رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة (1)

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة (1)

بقلم / أ. عبد المنعم الشريف


مقدمة

الإمام حسن البنا

يمكن طرح ثلاثة أسئلة رئيسية والإجابة عليها لمعرفة الغرض من هذه الدراسة وهي:

لماذا ..؟

1. لمحاولة تسليط الضوء على رؤية الأستاذ البنا رحمه الله لمشروع النهضة .

2. إظهار جوانب التجديد والتطوير التي تحتاجها هذه الدراسة .

3. وضع هذه الرؤية أمام الباحثين والنقاد لتناولها بالبحث والنقد .

4. إثراء الساحة الثقافية حول موضوع النهضة .

كيف ..؟

من خلال متابعة متأنية لرسائل الأستاذ البنا رحمه الله ، ورصد دقيق لما احتوته من تصورات وتوجيهات نحو تحقيق النهضة الشاملة .

لمن ...؟

لكل من يرجو لهذه الأمة الحيرى ، أن تنهض من كبوتها ، وتصحو من غفوتها ، وتلتقط زمام أمرها ، وتتبوأ مكانها بين الأمم .

رجاء ....!

أرجو من الله تعالى أن تصل هذه السطور إلى غايتها ، وهي إظهار التصور الإسلامي للنهضة ، وبيان الوجهة الصحيحة التي ينبغي للأمة أن تسلكها .

كانت هذه المقدمة الاستفهامية بمثابة خارطة أساسية لبيان أسباب ، ووسائل ، ووجهة هذه الدراسة .


الأسس المنهجية لفكرة النهضة عند البنّا

من الضروري لنا ونحن نتناول هذه الدراسة ، أن نتعرف على المنطلقات التي اعتمدها الأستاذ البنّا لهذا المشروع ، و نتابع طريقه في التحرك نحو تحقيق شروط هذه النهضة ، وكيف استخلص الدروس ، ومن خلال هذه الأسس ، يمكن تعميق الثقة في هذا المشروع وبيان سلامة منهجه ، وكذلك الارتفاع بمستوى الولاء من الولاء العاطفي إلى الولاء العقدي و الذرائعي والشرعي ، كما يمكن أن تكون هذه الدراسة أرضية مشتركة للمهتمين بشأن النهضة ،وأخيرا لنتعرف على أسلوب رصين يربط بين العقل والنقل ، في توازيٍ لا يُوقفه تقاطع ، وانسجام لا يُعطّله تضارب ، وإليكم هذه الأسس تباعا :


أولا : التفكير في التحديات التي تواجه الأمة

من المتعارف عليه في فقه مواجهة الأزمات ، أن يتجه الذين يريدون حل أي أزمة أولا إلى التفكير فيها ، واستعراض الأزمة من جميع جوانبها ، وتحليل عيوبها ، ويأتي بعد ذلك البحث عن حلول لهذه الأزمة ، وهذا ما انتهجه عليه رحمة الله فقال :

' ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، حوادث عدة ألهبت نفسي ،و أهاجت كوامن الشجن في قلبي ! ولفتت نظري إلى وجوب الجد، والعمل ، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه ، والتأسيس بعد التدريس...ولقد أخذت أفاتح كثيراً من كبار القوم في وجوب النهوض ، والعمل ، وسلوك طريق الجد، والتكوين ، فكنت أجد التثبيط أحيانا ،والتشجيع أحيانا، والتريث أحيانا ، ولكني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية ....ولّيت وجهي شطر الأصدقاء والإخوان ، ممن جمعني وإياهم عهد الطلب ، وصدق الود ، والشعور بالواجب ، فوجدت استعدادا حسنا ...وكان عهد ، وكان موثق ، أن يعمل كل منا لهذه الغاية ، حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة .'

'ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة ، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها ، ونحلل العلل ،والأدواء ، ونفكر في العلاج وحسم الداء ، ويفيض بنا التأثر لما وصلت إليه إلى حد البكاء...كنا نعجب لهؤلاء الناس وكثير منهم من المثقفين ،ومن هم أولى منا بحمل هذا العبء ، ثم يقول بعضنا لبعض : أليس هذه داء من أدواء الأمة ولعله أخطرها ، ألا ّ تفكر في مرضها ، وألاّ تعمل لعلاج نفسها. ...ولهذا وأمثاله نعمل ، ولإصلاح هذا الفساد وقفنا أنفسنا، فنتعزى ونحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه '.( رسالة المؤتمر الخامس ) .


ثانياً دراسة التاريخ والواقع

إن التاريخ هو كنز الخبرات ، ومعرض المآلات ، ومدرسة لمعرفة أسباب النجاح والإخفاق ، وأن من أجاد فنّ الاعتبار قد اطمأن على صحة المسار ، فأيقن رحمه الله ، أن على كل من أراد أن يحدث تغييرا اجتماعيا ، لابد أن يكون له مع التاريخ وقفات ، لاستلهام العظات ، وتجنب العثرات ، ومراقبة حركة السنن الإلهية ، في المجتمعات ، من حين تكوينها ، إلى مراحل ازدهارها ، وأسباب سقوطها وانهيارها ، ففي ثنايا هذه المراحل تكمن العبرة ، وتختبئ الموعظة ، وتظهر القدوة ، وتُسفر النتائج ، فلقد اعتمد القرآن هذا الطريق ، وسلك هذا السبيل في التقويم ، فعرض علينا صورا شتى لأمم كانت مندثرة فظهرت ، وأخرى كانت عامرة فخربت ، وكل ذلك للاعتبار ، وقراءة الأسباب ، وتوضيح السنن التي تقوم عليها الحياة، ويمكن أن ننوه بأن دراسة التاريخ تحتاج إلى وقفة أكبر ، وأشمل ، وأعمق ، ولكننا معنيون هنا فقط ببيان المنهجية التي تأسست عليها الفكرة ..

ويمكن أن نسجل هنا بعض النظرات التاريخية للأستاذ البنا في ثنايا رسائله :

'إن نهضات الأمم جميعا إنما بدأت على حال من الضعف يخيل للناظر إليها أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال ، ومع هذا الخيال ، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر ،والثبات ، والحكمة ، والأناة،وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجوا القائمون بها من توفيق ونجاح ....! ومن ذا الذي كان يصدق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان .. ! وتسيطر بنفوذ أبناءها الروحي والسياسي ، على أعظم دول العالم ؟ ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر ، وهو ذلك القلب الرقيق اللين ، وقد انتقض الناس عليه وحار أنصاره في أمرهم ، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشا تقمع العصاة ، وتنتقم من المرتدين ، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين ؟ '( رسالة إلى أي شيء ندعو الناس ).


دراسة التاريخ الإسلامي

لقد أدرك الأستاذ البنا عليه رحمة الله أن بداية إنشاء هذه الأمة كان بفضل التوجيه الرباني الذي خصها الله به ، وأكد أنها كانت بداية صحيحة ،ومتينة ، و أن وضوح ، وقوة مبادئها الأولى هو الذي شكل لها الإطار الحضاري الذي ، ارتسمت في داخله معالم هذه الأمة الوليدة فقال :

'منذ ألف و ثلاثمائة سنة و سبعين عاما نادى محمد بن عبد الله النبي الأمي في بطن مكة و على راس الصفا :'(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158) .

فكانت تلك الدعوة الجامعة حدا فاصلا في الكون كله , بين ماض مظلم , و مستقبل باهر مشرق , و حاضر زاخر سعيد , و إعلانا واضحا مبينا لنظام جديد شارعه الله العليم الخبير و مبلغه محمد البشير النذير , و كتابه القرآن الواضح المنير , و جنده السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار , و الذين اتبعوهم بإحسان , و ليس من وضع الناس , و لكنه صبغة الله , و من أحسن من الله صبغة : (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ , صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى:52-53) .

على قواعد هذا النظام الاجتماعي القرآني الفاضل قامت الدولة الإسلامية الأولى تؤمن به إيمانا عميقا و تطبقه تطبيقا دقيقا و تنشره في العالمين ...و كانت الوحدة بكل معانيها و مظاهرها شملت هذه الأمة الناشئة , فالوحدة الاجتماعية شاملة بتعميم نظام القرآن و لغة القرآن , و الوحدة السياسية شاملة في ظل أمير المؤمنين و تحت لواء الخلافة في العاصمة , و لم يحل دونها أن كانت الفكرة الإسلامية فكرة لا مركزية في الجيوش , و في بيوت المال , و في تصرفات الولاة , إذ أن الجميع يعملون بعقيدة واحدة و بتوجيه عام متحد .

و لقد طردت هذه المبادئ القرآنية الوثنية المخرفة في جزيرة العرب و في بلاد الفرس فقضت عليها , و طاردت اليهودية الماكرة فحصرتها في نطاق ضيق و قضت على سلطانها الديني و السياسي قضاء تاما , وصارعت المسيحية حتى انحصر ظلها في قارتي آسيا و أفريقيا و انحازت إلى أوربا في ظل الدولة الرومانية الشرقية بالقسطنطينية , و تركز بذلك السلطان الروحي والسياسي بالدولة الإسلامية في القارتين العظيمتين , و ألحت بالغزو على القارة الثالثة تهاجم القسطنطينية من الشرق وتحاصرها حتى يجهدها الحصار , و تأتيها من الغرب فتقتحم الأندلس وتصل جنودها المظفرة إلى قلب فرنسا و إلى شمال و جنوب إيطاليا , و تقيم في غرب أوربا دولة شامخة البنيان مشرقة بالعلم و العرفان , و يتم لها بعد ذلك فتح القسطنطينية نفسها وحصر المسيحية و حصر المسيحية في هذا الجزء المحدود من قلب أوربا , وتمخر الأساطيل الإسلامية عباب البحرين الأبيض و الأحمر فيصير كل منهما بحيرة إسلامية , وتقبض قوات الدولة الإسلامية بذلك على مفاتيح البحار في الشرق والغرب وتتم لها السيادة البرية و البحرية .

وقد اتصلت بغيرها من الأمم ، ونقلت كثيراً من الحضارات ، ولكنها تغلبت بقوة إيمانها ومتانة نظامها عليها جميعاً ، فعربتها أو كادت ، واستطاعت أن تصبغها وأن تحملها على لغتها ودينها بما فيهما من روعة وحيوية وجمال ، ولم يمنعها أن تأخذ النافع من هذه الحضارات جميعاً ، من غير أن يؤثر ذلك في وحدتها الاجتماعية أو السياسية ..(رسالة بين الأمس واليوم) .

عوامل تحلل كيان الأمة

بعد أن رأينا أن البنا عليه رحمة الله قد اتخذ من دراسة التاريخ أساسا لرؤيته ، وجعل من إعمال النظر في السنن طريقا قويما إلى النهضة المرجوة ، نطلع على المزيد من وقفاته مع تاريخ الأمة الإسلامية و الأسباب التي جعلت منها أمة هملاً لا تلوي على شيء .... فيقول :

ومع هذه القوة البالغة والسلطان الواسع ، فإن عوامل التحلل قد أخذت تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية , وتعظم و تنتشر و تقوى شيئا فشيئا حتى مزقت هذا الكيان وقضت على الدولة الإسلامية المركزية في القرن السادس الهجري بأيدي التتار , وفي القرن الرابع عشر الهجري مرة ثانية , وتركت وراءها في كلتا المرتين أمما مبعثرة و دويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة و تتوثب للنهوض .. (رسالة بين الأمس واليوم) .

وكان أهم هذه العوامل ما يلي :

1. الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه .. ( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا.. وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال46 .

2. الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة.... (ما ضل قوم بعدي على هدى إلا أوتوا الجدل ...) .

3. الانغماس في ألوان الترف والنعيم , والإقبال على المتعة والشهوات.... (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16) .

4. ـ انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب، من الفرس تارة، والديلم تارة أخرى، والمماليك والأتراك وغيرهم ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم لمعانيه....(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118).

5. ـ إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة ... ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس:101)

6. غرور الحكام بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم ، حتى سبقتهم في الاستعداد والأهبة، وأخذتهم على غرة , وقد أمرهم القرآن باليقظة و حذرهم من مغبة الغفلة و اعتبر الغافلين كالأنعام بل هم أضل : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179).

7. الانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم ، والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم ، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع , مع النهي الشديد عن التشبه بهم و الأمر الصريح بمخالفتهم و المحافظة على مقومات الأمة الإسلامية والتحذير من مغبة هذا التقليد..... (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100) .

8. ضعف الدافع العقدي ... (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) (آل عمران:149) . ( رسالة بين الأمس واليوم ) .


أشكال من الصراعات التي واجهت الأمة

ثم يذكر رحمه الله أن الأمة قد واجهت على حال ضعفها السالف الذكر ، عدة أشكال من الصراع ، وأولها :

أولاً: الصراع السياسي

و اتخذ هذا النوع من الصراع عدة أشكال على مدار قرون ، فقد انغرس خنجر التتار في قلب الخلافة ببغداد سنة 656هجرية، فتناثرت حبات عقد الخلافة ، وتفرقت الأمة إلى دويلات ، وتتالت عليها تسع حملات صليبية تقودها أوربا الموتورة ، فقد سنحت الفرصة للأخذ بالثأر ، فتُوِّجتْ هذه الحملات بإقامة دولة صليبية في بيت المقدس وتهديد دول الإسلام في الشرق والغرب .

وبالرغم من هذا المحاق ، إلاّ أن الله تعالى لم يأذن بعد بانتصار الباطل على الحق ، فعاد بيت المقدس في حطين ، ودُحِر التتار في عين جالوت ، وعادت الخلافة من جديد وارفة الظلال تحت لواء العثمانيين ، وفُتحت القسطنطينية وامتد الإسلام إلى قلب أوربا . .

ولكن أوربا لم تهدأ كما هدأنا ، ولم تغفل كما غفلنا ، واختلطت بالإسلام غربا بالأندلس ،وشرقا بالحملات الصليبية ، فلم تضيع الفرصة ، فأخذت تتجمع ،وتتقوى ، تحت لواء الفرنجة في بلاد الغال ،فقامت الدولة الأسبانية الفتية على أنقاض الأندلس ، واكتُشفت أمريكا ،والهند ، ونبغ فيها كثير من المصلحين ، وتكونت فيها الأحلاف المقدسة ، وأقبلت على العلم الكوني والمعرفة المنتجة المثمرة .....، وعاد الهجوم ...!

لقد انتهت مرحلة الصراع السياسي بالحرب العالمية الأولى، وقُسمت تركة الرجل المريض بأشكال مختلفة ،كالاحتلال ، والانتداب ،والوصاية ،والاستعمار ، وانتصرت أوربا في هذا الصراع السياسي ،ثم هبّت هذه الدول إلى المطالبة باستقلالها ، وظهر المعنى القومي الخاص بكل دولة ، وفي هذه الأثناء اشتعلت الحرب العالمية الثانية .

ملاحظة :

( لقد تعمدت التصرف في ما ورد في رسالة ( بين الأمس واليوم ) خوفا من الإطالة ..!ومن أراد الإطلاع على النص الكامل ، فسيجده هناك... ).


ثانيا : الصراع الاجتماعي

وقد اتخذ هذا النوع من الصراع ، والتدافع عدة أشكال ، وعلى مدار قرون فيقول الأستاذ البنا تحت عنوان : حضارة جديدة تتبلور ' إن الأمم الأوربية التي اتصلت بالإسلام و شعوبه في الشرق بالحروب الصليبية , و في الغرب بمجاورة عرب الأندلس و خالطتهم , و لم تستفد من هذا الاتصال مجرد الشعور القوي أو التجمع و التوحد السياسي , و لكنها أفادت إلى جانب ذلك يقظة ذهنية و عقلية كبيرة و اكتسبت علوما و معارف جمة ...' ( رسالة بين الأمس واليوم ) .

وأبرز هذه المظاهر كما تبين من كلامه هي :

1. ظهور نهضة أدبية وعلمية واسعة النطاق في أوربا .

2. نشوب صراع عنيف بين هذه النهضة وبين الكنيسة انتهى بانتصار الأولى .

3. قيام الثورة الصناعية الإنتاجية كثمرة من ثمرات النهضة العلمية الحديثة .

4. امتداد سلطان الدولة الأوربية إلى كثير من البلاد والأقطار .

5. قيام الحياة والحضارة الأوربية على قاعدة إقصاء الدين عن الدولة ،والمحكمة ، والمدرسة .

6. طغيان النظرة المادية ، وجعلها المقياس في كل شيء ، وتفشي قيم جديدة مثل :الإلحاد ،والإباحية ، والأنانية ، والربا .

ثم نُقلت هذه الحياة بما احتوته من غث ، وسمين إلى البلاد الإسلامية فقال : وقد عمل الأوروبيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية ، بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة ، جميع البلاد الإسلامية التي امتدت إليها أيديهم ، وأوقعها سوء الطالع تحت سلطانهم ، مع حرصهم الشديد على أن يحتجزوا دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة ، من العلوم والمعارف والصناعات ، والنظم النافعة ، وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعي ، إحكاماً شديدا ً، واستعانوا بدهائهم السياسي ، وسلطانهم العسكري ، حتى تم لهم ما أرادوا.. (رسالة بين الأمس واليوم) .

وأبرز مظاهر هذه المرحلة كما ذكر رحمه الله هي:

1. إغراء الحكام بالاستدانة منهم والتعامل معهم .

2. اكتساب حق التدخل الاقتصادي ، وإغراق البلاد برؤوس الأموال ،والمصارف ،والشركات ، وإدارة دولاب العمل الاقتصادي كما يريدون .

3. تغيير قواعد الحكم والقضاء ، والتعليم ، وصبغ النظم السياسية ،والتشريعية بصبغتهم .

4. جلب النساء ،والخمور ، والمسارح ، والمراقص ، والملاهي ، والأدبيات ، والسلوكيات الماجنة .

5. إنشاء المدارس، والمعاهد العلمية والثقافية الغربية في عقر ديار الإسلام للتشكيك والتغريب .

6. جعل أبناء الإسلام يحتقرون دينهم ،وأوطانهم ، ويقدسون كل ما هو غربي .

7. تلاحق البعثات الدراسية لاستكمال عملية الغزو الثقافي والاجتماعي المنظّم .

ثم اتخذ هذا الصراع شكلاً آخر ، وبعداً أعمق ، فاتجهوا إلى عقلاء المسلمين ، وحاولوا خداعهم...! فقال :

و مع هذا فالموجة تمتد بسرعة البرق لتصل إلى ما لم تصل إليه بعد من النفوس ، و الطبقات و الأوضاع.... ولقد استطاع خصوم الإسلام أن يخدعوا عقلاء المسلمين ، وأن يضعوا ستاراً كثيفاً أمام أعين الغُير منهم، بتصوير الإسلام نفسه تصويراً قاصراً في ضروب من العقائد، والعبادات، والأخلاق، إلى جانب مجموعة من الطقوس والخرافات والمظاهر الجوفاء، وأعانهم على هذه الخديعة: جهل المسلمين بحقيقة دينهم، حتى استراح كثير منهم إلى هذا التصوير واطمأنوا إليه ورضوا به، وطال عليهم في ذلك الأمد، حتى صار من العسير أن نُفهم أحدهم أن الإسلام نظام اجتماعي كامل يتناول كل شؤون الحياة.. (رسالة بين الأمس واليوم)

والشكل السابق قد يعطي صورة أكثر وضوحا للأزمة ، ويُظهر كذلك مدى القصور الذي يعتري بعض التصورات التي لم تدرك حجم الصراع على حقيقته ، وبالتالي انطلقت في معالجاتها للأزمة بما يوافق رؤيتهم لها ، ومن لم يصل إلى تحديد معالم الأزمة التي تعيشها أمتنا كما ينبغي ، فإنه يصبح كمن يحاول أن يرسم صورة جميلة نسجها خياله ، ويداه مقطوعتان من الكتف ، و يتبين كذلك أن هدم مركز التجارة العالمي وقتل الآلاف ، لن يجدي لقتل سوسة حقيرة تنخر في عظام هذه الأمة ، ولن يربي شعوبنا التي عاشت عشرات السنين من الضياع والبعد عن منهج الله ، فمِعول الهدم كان أسرع بكثير من يد البنّاء ، ولأن تغيير الأفكار أجدى من كسب المواقف ، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

ثم يستطرد الإمام رحمه الله في بيان مظاهر التدافع التي مرّت بها الأمة ،والمنعطفات التي أثّرت في تاريخها وقلبت الموازين ، وذلك في إطار تشخيص الحالة ، ووضع العاملين في حقل النهضة أمام المفاصل التي يجب أن يقفوا أمامها طويلا ، ويحللوا الأسباب ، والظروف التي أوصلت أمتنا إلى ما وصلت إليه كما أسلفنا .... فيقول :

و نستطيع بعد ذلك أن نقول: إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية، قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي على الحضارة الإسلامية، بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معاً في أرض الإسلام نفسه، وفي حرب ضروس، ميدانها نفوس المسلمين، وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري، و لا عجب في هذا، فإن مظاهر الحياة لا تتجزأ، والقوة قوة فيها جميعاً، والضعف ضعف فيها جميعاً كذلك: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140) , وإن كان مبادئ الإسلام وتعاليمه ظلت قوية في ذاتها فياضة بالخصب والحياة، جذابة أخاذة بروعتها وجمالها، وستظل كذلك، لأنها الحق ولن تقوم الحياة الإنسانية كاملة فاضلة بغيرها، ولأنها من صنع الله وفي حياطته: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) , (وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32) .' ( رسالة بين الأمس واليوم ) .

لقد أدرك رحمه الله أن المباديء المادية قد انتصرت في هذا الطور من الصراع الاجتماعي ، بالرغم من وجود المباديء الروحية القويمة في أرض الإسلام نفسه ..! لأن دراسة التاريخ واستقرائه ، تحتم على كل محاول للاستفادة منه ، أن يُقرّ بالحقائق الشاخصة ، والنتائج السافرة التي وصلت إليها الأمة في فترة أفول نجمها ، وانفراط عقدها ، لأن السنن لا تحابي ، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه .

وبعد ذلك ينتقل بنا الأستاذ البنا إلى مرحلة ما بعد هذه الهيمنة ، ليؤكد أن نور الله لم يكن ليُطفأ ، وإنما هي الأيام دُولٌ ... فيقول :

' و كما كان لذلك العدوان السياسي أثره في تنبيه المشاعر القومية , كان لهذا الطغيان الاجتماعي أثره في انتعاش الفكرة الإسلامية , فارتفعت الأصوات من كل مكان تطالب بالرجوع إلى الإسلام و تفهم أحكامه و تطبيق نظامه , و لابد أن يأتي قريبا ذلك اليوم الذي تندك فيه صروح هذه المدنية المادية على رؤوس أهلها , و حينئذ يشعرون بسعير الجوع الروحي تشتعل به قلوبهم و أرواحهم و لا يجدون الغذاء و الشفاء و الدواء إلا في تعاليم هذا الكتاب الكريم :

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ , قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:57-58).. (رسالة بين الأمس واليوم) .


تاريخ الأمم الناهضة

وبإلقاء نظرة سريعة على الشكل التالي يمكن ملاحظة الخط التاريخي الذي رسمه الإمام البنا في دراسته لتاريخ الأمة الإسلامية على وجه الخصوص :

والآن نتتبّعه في وجه آخر من وجوه تناوله للتّاريخ كأساس منهجي لرؤيته للنهضة ، وهو أنه درس أيضاً :"تاريخ الأمم الناهضة"

إذ يقول رحمه الله في هذا الشأن :

' وأنت إذا راجعت بذاكرتك إلى تاريخ الفرق الإسلامية ، وإلى الأدوار التي سبقت ، وقارنت قيام الدولة العباسية في الشرق ، ثم إلى نهضة الدول الحديثة الأوربية ، من فرنسا وإيطاليا ، وروسيا ، وتركيا سواء في الدور الأول ، وهو دور تكوين الوحدات وتأسيس الحكومات ، أو في هذا الدور وهو دور تكوين المباديء ، ومناصرة النظريات ، لرأيت كل ذلك يخضع إلى مناهج معروفة الخطوات تؤدي إلى النتيجة الحتمية التي تعمل لها الأمة ..' ( رسالة هل نحن قوم عمليون ؟ )

وانظر بتمعن إلى قوله : (نهضة الدول الحديثة الأوربية .... مناهج معروفة الخطوات.......) .


حركات النهضة والتغيير

' وإن نهضات الأمم جميعاً، إنما بدأت على حال من الضعف يخيَّل للناظر إليها، أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال '... ومع هذا الخيال، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل، إلى ذروة ما يرجوه القائمون بها، من توفيق ونجاح، ومن ذا الذي كان يصدِّق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟'

• الخلافة الراشدة :

ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر صاحب القلب الرقيق الليِّن، وقد انتقض الناس عليه، وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشاً، تقمع العصاة وتقوِّم المعوج ، وتؤدب الطاغي وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين؟.

• الدولة العباسية :

ومن ذا الذي كان يصدق أن هذه الشيعة الضئيلة المستترة من بني علي و العباس تستطيع أن تقلب ذلك الملك القوي الواسع الأكناف ما بين عشية وضحاها , و هي ما كانت في يوم من الأيام إلا عرضة للقتل و التشريد و النفي و التهديد ؟

• الدولة الأيوبية :

ومن ذا الذي كان يظن أن صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال ، فيردّ ملوك أوروبا على أعقابهم مدحورين ، مع توافر عددهم وتظاهر جيوشهم، حتى اجتمع عليه خمسة وعشرون ملكاً من ملوكهم الأكابر؟

• الدولة الألمانية :

ومن كان يصدق أن ذلك العامل الألماني( هتلر ) يصل إلى ما وصل إليه من قوة 1النفوذ و نجاح الغاية.... ؟ ( رسالة إلى أي شيء ندعو الناس ) .

ورغم هذا الإيجاز الذي ساق به الأستاذ البنا هذا الإطار التاريخي ، إلا أنه عند القراءة العميقة ، يشكل منطلقا لعدة دراسات حيوية لكل مهتم بموضوع النهضة مثل :

1. الهوية والمرجعية وأصول الإصلاح في التصور الإسلامي .

2. تاريخ الحركة الإسلامية الأولى .

3. عوامل الضعف في المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ .

4. دراسة الفترة التي نهضت فيها أوربا ، ومراحل التدافع الفكري والاجتماعي في تلك القرون .

5. دراسة جذور الفكر الغربي ، وعلاقته بالأصوات التي تنادي بتطبيقه في المجتمعات الإسلامية المعاصرة .

6. دراسة آليات الهيمنة ، والسيطرة ، التي يتحرك بها الاستعمار القديم والحديث .

وسوف نتناول في الجزء القادم إن كان في العمر بقية لحلقة أخرى من رؤية الأمام البنا رحمه الله لنهضة الأمة وهي: (دراسة الواقع وإمكانية النهوض) .


للإطلاع على باقي الأجزاء:


للمزيد عن دور الإخوان في الإصلاح

كتب متعلقة

من رسائل الإمام حسن البنا

ملفات وأبحاث متعلقة

مقالات متعلقة

الإصلاح السياسي:

الإصلاح الإجتماعي ومحاربة الفساد:

تابع مقالات متعلقة

رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة

قضايا المرأة والأسرة:

الإخوان وإصلاح التعليم:

موقف الإخوان من الوطنية:

متفرقات:

أحداث في صور

.

للمزيد عن الإمام حسن البنا

Banna banner.jpg