د. عبدالرحمن البر يكتب : وَلَا يَحْـزُنْكَ قَوْلُــهُمْ

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
د. عبد الرحمن البر يكتب : وَلَا يَحْـزُنْكَ قَوْلُــهُمْ

09-01-2014

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله، وعلى آلهِ وصحبِهِ ومَنْ والاه واهتَدى بهُداه.

وبعدُ؛ فإنَّ مِنْ أعظمِ أسبابِ ما يَلْقَى الْمُصلِحون من البَلَاء: رِقَّةَ الدِّينِ لَدَى خُصومِ الإصلاحِ، وأحيانًا غيابَ الدينِ مِنْ حِسابِهم أصلًا، مما يُهَوِّنُ على أولئك الخصومِ استعمالَ كلِّ أساليبِ المكْرِ والغِشِّ والكذبِ والافتراءِ، بلا أدْنى إحساسٍ بالذنبِ، وبلا وازعٍ مِنْ ضمير، ولا يملكُ الْمُصلِحون أن يَتَدَنَّوْا إلى مستوَى خُصومِهم في الافتراءِ والكذبِ والإسفافِ، ولذلك يتجَمَّلون بالصبرِ ويترفَّعُون عن الدَّنايا، ويستَنْكِفون أن يتعامَلوا بالمثلِ مع محترفي الإفْكِ والزُّور، ولله دَرُّ الشاعر الذي قال:

بَلاءٌ ليس يُشْبِهه بَلاءٌ عدَاوةُ غير ذي حَسَبٍ ودينِ

يُشِينُكَ عِرْضُهُ إِنْ نِلْتَ مِنْهُ

ويَرْتَعُ مِنْكَ في عِرْضٍ مَصون

لهذا لا ينبغي أيها الإخوةُ الكرامُ أن يأخذَ الحُزْنُ مِنَّا، ونحن نرى فئةً من الناسِ اعتادت الكذبَ والافتراءَ، تتناولُ الْمُصلِحين الوطنيين المخلصين بالأكاذيبِ والأراجيفِ والسخافات، ولا ينبغي أنْ نتوقَّع ممَّن يتنفَّسُ الظلمَ والكذبَ أنْ يعتدلَ في تناوله، أو يستقيمَ في طرْحِه، فهم كما وصف اللهُ ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ (المؤمنون 70)، ومن ثَمَّ لا يُتَوَقَّعُ منهم عَدْلٌ ولا إِنْصاف:

وَمُكَلِّفُ الأَشْيَاءِ ضِدَّ طِبَاعِهَا مُتَطَلِّبٌ فِي المَاءِ جَذْوَةَ نَارِ

أكتبُ هذا بمناسبةِ مَعْزُوفَةِ الحقدِ والسوءِ الإعلاميةِ التي لا تَكُفُّ عن تناولِ السيدِ الرئيسِ محمد مرسي حفظه الله وجماعةِ الإخوانِ المسلمين، والتي لا تكادُ تنكشفُ سَوْءَتُها ويُفْتَضَحُ كَذِبُها في أمرٍ إلا بادرتْ إلى افتراءِ واختلاقِ كَذِبٍ غيرِه، في دَأَبٍ عجيبٍ على الكذبِ، وفجاجةٍ عجيبةٍ في الافتراء، وخروجٍ واضحٍ إلى سَخَفٍ سَمجٍ ممقوتٍ يتنزَّهُ العقلاءُ عن تناوله، وقد رأيتُ أنَّ بعضَ المحبين يعْتَرِيه الهَمُّ ويُصيبُه الحُزْنُ والغَمُّ أحيانًا وهو يتابعُ ما تتقَيَّؤُه هذه الماكينةُ الإعلاميةُ التي لا تتوقَّفُ ولا تتوانَى عن هذا الكذبِ والافتراءِ، ولستُ بصَدَدِ الرَّدِّ على تلك الأكاذيبِ، فهي أَكْذَبُ من أن تحتاجَ لِرَدٍّ، وأَسْفَهُ وأَسْخَفُ من أن يُشْتَغَل بتناولها، ولكنِّي أكتبُ فيما ينبغي أنْ نُواجِهَ به كلَّ تلك الأشكالِ من الأذى.

إذْ لا ينبغِي للمُصلِح أنْ يستغرقَه الحزنُ على ما ينالُه من الأذَى، فينصرفَ عن القيامِ بمهمَّتِه، أو يُقَصِّرَ أو يَتَوانَى في العملِ لرسالتِه، وهذا نبيُّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ...» الحديث.

وإذَا كان الحُزْنُ أمرًا طبيعيًّا يُصيبُ الإنسانَ، ولا يحصُلُ بالاختيار، وقد يكونُ محمودًا مُثَابًا عليه، كَالْحَزِينِ عَلَى مُصِيبَةٍ فِي دِينِهِ، وَعَلَى مَصَائِبِ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا؛ فإنَّه يجبُ على المسلمِ أنْ يُرَوِّضَ نفسَه على أَلَّا يُفْضِيَ به الحُزنُ إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ به مِنْ الصَّبْرِ وَالْجِهَادِ، وَمِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ، لأنَّ الحزنَ إذَا أَفْضَى إلَى ضَعْفِ الْقَلْبِ وَالانشغالِ عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَانَ مَذْمُومًا، خصوصًا إنْ كان المحزونُ عليه ممَّا لا يُمْكنُ استدراكُه.

وشِدُّة الحُزْنِ قد تدفعُ إلى الجزعِ والأَسَى والإِبْلاسِ، الذي يدفعُ إلى اليأسِ والقُنُوطِ والقُعُودِ عن نُصْرةِ الحقِّ، وهو ما يسعَى الأفَّاكون الْمُرجِفون لتحقيقه بافتراءاتهم وبما يَخْرِقونه منْ أكاذيب، ولا يصحُّ أنْ يقعَ في شِراكِهم المسلمُ عمومًا، فضلًا عن المصلِح الْمُجاهِد.

ولَمَّا كان المسلمُ –وبخاصةٍ المصلِحُ المجاهِدُ- يتعرَّضُ للإيذاءِ حينًا بعد حينٍ، ممَّا يُحْزِنُه ويؤثِّر فيه، فإنَّ له في سيرةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي قصصِ الأنبياءِ عليهم السلامُ أُسْوَةً، وفي مَصيرِ الْمُكذِّبين والْمُرْجِفِين سَلْوَى، وفي الوَعْدِ الربانيِّ بالنصرِ بُشْرَى، وكُلَّما عرَضَ له شيءٌ من الحُزنِ بمُقتضى الطبعِ البشريِّ فإنَّ عليه أنْ يرجعَ إلى آياتِ الكتابِ العزيزِ؛ لِيَسْتَمِدَّ منه الزادَ الْمُعينَ على الْمُضِيِّ في طريقِ الحقِّ الْمُبين.

وهذه جولةٌ يسيرةٌ مع القرآنِ العظيمِ وهو يَعْرِضُ للأذَى الإعلاميِّ الذي ينالُ المصلِحين، وكيف ينبغي أن يكونَ التعاملُ معه:

1- الشيطانُ يَسْعَى لإدْخالِ الهَمِّ والحَزَنِ على المؤمنين:

﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (يوسف 5)، ولذلك فإنَّه لعنه اللهُ يجتهدُ فيما يسوءُ المؤمنَ وما يَحْزُنُه، من خلالِ استعمالِ المنافقين والمتربِّصِين والْمُرْجِفين في اختلاقِ الأخبارِ الكاذبةِ، وترويج الإشاعاتِ الباطلةِ، التي يمكنُ أنْ تنالَ من عزائمِ المصلحينَ، أو تُوقِعَ اليأس في قلوبِ المؤمنين ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ولكنَّ اللهَ تَعَالَى يُطَمْئِنُ المؤمنينَ بأنَّ ذلك لنْ يَضُرَّهم شيئًا إلا أنْ يشاءَ الله، ويدْعُوهم للتوكُّلِ عليه، فيقولُ سبحانه ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (المجادلة 10)، وذلك ما علَّمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس فيما أخرجه الترمذى بسند صحيح: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ».

إذَا عَلِمْتَ هذَا أيُّها الأخُ المجاهدُ فلا تَسْتَجِبْ لِكَيْدِ الشيطانِ بإِدْخالِ الحُزنِ إلى قلبِك، واجعلْ تَعَلُّقَكَ دائمًا بالله وَلِيِّ المؤمنين ومَوْئِلِهم ومَلْجَئِهم.

2- لَنَا في رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي الأنبياءِ علبهم السلامُ أُسْوة:

إذَا تَسَرَّبَ إلى نفسِك شيءٌ من الحزنِ بسببِ فجَاجةِ الافتراءاتِ فتذكَّرْ أنَّك لسْتَ أكْرمَ على اللهِ من أنبيائِه، ولا أعزَّ عليه من رُسُلِه، وأنَّهم عليهم السلامُ مع مكانِهم من اللهِ تعرَّضُوا لما هو أشدُّ ممَّا تتعرَّضُ له، فما زادَهُم ذلك إلا صبرًا وإقدامًا وجهادًا، وهذا ربُّ العزةِ سبحانه يُسَلِّي نبيَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين داخَلَه بعضُ الحُزْنِ مما يقولُ أعداؤُه، فيقول له ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام 33-34)، ومن أمثلةِ ما أُوذِي به أنبياءُ الله اتهامُهم بالسحر والكذبِ، ووصفُهم بالجنونِ والضلالِ والسفاهةِ، وغير ذلك من الأباطيل ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ (الذاريات 52-53).
- آذَوْا نوحًا عليه السلامُ فقالوا ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (الأعراف 60) ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ (القمر9).
- وهودًا عليه السلامُ فقالوا ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (الأعراف 66).
- وصالحًا عليه السلامُ ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ (الشعراء 154).
- ويعقوبَ عليه السلامُ قال أولادُه ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ (يوسف 8)، ثم ﴿قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ﴾ (يوسف 95).
- وشُعَيْبًا عليه السلامُ ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (الشعراء 185-186).
- وموسى عليه السلامُ قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ ﴿سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ (الذاريات 39) وقال له هو وَهَامَانُ وَقَارُونُ ﴿سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (غافر 23-24) .
- وعيسى عليه السلامُ ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (الصف 6).
- أمَّا خاتمُ الأنبياءِ وأفضلُ خلقِ الله محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد نالَه النصيبُ الأكبرُ من التشويهِ والافتراءِ ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾ (يونس 2) ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (الحجر6) ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ (الصافات 36) ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (ص 4) ﴿وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ﴾ (الدخان 14) ﴿وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ (القلم 51).
وأمثالُ هذا وغيرُه من أشكالِ الافتراءِ والتشويهِ والأذى للأنبياء في القرآن كثيرٌ، طال حتى الخوضَ في عِرْضِ الطاهرةِ المطهَّرةِ عائشة رضي الله عنها.
ويُقدِّمُ لنا القرآنُ صورةً واقعيةً من صُورِ تَوْليدِ الكذبِ والافتراءِ في حكايتِه حالَ الوليدِ بنِ المغيرة، وهو يبحثُ عن شيءٍ يعيبُ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلمَّا أعياه أنْ يجدَ عيْبًا، أخذَ في الافتراءِ الفاضح ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ (المدثر : 18 – 25).
ولقدْ مضى الزَّمانُ مُخَلِّدًا ذِكْرَ المصلحينَ وجهادَهم في صفحاتِ العِزِّ والفَخَار، وطاويًا ذِكْرَ الْمُفْتَرِين المجرِمين الْمُرجِفين بين قِمامات الخِزْي والعار ﴿لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ﴾ (فصلت 16).
فاعلموا إخواني وأخواتي أنَّنا لَسْنا أعزَّ على الله من أنبيائِه ورسلِه عليهم السلامُ، وأنَّ الابتلاءَ بمثل هذا يؤكِّد أننا نسيرُ في الطريقِ الصحيحِ الذي سلكه سادةُ الخلق من أنبياءِ الله ورسلِه عليهم صلواتُ الله وسلامُه.

3 – اللهُ يعلمُ ما يفتريه المُرجِفونَ ويتولَّى الدفاعَ عن أوليائِه:

مما يُربِّي الحقُّ سبحانه وتعالى المؤمنين عليه: أنْ يُوقِنوا بأنَّه سبحانه شاهدٌ لا يغيبُ، وأنه عليمٌ بما يمكرُ المجرمون، ولا يخفَى عليه ما يفتري الكاذِبون، وأنه مُتَكَفِّلٌ بالتصدِّي لهم، وكَفَى باللهِ وكيلا.
إذَا كَانَ غَيْرُ اللهِ لِلْمَرْءِ عُدَّةً أَتَتْهُ الرَّزَايَا مِنْ وُجُوهِ الفَوَائِدِ
قالَ تعالى ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق 45)، وقال تعالى ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (يونس 65)، وقال تعالى ﴿فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ (يس 76)، وكأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ في نفْسِه: كيفَ لا أحزنُ وأعداؤُنا يتطاوَلُون عليْنا ويتوعَّدُوننا وهُم –فيما يبدو- أهلُ عِزَّة وقوةٍ ومَنَعةٍ، ولَدَيْهم أجهزةُ الترويجِ للأكاذيبِ والافتراءات؟ فيجيبُه الحقُّ سبحانه: بأنَّ عِزَّتَهُم كالعدمِ؛ لأنها محدودةٌ وزائلةٌ، والعزَّةُ الحقيقيةُ كلُّها لله الذي أرسلَكَ، وهو يعلمُ سِرَّهُم قبل علانِيَتِهم، فلا تَحْزَنْ، واصبِرْ، ودعْ أذَاهم عنْك، واترُك أمرَ التصدِّي لكَذِبِهم ومحاسبتهم للهِ، ولا تَسْتَبْطِئْ الانتقامَ فإنه محقَّقٌ وقوعُه، ولكنَّ اللهَ يؤخِّرُه لحكمةٍ تقتضي تأخيرَه ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ (ن 44-45) ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (المدثر 11).
وهل يحتاجُ المؤمنُ تطمينًا إلهيًّا أكثرَ من ذلك، ليمضيَ في طريقِهِ مُستمسِكًا بالحقِّ غيرَ عابِئٍ بما يلْقَى من الأذى؟.

4 - عدم التأثُّر أو ضيقِ الصَّدْرِ بما يقولون، فلنْ يتعدَّى كونَه كلامًا أجْوَفَ وتهديدًا فارغًا:

مهما يَكُنْ كَيْدُ الكائدين فهو ضعيفٌ، لا يتجاوزُ أبداً قَدَرَ الله للعبدِ، ولنْ يضُرَّ المؤمنينَ في الحقيقة ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى﴾ (آل عمران 111) ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ (آل عمران 120)، ولهذا لا ينبغِي أنْ يملأَ الحزنُ قلبَك، أوْ أنْ يستوليَ الضَّيْقُ على صدرِك من هذا المكْر الزائلِ بإذنِ الله ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ (النحل 127)، ولكَ فيما صنع اللهُ بالمجرمين السابقين عِبْرة ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ (النمل 69-70)، وكُنْ دائمًا على يقينٍ من هذه السُّنَّةِ الإلهيَّةِ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر 14).

5- الواجباتُ العمليةُ على المؤمنين:

إذا كانَ الأمرُ كذلكَ فالمؤمنُ يهتمُّ أكثرَ ما يهتَمُّ بتعميقِ صِلَتِه بالله، وتعلُّقِه بكرَمِه وجُودِه، وتصحيحِ عقيدتِه على النحو السابق، ويسعى في مواجهة الباطل واقتِلاع جُذورِه بكلِّ الأسبابِ المشروعةِ، وهو يركِّزُ في واجباتِه العمليَّة، وأهمُّها:
- الصبرُ الجميلُ في انتظارِ الفَرَجِ القَريبِ ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا. وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ (المعارج 5-7)، والصبرُ الجميلُ: هو الذي لا جزَعَ فيه ولا شكْوَى لغيرِ الله، مثلما فعَلَ نبيُّ الله يعقوبُ، لما مكَر بنُوه بأخيهم يوسف ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف 18) يعني: سَأَصْبِرُ صَبْراً جَمِيلاً لاَ شَكْوَى فِيهِ عَلَى مَا اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يُفَرَّجَهُ اللهُ بِكَرَمِهِ وَمِنِّهِ، وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنَ الكَذِبِ وَالبُهْتَانِ.
- الهجرُ الجميل، وهو التَّرْكُ القَلْبِي الَّذي لاَ عِتَابَ فِيهِ، ولا تَعَالِيَ ولا تَكَبُّرَ، وَلاَ تَفْكِيرَ فِي انْتِقَامٍ ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً﴾ (المزمل 10- 11). ومن ألوانِ هذا الهجرِ الجميلِ اليومَ: مقاطعةُ الصحفِ والقنواتِ والبرامجِ الفضائيةِ والإذاعيةِ التي لا هَمَّ لأصحابها إلا الافتراءَ ونشرَ الأكاذيب.
- الذكرُ والتسبيحُ للملك الجليل: يَشْغَلُ المؤمنُ حالَه ومعظم وقته –وبخاصة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وفي جوف الليل- بالذِّكْرِ والتسبيحِ والدُّعاءِ، فضلًا عن اتِّخاذِ الأسبابِ، واثقًا في نصرِ الله وتأييدِه ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر 97-99)، ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ (طه 130)، ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ (ق 39-40).

ولعلَّ السِّرَّ في الأمرِ بالتسبيحِ والتَّحْمِيد: أنَّ ذلك يُعطِي الإنسانَ شحنةً رُوحيةً تَحْلُو بها مرارةُ الصَّبْر، ويَحملُ التسبيحُ بحَمْدِ الله معنييْن جليليْن لا بُدَّ أنْ يرْعاهما من ابْتُلِي:

1- تنْزيهُ الله تعالى أنْ يفعلَ شيئًا عبثاً، بل كلُّ فعلِه موافقٌ للحكمةِ التامَّة، فبَلاؤُه لِحِكْمة.
2- أنَّ له تعالى في كلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةً، وفي كلِّ بَلِيَّةٍ نعمةً، ينبغي أنْ تُذْكَرَ فتُشْكرَ وتُحْمَدَ، وهذا هو سِرُّ اقترانِ التسبيحِ بالحمدِ هنا. وفي قوله ﴿رَبَّكَ﴾ إيذانٌ بكمالِ التربيةِ ومزيدِ العناية.

دعوةُ المؤمنين لعدمِ الحُزْنِ فالنَّصْرُ قريب

في الختامِ أُذَكِّرُ نفسي وإخواني بقول الله تعالى ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران 139-141)، واعلموا أنَّ الأمرَ يَضِيقُ أو يَتَّسِعُ بقَدْرِ ما يستقِرُّ في نفوسِنا من يقينٍ أو ضعف:

إذَا ضَيَّقْتَ أَمْراً ضَاقَ جِدًّا

وَإِنْ هَوَّنْتَ مَا قَدْ عَزَّ هَانَا

فَلَا تَهْلِكْ لِشَيْءٍ فَاتَ حُزْناً

فَكَمْ أَمْرٍ تَصَعَّبَ ثُمَّ لَانَا

فاثبُتوا أيُّها المصلِحون الكرماءُ، ولا يَحْزُنْكُم كلُّ ما يقولُه المتربِّصون والْمُفْتَرون والْمُرْجِفُون في البلادِ من السياسيين الفَشَلَةِ والإعلاميِّين الكَذَبَةِ، وحافِظوا واستمسِكوا بسِلْمِيَّةِ مسيرتِكم لإسقاطِ هذا العبَثِ الانقلابيِّ، ولا تستجيبوا لأيِّ استفزازٍ يحاولُ به الانقلابيُّون جَرَّكُم إلى أيِّ صورةٍ من صُورِ العُنف، ووثِّقُوا صِلَتَكم باللهِ تسبيحًا وتحميدًا وتهليلًا، وقوموا بين يديْ الله بالأسْحار، واجْأَرُوا إليه وألِحُّوا عليه بالدُّعاء، واذكُروه كثيرًا لعلَّكم تُفلحون.

اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، مُجْرِيَ السَّحَابِ، هَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، وكُلَّ مَنْ شَارَكَ الانْقِلَابَ، الَّذِينَ قَتَلُوا العِبَادَ، وأَفْسَدُوا فِي الْبِلَادِ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُم، وفُلَّ حَدَّهُمْ، وأَذْهِبْ قُوَّتَهُمْ، وأَدِلْ دَوْلَتَهُمْ، وأَفْشِلْ خُطَّتَهُمْ، وأَبْطِلْ مَكِيدتَهُمْ، ومَزِّقْ سُلْطَتَهُمْ، واقْذِفِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وضَيِّقْ عَلَيْهِمْ نُفُوسَهُمْ، وضَيِّقْ علَيْهِمُ الأَرْضَ بِمَا رَحُبَتْ، وخَالِفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وآرَائِهِمْ، واجْعَلْ الخُلْفَ فِي صُفُوفِهِمْ، وفَرِّقْ جَمْعَهُمْ، واجْعَلْ بَأْسَهُمْ بيْنَهُمْ شَدِيدًا، واجْزِهِمْ بِبَغْيِهِمْ، واجْعَلْ دائِرَةَ السَّوْءِ تدُورُ عَلَيْهِمْ، واجْعَلْ مَكْرَ السَّوْءِ يَحِيقُ بِهِمْ، وأَنْزِلْ عَلَيْهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، ولَا تَرْفَعْ لَهُمْ رَايَةً، وَلَا تُحَقِّقْ لَهُمْ هَدَفًا ولَا غَايَةً، وأَخْزِهِمْ واجْعَلْهُمْ للنَّاسِ عِبْرَةً وآيَة، وحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ومَا يُرِيدُونَ ومَا يُخَطِّطُونَ لَهُ مِنَ الشَّرِّ بِالبِلَادِ والإِسَاءَةِ إِلَى العِبَادِ، كَمَا فَعَلْتَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ، اللَّهُمَّ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَاسْلُبْهُمْ مَدَدَ الإِمْهَالِ، واجْعَلْهُمْ فِي وَبَالٍ، واجْعَلْ حَالَهُمْ فِي سَفَالٍ، واجْعَلْ مَكْرَهُم إِلَى زَوَالٍ، واجْعَلْ سَعْيَهُمْ فِي ضَلَالٍ، وعَاجِلْهُمْ بِغَضِبَك، وسَلِّطْ عَلَيْهِمْ سَيْفَ انْتِقَامِكَ، إنَّكَ عَزِيزٌ ذُو اْنِتَقام.

المصدر