شهادة عارف محب .. الشهيد د. إبراهيم المقادمة رجل العزيمة والمضاء .. بقلم/ د. محمد شهاب

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ١٠:٠٠، ٦ يونيو ٢٠١٢ بواسطة Ahmed s (نقاش | مساهمات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
شهادة عارف محب ..الشهيد القائد المفكر الدكتور: إبراهيم المقادمة

رجل العزيمة والمضاء ..

بقلم النائب: د. محمد شهاب

المقادمة قائد مفكر .. تاريخ حافل بالدعوة والجهاد والبلاء .. واشتياق للشهادة .. صدق الله فصدقه : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ).

اللقاء الأول .. التقيت به أول مرة يوم أن وصلت إلى القاهرة للدراسة وكان قد أنهى دراسته للتو في كلية طب الأسنان .. وكان لقاءً إخوانياً جامعاً .. لفت نظري قوة شخصيته وحيويته وتفاعله ودعابته.

وعاد إلى غزة .. كان أحد أهم المسئولين عن النشاط الطلابي الإسلامي الفلسطيني في الجامعات المصرية ، وعاد بعد التخرج داعية وقائداً قد استكمل شروط القيادة وقد أحبه الشيخ أحمد ياسين ، وأكبر صدقه وإخلاصه ونشاطه وعزمه .

قائد نقابي .. وفي أوائل الثمانينات فاز المقادمة بعضوية مجلس إدارة الجمعية الطبية بغزة ، وكذلك فاز الشهيد القائد د. عبد العزيز الرنتيسي والدكتور القائد محمود الزهار والدكتور إبراهيم اليازوري ، وسرعان ما تحولت الجمعية الطبية إلى رائدة للعمل النقابي والنضالي ضد ممارسات الاحتلال فخاضت إضراباً شاملاً غطى مناطق قطاع غزة واستمر21 يوماً ، وكان المقادمة من أبرز المحرضين والمجتهدين في إنجاح الإضراب.

السجن منحة لا محنة ... جمعتنا جدران السجن مجاهدين في قضية واحدة عام 1984 م قضيناها معًا .. أعوامًا في السجن عزيزة ، اختلطت فيها الأماني بالآلام ، والأفكار بالأحداث ، ذقنا فيها حلو الحياة ومرها

المقادمة بلا رتوش .. في السجن يُعرف الإنسان على حقيقته .. عارياً من أي رتوش .. حيث تعايشه الأربع وعشرين ساعة .. وترى أكله وشربه ، نهاره وليله ، رضاه وغضبه ، كرمه أو بخله ، صد قه أو كذبه ، وفاءه أو غدره .. هناك حيث لا يدوم التكلف والتملق والرياء .. فأعظِم بها من معرفة .

أنت لا تعرف الإنسان إلا عن قرب وفي مواطن الشدة والمحن والضيق .. وقدَّر الله أن أعرفه خلال أعوام ستة جمعتنا في غرف السجن في غزة وعسقلان ناهيك عن حياتنا معه خارج السجن .. لقد تأثرت به وتعلمت منه الكثير.. وأشهد أني وجدته رجل الدعوة الرباني رجل الموقف رجل العزيمة والمضاء بكل ما تعني الكلمة ! وكل ما فيه يؤهله لذلك .. هكذا طَبعه الله .. فقد آتاه الله بسطة في العلم والجسم .. قوة في الحزم والعزم .. رأساً في الحق واليقين ..

المقادمة .. سفر كبير .. كان المقادمة موسوعة في كل علم .. كنت أغبطه على ما يتميز به من جلدٍ على مطالعة أمهات الكتب والمراجع الضخمة .. وأحسبه قد أتى على جميع تلك المراجع الضخمة التي أطَّت بها أرفف مكتبة السجن في عسقلان كفتح الباري وتفسير الطبري وتفسير القرطبي وتفسير ابن كثير والبداية والنهاية والظلال وشرح النووي لصحيح مسلم وعشرات الكتب لمذكرات كبار الأدباء أو المفكرين أو قادة الحروب العالمية أو الرؤساء والساسة.

صبر وجلد .. كان المقادمة لا ينام حتى يقرأ ما يقرأ .. فيقرأ حتى بعد إطفاء ضوء الغرفة ونوم السجناء .. يقرأ ولو على بصيص الضوء الخارجي الخافت .. يقرأ فلا ينام حتى يغلبه النوم .. وكم نام في سريره على وضع القراءة ، أو شبه استلقاء .. فتراه قد استسلم للنوم بعد طول إجهاد وهو قابضٌ على كتابه أو مجلده أو هو مفلتٌ منه على صدره !!

جاد يمقت الهزل والفراغ .. كان أمقت شيءٍ عنده أن يرى من أحدنا في السجن فراغاً من الوقت أو إهمالاً في المطالعة وعزوفاً عن طلب العلم أو هبوطاً في الهمة أو اهتماماً وانشغالاً بتوافه الأمور أو تبرماً من ظروف السجن أو ترقباً وتسمعاً لأخبار تبادل الأسرى والإفراجات وحساب أيام السجن وأعوامه .

زعامة مبكرة ذكاء متوقد .. حدثنا أنه كان في صغره زعيماً كثير المشاغبة والحركة والنشاط يتمتع بشخصية قيادية ، تراه دوماً زعيماً يقود عصابة أطفال حوله في اللعب والمشاغبة .. يقودهم في المخيم ولكن كان يغفر له ذلك لتفوقه، كنت أغبطه على ذكائه الحاد وذاكرته المتوقدة كان الأول في الدراسة والمشاغبة.

بسطة في العلم والجسم .. حباه ربه جسماً رياضياً قوياً ومصمتاً يغلب فيه أقرانه ويضاربهم. وأعطاه قوة الجلد والاحتمال. مقومات القيادة كما في طالوت وشب كذلك .

جرأة في الحق .. كان مميزاً في حزمه وعناده وشدته فيما يراه صواباً .. كان يصدع بالحق والصواب ويصم الباطل والخطأ ويواجه صاحبه بالبنان والبيان بلا تورية أو مجاز أو تملق وإن كان أحب وأقرب الإخوان إليه .. ولهذا حفلت حياته وعلائقه بالمصاعب والمتاعب حتى مع بعض الأحبة حيناً .

شجاع ومقاتل جسور.. صمد في زنازين التحقيق الصهيونية رغم التعذيب الشديد ومن بعدها في سجون سلطة أوسلو ، وفي القمعة العنيفة الشهيرة لسجن عسقلان عام 1985 م تصدى هو والإخوة في غرفة الجماعة في سجن عسقلان لوحدة القمع فضربوا الضابط وبعض جنوده بعد أن جروهم وخلصوا منهم بعض الكمامات والهراوات ، وتعرضوا بعدها للعزل والعقاب عدة أشهر.

الأصوب رأياً .. يا الله ! كم تناظرنا .. كم تقاربنا أو تباعدنا الرأي والموقف .. وتراه يشتد بنا لكنه يفرح حين نخالفه بالدليل والمنطق ويكبرنا في نفسه ويجتهد في إقناعنا برأيه .. ولكن ! كم أظهرت الأيام أنه الأصوب رأياً والأعمق نظراً .. ومع هذا .. بل قبله وبعده .. كان حبه لنا واحترامه واعتزازه بنا لا يضاهى .

سريع النكتة .. ذات يوم وفي ساحة سجن عسقلان جلسنا ومجموعة من الإخوان فعرضت لنا مسألة فقهية واختلفت معه وكنت أذكر حجتي وأجادله بهدوء وبرود أعصاب .. فاشتد لرأيه وأصر على إقناعي بوجهة نظره فاعترضت على انفعاله ، فقال بحدة أيضاً : ( أصلاً أنا وإياك يجب أن نُجمع ونُقسم على اثنين ليخرج منا المتوسط الحسابي ) وضحكنا جميعاً لهذه الممازحة اللطيفة ، أجل كان كذلك سريع البديهة حاضر النكتة .

رأس من حديد .. ذات يوم .. وعلى أثر عملية تحقيق أمني مع أحد المشبوهين .. فاجأتنا قوات قمع السجون بقمعه رهيبة لقسم الجماعة الإسلامية في سجن عسقلان .. وأخرجتنا طابوراً واحداً تلو الآخر في تفتيش أمني دقيق يفحص فيه السجين بجهاز إنذار إلكتروني حول كافة أنحاء جسده ، فلما مر الجهاز على رأس الدكتور إبراهيم أعطى صوت إنذار ، فدهش الضابط الصهيوني ومن حوله من جنود القمع وطابور الأسرى منا، وأعاد الفحص وتكرر صوت الإنذار والدكتور يبتسم .. وبدد الدهشة أحد أفراد الشرطة المناوبين قائلاً بالعبرية : ( تعزوف زي ها دكتور روش لُه بَرزيل ) يعني : دعه هذا الدكتور رأسه حديد .. وضحكنا جميعاً جنوداً وأسرى .. وصارت مثلاً .

عطاء بلا كلل وملل .. أفنى حياته وأعطى جلَّ وقته وجهده لدينه ودعوته وجماعته التي اعتقد أنها أقرب الجماعات لتمثيل الإسلام بشموله واعتداله ووسطيته وتوازنه ، وأنها بتنظيمها وبنائها ووسائلها وخططها ومناهجها هي الأقدر على إنجاز وتحقيق المشروع الإسلامي المعاصر والمتكامل.

تواضع وتقشف .. كان رحمه الله من أشدنا بغضاً للإسراف في المباحات ، ومن أكثرنا حرماناً لنفسه منها .. ولم يزل في كل الظروف معتاداً ومُصِراً على طبعه في البساطة والتواضع في ملبسه ومأكله ومركبه بعيداً عن التكلف في شأنه كله بما يصل أحياناً إلى حد البذاذة التي أثارتني وأغضبتني مراراً منه في بعض المناسبات داخل السجن وخارجه .. لأني أريده أن يبدو في ظاهره كبيراً أنيقاً بما يلائم كل مناسبة ..

فيسكت حيناً أو يبتسم أو يتجاهل إلحاحي به .. لم يكن ذلك عن فقر وحاجة .. بل هي دروس القدوة التربوية في ترسيخ خلق التواضع ، وإيثار إصلاح الباطن على الظاهر ، إيثار كسوة العقل بالعلم وامتلائه بالحكمة والفكر عن كسوة الجسم بأنيق الثياب والقدم بثمين الحذاء وامتلاء البطن بما لذ وطاب .

بساطة بلا تكلف ونفس جياشة.. من المعتاد لدينا في السجن أن يكون يوم زيارة الأهل يوماً مميزاً للغاية وموسماً مشهوداً للجميع .. ينتظره أحدنا ؛ ينتظر من يأتيه وبما يأتيه على أحر من الجمر ويخرج إليه على أحسن حال وهيئة كأنه يوم عيد ! بل هو كذلك ما خلا من المنغصات !

في هذا اليوم تتجدد حياة السجين وتشب فيه عواطفه وذكرياته القريبة والبعيدة ، وربما استعد له أحدنا في السجن لأيام طوال ليستحضر فيه ما يريد قوله أو طلبه أو معرفته والسؤال عنه .. بل إن أكثرنا يشب فيه أمله ويتجدد به بإذن الله عزمه .. بكلمة حب خالدة أو خبر يسره أو بسمة طفل يناغيه أو دعاء صادق أو نظرة صبر وثقة ترفعه .

وكان يستعد فيه للزيارة بشكل متواضع بلا تكلف بلا انشغال زائد ولا ترقب ولا توتر كما الكثير منا المعهود والانشغال المميز من السجين عند زيارة أهله .. وإذا ما غاب أهله وزواره بسبب ظروف أمنية وغيرها ؛ فلا تكاد تلمس أثراً أو تأثراً كأنما قد استوى عنده حضورهم وغيابهم .

قلب شاعر وأسد رابط الجأش .. كنت قريباً منه أجول في وجدانه وعواطفه ويسر لي بالكثير منها ، فاكتشفت فيه رغم كل ما يظهر من صلابته ورباطة جأشه اكتشفت فيه قلباً كبيراً فياضاً بالمشاعر المرهفة والعواطف والحنان والمحبة والذوق الجمالي ما لا يدركه إلا كبار الأدباء والشعراء.وما ظهر منه في أشعاره إنما هو بعض ذلك ، بل غيض من فيض .

أحمد الشبل شبيه أبيه .. لن أنسى ذلك اليوم .. ذات صباح وبعد عودة الفوج الأول من زيارة الأهل في سجن عسقلان ؛ انتحى بي أحد الأخوة جانباً وقد بدا عليه الهم والغم وأسرَّ لي بخبر وفاة أحمد الابن البكر للدكتور إبراهيم غرقاً في البحر ، وأن زواره اليوم هم من غير أهل بيته ، وطلب مني أن نهيئ الدكتور بسرعة قبل أن يُصدم على شبك الزيارة .. ويا لهول الخبر .. لقد صدمت أنا واهتزت كل جوارحي ودمعت عيناي فكيف بأبيه وما أدراك ما أحمد وما مكانته عنده ! مرت دقيقة هي أثقل ما مرَّ بي يومها وقد مرَّ بذهني شريط الذكريات .. ذكريات أحمد مع أبيه .

كان أحمد فتىً من غرة الفتيان ، أقرب الشبه بأبيه خَلقاً وخُلقاً ، عقلاً وعزماً ، وقد حظي بحب والده وإعجابه به ، وهو يتابع عجائب أخباره وأفعاله في أحداث انتفاضة عام 1987 م من زيارة لأخرى خلف القضبان ، لقد كان فتىً يفوق أقرانه من فتيان المخيم في كل شيء .. وكم أكثر من ذكره وحدثني عن نبوغه وشجاعته وشقاوته وتفننه -رغم حداثة سنه – في أعمال الانتفاضة وقيادته للصغار في المخيم.

وكم تتبع عبر المذياع الصغير بشغف أخبار المواجهات والشهداء والجرحى ، ويزداد اهتمامه وترقبه لأخبار المخيم حيث فلذة كبده .. وكنت أشعر بذلك .. فأفضى إليَّ هامساً : أن هذا الفتى لا شك عمره قصير .. إنه يهجم على الموت في مظانِّه .. ولا أخفيك أنني أتوقع استشهاده عند كل خبر مواجهة في المخيم .. لقد احتسبته في سبيل الله .. وبودي لو يكبر .. لتكبر شهادته !! ويوجع في عدوه أكثر .

وجاء الخبر بغرق أحمد .. لكن ! لله الأمر من قبل ومن بعد .. كان الأمر ثقيلاً ثقيلاً .. كان لا بد أن أتصرف بسرعة وبحكمة .. على الفور أرسلت إلى الأخ أحمد الجعبري في الغرفة المجاورة وكان ممثل الجماعة وأسررت له بالخبر ليستأذن من إدارة السجن بالحضور إلينا في الغرفة مع بعض الأخوة الكبار لنتدبر الأمر ، ورحت أفكر كيف سنعمل وكيف نبدأ وكيف نمهد الأمر مع الدكتور .

استعنت بالله وتوجهت إلى أبي أحمد .. وآلمني أكثر أنه ذلك اليوم - وعلى غير العادة - كان مستعداً كأحسن ما يكون ملبساً وطيباً كأنما يستقبل أسعد زيارة ! فاستأذنت أن أسارره قليلاً ، جلست معه على سريره .. فوالله ما كدت أجلس وما إن أرخى لي سمعه كأنما يظن مني أن أطلب منه شيئاً في زيارته ؛ فإذا بمكبر الصوت ينادي الفوج التالي للزيارة وكانت المفاجأة أن يكون اسم الدكتور من بينهم ، ومن المعلوم أن الشرطي سيأتي حالاً لإخراجه للزيارة .

الصبر عند الصدمة .. استجمعت قواي واستعذت بالله وحمدت الله تعالى وقلت : سأقول لك شيئاً هاماً قبل خروجك للزيارة ، فاضبط أعصابك فأنت قدوة واضرب أحسن المثل في الصبر واستعن بالله .. بدا عليه الاهتمام الشديد وقاطعني : هل أصيب أحد قادتنا بسوء ! قلت : لا .. قال : تكلم بسرعة ماذا هنالك ؟

قلت : احتسب ابنك أحمد عند الله لقد غرق في البحر ونحسبه شهيداً إن شاء الله .. هذا أمر الله وقدره ولطالما انتظرت شهادته ، فقال بدهشة : هل أنت متأكد مما تقول ! قلت : نعم وسيزورك أخوة من غير أهل بيتك ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قلت : يا أخي تماسك في الزيارة وعند عودتك .. أنت في موضع القدوة .. قال : لا عليك .. لا تقلق .. ونهض للزيارة ، ولم يستغرق حديثنا سوى دقيقتين !! .

رجل الموقف جبل أشم .. اجتمعنا للعزاء في غرفة السجن وانتظرنا عودته .. وكانت المفاجأة .. لقد عاد شامخاً كالطود الأشم باسماً كأن شيئاً لم يكن !! وانتظمنا لمواساته ، ثم جلسنا في حلقة كبيرة واستحضرت ما شاء الله أن استذكر وبصعوبة بالغة من آيات وأحاديث وأمثال الصبر والمواساة ولكن هيهات هيهات لقد ضاعت الكلمات واختنقت العبرات فبكيت رغم أنفي وبكى الحاضرون لعظم المصيبة .. فإذا به يمسك دفة المجلس وينطلق بالحديث كما يريد معلماً هادياً ومربياً بلا دموع ولا حشرجة ولا اختناق .. وكان درساً عملياً في الصبر واليقين لا ينسى .. وانفض العزاء ولا عزاء !!.

وقعد للدرس معلماً ومربياً .. وكان من المقرر في برامج الجماعة في مساء ذلك اليوم درس راتب في المنهج الحركي للسيرة النبوية يلقيه هو لأكثر من ساعة ، ووقر في حسِّنا أن لا درس اليوم .. لما نحن عليه من التأثر .. فإذا به يتربع على فراش الأرض كالعادة ويفتح كتابه ويجلسنا للدرس !! لم يحتمل بعض أخواننا ذلك لشدة تأثرهم فأصرَّ وأعطى الدرس كأحسن ما يكون .. وأشهد أن بعضنا قد شرد ذهنه كثيراً وهو لا يكاد يصدق ما يرى ويسمع !

وخرج للفورة يمازحنا كأن شيئاً لم يكن .. وفي اليوم التالي خرج كالمعتاد إلى ساحة السجن ( الفورة ) يحادث الإخوان ويمازحهم ويمارس حياته كأن شيئاً لم يكن ، حتى قال بعضهم : أتراه غير متأثرٍ إلى هذا الحد ؟ أين عواطفه ؟ قلت : إن قلبه يغلي كالبركان عاطفةً ، وسترون عندما يخلو قليلا بنفسه فتهيج العواطف ويجود قلبه الكبير بقصيدة تدمي القلب وتبكي العين .

قصيدة دامية .. وقد كان .. فما هي إلا أيام حتى خلا بنفسه ذات ليلة .. فلما أصبحنا إلى ساحة الفورة دسَّ إليَ مسودة قصيدة كتبها ويريد تعليقي .. قفز إلى ذهني حالاً أنه ينعى ولده أحمد فجلست أقرأ بتركيز وأعيش مع كلماتها النابضة مع كل دقة قلب .. وما كدت أقرأ أبياتها الأولى حتى غلبني البكاء فاستحييت وطويتها لأقرأها في الغرفة فأبكي إن بكيت مستوراً عن الأنظار ! إنها معلقة رائعة لكنها حزينة يعاتب فيها البحر حبيبه الذي اختطف منه حبيبه !! فيا له من بحر ويا لها من قصيدة !!

وخرج قائداً وعلماً .. وخرج المقادمة من السجن بعد ثمانية أعوام يواصل دربه ويعارض اتفاق أوسلو ويقود المقاومة ضد الاحتلال حتى اعتقل عام 1996 م في سجون السلطة ونال من التعذيب مالا تحتمله الجبال الرواسي بتهمة قيادة الجهاز العسكري السري لحركة المقاومة الإسلامية " حماس " في غزة حتى نقص وزنه أكثر من أربعين كيلوجرام ، وكُسـرت أضلاعه ، ولم يكن يقدر على الوقوف بل يزحف زحفاً ونقلت إلى مستشفى الشفاء سراً بين الموت والحياة مرات عديدة، وكنت تردد :

وظلم ذوي القربى أشد غضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند

ورغم ذلك أشهد انك قد سامحتهم بما نالوه منك احتساباً لوجه الله .

لا يحب الذكر والثناء .. كنت قد سطرت مقالاً عام 1997 م على صفحات جريدة الرسالة أذكر رداً على تطاول الطغاة الأراذل في سجون الوطن على هذا العملاق وهم يسومونه يومها أحقر أساليب التعذيب ، وقدر الله أن ألتقي به في سجن غزة ليوم واحد إبَّان حملات الاعتقال السياسي بعد نشر المقالة بقليل ويومها عاتبني كيف أكتب عنه ونهاني أن أعود لمثلها .

بناء الرجال أولى .. وهكذا تفرغ الشهيد المقادمة كإمامه المؤسس الشهيد حسن البنا لبناء الرجال وتأليفهم فقلَّ تأليفه للكتب .. فلم يعرف الراحة والهدوء ، فرغم استهداف الصهاينة ، أصر على تنفيذ برامجه التثقيفية والتربوية والتنظيمية في عز المطاردة والطلب فيظهر فجأة كالجني في هذا المسجد أو ذاك الحشد أو ذاك الاجتماع ويلتحم بإخوانه وأحبابه وشعبه يشد أزرهم ويرفع معنوياتهم .وكانت الدعوة إلى الله شغله الشاغل الذي استولى على قلبه ووقته.

كتابات محدودة .. رغم سعة علمه في كل مجال ؛ إلا أنه لم يتجه إلى التأليف إلا قليلاً ، فقد نظم قصائد من الشعر تعبر عما يحمل من رسالة في هذه الحياة .. قليلة لكنها عميقة الفكر واضحة الهدف والمضمون قوية مؤثرة ، وألف كتباً بعضها داخل سجن عسقلان منها : " معالم في الطريق إلى تحرير فلسطين " ، والصراع السكاني في فلسطين " ، وخارج السجن كتب العشرات من النشرات والمقالات الدورية .

معالم طريق التحرير .. أفرغ الشهيد عصارة فكره في كتابه ( معالم في الطريق إلى تحرير فلسطين ) وقد اقتبس شطر اسمه من اسم كتاب الشهيد سيد قطب معالم في الطريق . يرسم فيه لأجيالنا الطريق الصحيح لتحرير فلسطين بعد أن يوضح طبيعة الصراع الدائر وأطرافه وأهداف كل طرف وأدواره .

واليوم حين نعيد قراءة بل دراسة سطور الكتاب نشعر في كل كلمة أنه قد جبل حروفها بل سبكها بدمه الزكي فانتفضت حية تحيا بها الأجيال .. حية بحياة الشهداء الخالدين.

حرص أمني مميز .. حرص الشهيد المقادمة على عدم الظهور الإعلامي ، وكان ذو حرص أمني متميز ، فهو لا يستخدم الهاتف ولا الجوال ويستخدم أساليب مختلفة في التمويه والتنكر عبر تغيير الملابس والسيارات عدة مرات في الرحلة الواحدة ، وكذلك تغيير الطرق التي تسلكها، ولم يكن ذلك خوفاً من الموت بل أخذاً بالأسباب التي أمر الله بها ( وخذوا حذركم ) حتى لا يفرح العدو ويشمته بالنيل منه.

ولكن قدر الله في اصطفائك واتخاذك شهيداً إلى جانب أحبابك الذين سبقوك ، وشوق الجنة وتزينها لاستقبالك والثلة الطيبة من إخوانك.

رؤيا لطيفة .. ومن اللطائف أنني رأيته في المنام بعد استشهاده بقليل ، فيما يرى النائم كأننا على هامش لقاء جامع ، وكان بأحسن ما يكون صحة وعافية ونضارة وسروراً ، فلما رآني أقبلت قام فعانقني وعانقته بحرارة بالغة ، وأنا أعلم أنه شهيد وجاء يحضر معنا ، وأنا أربت بكفي على ظهره أثناء العناق وأقول : كيف أنت ؟ كيف حالك ؟

أين ذهبت وتركتنا لهمِّ الدنيا وغمِّها ؟ كيف وجدت الآن ؟ فيربت على ظهري كذلك بقوة ويقول : كله صحيح .. كل شيء وجدناه .. كل ما كنا نؤمن به ونقوله وجدناه ، فأخذت بيده ومشينا قليلاً ، وتذكرت سؤالاً حيَّرني مرةً فوجدتها فرصة أن يخبرني لأنه قادم من العالم الآخر فقلت : صحيح أن كل شيء بإذن الله ؛ لكن قل لي كيف يسمح لكم بالحضور ؟ ومتى تطلق أرواحكم إلينا ؟ ونظرت إليه لأسمع الإجابة فإذا بالذي يمسك بيدي ويجيبني هو الأخ أحمد الجعبري قائلاً بابتسام : والله هذا سؤال يحتاج إلى جواب منك !! وكانت هذه الرؤيا قبل أسبوع فقط من قصف بيت الأخ أحمد الجعبري وإصابته حفظه الله!

ختاماً .. نحن لا نقدس الرجال بل نحترمهم وننزلهم منازلهم .. أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله ، وحسبي أنه نال ما تمنى من الشهادة صادقاً وقد أوفى بوعد الله ، واسأل الله لي ولإخواني من بعده الثبات على الحق وسداد الرأي وأن يلحقنا به شهداء ويجمعنا به في الفردوس الأعلى .


المصدر: كتائب الشهيد عز الدين القسام المكتب الإعلامي