دور الإخوان في إصلاح المجتمع ومحاربة الفساد (5)
تواصلاً مع حديث محاربة الإخوان للظواهر السيئة في المجتمع المصري، مثل البغاء الذي انتشر على أيدي الاحتلال وسط المجتمع المصري، وكيف أنه سنَّ كلَّ ذلك بقانون يُبيح ممارسة البغاء دون الوقوع تحت طائلة القانون، ورأينا كيف أن الإخوان منذ أن بزغ فجر دعوتهم ومن قبلها أيضًا عملوا على التصدي لهذا الداء الذي حطَّ من كرامة الشعب، ونشر الأمراض وسط شباب الأمة ونسائها..
وها نحن نكمل هذه الجهود التي استمرَّت حتى قامت الثورة، واستطاع الإخوان قبل أن تتأزَّم المشكلة بينهم وبين رجال الثورة أن يلغوا قانون إباحة البغاء، سواءٌ العلني أو السري.
لم يضنّ الإخوان يومًا بتقديم النصيحة للملك، والكتابة إليه لتبصيره بالفساد الذي ينتشر في المجتمع ليعذروا أمام الله، ولقد حدث أنَّ وفدًا من الإخوان قصد السراي الملكية- وكان على رأسهم المرشد العام- وقدموا عريضةً للملك يطالبون فيها بإلغاء البغاء الرسمي والسري، وتحريم الخمر، ومحاربة السفور والإباحية، كما طالبوا بتحريم المقامرة، وسَنّ قانون يمنع الربا، كما طالبوا بالعناية بالتعليم والمساجد.
وقد لامَ الإخوان بشدَّة وزارةَ محمد محمود باشا، فكتب الأستاذ صالح عشماوي يعيب على رئيس الوزراء قبولَه بالسماح للزنا والدعارة التي تمارَس سرًّا وجهرًا قائلاً: "إننا نعلم- يا رفعة الرئيس- أنك نشأت في أرض صعيد مصر المحافظ على عاداته وتقاليده، وأنه يجري في عروقك الدمُ الشرقي الحار، وما نظن أن بضع سنوات قضيتَها في أكسفورد قد غيَّرت طبيعتَك، وحالت بينك وبين المحافظة الشديدة على العادات والتقاليد..
أما أنت يا سيدي هيكل- محمد حسين هيكل (وزير المعارف)- يا صاحب كتاب "حياة محمد" و"في منزل الوحي"، كيف ترضى أن يصرح بكل هذا الفجور لوزارة أنت فيها مسئول؟ أما اللوم الكبير فهو لوزير جليل صاحب المعالي مصطفى بك عبد الرازق وزير الأوقاف، وهو مسئولٌ بحكم التضامن عن سياسة الوزارة العامة، كيف ترضى معاليكم وأنت من خرِّيجي الأزهر الشريف وعلماء الإسلام أن تسكتَ على هذا وقد تولَّيت أمر المسلمين وأصبحت من ولاة الأمر والنهي؟!".
كما أثنى الإخوان على ما تقدم به بعض الوزراء من مشروعات نافعة، فشكروا وزارة العدل على تشكيلها لجنةً لبحث مشروع قانون خاص بإلغاء البغاء الرسمي، وتحريم الميسر، وتقييد شرب المسكرات، ولم ينسَ الإخوان مطالبة الوزارة بالسرعة في إصدار ذلك القانون، فضلاً عن شكرها وزارةَ الداخلية التي نبَّهت على أصحاب المسارح بالبُّعد عن الروايات المبتذلة، وتحت ضغوط الإخوان على الحكومات والمطالبة بإلغاء هذا الداء لم تستطع حكومة الوفد عام 1943م إلا إلغاء البغاء الرسمي في القرى وعدم إعطاء تراخيص لبيوت جديدة لممارسة البغاء.
كما قامت الشعب بعقد المحاضرات العامة لتوعية الشعب بمخاطر الزنا والبغاء، ولتربِّي الناس على الفضيلة والأخلاق.
ولقد كتب الإخوان إلى عبد السلام الشاذلي باشا وزير الشئون الاجتماعية خطابًا يستحثونه على القضاء على البغاء، جاء فيه: "يا صاحب المعالي.. سلام الله عليك، وبعد فإن وزارة الشئون الاجتماعية التي تُشرِفون عليها قد صادفت هوى في نفوس الشعب، وأصابت موطن الداء ومكمن المرض، هذه الوزارة الجديدة التي نحدِّثها عن آمالنا ومآربنا ونلقي إليها آراءنا ومطالبنا..
واليوم يا صاحب المعالي أمامك قضية من القضايا التي نسج عليها الدهر خيوطه، وطال عليها الأمد حتى أوشكت أن تشيب، رغم أنها لا تزال في عنفوان شبابها.. هذه القضية هي قضية إلغاء البغاء، إنه قلما وجدت حكومة من الحكومات السابقة لم تعلن في خطبها الرسمية وفي أحاديث وزرائها وكبرائها أنها جادَّة في هذا الموضوع، وأنها ستحلُّ المسألة حلاًّ عاجلاً.. فسنّوا القوانين الصارمة والعقوبات المؤلمة لكل مستهتر ومستهترة، وكل معتد على كل فتاة، وكل امرأة معتدية على فتاة أيضًا..
فإن لم تتداركوا الحال بما عُرف عنكم من الغيرة والجرأة والشهامة، عسر في المستقبل إيجاد جيل يعتصم بالفضيلة، ويستمسك بالأخلاق الفاضلة، وكان من الصعب مداواة هذا المرض الذي يربو كل يوم ويزداد.
وقد استجابت كثير من الإدارات لدعوات الإخوان، وقرَّرت إلغاء البغاء الرسمي بها، وقد احتفى الإخوان بهذه الإدارات، ووجَّهوا لها الشكر الجزيل على تلبية دعواتهم، متمنيين أن يعم ذلك كافة أنحاء القطر.
وفي عام 1946م قام حاكم باريس بسنِّ قانون يلغي فيه البغاء، بعدما رأى ضعف شباب فرنسا أمام الجيوش الألمانية وهزيمتهم أمامهم في أقل وقت؛ بسبب الانحلال والخنوعة التي كان يعيش فيها شباب فرنسا لانتشار البغاء وانغماسهم في الترف، ومن ثم طالب الإخوان الحكومة بالاقتداء بما حدث في باريس، فلا مصر أقل من باريس وفيها الأزهر الشريف والدين القويم.
رفع الإخوان مذكرةً إلى المأمور ورئيس المجلس القروي ومجلس "فرشوط" القروي قالوا فيها: "حضرة صاحب العزة مأمور مركز نجع حمادي ورئيس مجلس القروي ومجلس فرشوط القروي.. الإخوان المسلمون بيابورة يتشرفون برفع الآتي إلى عزتكم، وما عُرف عن عزتكم من حب للدين وتعاليمه، وما اشتهرتم به من شرف ونبالة، يجعلُنا على ثقة أن تحقِّقوا مطلبنا العادل الذي يحتِّمه الدين، ويوجبه رب العالمين، ومثلكم يحب إعلاء كلمة الدين وتنفيذ أوامره، ولذا نرفع الآتي:
البغاء كبيرة من الكبائر، حرمها لله صيانةً للأنساب، وحفظًا للصحة والأخلاق، وإبقاءً للأسرة والعائلات، وإن أثره السيئ محسوس معايَن، وفتكه بالصحة والأخلاق مشاهد، وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمانَ عن مرتكبه وعمن يرضَى به..
وإننا في حالة شدة، وإن الأمن والطمأنينة من رب الأرض والسماء، وإن الانخلاع عن معصيته إرضاء له سبب في إبعاد الكرب عنا، وإنزال الطمأنينة والأمن بنا، فبِلِسَان الدين وصوت القرآن الكريم نتقدَّم برجاء عزتكم أن تقرِّروا إلغاء البغاء من ناحيتي نجع حمادي وفرشوط، أول جملة من ملمات جليلة، وأن تأمروا بمنع الإعلانات التي تُنشَر عن الخمور من على الجدران حتى تطهِّروا المركز من دنس هذه الكبيرة.
ولسنا أول من يتقدم بهذا الطلب، ولستم أول من يلغي هذه الكبيرة، فقد سبق بإلغائه وزير الأوقاف الحالي عندما كان مديرًا للبحيرة من مدينة دمنهور، وقد ألغاه مدير القليوبية من مدينة بنها، ولنا وطيدُ الأمل في عزتكم أن تكونوا من السابقين إلى إلغائه؛ ليكون لكم عند الله عهدًا وأجرًا، وللدين من عزتكم تأييدًا ونصرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وعندما حدث تضارب بين الإدارات التي تشرف على البغاء؛ مثل إدارة التراخيص والإدارة الصحية حول تبعية المومسات لأي الإدارات، استنكر الإخوان ذلك، وطالب مجلس النواب والشيوخ والوزراء بصرف هذه الجهود إلى النافع للوطن بدلاً من تسخير كل هذه الجهود من أجل خدمة جنود المحتل والمومسات، وطالب باستغلال الموظفين القائمين على التراخيص والأطباء والممرضات ورجال البوليس الذين يحمون أماكن البغاء فيما يعود على الوطن بكل صالح.
كما أنهم نظروا لتجربة سوريا في طرد المومسات الأجنبيات وإمهال الأخريات في الانصراف إلى الأعمال الصالحة أو الزواج، وإلا حَقَّ عليهم الطرد من البلاد، فطالب الإخوان حكومة مصر بالاقتداء بحكومة سوريا للقضاء على هذا الداء.
كما أنهم لم ينسوا تذكير الشعب بما جاء في التشريع الرباني من التصدِّي لهذا الداء، وطالبوا الشعب بالوقوف وبالدفع وراء الحكومات؛ حتى يصدر قانونٌ يحمي الأعراض ويلغي هذا الوباء.
وبالرغم من كون الجماعة قد صدر قرارُ حلِّها في 8 ديسمبر 1948م وسُجن أعضاؤها وشُرِّد رجالها، إلا أنها سرعان ما عادت بعد الإفراج عن رجالها ومع حربهم في الرجوع للشرعية لم ينسوا المطالبة بإلغاء البغاء، الذي ذلَّ البلاد وجعل وجْهَ بلاد الأزهر قبيحًا، وتحقَّق لهم ذلك بعد ثورة يوليو.
وللحديث بقية حول جهود الإخوان في باقي المجالات.