دور الإخوان في إصلاح المجتمع ومحاربة الفساد (4)
تحدثنا من قبل عن البغاء، وما جلبه على الشعب المصري من خراب وعار وذلة ومهانة، ورأينا كيف كان دور جماعة الإخوان المسلمين في التصدي لهذا الداء، وانطلاقها- في حيِّز الكتاب والسنة- تدافع عن أمن المجتمع وسلامته، وقد توقَّفنا فيه عند بداية الحرب العالمية الثانية، على أن يتم استكمال جهودها أثناء فترة الحرب وما بعدها، غير أننا رأينا أن نبدأ بموضوع العري والسفور قبل أن ننتهي من موضوع البغاء لاقتران القضيتَين بعضهما البعض، وأن العُري والسفور ما هو إلا مقدمة لدفع الفتاة إلى التخلي عن الفضيلة والانغماس في حياة الوحل والبغاء.
وننظر هنا إلى دور الإخوان لمجابهة هذه الظاهرة، والتي أخذت تنتشر منذ دخل المحتل الأجنبي بلادنا، خاصةً بعد أن ساعده على ذلك بعض دعاة الفجور والسير في ركاب الحضارة الغربية، ونقل عنها كل سوء، وخرجت علينا الدعاوى التي تطالب بحرية المرأة وتقليدها لنساء الغرب؛ مما دفع كثيرًا من الفتيات إلى التخلي عن الفضيلة والارتماء في أحضان كل طالب متعة.
كما أن المحتل الإنجليزي حرص كل الحرص على اصطحاب- بل وجلب- كثير من نساء الغرب اللائي نشرْن الفاحشة بين صفوف الفتيات الآمنات؛ مما دفع كثيرًا من فتياتنا إلى تقليدهن في كل شيء، حتى إن بعض فتيات الطبقات العليا كنَّ يمارسن البغاء من باب التسلية، وعدم شغل فراغهن بالنافع المفيد، حتى ظهرت دعوة الإخوان، فارتمى في أحضانها الشباب والفتيات؛ لينهلوا من تعاليم الإسلام الواضحة الشفافة الشاملة، فخرجوا رجالاً وخرجن أخواتٍ، نشروا الفضيلة وسط ربوع المجتمع، وأصبحت الدعوة أمل كل فرد في الوطن.
التصدي للعري والسفور قبل الحرب الثانية
من مظاهر الفساد الدخيلة على المجتمع في ذلك الوقت انتشار التبرُّج والسفور؛ إذ بدأت تخرج بعض النساء في الطرقات عاريات سافرات متبرِّجات متهتِّكات، فلا الزوج تدفعه الغيرة فيكبح جماح زوجه، ولا الأب تحرِّكه نخوة الرجولة فيهذب ابنته ويراقبها، بل هال الإخوان ما كانوا يرونه في المصايف؛ إذ كانوا يستبعدون أن يحدث هذا مهما تطوَّر التمدّن، وانتشرت عوامل التقليد الأعمى!!..
فكتب الأخ عفيفي الشافعي عطوة نائب حي الأربعين بالسويس مقالاً تحت عنوان: "الفضيلة تنعى أنصارها"، جاء فيه: "وهل هناك أكثر شرًّا وأعظم سوءًا من أن يهرع النساء في مثل هذه الأيام إلى البلاد الساحلية يتسابقْن في القفز والطفو في الماء، وهي أجسام عارية، لا يخشين الله، ولا يرعين للدين حرمة.. حالة مزرية وتبرُّج ممقوت، وشذوذ مرذول.. وقد سَرَت عدواهن إلى بناتهن؛ فنشأت بعيدات عن طهارة الأخلاق ونقاوة النفس؛ إذ جعلن حصر همِّهن في التبرُّج والزينة، والخروج المروع عن حدِّ الأدب".
وكتب آخر مقالاً تحت عنوان: "المصايف" جاء فيه: "حقًّا لقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وانحطَّت الأخلاق في معظم الطبقات، حتى غدوا من مكارم الأخلاق في إفلاس، وقضى كثير من المسلمين أوقاتهم بين الكاس والطاس، استعصى الداء وعز الدواء، فلئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، تجيء أشهر الصيف ويا ليتها ما تجيء، تأتينا بالفسوق والعصيان، تأتينا بالمهازل والهذيان، تأتينا بالخزي والخذلان، تأتينا بإغضاب الرحمن، ومحاربة الملك الديان".
وألف أحد الإخوة قصيدةً يبين فيها ما يحدث على شاطئ البحر قال فيها:
على شاطئ "استنلي" هنالك في الثغر
- وقفنا نجيل الطرف في البر والبحر
فما راعنا إلا جسوم تمدَّدت
- إزاء جسوم قد تعرَّت عن الستر
نساء وأطفال وشيب وفتية
- كأن عبادًا في موقف الحشر
جموع وأشتات هنالك كوَّنت
- مزيجًا لألوان من البيض والسمر
فأرسلتُ نحو الموج نظرة فاحص
- فكان الذي في البحر يربو على البر
ففي البحر أقداح الخلاعة تُحتَسى
- وفي البرّ أقداحٌ تدار من الخمر!
مضى صاحبي مثل الدليل يقودني
- وقد كنت مطويَّ الضلوع على جمر
يقول: تأمَّل لا حياء ولا تخف
- فليس علينا من جناح ولا وزر
ولقد استجابت الحكومة لهذه النداءات المتكررة، فأصدرت وزارة الداخلية قانونًا للمحافظة على الآداب العامة في سنة 1934م، وقد قام الإخوان بشكر هذه الخطوة الحكيمة، وطلبوا من الحكومة أن تمنع بعض المجلات الأجنبية التي تأتي من خارج مصر كمجلة "لاسورير" الفرنسية التي تحتوي صورًا عاريةً فاضحةً.
وعندما تقدمت حكومة النحاس باشا عام 1936م بمشروع قانون للأحكام الشرعية المستمدة من المذاهب الأربعة والملائمة للتطور الاجتماعي، وقد جمع بين الدين والدنيا، أثنى الإخوان على هذا المشروع، وكتبوا: "ولقد تفاءلت بهذه النبذة التي تناولت- على إيجازها- تنفيذ أصول الأحكام الشرعية بقانون؛ الأمر الذي يُرضي الله عنكم، ويثلج صدور سواد الأمة، ففساد الأخلاق يا دولة الرئيس والاستهتار بالآداب العامة، وتبرُّج النساء علانيةً في الطرقات، وتزيين الوجوه بكافة أنواع المساحيق، وإظهار النهود، وإبراز الظهور، وكشف الأذرع، وتضييق الملابس لدرجة تفصِّل الجسم تفصيلاً أمام الناظرين، وضياع الحياء من النساء في الطرقات والمجتمعات والاحتفالات، وبروز المرأة في المصايف بشكل فاضح، واختلاط الجنسين عند الاستحمام في البحر، وما يترتب على ذلك من المغازلة والمهاترة والمدافعة بين الرجال والنساء، وتهافُت الشبان على الفتيات لما يبدين من فتنة، وما ترتب على ذلك من انصراف الشبان عن الزواج لما تيسَّر لهم من الأغراض المبذولة؛ أصبح خطرًا كل الخطر على كيان الأُسَر المصرية، وخمود الحمية والغيرة على الأعراض تدريجيًّا بما يجعلها من أعراض المدنية الفاسدة".
وقد أثَّرت هذه الدعوات المتكررة من الإخوان لمحاربة الفساد في نفوس بعض الغيورين؛ مما دفعهم إلى أن يرفعوا طلبًا إلى النحاس باشا يناشدونه القضاء على مظاهر الفساد الأخلاقي، فنشرتها جريدة الإخوان المسلمين تحت عنوان: "دعوة إلى الله فعضدوها" جاء فيها: "يا دولة الرئيس.. إنكم تقيمون الصلاة وتبتغون مرضاة الله، وقد دانت لكم البلاد، ووُلِّيتم أمرها، فأعدوا لها ما استطعتم لدفع ما فشا فيها من فحشاء ومنكر، وها هو فصل الصيف قد أتى بخلاعته المشهورة؛ ففي سواحل البحر نساء عاريات، يتسابقن إلى كشف عوراتهن ومواضع العفة منهن بكل الوسائل؛ إغراءً للرجال، ورغبةً في الفحش، وإسرافًا في الرذيلة، يا صاحب الرياسات:
أمام دولتكم أمران: إما أن تنصروا الله وتصونوا حدوده ومحارمه أن تُنتَهَك، وتضربوا على أيدي الفسَقَة الفَجَرة، وتمنعوا الأعراض أن تُداس على شواطئ البحر، إما أن تفعلوا ذلك، وإما أن تتركوا الفضيلة تنحر والدين يندثر، فلا تنتظروا بعدها للبلاد خيرًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
كما رفع أحد الإخوان أيضًا طلبًا إلى صاحب الدولة رئيس الوزراء وفضيلة شيخ الأزهر؛ للقضاء على بعض مظاهر الفساد التي تُرتكب في الجناين العامة الشهيرة بالشلالات وغيرها بالإسكندرية.
أثناء الحرب الثانية وبعدها
ولقد شخَّص فضيلة الشيخ علي الطنطاوي الحالة في ذاك الوقت في مقال له بمجلة الإخوان المسلمين قائلاً: لا يركب المرء ترامًا في القاهرة مثلاً ولا سيارة، ولا يمشي في طريق، ولا يدخل حديقة إلا رأى الصبايا كاشفات النحور والصدور والأذرع والسيقان والأفخاذ أحيانًا.. أفما يسأل الأب نفسه ماذا يصنع الشاب بنفسه وهو يرى هذا كله؟ كيف يقبل على درس أو ينصرف إلى عمل؟ والبنات كيف يقاومن غارات الشباب عليهن وهن فتحن بابها؟ أعرف أن كل أب يحسن الظن بابنته ويقول: هي شريفة لا يخشى عليها، ويقيس نظرة الشباب إليها على نظرته هو إليها، وتلك غفلة ما وراءها غفلة، هذا الأب كالنعامة التي زعموا أن الصياد إذا لحقها، وأحاط بها وعجزت عن الفرار دفنت رأسها في الرمل لظنها أنه لن يراها ما دامت هي لا تراه.
وانتقد الإخوان موجات العُري المتوالية في الشوارع والمواصلات، وعلى الشواطئ في فترات المصايف، والتي يندى منها جبين الفضيلة، وامتلأت صحفهم بالمقالات التي تحارب هذه الظواهر، وتدعو للفضيلة والاحتشام، فتحت عنوان: "ماذا وراءك يا صيف؟ نساء عاريات على الشواطئ والصالات وسكة السويس وفي طريق الأهرام.. أيها الوزراء هل أنتم مسلمون؟!" كتب الأستاذ صالح عشماوي.
وحمَّل الإخوان وزارة المعارف جانبًا من انتشار العُري والتبرُّج، فحينما تنصَّل سعادة محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف أمام مجلس النواب من الفساد الأخلاقي للبنات وازدياد موجة التبرج قائلاً: "واحنا مالنا؟!" اعتبر الإخوان أن هذا الرد غريب في لفظه ومعناه؛ لأنه دلَّ على فهم ضيق للمسئولية الوزارية، فمن ينكر علاقة وزارة المعارف بالتربية والأخلاق؟! وأورد الإخوان عددًا من الظواهر التي حدثت في مدارس ومعاهد التعليم.
واشترك طلاب الإخوان في الأقاليم في مطالبة وزير المعارف بقيام وزارته بدور في حماية الأخلاق، ولهذا كله أصدر معالي وزير المعارف قرارًا وزاريًّا بفصل القسم الخاص بالرياضة البدنية للبنات من المراقبة العامة للتربية البدنية، وجعله تابعًا للمراقبة العامة للبنات لتوحيد النظر في شئونهن.
وينبغي أن نشير إلى أن النصيب الأكبر في محاربة الإخوان للعري والسفور كانت في الميدان العملي عن طريق التربية وفي الدروس، وغيرها من الوسائل بالشُّعَب والمناطق، وغرس قيم الفضيلة والاحتشام والغيرة على العرض والأهل، ونشر أخلاق الحياء والعفة في أفراد المجتمع.
وإن ما يحدث الآن في القرن الحادي والعشرين ما هو إلا صورة مما كان يحدث في عهد الإنجليز؛ حيث خرجت الفتيات والنساء سافرات متجردات من ثيابهن، معرِضات عن الفضيلة؛ وذلك بسبب ضعف التربية الأولية، وعدم مراقبة الآباء، وضعف مناهج الدراسية، والانحلال الذي ساد المجتمع؛ مما سهَّل الفرصة أمام الفتيات لأن يتحلَّلن من معاني الفضيلة تحت مسمَّى التمدُّن والتقدم، لكن السبب الأكبر هو ضياع الغيرة وانطفاء الحمية في قلب كل مسلم؛ فأصبح الأب أو الأخ أو الزوج يرى ما تفعله الفتاة شيئًا عاديًّا، بل يكون سعيدًا بما يرى عليه فتياته.
فيا ليت الرجال يغيرون على محارمهم؛ إذًا لعمت الفضيلة وسط هذا الشعب المكلوم. وإن شاء الله نكمل جهود الإخوان للتصدي للبغاء أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها.