غرائب من عهد فاروق وبداية الثورة المصرية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
مراجعة ٠٠:٣٨، ١٦ ديسمبر ٢٠١٠ بواسطة Menna (نقاش | مساهمات) (←‏خاتمة)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
غرائب من عهد فاروق وبداية الثورة المصرية


بقلم/ الأستاذ أحمد مرتضى المراغي

مقدمة

هذا الكتاب أو مذكرات عن فترة عاصرت بعضها كموظف , وعاصرت الجزء الأخير منها حتى ساعة قيام ثورة 23 يوليو ( تموز ) 1952 كوزير . وإن كانت خدمتى كوزير لم تدم أكثر من ستة أشهر إلا أن الأحداث التى جرت فى تلك الفترة ، أى فترة ما قبل قيام الثورة ، كانت أحداثاً جساماً ، وكانت عجلة السياسة المصرية تدور فيها دوراناً مضطرباً كدوران دولاب سفينة مهترىء مكسور تسير فى بحر مضطرب تجتاحه أقسى العواصف ، وصاحب السفينة كأنه قرصان مخمور يمضى وقته فى قمرته يلعب الميسر ويبدل قبطاناً بآخر بعد أن يلقيه فى البحر ، حتى جاءت موجه 23 يوليو وأطاحت بالسفينة والقرصان .

وقد رأيت من واجبى نحو التاريخ ، وبعد انقضاء اثنتين وعشرين سنة ، أن أكشف النقاب عن الكثير مما كان مخفياً ، عارضاً الأحداث كما خبرتها و عرفتها . وقد يبدوا أن بعض ما كتبته هو أقرب الى الخيال منه الى الحقيقة ، لكنى اؤكد للقارىء ان المادة الخام لمنْولى هى الحقيقة الخالصة ، وانى لم أنسج خيوطاً من الزيف . وأترك للقارىء ان يقيم ما ورد فى الكتاب وان يستخلص النتائج ، علماً منى بأن التقييم سيكون متبايناً تبعاً لميول القارىء ومشاربه وتفكيرة ومعتقداته . لكنى مطمئن الى أنى عرضت الأحداث عرضاً واقعياً بلا تحريف . والحوار الذى يدور فى كتابى بين اشخاص الكتاب هو حوار صحيح . وصورة الملك فاروق التى عرضتها تبدو صورة عجيبة لا تُصدق . لكن مرض فاروق وهو فى التاسعة ، كما سيرد فى الكتاب ، والجو العائلى المضطرب الذى يخيم على القصر ، وإباء والده أن يربيه تربيةً مصرية خالصة ، وحرمانه إياه من اللعب مع أترابه من المصريين ليخفف عنه وحدته القاسية ، كل ذلك ترك فى نفس الطفل آثاراً ترسبت فى عقله الباطن . وحين شب الطفل أُرسل الى انجلترا ، وعهد أمر تعليمه الى رجل كان يعمل على إرضاء نزواته أكثر من حرصه على تزويده بالمعرفة . واذا به من بعدُ ، يجد نفسه ملكاً ولما يبلغ الثامنة عشرة .

واستمرأ على عرشه ، أن يشبع المصافحون يده لثماً وأن تنحنى ، له قامات المتحدثين اليه ، حتى أنه كان ينفر من كل خارج على هذه العوائد .

وزوق له يوماً مستشاره السياسى فكرة إقالة حكومة الأغلبية ( ليثبت جبروته للشعب ) فكان ذلك فى خطاب كتبه له المستشار ، وخرج فيه على كل الأعراف الدستورية والسياسية والأخلاقية .

من كل ذلك نتبين أن فاروق كان ضحية المرض ، وضحية الخلاف العائلى ، وضحية والد لا يحب المصريين ، وضحية تنصيبه ملكاً وهو فى طراوة الصبا وضحالة التعليم ، والى ذلك ، ضحية مستشارين للقصر أحدهما يزين له النزوات ، والآخر يعلمه انتهاك الدستور .

ولكن لابد من الاعتراف بأن فاروق لم يذق الخمر طوال حياته . ولم يكن عميلاً للاستعمار كما وصف . والدليل على ذلك ، كراهيته للمحتل البريطانى الذى لم يحتمل مجابهة فاروق له ، فأرسل الدبابات تحاصره يوم 4 فبراير ( شباط ) 1942 ، طالباً إما أن يعين رئيس وزراء يريده الانكليز ، وإما أن يخلع عن العرش . ثم إلغاؤه معاهدة 1936 التى كانت تمنح الإنكليز امتيازات كثيرة فى مصر . ثم إغاثة واستضافة رجال فى بلده ، عرفوا بمحاربتهم الاستعمار ، كالمرحوم عبدالكريم الخطابي والحاج أمين الحسيني والحبيب بو رقيبة .

ولكن فاروق محا بتصرفاته الشاذة وأخطائه ، كل أثر لأية حسنة .

مقابلة مع الملك فاروق

قبل غروب الشمس من يوم حار من شهر مايو ( أيار ) عام 1949 ، كنت جالساً فى شرفة نادى المعادى الرياضى أحتسى قدحاً من الشاى وأسرح الطرف فى البساط سندسى ممتد أمامى تحيط به أشجار السنديان الباسقة ،ملقيً عن كاهلى عبء يوم من العمل أمضيته فى وزارة الداخلية فى مكتب تتكدس فيه الملفات حتى تكاد تخفينى عمن يجلس حوله . أضابير تنقبض نفسى لرؤيتها ، لأنى كلما دخلت ورأيتها أسائل نفسى كيف استطيع البت فيها ، حتى لو جلست الى المكتب اربعاً وعشرين ساعة كل يوم . وتكون النتيجة أن أبت فيها معتمداً على التلخيص الذى يكتبه آخر مدير ادارة يطلع على الملف . وقد يكون تلخيصاً غير وافٍ ، حجبت فيه بعض الحقائق إما عمداً أو اهمالاً . ولكن هناك الملفات المحظوظة التى يتابعا ذو شأن كوزير أو نائب ، فهذه تلاقى عناية كبيرة من التلخيص خشية المسؤولية .

وارجو مخلصاً مع تقدم العلم ، أن يتناول العقل الالكترونى سير الادارة الحكومية المعقدة بعناية . وبذلك يستبدل رأس الوزير او وكيل الوزارة بالعقل الالكترونى الذى لا يشك انسان فى تحيزه وصدق نواياه .

أعود على شرفتى على شرفة النادى وتأملاتى ورشفتى ببطء الشاى الذى وجدت له طعاماً شهياً لم أكن اشعر به وأنا اتناوله فى مكتبى . وأدركت أن الذى طيب طعمه هو تلك الخلوة الجميلة مع الطبيعة التى تحتضن نفسى . ان كل شىء يصبح ذا طعم حين تصفو حواس المرء وتنطلق النفس من قيود المدينة لتركب جناح الطبيعة وتطير فوق اللامنتهى من أجوائها . وقلت لنفسى ليت الساسة الذين يبيتون فى مصير الأمم يختلون مع أنفسهم فى أحضان تلك الأم الحنون ، حين يريدون أن يتخذوا قراراً خطيراً ، وليت مجالس الوزراء تجتمع تحت ظلال وارفة من الخمائل بدلا من تلك المائدة المسورة بأربعة جدران ، تخيم عليها وعلى عقول الجالسين فيها كثيفة مقبضة من دخان السجائر والسيجار . وليت الوزراء يتطلعون الى رؤية الزهور والأشجار بدلا من أن يتطلعوا داخل الحجرة الى صور كئيبة معلقة على الجدران للملوك والرؤساء السابقين والحاليين منهم . وبينما أنا فى تأملاتى حضر عامل التلفون وقال انى مطلوب .

فقلت له فى ملل وضيق : ارجو ان تخبرهم بأنى غير موجود .

فتردد قليلا وقال : سيدى إن الذى يطلبك هو القصر الملكى ، وقد أخبرتهم بأنك موجود .

ذهبت وتناولت سماعة التلفون ، وكان المتكلم السكرتير الخاص للملك فاروق . وبعد التحية اخبرنى ان الملك يريد أن أتوجه فوراً الى القصر لمقابلته .

قلت : وكيف علمت انى فى النادى ؟

فضحك وقال : لست انا الذى علمت ، انه جلاله الملك . أرأيت انه يعرف كل شىء عن عاداتك .

واستطرد ضاحكاً يقول : بل انه يعرف كل شىء عن عادات كل موظفى الدولة .

فقلت له : امهلنى نصف ساعة حتى اصل الى القصر . .

ورجعت أتأمل فى ذلك الذى يعرف كل شىء . لكنى تذكرت أن جلالته كان قد حضر الى النادى منذ اسبوع ورآنى جالساً على الشرفة نفسها ، وسألنى عن سبب وجودى . فأخبرته أنى بين الحين والحين أحضر الى النادى لألعب مباراة تنس أروح بها عن نفسى عناء العمل .

وحين وصلت الى قصر القبة رأيت سكرتير الملك فى انتظارى ، فقادنى فوراً الى مكتبه . ولأول وهلة بدا لى انه غير مستريح فى جلسته . فالكرسى المصنوع من خشب الماهجونى الثمين كان يبدو ضيقاً بعض الشىء على جسد الملك الضخم المترهل . وكان يرتدى بزة فيلد مارشال ، لأننا كنا لا نزال فى حالة حرب مع إسرائيل ، وكانت سترة البزة مفككة الأزرار ، وكذالك أزرار قميصه الكالى ، وربطة العنق متدلية . وكان جلالته يتصبب عرقاً على رغم المراوح الكهربائية وجهاز تبريد الغرفة . حيانى بأن قام نصف قومة بشىء من العناء ، وأشار الى بالجلوس . كان يلبس نظارة بيضاء على غير عادته . ولاحظت ان على الجانب من المكتب الذى أجلس إليه , أباجور ضخم ذو مصباح كهربائى قوى كاد يبهر نظرى ، ولم يكن فى جانبه هو مصباح المكتب العادى . ادركت أنه يفعل ذلك ليرى بوضوح وجه الجالس أمامه وتعبيراته وانفعالاته من غير ان يستطيع الجالسى ان يتبين ملامحه هو وتعبيراته وانفعالاته . سألنى بعدما ظل صامتاً برهة :

هل تلعب التنس جيداً ؟

فقلت : يا صاحب الجلالة لا أدعى انى بطل ، ولكن اعتقد انى اجيد اللعبة .

فضحك ساخراً ، وقال أنه متأكد انه لو لاعبنى لهزمنى ، وأنه يستطيع ان يكون بطلا لو مارس اللعب بانتظام ، ولكن مشاغله تحول دون ذلك . علماً بأن وزن جلالته كان فوق المائة كيلو جرام ، وان نظره كان ضعيفاً جداً ، ولاعب التنس لابد أن يكون نحيفاً حتى يتحرك بسرعة ، ولابد أن يكون حاد النظر لالتقاط الكرة .

وأخذ الملك يحدق الى ورقة أمامه ثم تناول قلماً أحمر خطط به سطراً تحت حدى فقراتها ، ومد يده بالورقة وناولنى اياها قائلا بصوته الذى كان يقارب الفحيح :

- خذ هذه الورقة واقرأها .

تناولتها وبدأت القراءة . وفى هذه الاثناء دخل خادم نوبى بملابسه المزركشة يحمل صينية فيها ابريق ضخم من الكريستال مملوء بعصير البرتقال وفنجان فيه قهوة . وضع الابريق أمام الملك وفنجان القهوة امامى .

أخذت أقرأ الورقة . وأخذ جلالته يشرب البرتقال ويدخن سيجاراً ضخماً . كانت الورقة تقريراً مكتوباً بالالة الكاتبة عن النشاط الشيوعى فى مصر ، وأنه يزداد ازدياداً شديداً فى اوساط المتعلمين ، سواء فى الجامعة او فى المدارس العليا او الثانوية فى الفصول الأخيرة منها . وذكر بعض أسماء الجماعات الشيوعية كجماعة ( حدتو ) . وهو اسم لحركة شيوعية ترمز حروفه الى انها حركة ديموقراطية تقدمية وطنية .

كما ذكر أسماء أساتذة من الجامعة ومدرسين فى المدارس وطلبة وضباط جيش وأعضاء فى نقابات العمال . ولما انتهيت من قراءة الورقة ، رأيت الملك ينظر الى من وراء نظارته بعينيه الزرقاوين الضيقين نظرة تحد مصحوبة بابتسامة ساخرة وقال :

هل انتهيت ؟

قلت : نعم .

قال : ما رأيك ؟

قلت : يا صاحب الجلالة , ان هذا التقرير هو صورة طبق الاصل من تقرير اطلعت عليه منذ اسبوع عن النشاط الشيوعى فى مصر .

وهنا لاحظت ان شاربه الكث ارتجف وان وجهه اكفهر وقال :

ـ ما الذى تقوله ؟

قلت : قد قرأت صورة طبق الاصل من هذا التقرير ، وانها واحد من عدة تقارير تتناول النشاط الشيوعى ، وان كل الاسماء والجماعات الشيوعية وضعتها وزارة الخارجية تحت مراقبة دقيقة .

وهنا انتفض جلالته ونهض من كرسيه وهو يصيح :

كلامك غير صحيح . ان هذا التقرير يكشف النقاب عن معلومات لا تعرفها وزارة الداخلية .

وأخذ يضرب مكتبه بقبضة يده صائحاً :

ـ إنكم مقصرون ، انكم لا تدرون شيئاً مما يدور فى هذا البلد . انا وحدى الذى اعرف ما يدور . أنا أسهر الليل ، وأعمل طول النهار ، ووزير الداخلية كلما سألت عنه يقولون انه نائم ، وانت تمضى وقتك فى لعب التنس .

وهدأ غضبه قليلا حين دخل الخادم يحمل دورقاً آخر من عصير البرتقال وطبقاً كبيراً مملوءاً باللوز .

قلت : لاشك فى ان جلالتك تمضى الليل مع النهار ساهراً تنظر فى شؤون الدولة . ( وكل مصرى كان يعلم انه يسهر الليل الى الصباح فى نادى السيارات يلعب البوكر أو فى ملهى الاوبرج ، وانه ينام حتى الساعة الرابعة بعد الظهر ) . ولكن اتهام جلالتك لنا بالتقصير شىء خطير ، لأن حماه الامن اذا قصروا انهار الامن ، وليس معقولا ان نترك جلالتك تعمل كوزير للداخلية ووكيل لها ومدير للامن العام بدلا من الوزير الذى ينام دائماً ، ووكيل الوزارة الذى يلعب التنس .

فرد بسخرية قائلا : وهذا هو ما يحصل مع الأسف .

قلت : لم يبق لك يا سيدى إلا أن تقيل الوزير والوكيل ، وتعين وزيراً يقظاً ووكيلا لا يلعب التنس .

فسكت لحظة ثم ضحك وقال : ولكنى سأعطيكما فرصة أخرى . وعليك ان تتوجه الى مكتبك وتصدر الامر بالقبض على كل الاشخاص الذين وردت أسماؤهم فى التقرير .

قلت : اسمح لى يا سيدى بأن أعلق على الشيوعية فى مصر . إن عملاء الشيوعية بدأوا أول ذى بدء فى نشر دعايتهم بين طبقة الفلاحين والعمال ، مستغلين سوء الحالة الاجتماعية . وكانوا فوق الدعاية يقومون بتوزيع بعض الأموال . ولكن مسعاهم فشل لأن أكثر الفلاحين لا يجيدون القراءة والكتابة ، وكذلك الكثير من العمال . لقد أخذوا المال ولم يفهموا المبدأ الشيوعى ولم يهضموه . ولما ضاعت مساعى العملاء توجهوا الى أوساط المتعلمين الذين قرأوا الكثير عن كارل ماركس ولينين وتروتسكى وهضموا مبادئهم وتعاليمهم ، وتأثروا بالظلم الفادح الذى تعانيه الطبقة الكادحة والاستغلال البشع الذى يرزحون تحته . وفوق ذلك , فإن المتعلمين يشعرون بأنهم مظلومون . فمرتباتهم لا تكاد تفى بحاجاتهم وحاجات أسرهم ، بينما تتلألأ قصور الجهة ذوى العقول المظلمة بالأنوار والخدم والحشم والجواهر .

نظر الى الملك نظرة عجيبة وقال : ما شاء الله . هل أصبحت شيوعياً ؟

قلت : لا يا سيدى ، لست شيوعياً . ولكن أرجو أن يعالج الامر على ضوء الاعتبارات الاجتماعية ، وأرجوا أن تأمر جلالتكم رجال الحكومة بالعمل على رفع الظلم الاجتماعى ، لأنه بهذا ، وبهذا وحده ، نحارب الشيوعية . إن بذور الشيوعية لا ينبت زرعها إلا فى الارض الظالمة .

قال الملك : إن شعبى شعب سعيد والخير كثير ومتوافر ، والشيوعية خطر على عرشى . إن هم الشيوعية إزالة العروش . إن أكثر العروش أطاحت بها الشيوعية .

قلت : يا صاحب الجلالة ، ان اصحاب العروش هم الذين أطاحوا بأنفسهم ، لأنهم ابتعدوا عن الشعب وتجاهلوا مطالبه وظنوا أن كل شىء على ما يرام ما داموا هم بخير .

وهنا صاح الملك : أنا لا يهمنى الشعب ، إننى أعلم أنه يكرهنى . إنهم يعيبون تصرفاتى وينتقدوننى على كل صغيرة وكبيرة . إنى لا أخاف الشعب ، لأن لى درعاً قوية تحمينى ضده . وسكن .

قلت : هل تسمح يا صاحب الجلالة بأن تذكر ما هى هذه الدرع ؟

فرد وهو يكز على اسنانه وببطء : الجيش .

سكت برهة وقد هالنى الأمر ، وتمالكت نفسى فترة أحسست فيها بضيق شديد وببعض العرق يتصبب , وأخيراً قلت :

ـ يا صاحب الجلالة هل أنت واثق من ولاء الجيش ؟ وتطلعت الى وجهه الذى أصبح فى احمراره كأنه قطعة ضخمة من الطماطم .

وبدا جسمه الضخم يرتعد . والحق أنى شعرت بشىء من الخوف قطعته صيحة منه تقول :

ـ ايه ده ؟ ماذا تقول ؟ هل تريد أن تشكك فى ولاء الجيش لى ؟

ـ لا أريد أن أشكك . ولكنى أعلم أن الجيوش قامت بعدة انقلابات ضد حكامها .

فصاح : ها ها ها ها . هؤلاء حكام مغفلون لم يعرفوا كيف يختارون الضباط المخلصين . ان أى ضابط يلتحق بالجيش ، أعرف عنه ما لا يعرفه أبوه وأمه عنه .

وابتسم ساخراً وقال : انت فاكر انى العب ؟

قلت : معاذ الله يا سيدى .

ومد الملك يده الى علبة كبيرة من خشب وردى اللون ، وأخرج سيجاراً ضخماً وأشعله ، وأخذ ينفث دخانه ويحلق بعينه الى السحب الكثيفة الذى يثيرها سيجاره . ثم أخذ يترنم بأغنية فرنسية . وتوقف بعد لحظة ونظر الى قائلا :

ـ هل تعرف الفرنسية ؟

قلت : قليلا . لأنى تعلمت الانجليزية .

قال  : هه . هل تعرف انى أتقن ست لغات ؟

فقلت : لا غرابة فى ذلك .

قال ان الاغنية التى كنت أترنم بها جميلة المعانى ، وموسيقاها عذبة ، وانى أترنم بها حين يضيق صدرى .

سكت ولم أرد على الغمزة التى قصدنى بها ، من أنى تسببت فى ضيق صدره .

قال : على كل حال هذه الاغنية خير من أغانيكم المصرية الرتيبة المملة . ان مغنيكم يظل طول الليل يصيح يا ليل يا عين يا عين يا ليل ، وأنتم تصيحون قائلين : آه .

وأخذ جلالته يضحك .

قلت : يا صاحب الجلالة أرجوا الله ان يجعل حياتك دائماً سعيدة وطويلة ، ويسرنى ان أرى جلالتك تروح عن نفسك بهذه الطريقة .

قال : ان تمنياتك لى بحياة طويلة وسعيدة ، أشكرك عليها . ولكن حياتى فى مصر لن تكون طويلة . لأنها لن تكون سعيدة . أما بعيداً عن مصر فإنى استطيع أن أحيا حياة طويلة سعيدة .


ـ وأين يا صاحب الجلالة ؟

ـ فى أى بلد آخر من العالم . أنا أعرف انى لا استطيع ان اعيش كما أبغى فى بلدكم هذا . إن الذى يريد أن يعيش فى مصر ويتجنب الانتقاد والسخرية ، عليه ان يلبس عمامة ويمضى حياته فى الكرب والغم والقرف وأنا لا احب الغم والقرف . يعنى فيها ايه لو ذهبت الى نادى السيارات أو الاوبرج لأروح عن نفسى عناء العمل . أليست هذه ديموقراطية أجلس فيها مع الشعب ، كأنى واحد منهم . لكنكم تنتقدوننى على ذلك .


قلت : انهم لم يتعودوا ان يذهب ملكهم الى ملهى . ولم يسمعوا عن الملوك الآخرين أنهم يفعلون ذلك .

قال : هذه تقاليد وعادات بالية . نحن فى عصر حديث .

فسكت إذ لا داعى للمجادلة . لقد فسح صدره لملاحظات لو قيلت لأحد ديكتاتوريى القرن العشرين لخرجت الى جهة لا يعلم احد من اهلى اين تقع . وان كنت سعيد الحظ فهذه الجهة من دون شك ستكون سجن القناطر أو طره أو القلعة .

وقام الملك من مقعده وتوجه الى وسط الغرفة وقال :

ـ على كل حال سأريحهم وأستريح منهم . كلها كام سنة وبعدها . . . ثم سكت .

قلت : هل استطيع يا سيدى أن أعرف ما تنوى ؟

قال : فسرها كما تريد .

ثم صافحنى معلناً انتهاء المقابلة . فخرجت من مكتبه وكلماته تطن فى رأسى ، وغرابة تصرفاته تحيرنى الى اقصى حدود الحيرة .

انه يريد ان يحارب الشيوعيين ، وان يقبض عليهم لأنهم يهددون عرشه . انه يحصن نفسه ضد الشعب معتمداً على الجيش . ولكنه فى الوقت نفسه يفكر فى الخروج من مصر والتخلى عن العرش . وفيما كنت أسير فى ردهات القصر التى لا يسمع فيها وقع الخطى لكثافة السجاد ، وغارقاً فى أفكارى ، استوقفنى صوت يقول فى لغة عربية ركيكة :

ـ ازيك يا سهادة البيك .

نظرت اليه وعرفته . انه تستا الايطالى ، مانيكور الملك وبيديكيره ( المختص بقص اظافر اليدين والقدمين ) .

قلت : سلمك الله . وكيف حالك ؟

قال بلكنته الغريبة : هل انت مسرور منى ؟

قلت : يا تستا لم أجربك بعد فى قص أظافرى .

فضحك وقال : لا أقصد ذلك . هل انت مسرور من التقرير الذى أطلعك عليه جلالة الملك عن الشيوعية ؟

قلت : وما شأنك انت بالتقرير ؟

فابتسم فى استحياء وقال : انا الذى كتبته .

ومضى يعلك رطانته ويمط فمه ويقول : يا سعادة البيك ، لا تظن أن تستا رجل بسيط لا يعرف إلا قص الأظافر .

ووضع اصبعه على رأسه وقال : ان مخ تستا كبير .

قلت : يا تستا لا شىء عجيباً فى هذا الزمان . ولا شك ان عقلك كبير ، لأنك استطعت اقناع الملك بأنك تفهم فى الشيوعية .

وودعت ذلك الرجل الذى يقلم أظافر الملك ويريد تقليم أظافر الشيوعية .

ولما خرجت من القصر توجهت فوراً الى مكتبى فى وزارة الداخلية وطلبت ملفات النشاط الشيوعى ، ورحت أراجعها . ولم يطل عجبى ، إذ وجدت أن أحد التقارير المودعة هو صورة طبق الاصل عن تقرير تستا الذى قدمه للملك . وحققت فى الأمر . وعلمت أن تستا على اتصال ببعض موظفى ادارة الامن العام . وأنه يأخذ منهم بعض التقارير ، علماً منهم بأنه ذو حظوة عند الملك ، وأملا منهم فى أن يقربهم منه .

وفى الغد قابلت وزير الداخلية ، وكان رئيساً للوزراء ،وسردت عليه ما حدث . ولما انتهيت من حديثى ضحك قائلا :

ـ هون عليك . إنى أتلقى كل يوم تعليمات من الملك عن مشاريع تسربت اليه من اضابير الوزارات قبل عرضها علي مجلس الوزراء بواسطة خدم الملك الخصوصيين أو ما يسمونهم الشماشرجية ( الذين يلبسون الملك ثيابه ) ، ويباهينى الملك بأنها نتيجة دراساته واطلاعاته . وهو يقول لى دائماً بأنه لولا أخذه دائماً بزمام المبادرة لتطلعت الدولة .

الصهيونية والشيوعية فى مصر

كانت المنظمات الشيوعية التى تعمل فى مصر تسمى بالاسماء التالية:

ـ " اللجنة المركزية للمنظمة الشيوعية المصرية " . وكانت تصدر نشرات الى الطبقة العاملة .

ـ " منظمة المقاومة الشعبية " التى كان يرأسها أبو سيف يوسف خلف . وكانت مهمتها توزيع الكتب الشيوعية على الطلبة والعمال .

ـ " نواة الحزب الشيوعى المصرى " . وكانت تتولى طباعة تقارير ونشرات شيوعية على آلة طباعية أقامتها فى مكان سرى . ومن أعضائها ، بكر عبد الفتاح الشرقاوي ومنصور نسيم وزكي فريد اسكندر وسمير توفيق حنا وجوزيف يوسف ، ( يهودى ) .

ـ منظمة " نحو حركة ديموقراطية تقدمية وطنية " . وكان يختصر اسمها بكلمة ( حدتو ) . ويرئسها صهيونيان . أحدهما مليونير يدعى كوريل ، والآخر يدعى دويك . والأول كان ينفق بسخاء على منظمته ، ويعمل تحت ستار التجارة مع اسرائليين هما : ارنولد ريشفيلد , واسمه الأصلى هارون ريشفيلد . وسيمون سيتون . وقد قدما من تل أبيب حين كانا يعملان عام 1946 سائقى سيارة . ولهما زميل ثالث هو روبرت روبنسون . وكان حضور الثلاثة إلى مصر بتكليف من متزعمى الحركة الصهيونية فى فلسطين لإمدادهم بما يحتاجون اليه من معلومات عن مصر .

وكتغطية لمهمته أنشأ روبنسون " الشركة الدولية للنقل والهندسة " . وشرع فى العمل بالاشتراك مع زميليه ومساعدة المنظمة الصهيونية ومراقبتها . ولكى تضمن الشركة سير عملها الاساسى أخذ مديرها يوطد علاقته مع اثنين من ضباط القسم المختص ومع موظف فى مصلحة الجمارك . واستهلوا عملهم بانشاء مكتب فى الشقة ذات الرقم 380 من عمارة ايموبيليا .

وفى 28 مايو ( أيار ) 1948 ، أى بعد ثلاثة عشر يوماً من خوض الدول العربية حرب فلسطين ، جاء خادم فى مطعم الارميتاج الى قسم عابدين وأبلغه أنه لاحظ أن شخصين اسرائيليين يسكنان فى شقة فى " الايموبيليا " ، يبدو عليهما الحذر الشديد ، وصارا لا يسمحان له بإدخال الطعام الى شقتهما كالعادة ، بعد نشوب حرب فلسطين . بل يتسلمان الطعام عند العتبة ، مما دعاه الى الاشتباه بهما . وقد ضبطت إفادة الخادم بالمحضر ذى الرقم 70 ، أحوال القسم ، يوم 28\5\1948 . ثم لتصل الصاغ ك . ر . الضابط فى القسم المخصوص بمركز عابدين قائلا ان المشتبه بهما معروفان من قبل القسم المخصوص ، وطالباً بعد اتخاذ اجراءات بحقهما .

إن هذا الضابط مكن كلا من ريشفيلد وسيتون من الحصول على وثائق سفر مصرية . إذ كان أولهما مجهول الجنسية الاصلية والثانى من اصل المانى . وقد دخلا مصر بجوازين فلسطينيين .

وهما حصلا على وثائق السفر المصرية على اعتبار أنهما يتعاونان مع الأمن المصرى ، مما يضطرهما الى التنقل كثيراً من اجل القيام بمهمات سرية وخطيرة .

ولما شرع فى التحقيق اتضح انه لا يوجد فى القسم المخصوص بوزارة الداخلية ملف لريشفيلد أو لسيتون . وقرر الكاتب المختص بأرشيف القسم المخصوص ان المستلم للملف هو البكباشى ك . ر . ثم تبين ان لهما ملفاً فى مركز بوليس القاهرة رقم 27\26 C 5

وقد ضبط مكتب البكباشى ك . ر ووجدت فيه أوراق كثيرة تثبت صلته بأناس قدمرا من تل أبيب للعمل فى القاهرة .

وكان البكباشى المذكور يتعاون مع صحافى يوغسلافى يدعى توميش زدرافكو ، كان ملحقاً صحافياً بالمفوضية اليوغسلافية فى بودابست عام 1941 . وعندما غزا الألمان يوغسلافيا حضر الى مصر حيث عين فى المكتب الملكى للدعاية فى الشرق الأوسط وكتب عدة مقالات فى جريدة " جورنال ديجيبت " يشيد بمقاومة الجنرال ميخائيلوفتش .

وابتداء من عام 1942 أخذ زدرافكو يعمل فى الخفاء للحركة الشيوعية وتيتو ، ثم أظهر نفسه فى أواخر عام 1943 عندما تمكن تيتو من اكتساب ثقة الحلفاء . وحرر زدرافكو عدة تقارير عن نشاط الجنرال ميخائيلوفتش ساعدت فى اتهام الجنرال من قبل نظام تيتو بأنه مجرم حرب . ثم سافر عام 1945 الى يوغسلافيا على رأس فريق من 120 يوغسلافيا . وعام 1947 رجع الى مصر مدعيا انه أودع السجن مرتين . وتمكن زدرافكو من العمل فى الرقابة فى وزارة الداخلية المصرية عام 1948 . مما سهل له الإطلاع على جميع مراسلات اليوغسلافيين ومعرفة المناهضين بذلك . ولكن انكشف أمره للسلطات المصرية فصدر أمر بإبعاده . فقصد يوغسلافيا ليشغل منصبا هاماً فى البوليس السرى اليوغسلافى .

وقبل أن أختم هذا الموضوع أشير الى أن عصابة ريشفيلد وسيتون كانت تقوم بالاتجار فى مخلفات الجيش البريطانى وتصدرها الى الخارج . ولما أوقفت السلطات المصرية تصدير هذه المخلفات ، عمل المذكوران فى تهريب الذهب والعملات الأجنبية تحت ستار توكيل لهما من شركة كروب الالمانية . وكان يساعدهما للأسف ضابط يدعى ع . ا . ج . وموظف جمارك يدعى م . وقد عوقب المذكوران وكذلك البكباشى ك . ر . ثلاثة سجلوا نقطة سوداء فى سجل رجال الأمن الذين يبلغ عددهم الآلاف ويقومون بأعمالهم بنزاهة وشرف .

الشيوعية واولاد الباشوات

منذ سنة 1947 ظهرت فى مصر ظاهرة غريبة , وهى قيام عدد من أبناء الباشوات وكبار الملاكيين بالانضمام إلى المنظمات الشيوعية . واحدهم كان والده رئيساً للوزراء واسمه ن . ا . والآخر كان والده وزيراً وفدياً واسمه أ . ب . ح . س . ا . وآخر والده محافظاً لإحدى المحافظات الكبيرة واسمه م . ع . س . ا .

وتأصلت فى أنفسهم العقيدة الشيوعية تأصلا صادقاً . وكانت دراستهم للشيوعية دراسة أكاديمية عميقة .

وأصبحوا من أكبر دعاتها حتى ان ابن رئيس الوزراء كان يذهب الى المطبعة جهاراً فى النهار ويطبع المنشورات الشيوعية ويضعها فى سيارته ويتولى توزيعها بنفسه .

وقد ضبط مرة ثم أفرج عنه لكنه مضى فى النشر والتوزيع . وابن الوزير ضحى بحياته من أجل المذهب الشيوعى ، اذ اعتقل فى عهد مراكز القوى , وهرس عظم ظهره الفقرى ، ومات فى السجن .

والسؤال المطروح : كيف تمكنت العقيدة الشيوعية من شباب مرفه يعيش فى القصور . هل هى هواية أو ما يسمى بالانجليزية (Hobby) مارسوها ضيقاً بحياة الترف التى كانوا ينعمون فيها .

إن الترف أحياناً يكون مصدراً للتبرم بالحياة ، لأن الانسان الذى يجد كل ما يريده فى متناول يديه بغير كد ولا جهد ، لا يرى لذة فى ذلك . وكم من مرة سمعنا بانتحار أصحاب الملايين لأنهم ضاقوا بالحياة ، حين استنفدوا رصيد البهجة منها ، ولم يغنهم رصيدهم المتكدس فى المصارف عن تعويضهم ما فقدوه من لذة الحياة . او لعل فى الأمر تأنيباً للضمير . إذ ان هؤلاء الشباب يرون بأعينهم حين يخرجون من قصورهم كيف يلتقط بعض الفقراء الخبز من صناديق القمامة ، وكيف يمشون فى الشوارع يلبسون أسمالا لا تستر العورة . وخير لى أن أترك تحليل الظاهرة إلى علماء النفس .

شقيقة الملك

حضر الى مكتبى فى يوم من شتاء عام 1949 أحد اصدقائى من أساتذة الجامعة ، وكانت زوجته احدى زعيمات الحركة النسائية فى مصر وعلى درجة كبيرة من الثقافة ، اذ تحمل درجة الدكتوراه فى الآداب من جامعة باريس . قال لى انه يرجو ان أحضر مأدبة عشاء سوف يقيمها بعد ثلاثة أيام . اعتذرت له بمشاغلى .

فقال : ولكن شخصية كبيرة ستحضر العشاء . وقد ألحت علينا فى دعوتك .

قلت : ومن هذه الشخصية ؟

فاقترب منى ، مع ان الحجرة كانت خالية وهمس فى أذنى : انها شقيقة الملك الاميرة ( ف ) .

قلت : هل تعلم لماذا ألحت فى دعوتى ؟

قال : لا اعلم . ولكن قد تكون راغبة فى التحدث اليك .

قلت لا أظنك تأخذها مأخذ الجد ؟

قال : اعلم ان انطباع الناس عنها انها تتمادى فى اللهو وحياة العبث . ولكنها ذكية جداً . وحكمها على كثير من الامور يميل الى الصواب ويتميز بالنقد المرير .

قلت : وحكم الناس عليها يتميز بالنقد المرير .

قال صديقى : وما يضرك ان تقابلها وتستمع اليها ؟

فكرت قليلا وقلت : الحق معك ليس هناك من ضرر .

كان العشاء بسيطاً فى ألوانه ، مما يدل على انه ليست هناك كلفة كبيرة بين صاحبة البيت والاميرة . وكانت الاميرة ترتدى ثوباً بسيطاً يضيف رونقاً ساحراً الى جمالها الأخاذ . عيناها زرقاوان مع شىء قليل من السواد يطفو على الزرقة كدكنة من السحاب تعبر السماء ،وشعرها الناعم الأسود يجلل رأسها الجميل ، ووجهها العاجى اللون وصوتها دافىء وناعم يعبر عن أنوثة صارخة . مر العشاء فى صمت إلا كلمات خافتة وبعض الضحكات على نكات كان يطلقها زوج الاميرة المخمور . وكانت أحياناً توجه اليه نظرة تأنيب على بعض نكاته الثقيلة التى كان يعقبها بضحكات عالية صارخة . وكنا نضحك تأدباً . انتهى العشاء وتوجهنا الى الصالون لاحتساء القهوة . جلست الاميرة على ديوان وأشارت إلى بأن أجلس الى جوارها . فجلست . وحضرت القهوة . لاحظت ان يدها ترتجف وهى ترشف فنجان القهوة . ولما انتهت منه وضعته على المائدة وتنهدت ثم نظرت الى قائلة :

كيف الحال ؟

قلت : الحمد لله . ضحكت ساخرة

وقالت : الحمد لله على ماذا ؟

قلت : على الحال .

قالت غاضبة : هل تحمد الله على المصائب التى تجرى فى هذا البلد ؟

قلت : يا سيدتى العالم كله مصائب وليس هذا البلد وحده .

قالت : هل تظن انك تكون سعيداً اذا انتهى الامر الى الخراب الشامل للبلد والخراب لنا جميعاً .

ـ أى خراب تعنين يا سيدتى ؟

نظرت الاميرة الى غاضبة ، وعبس وجهها الجميل ، وصاحت ، ولكن بصوت منخفض :

ـ ألا تعلم ان هذا الرجل يقودنا جميعاً الى الخراب ؟

قلت : ومن هو هذا الرجل ؟

قالت : أرجوك ألا تتظاهر بعدم الفهم . أما إن أردت أن تعرف من أقصد ، فإنه أخى فاروق . فتحت فمى من الدهشة ، ولكن لم أتكلم .

قالت : لا تدهش . نعم ! إنه أخى فاروق .

لم تقل ابداً الملك فاروق . وعجبت كيف تتكلم اخت عن اخيها بمثل ما تقوله تلك الاميرة . ولا سيما ان الاخ ملك ؟ لو كانت سيدة اخرى تقول عن الملك ذلك لما كان الامر مثار غرابة . ولكنها شقيقة الملك .

واستوقفنى خاطر طارىء . هل هذا شرك موعز به من الملك يريد ان ينصب لى ولغيرى من رجال الدولة ليعرف حقيقة رأينا فيه ؟ وما كدت انتهى من ذلك الخاطر حتى رأيتها تبتسم ابتسامة رثاء واشفاق ثم قالت ، وهى تحدق فى :

ـ إنى اعلم فى ماذا تفكر . انك تظن انى مدسوسة عليك لكى يعرف الملك ماتضمر . ولكنى لست من ذلك النوع . انى صريحة حتى معه . وقلت له ما قلته لك اليوم . ولكنه لم يعبأ بشىء ، ويمضى فى عبثه . انى ألمس الخطر المحدق بنا جميعاً . ان اخى غير طبيعى . وأنا أعلم ذلك عن يقين ، لأنى أقرب الناس اليه . وولدتى تعلم ذلك . ونعلم أن نصحنا له لا يجدى ، لأنه غير طبيعى . إن تصرفاته حتى الخاصة منها نحو أمه وعائلته تدل على أنه مختل العقل . نعم إنه مختل العقل .

لذت بالصمت ، لأنى لم أجد ما اقوله لها . لقد عقدت الاميرة الجميلة لسانى من هول المفاجأة ، الى حد ما . لكن شيئاً من الشك راودنى . لا من صدق ثورتها على أخيها ، ولكن من الدوافع لهذه الثورة . لأنى أعلم أن أخاها الملك يضعها تحت مراقبة دقيقة من بوليسه الخاص لعلاقات شخصية بينها وبين أحد الشبان الأجانب المقيمين فى مصر .

وبعد تفكير قلت لها يا سمو الاميرة : لماذا لا تجتمعون انتم افراد الاسرة المالكة ، وتتوجهون اليه شارحين له الأمر وخطورة العواقب ، فقالت :

ـ هم أسوأ منه . وانهم جبناء يخافون بطشه . إنه يستطيع أن يحرم أى واحد منهم من لقب الامارة .

قلت : ألا تخشين أن يحرمك أنت ؟

قالت : لا يهمنى لقب الامارة بل ليته يفعل ذلك . ولكنه لن يفعل لأنه يخشى أن أذهب الى الخارج وأشنع عليه .

قلت : وماذا تطلبين منى أن أفعل ؟

قالت : انك شاب تشغل منصب كبيراً فى الدولة . وتستطيع أنت وأمثالك أن تعملوا على إيقاف أخى عند حده .

قلت : ليس الأمر بالسهولة التى تتصورين . ولكن الأمور اذا تفاقمت كونت عاصفة قد تزيل من أمامها المساوىء . لأن المساوىء هشة لا تقدر على تحمل العواصف . أما المحاسن فتبقى لأنها فى صلابة الجبل . وهنا حضر زوجها التركى وكان يترنح من السكر وهو يقول : ما هذه الخلوة ، وددت لو أعرف ما يقول احدكما للاخر ؟ وبعد ان ترنح مرة أخرى ، أخرج من جيبه فنجان قهوة فارغ وقدمه الى قائلا : اقرأ ما فى داخله . فتطلعت فى الفنجان وقرأت هذه العبارة : اذا كانت لك زوجة جميلة فيجب ان تكون لك سبع عيون . أعدت اليه الفنجان . فصاح متلعثماً : مارأيك فى ما قرأت ؟ قلت له : لا داعى يا سيدى للعيون السبع . يكفى ان يكون الزوج رجلا .

عدت الى منزلى . واستلقيت على سريرى مفكراً فى ما قالته الأميرة عن أخاها مختل العقل . وخصوصاً أنها لم تستعمل العبارة بالمعنى لمجازى ، ولكنها استعملتها على أنها أمر واقعى . وكانت تعيد العبارة وتشدد النطق . لقد تعود الناس ان يقول احدهم عن الآخر إنه مجنون ، اذا تصرف تصرفاً غير مقبول من المجتمع . وهذا كما قلت تعبير مجازى . أما عبارة مختل العقل ، والتشديد عليها , وخصوصاً من شخص قريب جداً الى من ينسب اليه اختلال العقل ، فإنها اذا أضيفت الى تصرفات الملك فاروق غير الطبيعية ( وسيرد منها الكثير فى كتابى فضلا عما لمسه الكثيرون غيرى وما كتبه الكتاب عنه ) فيجب أن نأخذها على محمل الجد . ان الاميرة ( ف ) كانت موتورة من اخيها ، لأنه كان يستخدم بوليسه الخاص فى مراقبتها . ولكنى علمت ايضاً انها تعرضت قبل زواجها لأزمة اخلاقية ونفسية عنيفة من أخيها ، جعلتها تنقطع عن زيارة القصر انقطاعاً تاماً بل انها تزوجت على رغم معارضة أخيها ، ولم تأبه بتهديداته على رغم ان زوجها كان يكبرها فى السن كثيراً ولم يك بين الرجال شيئاً مذكوراً . وهذا نوع من هروب النفس من حالة سيئة الى حالة اخرى قد تكون أسوأ .

وتذكرت وأنا أتأمل ما قالته الأميرة كيف عاد فاروق الى مصر بعد وفاه والده , وكيف يومها غنت الجماهير فى الشوارع :

قيدى الشموع قيدى . . اليوم يا فاروق يوم عيدى

لقد رأى فيه كل أب وأم ابنهما وكل فتى وفتاة أنه أخ .

وغردت البلابل فى الدوح وجرت أمواج النيل بعضها إثر بعض راقصة طروبة . ومرت سنوات وكفت البلابل عن تغريدها وماجت وهاجت أمواج النيل واكفهر وجه الشمس من هول ما يصنع طفل الأمس الجميل وصبيه ذو الوجه الباسم البرىء . وعادت ليالى العرس رجع نواح . اين الأمس من الغد . ولماذا انقلب الحال . لقد كان يطل على الشعب من شرفات قصر عابدين وجه ملاك ، ما ان يراه الشعب حتى تنشق حناجره من الهتاف وتدمى أكفه . وجاء بعد سنين اليوم الذى رأوا فيه قرن الشر يطل عليهم فتنحسر أبصارهم وتغار عيونهم أسفاً وحزناً . ثم اندفع فاروق فى عبثه غير عابىء بشعبه الذى أحبه ، متحدياً له تحدى العداوة والحقد والبغضاء . وعلى من يعتمد فاروق فى تحديه . هذا هو السؤال الكبير الذى كان يحير الناس . ولكن الجواب عليه لم يك كبيراً أو عسيراً . إن أداة فاروق فى تحديه العابث لم تك إلا الجيش ، ممثلاً فى فرقائه ولواءاته من كبار ضباط أمثال الفريق حيدر والفريق عمر فتحي واللواءان عثمان المهدي وطنطاوى وغيرهما . كانوا يقولون لفاروق نحن عبيد مولانا . ونحن نفديك بالروح يا مليكنا ، فتخيل فاروق ان الجيش طوع بنانه وأنه مهما فعل وعبث فالقوة المسلحة رهن مشيئته تقمع أية حركة يقوم بها الشعب . وحين كان يسمع عن حركة صغار الضباط ويسأل لواءاته كانوا يقولون له : يا مولانا " دول شوية اولاد " اطمئن فالجيش كله على أتم الولاء لك . فيزداد عبثه وتحديه لكل طبقة وعلى رأسهم الساسة الذين يحكم بهم البلد . يقيل تلك الوزارة ويطرد ذلك الوزير ، ومن حوله مستشار أو اثنان يزينان له طرد الوزارة وإقالتها .

كان حال فاروق مع الجيش حال زوجة عابثة مستهترة لا تلوى فى الغواية على شىء ولا تأبه لزوجها لأنها تظن أنه يحبها وأنه مهما كثر كلام الناس عنها فإنه سيضرب بكلامهم عرض الحائط ، ثم تمضى فى فجورها حتى يجىء يوم يدخل عليها الزوج وفى يدة قسيمة طلاق لا رجعة فيه طالباً منها ان تحزم حوائجها مشيراً الى باب البيت كى تخرج منه .

لقد وقف المرحوم حسين هيكل الوزير السابق أمام محكمة الشعب يقول حينما سئل :

" وأنتم أيها الساسة لم كنتم تسكتون على تصرفات فاروق ؟ فرد هيكل قائلا كنا عاجزين امام الجيش " . وفى فترة تأملى هذا تذكرت قصة مرض خطير يصيب فاروق فى التاسعة من عمره سمعتها عن المرحوم محمد محمود باشا ، وكنت سكرتيراً خاصاً له سنة 1939 حين تولى رئاسة الوزارة ، وأيدها لى والدى المرحوم الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق . وروى هذه القصة لهما المرحوم زكي الابراشي باشا ناظر الخاصة الملكية :

كان الأمير فاروق نائماً حين دخلت عليه مربيته الانجليزية صباح يوم من الايام ، وأخذت تزيح الستائر المخملية وتفتح النوافذ على عادتها ، فاطلقت أشعة الشمس الى رأس الطفل الذهبى الشعر ، ولكنه ظل مغمض العينين . فأخذت المربية تهز كتفه وتصيح : قم أيها الطفل الكسول . إن الساعة بلغت السابعة . ولكن الطفل لم يتحرك بل صدر عنه أنين خافت . فهزته مرة أخرى . فتابع أنينه ولم يتكلم . أثار ذلك قلقها . وزاد منه إذ رأت وجهه محتنقاً شديد الاحمرار . فوضعت يدها على جبهته ، فوجدها ساخنة جداً . أخذت تربت على خده ، ففتح الأمير عينيه قليلا , واستمر أنينه . ولم يبق عندها شك فى انه مريض . فأسرعت وجاءت بميزان الحرارة ووضعته تحت إبطه فترة ، ثم أخرجته وتطلعت فيه وصرخت بصوت خافت : يا الهى انه مريض جداً . وكانت الحرارة أربعين درجة مئوية . هرعت الى أم الملك وأخبرتها . فهرولت الأم الى غرفة الامير وطلبت من المربية استدعاء طبيب القصر على عجل . لم يستطع الطبيب فى بادىء الأمر أن يشخص المرض . فاستدعى أطباء آخرون انتبهوا الى أن الأمير مصاب بالحمة الشوكية النخاعية .

وقرر الملك فؤاد أن يستدعى على عجل طبيباً ايطالياً شهيراً . واذا لم تخن الذاكرة فإن اسمه هو البروفسور فرجونى الذى تولى علاج الملك فؤاد حين أصيب بمرض القلب . مرت على الأمير الطفل فترة عصيبة تراوح فيها الامل بين الشفاء واليأس . ولكن الامير شفى .

وذهب الأبراشى الى مكتب الملك فؤاد يهنئه بشفاء ولى العهد . ودار بينهما الحوار التالى :

الأبراشى : جئت يا مولاى لأقدم أصدق التهانى بسلامة سمو ولى العهد .

الملك : يطرق ولا يجاوب . إن سحابة من الحزن تخيم على وجهه . والأبراشى صامت ينظر الى وجه الملك متحيراً كيف هو لم يرد عليه بالشكر .

انقضت فترة تأوه فيها الملك ونظر الى الأبراشى ثم قال  :

ـ يا زكى لا أدرى هل كان عليك أن تهنئنى أم تعزينى ؟

الأبراشى : لماذا تقول ذلك يا مولاى ؟

الملك : اسمع يا زكى . انى لا أريد أن أخفى عنك الحقيقة المؤلمة ، وخاصة وبالذات انت . لأنى لا أشك فى إخلاصك لى ولعرشى . لقد حضر الطبيب الايطالى صباح اليوم مستأذناً فى السفر . شكرناه بحرارة على براعته فى علاج فاروق . فرد على بإطراق رأسه وتمتم عبارة لم أسمعها . ولما قمت لمصافحته ايذاناً بانصرافه تردد قليلا قبل أن يمد يده الى ثم قال مضطرباً :

ـ سيدى أود أن أقول شيئاً قبل أن أسافر .

الملك : تفضل .

الطبيب : سيدى إن إصابة ولى العهد كانت شديدة جداً . وأخشى أن تكون قد أثرت بعض الشىء على المخ .

ولما لاحظ الطبيب اضطرابى قال : إنى أقول أخشى ، ولا أقول انى متأكد ثم سكت .

أخذ القلق من الملك كل مأخذ وقال :

ـ هل معنى ذلك أن قواه العقلية قد تصبح غير مكتملة ؟

الطبيب : سيدى قد لا يصل الأمر الى هذا الحد إذا لم تصل مضاعفات . ولذا أنصح بوضع الأمير تحت رعاية طبيب خاص ولفترة طويلة . ولى أمل كبير أن يشفى تماماً من آثار المرض . لقد تركت وصفة ( روشيته ) بعلاج ورعاية طبية وأرجو ان يواظب على تعاطى العلاج .

وهنا سكت الملك .

ظل زكي الابراشي حائراً لا يجد شيئاً يقوله . فقال الملك :

ـ يا زكى ستكون مصيبة إذا ترك المرض أثراً على عقل ولى عهدى . إنك تعلم أن الشيخوخة ومرض القلب يعتصرانى . وفاروق هو الصبى الوحيد المؤهل لولاية العرش من ذريتى . وآخر مولود لى جاء بنتاً ولم تبق فى البندقية خرطوشة أخرى . إن فاروق هو وريث عرش بنيته فى مهب العواصف ، وقويته وأمنته فأصبح راسخاً حتى على أشدها وأعتاها . فهل أتركه لوريث لا يجد كفاية من العقل ليحفظ العرش ويصونه ؟

الابراشى : يا مولاى ، إن الله كان دائماً معك وسيكون معك ومع ابنك .

الملك : الله أعطانى الملك والمال بعد ان كنت فقيراً مدقعاً منبوذاً من أسرتى . ولكنى أراه الآن وقد تخلى عنى ، وكأنه يسحب منى ما أعطانى . إن نهايتى تدنو وأنا أحس بذلك .

الابراشى : ولكن ولى العهد سيشفى من آثار المرض يا مولاى . كن مطمئناً . إن شعورى لا يخيب .

الملك : هذه امنية ، أشكرك عليها . ولكن اذا لم يشف فاروق فهل يذهب عرشى الى الامير محمد على . كم أكرهه ويكرهنى بل كم أكره هذه الاسرة اللعينة .

الابراشى : سيدى إن ملوكاً كثيرين حكموا ولم يكونوا على اكتمال عقلى .

ولاحظ الابراشى انتعاض الملك ، فتدارك قائلا :

ـ لا تؤاخذنى يا مولاى اذا ضربت مثلا سيئاً لأخفف الأمر عليك . لكن لى أملاً ورجاء ، هو أن يحاط الامير حين يتولى الملك بعد عمر طويل لجلالتكم ، بحاشية عاقلة ومخلصة ومستشارين يسهلون عليه مهمة الحكم .

الملك ساخراً : حاشية عاقلة ومخلصة يا زكى . ان الحاشية لو كانت عاقلة فلن تكون مخلصة . ولو كانت مخلصة فهى ليست عاقلة . وقصارى ما تصل اليه ان تكون منافقة .

طفولة فاروق

كانت طفولة فاروق طفولة انعزالية داخل اسوار القصر . لم يكن يرى والده إلا نادراً . وكان دائماً بصحبة أمه . والمفروض فى الطفل أن يكون له اصحاب من سنه يلعب معهم . ولكن الملك فؤاد حرم ابنه هذه المتعة الضرورية . كان فاروق لا يتكلم إلا مع مربياته الثلاث : الانجليزية والفرنسية والايطالية ومع مدرسين لبعض العلوم جلبهم أبوه له ليعلموه داخل أسوار القصر لقد أبى حتى أن يرسل ابنه الى احدى المدارس الخاصة التى تعلم أبناء الطبقة الراقية حتى لا يختلط بأبناء المصريين . وفى هذا دلالة واضحة على شعور الملك فؤاد نحو شعبه . وأقول إن هذه الدلالة لم تكن فقط فى نفس الملك فؤاد بل تكاد تكون شعوراً عاماَ فى نفوس أمراء الاسرة المالكة جميعاً . ولقد أحب فاروق أمه حباً جماً ، لأنها كانت تمضى أكثر وقتها معه . وكره والده لما رآه من قسوته البالغة وغيرته الهوجاء على الملكة . فلا ينقضى يوم من غير أن يعنفها ويشتمها أمام ابنها . وكان يرى المهانة التى تتعرض لها أمه من مديرة القصر ( الكلفة ) التى كانت لها حظوة بالغة عند الملك فؤاد ، وكانت هذه الكلفة هى الآمرة الناهية فى القصر حتى انها كانت تحطم أوامر الملكة وتأمر خدم القصر بألا يأبهوا لها .

وكانت تتجسس على الملكة وتنقل الى الملك عنها أخباراً كاذبة لتثير غضبه عليها . وقد نقلت اليه مرة أن الملكة كانت واقفة شبه عارية فى شباك غرفتها تبتسم لأحد ضباط الحرس الشبان ، وكان جميل المظهر . فذهب الملك لتوه الى غرفة الملكة وقد لسعته عقارب الغيرة ، ولسوء حظ الملكة وجدها قريبة من النافذة حيث فتح الباب ، فانهال عليها لكماً وركلاً وأصابها بجراح فى وجهها أمام فاروق . ومنذ ذلك اليوم لم يبق من الحرس الملكى ضابط حسن الصورة . وعلمت الملكة أن التى وشت بها هى ( الكلفة ) . وكانت تعلم أن للملك علاقة خاصة معها . وأرادت أن تتحين الفرصة لتفاجىء الملك معها وتكيل له الصاع . وهداها تفكيرها الى أن ترسل فاروق يتلصص على أبيه من ثقب الباب ، ويستمع الى ما يدور بينه وبين الكلفة .

وهكذا كانت طفولة فاروق حرماناً من صحبة الاطفال وابتعاداً عن أبيه ورؤيته لأمه وهى تضرب وتهان ، واستماعه أغلب الوقت الى حديث السيدات اللاتى يسمح لهن بدخول القصر للتحدث الى أمه . ومن هذه العوامل نشأت فى نفس فاروق مركبات نقص لازمته طوال حياته . فكان وهو ملك يدخل بيوت أصدقائه من الطبقة الارستوقراطية متلصصاً بعد ان يأمر البواب بعدم التحرك ، ويمضى وقتاً طوبلا تحت النوافذ يسترق السمع الى أحاديث أصحاب البيت . ثم يخرج من غير أن يدخل . وكان يحلو له أن يفاجىء عشيقاته ومعه بعض رجال حاشيته . وذات ليلة توجه الى عمارة تقطنها سيدة لها به علاقة ، وذهب هو الى مدخل الشقة وترك رجل الحاشية عند باب الخدم ، ودق هو جرس الباب . ولما علمت السيدة أنه فاروق لم تفتح الباب . فأعاد دق الجرس بقوة . وكان عندها صحافى بدأ يشتهر من عمله فى صحيفة كبيرة فهربته من باب الخدم ليجد نفسه وجههاً لوجه مع رجل الحاشية . وعادت وفتحت الباب للملك . وسألها لماذا تمهلت فى فتح الباب . فأخبرته انها كانت نائمة . وعلم فاروق ببقية القصة من رجل الحاشية . وأرسل يأمر أصحاب الصحيفة بفصل ذلك المحرر . ولكنه بقى بعد توسل ورجاء ، ووعد بألا يعود الى مثلها .

الملك وغرابة اطواره

كان قد دار جدل كبير حول السن التى يجب ان يتولى فيها الملك فاروق العرش . اذ أن والده الملك فؤاد مات حين كان سن فاروق السادسة عشرة ميلادية . وكان ولى العهد ورئيس مجلس الوصاية على العرش هو الأمير محمد علي . وقد اقترح على الحكومة ان تكون السن التى يتولى الملك فيها مهمته هى الحادية والعشرين . غير أن فتوى شرعية صدرت ووافقت عليها الحكومة ، جعلت سن تولى العرش هى الثامنة عشرة هجرية أى السابعة عشرة ميلادية تقريباً . وقد أوغر اقتراح الامير محمد علي صدر فاروق . ولعل بعض مستشارى القصر ممن عملوا تحت امرة الأمير محمد علي فى أثناء توليه الوصاية ، ولم يكونوا راضين عن تصرفاته معهم ، قد صبوا مزيداً من البترول على غضب الملك .

وفى الحفلة الخاصة التى أقيمت فى القصر احتفاء بتسليم الملك عرشه ، وحضرها أمراء البيت المالك وأصدقاء الاسرة المالكة ، وقف الامير محمد علي بعد انتهاء العشاء ورفع كأسه طالباً من المدعوين أن يشربوا نخب الملك متمنياً له التوفيق فى أداء مهمة الملك الصعبة الشاقة . فوقف جميع المدعوين بمن فيهم الملكة نازلى يرفعون كؤوسهم ، وبقى الملك فاروق جالساً ينظر الى الأمير محمد علي نظرة سخرية . ولما جلس المدعوون توجه فاروق بنظره الى الأمير محمد علي ، وكان فى جواره وقال بصوت مسموع :

ـ يبدو يا سمو الأمير أن مهمة الملك تبدو صعبة لك لأنى صغير السن ، ولكن هل تكون المهمة أسهل لو أنى أحمل لحية بيضاء طويلة ( وكانت للأمير لحية بيضاء طويلة ) .

وقد بادرت الملكة نازلى التى كانت فى جوار الامير محمد علي الى الاعتذار له عن تصرفات ابنها . وحين كان الملك تحت الوصاية عين مجلس الأوصياء بعضاً من كبار الاساتذة فى القانون والعلوم السياسية والدين لتثقيف الملك . ولكن تصرفات الملك معهم كانت مخيبة للامال . لقد كان الملك يضيق ذرعاً بالدروس ، فما تكاد تمر على الاستاذ عشر دقائق من البدء بإلقاء الدرس حتى يطلب منه الملك التوقف لتناول الشاى والحلوى . وفى يوم , طلب أحد الاسانذة من الساقى ألا يضع له سكراً فى قدحه معتذراً للملك بأنه مريض بداء السكر . وفى اليوم التالى قدم له القدح كالعادة من دون ان يضع الساقى سكراً . وما ان أخذ الاستاذ يتذوق الشاى حتى وجده شديد الحلاوة ولم يستطع المسكين ان يقول شيئاً وشرب القدح وتوجه الى الطبيب .

واستاذا آخر ما ان بدأ الحديث فى شرح المبادىء الدستورية حتى استوقفه الملك وطلب منه ان ينزل معه الى حديقة القصر ، وكانت تنتظر على سلم القصر سيارة سبور انجليزية أشبه بسيارات السباق ذات مقعدين ينحشر فيها الراكبان بصعوبة . وكان الاستاذ المسكين لسوء حظه بديناً ضخم الكرش . وطلب منه الملك الصعود الى السيارة . ولاقى الرجل صعوبة بالغة فى الدخول والجلوس . وقبل ان يستقر فى مقعده انطلق الملك بالسيارة كالصاروخ ، وترنح رأس الاستاذ وطار طربوشه وسقطت نظارته ، وفاروق ينعرج بالسيارة بسرعة تفوق المائة كيلو متر من منعطفات حديقة القصر ومنحنياته ، والاستاذ يميل رأسه ويصطدم كرشه بمقدمة السيارة وتلهث أنفاسه ويصيح قائلا يا ساتر يا رب ، وفاروق يضحك ويقهقه ويزيد من سرعة السيارة . ومرت فترة من العذاب كأنها الدهر بأكمله ، وعادت السيارة وتوقفت عند سلم القصر . وأشار الملك الى الاستاذ بالنزول . ولم يدر المسكين كيف فتح الباب ، لأنه كان فى شبه غيبوبة . وقد جعلت هذه الحوادث أساتذته يعتذرون عن الذهاب الى القصر بحجة المرض . ولم يكن اعتذارهم بغيضاً على قلب فاروق . وفى ذات شتاء توجه الملك فاروق الى مدينة أسوان كعادته كل شتاء . وبعد اسبوع من إقامته أمر رئيس ديوانه أن يطلب من رئيس الوزراء والوزراء التوجه الى أسوان لعقد اجتماع لمجلس الوزراء تحت رئاسة الملك . وكانت حجة الملك أنه يريد عقد المجلس لبحث اضرابات قامت فى بعض المصانع احتجاجاً من العمال على عدم زيادة أجورهم . وتوجه الوزراء فى القطار فرحين ، لأنهم سينعمون بدفء أسوان وشمسها الساطعة . وبعد انعقاد المجلس اقام لهم الملك حفل غداء كانت قائمة الطعام فيه مليئة بألوان الغداء الدسمة التى لا تستطيع معدة الرجال فى حدود الستين من عمرهم تحملها إلا بمشقة . وشكر رئيس الوزراء الملك على كريم حفاوته وبالغ عطفه واستأذنه فى العودة الى القاهرة . ولكنه فوجىء بالملك يقول له لقد أمرت بإعداد طائرة خاصة من طائرات السرب الملكى لتنقلكم الى القاهرة لتصلوا على عجل ، إذ أنى أخشى من استفحال الاضراب . فزاد شكر الوزير على تلك اللفتة الكريمة ، وتوجهوا الى مطار أسوان ، وكان ضيقاً جداً ومدرجه قصير وغير ممهد بالاسفلت ، وتحيط به الجبال مباشرة عند نهاية المدرج . وكانت الطائرة التى تقلهم من طراز داكوتا وهى طائرة بطيئة جداً ، وقائدها يدعى البكباشى عاكف . فلما ركب الجميع طلب منهم قائد الطائرة ان يشدوا الاحزمة حول بطونهم وأنذرهم بأن صعوده الى الجو سيكون شبه عمودى نظراً لقصر المدرج ، وخوفاً من الارتطام بالجبل . وكان قوله هذا نذير شؤم ارتعدت منه فرائصهم ، ودب الرعب فى أوصالهم ، وترددت فى الطائرة تمتمات العياذ بالله ، والطائرة تنطلق الى الجو . واطمأنت نفوسهم حين أصبح طيران الطائرة أفقياً واستردوا انفاسهم الضائعة ، ولكن اطمئنانهم لم يدم طويلا ، اذ فوجئوا بقائد الطائرة من خلال الميكروفون يطلب منهم أن تظل الاحزمة مشدودة الى بطونهم . وحضر اليهم مساعد الطيار ليقول لهم ان الطائرة ستهبط هبوطاً عمودياً منقضة على الأرض من ارتفاع خمسة آلاف قدم الى علو مائتى قدم متجهة نحو الفندق الذى يقيم فيه الملك ، وذلك لتقديم التحية لجلالته . وعاد مساعد الطيار الى مكانه وفجأة انطلقت مقدمة الطائرة فى الهبوط مروع سقطت فيه الحقائب المعلقة على رفوف الطائرة وبعضها على رؤوس الوزراء ، وشعر بعضهم بأنه كأنما يقذف به من قمة بناء شاهق العلو . اما الآخرون فلم يشعروا بشىء لأنه أغمى عليهم .

ثم عادت الطائرة الى الصعود تدريجياً , وانتهت فترة تحية الولاء ، وبقى هولها يدوى فى رؤوسهم الى ان انتقل من انتقل منهم الى رحمة الله او ظل منهم حياً . لقد دبر الملك كل ذلك لأنه كان يستثقل دم بعض الوزراء ، وأراد النكاية بهم على هذه الطريقة السمجة المؤلمة التى كان يحتمل ان تؤدى الى كارثة ، وخاصة لأن الطائرة الداكوتا كانت طائرة بطيئة وثقيلة .

وفى إحدى المآدب التى أقامها الملك لوزرائه وكنت مدعواً ، لاحظت أنا وبقية المدعوين انه حينما كان يقدم اليه الصحن ليغرف منه ـ والتقاليد تقضى أن يكون هو أول من يقدم اليه الطعام ـ كان يتناول كمية لا تكاد تكفى عصفوراً . وولد ذلك فى نفوس المدعوين حرجاً شديداً ، لأنه بدافع اللياقة يجب ان لا يغرفوا فى أطباقهم كمية كبيرة . وخرجنا من المأدبة فى حالة أشبه بالجوع .

واستغربت الأمر لأنه لا يعقل أن تكون هذه هى وجبة فاروق ووزنه يزيد على المائة كيلو . وتحريت بطريقة خاصة ، فعلمت أنه ضاق ذرعاً بانتقاد الناس لبدانته المفرطة فى هذه السن الصغيرة ، عازين ذلك الى فهمه البالغ للطعام ، فأراد أن يثبت انه يأكل قليلا جداً بتلك لطريقة . ولكن الحقيقة المضحكة ، ان الملك فاروق كان يأمر قبل بدء المأدبة بأن يعد له رغيف من الخبز يزن حوالى نصف كيلوجرام . وكان يشطره نصفين ويملأه زبداً وعسلا ثم يلتهمه عن آخره . وبذلك تزول شهيته الى الطعام مؤقتاً .

وكانت للملك فاروق سادية مروعة مع الحيوانات . فكان يجلس فى حديقة القصر ويجلب له عدد من الحمام فى قفص كبير يضعه فى جواره ، تخرج له حمامة فيتناولها من جناحيها بيد وفى يده الاخرى ابرة طويلة ، ثم ينظر الى أحد رجال الحاشية ويقول له : تراهن كم دقيقة ستعيش الحمامة ؟ فيجيب دقيقتين . فيقول له الملك سأقتلها فى دقيقة واحدة . ويغرز الابرة الطويلة فى رأس الحمامة ويلقى بها على الأرض لتموت ، ثم يتناول غيرها ويراهن على مصيرها . وكان يلذ له ان يدوس القطط بسيارته حتى انه كان يصعد رصيف الشارع اذا هربت معرضاً نفسه للاصطدام بحائط.

وهذه السادية فى الحيوانات انتقلت الى سيادة قتل الرجال ، كما سأتعرض له فى كلامى عن الحرس الحديدى .

وانتقلت السادية أيضاً الى النساء . ففى أحد الأيام دعا الى جناحه الخاص وصيفة القصر ولاطفها وأطرى جمالها وهى جالسة فى جواره ، ثم قال لها انه يريد منها ان تغمض عينيها وتركز تفكيرها على شىء . وأصر عليها ألا تفتح عينيها لأنه سيضع شيئاً عليهما لتظلا مغمضتين . وأغمضت المسكينة عينيها وأحست بأن فاروق وضع شريطاً مصمغاً فوق الجفن . فقالت ما هذا يا مولاى ؟ نهرها الملك وأمرها بالسكوت ووضع شريطاً مصمغاً على الجفن الآخر وأخذت الوصيفة ترتعد خوفاً والملك يهدىء من روعها . وبعد عشر دقائق أمرها الملك بفتح عينيها . وحاولت ولم تستطع وأخذت تتوسل اليه وهو يطمئنها ويقول لا تخافى . وفجأة نزع الملك الشريطين وصرخت من شدة الألم . ولما ذهب الى المرآة وجدت أن رموشها قد طارت .

ولكن فاروق على رغم عبثه هذا ، كان فى كثير من الاحوال جم الأدب مع كبار رجال الدولة والدين ، حتى أنه كان يستقبل بعضهم على باب المصعد ويفتح باب المصعد بنفسه ويأخذ بيد زائره الى مكتبه . وكان مع أمه يقبل يدها ولا يجلس إلا اذا جلست . وكانت كثيراً ما تؤنبه بعبارات شديدة يتقبلها بأدب جم .

حياة فاروق الخاصة

لم يك فاروق يأبه لما يدور من جدل حول السلوك الخاص بالرجال الذين يتولون مناصب عامة ، وهل حياتهم الخاصة ملك لهم لا شأن للناس ولا للمجتمع بها ، ام ان من تناط به أعباء عامة لا يمتلك حياته الخاصة ، لأنها ملك للمجتمع ، وعليه ان يسلك سلوكاً بعيداً عن الشائبات . وكان فاروق يرى من حقه ان يفعل ما يرضى شهوته علناً او سراً . وقد زين له ذلك وأفتى به المرحوم أحمد حسنين باشا رئيس ديوانه ، وأباح له أن يذهب الى نادى السيارات ليلعب الميسر ، والى الاوبرج ليشاهد الراقصات ويجلس معهن . وكان هدف أحمد حسنين من ذلك أن ينصرف الملك فاروق عن النظر فى شؤون الدولة لتكون فى يده هو . هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ، فهو يعلم أن فتواه تلك توافق هوى فى نفس الملك فاروق . وكان أحمد حسنين هو رائده فى لندن حين كان ولى العهد . ورائده الآخر هو اللواء عزيز المصرى . اما هذا الأخير فكان عسكرياً صارماً لا يسمح لفاروق بالعبث ، ولكن أحمد حسنين وفاروق كانا ينتهزان نوم عزيز المصري المبكر ليفرا من نافذة الفيلا ، وليتوجها الى المراقص ودور اللهو ويعودان مع الفجر قبل ان يصحو عزيز المصري .

لقد انطلق فاروق فى لهوه ، وكان يشاهد فى أغلب الاحوال بصحبة نساء . ودارت شائعات عنه بأن فراشه لا يخلو ليلة من غانية ، سواء أكانت راقصة أو غير راقصة . وغالت الشائعات حتى فاقت الخيال . فهل كان فاروق ذئباً فتاكاً ؟ ان فاروق حين تزوج , كان صغير السن وأحب زوجته وأحبته . وظل زوجاً يرى حقوق الزوجية زمناً ، ثم انحرف لأن حاشية السوء التى كانت تلازمه رأت فيه بعض الميل الى الانطلاق من قيود الزوجية ، فأقامت له علاقات تحببهم اليه ، وصار فاروق يعود مع الفجر الى قصره وزوجته الملكة فى انتظاره . ولكن لم يبالى حتى بالذهاب الى غرفتها والاعتذار اليها ، او ليقول لها صباح الخير . وتمادى حتى انها خرجت من حجرتها ذات ليلة لترى امرأة تعرفها تخرج من حجرته . وذات يوم كانت تلعب التنس فى ملعب حديقة القصر ، فدخل فاروق الملعب ومعه مطلقة أحد الأمراء ، وجلس على كرسى وأجلس المطلقة على ركبته . وكانت هذه القشة التى قصمت ظهر البعير والنقطة التى فاضت منها الكأس . فطلبت الطلاق لأنها رأت أن التاج فوق رأسها لا قيمة له ، اذا كان الرأس يعانى كل يوم صداع السهر فى انتظار زوج يعود مع الفجر . وان تاج الملك على رأسها قد تمرغ فى وحل القصر وغطى الطين جواهره .

وكانت حاشية السوء بدأت تشير من طرف خفى وعبارات مبهمة الى ان الزوجة بدورها أخذت لا تبالى وأخذوا يلصقون بها الاتهامات . وزاد من تأكيداتها انها كانت عنيدة الطبع لا يهمها ان تدافع عن نفسها . كل ذلك أثر فى فاروق ، فانطلق بعد التخفى الى العلانية . وانى ليساورنى الشك فى ان الملك فاروق لم يكن يحب زوجه . ولكن كيد الحاشية الخفى ، وخاصة احدى وصيفات القصر التى كان لها دور كبير فى حياة الملك السياسية ، أوغر صدر فاروق فمضى يتمادى فى علاقته النسائية ليكيد الملكة ويغيظها . وهى حال نشاهدها فى الشباب المترفين الجهلة الذين يتلمسون بطولة تعوضهم عن الجهل والرجولة الناقصة التى افسدها الترف ، الى رجولة غزو المرأة بالمال او بالجاه كما هو الحال مع فاروق .

والمجد عند الغانيات رغيبة : يهوى كما يهوى الجمال ويعشق .

لم أكد اود التعرض لهذا الموضوع الدقيق لولا ان الاتهام الاول فى اتهام قائمة فاروق ، والذى أدى الى سقوطه عن العرش هو انه زير نساء . والرجل يسامح اذا كان قاتلا او لصاً او تاجر مخدرات ، لكنه لا يسامح اذا كان زير نساء . وقد فاضت الصحافة بعد عزل فاروق بمقالات دامت أشهراً بل سنين عن فضائح فاروق الجنسية . وبعد طرد أفراد الاسرة المالكة أقيم مزاد علنى عرضت فيه جواهر ومنقولات الاسرة المالكة . وهذا شىء طبيعى . ولكن من غير الطبيعى ان تشاهد فى احدى الصحف صورة لرجل المزاد يعرض اللباس الذى يغطى العورة لاحدى الاميرات . وذكرت الصحيفة اسم الاميرة بالذات . وتناول كاتب أسباب غزو مصر سنة 1956 ، وعللها بأن رئيس وزارة احدى دول الغزو عجوز تزوج من سيدة شابة لم يستطع ان يقوم بواجب الزوج معها ، فأراد ان يعوضها عن ذلك ببطولة الغزو . وهو تفسير عجيب لو ان فرويد كان حياً وقرأه لمات حسداً من عبقرية الكاتب وتحليلة النفسى .

وظهرت صورة لمستشار فى محكمة الجنايات يفرد منديلا لأحد المتهمين ملطخاً بأحمر الشفاه ، ويعرضه من منصة القضاء . ولم يكن المنديل من أدلة الجريمة ، ولكن المستشار يريد التشهير بالمتهم لأنه زير نساء .

وبقيت بعد كل ذلك حقيقة مرة بالنسبة الى فاروق . وهى أنه جلب على نفسه كل هذا البلاء من غير ان يكون زير النساء بمعنى الكلمة الحقيقى . لأن فاروق لم يكن كفياً أبداً وقادراً على إرضاء تلك المجموعة الكبيرة من النساء اللاتى كان يصاحبهن . فالبدانة المفاجئة التى طرأت عليه جلبت مضاعفات شديدة . وقد أجريت له فى مستشفى المواساة عمليتان جراحيتان . قام بإجراء العملية الدكتور عبد الرازق النقيب بمساعدة جراح ألمانى شهير ، وذلك لاصلاح عيبه الجنسى .

ولشد ما يتألم الرجل حتى وهو فى مرحلة الشيخوخة ان يكون عاجزاً . وفاروق كان شاباً . فكان ألمه شديداً . وهنا كانت محاولاته اليائسة المكشوفة لتغطية ذلك العجز باصطحابه عدداً كبيراً من النساء .

طلاق فاروق

حين أراد فاروق طلاق زوجه استدعى شيخ الأزهر ودار بينهما الحوار التالى :

الملك : أود أن أخبرك أنى أريد طلاق الملكة .

شيخ الأزهر : أرجو ألا يكون قرارك هذا عارض غضب مفاجىء قد يزول بعد التروى .

الملك : لا . . لا . . إن أسباباً خطيرة تدفعنى الى هذا الطلاق . وقد انتهى تفكيرى فى ألا مفر منه .

شيخ الأزهر : إن الطلاق حق لكل شخص وحلال حسب الشريعة ، ولو أنه أبغض الحلال .

الملك : قلت لك إن دوافع خطيرة دفعتنى الى اتخاذ القرار .

شيخ الأزهر : ما دمت جلالتك مصراً وقد فكرت طويلا كما قلت ، فلا الدين ولا أحد يمنعك من الطلاق .

الملك : لكن شيئاً مهماً أريد تحقيقه قبل الطلاق . وأرجو أن تساعدنى عليه .

شيخ الأزهر : وما هو هذا الشىء يا صاحب الجلالة .

الملك : أريد أن تصدر فتوى بأن لا يجوز لها ان تتزوج رجلا آخر .

شيخ الأزهر : بعد تفكير ! كيف أصدر فتوى تخالف الشريعة . إن المرأة بعد طلاقها وانقضاء العدة تستطيع ان تتزوج من تشاء . وهذا نص الشريعة .؟

الملك : ولكنها ليست امرأة عادية ! إنها ملكة .

شيخ الأزهر : الدين لا يفرق بين ملكة وامرأة من عامة الناس .

الملك : ولكنى مصر على ان تصدر الفتوى . لا بد من معاقبة الملكة .

شيخ الأزهر : لا يمكننى يا صاحب الجلالة أن أصدر هذه الفتوى .

الملك : إذن سأبحث عن رجل دين آخر يصدرها .

شيخ الأزهر : اعتبرنى من الآن مستقيلا حتى أمكنك من أن تجد شيخاً آخر يحل محلى ليعطيك تلك الفتوى .

وخرج شيخ الأزهر . وحاول الملك أن يجد أحداً من رجال الدين يفتى له بنا أراد , ولكن من عرض عليهم الأمر امتنعوا عن موافقته .

وبقى شيخ الأزهر فى منصبه . وطلقت الملكة . بعد فترة ، دخل شيخ الأزهر مستشفى المواساة للعلاج من مرض القلب . وأخذ يكتب مذكراته فى غرفته فى المستشفى . وكان فيها الكثير عن الملك فاروق والسياسة المصرية . وكان مدير المستشفى يعتبر من حاشية فاروق . ثم مات شيخ الأزهر فجأة بعد أن أنهى آخر سطر من مذكراته .

وكان ورثته يعلمون بنبأ المذكرات . وهالهم أنها اختفت من أوراقه ولم يجدوا لها أثراً . وسألوا مدير المستشفى وأطباءه . فأنكروا علمهم بأى شىء عنها . ولكن الورثة علموا بأن فاروق حين أبلغ بالوفاة أسرع الى المستشفى ودخل غرفة شيخ الأزهر بحجة الصلاة والترحم على روحه . وأغلق الباب عليه وحده مع أحد مرافقيه ، وخرجا ثم اختفت المذكرات .

وكان شيخ الأزهر قد خرج مرة للنزهة وعاد فى المساء الى المستشفى . فوجد فناء المستشفى مملوءاً بالممرضات الألمان . وكن كلهن شقراوات يرتدين جميعاً ملابس السهرة بدلا من ثوب التمريض الازرق اللون . وكان معهن مدير المستشفى الذى تقدم لتحيته . فسأله شيخ الأزهر عن سبب لبسهن ملابس السهرة . فرد مدير المستشفى باستحياء بأنهن مدعوات الى القصر الملكى لحضور حفلة ساهرة أقامها الملك . حزت هذه الحادثة كثيراً فى قلب شيخ الأزهر , فكتب استقالة أرسلها الى القصر من المستشفى وظلت معلقة الى أن مات .

حاشية الملك

ما السبب الذى جعل فاروق يختار حاشيته التى تلازمه فى رحلاته وسهراته من الأجانب دون المصريين ، وكذلك أصدقاءه الذين يذهب معهم الى منازلهم للعب الورق أو السمر ؟

فى رأيى أن السبب يعود الى البيئة التى نما فيها فاروق . لأن موظفى القصر أيام والده الملك فؤاد كانوا من الأجانب الايطاليين على الاخص . ولم يكن الملك فؤاد موفقاً مع المصريين ، لأن الانجليز جاؤوا به لتولى العرش سنة 1919 ، وهى سنة الثورة ضد الانجليز . ومع انه قبل العرش بعد ان رفض جميع الامراء قبولة ، خشية أن ينفذ الانجليز تهديدهم بإحضار الاغاخان لتولى عرش مصر ، فإن المصريين كانوا يهتفون بسقوطه لأنه عميل انجليزى . ورغم محاولاته الكثيرة للتفاهم مع زعماء ثورة مصر وعلى رأسهم سعد زغلول باشا الذى كان رجلا قوى الشكيمة يأبى الخضوع لارادة الملك ، فإنه لم ينجح فى اكتساب ثقة المصريين . وكان يضيق ذرعاً بالحية الدستورية ويريد إيقاف الدستور ، حتى ان نائباً من حزب سعد زغلول وقف ليقول :

اذا حاول أكبر رأس ان يحطم الدستور فإننا سنحط رأسه . لقد كان فاروق يسمع فى طفولته أباه وهو يصيح بأن المصريين خنازير ولا يصلح معهم إلا الكرباج ، فترسبت فى نفسه هذه الفكرة عن المصريين . وزاد الطين بلة ، أن والده لم يلحقه بمدرسة مصرية ، ولم يحاول أن يدخل القصر أطفالا فى سن ولى عهده يخالطونه ويلعبون معه . وحين بلغ الرابعة عشرة أرسله الى انجلترا ، لذلك كان فاروق بعيداً عن البيئة المصرية . وحين عاد وجد القصر مملوءاً بالأجانب وأغلبهم من الايطاليين . وكان الملك فاروق مغرماً بالسيارات وقيادتها . وكاراج القصر كان يدار بميكانيكيين اجانب . فاختلط بهم فاروق وكان يطيب له ما يراه فيهم من مرح وحب للفكاهة ، بعكس حاشية القصر من المصريين الذين كان يتملكهم الاحترام التقليدى الموروث عن الأتراك ، ويفرض عليهم كآبة التزمت وطابع الانحناء المبالغ فيه عند التحية . وفاروق كان ذا روح مرحة لعله ورثها عن والدته . وكان يضيق بالتزمت والانحناء ويحب النكتة ويضحك لها من قلبه . وكان الاجانب فى القصر يحفظون قدراً كبيراً من النكات ، وكذلك المصريون ، لكنهم لم يكونوا يجرؤون على إلقائها جرأة الاجانب . واكثر النكات التى كان يحبها فاروق كانت من النوع الذى يبعث الحمرة فى وجوه السيدات . ولم يكن يتحرز من إلقاء هذه النكات فى حضورهن وخاصة فى نادى السيارات . وكان يحكى بنفسه لأصدقائه النكات التى يطلقها الشعب عليه وعلى تصرفاته ويسترسل فى الضحك .

حادث 4 فبراير (شباط) 1942.

تنبأ البريطانيون منذ سنة 1935 ، بأن مصر بوقعها الاستراتيجى ستكون من الميادين الرئيسية فى الحرب بينهم وبين الالمان . فعرضوا على الملك فؤاد اعادة الدستور الذى ألغاه تمهيداً لتولى حزب الاغلبية برئاسة مصطفى النحاس باشا الحكم . وكان هدفهم من هذا وجود حكومة تستند الى غالبية الشعب وتبرم معهم معاهدة تحالف وصداقة تضمن لهم فى الحرب القادمة التى يتوقعونها تسهيلات حربية وسلامة مواصلاتهم . ولما عاد الوفد الى الحكم فى سنة 1936 عقد مع انجلترا معاهدة تحالف وتصادق ، ثم تولى الملك فاروق العرش عمل النحاس باشا معه فترة قصيرة ، أصدر الملك بعدها مرسوماً بإقالة النحاس وهو فى الثامنة عشرة من عمره .

ولما قامت الحرب بين انجلترا وحليفاتها من جهة والمانيا وايطاليا من جهة اخرى ، كانت ايطاليا تحتل ليبيا المجاورة لمصر ، وتهدد مواصلات انجلترا فى البحر الابيض المتوسط ،وسعى علي ماهر رئيس الديوان الملكى ، ليعينه الملك رئيساً للوزراء . ولكن الملك عين صهره حسين سري باشا وكان مهندساً رئيساً للوزارة . وأخذت القوات الالمانية تجتاح اوروبا ، واحتلت بلجيكا وهولاندا وفرنسا ، وتحطمت القوات الانجليزية فى دنكرك ، واستولت ايطاليا على اريتريا والصومال ، ودخلت اليابان الحرب واستولت على ماليزيا وبورما وسنغافوره . ولم يبق مجال للشك فى خاطر مستشار الملك علي ماهر فى ان الحرب وشيكة الانتهاء بانتصار محور المانيا ـ ايطاليا على انجلترا وحافائها . وكانت ميول الملك فاروق واضحة ضد الحلفاء ، وكان يردد فى النوادى التى يرتادها ملاحظات كلها سخرية من بريطانيا وحلفائها . وزاد الأمر سوءاً أن فى القصر حاشية كبيرة من الايطاليين قيل إنهم يعملون جواسيس للمحور ، ويرسلون رسائل لاسلكية بالشفيرة الى ايطاليا عن موقع قوات الحلفاء تحركاتها . وقد طلبت الحكومة البريطانية من الملك فاروق إبعاد الايطاليين عن القصر ، لكنه رفض وازدادت بذلك العلاقة معهم سوءاً . ولكن كانت هناك أيضاً وجهة نظر أخرى من رجال بارزين ذوى نفوذ لهم كلمة مسموعة لدى القصر . هؤلاء الرجال كانوا يرون أن الوقت قد حان لمطالبة الحكومة البريطانية بأن تعلن رسمياً الاعتراف باستقلال مصر على أثر انتهاء الحرب ، وجلاء القوات البريطانية عنها . وقام شيخ الأزهر فى ذلك الوقت بأول حملة إذ أعلن من منبر الأزهر عقب صلاة الجمعة أن مصر لا تستطيع الدخول فى حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل . وطلب أن تعلن القاهرة مدينة مفتوحة لكثرة الاماكن المقدسة فيها ، فلا تغير عليها طائرات المحور . ولقد استجاب المحور فوراً لذلك النداء ، وأعلن راديو برلين وبارى موافقة الحكومتين الالمانية والايطالية على جعل القاهرة مدينة مفتوحة . وفى اعتقادى ، انه وان كان المحور تلقى كسباً سياسياً من هذا الاعلان ، فإنها سذاجة تامة من الناحية العسكرية . فقد كانت القاهرة المركز الرئيسى لتلقى الامدادات العسكرية التى تصل الى ميناء السويس تفادياً من دخول قوافل التموين البحر الابيض المتوسط . وكانت محطة القاهرة تتلقى ليل نهار القطارات الناقلة للدبابات والمدافع والذخائر والمؤن ، وترسلها الى جهة القتال فى الصحراء الغربية . ولو ان محطة سكة حديد القاهرة ضربت وعطلت للاقى البريطانيون عناءشديداً من تمويل جيش الصحراء الغربية . ورغم كل ذلك ذهب السفير البريطانى مايلر لامبسون الى رئيس الوزراء مقابلة شيخ الازهر عاتبه على الخطبة التى قيلت من دون عرضها على الحكومة المصرية ، ودار بينهما الحوار التالى :

حسن سري : يا سيدنا الشيخ ، هل تعلم ان السفير البريطانى حضر اليوم الى محتجاً على خطابك فى الجامع الأزهر ؟

شيخ الأزهر : لا أعلم ولكن لماذا يحتج ؟

رئيس الوزراء : لأنك قلت أن مصر يجب أن لا تدخل فى حرب لا ناقة لها فها ولا جمل .

شيخ الأزهر : وماذا كان ردك عليه ؟

رئيس الوزراء : قلت له انى سأستوضح عن هذا الخطاب .

شيخ الأزهر : اسمع يا سرى باشا . انك مارست السياسة منذ عهد قريب جداً ولم تعركها وتسبر أغوارها . ولكن بدل أن تقول للسفير البريطانى انك ستستوضحنى ، أما كان الأولى بك أن تقول له باسم الحكومة المصرية أن مصر لا مصلحة لها فى اعلان الحرب على المحور , من غير أن يقابل ذلك تعهداً صريحاً بالاستقلال عن بريطانيا ووعداً بجلاء القوات البريطانية .

رئيس الوزراء : يا سيدنا الشيخ ، انت تعلم أن الحلفاء فى مأزق ، وهم فى حالة تقرب من الهزيمة . فهل من اللياقة والانسانية ان نحرجهم وهم فى هذه الحالة السيئة ؟

شيخ الأزهر : قلت لك انك لم تعرك السياسة .

رئيس الورزاء : لا أسمح بهذا الكلام .

شيخ الأزهر : تسمح أو لا تسمح ، سيان . يجب أن أقول لك إن السياسى الذى فى يده مصير امة يجب أن لا يكون عاطفياً يرعى شعور المحتل الذى يجثم على صدره ، وانما يجب أن يكون واقعياً ينتهز الفرصة الملائمة ليحصل على ما يريد لأمته ، بل ليحصل على أقصى ما يمكن . إن البريطانيين حين كانوا أقوياء طالبناهم مراراً باستقلال مصر باسم العدالة وحرية الشعوب ، فلم يأبهوا لنا ولم يعطونا شيئاً . وهذه الآن هى الفرصة الوحيدة التى يجب الضرب فيها على الحديد الساخن للحصول على استقلالنا . اذهب اليوم الى السفير البريطانى واطلب منه تعهداً باستقلال مصر ، فإذا أعطاك إياه فقل لى ، وستجدنى ذاهباً الى الجامع الأزهر واقفاً على منبره لأقول للمصلين وشعب مصر أن لنا فى هذه الحرب ألف ناقة وألف جمل ، وادخلوها على بركة الله .

رئيس الوزراء : لا استطيع أن اطلب منه ذلك .

شيخ الأزهر : وماذا تريد منى إذن ؟

رئيس الورزاء : ان تنفى انك تريد إحراج الانجليز .

شيخ الأزهر ، وهو يقوم من مقعده ويتكىء على عصاه : لن أفعل ذلك أبداً . واذا اردت ان تقيلنى من وظيفتى فافعل ، لكن لى نصيحة لك وهى أن تترك رئاسة الحكومة لشخص يستطيع أن يطلب التعهد من بريطانيا بإعطاء مصر استقلالها .

واستقال حسن سري ليخلفه علي ماهر الذى عين وزيراً للحربية صالح حرب باشا . فتدفق الأخير فى اظهار عداوته لبريطانيا وقام بتصرفات أثارت ثائرتهم . وتربص السفير البريطانى وتحين الفرصة للقضاء على حكومة علي ماهر ، وطلب موافقه حكومته . وجاءت الموافقة فطلب من الملك رسمياً إقالة علي ماهر وتعيين النحاس باشا . ورفض الملك فاروق الطلب .

حتى جاء مساء 4 فبراير ( شباط ) 1942 ، فاحتشدت فرقة من دبابات الجيش البريطانى وأحاطت بقصر الملك فاروق ، واقتحمت دبابة أحد أبواب القصر ودخل عدد منها فناءه من دون أية مقاومة . ودخل السفير البريطانى مصحوباً بالمستر ليتلتون وزير الدولة ، والجنرال ستون قائد القوات البريطانية ، مكتب الملك ضارباً غرفة المكتب بقدميه .

وكان فاروق واقفاً فى الحجرة يشاهد تحركات الدبابات ، والتفت نحو الباب الذى فتحته أقدام السفير ليجد لامبسون يتقدم نحوه قائلا : كلفتنى الحكومة البريطانية أن أطلب منك التخلى عن العرش فوراً ، وأن تجمع حقائبك للسفر .

فاروق : الى أين ؟

السفير : الى جنوب افريقيا .

فوجىء فاروق وهو فى سن الثالثة والعشرين بما حدث ، بل صعق لهوا المفاجأة وانعقد لسانه ، فلم يجد شيئاً يقوله . واخيراً قال : إنى يا سير لامبسون مستعد لاقالة علي ماهر ، وسأجمع الزعماء المصريين لاختيار رئيس جديد للوزراء .

لامبسون : ليست المسألة الآن مسألة تعيين رئيس للوزراء ، انما هى مسألة تخليك عن العرش .

عاد الملك فاروق الى الصمت ، وأخذ ينظر الى رئيس ديوانه أحمد حسنين متوسلا اليه ان يعينه ، فتوجه أحمد حسنين نحوه وهمس فى اذنه بشىء ثم ابتعد عنه .

وبعد دقيقة قال الملك فاروق : أرجو يا سير لامبسون التنازل عن طلب تخلى عن العرش ، وأعطنى فرصة أخرى وسأجيب جميع طلباتك .

لامبسون : لا لن أعطيك فرصة أخرى . يجب أن توقع الآن ورقة التنازل عن العرش .

وظل فاروق واجماً . ومرت عليه لحظة رهيبة لم يلاحظ فيها ان المستر ليتلتون تقدم نحو السفير وأخذ بيده الى ركن من الحجرة وتبادلا الكلام همساً . وعرف أن ليتلتون طلب اعطاء فاروق فرصة أخرى بعد أن يجيب طلبات السفير . فأخبره لامبسون بأنه يرى عرض الرأى على رئيس الوزراء البريطانى المستر تشرشل . واتفقا على ارسال برقية . وجاءت موافقة تشرشل على رأى ليتلتون . ونجا الملك فاروق من التنازل عن العرش ، وعين النحاس باشا رئيساً للوزراء . وقامت تظاهرات تهتف بحياة النحاس وحياة لامبسون ، بل حمل لامبسون على الاكتاف حين توجه الى مجلس الوزراء ليهنىء النحاس .

ولدت حادثة 4 فبراير ( شباط ) فى نفس الملك فاروق إحساساً بالغ الأثر . وتركت فى قلبه جرحاً عميقاً وكراهية مثلثة الأطراف ، كراهية نحو الانجليز ، وكراهية نحو الشعب المصرى الذى لم يهب لمساعدته بل هتف بحياة السفير البريطانى وحمله على الاكتاف ، وكراهية نحو مصطفى النحاس . وقرر فاروق أن ينتقم وأن يكون انتقامه كانتقام أسلافه من الأسرة العلوية بالدم وليس غير الدم . ووضع قائمة الدم وعلى رأسها اسمان : مصطفى النحاس وأمين عثمان . ومصطفى النحاس أمره معروف . ولكن ما أمر أمين عثمان ؟ إن أمين عثمان موظف كبير فى وزارة المالية ، واختاره النحاس وكيلا للوزارة لصلته الوثيقة بالسفارة البريطانية ، باعتبار أنه خريج كلية فكتوريا فى الإسكندرية ، وكان صلة الوصل بين الوفد والسفارة البريطانية حتى عينه النحاس وزيراً للمالية . وهو قام بدور كبير فى إعادة النحاس الى الحكم وإقالة علي ماهر . وبذلك وضعه الملك فاروق فى قائمة الدم .

رحلة صيد

توجه الملك فاروق الى رحلة صيد للبط فى بحيرة فاروق بالفيوم بعد وقت قصير من حادث 4 فبراير ( شباط ) تصحبه حاشية من رجال القصر وأعضاء من نادى الصيد تميزوا بإجادة الرماية . وأسقط الملك فاروق عدداً كبيراً من البط ثم توجه الى استراحته الخاصة لتناول الغداء ، وكان كل صياد يحمل معه صيده . وكان أكبر صيد هو ما صاده الملك . فتقدم اليه أحد الحاشية وهنأه على مهارته . شكره الملك وتنهد قائلا وهو يشير الى البط الملقى على الارض :

وددت لو كانت هذه البط رجالا .

ساد الحاضرون صمت قطعه الملك ضاحكاً :

ـ انظروا الى هذه البطة الكبيرة . وأشار اليها باصبعه . أتدرون من وددت ان تكون ؟

سكتوا جميعاً ولم يردوا ؟

الملك مستمراً فى الضحك : وددت لو كانت مصطفى النحاس . ثم أشار الى بطة أخرى ، وقال : هل يحدس أحدكم من أريده بديلا عنها ؟

وهنا صاح أحد الحاضرين قائلا أظن أنى أعرف من هو ؟

الملك : سأعطيك ريالا اذا صدق حدسك .

الرجل : انه ولى العهد الامير محمد على .

لملك : خسرت الرهان . إنه أمين عثمان . نعم ذلك الخائن أمين عثمان .

عاد الملك من رحلة الصيد ومعه أتباعه يحملون صيدهم .

طبيب الملك وزوجته

كان أحد رفاق الصيد طبيباً انتدب لتمريض الملك عقب إصابته فى حادث سيارة فى مدينة القصاصين , اذ اصطدمت السيارة التى كان يقودها فى أثناء عودته الى القاهرة فى مدينة الإسماعيلية ، بسيارة لورى ( شاحنة ) تابعة للجيش الانجليزى ، فتحطمت سيارته التى كان يقودها بنفسه وأصيب بكسر فى ضلوع الحوض ونقل الى أحد مستشفيات الجيش البريطانى فى حالة خطيرة جداً . لكنه نجا من الموت بأعجوبة لشبابه وقوة احتماله . وانتدب هذا الطبيب وكان اسمه يوسف ، ويعمل فى سلاح البحرية ، لأنه كان قوياً مفتول العضل ، والملك كان فى حاجة الى من يحمله من سريره ليضعه على كرسى ممدود ثم يعيده الى السرير . وأدى الطبيب يوسف هذه المهمة الشاقة ( لان الملك كان بديناً بعض الشىء ) ببراعة وسهولة أراحت الملك . فأمر بأن يلحق بحاشيته . وكانت زوجة يوسف واسمها نهى سيدة صغيرة شقراء ذات عينين سوداوين كعيون نساء المغول وتتحدر من أصل شركسى . ونساء الشركس يتميزن بالجمال . وكان منزلها سكناً متواضعاً فى غرفه وأثاثه .

دخل يوسف على زوجته حاملا صيده وألقى بحملة عند مدخل الباب ثم قبل نهى التى خفت اليه .

نظرت نهى الى الطيور الكثيرة ، وقالت : ما حسبتك ماهراً الى هذا الحد . كيف استطعت اصطياد كل هذا البط ؟ يوسف : لم أصطده كله ، لقد أعطانى الملك بعض ما اصطاده قائلا إنه هدية لزوجتك . احمر وجه نهى ، وقالت : وماذا سنفعل بكل هذه الطيور ؟

يوسف : نقيم غداء وليمة ندعو اليها أصدقاءنا . وذهب يوسف الى غرفة نومه وخلع ملابسه واستحم ثم عاد الى الصالون وتناول غليونه وأشعله وطلب من زوجته أن تفرغ له قدحاً من الويسكى أخذ يرشفه فى تراخ ثم ما لبث أن ضحك .

نهى : ما الذى يضحك يا يوسف ؟

يوسف : أشياء حدثت فى رحلة الصيد وكلام قاله الملك . وقص عليها تسمية الملك لبطة باسم مصطفى النحاس وأخرى باسم أمين عثمان .

لم تضحك نهى بل استغرقت فى تفكير عميق قطعه يوسف بقوله :

ظننت أن هذه القصة سوف تضحكك ولكن أراك عابسة .

نهى : هل استخلصت مما قاله الملك شيئاً غير السخرية ؟

يوسف : لم استخلص شيئاً غير أنه يحب العبث والفكاهة .

نهى : لا . إن ما قاله هو ترديد للألم والمهانة التى أصابته من مصطفى النحاس وأمين عثمان ، ورغبة خفية فى نفسه بالانتقام منهما .

يوسف : أظن أنك تبالغين .

لم ترد عليه نهى .

وليمة للاصدقاء

دعا يوسف بعض أصدقائه الى مأدبة طبقها الرئيسى بط الصيد ، وكانوا ستة : أربعة منهم من صغار ضباط الجيش والخامس ضابط مطافىء والسادس من صغار الموظفين . وكانت أعمارهم تتراوح بين الخامسة والعشرين والثلاثين . ولما اكتمل شملهم جلسوا فى حجرة الصالون يحتسون الويسكى ويدخنون حتى امتلأت الحجرة بسحب من الدخان اضطرت نهى الى فتح النوافذ . ولم تكن نهى تضيق بالدخان أنها كانت شرهة الى التدخين ، لكنها خافت أن يؤثر الدخان على الستائر الجديدة البيضاء المشغولة بالدانتيلا . وقد اشترت هذه الستائر بمشقة ، لأن مرتب زوجها كان ضئيلا .

أخذت نهى تتطلع بعينيها السوداوين الى وجوه المدعوين . واسترعى انتباهها أحد الضباط ، وكان وسيماً طويلا جرىء النظرة ، شاربه مقصوص بعناية ، يرتشف الويسكى بشراهة ثم يتوجه إثر فراغ الكأس الى البار الصغير ليملأه مرة اخرى . انه يدخل منزلها لاول مرة على رغم أنها سمعت عنه من ضابط آخر صديق لزوجها . ولكن مصطفى وهو اسم الضابط ، لم يكن يشعر بأية كلفة ، وكأنه صديق قديم . ورأته يحدق فيها ويطيل التحديق ويجلس على " الفوتوى " مسترخياً وماداً ساقيه ويضحك لأية نكتة يسمعها او يقولها بصوت عال . لم تكن نهى متعودة أن تستقبل فى منزلها هذا النوع الغوغائى الذى يتكلم بلهجة الطبقات الدنيا . إنها وصيفة فى القصر لا تسمح بين الجدران إلا الهمس وعابرى الأروقة يمشون على أطراف أقدامهم . وهى اذا خوطبت فبالتبجيل التركى : يا هانم ويا أفندم .

وبعد انتهاء العشاء وشرب القهوة فى ساعة متأخرة من الليل ، قام المدعوون وسلموا على ربة البيت باحترام ، الا الضابط مصطفى الذى شد على يدها بقوة وكأنه يصافح رجلا قائلا : أشكرك على المأدبة الحافلة يا ست نهى . وخرجوا وهى تسمع خلف الباب صوت مصطفى وهو يصيح ضاحكاً فى انتظار المصعد . وصعد الدم الى رأسها من الغضب ، خشية مما يقولة الجيران عن عربدة ضيوفها فى ساعة متأخرة من الليل .

ودخلت مع زوجها غرفة النوم متجهمة ، فسألها ما بها . صاحت فى وجهه : حتى أصدقاؤك لا تعرف كيف تحسن اختيارهم .

يوسف : هل تعنين مصطفى ؟

نهى : نعم ! كيف تدخل منزلنا عربيداً بمثل ذلك الخلق ؟

يوسف : إنه ليس صديقى ولكن اصطحبه صديقى فهمى .

نهى : غريب . إن فهمى على دماثة أخلاقه يصاحب شخصاً مثله .

يوسف : ليس ضرورياً أن تكون مشارب الأصحاب متفقة .

مقابلة بين الملك والضيف يوسف

ذهب يوسف الى مكتبه فى القصر فى اليوم الثانى ، وكان فى انتظاره بعض ذوى الحاجات يرجون وساطة لقضاء مصالحهم . إنه قبل حادث القصاصين كان طبيباً مغموراً التحق بالبحرية لأنه فتح عيادة فى القاهرة لم يكن يرتادها الا الفقراء ممن يرجونه خفض أتعابه الى الربع . وكان طيب القلب لا يساوم بل كان يدفع من جيبه أحياناً ثمن الدواء .

وقام يوسف فعلاً باتصالات تلفونية للتوسط لزواره . ونظراً لما يعرفه المسؤولون عن حظوته لدى الملك كان رجاؤه منهم دائماً محل اعتبار كبير .

مرت ساعه ودق جرس تليفونه . انه مكتب الملك يطلبه للتوجه لمقابلته . فاستأذن زواره وذهب الى مكتب الملك ، حيث أدخل عليه فوراً . وتلقاه بابتسامة عريضة ، لكنه تركه واقفاً أمامه .

وقال : ها يا يوسف . كيف حال نهى ؟

يوسف : بخير يا مولانا .

الملك : وماذا فعلتم بالبط ؟

يوسف : أقمنا وليمة لبعض الأصدقاء .

الملك : هل أستطيع أن أعرف من هم ؟

يوسف : إنهم أربعة ضباط فى الجيش وضابط مطافىء وموظف .

الملك : أربعة ضباط . هل هم من رتب كبيرة أو صغيرة ؟

يوسف : اثنان برتبة يوزباشى ، واثنان برتبة ملازم اول ، وضابط المطافىء برتبة ملازم .

الملك : هل تعرفهم منذ زمن ؟

يوسف : ثلاثة من أيام الدراسة الثانوية . أما الرابع فلم أعرفه ألا فى الأمس .

الملك : وكيف كانت الوليمة ؟

يوسف : لقد انتهت يا مولاى بغضب نهى منى .

وقص عليه ما حدث من عربدة مصطفى . أغرق الملك فى الضحك . وقال :

يا يوسف أنا يعجبنى هذا النوع من الناس . إن مصطفى هذا شخص خفيف الظل وأنا أكره الثقلاء . أدعه الى منزلك ، وقل لنهى هذه رغبتى . م سكت قليلا وقال :

على فكرة ، وطد علاقتك بهؤلاء الاصدقاء وأعطنى بياناً كاملا بأسمائهم ورتبهم فى الجيش والحكومة ، ثم تمتم بعبارة خافية : لعلى أكون يوماً ما بحاجة اليهم .

طعام وحشيش

أقام يوسف مأدبة الطعام للاصدقاء أنفسهم الستة : مصطفى وخالد وفهمى وحسن وابراهيم وتوفيق . وانتهى تناول الطعام وجلسوا فى الصالون يحتسون القهوة ويدخنون . أخرج مصطفى علبة من معدن أبيض وفتحها . وكان فيها دخان وورق للف السجائر . بدأت نهى تراقبه وهو يضع الدخان فى اللفافة . وزادت دهشتها عندما رأته يخرج من جيبه صرة صغيرة من لقماش ويخرج منها حبة بنية غامقة فركها ونثرها على الدخان ، وأخذ يلف الورقة ببطء ، ثم بلها بطرف لسانه وألصقها وأشعل السيجارة وألقى بعود الثقاب على البساط ، ثم اجتذب نفساً طويلا لم يخرجه وهو مغمض العينين ، وانبعث مع الدخان رائحة عطرية .

قلبت نهى نظرتها بين زوجها ومصطفى . وسمعت فهمى يقول لمصطفى : باين عليك الليلة دى معمر يا ابن . . . وضب لى واحدة .

فصاح مصطفى وانت يا يوسف . فاعتذر . ولدهشه نهى رأته يقول لها : وأنت يا ست ؟ فتدخل زوجها على الفور قائلا لا . . . إنها لم تتعود . فقال مصطفى والله يا ست ، لو أخذت نفساً منها لنسيت الدنيا وما فيها . وأخذ يضحك ويصيح : دى يا يوسف ماركة فاروق ، دى أحسن أصناف الحشيش ، إنى أدفع نصف مرتبى للحصول على أوقية .

احمر وجه نهى ونظرت الى زوجها ، ولكن نظرة منه أفهمتها بأن عليها أن تضبط أعصابها .

أخذ الآخرون بعد أن دخنوا الحشيش يصيحون كما يصيح مصطفى ويضحكون ضحكات بلهاء .

وفكرت نهى فى أمرهم ، وانتهى تفكيرها الى ان عربدة مصطفى عربدة غير متكلفة ، بينما دماثة الآخرين ورقة حاشيتهم طلاء ينحسر لهبة بسيطة .

فكرة تأليف الحرس الحديدى

أصبح يوسف يلازم منزله دائماً . واذا خرج الى مكان فعليه ان يترك نمرة تلفون المكان الذى يتوجه اليه او العنوان . وكانت هذه أوامر الملك . وفى عصر يوم كان فى منزله ، تلقى مكالمة تلفونية للتوجه الى القصر وبصحبته زوجته نهى . فركبا السيارة ووصلا الى مكتب الملك الذى قام الى وسط الغرفة وأخذ بيد نهى قائلا : أراك تزدادين جمالا . احمر وجهها ، وشكرته بصوت خافت ثم أشار عليها بالجلوس وسأل يوسف : ها يا يوسف ماذا يقول الناس عنى ؟

يوسف : يقولون كل خير .

الملك يرفع يده معترضاً : بل كل شىء إلا . . الخير . . على كل حال تعودت ذلك وأصبح لا يهمنى أمرهم . لقد طلبتكما للتحدث عن أصدقائكما ، لأنى كنت طلبت إجراء محريات عنهم أسفرت عن أنه لا غبار على خمسة منهم . اما مصطفى فقد تبين أنه يعتنق المذهب التروتسكى الذى يرى أن ستالين يخون المذهب الشيوعى ، وأنه عضو بارز فى جماعة التروتسكيين فى مصر . وهو يشرب الخمر بشراهة ويدمن تعاطى الحشيشة .

فرد مصطفى بأنه لا يعلم عن مصطفى اعتناق المبدأ التروتسكى ، ولكنه يعلم أنه يتعاطى الحشيشة من المأدبة التى أقامها أخيراً . وقص على الملك قصة لف سجائر الحشيش . فضحك الملك قائلا : لقد أصبح منزلكم غرزة حشيش .

واستمر قائلا : وعلى كل حال فالتقرير المقدم يقول انه لا يحضر بانتظام اجتماعات لجنة التروتسكيين ، وانه يعتبر فى نظرهم هاوياً أكثر منه ممارساً , وأنه يحلم بالشهرة ، وتدور فى رأسه خيالات بطولة وزعامة ، يمد الحشيش حبالها وآفاقها . وانه يحب ان يلبس بزة جميلة التفصيل ، ويحب الطعام الجيد والخمر المعتق والنساء .

وهنا صوب الملك نظره نحو نهى التى احمر وجهها ، ولم تفت النظرة ومعناها يوسف . وقال :

انه لو توافر له المال لنسى تروتسكى . وفوق ذلك فهو ضابط فى أحد الألوية المرابطة فى الصحراء ، ويطيب له الانتقال الى القاهرة . أما الضباط الثلاثة الآخرون فواحد يريد أن يلتحق بالمخابرات العسكرية ، وآخر بسلاح الفرسان والثالث يريد الالتحاق بالحرس الملكى . ضابط المطافىء يريد رتبة ملازم أول . والموظف يريد ترقية الى الدرجة الخامسة . انك ترى يا يوسف أن لهم أطماعاً .

وسكت قليلا ثم قال :

وصاحب الأطماع تسهل مساومته . هل تدركين يا نهى ما أريد ، انى أعلم أنك ذكية ؟

تذكرت نهى مبلغ غضبه للاهانة التى لحقته يوم 4 فبراير ( شباط ) . ودار فى خاطرها : هل يا ترى يريد منا أن نطلب من هؤلاء الضباط عملا ضد من أهانوه ؟ فسألته ببراعة : ـ مولاى ! هل تطلب تكليفهم عملا خطيراً .

الملك : نعم وخطير جداً .

نهى : الى أى حد ؟

الملك : الى أبعد الحدود . الى حد القتل . سأصارحكما مباشرة ومن دون لف أودوران . أريد قتل النحاس وأمين عثمان انتقاماً من الاهانة التى لحقت بى . وكنت أود قتل السفير البريطانى مايلز لامبسون . ولكن كل الاصابع ستشير نحوى بأننى المحرض على قتله . ولن أنجو من الخلع عن عرشى . أما النحاس وأمين عثمان فكل ما سيفعله الانجليز أن تقوم جريدة التايمس برثائهما وتعداد مزاياهما . ولكن سأصبر على النحاس حتى أتمكن من إقالته هو وأمين عثمان من منصبيهما ليصبحا مقصوصى الجناح يسهل اصطيادهما . ولن تكون اداة التحقيق نشيطة فى البحث عن الفاعل كما لو كان على رأس الحكومة .

نهى : ولكن لا أرى يا مولاى انهم يصلحون للقيام بهذه المهمة الخطيرة .

الملك : لماذا لا يصلحون ؟

نهى : لأنهم يتعاطون الحشيش .

الملك : بالعكس ان المخدر يسلب العقل تقدير مغبة المخاطرة ، ويسلب المرء التمييز بين الخير والشر . ألم تسمعى قصة الصباح الذى ألف طائفة الحشاشين أو الاسماعيلية فى دمشق ، وكان اذا أراد قتل أحد خصومه خدر رجلا وأرسله اليه ؟ اسمع يا يوسف . أمامك وقت لتشكيل اصدقائك فى جماعة ، فتول هذه العملية ولك منى شيك على بياض باعطائهم أى شىء يرغبون فيه .

انصرف الزوجان وهما يشعران بثقل المهمة التى يلقيها الملك على عاتقهما وخطورتها البالغة .

ان نهى نشأت فى بيت بسيط يسوده الحب والحنان . كان أبوها استاذاً جامعياً لطيف المعشر ، وأمها وصيفة فى القصر لا تفارق الابتسامة والكلمة الحلوة شفتيها . ويوسف كان مغموراً بحب والده الذى لم يكن يعنفه على سقوطه فى الامتحان ومغامراته النسائية . وصبر عليه حتى نال شهادة الطب بعد أن تعدى الثلاثين من عمره . فأى قدر يريد ان يرميهما فى هذه المصيبة ؟ ولكن الملك يريد ذلك فاذا لم يطيعا أمره فسيعود يوسف الطبيب المغمور وينتقل من مكتب القصر الى عيادة فى احد الاحياء الفقيرة فى القاهرة . ونهى لن تحضر اليها سيارة القصر ، ولن تلبس البشمك الابيض الذى تتميز به بأنها من سيدات القصر .

هذه الخواطر وغيرها تبادلاها حين عادا الى البيت .

ووجد يوسف لنفسه مخرجاً ليقبل ان يكون زعيم قتلة. فقال لنهى : لو رفضنا طلب الملك لتشكيل الجماعة فإنه يستطيع قتلنا حتى لا نفضح سره . وسلمت نهى بهذا الرأى . ولكن نهى كانت تحب حياة القصر أكثر مما تحب حياتها من غير الاضواء .

تأليف الحرس الحديدى

بعد شهر من تلك المقابلة عاد فيها مصطفى وفهمى وخالد الى القاهرة . أقام يوسف مأدبة عشاء لهم ولابراهيم وتوفيق . وبعد العشاء وشرب الخمر والحشيش ، التفت يوسف اليهم قائلا . ما رأيكم فى حادث 4 فبراير ( شباط ) ؟

مصطفى : حادث مؤسف يدل على نذالة الانجليز .

يوسف : وما رأيك فى مصطفى النحاس وأمين عثمان ؟

مصطفى : خونة .

يوسف : وما جزاء الخائن ؟

مصطفى : ضرب الرصاص والقتل .

يوسف ملتفتاً الى الباقين : هل توافقون على ذلك ؟ فأجابوا جميعاً بصوت متلعثم من السكر : نعم .

يوسف : هل أنت يا مصطفى مستعد لضرب الرصاص والقتل ؟

مصطفى : عندك شك يا ابا حجاج ؟ ان كنت تريد أن أقوم الآن بذلك فأنا على استعداد ؟

يوسف : لندع ذلك الى الوقت المناسب . ولكن هل انتم مستعدون للقسم بالانتقام لاهانة 4 فبراير ( شباط ) ؟

فردوا جميعاً : نعم .

وبعد اسبوع نقل مصطفى الى سلاح الفرسان ، وفهمى الى الحرس الملكى ، وخالد الى المخابرات الحربية ، ورقى ابراهيم الى رتبة ملازم اول ، وتوفيق الى الدرجة الخامسة . وعلم الملك بقبولهم القيام بالمهمة ، واطلق عليهم اسم الحرس الحديدى .

الرشاشات المحشوة بالشوكولاته

ودفع الملك ليوسف مبلغاً كبيراً من المال لشراء ثلاث سيارات مستعملة ، ولكن فى حالة جيدة . اشتريت بأسماء مستعارة . وأعدت لها نمر زائفة . واشتريت عدة بنادق رشاشة وقنابل يدوية وديناميت . وكان اول نجاح هو قتل أمين عثمان .

فقد تربص له توفيق وحسن حين توجه الى مكتبه الخاص ، وانتظرا خروجه . كان توفيق يريد قتله فى المصعد ، وأن يغطى حسن هروبه . ولكن أمين عثمان نزل من السلم . فجرى وراءه وأطلق عليه الرصاص ، وحاول الفرار ، ولكن قبض عليه . وتربص مصطفى وفهمى وابراهيم لمصطفى النحاس ، كانوا قد علموا بأنه سيذهب الى مأتم أحد أصدقائه . وخرج النحاس من داره وأمامه حارسان ، فأطلقوا عليه مدفعاً رشاشاً ، جرح فيه الحارسان جرحاً بالغاً ونجا النحاس من دون أن يصاب بخدش . وذهب مصطفى وفهمى وابراهيم ، كل الى منزله . كان يوسف وفهمى يذرعان غرف المنزل ذهاباً واياباً وهما فى حالة قلق . لم يستطيعا الجلوس ولم يتبادلا كلمة واحدة . وكان الملك يدخن سيجاره وينفخ الدخان بعصبية بالغة . وفى العاشرة دق التلفون فى منزل يوسف . أسرع الزوجان نحوه ، وكانت نهى أسبق . وحين سمعها مصطفى قال :

أهنئك يا سيدتى . انتهى أمر الخائن .

وصاحت نهى : هل أنت متأكد ؟

مصطفى : رأيته يسقط من دون ان يقول كلمة واحدة .

نهى : أشكرك . وصاحبنا سيقدر لكم ذلك . وطبعاً المكافأة ستكون كبيرة .

ودقت نهى التلفون الى القصر ، وكانت تعرف نمرة الملك الخاصة . فرد عليها .

وصاحت : مولاى انتهى كل شىء ، وقد حققنا رغبتك .

ولكن فاروق كان قد علم ان النحاس نجا . فصرخ فى وجه نهى :

لعنة الله عليك وعلى أصحابك . هل كانت الرشاشات محشوة بالشوكولاته . إنه لم يصب بأذى . إنه حى .

وصرخت نهى ووقعت من يدها سماعة التلفون .

وعاد الحرس الحديدى مرة اخرى الى النحاس باشا . ذهبوا فى سيارة مملوءة بالديناميت . وأوقفوها أمام منزله وتركوها ، وركبوا سيارة أخرى . وبعد ربع ساعة انفجرت فى السيارة قنبلة موقوتة وتطايرت الشظايا ، وحطمت سور منزله ودخلت شظية غرفة نومه ، ولكن النحاس لم يصب بأذى . وقال أهل مصر أن النحاس باشا من أولياء الله .

وبعد هاتين الحادثتين ضعفت ثقة الملك فى الحرس الحديدى الذى كونه يوسف ونهى . وفكر فى أن ينشىء بنفسه حرساً حديدياً آخر . واستدعى أحد رجال حاشيته ممن يثق بأنه على صله بمهربى الحشيش ، وطلب منه البحث عن جماعة تقوم باصطياد الرؤوس . فطلب رجل الحاشية إمهاله بعض الوقت . وبعد بضعة أيام عاد الى الملك قائلا :

مولاى وجدت لك قاتل قتلة .

ضحك الملك وقال : من هو ؟

قال  : انه ضابط كبير فى البوليس كان يقتل المجرمين من دون ان يقبض عليهم ، وحتى لمجرد الشبهة كان يقتلهم وبذلك قطع دابر الاجرام فى المقاطعة التى كان يتولى فيها رئاسة الشرطة .

الملك : ولكن النحاس وغيره من خصومى من رجال السياسة ليسوا من طبقة أولئك المجرمين ...

رجل الحاشية مبتسماً : انى واثق يا مولاى من إقناعه بأنهم مجرمون ، وخصوصاً اذا عرف أنك تريد ذلك .

رسالة خطيرة

كان يحضر الى مكتبى فى وزارة الخارجية فى أثناء تولى منصب مدير الأمن العام ، السكرتير الاول للسفارة البريطانية المستر لانسديل لمراجعة مسائل الاقامة والجوازات للرعايا البريطانيين أو لاجراء تسهيلات لسفنهم الحربية . كان شاباً مرحاً طروباً لا يحمل الطابع الفكتورى المحافظ . ولكن الشك كان يراودنى فى انه يحمل خلف مظهره المرح مهمة رجل مخابرات متستراً بعدم المبالاة وبسذاجة محببة لا ترقى الى مرتبة الغباوة أو البله ليعرف حقيقة ما يدور فى الدوائر الحكومية والاوساط الاجتماعية . وكان له أصدقاء كثيرون يدعونه الى بيوتهم ويدعوهم بدوره وينفق عن سعة ، لأنه كان من أسرة غنية وكان وثيق الصلة من رجال القصر .

وفى ليلة من ليالى عام 1948 عدت الى منزلى وكنت متعباً ، فخلعت ملابسى واستلقيت على فراشى واستسلمت الى سبات عميق . ولم أدر كم ساعة مرت ، حين أخذت أصحو ببطء على رنين التلفون . ومددت يدى فى الظلام أتلمس المصباح الكهربائى حتى عثرت على زر المصباح وأضاته ورددت على التلفون . واذا بصوت يقول بالانجليزية :

هل أنت نائم ؟

قلت : لعنة الله عليك . أتوقظنى لتسألنى اذا كنت نائماً ؟

فضحك المتكلم وقال :

هل تعرف من أنا ؟

قلت : كل ما أعرفه أنك سخيف . فزاد ضحكه وقال :

أنا لانسديل . وإنى آسف على إزعاجك فى هذه الساعة .

وعندئذ تطلعت الى الساعة فوجدتها الواحدة صباحاً . قلت :

وماذا تريد ؟

قال : انى أكلمك فى هذه الساعة المتأخرة من الليل لأمر هام .

قلت : أما استطعت ارجاءه الى الغد ؟

قال : لا . إنى أرجوك أن تمكننى من مقابلتك الآن . سأحضر الى منزلك بعد ربع ساعة .

ارتديت ملابسى على عجل وتوجهت الى صالون المنزل . وأشعلت سيجارة وجلست فى انتظاره . وحضر فى الموعد الذى حدده . دخل وأعاد الاعتذار وكان وجهه يبدو كوجه طفل ارتكب ذنباً مع ابتسامة خجولة .

قلت : لا عليك . ولكن أرجو أن تعجل بشرح سبب هذه المفاجأة .

أخرج علبة سجائر وأشعل منها سيجارة . ثم أخرج ورقة مكتوبة على الآلة الكاتبة وقال :

هذا ما دعانى الى الحضور . أرجو أن تقرأها .

كنت لا ازال تحت تأثير النعاس أغالب التتأوب ، فأخذت أفتح عينى لأقرأ الورقة ، وأخذت حواجبى ترتفع دهشة وأنا أمضى فى قراءتها . وانتهيت والدهشة أخذت منى كل مأخذ . اذ كان مضمونها .

" تلقى السفير البريطانى فى الساعة العاشرة مساء برقية من وزارة الخارجية البريطانية ، وكان وزيرها هو المستر بيفن فحواها ان حكومة صاحب الجلالة البريطانية تتشرف بابلاغ صاحب الجلالة ملك مصر أنها على استعداد لتقديم كل معونة تطلبها حكومة جلالته لتزويد الجيش المصرى بالمعدات الحربية التى يحتاج اليها من دبابات وسيارات مدرعة وسيارات نقل ومدافع ورشاشات وبنادق وقنابل وطائرات . وانها فى سبيل تنفيذ ذلك ستطلب من القائد العام للقوات البريطانية أن يفتح مخازن الاسلحة فى منطقة قناة السويس للقوات المسلحة المصرية لتأخذ منها ما تحتاج اليه . وان حكومة صاحب الجلالة البريطانية تطلب نظير ذلك من صاحب الجلالة الملك فاروق ان يتنازل عن المطالبة بضم السودان الى مصر ، وتبعاً لذلك يتنازل عن لقب ملك السودان ( كان ذلك مصر يلقب بملك مصر والسودان وصاحب النوبة ) . "

انتهيت من قراءة المذكرة وأكاد لا أصدق بصرى . وظننتنى أحلم . وذهب بى الظن الى أن السكرتير الاول ثمل . وبينما أنا فى تفكيرى قطعه على بقوله :

أود أن أعلمك بأن هذه المذكرة شفوية ، وخاصة لجلالة الملك ، وانها بمثابة اقتراح يعرض عليه ، فإن قبله وأمكن تنفيذه فإن الاقتراح سيأخذ مجراه الديبلوماسى .

وأخذ دولاب تفكيرى يدور بسرعة مذهلة :

ـ ما شلأنى وأنا موظف بدرجة مدير أمن عام بمذكرة بهذه الاهمية البالغة تحمل عواقب ذات خطورة بالغة بالنسبة الى الموقف العسكرى السياسى ؟

ـ نحن نعلم أنت عضو فى لجنة شكلها الملك عقب حرب فلسطين للنظر فى ما يجب عمله واتخاذه من اجراءات عقب هذه الحرب . وأنت تستطيع ان تقدمها الى الملك حين تجتمع اللجنة .

قلت له : لأفترض أنك جاد فماذا تريد منى ؟

قال : أريد أن تحمل هذه الرسالة الى جلالة الملك . إنك شاب نعرف عنك أنك لا تتردد فى عمل ما تقنع به .

قلت : ولماذا لا يحملها السفير ألسير رونالد كامبل الى رئيس الحكومة النقراشي باشا أو وزير الخارجية . وهذا هو الوضع الديبلوماسى الطبيعى ؟

قال : أوافقك على أن هذا هو الوضع الطبيعى ، الا أن السفير واثق من أن النقراشي سيرفض الاقتراح والعرض ، لأن السفير حاول معه من قبل أن تتخلى الحكومة المصرية عن المطالبة بالسودان ، ولكن النقراشي كان مبدأه كمبدأ مصطفى النحاس ( تقطع يدى ولا تنفصل السودان عن مصر ) ولهذا رأى السفير أن توجه المذكرة الى الملك وأن تكون شفوية وخاصة .

قلت : وها تظن إنى أستطيع إقناع الملك بالتخلى عن السودان ، وهو يباهى دائماً بأنه ملك مصر والسودان .

قال : هل تستطيع أن تتصور الفوائد التى يجنيها الملك فاروق من هذا العرض ؟ ان الجيش المصرى بتمكينه من الاستيلاء على هذه الاسلحة التى لن يستطيع أن يشتريها من أى بلد آخر فى العالم يمكنه أن يدخل مع القوات الإسرائيلية فى معركة حاسمة ، وأن يهزمها ويصبح الملك فاروق ملك العالم العربى بأسره .

ثم ابتسم ابتسامة خبيثة وقال :

لعل تسليح الجيش المصرى الآن يغطى الفضيحة التى تفوح روائحها عن الاسلحة الفاسدة .

وبدا لى على الفور انها مؤامرة انجليزية بارعة ، لأن مركز الملك فاروق أصبح مفضوحاً على أثر معرفة الشعب بما يجرى من صفقات مريبة وشراء أسلحة فاسدة للجيش بواسطة عملاء ينتسبون الى حاشية القصر .

قلت : وما هذا الحرص البالغ من الحكومة البريطانية لابعاد السودان عن مصر . ودفع هذا الثمن الغالى مقابل ذلك ؟

قال : إن لبريطانيا مصالح استراتيجية واقتصادية كبيرة فى السودان . ولأن غالبية السودان لا تريد الارتباط بمصر والاندماج تحت علمها .

وهنا بدا الجد على وجهه ولم أره فى حياتى يعبس جاداً وقال  :

أرجو بل أتوسل اليك أن توصل هذه الرسالة الى الملك . إنى على يقين من أنك تستطيع إيصالها ، ونحن نريد عليها رداً عاجلا .

قلت : انك ستوقعنى فى ورطة شديدة مع رئيس الحكومة ، لأنى مؤمن بأن الملك سيبلغه مضمون الرسالة ويخبره بأنى أنا الذى نقلتها .

قال : ان السفير وأنا لنا أمل كبير فى أن يقتنع الملك باقتراحات وزير الخارجية ، وان جلالته اذا اقتنع فسيفرض على رئيس الوزارة قبولها .

قلت : ألا ترى انها من ناحيتكم مغامرة ديبلوماسية قد تؤدى فى حالة الفشل الى سوء العلاقات مع الحكومة المصرية . .

قال ضاحكاً : إن المستر بيفن دائماً يغامر ويكسب .

أخذت أفكر وأقلب الامر . وتذكرت أن أغلب طفولتى أمضيتها فى السودان ، وكنت طالباً فى كلية غردون ولى صلات وثيقة بكثير من إخواننا السودانيين . وقد لمست أن أهل السودان ، ولو كانت تجمعهم بأهل مصر روابط الدين والله بل روابط قرابة ، ونسب ، فإن الحكم المصرى الانجليزى خلف آثاراً سيئة فى نفوسهم ، وهم يريدون سيادة لوطنهم والبعد عن أية سيطرة . وكان لقب مصر والسودان لقباً خلعته الحكومة البريطانية على ملك مصر ولم تمنحه السودان . والفوائد التى تجنيها الحكومة المصرية من تسليح جيشها فوائد بالغة الخطر ولا تقدر بثمن بينما السيادة على السودان مسألة أقرب الى الأمانى والأحلام .

واستفقت من تفكيرى وقلت للسكرتير الاول :

سأقدم المذكرة غداً الى الملك فاروق مصحوبه برأيى .

فشكرنى وانصرف .

وفى الغد توجهت الى القصر وقدمت المذكرة مصحوبة برأيى بالموافقة عليها . ولكن صدق حدسى . فقد أرسل الملك فاروق المذكرة الى النقراشي باشا الذى طلب مقابلة عاجلة من الملك فاروق . وتمكن أن يقنعه بعدم قبولها بعد أن صور له الأمر على أنه خدعة بريطانية ليتخلى عن السودان . ووقعت أزمة بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية لتقديم المذكرة عن غير الطريق الديبلوماسى . وجرت بين النقراشي وبينى مشادة عنيفة قدمت اليه فيها استقالتى ، ولكنه لم يقبلها . وانتهى الأمر بأن انفصل السودان عن مصر فعلا وأصبح فيها بلداً تام السيادة . وإسرائيل أصبحت مسلحة من قدمها الى رأسها وبقيت مصر بغير تسليح حتى عام 1955 .

أخذت أفكر فى الأسباب التى أدت بالملك فاروق الى رفض هذه الفرصة الغالية التى وضعت بين يديه . وأنهى بى التفكير الى حاشية القصر الذين قاموا قبل حرب 1948 وبعدها بعمليات واسعة لشراء الأسلحة بواسطة عملاء مشبوهين ، وأثروا ثراء فاحشاً وذهب جزء كبير منه الى خزينة القصر . هل قامت تلك الحاشية بإقناع الملك برفض العرض لأن سوقهم الذهبية اذا تسلح الجيش المصرى من مخازن الجيش البريطانى ؟ وهل نصيحة الحاشية له لقيت قبولا منه لأنها توافق مصلحته الشخصية ؟ والنقراشي ، لم كان رفضه القاطع ؟ هل لما عرف عنه من أنه عنيد وذو كبرياء ، وأن الحكومة البريطانية تجاهلته وتقدمت الى الملك ؟

انفجار مخزن الذخائر فى قلعة القاهرة

فى أمسية حارة من صيف عام 1949 ، كنت جالساً فى شرفة منزلى أتناول طعام العشاء ، وشرفات المنازل المحيطة بى مملوءة بالسكان الذين يستروحون النسمات الضنينة عليهم ، والآذان تملأها صيحات الأطفال المرحة وعبثهم الضاحك الذى يقابله آباؤهم بنهرات حنونة أو صارخة حين يضيقون بعبثهم . وكانت السماء صافية والقمر بدراً تماماً والنجوم تخفق كأنها قلوب العاشقين . واذا بانفجار مروع يدوى هز المائدة المنصوبة أمامى بأطباقها وأكوابها ، وخيم صمت رهيب سكتت فيه أصوات الأطفال ، وبدأ نباح الكلاب ثم أعقبه انفجار آخر أقوى . وبدأ الأطفال يصيحون وهم يتطلعون الى السماء ، اذ انبثقت أضواء قوية لعلهم ظنوا أنها ألعاب نارية . ولكن ما لبثوا أن كفوا عن الصياح حين دوى انفجار ثالث عنيف اهتزت له الشرفات والنوافذ ، وأخذ الأطفال يبكون ويصرخون واشتد نباح الكلاب .

توجهت مسرعاً الى التلفون ، واتصلت بوزارة الداخلية فى قسم الامن . فقال لى الضابط المنوب انه سمع الانفجار ولا يعرف سببه . فطلبت منه استيضاح الأمر وابلاغى . وعدت الى الشرفة أتطلع الى السماء وهى تضىء وتدوى من انفجار يعقبه انفجار . ثم سمعت جرس التلفون يدق . فأسرعت اليه ، واذا بالضابط يخبرنى أن انفجاراً وقع فى مخزن الذخائر فى القلعة وأن رجال الاطفاء سارعوا الى المكان .

تركت عشائى ونزلت مسرعاً وقد سيارتى الى القلعة . ولما وصلت الى مركز البوليس وهو يقع فى السفح وتقع القلعة فوقه فى الجبل ، رأيت جموعاً كبيرة من الناس تفر من منازلها الى الشوارع وهو فى حالة يأس من الذعر والهلع . وأخذت تخف حدة الانفجارات نتيجة السرعة الفائقة التى انتقل فيها رجال المطافىء ، وروح المخاطرة والبسالة لتى أبدوها فى عزل بعض مخازن الذخيرة التى وقع فيها الانفجار ، وقد أصيب بعضهم بجروح بالغة .

ولما أصبح مؤكداً أن رجال الاطفاء سيطروا على الموقف ، انتقلت وكبار رجال الشرطة الى مكان الانفجار ، وأخبرت أنه تبقى مخزن للقنابل كان يحوى كمية ضخمة جداً منها ، لو ان النيران اتصلت به لوقعت كارثة محققة . وبدأ التحقيق . ولكن لم نجد أحداً نحقق معه . أين ضابط المستودع ؟ أين حراس المستودع ؟ لم نر أحداً منهم ، ظننا أنهم قتلوا . ولكن حجرة الحراسة قرب باب المستودع لم تتهدم ، وانما تحطمت أبوابها ونوافذها . وعند باب المستودع الكبير لم نشاهد جثة الحارس .

وفى فترة تعجبنا هذا ، رأيت ضابطاً يحاول دخول الباب ، فأوقفه رجال الشرطة ، وسأله أحدهم عن هويته . فقال انه قائد المستودع .

قال له ضابط الشرطة : وأين كنت وقت الانفجار ؟

قائد المستوع : كنت فى منزلى .

ضابط الشرطة : ومن تركت بدلا منك ؟

قائد المستودع : تركت ضابطاً برتبة ملازم .

ـ وما اسم ذلك الضابط ؟

ـ اسمه الملازم عبد الصبور .

ـ وأين هذا الملازم ؟

ـ ربما يكون داخل المستودع .

ـ وكم عدد أفراد القوة التى تقوم على حراسة المستودع ؟

ـ انهم خمسون بين ضابط وجندى .

ـ وأين هم ؟

ـ لابد انهم داخل المستودع .

وبما أننا لم نر أحداً منهم بدأنا نخشى ان يكونوا قد ماتوا أو جرحوا .

فأرسلنا رجال المطافىء نفتش عليهم ، وعادوا وقالوا إنهم لم يجدوا أحداً .

مرت على ذلك نصف ساعة وجاء ضابط برتبة ملازم يحاول الدخول فاستوقف وسئل عن اسمه . فقال انه الملازم عبد الصبور . وسئل عبد الصبور :

ـ أين كنت ؟

ـ ذهبت الى منزلى لأنه قيل لى ان والدى مريض .

ثم أخذ الجنود يتوافدون علينا . حتى بلغ عددهم خمسين جندياً . وأخذت الدهشة البالغة تستولى علينا . كيف ترك القائد والملازم والجنود المستودع جميعاً قبل الانفجار ، ولماذا تركوا المكان .

وحضر رئيس نيابة القاهرة ومعه وكيلان لبدء التحقيق . ولكن قائد المعسكر رفض أن يواجه بالتحقيق ، وأمر جنوده بأن يتبعوه فى ذلك محتجاً بأن التحقيق معه يجب أن يجرى بواسطة سلطات الجيش . وبدأنا نحن تحريتنا الخاصة ، وتبين أن الانفجار دبر بوضع قنبلة زمنية داخل المستودع دست بين المواد المتفجرة ، وأن الحراس تركوا المعسكر فى وقت يكفى أن يكونوا فيه فى أمان من التعرض لخطر الانفجار . ولم يبق مجال للشك فى أن القصر هو الذى دبر الانفجار هادفاً الى محو آثار فضيحة الأسلحة الفاسدة التى كانت مثار تحقيق السلطات القضائية . وقد قيل فعلا لهذه السلطات بعد الانفجار أن الاسلحة التى تريدون التحقيق بشأنها قد دمرت عن آخرها ، وذهبت هباء ، وبذلك ضاعت معالم الجريمة .. وغطى الحادث بستار رهيب ، وتوصل القصر الى تحقيق مأربه فأقفلت النيابة باب التحقيق ، ودفنت قضية الاسلحة الفاسدة فى قبر عميق . ولو أن روائح الجثة العفنة ظلت تفوح زمناً طويلا .

ولكن فى هذه المناسبة يجب على أن أوضح ان الاسلحة الفاسدة لم تكن بالكثرة التى كتب عنها ، وأنه بولغ كثيراً بشأنها وقامت ضجة كبرى لم تكن بحجم الفضيحة ، ولكن القصر خشى العواقب ونقمة الرأى العام ، فلجأ الى تلك الوسيلة من التغطية مما زاد فى البلبلة والاتهام .

مقابلة مع الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين

كنت معتاداً ان أتوجه كل يوم جمعة الى حلوان ، حيث منزل العائلة لأقضى يوم العطلة وأنعم بدفء حلوان وشمسها فى أيام الشتاء .

وفى يوم جمعة من شتاء عام 1947 وكنت مديراً للأمن العام ، تأهبت للخروج لأتمشى فى الصحراء التى تفصل حلوان عن النيل . وعند الباب رأيت شخصاً واقفاً تقدم الى يحيينى . فسألته من هو . فقال إنه يحمل الى رسالة من الشيخ حسن البنا . وسلمنى اياها . فتحتها فوجدت ان الاستاذ قد حضر الى حلوان ليلقى خطاباً فى حفل تقيمه جماعة الإخوان وانه علم بوجودى فى حلوان ، ويريد مقابلتى الساعة الخامسة بعد الظهر اذا رأيت ذلك مناسباً ، وإلا فلنحدد موعداً آخر للقاء . أخبرت الرسول إنى فى انتظار الشيخ الساعة الخامسة .

وقد بدأت علاقتى بالمرحوم الشيخ البنا حين حضر لمقابلتى فى وزارة الداخلية ليطلب منى أن أراجع قرار عقوبة وقعها رئيسه على أخيه الذى كان يعمل برتبة كونستابل فى البوليس ، لمخالفة ارتكبها . ولما راجعت أسباب العقوبة ، قلت له إن رئيسه محق فى توقيع العقوبة . فقال أرجو ان تسامحه ، وسأحاول أن أهديه لكى لا يعود الى مثلها . وأذكر أنى قلت له : إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء . فأطرق قائلا نعم نعم . قلت له : سأوقف تنفيذ العقوبة ولا أرفعها ، فإذا مضى زمن وحسن سلوكه فإنى أرفعها . وشكرنى وانصرف .

وفى الساعة الخامسة حضر الاستاذ البنا وكان ذا لحية لا هى طويلة ولا هى قصيرة خفيف الخطى سريع الحركة والكلام ، آية فى الذكاء . يركز عينيه اللامعتين على متحدثه ثم يخفض وجهه ثم يعود الى التحديق . وكان دمث المعشر حلو الحديث لا يمل منه الانسان . إذ أن طبيعته الدينية خلت من التزمت . وبعد شرب القهوة وتبادل التحية ، قال :

أعذرنى اذا قطعت عليك عطلتك . ولكنى وددت ان اختلى بك بعيداً عن مكتبك . ولأن عندى أشياء أود قولها وأود منك الاصغاء اليها .

قلت : تفضل ومرحباً بك .

قال : عندى رسالة شفوية أرجو أن توصلها الى القصر لأنى أعلم أنك الوحيد الذى ستنقلها بأمانة . لقد كنت صديقاً للمرحوم والدك وقصدتك شخصياً فى موضوع ، وأجبت رجائى فارتحت اليك ، كما كنت أرتاح لوالدك .

قلت : وما الرسالة ؟

قال : ان رئيس الحكومة يريد حل جماعة الإخوان المسلمين . وهذا قرار بالغ الخطورة وقد تكون له مغبة وعواقب وخيمة أخشى منها كثيراً . إذ أنه لابد أن يقع بيننا وبين الحكومة اصطدام عنيف ، ولا شك انك تدرك ذلك بوصفك مديراً للأمن العام . ونحن الإخوان نشعر بأن رئيس الحكومة النقراشي باشا قد جر الملك فاروق الى خصومتنا ، بما أرسله اليه من تقارير وضعها له عبد الرحمن عمار وكيل الداخلية تتضمن أنا نريد قتل الملك وننبذ تصرفاته .

قلت : يا استاذ حسن هل تأذن لى أن أدبر لك مقابلة مع النقراشي باشا لعلك تستطيع فيها بلباقتك وحكمتك ان تصفى الجو بينه وبينكم ؟

الشيخ حسن ( رافعاً يديه ) : لا أمل فى الوفاق معه . إنى أعرف طباعه . إنه عنيد واذا ركب رأسه فلن يلوى على شىء . ثم إننا نستطيع أن نصبر على رئيس الحكومة أنه قد يترك منصبه فى أى وقت ، أما الملك فهو باق . أرجوك أن تحمل اليه هذه الرسالة . إن الإخوان المسلمين لا يريدون به شراً . قل له إننا لا ننبذ تصرفاته . إنه يذهب الى نادى السيارات للعب الورق ، فليذهب . والى النوادى الليلية ليسهر ، فليسهر . لسنا قوامين عليه .

وضحك قائلا : وعلى كل حال نأمل أن يهديه الله .

سكت ملياً ، ثم نظرت الى الاستاذ فوجدته يحدق فى بنظرة نفاذة ليعرف تأثير كلامه .

قلت : يا استاذ حسن إن رسالتك خطيرة ، وسأبلغها الى الملك ، وسأبلغ رأيك فى حل الإخوان وخطورة عاقبته الى النقراشي .

هزالاستاذ رأسه وقال إنى أعرف أنه عنيد ، وسينفذ رأيه . ولكنى رجوت أن تخبر الملك عله يقنعه بالعدول عن تلك الجريمة النكراء .

وقدحت عينه شرراً وقال :

نعم انها جريمة نكراء يريد النقراشي ارتكابها . هل يظن أننا لعبة فى يده يستطيع تحطيمها بسهولة .

وانقلب الشيخ الوديع نمراً هائجاً ، ولكنه عاد الى طبيعته الهادئة حينما رآنى أنظر اليه . وضحك قائلا :

لا تؤاخذنى إذ نسيت نفسى .

قلت : يا استاذ حسن ، ان الإخوان المسلمين أصبح عددهم كبيراً ، وأصبحوا قوة . وخصومكم يقولون إنكم انحرفتم عن ان تكونوا جماعة دينية ، وأصبحتم حزباً سياسياً ، لأنكم تقولون ان الإسلام دين وسياسة ، فلماذا لا تتقدمون للانتخاب ليكون لكم نواب يدافعون عن وجهة نظركم .

الشيخ حسن : لقد قدمنا بعض المرشحين من أعضاء الجماعة الى الانتخابات ، لا باعتبارهم إخوان مسلمين ، لأننا نعلم ان الحكومة ستعمل على اسقاطهم ، ولكن كمستقلين . ولكن الحكومة عملت جهدها على اسقاطهم . أتدرى يا استاذ مراغى متى نستطيع دخول الانتخابات بصفتنا إخوان مسلمين .

قلت : متى ؟

قال : حين يقبل الملك أن يكون لنا فى الوزارة وزيران او ثلاثة وزراء . عندئذ نعرف كيف نحظى بعدد من كراسى مجلس النواب .

قلت : هل يعنى انكم تقبلون دخول الوزارة اذا دعاكم الملك من دون شروط .

قال : نعم من دون أيه شروط . لأن وجودنا ضرورى لخدمة البلد . إن برنامجنا الاجتماعى اصلاحى يقوم على أسس قوية .

قلت : يا استاذ حسن . وماذا يصنع وزراؤكم فى رخص نوادى الميسر والملاهى والبارات والخمر .

ضحك الاستاذ وقال : هذه قفشة لا بأس بها ، ولكن تتعدل . وعسى أن يستطيع وزراؤنا إزالة ذلك المنكر .

قلت : لعل هذا من باب " والله لنخوض اليكم الباطل حتى نصل الى الحق " . او من باب الضرورات نبيح الخطورات .

قال الاستاذ : نعم لك حق . لقد فهمتها جيداً وفسرتها يا استاذ مرتضى .

وفى اليوم التالى قابلت النقراشى باشا ورويت له الرواية . فهز رأسه استخفافاً وقال :

كان احسن لو لم تقابله .

قلت له : بل كان واجباً . ثم أخبرته بأنى سأرسل تقريراً الى الملك عن مضمون رسالته له فصرخ قائلا :

إنى آمرك ألا ترسل شيئاً الى الملك .

قلت : قد وعدته .

قال : كيف تعده من دون إذنى ؟

قلت : قد أكون أخطأت وأرجوك أن تبلغ الرسالة أنت الى الملك .

وكنت قد كتبت تقريراً بموضوع المقابلة سلمت النقراشي نسخة منه . فصرخ قائلا :

هل تريد أن تفرض على رأيك .

قلت : أعلم أنى موظف فى وزارة الداخلية ، وأنت الوزير . ولكن بصفتى مديراً للامن العام ، أقول لك إن العواقب خطيرة .

وفة هذه الأثناء دخل عبدالرحمن عمار وكيل الوزارة ، وكان النقراشي هائجاً مربد الوجه . فأشار اليه النقراشي بالجلوس ، وقال :

أنظر ما فعله مدير الأمن وقص عليه الرواية .

واذا بعبد الرحمن عمار يقول :

على كل حال المسألة منتهية يا دولة الرئيس ، فقد انتهيت من وضع قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ، وسأعرضه غداً على دولتكم لتوقيعه .

هالنى الأمر . فقلت :

أرجو يا دولة الرئيس أن تقدر خطورة الأمر وأن تتمهل فى إصدار القرار . إن الإخوان المسلمين يشكلون منظمات وخلايا سرية لا علم لوزارة الداخلية حتى الآن بأسماء أعضائها . وقد يكون بعضهم داخل الوزراة ومن حراس الأمن . وأنا أعلم أن كثيرين من ضباط الجيش هم من جماعة الإخوان .

النقراشي : هل تريد أن تقر الارهاب وتريد أن نعترف بشرعيتهم . لقد قتلوا مستشاراً من محكمة الاستئناف كان يترأس محكمة الجنايات لأنه حكم على بعضهم بالسجن . فهل تسمح لهذه الجماعة بأن تتمادى الى حد قتل القضاة ، لا بد لى من حل هذه الجماعة .

ثم ضحك وقال : انى اعرف ديتها . إنها رصاصة أو رصاصتان فى صدرى .

وصدقت نبوة النقراشي . اذ حين توجه الى وزارة الداخلية حوالى الساعة التاسعة صباحاً ، وهم بدخول المصعد ، تقدم منه شاب يرتدى ملابس ضابط بوليس وأطلق عليه رصاصة من الخلف أصابت القلب وتوفى على الاثر . وكانت الوزارة من الخارج والداخل محروسة بما لا يقل عن مائتى شرطى مسلحين جميعاً بالبنادق الاوتوماتيكية . والغريب أن أحداً من الذين كانوا فى بهو الوزارة وأمام المصعد لم يحاول أن يطلق على الجانى طلقة واحدة أو يحاول إمساكه . ولعل هول المفاجأة أذهلهم . وخرج الضابط المزيف الى فناء الوزارة محاولا الهروب . ولكن قبض عليه وتبين أنه من جماعة الإخوان المسلمين .

قتل رئيس محكمة الجنايات

انعقدت محكمة جنايات مصر برئاسة المستشار الخازندار ، وكان قاضياً يتميز بالعلم الغزير وبنزاهة لا يرقى اليها الشك ، لمحاكمة جماعة من الإخوان اتهموا بحيازة متفجرات وأسلحة . وكانت القضية قد عرضت على دائرة أخرى تلقت تهديدات عديدة بالقتل اذا حكمت على المتهمين . وأخذت القضية تؤجل حتى انتهت الى الدائرة التى يرئسها الخازندار . وطلب محامو المتهمين التأجيل . ولكن الخازندار رفض التأجيل وأصر على النظر فى القضية ( رغم تهديده بالقتل سواء برسائل او مكالمات هاتفية ) لصلابته المعهودة عنه . وحكم فى القضية بحبس المتهمين مدة طويلة بالاشغال الشاقة . وهنا صدر عليه هو حكم الاعدام من محكمة الإخوان ونفذ كما يأتى :

خرج المستشار الخازندار من منزله صباح يوم مشمس من أيام الشتاء فى حلوان بعد أن ودع زوجته وقبل طفليه وأخذ يمشى على مهل من منزله فى الجهة الشرقية من المدينة متجهاً الى محطة السكك الحديدية ليستقل القطار . ولم يبتعد عن منزله أكثر من خمسين متراً حتى انقض عليه شابان أحدهما فى التاسعة عشرة والثانى فى الثامنة عشرة وأطلقاعليه ست رصاصات سقط على أثرها قتيلا . وفر الشابان صوب الجبل المحيط بحلوان . ورآهما أحد المارة فأسرع بابلاغ البوليس الذى انطلق وراءهما . وسمعت زوجة المستشار صوت الطلقات ، وأحس قلبها بأن شيئاً أصاب زوجها . وكان نذير إحساسها ما وجه الى زوجها من تهديدات . فخرجت حافية القدمين ، ونظرت الى بعيد لترى جثماناً على الارض وأشخاصاً ينحنون عليه . فجرت اليه لتجده غارقاً فى دمائه . وأخذت تحضنه وتناديه وتبكى وتندبه وتصرخ صراخ اليأس . ولحق رجال الشرطة بالشابين وقبضوا عليهما وبدأ التحقيق معهما فى قسم حلوان . وأسرعت بحكم وظيفتى الى القسم لحضور استجوابهما . رأيتهما هادئين باسمين . كان أحدهما ضخم الجثة طويلا وكان الآخر قصيراً نحيفاً . وبدأ وكيل النيابة التحقيق ، وسأل أولهما عن اسمه . فأجاب ولماذا تريد معرفه اسمى ؟ وسأل الثانى فأجاب اسأل زميلى يقل لك اسمى . وضحك . فنهرهما وكيل النيابة وأعاد السؤال . فذكر كل منهما اسمه . وسألهما هل أطلقا الرصاص على المستشار الخازندار ؟ فردا بكل برود : ومن هو الخازندار . ثم امتنعا عن الرد على أى سؤال . فتوقف وكيل النيابة عن التحقيق . ولكن أحد رجال البوليس حاول التكلم معهما فضحكا ولم يردا . فسكت . وبعد ذلك مال الصغير النحيف على أذن الضخم وأسر اليه شيئاً استغرق بعده فى ضحك مكتوم حتى دمعت عيناه .

فقلت له : هل استطيع أن أعرف ما الذى أضحكك ؟

فرد مبتسماً :

أصل صاحبى هذا خفيف الدم ، وقال نكتة حلوة . وهو دائماً يسلينى بإلقاء النكت .

تملكنى الغضب وحنق لا حد لهما . قاتلان يقتلان مستشاراً على درجة ممتازة من العلم والخلق ، ويرملان زوجة شابة ، وييتمان طفلين ، ولا يأبهان بشىء ، ولا يحسان بفداحة الجرم الذى ارتكباه ، ثم يتماديان فى الاستهتار بالمحقق ورجال الأمن . ويتبادلان النكات بدلا من الرد على أسئلة وكيل النيابة . لا بد أن يكون فى الأمر شىء . انهما لا يتصرفان كأشخاص عاديين لهم عقل وتفكير . هل هما مجنونان ؟ لم أجد دلالة واحدة على هذا الافتراض . هل تناولا شيئاً من المخدر ؟ وهنا تذكرت تقريراً قدمه احد ضباط الشرطة .

محكمة الإخوان المسلمين

كان للإخوان المسلمين محكمة تنعقد لمحاكمة من تعتبرهم الجماعة خصوماً لها أو خونة فى حق الوطن والدين . وحين تصدر حكمها على أحد منهم بالقتل أو بنسف داره ، فهى تختار بضعة من الشباب تراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والعشرين . وتلك هى السن التى تجرى فيها الدماء حامية فى عروق الشباب ورؤوسه وتحوم فيها أطياف البطولة وخيالاتها على العقل ، ويضطرب فيها الجسد والفكر فى فترة الانتقال الزمنى من مرحلة الطفولة المتأخرة الى مرحلة الصبا المتقدمة . ثم تعد حجرة تضاء بشموع قليلة ويطلق فيها البخور يعبق فى الحجرة وتنطلق فى أرجاءها سحبه مضيفاً عليها رهبة المعبد وقداسته . ويؤمر الشباب بالدخول الى الحجرة عند منتصف الليل بعد أن يخلعوا نعالهم خارجها ليجدوا منصة مرتفعة قليلا عن الارض مفروشة بالسجاد وعليها وسائد مغطاة بالسواد يتكىء عليها شيخ يرتدى قلنسوة سوداء عيناه نصف كغمضتين وبيده مسبحة طويلة . فيجلسون أمامه بعد أن يرشدهم من أدخلهم الى أماكن جلوسهم قبالة الشيخ . ويمضى الشيخ فى همهمته وتمتمته ويدير حبات السبحة والبخور ينطلق ، والشيخ لا يزال مطرقاً لا ينظر اليهم . وعيون الشباب تختلس النظر اليه . ويمضى فى صلاته الخافتة قرابة نصف ساعة . وتتعطل حواس الشباب عن التفكير فى أى شىء حتى لينسون أنفسهم . ثم يفتح الشيخ عينيه ويحدق فيهم طويلا . وتنحسر من الرهبة أبصارهم . كأن له عيناً يشع منها مغنطيس عجيب . إن تحديقه فيهم يخدرهم ويسلبهم القدرة على الحركة . والبخور يدغدغ إحساساهم وكأنه يدخل رؤوسهم لتخيم سحبه على عقولهم ثم يقوم الشيخ متثاقلا ويقول لهم : حان وقت صلاة الفجر . ويصلى معهم ذاكراً فى صلاته آيات الذين يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون ولهم الجنة . وتنتهى الصلاة ويصمت برهة ثم تدوى منه صيحة عالية : هل أنت على استعداد للاستشهاد فى سبيل الله ؟ فيقولن نعم . وهل انتم مستعدون لقتل أعداد الله ؟ فيقولون نعم . هل تقسمون على الوفاء بالعهد ؟ فيقولن نقسم . فيقدم المصحف ليقسموا عليه ثم يقول : أستودعكم الله وموعدنا الجنة .

ويخرجون وفى عزمهم شىء واحد القتل والنسف .

قد يكون التقرير الذى قدمه الضابط الى وزارة الخارجية مبالغاً فيه ، أو فيه شىء من الخيال . ولكن قد يكون متمشياً مع الأسلوب الذى سار عليه قاتلا المستشار الخازندار .

وزارة إبراهيم عبد الهادي

بعد موت النقراشي ، عين الملك إبراهيم عبد الهادي ، وهو عضو بارز فى حزب السعديين الذى كان يرأسه النقراشي ، رئيساً للوزراء . وكان فى عزمه شىء واحد ، وهو أن ينتقم لزعيمه ويقضى على جماعة الإخوان . فجردت الحكومة عليهم حملة لا هوادة فيها . وقبض على عدد كبير منهم وأودعوا السجون ، وأدعى الكثير منهم أنهم لاقوا معاملة وحشية تناولت تعذيبهم وضربهم وحرمانهم من الطعام وزيارة الأقارب . ولم ترهب الحملة الإخوان . فأرادوا أن يعملوا عملا يحدث دوياً مروعاً يدل على أنهم أقوياء ، وأن حكومة عبد الهادى لم تقدر على قص جناحهم . وكان ذلك العمل سيحدث دوياً حقاً بل خراباً شاملا وضحايا كثيرة لو تم تنفيذه . ولولا المصادفة الحسنة لوقع ذلك الخراب . فقد كان أحد الجنود ممن انتهت خدمته اليومية يسير فى فناء محكمة الاستئناف العالى . فوجد سيارة جيب فيها صندوقان خشبيان كبيران ، وعلى بعد منها سيارة جيب فيها شخصان جالسان وشخص آخر قادم اليهما من ناحية السيارة الجيب . وتذكر رجل الشرطة أنه رأى وجه الشخص القادم من الجيب المحمل ، وأنه يعرف ذلك الوجه . وعصر فكره قليلا ليتذكر أنه عضو فى جماعة الإخوان المسلمين . فجرى وراءه ليسأله هو ومن يركبون الجيب عن هويتهم . وعند اقترابه منهم أدراكا أنه عرفهم . فقفزا من السيارة وركض الثالث وضاعوا وسط زحام الجماهير . وأسرع الجندى الى مركز الشرطة ليلقى اليهم باشتباهه . ولم يتردد ضابط المركز فى طلب خبير بالمفرقعات . وانتقل الجميع الى عربة الجيب المحملة . ووجدوا أن الصندوقين متصلان بقنبلة زمنية ، وفيهما كمية من الديناميت لو انفجرت لدمرت دار القضاء العالى بما فيه من قضاة يبلغ عددهم مائتين ومتقاضين يبلغون الألوف ، بل وكانت دمرت جزءاً كبيراً من الحى .

أما الصيد الثمين الذى لا يقدر بثمن لحكومة إبراهيم عبد الهادي فقد عثر عليه فى أحد المنازل عند تفتيشها . حين وجد سجل كامل يحوى التنظيم والخلايا السرية لجماعة الإخوان المسلمين وأسماء أعضائها كاملة . ومن المصادفات العجيبة أن هذا الكشف الذى أودع فى أضابير إدارة الأمن العام أيام حكم إبراهيم عبد الهادي ، كان أثمن هدية تلقاها المرحوم عبد الناصر من حكومة ما قبل الثورة . لأن هذا الكشف للتنظيم السرى ساعد عبد الناصر على القضاء على الإخوان المسلمين ، بعد محاولة الاعتداء عليه وهو يخطب فى ميدان المنشية فى الإسكندرية ، إذ أطلق عليه أحد جماعة الإخوان النار ولم يصبه . وكان عبد الناصر معهم بالغ القسوة ، اذ شنق اثنى عشر من كبار زعمائهم ونكل بأعضاء التنظيم السياسى تنكيلا شنيعاً إذ أودعوا بالآلاف فى السجون والمعتقلات وعذب بعضهم حتى الموت ، وحرمت أسرهم من معاشهم .

ولعلها مفارقة عجيبة أن إبراهيم عبد الهادي حكم عليه فى عهد الثورة بالاعدام ، لأنه عذب الإخوان المسلمين ، ثم خفف الحكم الى الأشغال الشاقة المؤبدة .

مصرع الشيخ حسن البنا

كان الشيخ حسن البنا يعلم أن أيدى كثيرة تتربص به لقتله . فكان يحتاط لنفسه كثيراً ويسير دائما بصحبة حرس . ولكن الأيدى المتربصة كانت وراءها عيون ترقب تحركه ليل نهار وتتبع خطاه أينما سار . وكانت الأيدى المتربصة أيد قوية تدعمها رؤوس كبيرة تخشى من الشيخ حسن البنا أن يطيح بها كما أطاح حسب اعتقادها بالخازندار والنقراشي وأحمد ماهر . وكان الحرس الحديدى عجز عن قتل النحاس مرتين ، ولم يعد هناك صبر على تجربة ثالثة لو فشلت ، فقد تجد رداً صارماً .

ووجد قاتل القتلة فلم لا يجرب . إنه ضابط بوليس كبير . وكما قلت فى ما سبق من كتابى ، كان يقتل المجرمين أو ذوى الشبهة . وأصبح الاقليم الذى يديره نظيفاً منهم واستحق على ذلك ثناء ومكافأة . ولقد تنبه اليه رجال الحاشية ، فعهدوا اليه أمر الشيخ حسن البنا . ولم يتردد هو بدوره فى القيام بالمهمة الموكولة اليه .

وذات ليلة خرج الشيخ حسن البنا لزيارة أحد أصدقائه ، ولم يصحبه حرسه لأن صديقاً له استعجل لقاءه . وطلب الشيخ البنا حرسه ولم يكن موجوداً ، فخرج بغير صحبتهم . ولم يدر أن سيارة كانت فى انتظاره وأنها أخذت تتبع سيارته . ويشاء سوء حظه أن يكون منزل صديقه فى جهة غير آهلة بالسكان وغير محروسة بالشرطة . وهم الشيخ بالنزول فتقدم أحد الذين كانوا فى السيارة الثانية وأطلق النار . أصيب الشيخ إصابة بالغة ولم يمت . وأسرع المارة الى مركز البوليس يخطرونه بالحادث وانتقل البوليس . ولكن الاسعاف لم يخطر إلا بعد مرور ساعة على اصابة الشيخ حسن البنا ، وكان دمه قد نزف كله . فهل أبطأ البوليس فى إخطار الاسعاف أو أبطأ الاسعاف ، وتم نقله الى المستشفى فى حال ميئوس منها ؟

الجواب عند الحرس الحديدى الثانى والرؤوس الكبيرة .

وقد حدثت ليلة قتل الشيخ البنا قصة طريفة . فقد كان يوسف رئيس الحرس الحديدى يسمع الراديو فى آخر نشرته الاخبارية . فسمع خبر الاعتداء على المرحوم الشيخ البنا . فذهب الى التلفون وطلب جناح الملك فى القصر . فرد عليه أحد أتباع الملك . فأخبره بأنه يريد التحدث الى الملك . وعاد رجل الحاشية يقول :

قل لى ماذا تريد لأن الملك مشغول .

فقال له : أرجو أن يكون جلالته مسروراً منا .

رجل الحاشية : مسرور على ماذا ؟

يوسف : على قتل حسن البنا .

فضحك رجل الحاشية وذهب وأخبر الملك . وعاد يقول :

مولانا يقول لك أتلهى على عينك ما شأنك أنت إنهم غيرك .

الهضيبي خلف الشيخ البنا

فى منتصف شهر مايو ( أيار ) 1952 اتصل بى صديق هو الاستاذ محمود عبد اللطيف ، وكان يشغل منصب رئيس نيابة وفى الوقت نفسه كان عضواً بارزاً فى جماعة الإخوان المسلمين . ويعنى هذا طبعاً أنهم لم يكونوا يخافون على أنفسهم من أن تنكل حكومة الهلالى الذى كنت وزيراً فيها بهم .

قال الاستاذ عبد اللطيف : انه يريد مقابلتى . ولما تقابلنا قال إن غرضه من زيارتى أن يجمعنى فى منزله بالاستاذ الهضيبي خليفة الشيخ حسن البنا .

قلت : هل تكلمت مع الهضيبي فى ذلك ؟

قال : نعم والهضيبي يرحب بالاجتماع .

وحددنا عصر يوم للاجتماع . وذهبت فى الموعد الى منزل عبد اللطيف فى شارع الهرم ، ووجدت فى حديقة المنزل عدة أشخاص جالسين عرفت منهم الشيخ الباقورى وعبد الحكيم عابدين . أما الهضيبي فكان جالساً على فوتوى ضخم . حييت الجميع ثم انتقلنا الى داخل المنزل . وأجلسنى عبد اللطيف مع الهضيبي فى كنبة واحدة وقدم لى الشاى . وأخذ عبد الحكيم عابدين بالمبادرة فرحب بى بوجهه الضاحك دائماً . وقال ان الإخوان يكنون لى حباً كثيراً ( مع ان معلوماتى عكس ذلك ) وانهم يريدون معى حواراً مثمراً .

قلت : وأنا بدورى أريد حواراً مع الإخوان صريحاً وانى أرحب بالاجتماع معهم ، لأنى أرغب التكلم فى أشياء كثيرة تدور فى البلد ويقوم الإخوان بدور كبير منها ، وانى أرجو أن تتعرفوا على شخصياً لا عن طريق الاشاعات التى يطلقها قسم الدعاية فى منظمتكم .

عبد الحكيم عابدين : اننا لا نطلق عليك الاشاعات .

انا : يا عبد الحكيم لست وحدى الذى تطلقون عليه الاشاعات . ان قسم الدعاية عندكم لم يترك وزيراً أو سياسياً أو نائباً أو صحافياً شهيراً إلا وأطلق عليه أشنع التهم ومرغ به وبسمعته السياسية أو الشخصية فى التراب .

ثم سكت . ولاحظت أن الهضيبي صامت ينظر حيناً من خلف نظارته الى السقف وحيناً الى البساط . فطلبت منه أن يتكلم وقلت ما رأيك . ولكنه هز رأسه قائلا :

أرجو أن تكمل .

وخرجت الكلمة منه فارغة جوفاء .

استأنفت كلامى وقلت :

يا استاذ هضيبي ، لو أنكم اتبعتم الوسائل السليمة فى دعوتكم ودعوتم الى سبيل ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلتم بالتى هى أحسن ، لما وقع ضدكم ما وقع من اضطهاد ، ولما قتل المرحوم الشيخ حسن البنا . لأن العنف يولد العنف ولا توجد حكومة تقابل القوة باللين والمهادنة . أنتم شعاركم ان الإخوان سيف ومصحف والإخوان رهبان الليل وفرسان النهار ، وقد طبقتم شعاركم بالقتل والنسف . انكم الآن تجمعون كميات كبيرة جداً من الذخائر ، فماذا تنوون أن تصنعوا بها . إن فى منظمتكم عدداً كبيراً من ضباط الجيش والبوليس ، وقد أمكنكم تنفيذ ذلك بما سميتموه مشروع السنوات الخمس .

وبمقتضى هذا المشروع يقسم الإخوان انفسهم على المدارس والكليات فى الجامعة والكليات العسكرية ، وبعد خمس سنوات يكون قد تخرج منهم ضباط بوليس تسعون لادخالهم فى القسم السياسى فى وزارة الداخلية وحرس الوزراء ، وضباط فى الجيش ليدخلوا ادارة المخابرات العسكرية والحرس الملكى ، ومهندسون ليلتحقوا بمصلحة التلفونات والسكك الحديدية . وبذلك تكون فى أيديكم المراكز الحساسة فى البلاد للقيام بعمل انقلاب .

وهنا لاحظت اصفراراً على وجوههم جميعاً ونظرات يتبادلونها فيها شىء من الهلع .

وتابعت : نحن الحكومة نعرف ذلك ونسكت عليه لأن حجتكم من جمع الذخائر هو محاربة الانجليز فى القتال لطردهم . ولكن نعرف أيضاً أنكم تريدون قتل الملك وقتل كثير من الساسة . لقد ضبطنا من أسبوع عامل المصعد فى قصر القبة وهو يحمل مسدساً . ولولا أن الملك بات ليلة خارج القصر لقتله عامل المصعد . وهذا العامل عضو فى جماعة الإخوان . فماذا تقول يا استاذ هضيبي . مع أن الملك استقبلك فى قصره على أثر تعيينك رئيساً للجماعة ، وأفاضت الصحف فى وصف حرارة الاستقبال وثقة الملك بك .

الاستاذ : يلوذ بالصمت .

أنا : اسمع يا استاذ لقد طلب منى صديقى عبد اللطيف أن أقابلك . ها أنذا أقابلك على أساس أن تتكلم على الحال الحاضرة . وأود أن أعرف منك وجهة نظركم ومآخذكم عليها . وأعدك بأن أتعاون معكم على القيام بإزالة كل ما نراه مخالفاً للمصلحة العامة .

الهضيبي : ينظر الى مشككاً كأننى أحاول جره الى مصيدة ولا يرد .

أنا : يا استاذ هضيبي هل ترى كل شىء على ما يرام ؟

الهضيبي : لا أجد شيئاً يدعو الى الملاحظة .

انا : أرى أنك لا تثق بى . فهل تثقون بأمريكا أكثر منا ؟

عبد الحكيم : ما هذا يا استاذ مرتضى .

أنا : نعم ! إن الأمريكيين يرون فيكم حاجزاً قوياً ضد الشيوعية ، باعتبار أن دعوتكم اسلامية وأن الإسلام ضد الشيوعية . ويحاولون كثيراً الاتصال بكم .

عبد الحكيم عابدين : قد يكونون متفقين معنا فى وجهة النظر .

كل ذلك والهضيبي لا يتكلم .

قلت : يا استاذ هضيبي ، أليس لديك شىء تقوله ؟

الهضيبي : وماذا تريد ان أقول ؟

قلت : لقد جئت هذا الاجتماع بقلب مخلص لنتعاون معاً على ازالة أسباب تذمر الشعب ، لكنى أرى بوضوح أنك لا تريد ذلك . ولا أدرى لماذا طلب إلى ان اجتمع بك .

ووجدت ألا فائدة من الحوار ونهضت مسرعاً وانصرفت . وأنا أرى أن البون شاسع بينه وبين المرحوم الشيخ حسن البنا . ولا بد لى هنا من أن أقول كلمة عن الإخوان المسلمين . .

الإخوان المسلمون

بدأ الإخوان دعوة اساسها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من الناحية الدينية ، ثم العمل على نشر العدالة الاجتماعية والمساواة بين الطبقات وانهاء الاحتلال البريطانى . ولقيت دعوتهم صدى كبيراً فى نفوس الشباب الذين لم تتدنس نفوسهم بعد بالفساد وهم يتطلعون الى مستقبل أفضل لهم ولبلادهم ويريدون أن يمحوا عار الاحتلال البريطانى عن وطنهم . وأخذت الجماهير تتسابق الى الالتحاق بالدعوة . ووجدت الحكومات فى هذه الدعوة خطراً عليها فحاربها الوفد ثم حزب السعديين من بعدهم . وكان القصر يخشاها أكبر خشية . وساعد على محاربة الدعوة ، الاغتيالات السياسية وعمليات النسف التى قام بها التنظيم السرى للإخوان . وفى اعتقادى ان التنظيم السرى كان المارد الذى عجزت الهيئة العليا للإخوان عن وضعه فى القمقم بعد خروجه وانطلاقه . وانى أذكر أن المرحوم الاستاذ البنا حينما روع بالاغتيالات التى قام بها بعض الإخوان ، صرح فى الصحف بأن هؤلاء القتلة ليسوا إخوان وليسوا مسلمين . انى أعرف الكثيرين من الهيئة العليا للإخوان ولى منهم أصدقاء أعتز بصداقتهم ، ولهم من سماحة الإسلام وأخلاقه الشىء الكثير ، ولا أعرف عنهم نزعة الشر والقتل . وأظن أنه جاء وقت أصبحوا فيه لا حول لهم ولا طول ازاء التنظيم السرى .

وان الاستاذين البنا والهضيبي كانا غير قادرين على الحد من قوة الجهاز السرى والتسلط عليه . وكان هذا العجز أظهر وأوضح بالنسبة الى الاستاذ الهضيبي .

نهى وصيفة القصر

بعد طلاق الملك من زوجته الملكة فريدة ، أصبحت نهى كانت وصيفة لأخت الملك وصيفة فى القصر بلا ملكة . ودخلت رسمياً مقاصير الحريم الملكى وصارت المحظية الأولى لجمالها وذكائها وجرأتها . كانت نظرة واحدة منها الى الملك تكفيها لتعرف ما يجول فى خاطره . وعلمت من تجاربها فى القصر أن الملق الزائد وإن كان بغيض الى قلبه ، فإنه يجعل المتزلف عنده شخصاً عديم القيمة لا يأبه به . فأقامت خليطاً كيماوياً متعادلا بين الملق وجرأة المصارحة . فهى تتملق بمقدار بسيط يرضى غروره . كأن تقول إنه ذكى أو جميل ثم تصارحه بما لا يصل الى التحدى أو الاستهتار ، ولكن يقف عند حد النصيحة المخلصة . وانجذب الملك الى أنوثتها وعقلها ولم يعد يفارقها . كان يصحبها الى رحلات الصيد فى مصر . والى الكوت دازور فى فرنسا وكابرى فى ايطاليا وقبرص ورودس على يخته الصغير المسمى فخر البحار . وقد طلب منها أن تسافر معه بغير زوجها . ولكنها أبت ونصحته ألا يفعل حتى لا ينكشف الأمر وتصبح العلاقة مثار الاحاديث والشائعات . ولكن الامر كان مكشوفاً بعد أن صارت صحبتها ( رغم وجود زوجها ) للملك غير منقطعة . وكانت فى مصر تصاحب الملك الى نادى السيارات وتظل الى جانبه وهو يلعب الميسر حتى مطلع الفجر . والزوج المسكين كان يذهب الى احدى الصالونات ويتوسد كنبة ينام عليها حتى يوقظه أحد خدم النادى منبهاً الى ان الملك بدأ فى الانصراف . وكانت تدعى مع الملك فى جميع الدعوات الخاصة التى توجه اليه من أصدقائه الأثرياء . وكان هؤلاء الأثرياء يقدمون اليها هدايا نفيسة . لقد أحبها الملك كما لم يحب امرأة أخرى من قبل . وأصبحت نهى ذات تأثير بالغ عليه ، وخصوصاً بعد أن اقتنع بأنها الشخص الوحيد الذى يقول له الحقيقة وانها لا تكذب عليه .

لقد جر عليه هذا الاقتناع بصدقها واخلاصها وبالا كبيراً . وكانت نهى أحد العوامل التى حجبت عن الملك الثورة التى أطاحت بعرشه .

وانتقل يوسف ونهى من شقتهما المتواضعة فى أحد أحياء القاهرة القديمة الى شقة فخمة فى حى الأثرياء . ودخل منزلهما الجديد أثاث فاخر خليط من صالون من طراز لويس الرابع عشر ، الى قاعة الطعام من طراز انجليزى قديم ، الى غرفة للنوم كل ما فيها وردى اللون .

وبعد أسبوع زارهما مصطفى . وما ان دخل الصالون حتى صفر دهشة واعجاباً . وطلب أن يرى بقية الغرف وهو يقول : ايه العظمة دى ايه العز . ثم عاد الى الصالون وجلس على مقعد وثير ، ونظر الى نهى ومط شفتيه وقال : بيقولوا يا ست نهى ان العز بهدلة . كلام فارغ العز عز . والفقر بهدلة .

أخذت نهى بل بهتت لهذه الوقاحة الساخرة . ولكن لم يتملكها شعور بالغضب . وانما شعرت بالضعف أمام ذلك الرجل . فانها امرأة جريئة أمام الملك ، وكبار القوم يقبلون يدها وينحنون وتسيل لها عبارات الاطراء والملق من أفواههم ، اما هذا المخلوق الضابط الصغير الرتبة فإنه يغمزها ويلمزها . أخذت تحس بأنه أقوى منها . وانها أضعف منه . والمرأة بحكم ضعفها تشعر بالحاجة الى العيش تحت جناح الرجل القوى . وأحست نهى بانجذاب غريب نحو الشاب الجرىء الوقح . وكان وجهها يحمر كلما التقى نظرها بنظره . وانصرف مصطفى ولم ينس ان يجود بكلمتى سخرية .

انفردت نهى بنفسها بعد انصرافه وهزت رأسها كأنما تريد أن تنفض عنه تفكيرها فى مصطفى . وهى فى هذه الحال ، قطع التفكير رنين جرس التلفون فى غرفة نومها . كان المتكلم الملك . سألها كيف حالها . شكرته بغير حماس . اعتذر لها عن عدم تمكنه لمصاحبتها هذه الليلة ، لأنه مشغول . قالت له : ما عليك . وهنا قال الملك : ان شخصاً يود الكلام معها . وسمعت صوتاً نسائياً يقول بالفرنسية : كيف حالك يانهى . هل حرزت من انا ؟

كانت تعرف الصوت ولكن قالت من أنت ؟

الصوت : انا نيفين ( وكانت نيفين زوجة احد افراد الاسرة المالكة وترملت بعد وفاته ) .

كاد التلفون يسقط من يد نهى . ولكنها تمالكت نفسها وبادلت نيفين بعض المجاملات . طار من رأسها خيال مصطفى وطارت جاذبيته على اثر الصدمة . فكرت وهى ترتعد : إن نيفين جميلة جداً فهل ستحل محلها فى قلب الملك . ونظرت فى ارجاء غرفة النوم الوردية بهلع : هل يزول هذا العز وتذهب النعمة ادراج الرياح ولم تنم ليلتها . وتوجهت الى القصر لتؤدى وظيفتها الخيالية ( وصيفة بلا ملكة ) وكان الصباح أشد كآبة من الليل ، إذ ان الملك لن يستدعها الى جناحه كعادته . وعادت الى منزلها ومرت ليلة حالكة السواد . ثم مضت أيام ثلاثة لا ترى الملك . ولم تنقطع فيها عن التدخين وشرب الويسكى . وظلت سكرى هذه الايام الثلاثة وزوجها يعجب وان كان يحدس السبب . وفى المساء التالى للايام الثلاثة دق جرس التلفون كما هى العادة فى غرفة النوم . وكانت نصف نائمة ونصف سكرى . وسمعت صوت الملك . أفاقت تماماً وتظاهرت بعدم المبالاة ، ولكن قلبها يكاد يفر من ضلوعها . طلب الملك منها ان تتوجه الى جناحه فى الصباح . ولما جاء الصباح أكملت زينتها ولبست الثوب الذى يروقه ودخلت عليه . فلم تجد شوقه اليها برد . بل قبلها بحرارة وداعبها وأطرى على جمالها ولكنها وضعت اصابعها بدلال على شفته قائلة : مبروك يا مولانا .

الملك : مبروك على ماذا ؟

نهى : على خطوبتك لنيفين .

الملك صارخاً : خطوبتى لنيفين من أين سمعت هذا ؟

نهى : يا سيدى ، ان كثيرين يتكلمون عن هذه الخطوبة ( لم يكن هذا صحيحاً وانما قالته نهى لتعرف الحقيقة ) .

الملك : لم يخطر ببالى أن أتزوج نيفين . انها مجرد صداقة .

نهى : إنى أعرف نوع الصداقة التى تمارسها يا مولاى .

وغمزت بعينها وضحكت .

ضحك الملك قائلا : أراك اليوم غيورة ولكن اطمئنى لن أتزوج نيفين .

نهى : ولكن يا مولاى ، يجب أن تتزوج . ان العرش لا يكون كرسياً واحداً . وانت لم تنجب ذكراً ليكون ولياً للعهد .

الملك : اريد ان أتزوج يا نهى .

نهى : ومن هى تلك السعيدة يا مولاى ؟

الملك ينظر اليها بوله ثم يقول : المشكلة يا نهى انها متزوجة .

نهى : وهل بين جميع نساء مصر لا تجد إلا متزوجة لتكون ملكة .

الملك : لأنى أحبها . ولأنها بذكائها وجمالها تصلح أن تكون ملكة .

نهى : وماذا ستصنع بزوجها .

الملك : حين أعتزم سأطلب منه أن يطلقها .

نهى : هل أنت واثق من قبوله ؟

الملك : أن متأكد .

نهى : هل أعرف من هذه السيدة .

الملك ( وهو ينظر اليها نظرة حنان وبصوت يتهدج ) : أنت يا نهى .

احتبست أنفاسها وكادت تسقط مغشياً عليها . وضعت يدها على قلبها وقالت : يا الهى .

ولكنها التفتت اليه وتمالكت ثم قالت : انك تسخر منى يا مولاى .

الملك : لا انى لا أسخر . ولكن ليكن حديثى معك سراً لا يعرفه أحد حتى أقرر الأمر .

وخرجت نهى من جناحه وهى تقول لنفسها : هل هو حلم . ذهبت الى غرفة نومها بعد أن حيت يوسف بقبلة عابرة . وأقفلت الباب ونظرت الى المرآة وقالت: هذه هى ملكة مصر المقبلة . وأخذت أمام المرآة أوضاعاً مختلفة . الملكة تبتسم . الملكة تحيى . الملكة تفكر . وصارت تضحك وتقفز وتروح وتجىء ، ثم مدت جسدها على السرير تفكر فى يوسف المسكين . إنه قبل مكرهاً أن أكون عشيقة الملك ليعيش من جاه ملوث ، فهل يقبل طلاقى ليمضى حياته فى ركن سحيق من النسيان . لا لن أنساه سأطلب من الملك ان يكافئه بمنصب كبير .

وصارت أيامها بلون الورد . تمشى وكأن قدميها لا تمسان الارض .

ولكنها لم تركب الغرور . وظلت فى بساطتها المعتادة مع أصدقائها ورجال القصر . ومضى عام وهى تنتقل كالفراشة بين زهور أحلامها . حتى استدعاها الملك من منزلها فى يوم مطير قائلا :

أرجو أن تحضرى على عجل . ان الأمر هام .

فتزينت نهى كما لم تتزين من قبل . إن يومها المرتقب قد جاء . سيزف الملك اليها نبأ خطبته لها . وقالت لنفسها : لكن عندما أعود ماذا أقول ليوسف . تباً له . ماذا يهمنى من أمره . سأقول له طلقنى . ان الملك يريد ان يتزوجنى . قد يبكى . سأكفكف دموعه . وأعتقد أنه سيسر للوظيفة الكبيرة التى سينالها .

الصدمة

دخلت نهى على الملك الذى نظر اليها ملياً ، وألقى عبارة إطراء . لاحظت أن إطراءه كان أجوف وأنه أشار إليها بالجلوس على فوتوى لا على الكنبة التى كان يلتصق معها فيها . بدأت نهى توجس شراً ، وخصوصاً أنه لم يقبلها كعادته . جلست تراقبه بعينيها . ومرت دقائق وهو ساكن يدخن سيجاره . ثم دس يده فى جيبه وأخرج مظروفاً أبيض ثم مد يده بالمظروف اليها . واضظرت أن تتقدم نحوه لتتناوله .

قالت : ما هذا يا مولاى ؟

ـ افتحيه .

وفتحت نهى المظروف وأخرجت منه صورة فوتوغرافية . كانت صورة فتاة صغيرة السن ذات وجه أشبه بوجه الطفل . نظرت نهى الى الملك قائلة :

من هى هذه الفتاة ؟

الملك : هل تعجبك ؟

نهى : لا بأس بها . وان كانت صغيرة جداً . ولكن من هى ؟

الملك : هل كل حكمك عليها انه لا بأس بها ؟ ألا ترين انها جميلة ؟

نهى : وهل ترها أنت جميلة ؟

الملك : نعم .

نهى : ما دمت تراها كذلك ، فلا بد انها تعجبك . ولكن لم تقل لى من هى ؟

الملك : انها زوجتى المقبلة .

أمسكت نهى بمسند الفوتوى . دار رأسها قليلا . خيل اليها أن الملك يسمع دقات قلبها . والملك يحدق فيها ولا تبدو عليه أية نظرة إشفاق ورثاء لها . وقطع الملك فترة الألم قائلا :

إنى طلبت منك الحضور لأنى أريد أن تعينيها على أشياء كثيرة . إنها طالبة فى اولى مراحل التعليم الثانوى . لم تدخل الحياة بعد . وهى من أسرة متواضعة . أود أن تختارى لها أجمل الملابس من أكبر دور الازياء ، لأنى أعلم أن ذوقك رفيع ، وأن تعلميها كيف تخاطب الناس . علميها آداب السلوك على المائدة بل علميها كيف تمشى وكيف تجلس . لقد كنت وصيفة بلا ملكة وأصبحت الآن وصيفة ملكة . ولا شك أن ذلك سيسعدك .

تعطلت حواس نهى . ومضت فترة لمح خلالها الملك مدى الألم الذى تعانيه . ولكنه بقلبه الصخرى كان أشبه بقائد كتيبة يطلب من جنده اقتحام حقل ألغام .

أفاقت نهى من ألمها على صوت الملك يقول ان السيارة تنتظرك لتقلك الى منزلها ، لتبدئى على الفور ما أمرتك به . يا الهى لاول مرة تسمع منه عبارة ما أمرتك به .

نهى : سأذهب غداً يا مولاى . انى متعبة الآن وأرجو أن تعذرنى .

الملك : لا بأس . ولكن اذهبى فى الصباح الباكر .

عادت نهى الى منزلها . توجهت الى البار المتنقل وأخذت منه زجاجة من الوسكى وكوباً فارغاً . فتحت الزجاجة وذهبت الى غرفة نومها وأغلقتها وأخذت تفرغ الوسكى فى الكوب وترسله فى حلقها وتعود لتملأه وتشربه حتى انتهت نصف الزجاجة فى دقائق . وأصيبت بسكر شديد وبدأت تصيح وتبكى وتقذف على الأرض والحائط بكل ما تستطيع يدها المرتعشة أن تناله . وسمعت خادمتها صوت صراخها ولم يكن زوجها قد حضر بعد ، فأخذت تدق الباب . ولكن نهى لم تكن تسمع أو تعى شيئاً . كانت ملقاة على الفراش بغير شعور . ومرت ساعة وحضر زوجها . وأخبرته الخادمة بما حصل . فأخذ يدق الباب بعنف . وكلما لم يسمع رداً زاد دقه على الباب وصراخه حتى أفاقت نهى وقامت بحركة لا ارادية ، وهى تترمح صوب الباب ، ووقفت وراءه قائلة بصوت متلعثم من السكر : ماذا تريد ؟

يوسف : افتحى يا نهى .

نهى : دعنى لحالى .

يوسف : افتحى يا نهى والا حطمت الباب .

فتحت نهى الباب بعد لأى وتوجهت مترنحة نحو السرير وارتمت عليه واضعة الوسادة فوق رأسها . وجلس يوسف على حافة السرير وأمسك بيدها .

صرخت نهى :

اغرب عن وجهى يا نحس ، اغرب .

يوسف : ماذا بك يا نهى ؟

نهى : قلت اغرب يانحس . لو لم أتزوجك لكنت اليوم ملكة مصر . وأخذت تهز ساقيها وتبكى .

يوسف : انت سكرى يا نهى ما هذا الهذيان ؟

نهى وقد زاد بكاؤها : دعنى لا اريد أحداً . اخرج حالاً وإلا ألقيت بنفسى من النافذة .

وخرج المسكين . وذهب الى الصالون وجلس يدخن غليونه .

أفاقت نهى وأخذت تتلفت حولها . ونظرت الى نفسها الى المرآة وصرخت : يا الهى أهذا وجهى . انه وجه امرآة مسنة مشوهة . وأشعلت سيجارة . وقالت بصوت يكاد يسمع : لقد حطمتنى يا فاروق وخدعتنى . ولكنى سوف أنتقم منك . سأخدعك على مهل . سأسقيك الخديعة جرعة جرعة . حتى أقضى عليك . والأيام بيننا .

ذهبت نهى فى الصباح الى منزل خطيبة الملك . وكان أثاث المنزل متواضعاً . واستقبلتها ام الخطيبة بترحيب الطبقة المتوسطة البسيط الجميل . ثم جاءت الخطيبة تسير فى خجل وحياء . وقبلتها نهى ، ولاحظت احمرار وجهها وانها تغض من بصرها . وأطرت نهى جمالها ( كذباً طبعاً ) . فشكرتها أمها لأن ابنتها من الحياء لم تقل شيئاً . وبدأت نهى تشرح مهمتها .

وقالت الوالدة : الله يخليه مولانا دا شرف كبير . وانت كمان شرفتينا يا ست نهى والبركة فيك . انت تعملى ما تريدين ونحن طوع أمرك .

وأقبلت نهى بحماس غريب على خدمة الملكة المقبلة . وأخذت تصاحبها الى أكبر دور للازياء ، والى ومتجر العطور وتذهب الى متاجر الاحذية والقبعات ، وتطلب منهم التوجه الى منزل الخطيبة . وكانت تأخذها الى الحلاق وتشير اليه بما يجب ان يصفف عليه شعرها . فعلت ذلك لأنها تريد أن تبقى موضع ثقة الملك . ولو تركت القصر فلن تستطيع ان تنفذ خطة الانتقام . ان الذى يريد ان يخرب يجب ان يكون فى الداخل لا فى الخارج . وكانت هذه خطة انتقام العقل .

وانفعت نهى الى أحضان مصطفى وأصبحت عشيقته . وهذا انتقام القلب .

الحرس الحديدى

كان الحرس الحديدى كما قلت مكوناً من خمسة ضباط ومدنى واحد فى أول الأمر . ثم أخذ يتسع وخصوصاً بطائفة صغار الضباط . فلماذا انضم هؤلاء الضباط الى الحرس الحديدى ، وهل هناك دوافع غير حب التنقل الى القاهرة أو الترقية الى رتبة أعلى ؟ أو التقرب من حاشية الملك هى التى دفعتهم الى ذلك ؟

ان بدء تكوين الحرس الحديدى كان فى عام 1943. ولم يكن مصطفى وخالد وفهمى وحسن قد دخلوه . وان كان قد دخله ضابطان آخران كانا على صلة وثيقة بيوسف ، نظير خدمات جمة قدمها اليهما الى أن جاءت حرب 1948 وقامت على اثر انتهائها حركة الضباط الأحرار التى كانت دوافعها ارسال الجيش الى الحرب ضد إسرائيل بغير استعداد وتحت قيادة هزلية وبأسلحة فاسدة . وحركة الضباط الاحرار لم تكن خافية على الحكومة . وقد عرف بقيامها إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء بل هو عرف ان المرحوم جمال عبد الناصر كان على رأس الحركة فأرسل يستدعيه بحضور الفريق محمد حيدر وزير الحربية وقائد الجيش .

ولما دخل عبد الناصر أدى التحية العسكرية . وظل واقفاً . فنظر اليه إبراهيم عبد الهادي وقال :

أتعرف لماذا استدعيتك ؟

عبد الناصر بهدوء : لا أعرف .

عبد الهادى : بلغنى أنك تقود حركة تسمى نفسها الضباط الاحرار . فهل هذا صحيح ؟

عبد الناصر بنفس الهدوء : غير صحيح .

عبد الهادى : ألا تجتمع بالضباط ؟

عبد الناصر : اجتمع بأصدقائى كأى مواطن . أليس لى الحق ؟

الفريق حيدر : يا دولة الرئيس أظن ما بلغك مبالغ فيه . وعادة الضباط أن يتجمعوا مع بعض ويدردشوا ويمزحوا وأحياناً يلعبون الورق . قالها ضاحكاً .

عبد الهادى : على كل حال إنى أطلب منك الابتعاد عن القيام بأى حركة .

ولقد كانت هذه المحادثة انذاراً لعبد الناصر بأن يأخذ حذره وان يعمل تحت طى الكتمان الشديد . وأصبح الشخص المتهم امام الحكومة والذى تلوك اسمه الالسن ليس عبد الناصر ولكنه اسم آخر . هو اسم أنور السادات : كان اسم السادات هو الذى يتردد على أنه زعيم الضباط الاحرار ، باعتبار أنه كان مع عزيز المصري يؤيد المحور ضد انجلترا سنة 1942 . وقد فصل من الجيش ، لذلك لم يعد إلا سنة 1948 . وقد اعتقل فى سجن المنيا سنة 1942 . اعتقلته حكومة الوفد بإيعاز من الانجليز . كل هذه الاحداث جعلت اسمه بارزاً كضابط ثائر . وما دامت هناك حركة ثوار فلا بد ان يكون السادات على رأسها . وكانت أغلب تقارير البوليس اذا تناولت حركة الضباط الاحرار رددت اسم البكباشى أنور السادات . ولم يظهر اسم جمال عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة إلا متأخراً عام 1952 ، على اثر حادثتين سآتى على تفاصيلهما فى فصل لاحق .

ورأيى ان الثورة قد انتفعت كثيراً من كون واجهة السادات حجبت واجهة الآخرين ، فراحت تعمل فى الخفاء والعيون تراقب السادات ولا تراقب الباقين الى لحظة متأخرة قبل قيام الثورة .

ولنعد الى مصطفى وخالد وفهمى وحسن من اعضاء الحرس الحديدى . فمصطفى كان تروتسكياً من جماعة من أبرز الجماعات الشيوعية فى مصر . وكانت حركتهم تسمى ( حدتو ) كما ذكرنا سابقاً . وكان مصطفى يسمى نفسه رئيس الجيش الجمهورى . فهل اندس فى الحرس الحديدى لاشباع رغباته المادية فقط أو ان جماعة ( حدتو ) هى التى دفعته الى ذلك ليكون محيطاً بأسرار القصر ؟ وكذلك فهمى وخالد وحسن الذين كانوا من الصف الثانى من طبقة الحرس الحديدى لاطماعهم الشخصية ام دخلوها بايعاز من زعماء الحركة ؟ وانى أرجح الرأى الأخير . لأنهم بالتصاقهم بالحرس الحديدى وبيوسف ونهى أمكنهم أن يحموا الى حد كبير ظهر الثورة من تحرك الحكومة .

يوم 25 يناير ( كانون الثانى ) 1952

فى يوم 25 يناير ( كانون الثانى ) 1952 ، كنت فى منزلى جالساً أحتسى قدحاً من الشاى . ويقع منزلى فى حى زيزينيا بالإسكندرية ، وكنت محافظاً لها ، وكنت أشعر بشىء من الحمى . فتناولت مع الشاى حبة من الاسبرين وكانت الساعة تقرب من السادسة مساء والى جانبى جهاز الراديو . ففتحته لاستمع الى أخبار محطة لندن . وأول خبر سمعته هو وقوع اصطدام بين قوات الشرطة المصرية أو ما يسمى " بلوك " النظام وبين القوات الانجليزية فى مدينة الإسماعيلية على قناة السويس . وان القوات الانجليزية بدباباتها ومدافعها الثقيلة اشتبكت مع رجال الشرطة المسلحين ببنادق من طراز رمنجتون القديمة ، وهاجمت ثكنتهم ، وانهم لم يستسلموا إلا بعد أن نفذت ذخيرتهم ودكت القنابل ثكنتهم وبلغ عدد ضحاياهم ستين جندياً .

قمت من مقعدى وأخذت أذرع الغرفة ذهاباً وجيئة ثم عدت وجلست أفكر . ان فى الإسكندرية عدداً كبيراً من قوات " بلوك " النظام . وحين يسمعون قتل زملائهم فلن يهدأ لهم بال . والجماهير لا بد أن تقوم بمظاهرات واحتجاجات عنيفة . والإسكندرية هى مركز تموين النفط ، وفيها أكبر مخازن الغلال والقطن والاخشاب . وفيها أكبر مستودعات البترول . فاذا اندست عناصر التخريب بين الجماهير وأشعلت النار فى تلك المستودعات فإن الأمر سينقلب الى كارثة محققة ، ولن تجد مصر حاجتها من الغلال والأخشاب والبترول لمدة طويلة ، وتفقد مصر ثروة عام من محصول القطن .

قررت أن أعمل فوراً . وطلبت قائد الشرطة اللواء يسرى قمحة وقلت له بما سمعته وما فكرت فيه .

قال : وماذا نستطيع ان نعمل ؟

قلت : ضع الإسكندرية من منتصف الليل تحت نظام طوارىء ، وأرسل جنود البوليس يحتلون فوراً جميع المستودعات وصهاريج البترول . واجمع جنود " بلوك " النظام ، وأرسلهم بلوريات عند الفجر الى الصحراء العامرية .

وكانت لهم علاوة طوارىء لم تصرف . فأمرت بفتح الخزينة الساعة الحادية عشرة مساء رغم احتجاج الرئيس المالى المسؤول عنها ، بأن الصرف لا يكون إلا بأمر وزارة المالية . وأعطيته تعهداً بمسؤوليتى ، واتصلت بقائد حامية الإسكندرية . وطلبت منه المساعدة بانزال جنود الجيش لحراسة المرافق العامة كالماء والكهرباء والبريد ومحطة السكك الحديدية . فاتصل بدوره بقائد الجيش الذى تردد كثيراً فى الموافقة ثم وافق أخيراً . وطلبت من قائد الشرطة ايقاف وتفتيش القطار القادم من القاهرة الى الإسكندرية ، والذى يبرح القاهرة الساعة الحادية عشرة مساء ويصل الى الإسكندرية الساعة الخامسة صباحاً . ولم يخب ظنى ، فقد كان فى القطار حوالى خمسين شخصاً يحملون مواد حارقة ومعاول ومتفجرات . فقبضت عليهم الشرطة . وفى صباح 26 يوليو ( تموز ) كان الجيش والبوليس يشددان قبضتهما على جميع المرافق بالإسكندرية . وجنود " بلوك " النظام كانوا فى العامرية يمضون عند البحر وقتاً سعيداً ويشترون بالنقود المتوفرة معهم ما ترغب فيه نفوسهم . وظلت الحالة هادئة بالإسكندرية ولكن ما الذى جرى فى القاهرة ذلك اليوم .

حريق القاهرة الكبير

فى الساعة العاشرة من صباح 26 يناير ( كانون الثانى ) 1952 اتصل بى تلفونياً وزير الداخلية فؤاد سراج الدين وسألنى : كيف الحال فى الإسكندرية ؟

قلت له : انه هادىء إلا بعض تظاهرات فى الجامعة وبعض المدارس .

قال : وهل " بلوك " النظام مشترك فيها .

قلت : لا .

فقال : غريبة .

وسكت .

استلفت نظرى قول غريبة . فسألته : هل " بلوك " النظام فى القاهرة يشترك فى المظاهرات ؟

قال : نعم .

قلت : وكيف الحال عندك ؟

قال : توجد تظاهرات ولكن الموقف هادىء على وجه العموم .

وانتهى الحديث التلفونى . وبعد ساعة بدأت الانباء تتوارد من القاهرة . فندق شبرد الكبير يحترق والنزلاء يرمون بأنفسهم أو يرمى بهم من الادوار العليا للنجاة من الحريق . المتاجر الكبرى التى يملكها الأجانب تحترق وينهب ما فيها . البنوك تنهب من خزائنها الأموال وتلقى من النوافذ ، ويملأ الناهبون جيوبهم والجماهير تقتسم الأموال . نادى الترف الانجليزى يهاجم ويضرب الانجليز داخله ويقتلون . بعض دور السينما قد احترقت . الملاهى والمقاهى تشتعل فيها النيران والارتيستات يلقى ببعضهن من أعلى الملهى الى الشارع . وأخذت الاشاعات تتضخم وتهول . الى أن انتهت بأن تصورنا أن القاهرة قد احترقت عن بكرة أبيها . لقد ظل حريق القاهرة الى الآن سراً مطوياً . وأصبح السؤال : من الذى حرق القاهرة لغزاً محيراً حتى الآن . ولعلى أستطيع فى هذا الفصل من كتابى أن القى الكثير من الضوء على حريق القاهرة يوم 26 يناير ( كانون الثانى ) 1952 .

فى مساء 27 يناير 1952 ، أقال الملك فاروق حكومة النحاس وعهد الى على ماهر بتشكيل الوزارة . وضمنى على ماهر الى وزارته . وعينت وزيراً للداخلية . وكانت هذه أول مرة أدخل فيها الوزارة . كان أول واجب على أن أقوم به هو معرفة الفاعلين والمدبرين لحريق القاهرة . وعقدت اجتماعاً مع وكلاء الوزارة ومدير الأمن العام ومدير البوليس وحكمدار القاهرة ورئيس القسم السياسى فيها وناقشتهم . ولدهشتى العميقة لم أجد واحداً منهم يحدد بالضبط من الذى حرق القاهرة .

قلت : لا شك ان الذى حرق القاهرة ليس فرداً واحداً ، ولكنها جماعة أو جماعات منظمة أعدت عدتها لذلك . ولا يمكن أن تكون أدوات الحرق وكسر الخزائن والأبوب وجدت أمام المتاجر والفنادق والبنوك جاهزة .

قالوا : لا شك .

قلت : ألم يكن عندكم علم من قبل بتلك الاستعدادات .

سكتوا . وهنا قال حكمدار القاهرة :

لقد فوجئنا باشتراك قوات " بلوك " النظام فى المظاهرات وفقدنا عنصراً أساسياً لحفظ الأمن .

قلت : الأم يكن فى تقديركم أن يحدث ذلك .

قال : لم يخطر ذلك فى بالنا .

قلت : هل أخرج من الاجتماع بنتيجة أنكم لا تعرفون من الذى حرق القاهرة ؟ انى اذا خرجت بهذه النتيجة لا تكون فى مصلحة أى منكم ، لأن معنى ذلك أنكم مقصرون فى أداء واجبكم . وأنا لا أطمئن الى العمل مع المقصر . لقد اطلعت منذ ساعة على تقارير طلبتها عن حريق القاهرة قبل أن أجمعكم وأناقشكم . أتعرفون ماذا وجدت فى هذه التقارير ؟ لا شىء غير دفتر احوال المطافىء عن زمان كل حريق وقيام عربة المطافىء اليه . فمثلا الساعة الحادية عشرة ذهبنا الى إطفاء حريق مقهى بديعة ومنعنا المتظاهرون من استعمال خراطيم المياه . الساعة الثانية عشرة ذهبنا لاطفاء حريق فندق شبرد وحطم المتظاهرون عربة الحريق . إنى أسألكم الآن : من هم هؤلاء المتظاهرون ؟ وهل قبضتم على واحد منهم ؟ إنى أطلب معرفة المحرضين والفاعلين ولم أطلب معرفة جهود رجال الاطفاء .

قال الحكمدار : نحن فى سبيل التحقيق . وقد قبضنا على عدد ممن اشتركوا فى الحريق .

قلت : وما عددهم ؟

قال : حوالى العشرين شخصاً .

قلت : هل يعقل ان يكون عدد من اشتركوا لم يتجاوز العشرين ؟

قال : نحن فى سبيل التحقيق . وسنقدم تقريراً . أرجو امهالنا اسبوعاً .

قلت : سأعطيكم هذه المهلة . والى اللقاء .

بعد اسبوع تقدم الى رئيس المباحث بتقرير مدعم برسم هندسى لبعض أحياء القاهرة ، وأسهم تشير الى مواقع بعض الأبنية يصحبه رسم آخر عن قنابل حارقة ومعاول لم أر لها مثيلا من قبل . أما التقرير فيشير الى الرسوم الهندسية لأحياء القاهرة والأماكن المشار اليها بأسهم لحرقها . والصور الموجودة فى الرسم الآخر للقنابل الحارقة والمعاول وجدت جميعها فى دار الحزب الاشتراكي ، وكان يسمى من قبل " حزب مصر الفتاة " . وهذا الحزب يرئسه المحامى أحمد حسين . وقد صب التقرير الاتهام بحريق القاهرة على الحزب الاشتراكى . أخذت أقلب الرسمين . فوجدت الافتعال واضحاً فيهما . انهما مطبوعتان بالزنكوغراف ، ولما كنت أعرف خبيراً أجنبياً فى الزنكوغراف ، كنت أستعين به حين كنت مديراً للامن العام فاستدعيته . ولما اطلع على الرسم قال ان الرسم الزنكوغراف لا يمكن أن يكون قد تم بواسطة خبير فى المبانى أو فى المفرقعات . وانه يظن انه يعرف المطبعة التى طبع فيها الرسمان . وهى مطبعة بسيطة جداً فى زقاق من حى الفجالة بالقاهرة .

طلبت من النائب العام ان يتولى التحقيق . فأرسل احد وكلاء النيابة الى المطبعة . وأجرى تحقيقاً انتهى الى أن أحد ضباط القسم السياسى فى محافظة القاهرة هو الذى حمل الرسم الى المطبعة وطبع هذه الوثيقة الزائفة .

أصبح السؤال الكبير هو : لماذا يريد البوليس السياسى أن يلقى التهمة على الحزب الاشتراكى وحده ؟ لقد أمرت حكومة الوفد نتيجة تقارير البوليس بالقبض على أحمد حسين وعدد كبير من أعضاء الحزب الاشتراكي . وكانت من قبل قد عطلت صحيفة الحزب الاشتراكي .

وفر أحمد حسين ولم يستطع البوليس القبض عليه .

إنى أعلم من سابق خبرتى أن الحزب الاشتراكي لا يستطيع وحده ولا تسمح إمكانياته القيام بعمل كبير ، ويحتاج الى تنظيم دقيق وكبير مثل حريق القاهرة . لقد جر أحمد حسين الى نفسه هذا الاتهام لأنه كان ينادى دائماً بأنه لابد من التدمير حتى يتم الاصلاح . وقد وجدت عند مبنى دار الحزب الاشتراكي بواسطة النيابة أوراق استند اليها رجال المباحث فى اتهام أحمد حسين . منها لافتات مكتوب عليها ( يدير هذا المحل الانجليز الذين يقتلون اخوانكم بالإسماعيلية ) . ومنشور بأن سينما مترو يديرها يهودى اسمه جوستان زيك . وان سينما ريفولى انجليزية ( وقد جرت محاولة احراقها يوم 26 يناير ) . وخطاب بالانجليزية من سكرتير نادى الترف الانجليزى الى بكر أحمد عبد الجواد يطلب منه إقامة خيام وفرش سجاجيد بالنادى ، ومرفق بعقد اتفاق بالانجليزية والعربية بين المستر توماس السكرتير وبكر عبد الجواد الذى هو عضو فى الحزب الاشتراكي . وموضع الغرابة فى هذا الاتفاق أنه يجرى بين سكرتير نادى " الترف " الانجليزى وعضو فى الحزب الاشتراكي ، ويظل من محفوظات الحزب ، فى حين ان الحزب يندد بالذين يتعاقدون مع الانجليز . كما وجد خطاب موجه الى رئيس الحزب ، بان بنك باركليز يعمل كقلم مخابرات للسلطات الانجليزية . ولكن جماعات أخرى كالإخوان المسلمين ينادون بمثل هذا . وتذكرت أن الإخوان المسلمين كانوا قد قاموا قبل حريق القاهرة باشعال بضع حرائق فى ملاهى الهرم . والغريب انه لم يقبض على أحد منهم رغم ان الإخوان أعلنوا أنهم هم الذين قاموا بذلك . فهل كانت حرائق ملاهى الهرم بروفة لحريق القاهرة .

ومن الذى قام بحريق القاهرة ؟

مسلسل الحوادث

نشرت وزارة الداخلية بياناً مساء 25 يناير أعلنت فيه أن القوات البريطانية اعتدت فى منطقة القنال على رجال البوليس فى المنطقة ، وقتلت خمسين منهم وجرحت ثمانين وأسرت ما يقارب الالف من جنود وضباط . وكان لهذه الاذاعة أثر فعال فى نفوس رجال البوليس وبلوكات النظام ، وخصوصاً الشعب بكافة طبقاته . وكان الأثر ما يأتى : فى الساعة الثانية من صباح 26 يناير 1952 وقع فى مطار فاروق عصيان خطير من عمال المطار والجنود والمواطنين المدنيين حول أربع طائرات تابعة لشركة الخطوط الجوية البريطانية ، إعلاناً لاحتجاجهم على حادث الإسماعيلية . فمنعوا نزول الركاب وعددهم يفوق المائة ومنعوا تزويد الطائرات بالوقود . وتمكنت السلطات من انهاء العصيان ، وأقلعت الطائرات . وفى الساعة السادسة من صباح تمرد جنود بلوكات نظام الاقاليم وخرجوا يحملون أسلحتهم وساروا من العباسية حيث توجد معسكراتهم الى الازهر ، حيث انضم اليهم الطلبة ، فإلى ميدان محمد على حيث انضم اليهم بعض عساكر الجيش ، فالى ميدان الإسماعيلة فى الجيزة حيث جامعة فؤاد ، واختلطوا بالطلبة وأخذوا يطلقون النار فى الهواء . وقام عمال العنابر والسكك الحديدية بمظاهرة واندمجوا مع الطلبة وبلوكات النظام ثم توجهوا الى مجلس الوزراء . وخرج وزير الشؤون الاجتماعية عبد الفتاح حسن الى الشرفة ليخطب فيهم محاولا تهدئتهم . صرخوا فى وجهه وهتفوا بسقوطه . وقام أحد ضباط الجيش واسمه محمد علي عبد الخالق وكان محمولا على أعناق المتظاهرين وصاح :

أيها الوزير . الجيش للحرب . لماذا لم ترسلونا الى القتال ؟

زاد حماس المتظاهرين . وحاول عبد الفتاح حسن تهدئتهم فأخذ يهتف بسقوط الانجليز والاستعمار . اندفعت الجماهير فى الشوارع وقد اندست فيها عناصر الشغب والتدمير تحمل القنابل الحارقة والمعاول ، فحرقوا كازينو الاوبرا فى الساعة الثانية عشرة وسينما ريفولى الساعة الواحدة والربع ، وفى الواحدة والنصف تم حريق واتلاف سينما مترو ومحل اكسلسيور وفورد والترف كلوب وسينما ديانا ومطعم الكورسال ، وفى الثالثة والدقيقة الثلاثين أتلف وأحرق ونهب بنك باركليز وشركات سيارات كايروموتورز وكريزلر ثم سينما متروبول ومحلات شيكوريل وجروبى . وكانت بعض الحرائق مفاجئة ورهيبة حتى ان نزلاء فندق شبرد كانوا يلقون بانفسهم من الطوابق العليا والنار مشتعلة فيهم . والسؤال : أين كانت وزارة الداخلية ؟

ادارة الامن العام اتصلت بالوزير فى منزله الساعة السابعة والنصف صباحاً ، تخبره عن قيام تظاهرات ومعها جنود " بلوك " النظام . الوزير يطلب من مدير الامن العام بأن يطلب من الجنود تفريق التظاهرات . لم يقل له مدير الامن العام أن الجنود المطلوب منهم تفريق المتظاهرين هم متمردون ومتظاهرون . الساعات تمر حتى الثانية عشرة والنصف بعد الظهر ، حيث بدأ المتظاهرون يشعلون الحرائق ويدمرون وينهبون . عندئذ أحس وزير الداخلية أن عليه أن يعمل شيئاً . فاتصل بقائد القوات المسلحة يطلب نزول الجيش . ووعد قائد القوات بعرض الامر على الملك . ولكن وزير الداخلية حاول الاتصال فى الساعة الواحدة بقائد القوات المسلحة ليبلغه أنه عدل عن طلب نزول الجيش لأنه اطمأن الى ان قوات البوليس تسيطر على الموقف . ولما لم يجد قائد الجيش الفريق حيدر اتصل برئيس الديوان حافظ عفيفي وأبلغه رأيه بالاستغناء عن الجيش . ولكن وزير الداخلية عاد فى الساعة الواحدة والربع أى بعد ربع ساعة من عدوله يطلب نزول الجيش لأن المتظاهرين اشعلوا النار فى سينما ريفولى وسينما مترو بينما رجال البوليس لا يقاومون .. فأين كان قائد الجيش الفريق حيدر ؟

المأدبة الملكية لقائد الجيش وحامية القاهرة

فى يوم 25 يناير 1952 وجه الملك فاروق دعوة عاجلة الى قائد الجيش وكبار ضباطه وجميع ضباط حامية القاهرة وكبار ضباط بوليسها لحضور مأدبة غداء فى قصر عابدين حددت لها الساعة الواحدة والربع بعد ظهر يوم 26 يناير ! وكان غريباً أن وزير الحربية مصطفي نصرت او وزير الداخلية فؤاد سراج الدين لم يدعيا الى هذه الوليمة التى أقيمت لضباط الجيش والبوليس . ويستوقف النظر كثيراً أن وليمة ملكية حددت بعد 24 ساعة أو أقل من ارسال الدعوة ، وان الدعوة لم تكن مكتوبة فى بطاقات أرسلت باليد أو بالبريد بل أبلغت تلفونياً الى قائد الجيش الذى أبلغها بدوره الى قواد الوحدات الذين أبلغوها الى الضباط ، وان الوليمة بدأت فى الوقت الذى أخذت القاهرة فيه تحترق .

والسؤال الأول : هل كان الشكل الذى اتخذته الدعوة الى الوليمة طبيعياً ؟ ولا شك أن الجواب على ذلك هو أنه غير طبيعى ، وخصوصاً أن الداعى ملك وأن عدد المدعوين كبير جداً .

والسؤال الثانى : هل كانت مصادفة بحتة أن يدعى جميع ضباط حامية القاهرة الى وليمة تحترق القاهرة فى اليوم المحدد لها ؟ والجواب على ذلك انه يمكن ان تكون مصادفة ، لو أن الدعوة وجهت قبلها بعشرة ايام او اسبوع على الأقل أو أن يوم 26 يناير هو مناسبة من المناسبات كعيد جلوس الملك أو عيد ميلاده أو عيد ميلاد ولى العهد . ولكن يوم 26 يناير لم يكن مناسبة من هذه المناسبات .

ثم سؤال آخر وهو : لماذا اقتصرت الدعوة على حامية القاهرة فقط ولم يدع اليها كبار ضباط حامية الإسكندرية أو القنال ؟ وأخيراً :

أليس من الغريب أن تكون الدعوة الى جميع الضباط من صغار الرتب وهم ما لم تجر عليه العادة فى القصر الملكى ؟

ولنترك التساؤل الآن ولنعد الى وزير الداخلية والى تصرفات الملك فاروق معه . وسيلقى ذلك مزيداً من الضوء على غرابة ما حدث فى ذلك اليوم .

الملك فى المأدبة والقاهرة تحترق

دخل الملك قاعة المأدبة فى الساعة الواحدة والربع وقام الضباط وأدوا التحية العسكرية له ، وكان مرتدياً ملابس المشير عابس الوجه . فرد التحية كأنه عسكرى متمرس ، وجلس الى جانبه الفريق حيدر والفريق عثمان المهدي رئيس الاركان . وفى الواحدة والثلث وصلت رسالة الى الفريق حيدر اطلع عليها ثم مال نحو الملك وأسر اليه بأنها رسالة من وزير الداخلية يطلب نزول الجيش . قال الملك له دعنا ننظر فى أمرها بعد انتهاء المأدبة . وانتهت المأدبة فى الساعة الثانية والنصف بعد أن وقف الملك ودعا الضباط الى الاقتراب منه وقال :

أيها الضباط ان حوادث خطيرة تحدث فى البلد . وانه لا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة . وأنا أعتمد فى ما سأتخذه على ولائكم وثقتى فيكم . لأن الحال الخطيرة التى تجتازها البلاد لا يمكن أن تستمر .

وانصرف الضباط . ولم يقل لهم الملك أى شىء عن حريق القاهرة أو التوجه فوراً الى ثكناتهم ، لأنهم قد يستعدون للنزول بجنودهم الى شوارع القاهرة .

أما وزير الداخلية فإنه لما يتصل به أحد من القصر ، غادر مكتبه فى الساعة الثانية والربع ، فوصل الى القصر فى الساعة الثانية والنصف ليستعجل الأمر . وقابل رئيس الديوان حافظ عفيفي وشرح له خطورة الحالة ، وطلب اليه رفع الأمر فوراً الى صاحب الجلالة . فقام رئيس الديوان للتشرف بالمقابلة الملكية ومعه الفريق حيدر . وعادا اليه فى الساعة الثالثة إلا ربعاً وأبلغاه ان الملك أمر بنزول الجيش . فكيف نفذ الأمر ؟ وماذا صنع الجيش ؟

اتصل الفريق حيدر بالفريق عثمان المهدي تلفونياً من قصر عابدين فى الساعة الثالثة إلا ربعاً ، وطلب منه أن ينزل الجيش بأكبر عدد من القوات . وسأله عن الوقت الذى يراه كافياً لنزول القوات .

الفريق مهدى : ان الأمر يقتضى بإعداد اللوريات والجنود واستدعاء الضباط الذين توجهوا الى منازلهم أثر الوليمة الملكية . وهذا يستدعى ثلاثة أرباع الساعة . وعلى ذلك فالقوات ستنزل الى المدينة فى الثالثة والنصف .

الفريق حيدر : أرجو أن تبدأ فوراً بالعمل .

ولكن فى الساعة الرابعة اتصل محافظ القاهرة بوزير الداخلية فى مكتب رئيس الديوان ، وكان الفريق حيدر موجوداً وقال ان الجيش لم يصل بعد الى حديقة الأزبكية ، حيث يتجمع هناك ليوزع على أحياء القاهرة ، وطلب من الوزير الالحاح على قائد الجيش ليعجل بإرساله . وفى الرابعة والربع تكلم المحافظ والهلع يسيطر عليه عن انتشار الحرائق والتخريب . واستنجد بالوزير الذى ظل مرابطاً فى القصر ثم أعاد المكالمة ، وقد بلغ انزعاجه حده بعد ربع ساعة أخرى أى فى الرابعة والنصف ، فطلب الوزير من الفريق حيدر ان يستعجل الفريق المهدى . وفى الخامسة مساء وصل 150 جندياً الى حديقة الأزبكية ثم زيدوا الى 250 فى الساعة الخامسة والنصف . وبدأت القوات تغادر الحديقة فى طريقها الى شوارع المدينة . وفى السادسة والنصف اتصل المحافظ المسكين بوزير الداخلية ليقول له ان قوات الجيش التى نزلت الى المدينة تمر فى الشوارع امام المتظاهرين الذين يحطمون المحلات التجارية فيصفقون لها ويحيونها بالمعاول ، وهى لا تطلق النار حتى فى الهواء . فغضب الوزير وطلب من حيدر الاتصال بالمهدى . فرد المهدى قائلا إن قوات الجيش لا تستطيع اطلاق النار إلا بأمر كتابى . وصرخ الوزير فزعاً وارتمى خائراً على مقعد ظل فيه حتى السابعة إلا عشر دقائق مساء ، ولم يصل اليه نبأ من الفريق المهدى ليطمئن قلبه . فغادر القصر الى رئاسة مجلس الوزراء حيث كان المجلس منعقداً لمناقشة الحال حتى الساعة التاسعة مساء ، والقاهرة لا تزال تحترق الى أن دق جرس التلفون ، وكان المحافظ . فهرع الوزير الى الهاتف عله يسمع خبراً . ولكن يده تراخت مع السماعة حين قال له المحافظ ان عدد القوات المسلحة لا يزيد عن 500 ، وانها ممتنعة عن اطلاق النار على المخربين . واستمرت الحرائق حتى الساعة الحادية عشرة مساء حين بدأ تدخل الجيش الفعلى باطلاق النار .

المحل الوحيد الذى أسرع الجيش اليه هو كازينو الاوبرج .

وقد ذكرت من قبل الحرائق الكبيرة التى حدثت قبل نزول الجيش . اما بعد نزوله فقد حدثت أيضاً حرائق كبيرة منها :

1 ـ الاعتداء على محلات أوروزدى باك ( عمر أفندى ) وهى على بعد خمس دقائق من حديقة الأزبكية ، مركز تجمع قوات الجيش .

2 ـ حريق عمارة الشواربى ، وهى على بعد ثلاث دقائق من حديقة الازبكية .

3 ـ حريق محلات شملا ، وهى على بعد دقيقتين .

4 ـ حريق محلات بنزيون على بعد ثلاث دقائق .

5 ـ حريق محلات شارع محمد على على بعد ثلاث دقائق .

6 ـ حريق نادى شل الرياضى على بعد ربع ساعة .

7 ـ حريق كازينو الاوبرج فى شارع الهرم بين الساعة السادسة والنصف والثامنة والنصف مساء . ومن الغريب ان الكازينو على بعد نصف ساعة على الأقل من حديقة الازبكية ، وان قوات الجيش تحركت اليه بمجرد التبليغ ، ووصلت فى الساعة السابعة والربع مع المطافىء . وكازينو الاوبرج هذا هو الذى يمضى فيه الملك فاروق سهرته آخر الليل وصاحبه يدعى ادمون صوصة وهو من حاشية الملك المقربة ! !

من الذى حرق القاهرة ؟ وما دوافعه ؟

فى منشور سرى من منشورات بعض الضباط الثائرين ، وممن كانوا يعملون ضمن كتائب الفدائيين التى تغير على الجنود الانجليز فى حدود مديرية الشرقية مع القناة جاء ما يلى :

من عليه الأمل معقود ؟ انه الجيش ، وهو فى الدرجة اولى من الاعتبار ذو الامل المنشود ، يضاف اليه عنصر آخر هو عنصر البوليس . بورك فسادكم أيها الرأسماليون . فقد ساعدتم الخطة على الكمال . وتنمو العلاقة وتتوثق ربطتها وتعمل جمعية الضباط الاحرار من شباب الجيش فى اخلاص ودقة . جنود الجيش من أبناء الشعب ويفهمون الجندية على أنها حكم قاس من أحكام القدر الظالم . أخونا عسكرى الجيش يجب ان تفهم ان الجندية هى حكم رهيب لقدر ظالم جبار . هذا هو الف باء العلم والتصقيل .

الجندى يقول له الضابط فى دروس المعسكر : اسمع يا عسكرى ، انت وهو ، انا ضابط ابوياً ليس باشا ، أنا مثلك آكل طعمية وفول مدمس زى ما بيكلو أهلى استطاعوا التحمل بالقليل مما لديهم ليجعلونى ضابطاً . ونحن محكومون بطغمة يمتصون ثروات البلد ، ويأكل الشعب التراب ، والانجليز الكفرة المجرمون يقتلون المصريون فى القنال والشرقية لأنهم لا يريدون الجلاء . ان الضباط الأحرار هم ثمرة التجاوب الثورى وانبثاق الأمل فى الجيش . لقد برق الأمل الكبير . ان الانجليز دكوا مدينة الإسماعيلية وقتلوا وأسروا البوليس ، والبلاد تجتاحها موجة سخط شنيع . فعلى هيئة القيادة ان تسرع وتمهد للتغيير . الخطوة الأولى أن يفر جنود من الجيش وينضموا الى فدائيى الكتائب ، وعند ساعة معينة من صباح يوم السبت تبدأ حركة إرهاب تعد من أخطر ما عرفت مصر من تاريخها . ذلك ان يحضر بعض الفدائيين المزودين بأدوات الساعة أى القنابل المحرقة والخناجر والمسدسات ، وتقسم هذه الفرق فى أنحاء القاهرة ثم تخرج معها القوى الشعبية لتحرق أماكن معينة من المدينة مما ينشر الذعر . هنا الثورة فى قلب العاصمة التى تدفع النفوس نحو تنفيذ الخطة المدبرة ويلفت النظام مركزياً . ستحرق أماكن اللهو ودور القمار والخمر . هذه هى النهاية التى كانت فى حسبان أولى الشأن ، ولكننا انها نهاية لم تبلغ بعد .

ويختم المنشور بقوله : يا لخيبة الامل . ويا لها من خيبة قاتلة جاءت فى لحظة رجاء مشرقة فى ذمة الله . لقد رسمت الخطط ودبرت المسائل ولكن راح أمل الحكومة الانقلابية التى دبرناها لتحل محل حكومة الرأسماليين فى سراب الدخان القاتم .

وسيرى القارىء من الصور الفوتوغرافية التى ستنشر فى الكتاب أن ضابطاً فى الجيش هو محمد علي عبد الخالق يسير علناً فى التظاهرات محمولا على الأعناق وهو يوبخ وزير الدولة عبد الفتاح حسن فى مجلس الوزراء ، وان جنوداً من سوارى الجيش يسيرون أيضاً فى التظاهرات وقد حملوا على الاعناق . وثمة تقارير للبوليس تقول ان الشيخ محمد فرغلي من زعماء جماعة الإخوان المسلمين كان يحرض الجماهير على حرق دور اللهو والفنادق .

وتقارير البوليس تقول ان بعض الشيوعيين اشتركوا ايضاً فى التظاهرات واشعال النار وقد ذكر إسما فتاتين شيوعيتين هما عايده السحيمى واجلال السحيمى واسم الطالب عبد المنعم تمام . اما الحزب الاشتراكي فنال نصيب الأسد من تقارير البوليس .

ولا أريد أن أترك هذا الفصل من الكتاب قبل أن أبدى دهشتى من اشتراك ضباط الجيش محمد علي عبد الخالق وجنود السوارى بهذه الصورة العلنية . فليس من المعقول أن يجرؤ ذلك الضابط وهؤلاء الجنود على السير فى فى تظاهرة . لأن قوانين الجيش تحظر ذلك . والتظاهر كانت تظاهرة تمرد من قوات مسلحة هى قوات بلوكات النظام . والعقوبة صارمة جداً . فما هى الدوافع التى جعلت الضباط والجنود لا يخشون مغبة ما أقدموا عليه ؟ فى اعتقادى أنهم أرسلوا حتى يظهر للبوليس والشعب أن الجيش معهم ، فلا يخشون تدخل الجيش ونزوله الى المدينة بقوته الحربية الرهيبة . ويبقى السؤال : ومن أرسلهم ؟ وتجيب عن ذلك السؤال وليمة القصر ظهر يوم 26 يوليو الذى احترقت فيه القاهرة . وقبل أن أترك هذا الفصل ، أذكر حادثتين لهما دلالتهما : الاولى ، انى سمعت ان السلطانة ملك ( زوجة السلطان حسين وكان فاروق يعتبرها بمثابة أم ويستشيرها فى الكثير من الامور ) اتصلت بالملك على اثر حادث الإسماعيلية وسألته عن تفاصيله . ولما أخبرها قالت ان الحادث خطير والبلد سائر الى منزلق خطر . فقال الملك أوافقك يا سيدتى . ولكن لا بد من إيصالها الى أخطر منزلق حتى يمكن إصلاحها بعد ذلك .

والثانى ، أن حافظ عفيفي اتصل بى ذات يوم ، وقال إنه يود مقابلتى . فقابلته . وما ان سلمت وجلست حتى قال ضاحكاً وغليونه فى فمه :

انت تاعب نفسك كثير فى موضوع حريق القاهرة .

قلت : وهل هذا عجيب ؟ وأى شىء أخطر منه ؟

قال : هذا شىء انتهى وفات . والبلد لها مسائل كثيرة اخرى تستحق النظر أكثر من حريق القاهرة . ان كثيرين من موظفى وزارة الداخلية لا يزالون خائفين من أن تحملهم المسؤولية . لقد عاقبت بعضهم ممن ثبتت عليه مسؤولية التقصير ويكفى ذلك . ارجو ان تقفل ملف حريق القاهرة . هذا رجاء يا استاذ مرتضى وانت حر فى ما تقرره .

قلت : يا حافظ باشا . هل هذا رأى شخصى ام هو رأى الملك ؟

فابتسم وقال : لا تنسى انى رئيس ديوانه .

وخرجت وأنا أفهم أسباب النصيحة . وكنت قد عاقبت بعض رجال الأمن الذين ثبت عليهم تهمة الاهمال من تحقيقات النيابة .

وترددت كثيراً قبل توقيع العقوبة . لأنهم كانوا تحت ظروف قاسية يحاولون القيام بشىء لإيقاف الدمار . ولكن موجته كانت أعلى من قاماتهم . ولكنى وقعتها ضماناً للمستقبل حتى لا يقصر من تقع عليهم المسؤولية ، اتكالا على أنهم سيكونون بمنجاة من العقاب .

لقد قبضنا على ضابط الجيش محمد علي عبد الخالق وجنود السوارى التى عرفت شخصيتهم من الصور الفوتوغرافية . ولكن قيادة الجيش والفريق حيدر تدخلا لدى النيابة وطلبا تسليمهم الى سلطات الجيش لتتولى محاكمتهم عسكرياً . وسلموا الى الجيش . وعلمت وتأكدت أن أحداً منهم لم يعاقب . وخرجت بنتيجة واحدة وهى أن القصر كان يتربص بحكومة الوفد للخلاص منها ، وحانت له الفرصة يوم 25 يناير حينما اصطدمت القوات البريطانية بقوات بلوكات النظام ، فدعيت حامية القاهرة بجميع ضباطها الى وليمة القصر يوم 26 يناير . وانبعث دعاة القصر يحرضون جنود البوليس على الثورة ويرسلون جنوداً وضباطاً من الجيش للاشتراك فى التظاهر . وبذلك اصبحت القاهرة صباح 26 يناير خالية من أية قوة نظامية تحفظ الأمن . ولما انتهت مأساة الحريق خرج الجيش ، وبدأ خروجه فى الساعة الخامسة من مساء اليوم المذكور ولم يطلق النار حتى الساعة الحادية عشرة بعد أن تم الخراب والدمار .

القاهرة بعد 26 يناير ( كانون الثانى )

وضعت القاهرة تحت نظام منع التجول ليلاً من حلول المساء حتى الفجر . الشوارع فى الليل قفراء موحشة لا تسمع فيها إلا دبيب أحذية الجنود الثقيلة ، وعويل صفارة الاسعاف .

قررت الوزارة تخفيض سعر السكر ولكن الحياة لم تكن حلوة . الناس فى ألم وفزع على قاهرتهم الجميلة التى يبدو فى الصباح وجهها المشوه . كانت حسناء جميلة مرحة تبسم فيبسم الشرق الاوسط وتختال فى ثوب قشيب من النعمة . إن نسبها العريق يعود الى ألف سنة ، فجاء مجنون أحمق وألقى على وجهها الفاتن ماء نار وشوهه . وليدرك الناس ما أصاب القاهرة . فإنى أسرد خسائرها : 300 متجر ، 107 مكتب اعمال , 13 فندقاً 40 داراً للسينما ، 16 نادياً ، 73 مطعماً وصالة ومرقصاً وملهى ، 8 محلات لبيع السيارات وبنكاً واحداً ، 92 باراً .

ولم يكن يسمح أحد بالمرور فى الشوارع ليلا إلا لمن يقومون بخدمات ضرورية ، كالاطباء وموظفى التلفون والكهرباء وسيارات الاسعاف التى تنقل المرضى والصحافيين . ولا بد للمرور من حمل تصريحات مختومة من وزارة الداخلية . ولم تخل الكآبة من لمحات ضاحكة . فقد حضر الى المرحوم حنفي محمود الوزير السابق وكان مشهوراً بدعابته أو ما نسميه ( مقالب ) وطلب منى تصريحاً لأن لديه مريضاً فى المستشفى فى حالة صحية دقيقة . ورجانى ان يكون التصريح لشخصين . وأعطيته التصريح . وأخذ يصحب معه بعض أصدقائه ويخرج يجوب شوارع القاهرة . وفى ذات ليلة استوقفة مركز للحراسة . وطلب منه التصريح فادعى أنه فقد منه . ولكنه قال بصوت عال لمن كان يجلس بجانبه : يا استاذ أحمد حسين اخرج لهم تصريحك . وكان أحمد حسين زعيم الحزب الاشتراكي فاراً من أمر بالقبض عليه من حكومة الوفد . ولما سمح الضابط اسم أحمد حسين طلب منه اثبات هويته ، فعجز عن تقديمها لأنه لم يكن يحمل لا تصريحاً ولا اثبات هوية . فاقتادهما الى مخفر البوليس وهو يمنى النفس بمكافأة كبيرة . وانتاب الذعر صديق حنفي محمود وأخذ يصيح : أنا لست أحمد حسين ويسب ويلعن حنفي محمود .

علي ماهر رئيس الوزراء

لما تولى علي ماهر رئاسة الوزارة يوم 28 يناير 1952 ، كان يناهز السبعين من عمره . ولكنه كان يسير وكأنه فى الثلاثين . كان قصير القامة ممتلىء الجسم ذا عينين ضيقتين تجولان فى محجريهما بسرعة . له شارب كث يغطى شفة يلويها وهو يبتسم . وكان شعره فاحم السواد لا تجد منه شعرة واحدة بيضاء ، لأنه كان يصبغه صبغة محكمة . والرجل له ماض حافل فى تاريخ مصر السياسى . فقد كان عميداً لكلية الحقوق ، ثم وزيراً فى وزارة إسماعيل صدقي التى عطلت دستور سنة 1923 ، ثم رئيساً للديوان الملكى للملك فاروق على اثر توليه العرش فى الثامنة عشرة من عمره . وهو الذى أشار على الملك فاروق بإقالة النحاس باشا زعيم الأغلبية من الحكم بخطاب أقاله . ولم يتعرض رئيس للوزراء من قبل لمثل ما تعرض له فى هذا الخطاب من مهانة واذلال . إذ كان طعناُ صريحاً بطريقة الحكم . وقد حل الملك البرلمان طبقاً لمشورة رئيس ديوانه . وكانت أول ضربة يوجهها الملك فاروق الى الدستور والحياة النيابية . ولا شك أن المسؤول الأول عنهما هو علي ماهر . إذ أن الملك فى سن الثامنة عشرة لا يعقل ان يصل فهمه للاوضاع السياسية الى ان يتهم رئيس الوزراء ورئيس حزب الأغلبية بسوء الحكم وان يقدم على اقالته وهو متمتع بثقة البرلمان الكاملة ، إلا اذا كان مستشاره الأول هو الذى غرس فى عقله هذه الفكرة . ولقد أصبح الملك بعد ذلك يقيل الوزارات ويستهتر بالوزراء وكأنهم دمى يلعب بهم . وساعده على ذلك أنه لم يجد من الشعب معارضة قوية إلا بعض احتجاجات خافتة ومقالات فى الصحف . وكان علي ماهر رئيساً للوزراء سنة 1942 . واتهمه الانجليز بأنه موال هو والقصر للمحور ، ووجدوا فيه خطراً على موقفهم العسكرى وطلبوا من الملك إقالته . ورفض الملك وانتهى الأمر بحصار الدبابات الانجليزية لقصر الملك وطلبهم منه التنحى عن العرش . ولو ان الملك أجاب لطلبهم باقالة علي ماهر لذهب الملك الى المنفى فى جنوب افريقيا . فلماذا جاء به الملك رئيساً للوزارة سنة 1952 . كان الملك فى حاجة سريعة لوزارة تقوم بالحكم اثر اقالة وزارة النحاس أنها عجزت عن حفظ الامن . فعرض على نجيب الهلالي ان يتولى رئاسة الحكومة واعتذر الهلالى واشار على الملك باختيار علي ماهر . فقال علي ماهر له عشر سنوات ينتظر فيها الوزارة على أحر من الجمر ولو قبلت رئاسة الوزارة فانه سينضم الى الوفديين فى محاربتى وسيعمل أيضاً مع الإخوان المسلمين ( وكان علي ماهر وثيق الصلة بهم ) ضدى .

طبيعة علي ماهر

علي ماهر كان شخصية قوية يحب التسلط وأن توجه الأضواء كلها اليه وحده . فاذا تقرر تخفيض اسعار بعض المواد التموينية صدرت الصحف بالعنوان التالى ( علي ماهر يقرر تخفيض ثمن السكر ) . واذا صدر تعديل على نظم الجامعة أو التعليم نشرت الصحف ان علي ماهر هو الذى درس التعديلات ووضعها . واذا بنى جسر قيل ان علي ماهر هو الذى أصدر أمراً ببنائه . كان يعتبر وزراءه كتبه عنده . كان يجمع مجلس الوزراء فى غرفة مكتبه لا فى قاعة مجلس الوزراء ـ ويجلس الوزراء على مقاعد الحجرة ويقرأ عليهم سكرتير مجلس الوزراء القرارات والمراسيم التى وضعها علي ماهر والتى لم تكن تطبع وتوزع عليهم . ولما ينتهى سكرتير المجلس من قراءتها يقول علي ماهر طبعاً أنتم موافقون . ويقوم ويتوجه الى مكتبه وينصرف الوزراء . وفى الجلسة التالية حين بدأ السكرتير التلاوة استوقفته ، وقلت لعلي ماهر إنى أطلب تأجيل الجلسة .

علي ماهر : ( بدهشة ) لماذا ؟

انا : إنى أطلب إعداد جدول أعمال وطبعه وتوزيعه على الوزراء قبل وقت كاف يسمح لهم بدراسة القرارات ، على أن تعقد الجلسة فى قاعة مجلس الوزراء وليس فى مكتبك .

علي ماهر : ولماذا فى قاعة مجلس الوزراء وليس فى مكتبى ؟

انا : إن قاعة مجلس الوزراء ليست بعيدة . انها فى الغرفة المواجهة لمكتبك وفيها مائدة كبيرة نجلس عليها ، ومع كل منا أوراقه ومشروعاته يضعها على المائدة أمامه . ان الموائد الموجودة فى مكتبك هى لتناول القهوة أو لوضع منافض السجائر . والحكم مظهر وخبر . ومظهر الحكم هو قاعة مجلس الوزراء .

علي ماهر : وهل يعنيك المظهر كثيراً ؟

انا : تعنينى الدلالة أكثر من المظهر . إنك تجمعنا فى مكتبك لتقهم الناس أننا موظفون عندك لا وزراء . ويؤيد أنك لا تعنى بأن توزع علينا جدولا بأعمال المجلس .

علي ماهر ( وهو يصيح بغضب ) : انا رئيس الوزراء . وأنا الذى أقرر الشكل الذى يجتمع به الوزراء .

انا : أنت لست رئيساً للوزراء . انت رئيس لمجلس الوزراء حسب مرسوم تعيينك . ومجلس الوزراء ينعقد فى قاعة مجلس الوزراء . وأحب أن أقول لك شيئاً لآخر . البارحة طلبت محافظى الاقاليم ورؤساء الشرطة للاجتماع بهم ، واجتمعت بهم من غير أن تخطرنى . وأنا وزير الداخلية . وتم اجتماعك معهم بغير حضورى . فهل كان ذلك وضعاً لائقاً ؟

علي ماهر : هل تريد أن توبخنى على ذلك ؟

انا : ر أريد أن أوبخك . ولكن أقول لك إنى لن أحضر بعد اليوم اجتماعاً لمجلس الوزراء إلا اذا جرى فى قاعة المجلس مع جدول أعمال . واذا حاولت أن تجتمع مع أى موظف فى وزارة الداخلية من دون علمى فاعتبرنى مستقيلا على الفور .

وهنا قال أحد الوزراء : ان " رفعة " الرئيس هو بمثابة والد واستاذ لنا ، وانه ليس لك حق يا استاذ مرتضى فى ان تناقشه بهذه الكيفية .

فقلت له : اسمع . ليس الحكم عواطف وعلاقات عائلية ، ولسنا كتبة . وأنت وغيرك من الوزراء عودتم الرئيس على أن يعامل الوزراء هذه المعاملة .

وكانت بداية غير طبيعية مع علي ماهر ظلت تجرجر ذيولها الى أن اضطررت الى الاستقالة على اثر حادثين :

الحادث الاول : حل مجلس النواب فى جيب رئيس الحكومة

دعا علي ماهر الى عقد مجلس الوزراء ( وهذه المرة فى القاعة ) وقال ان الملك يريد حل البرلمان . وكانت أغلبيته وفدية بينما حكومة الوفد مقالة . وراجعه علي ماهر وطلب التمهل . ولكن الملك أصر وطلب عرض أمر الحل على مجلس الوزراء . فقلت له : وما رأيك انت ؟

قال : لا أريد أن أصطدم مع الملك ، وعلينا أن نقبل حل البرلمان .

ووافق مجلس الوزراء على حل البرلمان ولكن علي ماهر قال : أريد أن يبقى مرسوم الحل فى طى الكتمان .

وبدت الدهشة على وجوه الوزراء وقال أحدهم : لماذا تريد أن يبقى الحل سراً ؟

علي ماهر : إنى سأدخل فى مفاوضات مع الانجليز ، ولا أريد أن أهاجم من حزب الوفد لئلا يضعف مركزى مع الانجليز .

احد الوزراء : وكيف يمكن أن يبقى أمر الحل فى طى الكتمان .

علي ماهر : أريدكم أن تكتموه ولا تذيعوه على الصحافة . وسيبقى الأمر فى جيبى الى أن أرى الخطة مناسبة لاعلانه .

ولكن حدث ما ليس فى حسبان علي ماهر . فان الملك أوعز الى رئيس ديوانه حين رأى أن أمر الحل لم ينشر ، بالاتصال باحدى الصحف الكبرى ، وابلاغها بقرار الحل ، فنشرته ، وثار علي ماهر وطلب أن أقابله وقال لى : كيف سمحت وأنت الرقيب العام للصحف بنشر أمر الحل ؟

انا : إن الصحف نشرته رغم اعتراض الرقيب . وتحملت مسؤولية نشره . والصحافة موضوعة تحت الرقابة فى ما يختص بالأنباء العسكرية أو الضارة بأمن الدولة . وليس أمر الحل من الانباء العسكرية او ضارة بأمن الدولة .

علي ماهر : لا . إنك تريد فضيحتى .

انا : اذا كان أمر الحل فضيحة فلماذا قبلته ؟ إن الفضيحة هى أن تكون مع الوفد بوجه ومع الملك بوجه آخر .

وتركته والعلاقات بيننا قد وصلت الى درجة كبيرة من السوء . وكان هذا شيئاً مؤسفاً للغاية . فالحالة الداخلية فى البلد لم تكن تسمح بأن يقوم نزاع بين رئيس الحكومة ووزير الداخلية المشرف على الأمن . إن حريق القاهرة قد ترك مصر تغلى من السخط ، وكان أكثر السخط موجهاً ضد القصر . وقد أذكت نار السخط عناصر قوية جداً . فالوفديون لم يكونوا راضين عن إقالة النحاس وعن حل البرلمان . والإخوان المسلمون كانوا يجمعون السلاح بكثرة ويريدون رأس الملك وقلب نظام الحكم ليتولوا هم الحكم أو يدخلوه على الاقل . والجيش ثائر على الملك وتجمعات الضباط الاحرار أخذت تزيد . كل ذلك كنا نعلمه . والمفروض أن تكون الحكومة التى تواجه الموقف حكومة متماسكة . فكرت فى هذا كثيراً وطلبت مقابلة علي ماهر وقابلته وقلت له كل هذه الافكار التى جالت بخاطرى . فرد علي ماهر بأنه يوافق على ما قلت . ويرجو أن أنسى ما حصل وأن نتعاون معاً بنية سليمة ولكن . . . .

علي ماهر والإخوان المسلمون

كنت جالساً فى مكتبى أدرس الأوراق المعروضة على . فدق جرس التلفون . واذا صوت يصيح بغير تحية وسلام : يا أخى أنت تقبض على الإخوان المسلمين الأبرياء بغير ذنب . أما آن لك أن توقف هذه الاجراءات التعسفية ؟

عرفت صوت المتكلم وقلت : هل تذكر لى أسماء هؤلاء الذين قبضت عليهم ؟

علي ماهر : أنت تعرفهم أكثر منى . انك تقبض عليهم بغير علمى .

وقطع الحديث التلفونى وتركنى أقبض على السماعة حائراً .

أيقنت أن فى مكتبه جماعة من الإخوان المسلمين . أيقنت أنه يريد أن يوغر صدر الإخوان على ، وأن يظهرنى بمظهر المتعسف معهم . واستدعيت مدير الأمن العام وطلبت منه إحضار كشوف المقبوض عليهم . وراجعتها ولم أجد فيها إلا عشرة من جماعة الإخوان قبض عليهم على اثر حريق القاهرة بأمر من السلطة العرفية . وقد صادق علي ماهر بصفته الحاكم العسكرى العام على قرار القبض ووقع عليه . وتوجهت الى مكتب علي ماهر ودخلت عليه . ولم يخب ظنى . فقد كان فى مكتبه عدد من كبار جماعة الإخوان . فوجىء بدخولى عليه ولكن ابتسم وقال : ها قد جئت لتحل المشكلة .

قلت : المشكلة تحلها أنت وليس أنا . إنك أنت الذى صادق على أمر القبض . وهذا هو توقيعك . تفضل الآن بالافراج عنهم .

علي ماهر : إنك أنت الذى أشار بالقبض عليهم .

انا : لست أنا الذى أشار بالقبض . وانما النيابة هى التى اتهمتهم . وأعود فأقول : إنك أنت الذى صادق على قرار القبض . ومن حقك ألا تصادق ، ومن حقك أن تفرج عنهم .

علي ماهر : قدم لى مذكرة بحالتهم .

انا : لن أقدم لك مذكرة . وهذا هو الكشف أمامك لتتصرف فيه . ولكن أقول شيئاً واحداً . انك تريد أن تحرض على جماعة الإخوان . هذا هو هدفك الوحيد .

علي ماهر : لا أقبل أن تقول لى إنى أحرض عليك الإخوان .

أنا : إنك اتهمتنى أمامهم بأنى أقبض على الأبرياء ، وإنى أتعسف فإن لم يكن هذا تحريضاً ، أليس على الأقل هو تعريض ؟ وهل يليق بك ان تكلم وزيراً فى وزارتك أمامهم بهذه اللهجة ؟

وخرجت الى مكتبى وكتبت استقالة ، أرسلت نسخة منها اليه ونسخة اخرى الى رئيس ديوان الملك . وجمعت أوراقى وذهبت الى بيتى .

مر يومان لم أسمع فيهما شيئاً . وفى العاشرة صباحاً اتصل بى علي ماهر وقال : إنه يرجو حضورى الى جلسة يعقدها مجلس الوزراء .

قلت له ألم يصلك خطاب استقالتى .

قال : ولهذا أرجو حضورك .

توجهت الى رئاسة مجلس الوزراء ودخلت مكتب علي ماهر . وكان كل الوزراء مجتمعين عنده . حييتهم وجلست .

علي ماهر : إن أخانا مرتضى قدم الى استقالته ، ورأيت ان اجمعكم لعرضها عليكم . إنى أريد منك ( وتوجه الى بالخطاب ) ان تسحب الاستقالة لأنه يسعدنى أن تكون زميلا لنا . إنى أريد إنهاء الخلاف المؤسف بينى وبينك.

وزير التجارة : ونحن جميعاً يسعدنا أن تظل بيننا .

وزير الخارجية : وأضم صوتى الى صوت زميلى .

أنا : وأنا يسعدنى أن أكون معكم . ولكن بغير الطريقة التى يتبعها رئيس الوزراء . إما أن نكون وزراء وإما لا نكون .

علي ماهر : إنى أحافظ على كرامتكم بقدر ما أحافظ على كرامتى .

انا : وهل من المحافظة على الكرامة أن تفعل مثل ما فعلت بحضور جماعة الإخوان .

علي ماهر : إنى آسف .

وانتهى المجلس وسحبت استقالتى لأصطدم بمفاجأة عجيبة .

مكالمة من حافظ عفيفي رئيس الديوان

عدت الى مكتبى فى وزارة الداخلية . ودخل سكرتيرى الخاص يقول إن حافظ عفيفي سأل عنى تلفونياً ، ويرجو أن أتصل به فور وصولى الى المكتب . اتصلت بحافظ عفيفي ، فرجانى أن أتوجه الى مكتبه مباشرة . توجهت اليه ، فقال : أين كنت ؟

قلت عند علي ماهر .

رأيت الدهشة على وجهه وقال : هل طلب منك أن تذهب اليه أم ذهبت انت ؟

ثم شرحت له ما حدث فى المجلس .

حافظ عفيفي : هذا شىء عجيب لا أكاد أصدقه . هل تعلم أن علي ماهر حضر الى مكتبى الساعة الثامنة صباح اليوم ، وقال أنا لا أستطيع التعاون مع مرتضى المراغي ، وأرجو رفع الأمر الى الملك لكى أصدر مرسوماً بإقالته .

ظللت صامتاً ثم قلت : وماذا فعلت ؟

حافظ عفيفي : قلت له سأعرض الأمر على الملك . وفى الساعة التاسعة قابلت الملك فأخبرنى أن أبلغ علي ماهر أن يقدم استقالة الحكومة ثم يعيد تشكيلها من دونك .

أنا : إذن لماذا دعانى وطلب منى سحب الاستقالة ؟

حافظ عفيفي ( ضاحكاً ) : أظنه خشى أن يقدم استقالة الحكومة ، فيعهد الملك الى غيره بتشكيلها . إنه كان يريد إقالتك لا استقالة الحكومة .

وانتهى الأمر بأن قدم علي ماهر استقالة حكومته ، فقبلها الملك وعهد الى نجيب الهلالي بتأليف الوزارة .

وزارة الهلالى

استدعانى نجيب الهلالي وطلب منى أن أشترك فى الوزارة وزيراً للداخلية والحربية ، قلت له :

يا نجيب باشا هذا عبء كبير جداً . وزارة الداخلية وحدها تحتاج الى وزيرين وأعلم بأن وزير الحربية اذا كان مدنياً فهو وزير صورى ووظيفته أن يوقع على القرارات التى تصدرها قيادة الجيش بالاتفاق مع القصر . وقائد الجيش الفريق حيدر يتصل مباشرة بالقصر فى أى أمر يخص الجيش ، ووزير الحربية لا يعلم شيئاً عن اتصالاته.

الهلالى : أعلم ذلك . ولكنى عرضت على الملك أن يعين اللواء محمد نجيب وزيراً للحربية فرفض الملك . ورأيت أن أعهد بها اليك مؤقتاً لسبب . . .

وسكت الهلالى .

قلت : وما هو السبب ؟

الهلالى : أنا أعلم أن فى الجيش حركة تذمر . ولا شك أن فى وزارة الداخلية تقارير عن هذه الحالة أكثر من تقارير المخابرات الحربية . وأشك أنها تعرض على وزير الحربية ، اذا كان مدنياً . إنى أريد منك أن تعرف أسباب التذمر والى أى مدى وصل .

قلت : إنى أعلم أن التذمر متفش فى صغار الضباط . أما كبارهم فيزايدون على الولاء للقصر بشكل سافر . ولكنى أشك فى الوصول الى وضع حد لتذمر صغار الضباط ما دامت القيادات فى يد كبارهم .

الهلالى : على كل حال حاول وأرجو لك التوفيق .

أخذت أقسم يومى بين وزارة الحربية والداخلية . فأذهب فى الصباح الى الحربية من الساعة التاسعة حتى الثانية بعد الظهر . وأتوجه الى الداخلية من الساعة الخامسة حتى ساعة متأخرة من الليل . أرهقنى العمل المتواصل إرهاقاً شديداً . ولكنى كنت مستريح النفس لأنى أعمل مع رئيس وزراء يختلف كثيراً عن علي ماهر . لأن نظرته الى الوزراء كانت نظرة زمالة صادقة ، وكان يترك للوزير التصرف فى شؤون وزارته بمطلق الحرية لا يراجع أحداً فى شىء إلا ما يعرض على مجلس الوزراء .

لم تكن مشكلتى الكبرى من ناحية الموظفين الذين يعملون معى هى وزارة الداخلية ، بل كانت المشكلة هى وزارة الحربية . فكبار موظفى وزارة الداخلية كانوا إما ضباطاً وإما مدنيين أمضوا خدمتهم فى السلك العسكرى البوليسى أو المدنى الادارى وتمرسوا بالعمل . أما وزارة الحربية فالقيادات الكبرى الثلاث كانت معهودة الى رجال لا يعرفون شيئاً عن الفن العسكرى وتكتيكه .

فقائد الجيش الفريق حيدر تخرج من المدرسة الحربية عام 1916 فى الوقت الذى كان الطالب يمضى فى المدرسة سنة على الأكثر ويتخرج بعدها ضابطاً ثم يلتحق بالجيش . ولكن حيدر بدل ان يلتحق بالجيش التحق بسوارى البوليس لأنه كان يجيد ركوب الخيل واشتهر بمطاردته للمتظاهرين بفرقة الخيالة التى يرئسها وحظى بتقدير السلطات البريطانية ودخل مصلحة السجون . وكان الملك فؤاد يحاول اصلاح حوالى خمسين الف فدان من الارض البور تملكها الخاصة الملكية فاقترح عليه مدير الخاصة ان يستعمل المساجين لاصلاحها . وتمكن الضابط حيدر بسوطه الذى جال فى ظهور السجناء وأدماها من تحويل القفر الى سندس أخضر در على الملك فؤاد غلة كبيرة ومالا وفيراً . وأصبح حيدر محل تقدير القصر . فرقى ترقية استثنائية حتى وصل الى منصب مدير السجون . ولما خلف فاروق والده كان السجناء دائماً فى حقول القصر وحدائقه يحفرون الترع والمصارف ويقيمون الجسور ، وسياط حيدر على ظهورهم . فأعجب فاروق حيدر وقربه وعينه ياوراً شرفياً . حتى فوجىء الجيش ضباطاً وجنوداً عام 1946 بتعيين حيدر رئيساً لهيئة أركان الحرب ثم قائداً عاماً للجيش ووزيراً للحربية عام 1948 . وساق حيدر الجيش الى الحرب وأسلحته ناقصة ووسائل مواصلاته هزيلة . وقد اعترض بعض السياسيين على هذه الحملة التى ارتجلت بغير استعداد ، فقال حيدر انه واثق من النصر وان الحملة العسكرية ستكون نزهة .

وكان رئيس اركان حرب الجيش يتميز بشاربه المفتول الى أعلى والمدبب بالكوزماتيك . وحياته كلها أمضاها ضابطاً فى الحرس الملكى .

وكان قائد سلاح الطيران ضابطاً فى الجيش حتى وصل الى رتبة لواء ولم يدرس الطيران فى حياته أبداً ثم نقل الى منصب قائد سلاح الطيران ومنح لقب اللواء الطيار .

هذه هى المجموعة التى كان على أن أحاول العمل معها . ولكنى وجدت فيها سداً منيعاً متكاتفاً يمنعنى من الاطلاع على شؤون الجيش .

رأيت أن آخذ الأمر بالحيلة وأن أحدث ثغرة فى ذلك السد الثلاثى . ووجدت الاسباب القوية لاقتلاع أحد أركانها ، وكان الفريق عثمان المهدي رئيس هيئة الاركان . فتقصير عثمان المهدي كان واضحاً فى حادث حريق القاهرة لتأخره فى إنزال الجيش وتردده فى إطلاق النار . والملك رغم انغماسه فى ذلك الحريق الى حد كبير لا يستطيع أن يدافع عن تقصير عثمان المهدي وإلا أصبح الأمر مكشوفاً . ولكنى قبل أن أطلب عزله أخذت أبحث عن ضابط قوى الشكيمة يستطيع أن يقف فى وجه حيدر وأن يكون محبوباً ومحترماً من ضباط الجيش وأن أعتمد عليه فى إزالة أسباب تذمر صغار الضباط . وعثرت على لواء يسمى حسين فريد قيل إن صفات حسنة تتوافر فيه . فتقدمت بمذكرة الى الملك أطلب فيها إحالة الفريق عثمان المهدي بتهمة التقصير وتعيين اللواء حسين فريد رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة . فأسرع حيدر بإرسال خطاب الى الملك يقول فيه إن خروج عثمان المهدي يؤدى الى تقولات بأن الجيش قصر فى واجبه نحو حريق القاهرة وان الحكومة الحالية أعلنت أنها جاءت لتطهير الفساد فى إدارة الحكم . وان اخراج عثمان المهدي معناه أن الحكومة بدأت أول أعمال التطهير فى الجيش . ولكنى أصررت على إقالة عثمان المهدي وتعيين اللواء حسين فريد . فوافق القصر وصدر مرسوم تعيين حسين فريد واستبشرت خيراً بأنى فعلت شيئاً آمل أن تتبعه أشياء . ولكن أملى مع الأسف خاب .

مقابلة مع حسين فريد

حضر الى مكتبى صبيحة اليوم التالى لتعيينه اللواء حسين فريد وحيانى وشكرنى على تعيينى له .

قلت له : لقد سمعت عنك خيراً كثيراً . وأرجو أن أسمع أكثر . إنى عينتك لتكون صلة الوصل بين الجيش ووزير الحربية .

حسين فريد : والفريق حيدر .

انا : الفرق حيدر منذ سنة 1949 بعد أن ترك وزارة الحربية قطع صلة الجيش بوزير الحربية . وأنت مكلف كما قلت لك أن تعيد هذه الصلة ، ولذلك عينتك .

حسين فريد : هل معنى ذلك أن أعرض عليكم شؤون الجيش من دون عرضها على الفريق حيدر .

انا : إنى أعرف الانظمة العسكرية على رغم انى مدنى . إن واجبك أن تعرضها عليه . ولكنى عينتك بالذات لتعرضها على . وهذا أمر منى لا يسعك أن تخالفه .

حسين فريد : واذا طلب حيدر منى أن يتولى عرضها هو .

انا : قل له إنك أنت المكلف القيام بذلك .

حسين فريد : لا أستطيع أن أقول له هذا .

تولانى ذهول وقنوط شديدان . هذا الضابط الذى أتيت به من بين براثن القصر ، ولكى أعالج أموراً كثيرة وخطيرة فى وزارة الحربية وفى جيش يعانى التذمر والقلق والاضطراب من جراء وجود حيدر ومن على شاكلته من كبار الضباط الذين كانوا حاشية للملك اكثر مما كانوا قواداً للجيش . هذا الضابط أصبح فى نظرى لا فرق بينه وبين عثمان المهدي . فأشرت اليه بالانصراف وقلبى يعتصر من اليأس .

خبراء الجيش الالماني

حضر الى مكتبى ذات يوم اليوزباشى إسماعيل شرين وكان متزوجاً أخت الملك ومعيناً ضابط اتصال بين وزارة الحربية وخبراء تدريب الجيش الالمان . وقال ان هؤلاء الخبراء يشكون من أن كبار ضباط الجيش لا يمكنون الخبراء من تدريب الجيش . فالخبير يذهب فى الصباح لتدريب كتيبة قوامها مائة رجل فلا يجد إلا خمسة . وأحياناً لا يجد أحداً . طلبت الفريق حيدر . ولما حضر أطلعته على أقوال إسماعيل شرين .

قال : هذا كلام صحيح .

قلت : انهم يعدون تقريراً بكل التفاصيل .

قال : ان هؤلاء الخبراء يجب أن يرحلوا .

قلت : لماذا ؟

حيدر : لأنهم أغبياء جهلة لا يفهمون شيئاً من التدريب .

قلت لنفسى : يا الهى ! حيدر ضابط السجون والذى أمضى سنة واحدة فى المدرسة الحربية يتهم جنرالات الجيش الالمانى بالجهل . ولكنى تمالكت وقلت له :

على كل حال أنا فى انتظار التقرير .

وخرج حيدر وبعد يومين فوجئت ببرقيتين مرسلتين الى القصر : احداهما باسم الملك فاروق والاخرى باسم حافظ عفيفي . والاولى بإمضاء الجنرال باج فويلز والثانية بإمضاء سلوتزر وفرازولداتى يقولون فيهما انهم يعاملون معاملة سيئة ويضربون ويعذبون ويشتمون من أحد الضباط الذى يهددهم بالقتل ويطلبون من الملك حماية حياتهم التى أصبحت فى خطر . وتشرح البرقية المرسلة الى حافظ عفيفي السبب . فتقول ان الضابط يساومهم باسم الاميرالاى حسن رجب لتسليمهم اياه مستندات سرية فى حوزتهم وإلا فقدوا ممتلكاتهم ورصيدهم من البنوك وحريتهم بل وحياتهم . وهذه المستندات التى كان يسعى وراءها حيدر ويستخدم وكيل الحربية حسن رجب للمساومة على الحصول عليها هى تقارير لبعثة الخبراء الالمان عن حالة الجيش ويأسهم من تدريبه .

وقد علمت بعد الثورة ان الجنرالات الالمان قدموا الى الثورة بعد قيامها خدمات ونصائح قيمة .

اللواء محمد نجيب

كانت وظيفة لواء سلاح الحدود هى مطاردة المهربين الذين يهربون المخدرات عبر تركيا فسوريا فلبنان الى غزة فإلى قنال السويس . وكانت مهمة شاقة جداً لأن القوة لم تكن تكفى لتغطية آلاف الكيلومترات من الصحارى ولم تكن تتوافر الوسائل اللازمة كطائرات الهليكوبتر أو الاستطلاع أو قوارب الطوربيد الكافية لضبط السفن الناقلة للمخدرات . وكان الجنود غالباً يستخدمون الجمال أو سيارات الجيب . ولكنهم تحت قيادة اللواء محمد نجيب تمكنوا من ضبط كميات كبيرة جداً وضيق الخناق على المهربين وقبض على عدد كبير منهم ومن استطاع الفرار ألقى بحمولته ونجا . والمفروض أن يلقى محمد نجيب تقديراً كبيراً على نشاطه ونزاهته ، ولكنه لقى سخطاً كبيراً

حاشية القصر

كانت فى القصر حاشية قوية النفوذ عند الملك تريد أن تثرى . ووجدت أن الثراء السريع المضمون هو تجارة المخدرات . ولكنها تجارة محفوفة بالمخاطر . لأن عقوبة تاجر المخدرات تصل الى الاشغال الشاقة المؤبدة . لكن هذه الحاشية تريد الثراء . وهى ذات نفوذ عند الملك تستطيع به ان تستصدر ما تريد من قرارات . وكان هدفها محمد نجيب . فهى تريد إبعاده عن منصب قائد سلاح الحدود والمجىء برجل آخر يمكن قوافل التهريب التى هى تحت امرتها من المرور خلال دروب فى الصحراء وبين الجبال لا تكون فيها نقط مراقبة ولا دوريات من الجنود . وكان محمد نجيب بحكم خبرته الطويلة يعلم هو ومن عينهم معه من الضباط هذه المسالك والدروب ، ويترصد المهربين فيها . واذا حاولوا تجنبها ووجدوا درباً آخر كان جنود محمد نجيب لهم بالمرصاد . وكسدت تجارة المخدرات فى مصر وضاق رجال الحاشية بمحمد نجيب فأخذوا يشون به لدى الملك بأنه غير مخلص وأنه يتصل بالضباط الأحرار وأنه يسب الأسرة المالكة ، حتى أوغروا صدر الملك عليه فأمر بنقله من قائد لواء الحدود الى قائد لواء المشاة . والمنصب الأخير من الناحية العسكرية أقل من المنصب الاول . ووجدوا بغيتهم فى اللواء حسين سري عامر .

اللواء حسين سري عامر

وكان وكيلا لسلاح الحدود وعلى صلة برجال الحاشية . ووصل الى رتبة الوكيل بمساعدتهم لأنه وهو ضابط أقل رتبة استطاع أن يبعد الدوريات التى تحت قيادته من بعض الدروب حتى تمر قوافل مهربى الحشيش التى تعمل لحساب رجال الحاشية . ولما نقل محمد نجيب الى سلاح المشاة عين الملك حسين سري عامر قائداً لسلاح الحدود . وكان لتعيينه أثر سىء عند صغار ضباط الجيش حتى أن بعضهم أطلق النار عليه وكان معهم جمال عبد الناصر . ونجا حسين سري عامر وامتلأت جيوب حاشية القصر وخزائنهم بالملايين ، ونعم الحشاشون فى مصر بما لم ينعموا به من قبل . وكان رضوان جنتهم هو حسين سري عامر .

اليوزباشى مصطفى

كانت حكومة الوفد قد وضعت تلفون اليوزباشى مصطفى تحت المراقبة . وصارت تقارير محادثاته التلفونية ترسل الى ادارة الأمن العام التى تعرضها بدورها على وزارة الداخلية .

استلفت نظرى حديث مسجل تقدم به مدير الأمن العام فى شهر فبراير ( شباط ) 1952 مصحوباً بتقرير يقول انه حديث بين السيدة نهى وصيفة القصر واليوزباشى مصطفى . كان حديثاً بالغ العاطفية والبذاءة معاً . ولا داعى لتفصيله .

وكان مصطفى هذا يطلبها فى اليوم ثلاث وأربع مرات ، يناجيها بغرام مصطنع وتناجيه بغرام ينم عن شدة حبها له . . لم تكن تدرى أن الحديث معها مراقب لأنه لا يعقل أن تراقب الداخلية وصيفة القصر .. ولكن مصطفى كان يشك أحياناً فى الرقابة وخصوصاً عند حدوث تك تك . . وكان يطلب منها إنهاء الحديث . واندفعت نهى فى غرام مصطفى الى أقصى حد للاندفاع . ووصل بها الأمر الى أن أدخلته بيتها فى غياب زوجها . وعندئذ وقعت مأساة .

مأساة الخادمة

طلبت نهى من مصطفى أن يحضر إليها على عجل لأن زوجها مسافر والاولاد فى المدارس . وانفردا يتطارحان الغرام فى حجرة وقد أغلقا عليهما الباب . ولكن مصطفى سمع صوت سعال خفيف وراء الباب . وقفز وفتحه ليجد خادمة صغيرة السن وراء الباب . صرخ فى وجهها : ماذا تصنعين ؟ ارتبكت وأخذت تبكى وترتعش ثم قالت : كنت أريد أن أقول شيئاً للست .

نهى : ماذا تريدين قوله ؟ ألم أقل لك أن تخرجى وتعودى بعد ساعة . . لماذا لم تخرجى ؟

الخادمة : ( تبكى ) ذهبت الى المطبخ وكنت جائعة لأتناول شيئاً من الطعام .

مصطفى : يا كذابة ، يا بنت الكلب . وأخذ يضربها ويركلها .

فرت الخادمة تجرى وتصيح ألماً من هول الركل واللطم . ومصطفى يتابعها . واتجهت نحو المطبخ تستغيث من شباكه . وفجأة ألقى بها مصطفى من الدور السابع ، ووقعت المسكينة على سور المبنى الحديدى المدبب ، ونفذت حرابه فى صدرها وأحشائها ، وجرى التحقيق وأقفل على أنه انتحار .

منشور فى مكتب الملك

دخل الملك مكتبه ذات مساء ليقرأ بعض ملفات بمراسيم ومراسيم قوانين يجب عليه أن يمهرها بإمضائه . فتح الملف الاول ووجد ورقة أراد أن يمهرها حتى قبل أن يقرأها على عادته ، ولكن استوقف نظره أن آخرها لم يكن يحمل عبارة ملك مصر وانما كان يحمل عبارة الضباط الاحرار ولم يصدق عينيه . أخذ يقرأ الورقة :

"ايها الجيش الباسل ، ويا شعب مصر النبيل . ان ملكاً فاسداً فاجراً يحكمك ، وقد آن الآوان الخلاص منه . "

ولم يكمل قراءة المنشور ووضع كل أصابعه على لوحة ازرار الاجراس يدقها فى عنف . وأخذت الأجراس لا ينقطع رنينها . وهرع موظفو القصر وكبار ضباطه وخدم القصر الى حجرة الملك ودخلوا عليه وهو يصيح :

أيها الخونة . سأقتلكم سأعذبكم حتى تعترفوا . . نعم انكم خونة وأنا أعلم ذلك ولكنى سأقضى عليكم .

ظلوا جميعاً واجمين صامتين . فصاح :

تكلموا من الذى وضع هذه الورقة ؟

سكتوا ولم يردوا ...

أيها الكلاب الأنذال ردوا . من وضع هذه الورقة ؟

وأخيراً جرؤ كبير الحرس على التقدم نحوه وقال هل يسمح لى مولاى بأن أطلع على الورقة ؟

الملك يرميها فى وجهه صائحاً : أنت المسؤول الأول عن انعدام الحراسة .

الضابط : يقرأ الورقة . وكلما تقدمت به القراءة سطراً ارتجفت أوصاله .

الملك ( وهو ينظر اليه بغضب وعلى فمه سخرية واضحة ) :

هل قرأتها يارئيس الحرس ؟

الضابط : نعم يا مولاى .

الملك ( يزداد صرامة ) : من أدخلها الى مكتبى ؟ من جرؤ على إدخالها ؟

وأخذ يلتفت الى وجوه الموجودين ، فرأى خادماً نوبياً يقرب الباب . فاتجه اليه وأمسك بتلابيبه صائحاً لا بد من أن يكون أنت . ألست المكلف تنظيف الغرفة اليوم ؟

وكاد المسكين يقع مغشياً عليه . وبدأ يبكى قائا :

ـ أنا مظلوم يا مولاى .

ثم نظر الملك الى سكرتيره وقال :

ـ لا بد من أن يكون أنت . ألست أنت الذى تعد لى الملفات ؟

السكرتير : نعم يا مولاى . ولكن هل تظن أنى وصلت الى هذه الدرجة من الحماقة لأضع لك منشوراً فى ملف أعده لك .

الملك يصرخ : إذن تكلموا أيها الخونة . سأعرف من الذى وضعه . سأضعكم جميعاً تحت التحقيق .

واستعان المل ببوليس السراى . وحجب عن وزارة الداخلية الحادث . ولكنه تسرب إلينا . ولم أشك لحظة فى أم نهى هى التى وضعت المنشور ، لأنى أعلم أنها كانت تدخل مكتب الملك وتخرج من غير أن يعترض سبيلها أحد . وفى مكالمة تلفونية مع مصطفى قالت له ضاحكة :

لو تشوف منظره وهو يصرخ ويشتم عندما قرأ الجواب اللى جاله ولم تقل المنشور .

وهكذا بدأت نهى انتقامها وظلت تتابعه .

برقية من اليونايتدبرس فى القاهرة الى مركزها فى لندن

بتاريخ 3 مايو ( أيار ) 1952 أرسل مراسل اليونايتدبرس المستر كولنز برقية الى المركز الرئيسى فى لندن تعليقاً على نبأ أذاعه راديو N.B.C. الامريكى من ان حادثاً حصل للملك فاروق فى نهاية شهر مارس ( آذار ) 1952 . ويقول المستر مولنز فى برقيته انه توجه الى الامير عباس حليم ابن عم الملك ورئيس نادى السيارات . وسأله عن فترات حضور الملك الى النادى من الفترة ما بين الخامس والعشرين من مارس ( آذار ) والخامس والعشرين من ابريل ( نيسان ) . فقال الامير ان الملك حضر الى النادى احدى وعشرين مرة طبقاً لما هو مدون فى دفاتر النادى ، وانه كان دائماً فى صحة جيدة جداً ، وأن الأيام الاربعة التى غابها الملك كانت خارج المدينة .

فلماذا هذه البرقية وما هو الحادث الذى أذاعه راديو N.B.C. .

اطلاق الرصاص على الملك وهو يدخل منزل نهى

فى مساء يوم 15 ابريل ( نيسان ) توجه الملك الى منزل يوسف الساعة العاشرة مساء ليتناول العشاء ويلعب الورق مع بعض أصدقائه . وكان مدخل المنزل قليل الضوء يحجبه عن المنزل المجاور حائط مكلل بأشجار الياسمين . ولم يكن الحائط عالياً ، ونهايته التى تؤدى الى المدخل الداخلى للمنزل كانت مظلمة تماماً . ولما نزل الملك من السيارة ، لم يتقدم هو للدخول بل سبقه رجل الحاشية الايطالى بولى وتبعه الملك .

وأطلق شخص كان فى الناحية الأخرى من الحائط النار . فأصاب بولى فى ساقه ، ونجا الملك وفر الذى أطلق النار . وأخفى الملك عن وزارة الداخلية الحادث . ولكنه طلب تعيين حارسين أحدهما أمام مدخل المنزل والآخر وراء الحائط . كما أمر بوضع أنوار فوق الحائط . ولكنى علمت بالحادث وتحريت . فعلمت أن مصطفى كان موجوداً فى القاهرة ذلك اليوم ، وأنه غادر منزله الساعة التاسعة فى سيارة يقودها بنفسه ، لأنه أخبر نهى تلفونياً أنه سيخرج للنزهة . وأجابته نهى : " ان شاء الله ترجع سالماً . اعمل حسابك وانت بتسوق لأن الحوادث كثيرة " . ولم يتكلم مصطفى مع نهى بعد عودته . ولكنى علمت انها ذهبت الى منزله فى اليوم التالى وقابلته .

ضبط منشورات فى ثكنة للجيش

التلفون يدق . وكنت أرد على مكالمة أخرى تاركاً الرنين . ولكن الدق متواصل . تناولت السماعة الأخرى قائلا : " انتظر قليلا " .

وأنهيت مكالمتى وعدت الى التلفون الآخر .

سألت : من المتكلم ؟

قال انه رئيس المباحث السياسية وانه يريد مقابلتى .

قلت : احضر غداً ، إنى مشغول جداً .

قال : سيدى ، الامر مهم جداً . وأرجو مقابلتك الآن وأرجو أن أراك على انفراد .

قلت له : عجل بالحضور .

وطلبت من سكرتيرى تأجيل بعض المقابلات . وحضر رئيس المباحث ، ومعه ورقة مطبوعة على الآلة الكاتبة قدمها الى وتطلعت فيها . انه تقرير مكتوب عليه " سرى للغاية " ويعرض فقط على الوزير .

وكان وصل إلينا من عشرة أيام أن منشورات الضباط الاحرار تطبع فى مطبعة روتينية فى ثكنة فرقة المشاة المعسكرة فى المعادى قرب مدينة القاهرة . وراقبنا الثكنة من الخارج ، فوجدنا أنه يدخلها اليوزباشى مصطفى واليوزباشى خالد وهما ليسا من ضباط الفرقة ، وانهما يمكثان زمناً ثم يخرجان يحملان حقيبتين جلديتين منتفختين ، وكانا فارغتين عند دخولهما . وتأكدت شكوكنا من صحة المعلومات التى وصلت الينا . وأخذت أفكر فى ما يجب أن أصنع . هل أخطر الفريق حيدر . انه يقول دائماً عن حركة الضباط الأحرار إنها شقاوة عيال ، وإنه وكبار الضباط قابضون على زمام الجيش بقوة . ولن يسره أن يصل اليه الخبر من وزارة الداخلية بدل أن يصل اليه من مخابراته العسكرية . وبدا لى فوراً أنه من المستحسن ألا أبلغه . هل أطلب من اللواء فريد رئيس الاركان أن يقوم هو بالاجراءات ؟ لقد خاب أملى فيه ، ولم يعد محل ثقتى . هل أخطر رئيس الديوان ليبلغ الملك ؟ هناك احتمال قوى بأنه يبلغ الامر الى الفريق حيدر . اذن ما الذى على أن أفعله ؟ قررت أن أسلك سبيلا وعراً تحفه المخاطرة . أن أترك رجال البوليس يقومون بتفتيش ثكنة الجيش مستعملا سلطتى كوزير للحربية . والمخاطرة واضحة . فإن رجال البوليس لو فتشوا الثكنة ولم يجدوا مطبعة أو منشورات فمسؤوليتى ستكون فادحة . وأقل ما يجب على أن أعمله هو أن أستقيل . ولكنى توكلت وعزمت .

قلت لرجل المباحث : متى لاحظتم أن الضابطين مصطفى وخالد يدخلان الثكنة ويخرجان ؟

الضابط : الساعة التاسعة صباحاً يدخلان ويخرجان بالحقيبتين الساعة الثانية عشرة .

كتبت الخطاب التالى الى قائد الثكنة ووضعته فى ظرف وصمغته وأغلقته :

" الى قومندان ثكنة المعادى ، سيحضر اليك الاميرالاى ابراهيم ومعه ستة من ضباط المباحث الساعة العاشرة والنصف صباحاً . وعليك بمجرد الاطلاع على الخطاب أن تتصل بى مباشرة تلفونياً فى مكتبى فى وزارة الحربية . " وكتبت له نمرة تلفونى الخاصة المباشرة .

أعطيت الخطاب لرئيس المباحث وقلت له ان يكون فى مكتب قومندان الثكنة الساعة العاشرة والنصف صباحاً ، وأن يسلمه الخطاب وينتظر فى مكتبه حتى تتم المحادثة التلفونية .

وتوجه الضابط فعلاً ، وفى الساعة العاشرة والدقيقة الخامسة والثلاثين دق جرس تلفونى الخاص ، ورددت .

المتكلم : أنا قومندان ثكنة المعادى . . هل أنت الوزير ؟

أنا : نعم . هل قرأت الخطاب ؟

قائد الثكنة : نعم .

أنا : إن فى الثكنة مطبعة تطبع منشورات تحرض على الثورة ، يطبعها بعض ضباط الجيش . وعليك الآن أن تسمح للأميرالاى ابراهيم وضباطه بالدخول الى الثكنة للتفتيش فوراً .

قائد الثكنة : ( يصمت فترة من الوقت ولا يرد . . )

أنا : ألا تسمعنى ؟

قائد الثكنة ( يتردد ) : ولكن يا افندم هلا ترون أنه يجب الاتصال بالفريق حيدر وابلاغه ؟

أنا : أنا وزير الحربية ، وعليك أن نتفذ ما أمرتك به فوراً وبلا تردد ، وإلا تحملت المسؤولية ، وعليك أن تصحبهم فى التفتيش .

قائد الثكنة : أنا لا أقصد عصيان الامر ، ولكن هذا هو الروتين المتبع .

أنا : نفذ الأمر فوراً ، ودع لى مسؤولية الروتين .

ودخل الضباط وفتشوا الثكنة وعثروا على المطبعة وعلى منشور جاء فيه :

" يا ضباط الجيش . ثوروا على الملك الخائن وحكومته العميلة للاستعمار . أقضوا عليهم جميعاً بلا رحمة . إن عهد الطاغية يجب أن يزول ، ورأسه يجب أن يسحق " .

وكان حول المطبعة ستة ضباط .

ثم دق التلفون ، وسمعت صوتاً يتلعثم ويتهته . وكان صوت قائد الثكنة يخبرنى بضبط المطبعة والضباط .

قلت له : تحفظ عليهم . وسأطلب من سلطات التحقيق فى الجيش ان تقوم معهم بالتحقيق .

واتصلت باللواء فريد وأخبرته بما حدث وأن يتوجه مباشرة الى ثكنة المعادى للتحقيق .

الملك يتصل بى تلفونيا ليوبخنى

كنت فى منزلى الساعة الثالثة بعد الظهر أستريح على مقعد طويل بعد تناول الغداء . وسمعت التلفون يدق . ورد عليه أحد الخدم ثم قدمه إلى .

قلت : من المتكلم ؟

فرد قائلا : أنا فاروق . هل أنت مرتضى ؟

قلت : نعم ، يا سيدى .

قال : ما هذا الذى صنعته ؟

قلت : وماذا صنعت ؟

الملك : ماذا صنعت ؟ ؟ إنك أقدمت على إجراء خطير وخطير جداً . كيف ترسل البوليس ليفتش ثكنة للجيش ؟

أنا : إنى أرسلت البوليس لأن مخابرات الجيش لا تقوم بواجبها ، ولا تريد القيام به . فسيف اليزل خليفة رئيس المخابرات العسكرية وعلي صبري رئيس مخابرات الطيران يأتيان الى مكتبى كثيراً ويقدمان تقارير تافهة تنصب كلها على أن الحزب الاشتراكي والشيوعيين هم الذين يقومون بطبع المنشورات ، وينسبوها الى الضباط الاحرار . وأبديت شكوكى لحيدر فذكر لى عن سيف اليزل وعن علي صبري انهما من أكبر المخلصين للعرش وأن علي صبري من عائلة ارستقراطية وأن خاله علي شمس باشا . وعلى رغم ذلك هل قرأت جلالتك المنشورات ؟

الملك : طبعاً قرأتها . وهى كلام عيال ولعب عيال . أنا واثق من إخلاص جيشى لى . إنك استخدمت سلطتك كوزير حربية لإجبار قائد الثكنة على السماح بالتفتيش ، مع أنك وزير حربية مؤقت الى أن أجد من يصلح لتولى المنصب .

أنا : استعملت سلطتى يا صاحب الجلالة لأن مرسوم تعيينى كوزير للحربية لم يكتب فيه انى وزير مؤقت .

الملك : ما شاء الله ، هل تريد السخرية ؟

انا : حاشاك . ولكن هذه هى الحقيقة . وعلى كل حال قد أديت واجبى . والامر متروك لك .

وأنهى الملك المكالمة . وفى اليوم التالى أخلى سبيل الضباط الستة .


الدور الذى لعبته نهى

علمت نهى الساعة الواحدة بعد الظهر من صديق لمصطفى بنبأ التفتيش وبحجز مصطفى رهن التحقيق . قال لها صديق مصطفى وكان من الضباط الاحرار ان مصطفى سيكون مصيره السجن حتماً ، وان أمر الكثيرين سيفتضح . سيجر التحقيق الى كشف أسرار كثيرة . وعليك أن تعملى شيئاً وفوراً . نحن نعلم نفوذك عند الملك . أسرعى يا سيدتى .

طار لب نهى فزعاً . فحبيبها سيذهب الى السجن . وكيف تكون حياتها وهو بعيد عنها ؟ والملك الذى حطم آمالها فى أن تكون ملكة مصر ، هل ينجو من انتقامها ؟ انها واثقة من أن مصطفى هو زعيم حركة الضباط الاحرار . لقد أقنعها بذلك بعد أن تأكد من كراهيتها وحقدها على الملك . هل تتحطم حركة مصطفى . لا . لا يمكن أن يحدث ذلك . وهدأت قليلا وأخذت تفكر . هل أذهب الى الملك وأحاول تخليص مصطفى . وأبعدت هذا التفكير خشية أن تزيد شكوكه التى بدأت تساوره من أن لها علاقة غرامية بمصطفى . اذن ماذا تفعل ؟ وخطر لها خاطر صاحت معه . لقد وجدت الحل .

مكالمة مع الفريق حيدر

تناولت نهى التلفون وطلبت حيدر وكان فى مكتبه . فرد عليها بترحيب كبير ، لما يعرفه من نفوذها لدى الملك .

نهى : هل سمعت بنبأ تفتيش ثكنة المعادى ؟

حيدر : نعم .

نهى : وكيف سمحت للبوليس بالتفتيش ؟

حيدر : انه وزير الحربية .

نهى : وهل أنت راض عن هذا التفتيش ؟

حيدر : لا . ولكن ماذا أصنع ؟

نهى : أنت الفريق حيدر . حيدر العظيم تقول لا أعرف . ماذا اصنع ؟ هل أصبحت تخاف من وزير الحربية ؟

حيدر ( متحمساً ) : أنا أخاف ؟ ماذا تقولين يا نهى . حيدر يخاف ؟

نهى : إذن ، لماذا لا تحتج لدى الملك على مسلك الوزير ؟

حيدر : ولكن المنشورات فيها طعن شديد بالملك وحض على الثورة .

نهى ( وقد طار صوابها ) : هذا هراء فارغ . لا بد ان البوليس هو الذى دس المطبعة والمنشورات . ان الضباط المحتجزين هم أشد المخلصين لمولانا . أنا واثقة من ذلك . أرجوك اذهب الى الملك واطلب الافراج عنهم فوراً واحتج على الاجراءات . واطلب منه عزل المراغى .

حيدر : ولم لا تسبقينى اليه وتقولين له هذا الكلام .

نهى : سأذهب فوراً اليه . وعليك أن تتبعنى . .

وذهبت نهى الى الملك . وذهب حيدر . وكانت النتيجة حديث الملك التلفونى معى .


العلامات مكتوبة على الحائط

أصبحت أرى بوضوح العلامات وهى مكتوبة على الحائط . فالملك أصبحت تتصرف فيه أمرأة يطاوعها فى كل ما تشير به . وقائد الجيش يتقبل توجيهاتها . فقررت أمراً ومضيت فيه .

فرق الأمن الخاصة

كنت قد اطلعت على تقرير عن فرقة منشأة فى ايطاليا منذ حوالى ثمانين عاماً تسمى ( الكارابنيرى ) أو حملة البنادق . وهى قوة مسلحة وسط بين الجيش والبوليس . ووظيفة هذه القوة أن تعاون البوليس فى حفظ الأمن . وكانت مسلحة بسلاح أقوى من سلاح البوليس وأضعف من سلاح الجيش ولعبت دوراً كبيراً فى ايطاليا . حتى انها كانت تشترك فى الحرب . واستعين بها على خلع موسولينى ديكتاتور ايطاليا المعروف .

فكرت أن أنشىء فى مصر قوة مسلحة من هذا الطراز . وكان قصدى أن أوجد توازناً بين القصر والحكومة . فالقصر يستعين بالجيش دائماً على ارهاب الحكومة . فهو يقيل الوزارات ويفرض على الوزراء إرادته ويملى عليهم ما يريد ، وغالباً لم تكن ارادته ، بل ارادة حاشيته ، وهى حاشية لا تشبع . إن لم تجد صفقات سلاح فإنها تبحث عن الاتجار بالمخدرات . وهناك امرأة تتحكم فيه وتخونه وتريد القضاء عليه . وهو يحبوها بعطفه . والجيش يضج صغار ضباطه ويكتبون المنشورات . وضباط البوليس غير راضين عن الملك وعن الجيش للاهانة التى ألحقها بهم الملك والجيش حين أضربوا مطالبين بزيادة أجورهم واعتصموا فى حديقة الأزبكية سنة 1947 فأرسل الملك اليهم الجيش وحاصرهم نالهم ذل شديد . كل ذلك حفزنى على أن أنشىء فرقة من نمط خاص لكى تستطيع الحكومة فى الوقت المناسب أن تلوح بها فى وجه الملك ، ليقف عند حده هو وحاشيته . وفاتحت رئيس الوزراء نجيب الهلالي بالفكرة ، ووافق عليها مدركاً أغراضها . ولكن كان لا بد من عرض الأمر على الملك . فأرسلت اليه مذكرة بأن هذه الفرقة ستكون مهمتها مقاومة عناصر الشغب ضارباً مثلا بحريق القاهرة . سواء أكانت هذه العناصر شيوعية أو إخوان مسلمين . أما الإخوان المسلمون فكان الامر بالنسبة اليهم جداً وحقيقة . إذ أنهم كانوا مسلحين تسليحاً جيداً . وأما الشيوعيون فالحجة بالنسبة اليهم حجة واهية . إذ كانوا قلة لا يعتد بها ، ولم يكن العنف فى برنامجهم .

ولكن كنت أعلم أن الملك لا يخشى إلا الشيوعية . ولعل الذى أفرغ ذلك فى ذهنه هو تستا المانيكير الايطالى . وقد ضربت على ذلك الوتر الحساس لأنال موافقته . وقد نلتها .

بقى على أن أدبر السلاح اللازم للقوة . وكان مشروعى أن تكون مؤلفة من ثلاثين ألف رجل . عشرة آلاف منهم فى القاهرة . وعشرة آلاف فى طنطا والإسكندرية . وعشرة آلاف فى أسيوط . ورأيت أن يكون تسليحها على الوجه التالى تسعون سيارة مصفحة مركبات لحمل الرشاشات الثقيلة ، ومركبات تحمل الجنود المسلحين ببنادق أوتوماتيكية ، ومركبات لحمل جنود البنادق العادية . وهليكوبترات . فالقوة كلها كانت ميكانيكية . ورأيت أن يكون اختيار القوة من جنود الجيش السابقين وسلاح الحدود وسلاح الهجانة . وأرسلنا ضباطاً الى السودان لاحضار جنود سلاح الحدود الذين انتهت خدماتهم .

وبقيت النقطة الهامة : من أين أطلب السلاح ؟ إنى لا أريد أن أعيد مأساة الأسلحة الفاسدة . وخشيت أن تنتهز حاشية الملك الفرصة لتسرع الى أسواق أوروبا . فقررت أن أطلبه من الحكومة الامريكية . وكانت أمريكا هى التى تسلح أوروبا . واستدعيت السفير كافرى وشرحت له الأمر . فاستمع ملياً .

وقال : انها قوة ضخمة تكاد أن تكون حربية .

قلت : إنى محتاج اليها لمهام ضخمة .

قال : ولكننا لا نعطى هذا القدر من الاسلحة إلا لحلفائنا ، كحلفائنا فى منظمة حلف الاطلنطى أو فى حلف شرق آسيا . وانتم لستم حلفاءنا .

قلت : اننا لا نريدها لأغراض حربية .

قال : ولكنها قد تستخدم لأغراض حربية . انكم لا تزالون فى حالة حرب مع إسرائيل .

قلت : قلت لك إن هذه قوة لحفظ الأمن . ألم تسمع عن حريق القاهرة ؟ هل استطاع البوليس أن يحفظ الأمن ؟

قال : سأحاول أن أقنع حكومتى .

وعاد بعد اسبوع ليقول ان حكومته تشترط ان توقع الحكومة المصرية معها ميثاق تحالف حتى تحصل على الاسلحة .

رفضت ذلك ، وقلت : أريد الاسلحة بلا شروط .

فعاد الى بعد اسبوع وقال : ان حكومته متنازلة عن شرط الدخول فى التحالف ، ولكنها تشترط على أن ينص العقد على ألا تستخدم الاسلحة فى أعمال حربية ضد أية دولة أخرى .

ووافقت . وتم مشروع الاتفاق فى 29\4\1952 . ولم ترد هذه الاسلحة حتى قيام الثورة فى 23 يوليو ( تموز ) . وكل ما تبلغته هو أن الملحق العسكرى أخطر الوزارة بأن حكومة الولايات المتحدة ( وزارة التجارة ) قد وافقت على انتاج وتصدير 425 عربة جيب ويلز و 250 ناقلة فى الربع الثانى من سنة 1952 أى مايو و يونيو ( آيار وحزيران ) و150 ناقلة فى الربع الثالث ، اى يوليو و أغسطس ( تموز وآب ) . ولم ترد اى إشارة من الامريكان عن الترخيص بارسال عربات مصفحة أو أسلحة . وقد احتج المرحوم جمال عبد الناصر على امريكا فى خطبه له بأنها أعطت حكومة الهلالى أسلحة ورفضت طلباً تقدم به اليها . وقد جرى معى تحقيق بعد الثورة فى معتقل أودعت فيه مع عدد كبير من الساسة والوزراء .

جاءنى ضابط وأنا نائم فى الساعة الثالثة صباحاً . وأيقظنى قائلا :

تعال معى .

قلت الى أين ؟

فقال : ليحقق معك .

قلت : فى هذه الساعة المتاخرة ؟

قال : ليس هذا شأنى .

وأدركت أنهم قصدوا ذلك . ففى هذه الساعة يكون الفكر عاطلا راكداً ، لا يمكن جمع شتاته وحصره للاجابة عن الأسئلة .

وسألنى المحقق : لماذا أردت تكوين فرق الأمن الخاصة ؟

أنا : لحفظ الأمن .

المحقق : وهل حفظ الأمن يقتضى كل هذه القوة المسلحة ؟

أنا : حفظ الأمن يقتضى قوة مسلحة ضخمة دائماً ، وخصوصاً فى الاوقات العصيبة .

المحقق : مثل ماذا ؟

انا : مثل حريق القاهرة .

المحقق : ولماذا تجند جنود أمن السودان ؟

انا : هؤلاء جنود سبق أن خدموا فى مصر .

المحقق ( بغيظ ) : ألم يكن لك غرض آخر ؟

أنا : لا . وددت أن أعرف تصوركم لهذا الغرض .

المحقق : أم يكن غرضك احباط حركة الضباط الاحرار .

أنا : ولماذا لا تفسر غرضى بعكس ذلك ؟

ودام التحيق على هذا النمط ليالى طولية حتى ضاق صدرى من قلة النوم والاجهاد . فما ان بدأ التحقيق فى المرة الأخيرة حتى قلت :

اكتب يا حضرة المحقق لقد اردت من انشاء هذه القوة ان اقوم بانقلاب كالذى قمتم به . وانى فى هذا المعتقل لسبب واحد هو انى فشلت ونجحتم أنتم .

الموضوع ذو الشعب الاربع

اعتقل البوليس محامياً يدعى الاستاذ جمال طولان ، وهو عضو بارز فى الحزب الاشتراكي وجرى معه تحقيق فى يوم 10 مارس ( آذار ) 1952 . بدأه المحقق بأن سأله عن موضوع الزجاجات الملتهبة . وطلب منه أن يكتب تقريراً بنفسه . فرفض جمال طولان أن يكتب التقرير لأن فى ذلك خطورة عليه . ولكنه سيملى على المحقق ليكتب .

بدأ المحقق يعد نفسه للكتابة فوجىء بالسؤال التالى :

جمال طولان : هل لوجيه اباظه علاقة بالقصر ؟ وهل هو مكلف من القصر القيام بأعمال معينة ؟

المحقق : لا أظن أن لوجية اباظة علاقة بالقصر .

جمال طولان : إذن أرجوك أن تكتب .

وكتب المحقق .

بعد الغاء المعاهدة بحوالى اسبوعين ، تم الاتصال بين جمال طولان وشخص عرف انه ضابط فى الجيش برتبة البكباشى واسمه على ، وكان مرتدياً ملابس مدنية ، وهو ممتلىء الجسم ابيض اللون وفى وجهه حمرة وله شارب كبير . كانت المقابلة فى هيليوبوليس عند سينما روكسى . ونزل طولان من التاكسى ووجد الضابط بجوار سيارة صغيرة سوداء . وسأله الضابط :

هل أنت جمال ؟

فقال : نعم .

وركبا سيارة الضابط فى اتجاه سراى القبة . وفى مكان خال من المبانى وقفت السيارة وقال الضابط :

أنا معى هدية جميلة فى الدرج الخلفى للسيارة .

وفتح الضابط الدرج وأراه صندوقاً فيه زجاجات ملتهبة ، وحول الزجاجات نشارة خشب حتى لا تكسر وقال له:

إذا أردت الحصول على سلاح أيضاً فتوجه الى ادارة المخابرات ، وهى تقع امام الكلية الحربية واسأل عن ضابط اسمه عصمت ، وهو على علم بقدومك .

وفى الساعة السابعة مساء توجه طولان الى ادارة المخابرات ، فوجد فى انتظاره ضابطاً برتبة اليوزباشى قال له ان اسمه عصمت . ودخل الى غرفة فيها ثلاثة ضباط . وتكلم عصمت معهم ثم خرج مباشرة مع جمال طولان فى سيارة لونها نبيذى الى عمارة ضخمة . ودخلا إحدى شقق العمارة ، فوجدا وجية اباظة الذى قال له إن لديه 200 زجاجة ملأى بالمواد الملتهبة ، وان معه بعض الضباط والصف ضباط فى غرفة العمليات الخاصة فى منية القمح فى الشرقية .

وفى يوم آخر توجه طولان الى منزل وجية أباظة فى هيليوبوليس وذكر اسم الشارع الذى فيه المنزل ، وهو 9 شارع سيدى جابر ، وقال انه حضر فى أثناء جلوسهم شخص أدخل حجرة أخرى . وبعد مدة استدعى وجيه أباظه جمال طولان وأدخله الغرفة وقال له : هذا بغدادى بك . وعرف فى ما بعد ان اسمه الكامل عبد اللطيف البغدادي .

استوقف نظرى هذا التقرير وأطلت التفكير فيه : إنى أعلم أن وجية اباظة هو من الضباط الاحرار ، وأنه يقوم بعمليات فدائية ضد الانجليز فى منطقة قنال السويس . والملك فاروق أعلن أنه تبرع للفدائيين بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه .

وان سؤال جمال طولان للمحقق فيه تخوف كبير من الكلام عن وجية اباظة . لأنه يعلم بأن له صلة بالقصر . واذ يطمئنه المحقق بأن لا صلة لوجيه اباظه بالقصر يتكلم طولان عن حيازة اباظه وضباط من المخابرات للزجاجات الملتهبة ولأسلحة كثيرة تستلزم مبالغ طائلة للحصول عليها . ثم يلفت نظرى أكثر ، ورود اسم عبد اللطيف البغدادي الذى كان اسمه وارداً فى قائمة كبار الضباط الحرار الذين قدم كشف باسمائهم الى الملك ، ولكن المخابرات الحربية برئاسة سيف اليزل وعلي صبري نفت أى نشاط لهم . واقتنع حيدر وكذلك الملك . وزاد فى اقتناع الملك ان وصيفة القصر نهى كانت تقول له دائماً ان حكاية الضباط الاحرار من اختراع رجال البوليس .

هذا التقرير جعلنى أفكر : هل وصل الضباط الاحرار الى الملك عن طريق إقناعه بأنهم يقومون بعمل فدائى ضد الانجليز فى قنال السويس ؟ وكانت كراهية الملك للانجليز غير خافية فأمدهم بالأسلحة وبالمال. ولكن الزجاجات الملتهبة قد تلقى على الدبابات والعربات المصفحة مع مجازفة كبيرة بالحياة . والقاهرة أحرقت بالزجاجات الملتهبة . فهل لعب الملك فاروق مع الضباط الاحرار لعبة الفدائيين ليساعدوه على حريق القاهرة ؟ ولعبوا هم عليه لعبتهم الكبرى . وتظاهروا بأنهم يخدمون هدفه من حرق القاهرة حتى يطيح بالوفد إطاحة لا يتسنى له بعدها أن يعود الى الحكم فيركن اليهم ويثق بهم وينتفى كل شك فى تقارير البوليس عنهم . إنها خدعة ماهرة ماكرة ولو انها كانت باهظة الكلفة .

أحمد عبود يدفع 200 ألف جنيه ثمنا لرأس الهلالى

كان أحمد عبود يملك شركة السكر وشركة الاسمنت وشركة الفوسفات وشركة البواخر . وقيل إن مجموع ثروته حوالى المائة مليون جنيه . أى أن دخله السنوى يبلغ على الأقل عشرة ملايين جنيه بينما دخل الفلاح هو ثلاثين جنيهاً فى السنة . ومع كل هذا ، فإن أحمد عبود لم يكن يدفع الضرائب المستحقة عليه للخزانة . ولماذا ؟ لأن بعض رؤساء الوزارات وأغلب وزراء الخزانة كانوا أعضاء فى مجالس شركاته . وجاءت وزارة الهلالى فى أوائل مارس ( آذار ) 1952 تحمل علم التطهير . تريد أن تطهر الادارة من الفساد ، وأن تصدر قانون من أين لك هذا ، وأن تجعل كل شىء يسير على ما يرام . كان الهلالى أميناً ونزيهاً . ولكنه كان يحمل لحزب الوفد كراهية شديدة ، لأنه كان عضواً فيه وانفصل عنه . ولم يكن للهلالى حزب يستند اليه . وكانت كل قوته هى السراى . ولكن التطهير اذا دخل السراى خرج كل من يقيم فيها لا من الابواب بل من النوافذ .

وقبل الملك ببرنامج الهلالى على أن يبدأ بالوفد وبالحكومة . أما اذا حاول الاقتراب من القصر ، فعندئذ لكل مقام مقال . وبدأت يد الهلالى تمتد الى أكبر صديق للوفد وللانجليز معاً وهو أحمد عبود . ولم يكن أحد من أعضاء وزارة الهلالى قد دخل مجالس شركات عبود . وقلبت دفاتر عبود ، فوجد أنه ماطل الخزانة فى خمسة ملايين جنيه ضرائب . وأنشب وزير الخزانة أظافره فى عنق عبود وطالبه بها . وأرسل اليه إنذاراً على يد محضر بالدفع وإلا اتخذت إجراءات الحجز على امبراطوريته الواسعة .

وأخذ عبود يبحث عن مخلص . فكر فى الانجليز . ولكنه عدل . لأنه يعلم أن الانجليز لن يساعدوه . فكر فى أن يأتى بمحامين مقتدرين يقيمون الاشكال تلو الاشكال . عسى أن يمضى وقت طويل تذهب معه حكومة الهلالى . ولكن الحكومة أخذت تضيق عليه الخناق . وكاد ان يصدر الأمر بالحجز على شركاته وأمواله سداداً للضرائب المتأخرة . وهداه تفكيره الى من ؟

عدلي إندراوس

كان موظفاً بسيطاً فى شركة نسيج تسمى شركة البيضا التى كان يملك أغلب أسهمها الانجليز . وكان لا يحمل إلا شهادة الدراسة الابتدائية . وتدرج الى أن أصبح مديراً عاماً لها . وجاءت الحرب فأثرى ثراء فاحشاً . واتصل بحاشية الملك . وعرض على الملك أن يساهم فى الشركة وباع له حصة كبيرة من الاسهم ، وارتفعت قيمة الأسهم وكسب الملك مكسباً كبيراً . وكافأة الملك بتعيينه مستشاراً اقتصادياً له ، وأنعم عليه برتبة الباشوية .

توجه عبود الى اندراوس متوسلا ان ينقذه من الهلالى . واعتذر اندراوس . ولكن عبود قال له :

ما عليك . تكلم معه . قل له إنى مستعد لبذل كل شىء .

اندراوس : وما تعنيه ببذل كل شىء .

عبود : قل هذه العبارة للملك وهو سيفهمها .

وذهب اندراوس الى الملك ، وكان فى نادى السيارات يلعب البكاراه . وخسر مبلغاً كبيراً . جلس اندراوس على المائدة يلعب أيضاً كعادته . ولما انتهى اللعب ، قال :

أريد أن أحدثك فى شىء يا مولاى .

الملك ( وقد أغضبته الخسارة ) : دعه الى الغد .

اندراوس : قد يكون الغد متأخراً .

وقص عليه قصة عبود .

الملك ( ضاحكاً ) : وما هو الرقم الذى حدده عبود ؟

اندراوس : أظن أنه فى حدود المائة ألف .

الملك : مائة ألف لا هذا قليل . قل له مائتا ألف . ودفع عبود المبلغ . وقيل للهلالى أن يؤجل مطالبته بالضريبة فرفض . وطلب منه تقسيطها فرفض .

وفى يوم من أواخر مايو ( آيار ) كنت فى مكتبى ودق جرس التلفون . وكان المتكلم اندراوس . قال لى انه يود رؤيتى . وحددت له موعداً . وحضر فى الموعد . وجلس ، وأخرج علبة جلدية فيها سيجار وعرض على سيجاراً ضخماً وأشعله وبدأ ينقر غطاء المكتب الزجاجى بأصابعه وأنا أنظر اليه ، ثم تأوه وقال :

هل أنت مسرور مع الهلالى ؟

قلت له : نعم . .

قال : يا خسارة ، إنه رجل حنبلى خالص .

قلت : حنبلى لماذا ؟

قال : يعنى لازم يخرب بيت عبود ؟ هل تعلم انه لو خرب بيت عبود انهار الاقتصاد ؟

قلت : هل لمبلغ خمسة ملايين جنيه يخرب بيت عبود ، وثروته مائة مليون ؟ ان هذه الخمسة ملايين هى نصف دخله السنوى .

اندراوس : ولكن الخمسة ملايين اذا دفعت مرة واحدة تقصم الظهر . وعلى كل حال مولانا أصبح يضيق بتصرفات التطهير . وغداً سيصل الموسى الى ( ثم أشار الى رقبته وضحك قائلا ) ولعلكم تريدونها أن تصل إلى ما هو أعلى واستأذن وانصرف .

أسرعت الى الهلالى وأخبرته . فقال : وبماذا تنصح ؟

قلت : ترقب .

وبدأت معاكسات الملك . واستقال الهلالى . واشترى عبود الخمسة ملايين بمائتى ألف . وكانت ضربة مروعة من فاروق عجلت بالنهاية .

فشل مشروع مرسوم بإحالة حسين سري عامر

كانت النذر واضحة وسحب السخط تلبد سماء مصر . لا يمضى يوم إلا وللضباط الأحرار منشور أو منشورات. ولاحظت انهم يكثرون من ذكر حسين سري عامر على أنه عامل من عوامل الفساد ، ويطالبون بإخراجه من الجيش . وكنت أريد أن أفعل شيئاً أحاول التخفيف به من سخط الجيش بعد أن فشلت محاولتى الاولى بإحالة عثمان المهدي الى المعاش وتعيين حسين فريد ، وهو ضابط كان محبوباً فى صفوف الجيش . فطلبت من الفريق حيدر للحضور الى مكتبى . وعرضت عليه فكرة إقالة حسين سري عامر . فقال إنها فكرة عظيمة .

قلت له : قدم إلى اقتراحاً بذلك لأعد المرسوم .

قال : تريد أن تغضب الملك منى ؟ قلت :

هل تعلم أن غاية ما يريده الملك هو أن يجىء يوم وسيكون قريباً لاحالتك انت بالذات الى المعاش ، ليعين مكانك حسين سري عامر ؟

قال حيدر : فى الوقت الحاضر لا أظن . ولكنى لا أستبعد ذلك .

قلت : بصفتك قائد الجيش ، هل تعلم كل شىء أو بعض الشىء عن تصرفات حسين سري عامر ، وعن صلته القوية بحاشية القصر ؟

قال : هل تقصد تهريب الحشيش ؟

قلت : نعم .. وها أنا أرى أنك تعلم ، فهل تشك فى ذلك ؟

قال : إنى أعلم وأشك كثيراً فى تصرفات حسين سري عامر . ولكن ماذا أصنع ومولانا راض عنه ؟

قلت : اذا كنت مخلصاً لمولانا ، فهل من المصلحة أن تنتشر الفضيحة ؟ ألست ترى سخط قسم كبير من الجيش؟

حيدر : أوافق على ما قلت . ولكنى لا أريد أن أغضب الملك .

قلت : اسمع لنجد حلا للمشكلة . سأضع مذكرة أقول فيها إنى تدارست معك موضوع حسين سري عامر ، وتم رأينا على أنه لا يصلح لتولى منصب كبير فى الجيش كقائد ، وأنه يحسن إحالته على التقاعد .

أطرق حيدر ، وكان يحمل عصا قصيرة أخذ يضرب بها حذاءه وفخده ثم قال : أوافق وأمرى لله .

وأعددت مرسوم القانون وأرفقت به المذكرة وعرضته على مجلس الوزراء . وأذكر أن أحد الوزراء قال : ولكن هل يوافق الملك ؟

قلت : أعتقد أنه يوافق .

وأرسل المرسوم الى القصر . وكانت مفاجأة كبيرة للملك أفاق من بعدها وطلب حيدر .


مقابلة عاصفة:

وذهب حيدر . وأدخل فى صالون صغير بجوار مكتب الملك . وأجلس على مقعد قريب من الباب الذى يفصل الصالون عن غرفة المكتب ، وترك الباب مفتوحاً وظل جالساً ساعة كاملة لم ير أحداً ولم يقدم اليه حتى ولا كوب ماء . ثم دخل كريم ثابت الصالون متجهاً الى غرفة المكتب وهو مسرع فى مشيته . وقام حيدر ليحييه ، ولكن كريم أشار اليه بيده أن يجلس ولم يمد يده لمصافحته . وجلس حيدر . وبعد دقائق سمع صوت الملك يدوى عالياً ويصيح : أرأيت يا كريم ما فعل ضابط السجون الذى جعلناه قائداً للجيش . أصبح يتنمر على هذه الايام . أليست مصيبة ؟

كريم ( متجاهلا ) : من هو ضابط السجون الذى يتنمر يا مولاى ؟

الملك : حيدر ياسى كريم . . نعم حيدر .

كريم : (بتعجب) : حيدر .. وماذا صنع ؟

الملك : اتفق هو والمراغى على إحالة سرى عامر الى المعاش وأرسلا الى المرسوم .

كريم : أعوذ بالله . هل وصلت الجرأة الى هذا الحد ؟

الملك : نعم . ولكنى سأعرف كيف أعاقبه . وأنت يا كريم اذهب الى حيدر وقل له أن ينصرف . لا أريد أن أرى وجهه .

كريم : أرجوك يا مولاى أن تصفح عنه . واسمح له بالتشرف بالمقابلة .

الملك : لا لن أقابله . ولا بد أن أتخذ معه إجراء .

سمع حيدر الحديث وصعد الدم الى رأسه . قال لنفسه : هل هنت لهذا الحد . أأشتم بهذه الطريقة المزرية وبهذه التمثيلية الرخيصة ؟ أليست لى كرامة ؟ والوسيط من ؟ كريم ثابت الذى يضج البلد من فساده .

وحضر اليه كريم ثابت يحاول أن يطيب خاطره . ولكن حيدر أخذ عصاه وكانت على كرسى بجانبه ، ولم يقل كلمة وخرج متوجهاً الى منزله .

حيدر يقول : الملك سيدفع الثمن غاليا

اتصل بى بعد يومين أن الملك سيرسل حافظ عفيفي رئيس الديوان الى حيدر طالباً منه أن يقدم استقالته . كنت فى منزلى مريضاً فاتصلت بحيدر فى مكتبه فلم أجده ، فاتصلت به فى منزله ولم أجده ، وقيل أنه فى فندق مينا هاوس . وكان أحد أخوتى بجانبى فقلت له : أسرع الى فندق مينا هاوس . قابل حيدر وقل له : اذا جاءك حافظ عفيفي وطلب منك الاستقالة فلا تقبل طلب الملك ، وقل له لن أستقيل وعليه أن يقيلنى ، ولكنى لا أستقيل . وبعد ساعتين عاد أخى وقال انه أبلغ حيدر الرسالة .

انا : وماذا قال لك حيدر .

أخى : قال هذه المرة سيدفع الملك الثمن غالياً .

وزارة الاربع والعشرين ساعة

دعا الملك يوم 22 يوليو ( تموز ) الهلالى لتشكيل الوزارة عقب استقالة وزارة حسين سري التى دامت 17 يوماً . ودعانى الهلالى للدخول معه . فقلت إنى اعتذرت عن دخول وزارة حسين سري وما زلت مصراً على عدم الاشتراك فى اية وزارة .

قال : اذا لن تدخل معى فانى لن أشكل الوزارة .

قلت له : وما الفائدة ؟ هل نسيت أنهم باعوك بمبلغ مائتى الف جنيه .

قال : ولهذا جئت . سأعقد مجلس الوزراء بعد يومين وأطالب بتطهير القصر من كريم ثابت وبولى واندراوس وكل عناصر الفساد فيه . سيكون هذا الطلب قراراً من مجلس الوزراء . وسنرى كيف يكون وقعه .

قلت : اذا كان الامر كذلك فإنى أقبل .

وذهبنا الساعة الرابعة بعد ظهر يوم 22 يوليو ( تموز ) 1952 الى قصر المنتزه فى الإسكندرية لحلف اليمين . ولكن ماذا حدث .

تعيين وزير لم يكن فى قائمة الوزراء

دخلنا قاعة كبرى كل ما فيها أخضر : مقاعدها وسترائرها وأبوابها . وحليت السقوف برسوم ذهبية وتدلت منها ثريات ضخمة . وكان دخولنا الساعة الرابعة إلا خمس دقائق ، لأن الملك سيدخل الساعة الرابعة تماماً وتبدأ بعد ذلك عملية حلف اليمين . ومرت الرابعة ولم يدخل الملك حتى دقت الساعة الربع بعد الرابعة ورأى الوزراء رئيس الديوان يدخل ويتوجه الى الهلالى ويهمس فى أذنه ويقوم الهلالى ويسير متوجهاً مع رئيس الديوان الى غرفة مكتب الملك . وظللنا نحن الوزراء ينظر كل منا الى الآخر ولا نقول شيئاً . وفى الساعة الخامسة دخل الهلالى القاعة وتوجه وجلس بجوارى . وتنهد .

قلت أخيراً .

قال : أنت تعرف أن مرسوم تعيينك وزيراً يتضمن أنك وزير داخلية وحربية .

قلت : نعم ، أعلم ذلك .

اهلالى : لقد استدعانى الملك كما تعلم وطلب منى أن أصرف النظر عن تعيينك وزيراً للحربية اكتفاء بوزارة الداخلية .

أنا : ليس فى ذلك من بأس . وكم كنت مرهقاً من الجمع بينهما . ولكن لى سؤال : لقد علمت منك أنه قد وافق على المرسوم الذى قدمته اليه . فما الداعى لهذا التعديل الآن ؟

الهلالى : لأنه يريد تعيين زوج أخته إسماعيل شرين .

انتفضت وافقاً وقلت : هل تعلم أن إسماعيل شرين برتبة يوزباشى احتياطى ؟ فكيف يقفز الى رتبة وزير ؟ اذا كان الملك يريد ضابطاً فعنده على الأقل مائة لواء . لماذا لم يعين حيدر أو حسين فريد أو محمد نجيب ؟

الهلالى : إنه مصر على تعيين إسماعيل شرين .

أنا : ألم أقل لك انه لا فائدة . أرجوك أن تدعنى أنصرف .

وأمسك الهلالى بيدى قائلا :

أرجوك أن تبقى . ستكون فضيحة لو خرجت . لقد وعدته بقبول دخول إسماعيل شرين . هل تريد أن تفضحنى ؟

وكانت الدموع تترقرق فى عينيه . فسكت . وأعتقد أن أكبر خطأ فى حياتى ارتكبته هو قبولى لذلك الوضع . ولا أزال نادماً عليه حتى الآن .

وجاء إسماعيل شرين الساعة السادسة مساء ليحلف معنا اليمين .

صباح ليلة الثورة

فى صباح يوم 23 يوليو ( تموز ) كنت جالساً فى مكتبى فى بولكى برمل الإسكندرية . وفى الساعة العاشرة دق جرس التلفون وقال السكرتير :

ان اللواء أحمد طلعت حكمدار القاهرة يطلبك من القاهرة .

رددت عليه . فقال :

اتصلت بى منذ عشر دقائق سيدة وقالت لى وهى تبكى أن عربة نقل من عربات الجيش مرت على بيتها ونزل منها ضابط متمنطق بمسدس وصعد الى المنزل ، وطلب نجلها وهمس فى أذنه بشىء . ودخل ابنها الغرفة وارتدى زيه العسكرى على عجل وتمنطق بالحزام الذى يحمل المسدس . وسألته أمه : لماذا تتمنطق بالحزام والمسدس وانت فى عطلة والى أين أنت ذاهب ؟ خرج لا يلوى على شىء وهو يصيح ادعى لى يا لأمى . فذهبت الى النافذة ورأت فى سيارة النقل عدداً من صغار الضباط .

قلت له : وماذا تظن ؟

قال : أظن أنه أمر غريب .

قلت له : تحقق من أن الضباط يتوجهون الى ثكناتهم بتلك الطريقة .

وبعد ساعتين ، حوالى الظهر اتصل بى قائلا : ان بعض عربات قليلة نقلت الضباط ولكن الأمر لم يتخذ شكل حشد .

وعاد فى الساعة الثانية وقال : ان البوليس لم يشاهد أية تجمعات للضباط أمام الثكنات وانه لم تُشاهد سيارات نقل .

فكرت على الفور فى منشورات الضباط الاحرار وفى التقارير المكدسة فى وزارة الداخلية عن نشاطهم . ودب الشك فى نفسى فى أنهم بدأوا يتحركون . مع أن المعلومات التى كانت متوافرة لدينا تقول إن حركتهم ستتم فى شهر سبتمبر أو أكتوبر ( أيلول أو تشرين الأول ) . وخطر لى خاطر . ألا يكون التعجيل بالحركة مرده تعيين إسماعيل شرين وزيراً للحربية . طلبت من سكرتيرى أن يتصل على عجل بالفريق حيدر . وبحث عنه السكرتير فى كل مكان يمكن ان يكون موجوداً فيه فلم يجده . ومن الغريب أنه متعود ، اذا لم يكن فى بيته أو فى مكتبه ، أن يذهب دائماً إما الى مينا هاوس وإما الى نادى الزمالك . وعلى كل حال فانه كان يترك دائماً نمرة تلفون المكان الذى هو فيه . واتصلت باللواء حسين فريد وقلت له ما ذكره اللواء طلعت .

فقال : ان كل شىء هادىء فى عمله ولعلهم ذاهبون لمشاهدة مبارة لكرة القدم .

قلت : وهل يذهبون الى المباراة بأسلحة ؟

فقال : على كل حال ، الذى أعرفه أن كل شىء هادىء .

طلبت من السكرتير ان يصلنى بوزير الحربية إسماعيل شرين . فأجابنى انه غير موجود فى مكتبه وانه اتصل بمنزله فقيل له انه فى رحلة صيد سمك على ظهر يخت يملكه . وانتظرت حتى الخامسة ظهراً وسألت عنه مرة أخرى فقيل انه لا يزال فى رحلة الصيد . كل ذلك وحيدر لم يتصل بى . فاتصلت بقصر المنتزه وطلبت التحدث مع الملك .

رد على أمينه الخاص ويدعى حسنين قائلا : إن جلالته يعوم فى البحر .

قلت : أخبره حين يعود انى أود التكلم معه .

وكنت فى الصباح قد اتصلت بالهلالى وأبديت له الشكوك التى ساورتنى . فطلب منى أن أتحرى جيداً وان اتصل بالقصر . ولما حلت الساعة السابعة ، وحيدر لم يتكلم ، وإسماعيل شرين لم يعد بعد من الصيد ، والملك لا يرد ، طلبت الهلالى .

وكان رده : يعرف شغله الملك . وإحنا نقلق علشان ايه يا مرتضى . أنا قرفان واللى يحصل يحصل .

وفى الثامنة اتصل بى حسنين أمين الملك الخاص وقال لى :

ان الملك عاد من البحر ويريد أن يعرف لماذا طلبت التحدث معه .

قلت له : قل للملك انى أود مقابلته فوراً .

فعاد يقول :

ولماذا تريد أن تقابله ؟

قلت : لأنى أخشى حدوث شىء فى الجيش فى المساء ، لهذا أريد مقابلته .

فذهب وعاد ليقول :

هل اتصلت بوزير الحربية أو الفريق حيدر .

لم أعد أحتمل هذا العبث وقلت له :

ما دام الملك لا يريد مقابلتى فاتصلوا انتم بمن تريدون الاتصال به .

وقد علمت بعد ذلك أن نهى وصيفة القصر قد لازمت الملك منذ الصباح . وأنها تناولت معه طعام الغداء وعامت معه فى البحر ، وعلمت بالمكالمة التلفونية التى أجريتها مع أمينه الخاص ، وقالت له ان وزير الداخلية لن يتركك فى راحة أبداً . إنه يريد أن يجعلك تصطدم بالجيش بأى وسيلة . اهدأ بالاً يا مولاى ولا تهتم لهم ، إن الجيش موالٍ لك .

وفى الساعة التاسعة اتصل بى إسماعيل شرين وقال :

سمعت انك طلبتنى عدة مرات .

أنا : نعم طلبتك للأعرف كم سمكة اصطدتها .

فضحك قائلا : وايه لزوم التريقة ( المزاح ) .

قلت : اسمع . لقد طلبتك لأن حكمدار القاهرة تكلم هذا الصباح عن تجمعات للضباط . وقد حاولت الاتصال بحيدر فلم أوفق . وأنت كنت فى رحلة السمك . والملك يعوم فى البحر . والهلالى يقول اتركهم يتفلقوا . وأنا الوحيد المفلوق فما رأيك ؟

زاد ضحكه وقال : سأتصل الآن بحيدر .

قلت : وأين ستجده ؟

إسماعيل شرين : إنى سأعرف أين أجده .

وفى التاسعة والنصف ، اتصل بى إسماعيل شرين ليقول لى ان حيدر تكلم معه . ولما أخبره بكلام حكمدار البوليس قال حيدر إن بوليس مصر حشاشون يتخيلون دائماً وقوع ثورة .

فقلت له : يا اسماعيل لن تمضى هذه الليلة حتى تفيق انت وحيدر والملك من سطوة المخدر المخيمة على رؤوسكم . ستصحون قريباً جداً على الحقيقة المؤلمة . نعم ستصحون على جلجلة الدبابات وهى تقتحم أسوار القصر .

وفى الساعة العاشرة قلت : ألق بدلوك فى بئر أخرى ، واتصلت باللواء محمد نجيب ، فرد على .

قلت له : يا لواء نجيب ، ان فريقاً من الضباط يتجمعون للقيام بثورة ، ومعظمهم من سلاح المشاة الذى أنت قائده . وانى أخشى من تدخل القوات البريطانية ، ويعود حادث عرابى والخديوى توفيق .

محمد نجيب : أقسم بالله العظيم أنى لا أعرف شيئاً .

أنا : حاول أن تعرف شيئاً . وأنت تستطيع مع أولادك أن تكبح جماحهم .

ولكن شيئاً أدهشنى بل أذهلنى . ففى الساعة العاشرة والنصف اتصل بى مأمور ميناء الإسكندرية وقال لى إن اليخت الملكى المحروسة ، أمر بالتأهب للابحار فى فجر الغد وان البحارة والضباط الذين فى اجازة يبحث عنهم للعودة الى اليخت قبل منتصف الليل . إذن فالملك يريد أن يهرب .

الساعة الحادية عشرة

اللواء حسين فريد يطلب منه حيدر التوجه الى مكتبه فى قيادة الجيش فى العباسية فيسأله : وما السبب ؟

فيقول حيدر ان وزارة الداخلية تقول ان هناك بعض مظاهر التذمر فى صفوف بعض فرق الجيش ، ويحسن أن تذهب الى مكتبك لمراقبة الحالة .

حسين فريد : هل أعلن حالة الطوارىء فى الجيش ؟

حيدر : لا .. لا داعى إطلاقاً لذلك . وعلى كل حال انتظرنى فى المكتب وسأمر عليك .

حسين فريد : هل أستدعى اللواءات قواد الفرق .

حيدر : لا . لقد طلبت من طنطاوى قائد المدفعية أن يذهب الى مكتبه من باب الاحتياط .

حسين فريد : وبقية القواد .

حيدر : لم أجد داعياً لاستدعائهم .

وفى الساعة الثانية عشرة ، ذهب ضابطان الى غرفة اللواء طنطاوى وقالا له : حيدر باشا يطلب سعادتك على التلفون .

اللواء طنطاوى : ولماذا لا يكلمنى فى مكتبى ؟

أحد الضباط : تلفونك عطلان يا افندم ، فتفضل الى غرفة الضابط النبوتجى .

كان اللواء طنطاوى جالساً يمسح عرقة المتصبب على رغم وجود مروحة أمامه . وكانت أزرار جاكيته التى كانت تخنق كرشه الغليظ مفكوكة . فقام متثاقلا وسار ، وأمامه ضابط ووراءه الآخر ودخل غرفة التلفون . وأقفل الضابط المتأخر الباب بالمفتاح وأخرج الضابط الأول مسدساً وضعه فى كرش اللواء وقال :

سعادتك ستظل هنا محبوساً وأرجو ألا تقوم بأية حركة .

اللواء طنطاوى : ايه ده يا ولاد . هذه دعابة سخيفة .

الضابط : ليست دعابة . واياك أن تصرخ وإلا خرجت أمعاؤك .

وتحركت عند منتصف الليل كتيبة من المشاة يبلغ عدد أفرادها ستمائة جندى بقيادة البكباشى صديق فريد الى مقر رئاسة أركان الحرب ، واقتحموا الأبواب الخارجية . فأطلق أحد الحراس النار وكانت طلقة واحدة رد عليها بمدفع رشاش . أصيب الحارس بجراح . وقبضوا على رئيس الأركان ولم يكن معه إلا ضابط واحد وجندى واحد . ثم تحركت وحدة صغيرة من سلاح الفرسان وتبعتها وحدة من سلاح المدفعية بقيادة ضباط برتب صغيرة . واستولى الجيش على محطة الاذاعة وأذاع بيان الثورة فى الساعة الواحدة .

وعند تحرك كتيبة المشاة اتصل بى تلفونياً أحمد طلعت حكمدار العاصمة وأبلغنى النبأ . وطلب منى أن أبلغه عن التعليمات .

قلت له :

انتظر قليلا . واتصلت بإسماعيل شرين ، وكان نائماً ، فأيقظته . ورد على وهو يتتاءب : خير ان شاء الله .

قلت : اسمع يا اسماعيل لقد حذرتك الساعة التاسعة من قيام حركة . وقلت لى بعد أن اتصلت بحيدر انه يقول هذا كلام حشاشين . والآن قامت كتيبة مشاة واستولت على مقر قيادة الجيش وأنت وزير الحربية لا علم لك بشىء . فمن هو الحشاش ؟

إسماعيل شرين : وماذا أصنع بحيدر . هو الذى قال لى ذلك .

انا : اتصل الآن بحيدر يا اسماعيل .

شرين : اتصل به أنت فأنا نعسان ومتعب .

انا : اذهب الى الجحيم أنت وحيدر . وأنهيت المكالمة .

وعدت للاتصال بحكمدار القاهرة أسأله عن مجريات الأمور .

فقال : انهم يتوجهون الى الاذاعة فماذا أصنع ؟

أما : هل تستطيع أن تصنع شيئاً ؟

الحكمدار : يا أفندم . هل من الممكن أن أقاوم دبابات الجيش ببنادق رمنجتون وموزر ؟

انا : لم أقل لك أن تقاوم .

الحكمدار : على فكرة . اتصل بى قومندان بوليس السراى الملكى منذ عشر دقائق وقال إن جلالة الملك يريد معرفة الحال فأخبرته عن تحركات جنود الجيش فأضاف : جلالة الملك يقول لك لا تحاول المقاومة ، وامنع البوليس من الخروج للاصطدام بالجيش .

انا : حسناً . واذا جد شىء فاتصل بى .

وبعد عشر دقائق عاد الحكمدار يطلبنى و قال : هناك مسألة خطيرة جدت الآن .

انا : وما هى ؟

الحكمدار : فى مكتبى الآن القائمقام أحمد شوقي قائد حامية القاهرة .

أنا : أعرفه وأظنه ابن خالتك .

الحكمدار : نعم ، هو ابن خالتى ولكن جاء يطلب منى أن يسلم البوليس سلاحه للجيش .

أنا : وهل كنت تريد تسليم السلاح .

الحكمدار : أنت ترى يا سيدى انى لم أجب طلبه وأطلب منك التعليمات .

انا : أخبره أن طلبه مرفوض . وأصدر أمرك فوراً للبوليس بالاستعداد . وعليه أن يقاوم اذا استعمل الجيش القوة.

الحكمدار : تسمح يا سيدى أن تكلم القائمقام أحمد شوقي .

انا : لابأس .

أحمد شوقي : مساء الخير .

انا : مساء الخير .

أحمد شوقي : لعله حدث سوء تفاهم . فأحمد طلعت لم يفهم ما أريد . أنا أردت أن لا يقاوم البوليس الجيش ، فظن أحمد طلعت أنى أريد من البوليس تسليم سلاحه .

انا : أحمد طلعت لم يطلب منى أبداً أن أصدر أمراً للبوليس بمقاومة الجيش وأنا لم أصدر له الامر .

أحمد شوقي : ارجو ان تعلم ان الجيش لا يطلب من البوليس تسليم سلاحه وارجوا لكم ليلة سعيدة .


اين كان الفريق حيدر؟

عاد إسماعيل شرين وزير الحربية وطلبنى وقال : انه طلب حيدر تلفونياً مراراً وأخيراً قيل له إنه نائم . ولا يريد أن يوقظه أحد .

قلت له : ماذا تريد أن تعلم ؟ الجيش استولى على مقر القيادة ، وعلى محطة الاذاعة ، والملك صهرك جالس يرتعش فى قصره يحزم حقائبه ليفر .

إسماعيل شرين : ومن أين علمت ؟

انا : قومندان ميناء الإسكندرية أبلغنى الساعة العاشرة بصدور الأمر لليخت المحروسة بالابحار .

إسماعيل شرين : لقد فعلها ابن الحرام . وسيتركنا للعذاب .

انا : بالعكس . أعتقد أن الجيش سيكافئك أنت وحيدر .

انعقاد مجلس الوزراء

اتصلت بعد اذاعة بيان الجيش برئيس الوزراء وكان نائماً . فأيقظوه لإلحاحى فى مكالمته وأخبرته بما حدث فقال : وماذا نصنع ؟ خلاص كل شىء انتهى .

قلت : من غير المعقول أن يحدث كل هذا ولا يجتمع مجلس الوزراء ليدرس الوضع . ماذا ؟ هل نحن فى الادغال؟

رئيس الوزراء : أرجوك أن تطلب من سكرتيرك أن يدعوه . ولكن أرجو أن يكون انعقاده فى منزلى لأنى بالبيجامة والطاقية على رأسى ( وضحك ) ولا أستطيع الخروج .

وانعقد مجلس الوزراء فى منزل الهلالى ورأسه وهو بالبيجامة والطاقية وينتعل شبشباً .

وبدأ الهلالى الجلسة بقوله : والله ما كنت أريد أن أزعجكم بالحضور . ولكن ماذا نصنع بأخينا مرتضى . ( والتفت الى وهو يقول ) أنا قرفان والله قرفان ما يروح فاروق فى داهية .

انا : أوافقك على أن كل واحد فى البلد قرفان . ولكن عندى فكرة . لماذا لا يحاول مجلس الوزراء الاتصال بالضباط الثائرين لنعرف ماذا يريدون ، ونسعى من جانبنا لايجاد حل ؟

الهلالى : فكرة لا بأس بها . ولكن كيف تنفذ ؟

انا : يرسل مجلس الوزراء مندوباً عنه للتكلم مع الضباط .

وأخذ الوزراء ينظرون الى بعضهم وسكتوا جميعاً .

الهلالى : هل توافقون على ارسال مندوب ؟

ووافق الوزراء . وقال الهلالى : ومن تريدون أن يكون المندوب ؟

فسكتوا جميعاً وضحك الهلالى وقال :

لا أجد من يريد تعريض نفسه لأن يكون المندوب .

قلت : أنا مستعد أن أكون المندوب وأن أسافر فوراً .

فأعطونى تفويضاً وسجلوه على انه قرار من مجلس الوزراء . وكانت الساعة قد بلغت الثانية والنصف . فاتصلت بشركة مصر للطيران ولم أجد أحداً حتى الخامسة صباحاً . اذ رد على مندوبها بعد أن علم البوليس بمكانه ، وأعدت طائرة ركبتها فى السادسة صباحاً . وتوجهت الى القاهرة . وصلت الى المطار حوالى السابعة وركبت سيارة كانت فى انتظارى وتوجهت أنا والسائق الى ثكنات قصر النيل ، فوصلنا بعد نصف ساعة . واستوقف الحراس السيارة ثم جاء ضابط فسألته عن اللواء محمد نجيب . طلب منى أن أنتظر ودخل وعاد بعد عشر دقائق ليقول إن اللواء محمد نجيب خرج ..

أنا : والى أين ؟

الضابط : لا أعرف وان كنت أظن أنه توجه الى منزله .

وسألته : هل يعرف أين يقع منزله ؟

فقال : لا أعرف .

توجهت حوالى الثامنة والربع الى مكتبى فى وزارة الخارجية وطلبت البحث عن مكان اللواء محمد نجيب . وبعد لأى قيل إنه فى ثكنات الجيش فى العباسية .

قلت : صلونى به .

وردت الثكنات بأنه فى اجتماع مغلق مع أعضاء قيادة الثورة .

وفى التاسعة إلا ربعاً دخل على سكرتيرى وهو فى حالة هلع ينتفض .

قلت له : ما بك ؟

قال : سيدى جاء ضابطان مسلحان بالبنادق الأوتوماتيكية الى مكتبى الآن يريدان مقابلتك .

قلت : ادخلهما .

دخل الضابطان وأديا التحية العسكرية .

أنا : ماذا تريدان ؟

أحد الضباط : سيدى ، نحن مكلفان من مجلس قيادة الثورة دعوتك الى مقر القيادة فى ثكنات العباسية .

أنا : هل هى دعوة أو أمر بالقبض ؟

القائد : لا ياسيدى ، إنها دعوة .

أنا : وهل هذه هى الطريقة المثلى للدعوة أن تجيئا مسلحين ومعكما جنود مسلحون .

الضابط : آسف يا سيدى . ولكن جب أن نسير مسلحين وفى حراسة مسلحة .

أنا : إنى منذ ساعة أبحث عن اللواء محمد نجيب . فلماذا لم يكلمنى ويدعونى هو ؟

الضابط : إن الذى كلفنا دعوتك ليس اللواء محمد نجيب وانما هو أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة .

أنا : ومن هو ؟

الضابط : أعفنى من ذكر أسماء .

أنا : حسناً لقد أديتما المأمورية التى كلفتما بها وسأنظر فى الأمر . وانصرف الضابطان .

وفى الساعة التاسعة والربع دق جرس التلفون ، وكان المتكلم اللواء نجيب .

اللواء نجيب : علمت بقدومك الى القاهرة الآن فقط .

قلت : إنى قدمت الساعة السابعة . وأحاول أن أقابلك وأكلمك .

قال : خيراً .

قلت : إنى مبعوث من مجلس الوزراء للتكلم معكم .

محمد نجيب : ( يصمت فترة ليقول بصوت متلجلج ) ولكن . ولكن ولكن .

انا : ماذا ولكن ؟

محمد نجيب : أصل المسألة أن الملك كلف على باشا ماهر تشكيل الحكومة ، والهلالى قدم استقالته .

أنا : ومتى تم ذلك ؟

محمد نجيب : الساعة التاسعة صباحاً . .

ثم سكت برهة . وقال : على كل حال ، اذا كنت تريد مقابلتى فأهلا وسهلا .

أنا : أنا مبعوث مجلس الوزراء اليكم ، وباستقالة الوزارة انتفت عنى صفة المبعوث . وعلى كل حال أشكرك على الدعوة وأعتذر عنها .

وانتهت المكالمة .

مصطفى أمين

وفى جميع مرحلة الانقلاب ، من الساعة العاشرة صباحاً يوم 22 يوليو ( تموز ) الى الساعة السابعة من صباح يوم 23 يوليو ، كان يلازمنى فى مكتبى الصحافى المعروف مصطفى أمين . حضر الى المكتب فى بلولكلى الساعة العاشرة والنصف وتابع جميع اتصالاتى . كان يخرج من المكتب حين أتولى الحديث مع السراى أو الحكمدار أو إسماعيل شرين ثم يعود . وتوجه الى مجلس الوزراء فى الساعة الثانية والنصف صباحاً وعلم بقرار المجلس بإرسالى مبعوثاً ، وصاحبنى فى الطائرة الى القاهرة . وما أظن أن كل ذلك من غرائب الصدف . فلا بد أن مصطفى كان يعلم أن شيئاً كان يجرى فى ذلك اليوم . فقرر أن يتتبعه من أوله الى منتهاه . وقد تتبعه . ولكن الغريب أنه لم يكتب دقائق تفاصيل ذلك اليوم .

وأخذت السيارة وعدت الى الإسكندرية . ووصلت اليها الساعة الواحدة . وكنت متعباً فنمت . وصحوت الساعة الرابعة بعد الظهر وأخذت فى تناول بعض الطعام . وسمعت رنين التلفون . فجاوبت . وكان المتكلم الأمين الخاص للملك .

الامين : ان شاء الله لست متعباً من الرحلة ؟

انا : متعب بعض الشىء . ولكن كل شىء انتهى .

الامين : طبعاً على خير .

انا : وأى خير .

الامين : البلد هادئة ولم يحصل سفك دماء . وكل ذلك بحكمة مولانا . وأيضاً أنتم عالجتم الأمور بحكمة .

انا : أشكرك . ولكنى أريد أن تقول لمولانا أن مرتضى المراغي يودعه ويقول له مع السلامة .

وهنا أحسست بصوت سعال خافت فعلمت ان الملك ينصت الى المحادثة .

الامين ( بعد تردد ) : وماذا تقصد ؟

انا : أقصد أن الملك سيطلب منه التنازل عن العرش .

وهنا سمعت صوتاً يقول : قل له هذا كذب . هذا كذب . .

الامين (بأدب ) : أظن أن هذا الكلام مبالغ فيه .

الصوت : قل له يا ابن ال ..... ان هذا كذب .

الامين ( بأدب ) : لعل الرواية التى سمعتها كاذبة .

أنا : اسمع . إنى أسمع صوت الملك وهو يصرخ . وأنا لم أسمع رواية من أحد . ولكن ليس من المعقول أن يذاع بيان الثورة ويقال فيه عن الملك الطاغية والفاسد الى غير ذلك ، ثم تبقى الثورة على الملك .

الصوت : قل له ان محمد نجيب قادم غداً صباحاً ليقدم ولاءه .

انا : قل للملك أشك كثيراً فى ذلك .

ولم يأت محمد نجيب إلا ليودع الملك وهو مسافر على المحروسة .

دور الملكة ناريمان

كان للملكة ناريمان قريب ، أظن أنه ابن خالها . وكان من فئة الضباط الاحرار . وفى الأشهر الأخيرة للثورة كان يتردد كثيراً على ام ناريمان التى سألته مرة :

ايه يا بنى حكاية الضباط الاحرار ؟ وهل حقيقة انهم يريدون خلع الملك ؟

النجار : معاذ الله يا سيدتى . الضباط الاحرار هم جنود الملك . هم يريدون تخليص الملك من الأحزاب السياسية الفاسدة ومن ضباط الجيش الكبار الكهلة .

ام ناريمان : ولكن المنشورات التى يصدرونها تحض على خلع الملك ؟

النجار : هذه منشورات مدسوسة على الضباط الاحرار . وأرجو يا سيدتى أن تجمعينى بالملكة لأشرح لها وضع الضباط الاحرار .

واجتمع الضابط بالملكة ناريمان .

وقد ذهبت ناريمان الى منزل أمها للقاء النجار وقالت له : انها سمعت انه يريد مقابلتها .

النجار : نعم ، يا صاحبة الجلالة . انى سمعت السيدة والدتك تتكلم عن الضباط الاحرار وتقول انهم يريدون خلع الملك . وأنا أقول أن هذا غير صحيح أبداً .

ناريمان : ومن أين تعلم انه غير صحيح . هل أنت من الضباط الاحرار ؟

عبد المنعم النجار : ( بعد قليل من التفكير ) كل صغار الضباط فى الجيش أحرار . ولكنهم مخلصون للعرش . ويجب أن يعتمد الملك عليهم لا على كبار الضباط الجهلة المنافقين . نحن صغار الضباط نحب الملك من الأحزاب الفاسدة من السياسيين من أنصار الاستعمار . ونحن نعلم أنه يكره الانجليز ويساعد الضباط الاحرار الذين يعملون فى منطقة القنال لتخليص البلاد من الاحتلال . نحن الذين نشعر بولاء حقيقى للملك وليس حيدر أو عثمان المهدي أو عمر فتحي .

ناريمان : هل تقسم على أنكم مخلصون للملك ؟

النجار : ( وهو يطلب المغفرة من الله فى سره ) : أقسم .

وعادت ناريمان الى القصر ونقلت الى الملك حديث قريبها الضابط النجار . وفتل الملك شاربه وابتسم مزهواً وقال :

أنا متأكد ان الجيش مخلص لى .

السياسة المصرية فى عهد فاروق

حينما تولى فاروق العرش وجد أن حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس هى التى تحكم . ولم تكن حكومة الوفد فى عهد والده الملك فؤاد على علاقة طيبة مع القصر ابتداء من حكومة سعد زغلول وانتهاء بحكومة النحاس . وقد قيل إن الملك فؤاد لما ضاق ذرعاً بسعد زغلول دبر مؤامرة اغتيال حاكم السودان الانجليزى السير ستاك ليحمل سعد زغلول مسؤولية الحادث . ونجح فى مسعاه ، إذ قدم الجنرال اللنبى المندوب السامى البريطانى فى مصر انذاره المشهور الى حكومة سعد زغلول فرفضها الأخير واستقال . وكان مرد التصادم بين القصر والوفد ان الملك فؤاد يريد أن يملك ويحكم . والوفد يريده طبقاً للدستور ان يملك ولا يحكم .

وجاء فاروق الى الحكم ولم يكن يفهم شيئاً عن الدستور أو السياسة . اذ لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد . وكان تعليمه سطحياً جداً ومستواه لا يزيد عن مستوى طالب فى السنة الاولى الثانوية . وقالت له حاشية القصر وأمه معهم ان الوفد كان عدواً لوالدك ، ويجب عليك اذا أرادت أن تكون ملكاً قوياً أن تضرب الوفد فى الوقت المناسب وتبعده عن الحكم ليصبح غير قادر على ضربك . وكان مستشاراه اثنين : أحمد حسنين وعلي ماهر . وكلا الاثنين لهما مطامع فى الحكم . والاول أقرب الى فاروق من علي ماهر لأنه كان مرافقه فى انجلترا . ويماشى نزوات فاروق وأهواءه . أما الثانى ، فكان سياسياً مخضرماً لا شك فى وطنيته . ولكن كان يحب التسلط والحكم . ولا يستريح إلا اذا أصبح رئيساً للوزراء .

وكان رئيس الوفد مصطفى النحاس يجىء الى الحكم فى كل مرة تجرى فيها انتخابات حرة بأغلبية كبيرة . ومعنى ذلك أن النحاس سيبقى رئيساً للحكومة ما دام هناك دستور . فكيف يبعد علي ماهر ، النحاس عن رئاسة الحكومة ؟ ليس من سبيل إلا أن يوغر صدر الملك عليه . وتفتق ذهنه عن حيلة ماكرة .

ذهب علي ماهر الى ولى العهد الامير محمد علي وقال : ياسمو الامير . عندى فكرة اقترحها عليك وأرجو أن تتقدم بها باسمك الى رئيس الحكومة . وهذه الفكرة ستنشر حتماً فى الصحف .

الامير محمد علي : وما هى الفكرة ؟

علي ماهر : ان يقوم شيخ الأزهر فى حفل رسمى كبير لتنصيب الملك بوضع التاج على رأسه كما كان يفعل الباب مع ملوك الكاثوليك . وكما يفعل الآن أسقف كنتربى مع ملك انجلترا .

الامير : وهل عرضت الفكرة على الملك ؟

علي ماهر : أريد أن تجىء منك . لأنى واثق من ان الملك سيسر لها وسوف تساعد على أن تحظى بعطف جلالته الكبير ويزول ما بينكما من سوء التفاهم .

وفعلا تقدم الامير محمد علي الى حكومة الوفد بالاقتراح . فهاج رئيس الحكومة مصطفى النحاس هياجاً شديداً. وقال إن هذا اقتراح غير دستورى لأن الملك يتسلم سلطاته من الحكومة والبرلمان . وان معنى ذلك أن يتسلم الملك سلطاته من شيخ الأزهر .

وانتهت الازمة بالعدول عن الفكرة . ولكن علي ماهر نحج فى أن يوغر صدر الملك ضد النحاس . وتربص الملك بالنحاس حتى تمكن من إقالته بخطاب اتهم فيه النحاس بسوء الحكم . وهو خطاب إقالة لا أظن أن له سابقة مماثلة فى الدول الملكية الدستورية .

وجاءت الاقالة سهلة . فلم يقم الشعب بمظاهرات احتجاج . ولم تشهد مصر حادثاً واحداً من حوادث العنف . وفتح الطريق سهلا أمام الملك فاروق ليمارس لعبة الاقالة والعزل مع كل الساسة المصريين بمختلف أحزابهم . ونصحه مستشاروه بأن يضع يده على الجيش حتى يكون درعاً يقيه من الشعب اذا فكر يوماً فى الثورة عليه . وأخذت أجهزة القصر تعمل لاختيار قادة الجيش من الذين عرف عنهم الولاء والاخلاص للملك فؤاد ، واستطيع القول ، ومن عرف عنهم أيضاً الجهل . لأن الجاهل يسهل التحكم فيه ويقبل الانصياع والطاعة اكثر من المتعلم الذى يفكر . وبدأت حاشية القصر تلوح لرجال السياسة فى مصر بسوط الجيش . وكما قمع إسماعيل صدقي رئيس الحكومة فى عهد الملك فؤاد سنة 1930 ثورة العمال باستخدام الجيش ، فقد استطاع النقراشي رئيس الوزارة فى سنة 1947 بأمر من الملك فاروق القائد الاعلى للجيش ، أن يقمع تمرد قوات البوليس . وألف الملك فاروق الحرس الحديدى . فخاف رجال السياسة على أرواحهم هذه المرة بعد أن كانوا يخافون على مناصبهم . وزاد الطين بلة شدة أطماع الساسة وحبهم للمنصب ، لأن منصب الوزارة كان مغرياً جداً للنفوذ الواسع الذى يتمتع به الوزير . وكان لزوجات المرشحين للوزارة ، دور كبير فى اذكاء وقود المطامع لدى أزواجهم ، لأن الزوجة تصبح مقصد ذوى الحاجات ويعمر بيتها بهم ويقدم اليها الاحترام والتبجيل . وحين يعزل زوجها من الوزارة يخلو البيت من الزوار .

وبين المطامع والجيش والحرس الحديدى كان الملك فاروق يمارس هوايته المفضلة . وهى ، عزل الوزارات وابداها بكل سهولة وبساطة .

موقف الامريكان

كان سفير الولايات المتحدة فى مصر يدعى جفرسون كافرى . وقد نقل الى القاهرة بعد أن كان سفيراً للولايات المتحدة فى فرنسا . ولا أدرى ان كان نقله مبنياً على أن القاهرة من الوجهة السياسية أهم من باريس أو لسبب آخر قيل عنه أشياء كثيرة فى وقتها . كان المستر كافرى يواظب على شيئين مواظبة تامة : شرب الكحول بافراط والذهاب الى الكنيسة . وقد تقرب الى الملك فاروق أو أن الملك فاروق هو الذى تقرب اليه ، ظناً منه أنه سيقوم بحمايته من الانجليز . وللملك فاروق فى ذلك سابقة تفكير ، إذ أنه بعد حادث 4 فبراير ( شباط ) ، صادق الملحق العسكرى فى السفارة الأمريكية وكان يدعوه الى القصر ويصحبه معه الى نادى السيارات ودور اللهو . ويطلب من مصوره الخاص التقاط صورة لهما معاً . وهذا شىء لم يفعله مع أى شخص آخر . ولعل فاروق أراد من ذلك أن يشعر الانجليز بأنه سيلجأ الى طلب الحماية من أمريكا إذا حاول الانجليز ان يعتدوا عليه مرة أخرى . ولعله أراد أيضاً أن يشعر أمريكا بهذه الوسيلة أنه صديق لها . أما المستر كافرى فكان شغله الشاغل هو الشيوعية . وكان يشعر بأن الشيوعية خطر داهم على مصر وبالتالى على الشرق الاوسط . ولما كانت مصر هى قلب العالم العربى . ، فإنها صارت بذلك منطقة استراتيجية حيوية للدفاع عن الغرب . وقد عبر عن ذلك الرئيس السابق ايزنهاور بقوله إن قناة السويس هى شريان الدم بلنسبة الى الغرب . كان كافرى يتكلم كثيراً مع كل من يقابله من الساسة المصريين عن مخاوفه من الشيوعية . وقد ذكر لى أحدهم أنه فى مقابلة معه قال له وهو يحاوره :

ـ يا مستر كافرى . انك تبالغ فى خطر الشيوعية فى مصر . إنها ليست مستأصلة الجذور .

كافرى : قد لا تكون الآن . ولكنى واثق من استفحالها فى القريب .

السياسى : وما الذى يجعلك واثقاً ؟

كافرى : سوء الحالة الاجتماعية فى مصر والهوة الواسعة بين الغنى والفقير . هل من المعقول أن يملك الملك وأسرته مئات الالوف من الأفدنة ، وأن تملك أسرة واحدة عشرين ألف فدان بينما ملايين الفلاحين لا يبلغ دخل الفرد منهم أكثر من نصف دولار فى اليوم ؟ أليست هذه هى الأرض الخصبة لكى يضع فيها الشيوعيون البذور .

السياسى : أوافقك تماماً على وجوب وضع اصلاح يقرب الفوارق بين الطبقات . ولقد قدمت اقتراحات كثيرة الى الملك ، ولكنه رفضها جميعاً . وهو يتهم من يعرض فكرة الأصلاح بأنه شيوعى . وعلى فكرة ، يا مستر كافرى . أنت صديق مقرب للملك ، فلماذا لا تصارحه بمخاوفك ومخاوف حكومتك من انتشار الشيوعية نتيجة الظلم الاجتماعى ؟ انه يقدر الرأى الذى يأتيه منك أكثر مما يقدر رأى ساسته .

كافرى : سأحاول ولكن غير واثق من النجاح .

مقابلة مع كيم روزفلت

أقام السفير كافرى حفل عشاء فى السفارة الأمريكية وكنت أحد المدعوين . وبعد انتهاء العشاء قال لى المستر كافرى أن يريد أن يقدم لى صحافياً وكاتباً أمريكياً يهتم بشؤون الشرق الاوسط ، ووضع فى ذلك مقالات وكتباً وان اسمه كيم روزفلت . وكنت قد سمعت عنه ولم أره من قبل . ولما قدمنى اليه رأيت مظهره مظهر طالب فى الجامعة يكثر من المطالعة ولا تهمه موسيقى الجاز . يضع نظارة كبيرة الأطار ويتكلم بصوت خافت ويخالس النظر . يحدق تارة ويخفض البصر تارة اخرى فى حياء لا أدرى ! ان كان مصطنعاً أو أنه طبيعى . لم يخل حديثى معه من الشيوعية . ووجه الى اسئلة كثيرة عن النشاط الشيوعى فى مصر . ثم فاجأنى بقوله :

ـ هل تعلم أنى قابلت الملك فاروق وأنه استبقانى للغداء معه . وتكلمت معه كثيراً عن الشيوعية فقال لى الملك انه يعرف عن الشيوعية أضعاف ما يعرفه وزير الداخلية وجميع رجال الأمن .

وضحك روزفلت ضحكة تحمل كثيراً من السخرية . وضحكت لأننى أعلم أن هذا هو طبع الملك فاروق .

واستمر روزفلت يقول أن صلة حسنة بكبار موظفى الحكومة الأمريكية وأنه يشعر بأنهم يريدون مساعدة مصر اقتصادياً وتكنولوجياً . ولكنهم يقولون أن على المصريين أن ينظموا أمر البيت قبل تقديم المساعدة .

انا : وما هو الطريق الذى يرونه يؤدى الى تنظيم أمر البيت .

روزفلت : تقليل الفوارق بين الطبقات بتوزيع جزء من الملكيات الكبيرة على صغار الفلاحين وقيام اصلاح زراعى شامل ومساعدات اجتماعية وصحية للفقراء ورفع مستوى الأجور .

انا : هل تكلمت مع الملك فى ذلك ؟

روزفلت : تكلمت . ولكن لم أتلق رداً شافياً . وصرف الموضوع إلى مواضيع أخرى . ولكنى التقيت بعد ذلك برئيس الحكومة نجيب الهلالي وأعدت عليه حديثى مع الملك ، ووافقنى الهلالى على آرائى وقال انه يحاول جهده يائساً ان تقوم حكومته بتطهير الفساد .

انا : وأى فساد تراه أنت ، وتلمسه بصفتك صحافياً ؟

روزفلت : فساد الأحزاب السياسية .

ولاحظت أن روزفلت لم يتناول أبداً فساد حاشية القصر . وأضفت إلى ملاحظتى ان السفير كافرى كان يحمل دائماً على الفساد الحزبى ويعرض بالنظام الحزبى فى مصر . وأنه تكلم كثيراً مع الملك فاروق الذى كان يستمع من كل قلبه إلى الحديث لكراهيته الشديدة لحزب الوفد .

الملك يفكر فى تشكيل حكومة عسكرية

لابد لى أن أشير فى هذا الصدد إلى أن الملك فاروق كان يفكر جدياً فى تشكيل حكومة عسكرية . وكان مرشحه لرئاسة هذه الحكومة هو الفريق محمد حيدر . لكنه أجل تنفيذ هذه الخطة ، إما لأنه غضب علي حيدر حتى أنه أراد عزله كما أشرت فى موضع آخر من الكتاب ، وإما لأنه لم ير الوقت مناسباً . وقد دل على نيته بوضوح فى خطابه الذى ألقاه فى الوليمة التى أقامها لضباط حامية القاهرة يوم حريق القاهرة . ولست أجزم أن فكرة إقامة حكومة عسكرية كانت نتيجة ايحاء أمريكى بريطانى بعدما ألغت حكومة الوفد معاهدة سنة 1936 وتركت بذلك فراغاً فى منطقة الشرق الاوسط ، أو أن هذه الفكرة من وحى فاروق لعدائه المستقر لحزب الأغلبية وهو حزب الوفد . ومنذ قدوم كيم روزفلت إلى القاهرة وردتنى تقارير كثيرة عن حركة كبيرة للأمريكيين فى مصر . فقد امتلأت الفنادق بمن يسمون برجال الأعمال . ومن تجاربى كنت أعلم أن الكثيرين من رجال الأعمال هم من رجال المخابرات الأمريكية C.I.A. وزاد عدد موظفى السفارة الأمريكية زيادة مفاجئة حتى كاد أن يتضاعف . وكان هذا النشاط الفجائى مثار اهتمامى . وطلبت من رجال الأمن تتبعه . ولكن التقارير كانت ترد بأن أحداً منهم لم يقدم على عمل يشتبه به .

وأرجو أن أوضح هنا نقطة هامة ، وهى أن غالبية رجال الأمن لم يكونوا على ولاء للحكومة ، لأنهم كانوا يكرهون الملك ولا ينسون له أنه أذلهم حين أضربوا سنة 1947 واعتصموا بحديقة الأزبكية ، فأرسل الملك يطلب من النقراشي رئيس الحكومة وحدة من الجيش حاصرتهم وجردتهم من السلاح وقبضت عليهم .

وجاءت الضربة القاضية التى انهارت معها آمال الأمريكان فى الملك فاروق حين أخرج وزارة الهلالى نظير مبلغ مائتى ألف جنيه قدمها المالى المعروف أحمد عبود ليتخلص من الضرائب التى كانت تطالبه بها وزارة الهلالى . وحين علم السفير الأمريكى باخراج الهلالى وتعيين حسين سري بدلا منه وفقاً لمخطط عبود أخذ يصيح قائلا : لا فائدة لا فائدة من هذا الملك . فليذهب الى الجحيم .

ماذا فعل الأمريكان

لا أظن أن المصادفة المحضة هى التى أتت بكيم روزفلت الى القاهرة خصوصاً انه قد تبين ان كيم روزفلت هو من كبار رجال المخابرات الأمريكية ، وكان له دور بارز فى ما بعد إسقاط حكومة مصدق فى إيران . وليست المصادفات هى التى جعلت الحكومة الأمريكية تضاعف عدد رجال السفارة الأمريكية فى القاهرة . كل ذلك فى وقت كانت مصر فى حالة غليان ضد الحكم القائم وعلى رأسه الملك فاروق . وكانت حركة الضباط الأحرار قد اشتد ساعدها إلى أبعد مدى ، وجابهت الملك فى انتخابات نادى الضباط وأعلنت تحديها له بترشيح اللواء محمد نجيب لرئاسة نادى الضباط ضد مرشح الملك اللواء حسين سري عامر . وكانت منشورات الضباط الأحرار تغمر شوارع المدن المصرية . وكانت اسماؤهم معروفة أكثرها لدى الحكومة وقائد الجيش حيدر . فكيف لا تكون معروفة لدى المخابرات الأمريكية والبريطانية ؟ بلى كانت معروفة . ولما يئس الأمريكان والانجليز من فاروق اتجهوا نحو حركة الضباط الأحرار وحاولوا الاتصال بها . وجرت هذه المحاولة عن طريق ضابطين فى الجيش هما : البكباشى عبد المنعم أمين وقائد الجناح علي صبري .

فماذا كان موقف الضباط الأحرار ؟

كان الأمر كما يقول الشاعر : " أمران أحلاهما مر " . أو " لابد مما ليس منه بد " . فإذا حاول الضباط الأحرار إنكار حركتهم أو رفض الاتصال بالامريكان ، فسوف يقوم هؤلاء بابلاغ الملك عنهم ، وبكل تفاصيل ما يعرفونه عنهم . وكان الملك يستمع إلى الأمريكان ونصائحهم أكثر مما يستمع إلى وزرائه . وعليه تكون النتيجة أن يعصف الملك بحركة الضباط الأحرار بمساعدة الأمريكان والأنجليز الذين كان جيشهم رابضاً فى أرض مصر !

وطبقاً لقانون اللعب المعروف ، العب بالذى تكسب به ، لعب الضباط الأحرار لعبتهم بمهارة وجاروا الأمريكان . وقام تفاهم على النقط التالية بعد نجاح الانقلاب :

1) إصدار قانون فورى بالاصلاح الزراعى وبتحديد الملكية وتوزيع الأرض على صغار الفلاحين .

2) إلغاء الدستور والأحزاب السياسية . وهذا المطلب يشفى غليل انجلترا من الوفد ويجعل الأمريكان يتكلمون مع صوت واحد بدلاً من عدة أصوات وهى الطريقة التى يفضلونها فى الاتصال بالحكومات والتى استعملوها فى أمريكا اللاتينية . ولو أن الأحداث خلفت أثراً عكسياً كما هو الحال فى كوبا التى أصبحت قاعدة عداء كبرى ضد أمريكا ، كما أدت هذه السياسة إلى تفشى منظمات متطرفة فى معظم دول أمريكا اللاتينية التى تحكمها حكومات عسكرية تقوم بتدمير المصالح الأمريكية وخطف الدبلوماسيين الأمريكان ، كما تفعل منظمة التوباماروس .

3) تأميم قناة السويس . ويبدو ان هذا شرط غير معقول وروده لأنه يصيب مصالح بريطانيا وفرنسا حليفتى أمريكا فى حلف الاطلنطى .

ولكن هذا الشرط الذى من المؤكد ان الثورة اشترطته يعطيها كسباً مادياً ومعنوياً كبيراً ، فضلا عن أنه شرط عادل جداً لأن هاتين الدولتين استغلتا القناة أبشع استغلال وحرمت مصر من دخل ضخم كان يؤمن للشعب المصرى رخاء ويسراً لو عاد اليه ، ولم يذهب الى جيوب المساهمين الأجانب فى القناة بغير وجه حق . وإنى أعلم عن يقين أن حكومة الثورة بدأت دراسة إجراءات التأميم عام 1953 . وتولى إعداد البحث رئيس قسم الرأى بمجلس الدولة والمرحوم المستشار بهجت بدوى . ونتيجة هذا التأميم نشبت حرب السويس عام 1956 . ولم تقم أمريكا بمحاولة جدية لمساعدة انجلترا وفرنسا ، بل كان موقف حكومة أمريكا ووزير خارجيتها دالاس أقرب إلى العداء من هاتين الدولتين منه إلى التحالف .

4) أن تعمل الحكومة المصرية جادة على انهاء النزاع مع إسرائيل فى ظرف خمس عشرة سنة . وهذا الشرط لا بد أنه أتى من أمريكا وقبلته الثورة ، وهى تضمر فى نفسها شيئاً آخر ، إذ أنها أخذت فى تسليح مصر وتنظيم جيشها على استعمال أحدث الاسلحة ووسائل التدريب ، لعلمها بأنها لابد أن تجابه إسرائيل فى معركة عسكرية . وقد جابهتها فعلا فى حروب 1956 و 1967 و 1973 .

5) أن تنهى بريطانيا احتلالها ل السودان كى لا يظل جيشها يحتل الباب الخلفى لمصر ولمنابع النيل .

6) أن تضغط أمريكا على انجلترا لانهاء احتلالها لمصر .

وقد تمت معاهدة بين حكومة الثورة وإنجلترا احتفظ فيها لانجلترا بحق الرجوع الى قاعدة قناة السويس فى حالة خطر قيام حرب .

موقف الانجليز من الثورة

لم تكن علاقة الملك فاروق بالانجليز علاقة سعيدة منذ ساعة قيام الحرب العالمية الثانية . وازدادت سوءاً بحادث 4 فبراير ( شباط ) ثم هدأت بعض الشىء ونسى فاروق الانجليز وهو يلعب الورق فى نادى السيارات أو يذهب الى الاوبرج . ونسيه الانجليز ببرودهم المعهود حتى سنة 1951 حين أعلن النحاس رئيس الحكومة إلغاء معاهدة الصداقة والتحالف التى عقدها مع انجلترا سنة 1936 قائلا فى البرلمان كلمته المشهورة : " من أجل مصر أبرمت معاهدة 1936 ومن أجل مصر ألغيتها " .

وكانت صدمة شديدة للحكومة البريطانية لأنها فوجئت بالإلغاء ولم تحظر به مسبقاً من سفارتها فى القاهرة . وكانت لطمة عنيفة للسفير البريطانى السير رالف ستيفنسون . وأقر الملك فاروق الالغاء . ولعل الانجليز كانوا يظنون أنه يستطيع منع النحاس من الغاء المعاهدة . ولكنى أرجح أن الانجليز وصلتهم معلومات بأن الملك فاروق هو الذى أوحى الى النحاس باصدار قرار الالغاء ، بحجة أن الانجليز طولبوا بالجلاء عن قناة السويس وأنهم يماطلون .

وبدأت كتائب من الفدائيين تشكل من صغار الضباط والإخوان المسلمين والوفديين والحزب الاشتراكي وترسل الى منطقة القناة لمهاجمة القوات الانجليزية ووسائل مواصلاتها ومعسكراتها . واشتعل صدر الانجليز غضباً لما أذاعته الصحف من ان الملك فاروق تبرع للفدائيين بمبلغ 3 آلاف جنيه ، وأن حكومة الوفد تمد الفدائيين بالأسلحة والمال .

وكان الانجليز يعلمون بواسطة قلم مخابراتهم الكثير عن حركة الضباط الاحرار ويعلمون أسماء مقاتليهم فى منطقة قناة السويس . وكان من زعماء تنظيم الكتائب فى منطقة قناة السويس وجية أباظة وعبد اللطيف واكد . وفى اصطدام بين دورية بريطانية ودورية من الكتائب أسر البريطانيون ضابطاً مصرياً . وأخذوه الى المخابرات لتستوجبه . ودخل الضابط المصرى غرفة ضابط المخابرات البريطانى الذى بادره بالسؤال عن اسمه :

الضابط المصرى : اسمى محمود .

ضابط المخابرات : وما صناعتك ؟

الضابط المصرى : طالب فى الجامعة .

ضابط المخابرات ضاحكاً بسخرية : ان اسمك هو عصمت وصناعتك ضابط فى الجيش المصرى . أرأيت أننا نعرف كل شىء عنكم ؟ والآن قل لى لماذا تقاتلونا ؟

الضابط المصرى : لانكم تحتلون بلادنا ولا تريدون ان تذهبوا .

ضابط المخابرات : ولكن قبل أن ترحلونا ، أليس بكم أن ترحلوا الملك فاروق . نحن نعلم أنكم تنظمون حركة ضده . فلماذا لا تعجلوا بالخلاص منه ؟ اذهب الى وجية أباظة و عبد اللطيف واكد وقل لهما هذا الكلام .

ـ فهل أراد الانجليز أن يطلقوا بهذه الرسالة الضوء الأخضر لحركة الضباط الاحرار للقيام بحركتهم بغير خشية أو رهبة من أن يقاومها الجيش الانجليزى ، كما حدث فى حركة عرابى ضد الخديوى توفيق .

لقد أراد الملك فاروق فعلا أن يستعين بالانجليز فى اليوم التالى لقيام الثورة . فأرسل مبعوثاً الى السفارة البريطانية قابل فيها الوزير المفوض مستر كرسويل الذى كان قائماً بأعمال السفير .

قال المبعوث : أنا موفد من الملك فاروق برسالة اليك .

المستر كرسويل ( بسخرية ) : وما هى الرسالة ؟

المبعوث : إنه يود معرفة ما اذا كنتم تستطيعون مساعدته ؟

المستر كرسويل . وهل تظم أننا نساعد مجنوناً ملعوناً .

وترك الانجليز فاروق لقدره .

خاتمة

هكذا ذهب فاروق وتخلى عن العرش ، لأنه كان لا يعرف كيف يصونه كما صانه والده بالصبر والجد وتتبع مجريات الحوادث بعين حذرة بصيرة . اما ابنه فكان لاهياً عن كل شىء إلا طمعه وملذاته ، مستهتراً بكل شىء إلا حب المال وحب الميسر ، استهتر بالشعب واستهتر بحكومته وكان استهتاره استهتار طفل عنيد مشاغب ظن أنه يستطيع أن يفعل أى شىء حين رأى ألا أحد ينهره أو يزجره ، كان يتظاهر بالقوة والجبروت . ولكن ما ان بدا له فى الأفق أن هناك ثورة قد يكون فيها خطر على حياته حتى انهار وخارت قواه . أمر يخته " المحروسة " بالاستعداد للابحار فى الساعة العاشرة من مساء يوم 23 يوليو ( تموز ) .وأمر قائد بوليس السراى بأن يتصل بحكمدار بوليس القاهرة لكى يخبره ألا يقوم بأية محاولة ضد الجيش ، وأقال الوزارة قبل أن يتمكن مبعوثه من الاتصال بقيادة الثورة .

كان يريد الفرار بأى ثمن . يريد أن ينجو بجلده ورقبته . ويحقق الرغبة التى طالما عاشت فى صدره وهى أن يترك مصر ليعيش فى الخارج . ومن سخرية القدر أنه أراد أن يصحب معه خازن ماله الايطالى الذى كان يعرف كل شىء عن مال فاروق . ولكن الثورة قبضت علي خازن المال وخرج الملك فاروق من دونه .

ووصل الى أوروبا . وكانت المفاجأة المذهلة له أن أكثر المال كان مودوعاً فى مصارف أوروبا باسم خازن المال لا باسم فاروق . وعاش فاروق الذى ظن العالم أن عشرات الملايين من الجنيهات كانت مودعة باسمه ، عاش بأقل من مليونى جنيه أطاحت بأكثرها عصابة من المحتالين الأجانب اتصلت به وأغرته بتوظيف أمواله فى مشاريع احتيالية وهمية . وأطاح هو بجزء آخر فى كازينو مونت كارلو والبندقية وسان ريمو .

وإنى أعلم عن يقين أن الملك فاروق كان يعانى ضائقة مالية شديدة . اذ ان الملك سعود قطع عنه اعانة شهرية قدرها ثلاثون ألف جنيه استرلينية ، مما زاد فى حدة الضائقة .

والآن ، وقد زالت القيود وبدأت نسمات الحرية تهب ، لم يبق إلا الأمل ، وهو خير لاطبع من اليأس الذى خيم طويلا .