محمد طلبة رضوان يكتب: “مصر بتفرح

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حمد طلبة رضوان يكتب: “مصر بتفرح


(8/10/ 2015)

محمد طلبة رضوان

يوم 11 فبراير 2011 ، جلسنا في ميدان التحرير ننتظر كلمة عمر سليمان التي أعلنوا عنها، كنت أتوقع شيئًا ما، فيما كان صديقي القاص والمترجم محمد سيد عبد الرحيم يخبرني أن النوم على الرصيف في البرد أوجع ظهره وأننا نحتاج لشراء خيمة، أشرت إلى التليفزيون دلالة على أننا قد لا نحتاج إلى ذلك، ظهر الجنرال على الشاشة وكانت المرة الأولى التي أرى الخوف في عينيه الحادتين، رحمه الله، قمت من على الكرسي في ترقب ليشدني صديقي وهو لا ينظر إلى الشاشة: يا عم اقعد والله ما فيه حاجة لسه قدامنا كتير.. فأرد: لا (يبدو لي اليوم أن حدسه كان أصدق.. لسه قدامنا كتير).

انفجرت الشوارع والميادين، فرحة حقيقية، الناس تتحرك بعفوية البهجة، والدفع الاجتماعي الجارف، أينما ذهبت تجد الزحام، الناس تتبادل التهاني، عيد حقيقي، على كل ناصية شباب حول سيارة أدار صاحبها صوت الكاسيت على آخره، الشباب يتمايلون على أغاني شادية الوطنية، لأول مرة يصبح لهذه الأغاني معان حقيقية، معاني أكثر ارتباطًا بوجدانات المصر يين، وأكثر عمقًا، بعد أن كانت لا تتجاوز أحذية لاعبي المنتخب الوطني، مصر كانت الأصل، لا الصورة، الجذر الذي يشد الجميع إليه فيشعرهم أنهم حقيقيون، وأصلاء، “الحقيقة” كانت تتجول في شوارع القاهرة وحواريها، في موكب أكثر أبهة من مواكب السلاطين والأمراء الذين مروا على تاريخها الفاطمي، والعثماني، والمملوكي، والعلوي جميعًا.

لم تتوقف الفرحة في نسختها “الأصلية”، عند البكاء فرحًا، والسهر حتى فجر اليوم التالي غناء وتمايلًا، إنما ترجمت إلى واقع عملي لم تشهده مصر ربما منذ عصر يوم السادس من أكتوبر في العام 1973 ، حيث كانت “روح” المصر يين، تتحرك في دروبها، في عودة حقيقية بدورها، بطعم الانتصار -الذي لم يدم طويلًا-.

في يناير، كانت الشرطة قد انسحبت خوفًا ورعبًا، ثم استمرت واستمرأت تخليها عن دورها تعاليًا وعقابًا للمصر يين على ثورتهم، انتشر الشباب في كل مكان، نظموا المرور، نظفوا الشوارع، وزعوا منشورات طبعوها من حسابهم الشخصي تحض على عدم الاستسلام للفساد بعد اليوم وتعقبه، لن ندفع رشوة بعد اليوم، لن نلقي بالقمامة في الشوارع، الشارع لنا، البلد بلدنا، انتهى هذا الزمن الذي تنسب ملكية الشارع فيه للحكومة، الشارع شارع الناس، والناس أولى به، دهنوا واجهات البيوت والأرصفة، لم ينتظروا الحكومة، ولا “الحي”، تحركوا بأنفسهم، ومن تلقاء أنفسهم، دون توجيه من زعيم، أو وزير، أو محافظ، أو خطبة في مسجد، أو عظة في كنيسة، ودون تعبئة من إعلام لحوح، الناس تحركوا لأنهم فرحوا، وفرحوا لأنهم صدقوا، وصدقوا لأن ما يحدث كان “حقيقيًا”.

اليوم، يحاول النظام العسكري أن يستنسخ فرحة المصر يين، بتزييف فرحة مماثلة، شكلًا لا مضمونًا، وتصنيع حالة رأي عام مهلل لإنجاز وهمي، تفريعة صغيرة مسبوقة، يجمع الخبراء على انعدام فائدتها، يسميها النظام قناة السويس الجديدة، لا يصدق الناس؛ إلا أن الأوامر صدرت بحتمية التصديق، الإعلام التعبوي يصر أنها قناة جديدة، يحدد هذه النقطة -على طريقة إعلام النازي- ويكررها، لعدد لا نهائي من المرات.. قناة قناة قناة..

تصبح مفردة “تفريعة”، وهي التوصيف الفني الحقيقي لهذه الحفرة، محل استهجان، واتهام لمن يقول به في وطنيته، يصل الأمر إلى اعتبار لفظة تفريعة مرادفًا للحقد والغل والكراهية، وتجافيًا مع نظام الكون نفسه الذي لن يسمح لهؤلاء الرعاع بإفساد ما جرى تسميته هو الآخر “فرحة المصر يين”! قبل يوم الافتتاح، تفتح أي قناة مصر ية، أرضية، أو تحت أرضية/ فضائية، تجد الكلام كله، بأشكاله، ومعالجاته المختلفة، والمتنوعة عن شيء اسمه القناة، على يسار الشاشة، جملة: (باقي من الزمن 3 أيام)، (باقي من الزمن يومان)، (باقي من الزمن يوم واحد).

في الافتتاح، يأتي السيسي مرتديًا بدلة حسب الله السادس عشر، يقف على رأس يخت المحروسة الملكي، في زيه الكوميدي/ العسكري، تارة تشعر أنه “فاروق” وأخرى “السادات ”، مع ملاحظة أن “عبد الناصر”، معنا في “الحصالة”، يقف “الزعيم” ويشير بيده إلى “الجماهير” على الضفة الأخرى، المخرج غير المتعاون يفتح “الكادر” فتبدو الضفة خالية من أي أحد، لا أحد هناك، إلى من يشير “الزعيم”؟ إلى الوهم، إلى اللاشيء، إلى اللاناس، حتى الجماهير زائفة، لم يأتوا بجماهير مستأجرة، لم يأتوا بـ”كومبارس”، مجاميع، أي أحد لكي يشير له المشير، فيصبح للقبه معنى؛ “الفنكوش” عنوان المرحلة.

في الشوارع، لا أحد يغني، طربًا، إلا أن الإنسان يفرح بالعدوى، ويحزن بالعدوى، وقد يحب بالعدوى، ويقتل بالعدوى، سيارات مكشوفة، تقف عليها مضيفات نصف جميلات، تتحملن مغازلات الشباب في ود، وتتمايلن لكي يشاركهن الشباب على أغاني مكبرات الصوت، “DJ” في الميادين العامة، والشوارع المركزية في القاهرة والإسكندرية، وبقية المحافظات الكبيرة، أما إشارات المرور فقد شهدت وجود بائعي الأعلام، الأسعار مناسبة، اشترِ علمًا، واجعله في أيدي أولادك، يطيرونه في الهواء، أو يعلقونه بدلًا من “الإريال”!

على الشاشات، حصار من الفرح المصطنع، الإذاعات كلها تذيع الأغاني الوطنية، الشؤون المعنوية أنفقت الملايين على أغنيات جديدة؛ إلا أن الفنانين تقاضوا أجورهم واشتغلوا دون “روح”؛ فجاءت الأغاني باردة، بلا معنى ولا طعم، لكن الجميع يغني، ويخبرك أنه زفاف، وعليك أن تفرح بالعروس، وإن كانت حبلى بالفضيحة، حتى إذاعة القرآن الكريم كان شيوخها الأفاضل ينشدون الناس عن “قناة السويس” -لا تنسَ- الجديدة.

في اليوم التالي، انتهى كل شيء، وعادت القاهرة لوجهها الكئيب، وحرارتها المرتفعة، ورطوبتها اللزجة، وقمامتها، وضباطها، والناس في مواكب القهر والحزن، والفقر المميت، وكأن شيئًا لم يكن؛ ذلك لأن “الحقيقي” في كل ما جرى ليلة أمس، هو أن شيئًا لم يكن، لكنهم أخبرونا أنه كان، فكان.

المصدر