن الإحسان إلى الفقير عملٌ شريف؛ لأنه ينبعث عن غريزة الرحمة، وهي غريزة إنسانية شريفة، والسرقة عمل حقير؛ لأنه ينبعث عن غريزة الطمع والشَّره وهي غريزة حيوانية ممقوتة".
ثم أكمل: "أضرار القمار الخلقية: يعرِّفون "الخُلُق" بأنها مَلَكة نفسية تصدر عنها الأعمال، فإذا كانت تأمر بالخير وتصدر عنها الفضائل سُمِّيت خلقًا فاضلاً شريفًا، وإذا كانت تأمر بالمنكر وتصدر عنها الرذيلة سُمِّيت خلقًا دنيئًا وضيعًا، وكل عمل من أعمال الإنسان كما أنه يصدر عن هذه المَلَكات يؤثِّر فيها كذلك؛ فمن الأعمال ما يزيد الخلق الطيب قوةً ويضعف الخلق الخبيث فيسمَّى ذلك بالعمل الصالح، ومنها ما يؤثِّر عكس ذلك فيقتل الخلق الطيب ويظهر عليه الخبيث فيسمَّى عملاً غير صالح.
والقمار أيها السادة يميت في نفس اللاعب أعزَّ الفضائل، ويقضي على أخص صفاته ومواهبه؛ فهو سوسة الخلق ومستقر الرذيلة، ولنضرب الأمثلة على ذلك بإيجاز واختصار:
ذلك الذي يكسب في المقامرة.. ما معنى كسبه؟! أليس معناه أنه مدَّ يده إلى جيب صديقه أو قريبه أو أحد من يعرف فاختلس منه نقوده التي كدَّ فيها وتعب، دون أن يعوِّضه عنها شيئًا، وتركه يتحرَّق غيظًا ويتلوى كمدًا وهو ضاحك السن قرير العين؛ لأنه فاز وكسب؟! هو في هذه الحالة لصٌّ ووحشٌ، إن لم يكن في عُرف القانون ففي عُرف الحقيقة.. لص لأنه أخذ غير حقه بدون مقابل، بل شرٌّ من لص؛ لأن اللص يعتدي على غير أهله وأصدقائه، وكثيرًا ما يكون مضطرًا إلى هذا العدوان، ووحش لأنه يُسَرُّ بحزن غيره ويفرح بكمد سواه، ويحيا بموت غيره.. فأين عواطف الأناس من نفس هذا المجرم الأثيم؟! وكلما تكرَّر عمله كلما مرن على الشر.
تربية الأحقاد والضغائن، فمن ذا الذي يرى غيره يتمتع بما له بدون كدّ ثم لا يحنق عليه ولا يضمر له أشد البغضاء وأفظع الشحناء؟! وحسبكم بذلك قضاء على الفضيلة والشرف".
ثم يقول: "الأضرار الاجتماعية: الاجتماع- أيها السادة- يراد به تعاون بني الإنسان وتعاطفهم ذلك التعاون الغريزي المركَّب في طبع الإنسان، والذي به قضاء لوازمه وحاجياته وحفظ حقوقه الطبيعية والمدنية، وكل شيء يكون من شأنه تقوية هذه الرابطة والانتفاع بها يسمَّى عملاً اجتماعيًّا مفيدًا، وكل عمل يكون من شأنه إضعافها وعدم الانتفاع منها يسمَّى عملاً اجتماعيًّا ضارًّا، والقمار من هذا الأخير، وبيان ذلك بالأمثلة الآتية:
1- رأينا مما تقدَّم كيف أن القمار مفسد للخلق الصالح الذي هو مدار تعاطف الناس ومحبتهم، مولِّد للشحناء والبغضاء التي تجعل التعاون على المنافع محالاً، فأي ضررٍ بالاجتماع أكبر من إفساد الصلات والروابط، ووقف حركة التعاون الضروري للبشر؟!
2- الدعوة إلى الجريمة والاعتداء: فقد علمنا ما ينجم عن القمار من حقد النفوس وغلِّها؛ مما يثير في كثيرٍ من النفوس الحفائظَ والغيظَ، فيدعوها إلى الإجرام؛ ذلك إلى أن الولع بالقمار كافٍ وحده لدفع بعض النفوس في سبيل الجريمة والسرقة؛ إذ يحتال المقامر لجلب المال من حلِّه ومن غير حلِّه، وكم سمعنا أن موظفًا اختلس المال الذي تحت يده، وإذا فتشنا عن السبب الحقيقي وجدناه عدم استقامة هذا البائس، وما حادث موظف البريد عنا ببعيد.
3- الأسرة أيها السادة نواة الاجتماع، وأقوى مظاهره، وأشد العوامل في صلاحه أو فساده، والقمار خطر عظيم على بناء الأسرة، وقضاء مبرم على سعادتها وهناءتها؛ فهو يدفع الزوج إلى سلب زوجه كلَّ ما تمتلك، وإلى أن يبخل عليها بما ينفق أضعافَه على مائدة القمار، وإلى إهمال أبنائه الليل والنهار؛ فلا يقوِّم أخلاقهم، ولا يُقيم فسادهم، ولا يشعرهم حنان الأبوة وعطف الوالد، إلى ترك زوجه طول الليل فريدةً مستوحشةً تندب بؤسها وتبكي سعادتها، ولسان حالها يقول: "تطاول هذا الليل وازورَّ جانبه".
وقالوا: إن رجلاً تعوَّد المقامرة حتى أتت على جميع ما يملك وتملك زوجه، فمدَّ يده إلى حلي بناته فأعطته زوجه إياه في علبة صغيرة، ولما فتحها ليبيع ما فيها وجد في أسفلها بطاقة مكتوبًا عليها بخط زوجته: "يا هذا.. إنك حين تبيع هذا الحلي تبيع مستقبل بناتك وتقضي عليهن، فانظر ما أنت صانع"، ويظهر أن الرجل كانت لا تزال له بقية من حياة الضمير، فهاج بنفسه حنان الوالد، فثاب إلى رشده ورجع عن عادته، ومن لك بمثل هذا؟!.
ومن هنا أيها السادة كان القمار خطرًا على الأمة؛ لأنه يقطع صلات المودَّة فيها، خطرًا على الحكومة؛ لأنه يُثير الجريمة التي تحاربها، خطرًا على الأسرة؛ لأنه يصدِّع بناءها ويهدم كيانها، وتلك أصول الاجتماع؛ فهو خطر على الاجتماع من جميع نواحيه.
الأضرار المالية
المال أيها السادة مادة الحياة وقوام المشروعات النافعة، واعتزاز الأمم وبخاصةٍ في هذه العصور المادية، إنما ينبني على ثروتها وشرفها بالأغنياء فيها، هذه الولايات المتحدة إنما تقود العالم بأموالها، وتدير دفته الاقتصادية بأصحاب الأعمال والملايين من أهلها، والقمار عفريت الثروات وخراب البيوت، وأمامنا المشاهد والحوادث:
1- فكم من ثريٍّ عظيم كان غنيَّ قومه وسيد عشيرته، ساقه القضاء إلى المائدة الخضراء فأتت على ثروته؛ لا تدع منها ذهبًا ولا فضة، ولولا حرمة البؤس والموت لسردنا أسماء كثير من العظماء الذين طبع القمار حياتهم بطبائع الشقاء.
2- وكم من شابٍ تركه أبواه يتقلب في أعطاف النعيم، ويمرح في بحبوحة الثراء، والتفَّ حوله سماسرة السوء ورسل الفقر، فساقوه إلى المُقْمِر؛ حيث فقد شرفه وأمواله، ووقع فريسة المرابين والدائنين، ثم انفضوا عنه وتركوه ملومًا محسورًا بين براثن البؤس ومخالب الفقر، و"على نفسها جنت براقش".
3- وكم من موظَّفٍ يرتع في رغد العيش سعيدًا بأسرته وأبنائه، مغتبطًا بنعمة الله عليه، وما هو إلا أن يسوقه القدر المتاح إلى المُقْمِر المجتاح، فيستنفد مرتبه ومثله معه، ويدع أبناءه يتضوَّرون جوعًا ويتضاغون ألمًا، ويرقبون آخر الشهر كما يرقب السجين مدته، فإذا جاء ما ينتظرون طار عائلهم بأمنيتهم إلى حيث يسد بها دَيْنه أو يرضي منها شهوة نفسه، ثم يعود إليهم صفر اليدين، مقطَّب الجبين، فلا يجد أمامه إلا زوجةً باكيةً وأبناءً بائسين.
وكم من سيدة ذهبت إلى "التيرو" وما شاكله من بيوت الوبال وبالوعات المال مثقلةً بحُليِّها، باشَّةَ الوجه، وما هو إلا جولة أو جولتان ثم تعود إلى منزلها تندب الحظ والحلي، والشرف والسمعة، وكذلك شأن المقامرة؛ لا تُشبِع ولا تُقنِع، تحطِّم الأخضر واليابس، وتلتهم الأبيض والأصفر، ثم تقول: هل من مزيد؟!
ولو أن هذه الأموال التي تذهب هباءً منثورًا أنفقت في سبيل المشروعات النافعة لآوت كثيرًا من عاطلي الأمة وأحداثها الذين لا يجدون ملجأ، ولخفَّفت جمَّ المصائب والآلام عن المنكوبين الذين لا يرون مسليًا، ولكن هو الشيطان لعنه الله ﴿قَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ (النساء: 118).
الأضرار الصحية
لو علم المقامر ما يجنيه على صحته وبدنه بهذا اللعب لما أجاز لنفسه أن يغشَّها بقوله: أروِّح عن نفسي من عناء العمل والكَدِّ، فما أبعد الحقيقة من هذا الزعم!، وأعرق هذا الخيال في الوهم!؛ فالمقامر يجني على بدنه من حيث لا يشعر، ويقامر بصحته وهو لا يدري، وإلى حضراتكم أسباب ذلك:
1- قرَّر الأطباء أن الإنسان إذا أفرط في السهر وحرم نفسه راحة النوم، ودام الحال على ذلك مدةً، اختلَّت أجهزة الجسم، وأدى ذلك إلى فقر الدم واصفرار الوجه، وقال جالينوس: "إن أكثر ضرر السهر يقع على القلب والدماغ والرئتين".
2- قرَّر الأطباء أن الجهود الفكرية والجسدية تثير الدورة الدموية والحركة أيًّا كانت، يلازمها احتراق الدم المار في جزئيات الأنسجة البدنية والأعصاب عملاً بقاعدة "الاحتراق البطيء"، وإذا طالت هذه الحركة نفد الدم الصالح للاحتراق، وازدادت الرواسب الفاسدة الناشئة عن هذا الاحتراق، وهذه الرواسب سم زعاف يمتصها الجسم، فيحس الإنسان حينئذٍ ما يسمَّى بالفتور أو الملل أو التعب، ويقول الأطباء: إن هذا الإحساس كصمام الأمن في الآلة البخارية؛ ينذر الإنسان بضرورة تعطيل العمل، والتماس الراحة بالبعد عن الضوضاء، والتروُّض في الهواء الطلق، والابتعاد عن الهواجس والمؤثرات، وإلا سعى في حتفه وعرَّض جسمه للتسمم.
والمقامر تلهيه شواغل اللعب وترقُّب النتائج عن الإحساس بالتعب، فيستمر في عمله غير حاسبٍ للراحة حسابًا حتى تتسمم عضلاته فيجني على صحته.
3- قرَّر الأطباء كذلك أن لمفاجأة المؤثرات النفسية وتواليها تأثيرًا عظيمًا على الجسم، سواءٌ في ذلك الحزن والسرور؛ فهي تهيج الدم وتثير الأعصاب، وقد يؤدي هذا التأثير إلى الصعق والغشية، بل إلى الموت.
الأضرار الدينية
الميسر أيها السادة جزءٌ من تاريخ العرب الاجتماعي كانوا يلعبونه في جاهليتهم؛ يقصدون بلعبه العطفَ على الفقراء ومساعدة الضعفاء؛ فكان الكاسب لا يَطعَم ما يكسب، وإنما يفرِّقه على ضَعَفَةِ قومه وفقراء عشيرته؛ ولذلك عدُّوه من مفاخرهم وذكروه بين مآثرهم، قال النمر بن تولب يصف مجلس لعب وما ولَّده من الحقد في نفس الخاسر:
ولقد شَهِدتُ إذا القداحُ توحَّدت
- وشَهِدتُ عند الليل مَوقِدَ نَارِها
حتى إذا قسم النصيب وأصفقت
- يده بجلدة ضرعها وحُوارها
ظهرت ندامته وهان بسخطه
- سبًّا على مربوعها وعذارها
مما سبق نرى جهود الإخوان في التصدي للميسر ومحاولتهم تعريف الأمة بمخاطره على جميع الجوانب.
المراجع
1- مجموعة رسائل الأمام البنا: شركة البصائر للبحوث والدراسات، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2006م.
2- من تراث الإمام البنا، إلى الأمة الناهضة، البصائر للبحوث والدراسات، 2006م.
3- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد 343، رجب 1366هـ, 15/6/1947م، ص 2.
4- جمعة أمين عبد العزيز، أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية.