عبد الناصر والإرهاب
(1) هيكل وفلسفة الثورة
"إنه ببساطة يجلس في رأسي".. كلمات بسيطة قالها عبد الناصر لمحسن عبد الخالق يصف علاقته بهيكل، ولماذا قرَّبه وجعله كاتبه الأوحد.
واتفق أغلب مؤرخي الثورة كأحمد حمروش ومحسن عبد الخالق أن فلسفة الثورة التي نُسبت إلى عبد الناصر كانت أفكارًا لجمال عبد الناصر كتبها وصاغها بقلمه المبدع الساحر محمد حسنين هيكل.
يقول د. محسن عبد الخالق أحد الضباط الأحرار وعمل قريبًا من عبد الناصر فترة طويلةً: "كنتُ مدعوًا عند الأستاذ هيكل في عزبته ببرقاش، وقلتُ له بشكلٍ عفوي تمامً : لِمَ كتبتَ فلسفة الثورة؟ وأذكر أن هيكل يومها ابتسم وسكت".
(2) فلسفة الثورة والاغتيالات
في هذا الكتاب تحدث عبد الناصر عن محاولة اغتيالٍ فاشلة قام بها، وكانت موجهة إلى حسين سري عامر، وذكر أنه ندم عليها في أسلوب روائي مؤثر يُذكِّرنا بأفلام الميلودراما العربية، ولابد أن يخرج قارئ الكتاب بانطباع قوي وجازم أن عبد الناصر تابَ عن العنف والاغتيالات، وأنه رافض لها فكرًا وشعورًا، عقلاً ووجدانًا، وبهذا العرض المؤثر الرائع أخرجته صياغة هيكل الساحرة من دائرة الاتهام بالعنف والإرهاب بسلام؛ بل وأخرجته منها أكثر بياضًا كما يقولون.
(بعكس الإخوان المسلمين الذين قام أفراد منهم بحوادث عنف معدودة دون إذن من القيادة، أو عِلْم لها بذلك، وألصقت بهم تُهم الإرهاب والتخريب إلصاقًا، واستمر ذلك حتى الآن وكأنها ذنوب أبدية لا تُقبل لهم منها توبة أو غفران).
ولكن هل كانت تلك هي الحقيقة فعلاً.. أم أن ناصر وهيكل استخفا بالعقول وذاكرة التاريخ، وقاما بأروع الكذب وأتقنه في هذه الرواية الرائعة؟
نستعرض أولاً ما كتبه هيكل على لسان عبد الناصر في فلسفة الثورة:
"وأعترف- ولعل النائب العام لا يؤاخذني بهذا الاعتراف- أن الاغتيالات السياسية توهجت في خيالي المشتعل في تلك الفترة على أنها العمل الإيجابي الذي لا مفر من الإقدام عليه إذا كان يجب أن ننقذ مستقبل وطننا.
وفكرتُ في اغتيال كثيرين وجدتُ أنهم العقبات التي تقف بين وطننا ومستقبله، ورحت أعد جرائمهم، وأضع نفسي موضع الحكم على أعمالهم، وعلى الأضرار التي ألحقتها بهذا الوطن، ثم أشفع ذلك كله بالحكم الذي يجب أن يصدر عليهم.. وفكرتُ في اغتيال الملك السابق وبعض رجاله الذين كانوا يعبثون بمقدساتنا.
ولم أكن وحدي في هذا التفكير، ولما جلست مع غيري انتقل بنا التفكير إلى التدبير، وما أكثر الخطط التي رسمتها في تلك الأيام، وما أكثر الليالي التي سهرتها، أعد العدة للأعمال الإيجابية المنتظرة.
كانت حياتنا في تلك الفترة كأنها قصة بوليسية مثيرة، كانت لنا أسرار هائلة، وكانت لنا رموز وكنا نتستر بالظلام، وكنا نرصُّ المسدسات بجوار القنابل، وكانت طلقات الرصاص هي الأمل الذي نحلم به.
وقمنا بمحاولات كثيرة على هذا الاتجاه، وما زلتُ أذكر حتى اليوم انفعالاتنا ومشاعرنا ونحن نندفع في الطريق إلى نهايته.
والحق أنني لم أكن في أعماقي مستريحًا إلى تصور العنف على أنه العمل الإيجابي الذي يتعين علينا أن ننقذ به مستقبل وطننا، ورويدًا رويدًا وجدتُ فكرة الاغتيالات السياسية التي توهجت في خيالي، تخبو جذوتها وتفقد قيمتها في قلبي كتحقيق للعمل الإيجابي المنتظر.
وأذكر ليلة حاسمة في مجرى أفكاري وأحلامي في هذا الاتجاه.. كنا قد أعددنا العدة للعمل، واخترنا واحدًا، وقلنا إنه يجب أن يزول من الطريق، ودرسنا ظروف حياة هذا الواحد ووضعنا الخطة بالتفاصيل، وكانت الخطة أن نطلق الرصاص عليه وهو عائد إلى بيته في الليل.
ورتبنا فرقة الهجوم التي تتولى إطلاق النار، ورتبنا فرقة الحراسة التي تحمي فرقة الهجوم، ورتبنا فرقة تنظيم خطة الإفلات إلى النجاة بعد تنفيذ العملية بنجاح.. وجاءت الليلة الموعودة، وخرجت بنفسي مع جماعات التنفيذ، وسار كل شيء طبقًا لما تصورناه.
كان المسرح خاليًا كما توقعنا، وكمُنت الفرق في أماكنها التي حددت لها، وأقبل الواحد الذي كان يجب أن يزول، وانطلق نحوه الرصاص.
وانسحبت فرقة التنفيذ، وغطت انسحابها فرقة الحراسة، وبدأت عملية الإفلات إلى النجاة، وأدرت محرك سيارتي، وانطلقت أغادر المسرح الذي شهد عملنا الإيجابي الذي رتبناه، وفجأة دوى في سمعي أصوات صريخ وعويل، وولولة امرأة ورعب طفل، ثم استغاثة متصلة محمومة.
وكنتُ غارقًا في مجموعة من الانفعالات الثائرة، والسيارة تندفع بي بسرعة.. ثم أدركتُ شيئًا عجيبًا.. كانت الأصوات مازالت تمزق سمعي، والصراخ والعويل والولولة والاستغاثة المحمومة.. لقد كنت بعدت عن المسرح بأكثر مما يمكن أن يسري الصوت، ومع ذلك بدا ذلك كله كأنه يلاحقني ويطاردني .
ووصلت إلى بيتي، واستلقيت على فراشي، وفي عقلي حمى، وفي قلبي وضميري غليان متصل، وكانت أصوات الصراخ والعويل والولولة والاستغاثة مازالت تطرق سمعي.. ولم أنم طوال الليل، بقيتُ مستلقيًا في فراشي في الظلام، أشعل سيجارة وراء سيجارة، وأسرع مع الخواطر الثائرة، ثم تتبدد كل خواطري على الأصوات التي تلاحقني.
أكنت على حق؟ وأقول لنفسي في يقين: دوافعي كانت من أجل وطني.. أكانت تلك هي الوسيلة التي لا مفر منها؟ وأقول لنفسي في شك: ماذا كان استطاعتنا أن نفعل؟
أيمكن حقًا أن يتغير مستقبل بلدنا إذا خلَّصناه من هذا الواحد أو من غيره، أم المسألة أعمق من هذا، وأقول لنفسي في حيرة: أكاد أحس أن المسألة أعمق.. وأقول لنفسي ومازلت أتقلب في فراشي في الغرفة التي ملأها الدخان تكاثفت فيها الانفعالات.. وإذن؟ وأسمع هاتفًا يرد عليَّ: وإذن ماذا؟
وأقول لنفسي في يقين هذه المرة: إذن يجب أن يتغير طريقنا.. ليس ذلك هو العمل الإيجابي الذي يجب أن نتجه إليه.. المسألة أعمق جذورًا وأكثر خطورةً وأبعد غورًا.
وأحس براحة نفسية صافية، ولكن الصفاء ما يلبث أن تمزقه هو الآخر أصوات الصراخ والعويل والولولة والاستغاثة، تلك التي ما زالت أصداؤها ترن في أعماقي، ووجدت نفسي أقول فجأةً: ليته لا يموت! وكان عجيبًا أن يطلع عليَّ الفجر وأنا أتمنى الحياة للواحد الذي تمنيتُ له الموت في المساء.
وهرعتُ في لهفة إلى إحدى صحف الصباح، وأسعدني أن الرجل الذي دبرت اغتياله.. قد كُتبتْ له النجاة".
(3) بصراحة.. هيكل لم يكتب بصراحة
http://www.ikhwanwiki.com/skins/common/images/ar/button_link.png يا الله.. ما أروع الوصف والتصوير، وما أعمق التأثير!!
أكاد أقسم أن النائب العام لو قرأ مذكرة الدفاع هذه لبكى مثلي تأثرًا بها، ولحكم فورًا لصاحبها بالبراءة، ولأضاف إلى البراءة حكمًا بدفع مبلغ كبير؛ تعويضًا لهذا الملاك عن الآلام النفسية التي عاشها في تلك الليلة.
وأكاد أجزم أنه لو قرأها علي بدوي وشوكت التوني وأحمد الخواجة لاعتزلوا مهنة المحاماة خزيًا وخجلاً، وأيقنوا أنهم دخلاء على هذه المهنة العظيمة.
وأكاد أجزم أنه لو قرأها نجيب محفوظ لتنازل لكاتبها عن جائزة نوبل التي حصل عليها بعد عناء وعمر طويل.
أكاد أقسم وأجزم بذلك كله لولا أن حقائق التاريخ ووثائقه تهتف واثقة متيقنة: أن هذا كله كذب بلغ الغاية في إتقان الكذب وتزييف التاريخ.
أولاً: كانت هذه الحادثة هي محاولة اغتيال حسين سري عامر، وتمت بتاريخ 9/1/1952م أثناء اشتعال معارك القنال ضد ، وقبل قيام الثورة بخمسة أشهر فقط، ونستمع لرواية عبد اللطيف البغدادي عن هذه الحادثة فيقول:
"كان دائمًا جمال عبد الناصر يفاجئنا بتصرفات يقوم بها بمفرده حتى من قبل قيام الثورة، وأذكر أنه في يوم 9 يناير 1952 أعدَّ خطة لاغتيال حسين سري عامر، ولم يكشفها لنا إلا بعد قيامه بتنفيذها مع حسن إبراهيم وكمال رفعت وحسن التهامي.. كان جمال يقود السيارة وترك محركها دائرًا، بينما كانت مهمة حسن إبراهيم مراقبة الطريق.. أما التنفيذ فقام به كمال رفعت وحسن التهامي بمدافع رشاشة، وفشلت الخطة لأن الرصاص أصاب السائق فقط ونجا حسين سري عامر".
ونسأل الأستاذ هيكل: هل حقًا ندم عبد الناصر على محاولة الاغتيال الفاشلة هذه؟
الإجابة توردها مجلة المصور المصرية في تغطيتها لحادث الاغتيال:
بعد أن أوردت تفاصيل الأحداث وأقوال شهود عملية محاولة الاغتيال تقول المجلة تحت عنوان "لابد أن تلقى حتفك": "لقد حققت النيابة مع بعض الضباط والشخصيات بناءً على بعض الشبهات، ولكن تلك الشبهات لم ترق إلى مرتبة الاتهام حتى الآن.
وفي الأسبوع الماضي نشرت الصحف أن المجني عليه تلقى كتابًا بالبريد المستعجل، قال فيه مرسله "لقد نجوت هذه المرة، ولكن لا تطمئن كثيرًا، فلابد أن تلقى حتفك، مهما شددت حراستك، ومهما كانت الظروف".. أما ما لم تنشره الصحف في صدر هذا الخطاب فهو أن التهديد لم يوجه للمجني عليه وحسب، بل كان يتضمن أيضًا تهديد كل من إبراهيم عبد الهادي باشا وفؤاد سراج الدين باشا وعبد الفتاح عمرو باشا وحافظ عفيفي باشا.. أما التوقيع فهو "عدوكم ".
ونسأل الأستاذ هيكل ثانية: هل حقًا توقف بعد ذلك عن التفكير في الاغتيالات وتدبير حوادث العنف والإرهاب؟
ننتقل إلى 19 يوليو 1952 م حيث "نما إلى علم الضباط أن أجهزة الملك الخاصة بالأمن توصلت إلى معرفة البعض من أسماء الضباط الأحرار، وأنه على وشك التحرك للقضاء عليهم، وإزاء تلك الظروف رأوا من الضروري أن يتحركوا بسرعة، وأن يسبقوا الملك وأجهزته وأن يضربوا ضربتهم، وإلا فإن التنظيم ربما يُقضى عليه قبل أن يحقق الهدف".
فما نوعية التحرك الذي فكَّر فيه أفراد التنظيم وأجمعوا عليه؟ تأتي الإجابة من مذكرات عبد اللطيف البغدادي الذي يقول:
"بعد استقالة وزارة حسين سري في 19 يوليو كان أول تخطيط فكَّر فيه ضباط الحركة لتغيير نظام الحكم هو اغتيال بعض الساسة المصريين ممن ساهم في إفساد الحياة السياسية في البلاد، وقد اتفقت المجموعة كلها على تنفيذ هذه الاغتيالات، ولم يشذّ منهم أحد، والأمر الوحيد الذي عاقهم عن التنفيذ كان عدم وجود سيارات كافية لديهم للقيام بهذه العمليات".
مذكرات البغدادي- الجزء الأول- ص47 .
أستاذ هيكل.. أعود لقراءة ما كتبته في فلسفة الثورة وأقول: ما أروع الكذب!!!
(4) العنف والإرهاب بعد نجاح الثورة
وربما اعتذر بعضهم لهيكل وناصر بأن هذه الأحداث جميعًا كانت قبل قيام الثورة، والوصول للهدف المرجو من تغيير نظام الحكم، واستقرار الأوضاع في البلاد، وهذا يقودنا لسؤال الأستاذ هيكل مرة ثالثة: هل توقف عبد الناصر بعد نجاح الثورة عن التفكير في الاغتيالات وتدبير حوادث العنف والإرهاب؟
نجد الإجابة في جلسة مجلس الثورة المنعقد في 23/2/1954 م:
"وتركَنا عبد الناصر نتناقش، ثم قال بصوته الهادئ: النهاردة إيه؟.. وأجبنا كلنا: 23 فبراير، فقال بنفس الصوت الهادئ: يوم 23 مارس مش حيبقى فيه نجيب.. وسألناه: إزاي.
فأجاب بهدوء: نخلص منه، ووجدتُ نفسي أبكي وأصرخ: إزاي واحد مننا ونخلص منه، وأجاب عبد الناصر بنفس هدوئه: لأنه أشد إجرامًا على الثورة من أعدائها.. إنه خان مبادئها.
وتساءل جمال سالم: لو اكتُشف في المستقبل أن المجلس رسم خطة التخلص من نجيب.. إيه حيكون مصير الثورة"، مَن سيثق في مبادئنا.
وقال صلاح سالم: مش ممكن أوافق على كدة.. إن إبعاد محمد نجيب معناه أن الاتحاد مع السودان يضيع إلى الأبد، فالسودانيون ينظرون إلى نجيب على أنه واحد منهم.
وقلتُ- وأنا لا أزال أبكي-: إن هناك احتمالاً، ولو واحد في المليون تنكشف الحقيقة، وعندها ستنتهي الثورة وتنهار كل مبادئها".
الصامتون يتكلمون- سامي جوهر- ص 18-19، مذكرات البغدادي- الجزء الأول- ص144 .
وفي جلسة مجلس الثورة المنعقد في 4/3/1954 م "اقترح عبد الناصر حلَّ مجلس الثورة، وأن يعمل كل فرد من أعضائه على تكوين فريق team مكون من عشرة أفراد؛ مهمته التخلص من العناصر الرجعية من الذين يناهضون الثورة وعلى رأسهم الإخوان المسلمون".
مذكرات البغدادي- الجزء الأول- ص119
وفي المؤتمر المشترك من مجلس الثورة وأعضاء الوزارة المنعقد في 20/3/1954 م:
"تحدث عن وقوع ستة انفجارات نسف في مبنى السكة الحديد وفي الجامعة وفي محل جروبي في وقت واحد، وعلَّق على ذلك بأن ذلك جرى بسبب سياسة اللين في موقف الحكومة، وأن خطوة العودة إلى الحكم النيابي لا تصلح في هذا الوقت".
ولكنه يعترف في اليوم التالي لكلٍّ من حسن ابراهيم وعبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين بأنه هو الذي قام بهذه التفجيرات، وعزا السبب فى ذلك بأنه "كان يرغب في إثارة البلبلة في نفوس الناس، ويجعلها تشعر بعدم الطمأنينة حتى يتذكروا الماضي أيام نسف السينمات ويشعروا أنهم في حاجة إلى مَن يحميهم".
الله أكبر .. ما هذا المنطق الرائع الذي يبرر به ناصر هذا الموقف العظيم والإنجاز التاريخي.
أستاذ هيكل .. أعود لقراءة ما كتبته في فلسفة الثورة وأقول: ما أروع الكذب!!!
مذكرات البغدادي – الجزء الأول – ص146