مذبحة المنشية (1)
العلاقة بين الثورة والإخوان
بداية أقول، إنني لا أهدف إلى كتابة تاريخ ولا إلى سرد وقائع ولا إلى تغليب وجهة نظر على وجهة نظر أخرى.. و إنما ما أهدف إليه هو اقتناص ومضات كانت جديرة بأن تكشف لنا الحقيقة منذ البداية.. ومضات تمتزج فيها الروح بالعقل..
لقد اكتشفت على سبيل المثال يا قراء أن من أكثر ما أوقعنا في الخطأ هو أننا تعاملنا بحياد مع وجهات النظر المختلفة.. وتوهمنا أن هذا الحياد هو الموضوعية.. فكنا كمن يقف على الحياد بين السارق والمسروق منه.. بين القاتل والقتيل.. ونسينا أنه لا يوجد حياد بين الإيمان والكفر.. بين الخير والشر.. بين الصدق والكذب.
نعم.. لا يوجد حياد بين الصدق والكذب..
وقد كان مما أوقعنا في الخطأ في العلاقة بين الثورة والإخوان هو أننا غفلنا عن أن الحكم والفيصل بين الصدق والكذب عند الإخوان – وعند كل مسلم يعرف معنى إسلامه – هو الحلال والحرام.. أما عند الآخرين فالفيصل هو المنفعة.. فإذا كان الكذب نافعا فهو الصواب ولا صواب سواه.. وعلى هذا فلا الموضوعية ولا الحياد حقا يسمحان بالتعامل مع الطرفين على قدم المساواة..
إن هذا يشبه بشكل من الأشكال ما يحدث في انتخاباتنا المزيفة .. المغشوشة.. حين يفوز أحد الطرفين لأن الدولة وقفت وراءه بكل ما تملك من قدرة على الغش والإجرام وطمس آثار هذا الغش والإجرام.. فهل من حقنا حينذاك أن نقول أن صندوق الانتخاب كان هو الفيصل وكان هو الحكم؟!.. وأن الموضوعية تلزمنا بمقياس وحيد هو صندوق الانتخابات و أن وضع أي اعتبارات أخري هو خروج عن النزاهة والموضوعية والحياد.. فهل هذا منطق؟!
لم أقع في غرام التاريخ إذن يا قراء – وليس هذا عيبا – ولكنني أرى نفس خيوط المؤامرة تستعمل المرة تلو المرة في البلد بعد البلد لشنقنا.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ..
أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ..
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (سورة البقرة)..
لم أقع في غرام التاريخ إذن يا قراء – وليس في غرام التاريخ أي عيب- ولا أنا أقوم ببحث أكاديمي يغلب رأيا و ينتصف لفكرة..
المسألة أعقد من هذا و أهم و أخطر..
المسألة يا ناس في الحلال والحرام..
المسألة صراط في الدنيا نسير عليه فإن لم نتحر الصواب قدر ما نستطيع وقعنا في الحرام فهوينا في النار يوم القيامة..
يا ناس..
أنا لا أدافع عن الشهيد سيد قطب طيب الله ثراه..
ولا أهاجم جمال عبد الناصر..
الأمر أخطر حتى من هذا..
أخطر من الحب أو الكراهية..
الأمر يتعلق في الدنيا بمصير الأمة.. وفي الآخرة بالجنة أو النار..
أي أحمق يكره عبد الناصر أو يدينه إن كان ذلك يدخله النار يوم القيامة..
و أي مأفون يؤيد الشهيد سيد قطب إذا استقر في يقينه أن ذلك سيودي به إلى الهلاك..
الأمر أخطر من هذا لأنه لا يتعلق لا بالشهيد ولا بجلاده.. و إنما يتعلق بالله الواحد القهار.. بالولاء والبراء..
يتعلق بـــ:
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إليكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) التوبة..
ولم تكن المشكلة يا قراء أنني كرهت جمال عبد الناصر، بل كانت المشكلة أنني ذات يوم أحببته:
وبالتحديد ما بين خطاب التنحي وموته، بعد أن ذُبحنا الذبحة الكبرى في يونيو 67 (رغم أننا ذبحنا بعد ذلك ذبحات أكبر) والتي ربطت بيننا بوشائج الألم الذي لا تنفصم، ولم يكن هينا عليّ، أن أقتنع أن جمال عبد الناصر ، الذي أحببته وبكيته، وكان خطوة كبرى في النكبة الكبرى.. وكان كارثة..
كانت كل الحكومات قبل الثورة ترفض فصل السودان عن مصر.. وترفض أي استفتاء لتقرير المصير فهو لا يجوز إلا إذا جاز إجراء مثل هذا الاستفتاء لأهل أسيوط..
وكان الإخوان المسلمون ككل المصريين والسودانيين على هذا الرأي..
ممارسات الهمج الهامج الذين قاموا بثورة 23 يوليو روعت الشعب السوداني ومكنت أعداء الأمة وعلى رأسهم الإنجليز من تحذير الشعب السوداني من أنه لو استمر في الوحدة مع مصر فسيعامله العسكر بالطريقة التي يعاملون بها الشعب المصري..
وكان هناك صمام أمان هو محمد نجيب..
كان لمحمد نجيب – بغض النظر عن جدارته – شعبية هائلة في السودان، وكانت أمه سودانية وكان قد عاش في السودان ردحا طويلا من عمره..
وافقت الثورة على استفتاء لتقرير المصير..وعزلت محمد نجيب..وذهب صلاح سالم يرقص عاريا في الجنوب فلم يفد رقصه..وارتكب خطيئة كبرى عندما وزع الهبات والرشاوي على القبائل والعشائر.. ومع الخطايا السياسية والدينية الأخرى تصاعد الاتهام كل من ينادي بالوحدة مع مصر بأنه تلقى رشوة من صلاح سالم..و أجري الاستفتاء..وانفصلت السودان عن مصر..ألم يكن عبد الناصر يستطيع الانتظار عاما آخر حتى يخدع الشعب السوداني قبل استفتاء تقرير المصير..؟!..
هل كان تاج الشوك يستحق كل هذا الثمن؟!..
هل كان الانفراد بالسلطة يستحق كل هذا الخراب..
لعل بعض القراء يعيب عليّ حدّتي.. لكن أي وصف أصفه لأي واحد من ضباط يوليو إنما أرجع فيه إلى ضابط آخر من ضباط يوليو..
لن أستند الآن على ما قالته كل القوى السياسية الفاعلة في مصر بين عامي 52 و 54 من أن البصمات الأمريكية كانت واضحة على الثورة.. وكان الشهيد سيد قطب من أول من لاحظوا ذلك..
لن ألجأ إلى كل ذلك الآن لكني أستند على أقول الضباط بأنفسهم في أنفسهم..
كل واحد منهم اتهم الآخر بالعمالة لأمريكا وبالخيانة..
وثمة اتفاق على أن السادات كان كذلك.. وثمة شبهات حول عامر وشمس بدران وسامي شرف وزكريا محيي الدين وعلى صبري .. و..و..و..
أما محمد حسنين هيكل فقد قال لي في لقاء لم يتكرر – ونشرته ذلك قبل أعوام - أن نوعا من إعجاز عبد الناصر أنه صنع ثورة 23 يوليو بمثل هؤلاء الذين كانوا معه.. حيث الضحالة والسطحية والقصور لا تكاد تصدق..
كان هذا هو حكم محمد حسنين هيكل على ضباط 23 يوليو..
وواصل هيكل يبرر انحيازه للسادات في 15 مايو أنه كان مخيرا في الانضمام إلى فئة من فئتين:
فئة يمثلها السادات .. والسادات جاهل..
وفئة يمثلها ما أطلق السادات عليهم بعد ذلك مراكز القوى، وهم عصابة مجرمين.. ( الوصف ساعتها كان لهيكل.. لكن جمال عبد الناصر كان قد سبقه إلى نفس الوصف عام 67 حين قال: " البلد كانت بتحكمها عصابة"..)..
وواصل هيكل مبررا انحيازه للسادات:
الجاهل بالخبرة قد يتعلم..
أما رئيس العصابة بالخبرة فسوف يشتد إجرامه ويزيد..
لست أنا إذن من يصف رجال يوليو بهذه الصفات..
هل تذكرون يا قراء يوم زيارة السادات للقدس.. وكيف حاول أن يدلس على الأمة ويخدعها بأن الفكرة قد هبطت عليه كالوحي وهو في الطائرة فوق جبال آرات حيث مهبط سيدنا آدم على الأرض..
اكتشفنا بعد ذلك بأعوام أن العملية كلها كانت عملية مخابرات تم الترتيب لها قبلها بأعوام.. فلماذا لم نكتشف في الوقت المناسب أن حادث المنشية كله كان عملية مخابرات..
المؤلم أنني احتجت إلى ربع قرن بل يزيد كي أدرك هذا.. وكانت الحقيقة واضحة طول الوقت وماثلة..
لكن الإلمام بالحقيقة لا يعني إدراك الحق..
والوصول لا يعني المثول..
والمثول لا يعني القبول..
كانت الحقيقة واضحة ..
وكان يمكننا أن نكتشف دون صعوبة كبيرة كم وكيف دبر حادث المنشية.. ليس للتخلص من الإخوان المسلمين بل للتخلص من المنهج الإسلامي كله..
كانت الحقيقة واضحة..
وكانت العيون مفتوحة.. ولكن ..
عميت البصيرة..
ما أريد التركيز عليه، هو أنه ليس من حق أي واحد منا أن يدعي فقدان وعيه، أو أنه لم يكن يعرف ما يحدث.
في تلك الأيام من عام 1954 كنت طفلا دون العاشرة، و ما زلت أذكر كيف كنت أجلس وسط الكبار مروّعا مذهولا و أحد المجندين يأتي في إجازته كل بضعة أسابيع يفخر بما يفعله في السجن الحربي من تعذيب للإخوان المسلمين.
كانت قاعة الدرس الديني تتحول من سماع الشيخ إلى سماع الجندي المجند في السجن الحربي..
كان ضميري يئن ويصرخ، وكان المنافقون أو الجبناء أو الأغبياء يدّعون أنه من المستحيل أن يوافق عبد الناصر على هذا القدر الهمجي الوحشي من العذاب..
وغرقت في أحلام يقظة أعبر فيها الحجب و أخترق الجدران فأصل إلى عبد الناصر في خفية من الجميع لأنبهه كي يتدارك الكارثة.
وفي ذلك الوقت، كان الجو المحيط بي ما بين الرعب والخوف الذي أذل أعناق الرجال، وما بين الجهل والنفاق.
كان الوفديون يشعرون بشماتة هائلة في الإخوانيين الإرهابيين ..
لم أكن قد أدركت ولا عرفت أن الوفد أول حزب علماني فصل الدين عن الدولة..
وما كنت عرفت ولا أدركت أن سعد زغلول مهما بلغت زعامته كان علمانيا من تلاميذ كرومر، و أن امرأته تسمت باسمه كي تهرب من اسم أبيها الخائن، وأن سعدا نفسه كان مقامرا ومجاهرا بعدم الصلاة وبالإفطار في رمضان .. و أنه هو الذي عضد وشجع ونشر فكر قاسم أمين وكتبه.. و أن ميدان التحرير قد سمي كذلك.. لا احتفالا بتحرير الوطن أو الأمة.. بل ذهبت صفية مصطفى فهمي الشهيرة بصفية زغلول مع صويحباتها لا لمهاجمة معسكر الإنجليز هناك في ثكنات قصر النيل.. بل ذهبن ليمزقن الحجاب ثم يدسنه بالأقدام ثم يحرقنه..
وكان الشيطان يزين لهم أن هذا هو التحرير..
ولهذا سمي الميدان ميدان التحرير..
كيف خدعنا ولماذا خدعنا
نعود إلى السؤال: كيف خدعنا ولماذا خدعنا..
كان الناس كانوا قد تركوا مقياس الولاء والبراء، ولم يعد الإسلام مرجعية. وكان بعض الصوفية من ناحية وبعض أصحاب البدع من ناحية أخرى يرون أن ما يحدث للإخوان المسلمين هو القصاص الإلهي العادل وانتقام أهل البيت والأولياء منهم، فهم – كما يقولون - لا يحبون هؤلاء ولا أولئك.. بل إنهم يهاجمون الموالد والأضرحة.. وهم ينتسبون إلى الوهابيين الذين كانوا يريدون هدم ضريح الرسول صلى الله عليه وسلم!!..
لست أدري من كان يقول ذلك ولا من كان يروجه..ولقد علّمت نفسي منذ زمان بعيد: عندما لا تدري: ابحث عن المخابرات..!!
يضاف إلى هذا وذاك، في الوسط المحيط بي آنذاك، أن المحيطين من الإخوان، وما أصابهم من فزع، لم يكونوا من النوع الجليل الشامخ الذي عرفته بعد ذلك، بل كانوا عنصر تنفير لا تبشير.
كانت الصحف والمجلات والإذاعة تهاجمهم باستمرار ولم يكن هناك أحد أبدا يدافع عنهم. ولم يكن هناك ما يدعوني لتكذيب كل أولئك، كنت أصدق ما يقال عنهم، وعلى الرغم من ذلك كنت أدين تعذيبهم بجماع قلبي، فهناك دين وهناك قانون، أما ما يحدث من تعذيب فهو الإجرام بذاته.
الغريب، الغريب حقا أنني أذكر تفاصيل كثيرة عن أحداث 54، بينما لا أكاد أذكر شيئا عن أحداث 65، وعدا الألم الفادح يوم نشر خبر إعدام الشهيد سيد قطب ورفاقه، لا أكاد أذكر شيئا، ولعلها حيلة دفاعية للنفس، فلو أن أحدا صب عليك رصاصا منصهرا فإنك سوف تصاب بالإغماء كوسيلة دفاعية لتقليل الإحساس بالألم الذي لا يمكن احتماله. ولعل النفس تفعل نفس الشيء، فعندما تواجه النفس بألم لا يمكنها احتماله، فإنها تواجهه بفقدان الذاكرة. كان الألم الفادح أنني لم أكن أستطيع تصور أن هؤلاء الشهداء عملاء للأمريكيين كما تقول الإذاعة والصحف، وفي نفس الوقت، لم أكن أستطيع أن أكذب شيوخ الأزهر، الذين راحوا يهاجمونهم بمنتهى العنف، متهمينهم بأنهم خوارج، و بأنهم مرقوا من الإسلام. ولم أكن أستطيع أن أتصور أن المفتيين عامي 54 وعام 65، قد أباحا دماءهم دون سند شرعي.
كان الضمير ممزقا بين ما لا يمكن تصديقه وما لا يمكن تكذيبه..
وكان الوعي والوجدان ممزقين كذلك..
كنت أفتقد المنهج و الأدوات والمعلومات لكنني بالحدس كنت أدرك أن هناك خطأ هائلا و أننا مقدمون على كارثة، فتنبأت بهزيمة 67..واستدعاني الأمن وحذرني من الهزيمة إلى موت جمال عبد الناصر كانت هدنة بين إدانة سابقة و إدانة لاحقة.. كنا نعاني ذات الجرح وننزف نفس الدم..
عام 68 قضيت ليلة في وزارة الداخلية، كتبت تفاصيلها في مقال آخر وفي نهاية هذه الليلة كان نائب وزير الداخلية يصرخ في وجهي:
أنا أتعاطف معك لأنك تذكرني بشبابي، كنت نظيفا مثلك، لكنني الآن ملوث ومدان وأعرف أن جميع ما تقوله صواب و أننا على خطأ. وزير الداخلية مثلي، ملوث ومدان، وزير يعرف أنه على خطأ، رئيس الوزراء كذلك، جمال عبد الناصر أيضا ملوث ومدان ويعرف الباطل والصواب، وهو على باطل ويعرف ذلك..
التزاما بالدقة فإنني قمت الآن بتهذيب العامية التي تحدثنا بها يومها، أما مكان كلمتي : " ملوث ومدان فقد كانت الكلمة التي قيلت هي كلمة: " وسخ" .. وعلى أي حال فالكلمة عربية صحيحة(
صرخت يومها:
البطولة والإبهار والمجد والزعامة و الإلهام والفكر والحكمة والقداسة والعصمة والصواب المطلق ونفي الآخر وادعاء أن الآخر كان شيطانا رجيما ... كل ذلك لم يكن كذلك..
لقد نجح برنامج صناعة النجم على غير الحقيقة فألبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق..
كل ذلك.. لم يكن كذلك ..
" الثورة .. ليست كذلك"..
"و هيكل.. ليس كذلك"..
وتلك الصورة المثالية الحالمة ليست كذلك..
الطهر كان عهرا..
والبطولة كانت خيانة..
والخونة حاكموا الأبطال..
بعد موت جمال عبد الناصر كان السادات بغيضا، وكان توجهه إلى أمريكا و إسرائيل مفزعا، وكان الكشف عن تفاصيل جرائم التعذيب مروعا، وكانت حجة الشيطان التي أخرت اكتشافي لحقيقة ما حدث أنني قلت لنفسي: " كلمة حق يراد بها باطل"..
وكان ثروت أباظة هو الذي تصدى لنشر تفاصيل التعذيب في المجلة التي يرأس تحريرها..في الثمانينيات كانت الأدلة تكتمل وثمار التجربة المرة تثمر..وكنت أحاول التوفيق بين المتناقضات.. أو على الأحرى التلفيق لا التوفيق..قلت لنفسي على سبيل المثال أن حادث المنشية حقيقي وليس مصطنعا.. و أنني عاتب على الإخوان أن ينكروا ذلك، لقد كان من حقهم في ضوء المعلومات التي توفرت لي أن يقوموا بهذه المحاولة التي يشرفهم أنهم قاموا بها ولا يشرفهم إنكارها.. و أن قيامهم بالمحاولة يقدم اعتذارا جزئيا لعبد الناصر فيما فعله بهم بعد ذلك..لم أكن قد أدركت أن الخلاف لم يكن خلافا سياسيا بل كان الأمر أبعد من ذلك بكثير..تحت وهم الموضوعية قلت لنفسي أن كلا من الطرفين يبالغ في عيوب الطرف الآخر.. و أن علىّ ألا أصدق أيا منهما و أن أبحث عن طرف محايد..ولم يكن ثمة طرف محايد!!..
هل تعرفون يا ناس الحديث النبوي الشريف عن خطاب " حاطب بن أبي بلتعة" إلى أناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشف الله لرسوله أمره فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: (إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
"لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"..
هل تعرفون يا قراء لماذا ورد هذا الحديث النبوي الشريف بخاطري الآن؟!! لقد ورد بمفهوم الضد..
إذ تخيلت قوة باطشة طاغية جبارة تقول لكل من أساء إلى الإسلام:
لعل أمريكا قد اطلعت على كل من أساءوا إلى الإسلام والمسلمين فقالت اعملوا ما شئتم فسوف أحميكم و أرفع شأنكم وذكركم..
لا تنسوا ذلك يا قراء..كل من أساء إلى الإسلام يحمل معه حصانة قد تحميه ذات يوم ما لم يكفر بأمريكا كفرا بواحا يخرجه من ملتها.. وحتى لو اضطرت أمريكا إلى عقاب بعض من يحملون بطاقة الحصانة هذه .. فإن العقاب لا يكون شاملا..بل إنها قد تقتلهم.. لكن أجهزة إعلامها تحافظ عليهم في ذاكرة أمتهم كأبطال..
التسفيه من نصيب المسلمين فقط..الاتهام بالرجعية والغباء والسطحية والتفاهة والتناقض والإجرام والخلل العقلي من نصيب المسلمين فقط..كان وما زال..وما فعله جمال عبد الناصر بالإخوان المسلمين عام 54 هو بذاته ما تفعله أمريكا بالمسلمين اليوم.. وليس جورج بوش ولا شارون هما أول من اتهم المسلمين بالإرهاب بل إبراهيم عبد الهادي وجمال عبد الناصر.
قلنا أنه حتى لو كان الإخوان المسلمون قد دبروا حادث المنشية ونجحوا في اغتيال جمال عبد الناصر فإن هذا لا يسوغ ما حدث.
فما بالكم إن كان الحادث كله مدبرا..ولو أن أول احتكاك بين الإخوان والضباط الأحرار كان عام 54 لما سوّغ هذا للضباط أن يفعلوا ما فعلوه..فما بالكم إذا كان الوضع مختلفا تماما..لقد كان معظم الضباط الأحرار أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين..وبالتحديد في التنظيم السري !!..يقول العالم الجليل الأستاذ سيد سابق الداعية الجليل، صاحب كتاب فقه السنة الذي لا يكاد يخلو منه بيت طالب علم في العصر الحاضر:
أقول كلمة حق في ذلك، أولا جمال عبد الناصر كان من الإخوان المسلمين يقيناً، وقد بايع مع كمال الدين حسين في ليلة واحدة على المصحف والمسدس، وكان جمال تابعاً للخلايا السرية، وبقي كذلك حتى قامت الثورة، وكانت فكرة الخلايا السرية أساسا محاربة الإنجليز، فإذا استطاع الإنجليز القضاء على الهيكل الظاهري، فيكون وجود الخلايا السرية باقيا كقوة، وقد كان لي دوران في الهيكل التنظيمي للإخوان، في الجماعات السرية وكذلك الظاهرة، ولم يكن أتباع الظاهر يعلمون بأني مسؤول إحدى الجماعات السرية الباطنة، والتي يتبعها جمال عبد الناصر، وعندما قام جمال بالثورة مع الإخوان الذين يعرفونه، ونجحت ثورته بدأ الخلاف، وأساس الخلاف الدائر كان حول "من الذي سيحكم"؟! وعندما كبر بدأ يتنكر ويقول: "كنت بروح للشبان، وبروح للإخوان، وأروح لمصر الفتاة، وأروح للشيوعيين" والجماعة المحيطة به تكتب مذكرات كاذبة، ومضى في طريقه المعروف.
الصامتون يتكلمون
ينقل سامي جوهر في كتابه الصامتون يتكلمون ( ص 82 ) عن كمال الدين حسين : إن أهداف تنظيم الضباط الأحرار كانت العمل على تطبيق الإسلام ، ولا نعلم له هدفاً غير ذلك ، ويقول في خطابه الذي دونه لعبد الحكيم عامر : إن حركة الضباط الأحرار منذ دخولها سنة 1944م لا يعرف لها هدف سوى الحكم بكتاب الله ، وأنهم جميعاً : عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد المنعم عبد الرؤوف قد بايعوا محمود لبيب والمرشد والسندي ، وأن الحركة قد انتكست عندما أضاف إليها عبد الناصر ضباطاً من غرز الحشيش والخمارات من سنة 1948م .
ويقول عبد المنعم عبد الرؤوف في مذكراته : وكان جمال عبد الناصر يتردد على مركز الإخوان المسلمين لسماع حديث الثلاثاء منذ عام 1942م .
شهادة خالد محيي الدين تحتاج إلى احتفال خاص، فالرجل من ناحية شيوعي، ومن ناحية أخري ظل ينكر أو يستنكر العلاقة بالإخوان ردحا طويلا من الزمن، لكنه يعترف في النهاية في حديثه إلى مجلة فلسطين الإسلامية:
بعد أن بدأنا منذ 1944 التفكير بشكل عملي لتحرير مصر من الفساد والتبعية للاحتلال تعرفت عن طريق زميلي عبد المنعم عبد الرؤوف بالصاغ محمود لبيب الذي كان يتناقش معنا بلهجة ذات نكهة إسلامية. ومن يومها بدأت علاقة من نوع غريب مع الإخوان. وتكونت بعدها مجموعة عسكرية تضم العديد من الضباط، ولم نعد نلتقي في أماكن عامة ولكن في اجتماعات منتظمة في البيوت وأذكر أننا التقينا في إحدى المرات بمنزل الضابط أحمد مظهر وهو نفس الفنان المعروف أحمد مظهر.
وكان الإخوان يحسون أنهم أمام كنز من الضباط المستعدين لعمل أي شئ لخدمة الوطن.وعندما بدأنا نسأل محمود لبيب عن برنامج الجماعة كان يجيب "الشريعة" فأقول له :نحن جميعا مسلمون ونؤمن بالشريعة، ولكن ماذا سنفعل بالتحديد؟ هل سنخوض كفاحا مسلحا أم نقبل بالتفاوض؟. وكان محمود لبيب يراوغ حتى انتهى الأمر بإحضار حسن البنا المرشد العام للإخوان. وبعد أن طرحت عليه أنا وعبد الناصر آراءنا قال لنا بهدوء وذكاء إن الجماعة تعاملنا معاملة خاصة ولا تتطلب منا نفس الولاء الذي تتطلبه من العضو العادي.
وتتالت مقابلاتنا وظل عبد الناصر مستريبا في أن الجماعة تريد استخدامنا لتحقيق أهدافها الخاصة. ومع اتصالي بعثمان فوزي واستعارتي لكتبه بدأت أنحو منحى يساريا. و هكذا أصبحت عضوا شاذا في جماعة يفترض أنها تابعة للإخوان المسلمين. وحاول حسن البنا أن يشدنا للجماعة برباط وثيق، وقرر ضمي أنا وعبد الناصر للجهاز السري. وبالفعل قابلنا عبد الرحمن السندى قائد الجهاز السري في أحد المنازل القديمة بحي الدرب الأحمر. ودخلنا غرفة مظلمة تماما ووضعنا يدنا على مصحف ومسدس، ورددنا خلف صوت أحدهم يمين الطاعة للمرشد العام في المنشط والمكره (الخير والشر).وأعلنا بيعتنا التامة الكاملة والشاملة له على كتاب الله وسنة رسوله. وبدأنا عملنا وأخذونا للتدريب في منطقة قرب حلوان. وكان عبد الناصر يمتعض لأننا كنا أكثر فهما للسلاح ممن يقومون بتدريبنا.
للقارئ أن يلاحظ ركاكة اعتراف خالد محيي الدين..ركاكة من يخفي أكثر مما يظهر..ركاكة من يعرف أنه كان يكذب طول الوقت لكنه مضطر في النهاية للاعتراف بجزء من الحقيقة التي لا يمكن إنكارها..ولاحظوا يا قراء الفقرة الأخيرة من اعترافه..لو كانا – هو وعبد الناصر – طفلين لما حق له أن يتكلم بهذه الطريقة..كما لو كانا صبيين معتوهين أخذوهما للبيعة وهما لا يدركان ما يفعلانه..لكنه مشكور على كل حال.. إذ لم يشفع قوله بأنهم سقوه وجمال عبد الناصر سائلا أصفر فقدا بعده الإرادة .. فبايعا..لاحظوا أيضا يا قراء الكذبة الأخيرة، وهي أيضا مفعمة بالإهانة لكليهما.. لخالد محيي الدين ولجمال عبد الناصر: " وأخذونا للتدريب في منطقة قرب حلوان. وكان عبد الناصر يمتعض لأننا كنا أكثر فهما للسلاح ممن يقومون بتدريبنا"..شباب الإخوان.. الجوالة أو الكشافة أو حتى التنظيم شبه العسكري هو الذي يدرب ضباطا في الجيش..هل ترون يا قراء كيف يكون الكذب وكيف يكون امتهان العقل..والحقيقة على العكس تماما..فقد كان جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين هما اللذان يدربان الإخوان على استعمال السلاح..أي قدرة خسيسة على ممارسة الكذب.. بل أي تدريب على قلب الحقائق بهذه الصورة..إنني أرجو من القارئ ألا يمر مر الكرام على هذا النوع المدرب من الكذب..
فالهدف منه هو أن يبدو المسلم كشخص درويش أبله أحمق لا يفهم البديهيات بالإضافة إلى جهله.. إنه مضحك.. و آية ذلك كله أن هؤلاء البلهاء ظنوا أن خبرتهم في السلاح تتفوق على خبرة ضباط الجيش.. وانطلت أكاذيب الجهلة على الضباط الأبرياء فذهبوا بحسن نية و بإخلاص كي يتدربوا فإذا بهم يكتشفون جهل مدربيهم مما أفقدهم الثقة في نظامهم كله!!..
على أن خالد محيي الدين يكذب كذبة أخرى..فلم يكن هو وعبد الناصر فقط من أقسما يمين المبايعة والولاء والطاعة..كان معهم عبد الحكيم عامر و كمال الدين حسين و حسين الشافعي وحسن إبراهيم وصلاح سالم وعبد اللطيف البغدادي وفؤاد جاسر وجمال ربيع وحسين حمودة وصلاح خليفة وسعد توفيق . وكان هؤلاء جميعا يكونون أسرة الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف والذي كان بدوره مرؤوسا للصاغ محمود لبيب وكيل جماعة الإخوان المسلمين العسكري..( راجع : حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وجمال عبد الناصر: يرويها محمد حامد أبو النصر- انترناشيونال بريس).
أما أنور السادات فقد بدأت علاقته بإخوان عندما ذهبت زوجته الأولى إلى الإمام الشهيد حسن البنا لترهن عنده مصاغها الذهبي مقابل سبعين جنيها، فأمر بإعطائها المبلغ واحتفاظها بمصاغها، كما قرر لأسرة السادات راتبا شهريا عشرة جنيهات حتى موته حل الجماعة ثم استشهاده عام 48. ويقول الشيخ عمر التلمساني في " ذكريات لا مذكرات" أن جميع ما رواه السادات عن الإخوان وعن الإمام الشهيد في كتابه البحث عن الذات كذب في كذب.
شهادة أخرى هامة نقرأها في صحيفة آفاق عربية - العدد 621 الخميس الموافق 23 من جمادى الآخرة 1424هـ - 21 من أغسطس 2003م
والشاهد هو وحيد رمضان.. قائد تنظيم الشباب في العهد الناصري .. يقول:
.. لقد تعرفت في سنة 1945 في منزل عبد المنعم عبد الرءوف علي جمال عبد الناصر وكانت أول مرة ألقاه فيها كما تعرفت علي كمال الدين حسين في إحدى الأسر التي كان يحضرها الصاغمحمود لبيب وكان يشاركنا أيضًا خالد محيي الدين وكان لنا موعد دوري نلتقي فيه حتى بدأت حرب فلسطين.
وفي يوم 28 ديسمبر 1948م قام اليهود باحتلال (عراق المنشية) وهي الجناح الأيمن للفالوجا ووقتها سمعت إشارة من لاسلكي صلاح سالم وكانت استغاثة من جمال عبد الناصر للسيد طه نصها «جمال عبد الناصر يقول للسيد طه: إذا لم تصل النجدة فورًا فسأفقد السيطرة علي الموقف» فقلت لصلاح سالم: هل تترك جمال وحده?! وطلبت من السيد طه أن يعطيني حمالة جنود لأذهب لإنقاذه وتوكلنا علي اللّه وبالفعل ذهبت لعبد الناصر وبعد معركة مع الجنود اليهود وصلت إليه وكان واقفًا مع حارسه علي باب مخزن ومعه سلاحه وعندما رآني انشرحت أساريره لأنني أنقذته.(...).. لقد كان هناك تعاون كامل بين الإخوان المسلمين وجمال عبد الناصر وتمثل هذا التعاون في قيام مجموعات من الإخوان بحراسة بعض السفارات والمرافق المهمة, كما قاموا بحراسة الطريق المؤدي إلي السويس, وهو من أهم أدوار الثورة, لأن هذا الطريق هو الوحيد لدخول الإنجليز القاهرة وإعادة احتلالها مرة أخري ولذلك اعتمد عبد الناصر والضباط الأحرار علي شباب الإخوان لتأمين هذا الطريق لأنه يعرف أنهم سيقومون بمهمتهم أفضل ما يكون. كما كان لعبد المنعم عبد الرءوف دور مهم وحيوي حيث إنه كان قائد القوة التي حاصرت الملك فاروق بقصر رأس التين بالإسكندرية والتي علي أثرها وقّع فاروق وثيقة التنازل كما قام أبو المكارم عبد الحي بمحاصرة قصر عابدين, إضافة لمشاركة ضباط الإخوان في وحداتهم بالقيام بالأعمال الموكلة إليهم.
ويواصل وحيد رمضان حديثه عن حادث المنشية فيقول:
.. رغم أنني كنت في القاهرة وقتها لكني سمعت من القريبين جدًا من الأحداث أن محمود عبد اللطيف كان واقعًا تحت تأثير عبد الرحمن السندي الذي فصلته جماعة الإخوان وأنه وضع له الرصاص من الفشنك وكان الأمر بالتنسيق مع المباحث الجنائية والمخابرات العامة وكما قال حسن التهامي إن لديه الوثائق والمستندات التي تؤكد دور المخابرات الأمريكية في التكتيك لهذا الحادث حتى يصبح عبد الناصر شخصية شعبية تطغي علي شخصية محمد نجيب إضافة إلي قصة القميص الواقي.
وعلي جانب آخر فإن حادث المنشية كان المحرك والسبب في فتح السجن الحربي الذي امتلأ بالمعتقلين من الإخوان المسلمين وفي مقدمتهم الأستاذ حسن الهضبي ودارت طاحونة الدم من هذا اليوم وحدثت مأساة المحكمة التي رأسها جمال سالم وصدر حكم الإعدام علي 7 من زعماء الإخوان وخفف الحكم علي المستشار حسن الهضيبي رحمه اللّه.
عام 67 كان قواد الهزيمة الكارثة يتآمرون على الدولة في حال الحرب وكان اغتيال عبد الناصر واردا..
ولم يحكم على أحد منهم بالإعدام.
عام 54 لم يكن الإخوان هم الخارجين على الشرعية.. كان الضباط الأحرار هم الخارجين عليها.. وكان الإخوان يدافعون عن هذه الشرعية في شخص رئيس الجمهورية..محمد نجيب..
نلخص ما مضى: لقد كان معظم الصف الأول من الضباط الأحرار أعضاء في التنظيم السري للإخوان المسلمين، ومهما بلغت أهميتهم فإننا نستطيع تصور ضآلتهم إزاء الشخصيات التاريخية للإخوان.. ولكنهم عندما كبروا بدءوا يتنكرون كما وصفهم الشيخ سيد سابق.
بعد اغتيال الإمام الشهيد وحل جمعية الإخوان المسلمين بدأ عبد الناصر في التفكير في الاستقلال عن الإخوان (راجع قول كمال الدين حسين: إن حركة الضباط الأحرار منذ دخولها سنة 1944م لا يعرف لها هدف سوى الحكم بكتاب الله، وأنهم جميعاً: عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعبد المنعم عبد الرؤوف قد بايعوا محمود لبيب والمرشد والسندي، وأن الحركة قد انتكست عندماأضاف إليها عبد الناصر ضباطاً من غرز الحشيش والخمارات من سنة 1948م
وهنا لابد أن نتناول إحدى الطرق لتزوير التاريخ دون كذب..محمد حسنين هيكل عندما يتناول تلك الفترة يتناولها اعتبارا من 1949.. فيسقط تاريخ عضوية الضباط الأحرار في الإخوان المسلمين..لاحظوا الذكاء..1994 لم تكن هناك جمعية للإخوان بعد أن حلها النقراشي وبعد استشهاد الإمام حسن البنا على يد إبراهيم عبد الهادي..أي معتوه إذن يفكر في أي علاقة بين الضباط والإخوان..أرأيتم هذه الطريقة المبتكرة في التجمل..هيكل لا يكذب أبدا..لكنه يخفي دائما جزءا من الحقيقة..وعادة يكفي هذا الجزء المخفي لقلب الصورة..
عاد الإخوان.. وعاد الارتباط بينهم وبين الضباط الأحرار.. وكان أوثق ما يكون.. وسيكون هذا موضوع مقالة تالية.. لكننا الآن نريد أن نصل إلى حادث المنشية.
لقد خان الضباط كل وعودهم من الإخوان.. كان الإخوان يؤيدون الشرعية ممثلة في محمد نجيب.. وكان الضباط لا يطيقون شريكا: راجع الأقوال المذهلة لحسين الشافعي في برنامج شاهد على العصر في قناة الجزيرة، وراجع أيضا مذكرات خالد محيي الدين، بالإضافة إلى عشرات الكتب التي كتبها الإخوان.
أواخر 53 حاول عبد الناصر تدبير مؤامرة ضد المرشد العام المستشار حسن الهضيبي، كان الهضبي قد فصل السندي رئيس "النظام الخاص".. كان اسمه كذلك.. لكن المنافقين يسمونه النظام السري.. المهم.. فصل الهضبي السندي لأسباب متعددة منها مخالفة أوامره، ومنها اعتراض الهضبي على أي عمليات عنف ومنها إحساس السندي بأنه أولى بمنصب المرشد العام من الهضبي، وكان في ذلك مدعوما من عبد الناصر، ومن ناحية أخري فقد كان الهضبي بالإضافة إلى الأسباب السابقة جميعا يدرك أن جمال عبد الناصر نفسه واحد من أقدم أعضاء التنظيم الخاص, وأنه يعرف كل أسراره. وفشلت المؤامرة، ويذكر الشهيد سيد قطب أن مصطفي أمين اتصل به ليخبره عما يحدث في منزل الهضبي وفي مركزهم العام، وهرع الشهيد سيد قطب إلى هناك لكنه لم يجد شيئا، ولكن الأحداث بدأت بعد ذلك بساعتين..
بعد ذلك بشهرين تم حل جمعية الإخوان المسلمين و اعتقال الإخوان واتهامهم بالاتصال بالإنجليز والتآمر معهم وبإخفاء أسلحة تكفي لنسف القاهرة عشر مرات.. كما ورد في مقالة سابقة..
وبعد ذلك بشهرين آخرين كان الضباط الأحرار يتراجعون عن كل قراراتهم ويسحبون كل اتهاماتهم وكان عبد الناصر في بيت الهضبي يعتذر له.
في الشهور الستة التالية كان جمال عبد الناصر كأستاذ بارع في التكتيك يعالج أسباب القصور التي اضطرته إلى إعادة نجيب والإخوان.. وكان حادث المنشية فرصته كي يضرب ضربته الكبرى..
كان قد تخلص من كل مناوئيه ولم يبق إلا الإخوان ومحمد نجيب.
تساؤلات القرضاوي عن الحادث
ولنقف هنا مع الدكتور يوسف القرضاوي في تساؤلاته عن الحادث حيث يقول:
وقفة للتأمل.. من المسئول؟!!
1ـ من الواضح الجلي، ومن المؤكد المستيقن: أن قيادة الإخوان لا تتحمل وزر هذا الحادث، عند كل دارس أو مراقب عنده ذرة من عقل أو إنصاف.
فقد أكدت كل المصادر: أن المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي كان ضد فكرة الاغتيالات بكل قوة ووضوح، وأعلن هذا بصريح العبارة لرئيس الجهاز السري: إنه برئ من دم أي شخص كان، وهذا ما شهد به الخاص والعام، وأن النظام الخاص أو الجهاز السري للجماعة، لم يكن هو المدبّر لها ولا المسؤول عنها. إنها في رقبة هنداوي دوير رحمه الله، الذي أراد أن يقوم عن الجماعة بتنفيذ ما فرطت فيه في نظره! ومن يدري ربما لو نجحت خطته لأصبح من الأبطال، وعدّ منقذا للدعوة.
وبقدر اندفاعه في التدبير والتنفيذ، كان اندفاعه وانهياره السريع عند فشل الخطة، ويظهر أنه أيقن أن كل شيء قد ضاع، ولم يبق إلا أن يقر ويعترف بكل شيء، فسارع إلى تسليم نفسه طوعا واختيارا، كما يبدو أنه ساومهم أو ساوموه على أن يكون (شاهد ملك) كما يقولون، وفي مقابل اعترافه يعفى من العقوبة أو تكون مع إيقاف التنفيذ أو نحو ذلك، ولكنهم لم يفوا له بما وعدوه، وربما كان هذا هو السبب في صياحه ساعة ساقوه إلى حبل المشنقة: ضحكوا عليَّ .. خدعوني.. ضحكوا عليّ، مش دا اتفاقنا...الخ.
وبعض الإخوان اتهموا هنداوي ـ أو كادوا ـ بأنه كان عميلا للثورة في ذلك الحادث، وأنا أستبعد هذا كل الاستبعاد على الرجل، وإن كان هناك علامات استفهام في القضية لم نجد لها حتى الآن جوابا مقنعا.
ولكن يبدو أن هنداوي ـ رحمه الله ـ كان ثرثارا، ولم يكن كتوما كما ينبغي، حتى ذكر الأستاذ فريد عبد الخالق: أنه قال في المركز العام أمام عدد من الناس: لازم نقتل جمال، وأن محمد الجزار، رجل البوليس السياسي في عهد الملكية سمعه، وربما أبلغ ذلك إلى الجهات المسؤولة.
كما أن هنداوي طلب من محمود الحواتكي رئيس الجهاز السري في محافظة الجيزة مسدسا لمحمود عبد اللطيف لينفذ به مهمة الاغتيال، فرفض إعطاءه، قائلا: إن المرشد يرفض فكرة الاغتيال مطلقا. وربما كان هذا أو غيره سبب تسرب الخبر، لا يستطيع أحد الجزم.
2ـ وهكذا يبدو من سير الحوادث: أن سر هذه المؤامرة لاغتيال عبد الناصر قد انكشف قبل أن تقع الواقعة، وأن عبد الناصر علم بها، وعلم من المكلف باغتياله، ولكنه لم يقبض على الشخص، ويودعه السجن، كما يتوقع في مثل هذه الحالات، بل أراد أن يستفيد من الحادثة بعد أن انكشف قناعها.
أما كيف انكشفت فعلم ذلك عند الله تعالى. ولكن سمعت من بعض الإخوان: أن أحد رجال الأمن ـ نسي اسمه ـ قال في مقابلة تليفزيونية في القاهرة: إن الأستاذ عبد العزيز كامل ـ وكان يسكن في إمبابة مع هنداوي دوير في بناية واحدة ـ علم بتدبيره عملية اغتيال عبد الناصر، فأفهمه خطورة هذا العمل، وسوء أثره على الجماعة، وحاول أن يثنيه عن عزمه، فلم ينثن، فلما رأى تصميمه على التنفيذ، أراد أن يبلغ قيادة الجماعة، لتمنع هنداوي من تصرفه المنفرد، ولما لم يستطع الوصول إلى قيادة الجماعة لاختفاء المرشد: اتصل بمن يعرف من رجال الأمن، وأبلغهم بنية هنداوي، ليبرئ ذمة الجماعة، وكان غرضه أن يقبضوا عليه وعلى محمود عبد اللطيف، قبل أن يحدث أي شيء. وأبلغ مسؤول الأمن عبد الناصر، ولكنه لم يقبض على المدبِّر، ولا على المكلف بالاغتيال، لأمر أراده، كما تدل على ذلك الشواهد التي نأخذها من تعليقات الأستاذ صالح أبو رقيِّق أكثر من اهتم بهذه القضية والتعليق عليها. من ذلك:
1ـ استبعاد أن يخفق مثل محمود عبد اللطيف في إصابة هدفه، وهو أمهر رام عرفه إخوانه في حرب فلسطين. والمسافة قريبة، وقد أطلق ـ كما قالوا ـ ثماني رصاصات. ولم تصب عبد الناصر ولا أحدا ممن كان في المنصة.
2ـ وقع الحادث في مساء 26 أكتوبر، وظهرت صحف الصباح ـ صباح 27 أكتوبر 1954 تحمل في صدر صفحاتها الأولى نبأ القبض على الجاني الأثيم بدون نشر صورته.. قالت جريدة الأهرام:
"لم يكد الجاني الأثيم يطلق رصاصاته الغادرة، حتى كان الجمهور قد هجم عليه، وعلى ثلاثة أشخاص يقفون على مقربة منه، ودخان الرصاص يتصاعد من حولهم، وكاد يفتك بهم، لولا أن بادر رجال البوليس والمخابرات بالقبض عليهم، وضبط السلاح في يد الجاني. (هكذا نشرت جميع الصحف، كما أنه لم ينشر شيء بعد ذلك عن الثلاثة الآخرين الذين قيل أنهم ضبطوا مع الجاني) وقد اقتيد الأربعة إلى نقطة بوليس شريف.. ويدعى الجاني محمود عبد اللطيف، ويعمل سباكا في شارع السلام بإمبابة".
(وهنا سؤال: لماذا لم تنشر صورة الجاني في الحال؟).
3ـ وقد عثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 36 ملليمتر، وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضبط مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة"!!
وكان هذا ما نشرته جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 27 أكتوبر 1954. وأثار ذلك التساؤل عن سر اختلاف الأظرف الفارغة عن طلقات المسدس المضبوط في يد الجاني.. وبدأت همسات: هل هناك شخص آخر؟!
وفي نفس العدد نشرت الصحف أن الجاني ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين..
وتوالى في الأيام التالية نشر اعترافات محمود عبد اللطيف، وأنه من الجهاز السري للإخوان المسلمين.. وكان مكلفا باغتيال عبد الناصر، لتبدأ حركة اغتيالات لبقية أعضاء مجلس الثورة و160 ضابطا من الضباط الأحرار، والقيام بثورة، وأن الجهاز السري كان سيقف أمام أي تحركات مضادة. ومع الاعترافات بدأ نشر أنباء اكتشاف مخازن أسلحة للجهاز السري، والقبض على أفراده، ومخازن في جميع محافظات الجمهورية.. ومتهمين من مختلف الفئات والمهن.. طلاب بالجامعات ومحامين ومدرسين وعمال وفلاحين وضباط بالجيش وضباط بوليس وتجار..أي من فئات الشعب جميعها: العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية.
4ـ وكان الناس في لهفة شديدة لمعرفة شكل الجاني الأثيم.. ومضت خمسة أيام كاملة دون أن تنشر له صورة واحدة.. وأخيرا نشرت صورته، وآثار التعذيب واضحة تماما على وجهه.. ونشر تحتها أنها صورة للجاني، ويبدو فيها آثار اعتداء المواطنين عليه وقت القبض عليه
ظلت أحاديث الناس تتناول في كل المجالات ما كان يعتزمه الإخوان المسلمون من خراب للبلاد.. كان الناس تستقي معلوماتها مما تنشره الصحف.. وكان بعض المفكرين يراودهم الشك في حقيقة الحادث من ضبط الجاني والمسدس في يده، والعثور على طلقات رصاص من عيار لا يطابق رصاص المسدس ولا يريدون أن يصدقوا أن الحادث من تدبير الإخوان.
5ـ وفجأة وبلا أي مقدمات ـ يوم 2 نوفمبر 1954 أي بعد الحادث بستة أيام نشرت جميع الصحف الصباحية صورة الرئيس السابق جمال عبد الناصر وأمامه عامل بناء ممسكا بمسدس. ومع الصورة حكاية مثيرة.. تقول الحكاية إن عامل البناء خديوي آدم.. وهذا اسمه.. كان يستقل الترام يوم الحادث عائدا إلى منزله.. عند ميدان المنشية شاهد جماهير من الناس مجتمعة وسأل عن سر تجمعهم، ولما علم أن عبد الناصر سيلقي خطابا نزل من الترام واندس وسط الجماهير.
وعندما دوى صوت طلقات الرصاص وساد الهرج الآلاف المجتمعة سقط فوق الأرض، وشعر بشيء يلسعه في ساقه.. وتحسسه فوجده مسدسا وكانت ماسورة المسدس لا تزال ساخنة.. وأيقن في الحال أنه المسدس الذي استخدمه الجاني في إطلاق الرصاص على زعيم البلاد!! ووضع المسدس في جيبه واعتزم بينه وبين نفسه ألا يسلم المسدس إلا لعبد الناصر شخصيا.
وتستطرد القصة في استكمال حبكة خيوطها، وحتى لا يتساءل القارئ عن السر في عدم تسليمه المسدس في نفس الليلة وانتظاره خمسة أيام.. فتقول القصة:
إن العامل خديوي آدم رجل فقير جدا يوميته 25 قرشا.. ولم يكن يملك ثمن تذكرة قطار أو أوتوبيس يحمله إلى القاهرة.. فسار على قدميه المسافة من الإسكندرية إلى القاهرة.. فوصلها يوم أول نوفمبر، وتوجه في الحال إلى مجلس قيادة الثورة، وطلب مقابلة جمال عبد الناصر.. وأعطاه المسدس فكافأه عبد الناصر بمائة جنيه!!
وهكذا ظهر سلاح جديد في الجريمة طلقاته من عيار 36 ملليمتر لتكون من نفس أظرف الطلقات التي عثر عليها.. واختفت تماما سيرة المسدس الذي ضبط في يد الجاني لحظة القبض عليه..
هكذا أراد الحاكم ورجال التحقيق.وفي اليوم الثاني مباشرة نشرت الصحف أن الجاني تعرف على المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم، وقرر أنه نفس المسدس الذي استخدمه لاغتيال عبد الناصر، وأنه تسلمه من رئيسه في الجهاز السري المحامي هنداوي دوير. وتعرف هنداوي هو الآخر على المسدس وقرر أنه نفس المسدس الذي أعطاه للجاني، وكان رئيسه في الجهاز السري المحامي إبراهيم الطيب أعطاه له ليسلمه للجاني!
هكذا تعرف الاثنان على سلاح الجريمة.. وهكذا اختفت تماما سيرة المسدس الأول الذي ضبط مع الجاني لحظة القبض عليه.. واحد فقط أنكر أن المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم يتعلق بالجهاز السري.. هذا الشخص هو إبراهيم الطيب نفسه.. وجاء إنكاره أمام محكمة الشعب عندما عرض عليه رئيسها جمال سالم المسدس فقرر أنه ليس نفس المسدس الذي أعطاه لهنداوي.. إنما هو مسدس آخر.
6ـ ولم يحقق جمال سالم هذه النقطة الهامة.. أغفلها تماما.. كما أغفل أثناء المحاكمة تكليف الادعاء بتقديم شهود الإثبات الذين ضبطوا الجاني لحظة ارتكاب الجريمة.. وكانوا.. وبالمصادفة: من العاملين بمديرية التحرير التي أنشأها مجدي حسنين أقرب الضباط الأحرار إلى قلب جمال عبد الناصر، وهؤلاء الشهود معروفون بأسمائهم ووظائفهم.
ولعل الادعاء خشي أن يقدمهم، ويقدم خديوي آدم العامل الذي عثر على المسدس، حتى لا تتخبط أقوالهم، ويظهر شيء محظور كانوا يسعون لإخفائه..إن أي طالب بالسنة الأولى حقوق يعلم أن أول شهود يستمع إليهم هم شهود الإثبات الذين لهم صلة بضبط الجاني أو مشاهدة الجريمة أو اكتشاف سلاح الجريمة..
ولكن هؤلاء الأربعة لم يدلوا بشهادتهم عند محاكمة الجاني.
7ـ وذكر صالح أبو رقيق بعد ذلك ما حدث في أثناء المحاكمة برئاسة جمال سالم من مهازل ومآس، انتهت بصراخ هنداوي دوير: ضحكوا علينا.. خدعونا..
8ـ ثم ما ذكره حسن التهامي من قصة (القميص الواقي من الرصاص) الذي كان يعد لعبد الناصر تلك الليلة، وما حوله من وقائع وتفاصيل لا أذكرها الآن، ولكنها تزيد الأمر غموضا، وإن شئت قلت: تزيده وضوحا: أن تدبير دوير ومن معه قد كشف، وأن عبد اللطيف لم يطلق الرصاصات الثماني، وإنما أطلقها غيره.
وقال أبو رقيق: إن الشخص الذي كان بجوار محمود عبد اللطيف، والذي أطلق الرصاصات في الهواء، وترك دون أن يمسك به أحد، موجود على قيد الحياة، وكل مظاهره تدل على أنه تاب وأناب. وكان أبو رقيق يرجو أن يكمل توبته بإظهار الحقيقة التي ظلم بسببها أناس كثيرون، بل جماعة بأسرها.[6]
وذكر الأستاذ حسن العشماوي أنه فوجئ بالحادث، وفوجئ بإسناده إلى الإخوان، وقد سأل في ذلك يوسف طلعت رئيس الجهاز السري، فأكد: أنه لا يعرف شيئا عن ذلك، والمفروض أنه المسؤول عن الحركات السرية. ووضح يوسف طلعت: أن الخطة الموضوعة كانت تقتضي أن تجتمع الهيئة التأسيسية بعد غد، وأنه ستعقبها مظاهرة لإعلان قراراتها، كما أكد يوسف طلعت: أنه أيقن أن الأستاذ إبراهيم الطيب المسؤول عن الجهاز السري في القاهرة لم يكلف الأستاذ هنداوي دوير بأن يعمل لاغتيال جمال عبد الناصر، ويستنتج الأستاذ حسن عشماوي من ذلك كله: أن الحادث على هذا النحو فردي يحاسب عليه فاعله.
ثم يعود ليذكر: أنه يؤيد اتجاه الأستاذ يوسف طلعت، الذي كان إيمانه يصل إلى أن الحادث ملفق.. لأن المسافة بين مُطْلِق النار وموقف عبد الناصر 300 متر، وللميل الشديد في الاتجاه، إذ كان عبد الناصر يقف على منصة عالية، ثم لوقوف عبد الناصر وراء حاجز من البشر، وذهاب المتهم وحده دون شريك يسنده، واستعمال مسدس، وهو أداة ضعيفة في مثل هذه الحال، وعدم إصابة الهدف من شخص معروف جيدا بالمهارة الفائقة، ومعروف كذلك بأنه لا يطلق النار بغير تأكد من الإصابة… كل ذلك يوحي أن الحادث غير معقول.
ويوسف طلعت كان دائما يتساءل: أمن الممكن أن يرسل هنداوي دوير شخصا واحدا لهذا الحادث، مع أنه يستطيع أن يرسل عدة أشخاص؟ وهل يمكن أن يرسل مسدسا واحدا بدلا من عدة مسدسات وعدة قنابل؟
ويذكر الأستاذ حسن العشماوي أنه سمع من موظف عاين مكان الحادث رسميا أن الحائط المواجه لإطلاق النار ليس به أي أثر للرصاص، وأنه يعتقد أن المسدس الذي سُمعت طلقاته كان محشوا بالبارود فقط دون رصاص، وأن عبد الناصر كان يعلم سلفا لحظة الإطلاق.
الإخوان المسلمون من المنشية إلى المنصة
يتفق مع شهادة الدكتور يوسف القرضاوي شهادة أخرى هامة سجلها الدكتور زكريا سليمان بيومي رئيس قسم التاريخ بجامعة المنصورة في كتابه: الإخوان المسلمون من المنشية إلى المنصة – مكتبة وهبة حيث ينبه إلي ذكاء عبد الناصر في تمهيد الجماهير في الفترة السابقة لحادث المنشية للصدام المسلح بين الثورة والإخوان.
يقترب ريتشارد ميتشيل كثيرا من هذا الرأي في كتابه "الإخوان المسلمون" وهو كتاب قيم ومنصف لولا أن رفعت السعيد شوهاه بطريقتهم المدربة..
المؤرخ د. أحمد شلبي يتفق مع القرضاوي وزكريا فيما ذهبا إليه. مع العلم أنه كالدكتور زكريا ليسا من الإخوان المسلمين..
ينقل لنا الدكتور يوسف القرضاوي شهادة الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية (دار العلوم) حيث يقول في الجزء التاسع من (موسوعة التاريخ الإسلامي): رأيي الذي أدين به والذي كونته من دراسات وتفكير خلال ربع قرن منذ وقع الحادث حتى كتابة هذه السطور، هذا الرأي يتخذ دعامته من الأحداث والأقوال التالية:
أولا: الدقة الشاملة في إعداد السرادق وتنظيم الذين يحتلون مقاعده، وقد سبق أن اقتبسنا كلمات إبراهيم الطحاوي الذي يقرر أن هيئاتٍ ثلاثًا كانت مكلفة باحتلال مقاعد السرادق؛ هي هيئة التحرير، وعمال مديرية التحرير، والحرس الوطني. وهذا يوضح أنه لم يكن هناك مقعد يمكن أن يتسلل إليه مغامر ليعتدي على جمال عبد الناصر؛ فما كان الوصول إلى المقاعد أمرا ميسورا، ولم يترك للجماهير إلا المقاعد الخلفية النائية.
ثانيا: قضية الجنيهين اللذين تحدثت عنهما الصحف المصرية، وقالت: إنهما أُعطيا لمحمود عبد اللطيف لينفق منهما على أولاده وأسرته هي في تقديري أسطورة لم يُجَدْ حبكها؛ فالمبلغ الذي يقدم لمن هو فقير ويطلب منه أن يقدم على هذه المغامرة لا بد أن يكون مبلغا ضخما، يغري بالإقدام على هذا الجرم.
ثالثا: ثماني رصاصات تنطلق من مسدس يمسك به رجل مشهود له بالدقة في إصابة الهدف، ولا تنجح واحدة من هذه الرصاصات في إصابة الهدف أو إصابة أي شخص من الذين يحيطون بجمال عبد الناصر، أو إصابة أي إنسان على الإطلاق.. هذا في تقديري مستحيل!!
ثم إن المشرفين على السرادق سرعان ما طمأنوا الناس ودفعوهم للهدوء، ولو كانت هناك مؤامرة فعلا لانفض الحفل مخافة أن يكون هناك مزيد من الرصاص.
ومما يتصل بالإصابات نذكر أن الإصابات القليلة التي حدثت كانت من زجاج انكسر، ربما من الزحام والجموع التي تحركت عقب الحادث، ولم تكن هناك إصابات من المسدس على الإطلاق.
رابعا: كانت المسافة بين المكان الذي قيل: إن محمود عبد اللطيف أطلق منه النار وبين جمال عبد الناصر 300 متر ( هل كانت 300 متر أم 20 مترا؟.. م ع ) ، وكان عبد الناصر على منصة عالية، وهذه المسافة وارتفاع الهدف يجعلان من المستحيل نجاح الخطة وإصابة الهدف، وبالتالي لا يقدم على هذا العمل جماعة لهم خبرات بالتخطيط والأمور العسكرية.
خامسا: من المعروف أن الإخوان المسلمين كانت عندهم ذخائر ومدمرات هائلة، ولو اتجهوا للاغتيال لكان هناك وسائل أخرى لتحقيق هدفهم، ومن المستحيل أن يقدموا على هذا العمل بمسدس لا يستعمل عادة إلا عند المسافات التي لا تتجاوز أصابع اليدين من الأمتار، وقد تحدثت الصحف آنذاك عن أسلحة ومفرقعات ضبطت لدى بعض الإخوان بالإسكندرية كانت تكفي لنسف المدينة كلها.
سادسا: حكاية النوبي الذي حمل المسدس سيرا على الأقدام من الإسكندرية إلى القاهرة حكاية ساذجة ننقدها من النقاط التالية:
1ـ كيف اتُّهم محمود عبد اللطيف قبل العثور على المسدس؟ مع ملاحظة أن المسدس الذي قيل: إنه وجد معه لم يستعمل ذاك المساء.
2ـ كيف أفلت المسدس المستعمل من الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف؟
3ـ لماذا لم يسلم النوبي المسدس لنيابة الإسكندرية؟
4ـ لماذا جاء هذا الرجل سيرا على الأقدام طيلة هذا المسافة التي لا تقطع عادة سيرا على الأقدام؟
سابعا: يروي صلاح الشاهد أنه كان يقود سيارته مساء يوم 16 وسمع جزءا من خطاب الرئيس من مذياع بالسيارة ثم سمع الطلقات، فأسرع نحو بيت الرئيس ليكون مع أولاده في هذه الأزمة، ولم يجد صلاح الشاهد بالبيت اضطرابا أو ذعرا وأخذ يداعب أولاد الرئيس الذين كانوا يلعبون، وهذا يوحي لي بأن أسرة الرئيس كانت تعلم سلفا بما سيجري، وقد شاهد هذا الاطمئنان قبل أن يتصل بهم عبد الناصر من الإسكندرية
كل هذا يؤكد ما قلته، وأنا مطمئن تمام الاطمئنان: أن قيادة الإخوان -العلنية والسرية- ليس لها أدنى علاقة بهذا الحادث، وأن الذي فكر فيه ودبر خطته أولا هو هنداوي دوير، وأن خطته كشفت لعبد الناصر يقينا، وإن كنا لا نعلم كيف تم ذلك على وجه القطع. وأن عبد الناصر استغل هذا الأمر، وأخرجه -مع رجاله- على الطريقة التي تم بها، والتي تدل كل خطواتها ووقائعها على أن محمود عبد اللطيف ليس هو الذي أطلق الرصاص، وليس مسدسه الذي انطلق منه الرصاص.
شهادة أعدى أعداء الإخوان
لقد تعرضنا لشهادات كثيرة، لكن يبقى شهادات هامة لأنها من أعدى أعداء الإخوان المسلمين.. من الدكتورين: عبد العظيم رمضان وفؤاد زكريا..
ولنلاحظ هنا الطريقة الشيوعية في التزوير.. فنحن ننقل الشهادتين من كتاب الدكتور عبد العظيم رمضان : الإخوان المسلمين والتنظيم السري - الهيئة المصرية العامة للكتاب.. ولقد علمنا من قبل أن اسمه التنظيم الخاص وليس السري!! لكن هذا هو عنوان الكتاب..!!
يقول الدكتور عبد العظيم رمضان:
في تمام الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة من مساء يوم الثلاثاء26 أكتوبر 1954، كان جمال عبد الناصر يقف خطيبا في حفل أقيم بميدان المنشية بالإسكندرية، بمناسبة توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا. ولم تكن قد مضت دقائق قليلة على بدء خطابه، وكان يتحدث عن ذكريات اشتراكه في العمل الوطني(...) وفى هذه اللحظة بالذات دوت ثماني رصاصات متتالية أطلقها محمود عبد اللطيف، العضو في التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين، على جمال عبد الناصر، لم تصبه، ولكنها أصابت جماعة الإخوان المسلمين بكارثة فظيعة لم يشهد لها تاريخ الحياة السياسية في مصر مثيلا.
فلنتجاوز يا قراء عن الجزء الوصفي السابق..ولننتقل إلى الجزء التالي فهو خطير خطير..
يقول الدكتور عبد العظيم رمضان
كان شعور جماهير الإسكندرية عند إلقاء عبد الناصر خطابه، معبأ ضد اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، التي عارضتها كل القوى السياسية في مصر، وضد عبد الناصر الذي وقعها، وضد نظام الحكم الاستبدادي الذي أرساه. وعندما أقيم سرادق الاحتفال في ميدان المنشية، احتلته جماهير الإسكندرية، وأخذت هتافاتها تتعالى بالحرية وسقوط الظلم، مما اضطر السلطات إلى إخلاء السرادق من هذه الجماهير في الخامسة مساء، وإعادة ملئه من جديد بجماهير مأجورة تتكون من عشرة آلاف من عمال مديرية التحرير الموالية. وكانت هذه الجماهير هي التي تسرب محمود عبد اللطيف من بينها ليجلس في الصفوف الأمامية على بعد عشرين مترا من منصة الخطباء والضيوف، و أطلق منها الرصاص على جمال عبد الناصر.
هل لاحظتم يا قراء..لقد أخلت الشرطة السرادق من الجماهير التي كانت تهتف ضد عبد الناصر..ولقد أتت الشرطة بجماهير مأجورة – طبقا لتعبير الدكتور عبد العظيم رمضان – لتملأ السرادق..وكان ممن دخلوا مع هذه الجماهير المأجورة محمود عبد اللطيف..!!..
والآن لننتقل إلى شهادة الدكتور فؤاد زكريا وهو واحد ممن وصلت خصومتهم مع الإسلام لدرجة الإسفاف.. ولكن الله ينطقه بالحق..يتساءل الدكتور فؤاد زكريا في صحيفة الوطن في 2 مارس 1981 : هل كان حادث المنثسية كمينا؟
ويقول فؤاد زكريا:
عاصرت حادث محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في المنشية في أكتوبر عام 1954. وتابعت باهتمام شديد تلك المحاكمة التي أجراها أعجب وأظلم قاض في تاريخ مصر الحديث، المرحوم جمال سالم. وعلى الرغم من اختلافي الفكري الحاد مع الإخوان المسلمين. فقد كان الانطباع الذي تولد لدى من المتابعة الدقيقة لوقائع ذلك الحادث هو أن الإخوان قد وقعوا ضحية مكيدة من نوع ما (...) وهاأنذا أدلى بشهادتي عن هذا الموضوع الهام. مع تأكيدي للقارئ
أنني لدست "مؤرخا(...) وأحسب أن الخصوم الفكريين للإخوان من أمثالي في حاجة إلي قدر كبير هن الموضوعية ونسيان الاعتبارات الشخصية لكي يدلوا بشهادة نزيهة، وهذا.. ما سأحاول أن أفعله. أنني على خلاف الدكتور رمضان سأتقدم بفرض لتفسير الحادث هو
1- كانت هناك بالفعل نية اللجوء إلي العنف لدى الجهاز السري للإخوان المسلمين بعد أن أدى القمع التام للديمقراطية إلى سد جميع مسالك العمل السلمي أمام كافة فئات المعارضة.
2- لم تكن هذه النية قد تبلورت تماما، وذلك لأن القيادات الإخوانية كانت في حالة انقسام وبلبلة فكرية.. وكان فيها اتجاه قوى يعارض العنف.
3- طرحت عدة أفكار عن أساليب عنيفة يلجأ إليها الإخوان. منيها اغتيال أهم أعضاء مجلس الثورة وعلى رأسهم جمال عبد الناصر. ولكن هذه الأفكار لم تتبلور بصورة نهائية. وإنما تمت بحض الاستعدادات لها من خلال تسليم أنواع معينة من الأسلحة لبعض مسئولي المناطق من الإخوان.
4- كان المحامى هنداوي دوير مسئول الجهاز السري في إمبابة هو مفتاح السر كله في هذه القضية، وقد فوتح في موضوع الاغتيال ولكن دون تكليف صريح له بالتنفيذ.
5- ولم يكن هنداوي دوير هذا مقتنعا تماما بالهدف وانهارت أعصابه فأفشى السر لأجهزة الدولة قبل تنفيذ محاولة الاغتيال بأيام قلائل فكلفته هذه الأجهزة بمتابعة التنفيذ من خلال تعليماتها الخاصة. وهناك احتمالان في هذا الموضوع: أما أن هنداوي كان من عملاء المباحث منذ البداية واستطاع أن يصعد في التنظيم السري إلى مرتبة مسئول منطقة وإما أنه شعر بالرعب قبل تنفيذ الخطة مباشرة فاتصل بأجهزة الأمن، وأنا أرجح الفرض الأخير، ومنذ هذه اللحظة أصبحت خطوات هنداوي تتم بالتنسيق مع أجهزة الأمن، وهى التي أعطته المسدس الذي سلمه لمحمود عبد اللطيف وحددت له موعد التنفيذ-
6- كان محمود عبد اللطيف نفسه منساقا في تصرفاته بصورة تدعو إلي الشك في أن يكون قد حدث له نوع من أنواع " غسيل المخ، وكانت المسافة التي حاول أن يغتال منها عبد الناصر بعيدة إلي حد يدعو إلي الشك في سلامة تفكيره في هذه اللحظة. وفضلا عن ذلك فلابد أنه كان مراقبا طوال الوقت وكان المسدس الذي تسلمه من نوعية خاص لا ضرر منها.
7- كان هنداوي دوير هو الوحيد الذي سلم نفسه للسلطات بعد يوم واحد من الحادث. وهو الذي تعاون معها في التحقيق تعاونا تاما. وكانت اعترافاته هي بداية الخيط الذي اسقط الجهاز كله.
8- أما إعدام هنداوي ضمن المحكوم عليهم في النهاية فأمر يسهل تفسيره: فعلى الرغم من الوعود التي لابد أنها قدمت إليه لبكى يشي بجماعته، كان من الضروري التخلص منه لأنه يعرف اكثر مما ينبغي، ومثل هذه الأمور تتكرر كثيرا عندما تنجح أجهزة ا،من في تجنيد أحد خصومها فتتخذه طعما لاصطياد الآخرين وعندما تنتهي مهمته يكون أول ما تفكر فيه الأجهزة هو التخلص منه. وعلى أية حال فان المرء لا يشعر بأي أسف إزاء غدر الأجهزة بإنسان هو أصلا غادر.
ويواصل الدكتور فؤاد زكريا:
هذا هو تسلسل الأحداث وفقا للفرض الذي أتقدم به. ويمتاز هذا الفرض بأنه يجعل الأحداث أكثر اتساقا بكثير من العرض الذي قدمه الدكتور عبد العظيم رمضان، ويلقي ضوءا على أمور كثيرة تبدو فر مفهومة. ولأضرب لذلك مثلا واحدا: فقد قرأت بنفس في جريدة " الأهرام، بمد حوالي أسبوع من الحادث، أن أحد العمال قد وصل من الإسكندرية إلي القاهرة ومعه المسدس الذي ارتكبت به الجريمة. وكان قد التقطه أثناء وجوده على مقربة من المتهم في ميدان المنشية، ولكي تغطى الصحيفة تلك الفترة الطويلة التي أستغرقها وصول المسدس إلي المسئولين، ذكرت أن هذا التعامل لم يكن يملك اجر القطار وحضر من الإسكندرية إلي القاهرة سيرا على الأقدام، وهو يحمل المسدس المستخدم في الحادث فاستغرق ذلك منه أسبوعا(...) ويخيل إلي أن هذه الواقعة وحدها بما فيها من استغفال له تول الناس، تكفى وحدها لتشكك في العملية بأكملها.
فلنترك جانبا ما قاله الدكتور رمضان نفسه عن إهداء الأمريكيين قميصا لا يخترقه الرصاص لجمال عبد الناصر قبل الحادث بفترة وجيزة ة ولنترك جاذبا شهادة حسن التهامي، التي توحي بوجود مؤامرة دبرتها الحكومة مع مصادر خارجية للإيقاع بالإخوان- لنترك هذا كله على أهميته الكبرى جانبا ولنتأمل نفس الوقائع التي أوردها الدكتور رمضان ، لكي نستخلص نتائجها الضرورية.(...)..
... وهل يحق لنا أن نثق بأقوال شخص يسلم أداة الجريمة لإنسان ثم يقول بعد وقوعها بيوم واحد أن القتل غير إسلامي؟ وكيف فات هذا التناقض على الدكتور رمضان وظل يعتمد في الجزء الأكبر من دراسته على أقوال شخص كهذا .
إن الدكتور رمضان يأسف لان هنداوي لم يفق إلا بعد الحادث، ولو كان قد أفاق قبله لأنقذ الإخوان من التهلكة. ولكن هذأ تحليل ضعيف إلي أبعد حد، أولا لان إفاقة هنداوي أو عدم إفاقته ما كانت لتغير شيئا في تسلسل الأحداث التي كان الإخوان سيتعرضون فيه حتما للتصفية بمد أن خلا الجو لرجال الثورة وتخلصوا من بقية الخصوم وثانيا لان هنداوي (كما أرجح) قد أفاق فعلا قبل الحادث، ولكن طريقته في الإفاقة كانت هي التي ألقت بالإخوان في التهلكة لأنه وشى بهم جميعا.
يستطرد الدكتور فؤاد زكريا في شهادة شد ما تدهشني.. فالرجل للمرة الأولى في حياته – في حدود ما أعلم - يقول قولة حق.. وهو لم يتحول كما تحول رفعت السعيد وصلاح عيسى وجمال الغيطاني إلى نجوم لا تنشر أعمالهم على الشبكة إلا مواقع أقباط المهجر والمنصرين.. أقول استطرد الدكتور فؤاد في شهادته العجيبة ليقول:
نسب هنداوي إلي حسن الهضبي الأمر بتنفيذ الاغتيال وهو ما اثبت الدكتور رمضان نفسه كذبه، كما كذبه الهضبي ويوسف طلعت بسدة، فإذا كان قد كذب إلي درجة توريط رئيس مسالم للجماعة، وتعريض حياته للخطر فهل نستبعد أن يكذب في بقية أقواله.(...) أما المواجهة التي دبرها جمال سالم بين إبراهيم الطيب وهنداوي، والتي وصفهما الدكتور بالمهارة تارة وبالكفاءة والاقتدار تارة أخرى فإنها تكتسب معنى جديدا كل الجدة في ضوء الفرض القوى الذي نقول به وهو أن هنداوي دوير اتصل بالسلطات وابلغها بالحادث قبل أيام قلائل (في الفترة التي توقف فيها التنفيذ مؤقتا) وأتاح لها بعد ذلك فرصة توجيه الأحداث بالطريقة التي ضمنت لها أفضل النتائج. فعندئذ تصبح هذه المواجهة بين متهم حقيقي وبين عميل، وبالفعل نجد جمال سالم يستعين بهنداوي في تكذيب إبراهيم الطيب، لا العكس، بينما يقدم هنداوي إلي المحكمة كل ما تريده من "أدلة " تطيح برؤوس زملائه السابقين.
مازال الدكتور فؤاد زكريا يتحدث:
أن الثغرات في سرد الأحداث وفقا لتفسير الدكتور رمضان كثيرة. وهناك تناقضات لا حد لها تركت بلا أي تشكك أو استفسار. ولعل من أبرزها أن يعرض جهاز ضخم حسن التدريب والإعداد مستقبله كله للخطر مقابل أن يترك فردا واحدا، هو محمود عبد اللطيف لكي يعتمد في التنفيذ على مجهوده الشخصي، هل هذه خطة يقامر بها جهاز كهذا بحياته وحياة جماعته كلها.
(...) إن حادث المنشية بالضرورة التي تم بها كان حادثا استدرج فيه الإخوان.
وليس للقارئ أن يعجب من هذا التفسير لان أجهزة الأمن في بلادنا العربية قادرة على التغلغل في كافة التنظيمات وقادرة على تدبير الحوادث وخلق الشهود الذين يبررون لها ما قالت ويكفيني هنا أن أشير إلي مثال واحد، ففي أواخر الستينيات قيل أن المستشار كامل لطف الله قد انتحر بأن ألقى بنفسه من سطح بيته وتشاء " الصدف " أن يحدث انتحاره هذا قبل يوم واحد من الموعد المحدد لكي ينظر هو نفسه في قضية اختلاسات مديرية التحرير، التي وصلت إلي ملايين الجنيهات، وكان الرجل قد درس ملف القضية بأكمله دراسة متعمقة. واعجب ما في الأمر أنه، بعد وقوع الحادث بأربعة أو خمسة أيام تقدم للنيابة شخصان قالا، انهما من عمال البناء. وكانا يشتغلان في بيت مجاور، وشاهدا القاضي وهو ينتحر. أما لماذا لم يبلغا عما شاهداه عند وقوع الحادث، فذلك- حسب رواية الصحف ذاتها- لأنهما لا يعرفان القراءة ولم يدركا أهمية الشخص المنتحر إلا عندما سمعا بالحادث بعد أيام ..
هناك أذن خفايا كثيرة تكمن تحت السطور. واحسب أن من واجب كل من يملك شهادة عن هذه الأحداث وغيرها أن يقول كلمته حتى يظهر تاريخ بلادنا في ضوئه الحقيقي، ولو سئلت عن رأيي لقلت أن الإخوان المسلمين. برغم اختلافي لأساسي معهم. كانوا في حادث المنثسية بالذات ضحية كمين اشتركت فيه بعض عناصرها مع أجهزة الدولة، ولكن يبقى على من شاركوا في الأحداث نفسها أن، يقولوا كلمتهم.
شهادة عبد الحليم قنديل
انتهت شهادة الدكتور فؤاد زكريا.. وتبقي شهادة قصيرة ضحكت بعدها في أسى.. يروي الشهادة الدكتور عبد الحليم قنديل في حوار له مع موقع محيط على الشبكة الإليكترونية فيقول: "ولاشك أن نقطة الصدام الأساسية بين عبد الناصر والإخوان تجسدت في حادث المنشية الشهير، الذي مازال الإخوان حتى الآن ينكرونه ، بينما من يقرأ مذكرات السيد أحمد طعيمة الذي كان عضوا في الإخوان المسلمين ثم انضم إلى حركة الضباط الأحرار ومازال حتى الآن معروفا بمواقفه الإسلامية القريبة من الإخوان ، وكلف من قبل السادات بإجراء حوارات مع عمر التلمساني وغيره بهدف استقطاب الإخوان إلى جانب نظام السادات يجدها تحمل في كثير من جوانبها على النظام الناصري في الستينات إذ أنه كان ضد فكرة التأميم ومع فكرة التعاون وأقرب إلى فكرة القطاع الخاص ، ومن ثم فإن مذكراته خالية من فكرة التحيز الكامل ، لكنه رغم ذلك كان في مذكراته شديد الإيمان بشخصية عبد الناصر نزاهة وتجردا وهو يروي في مذكراته – وهذه شهادة لأنه كان مسئولا مع الطحاوي عن هيئة التحرير في الوقت الذي جرى فيه حادث المنشية – أن أي تشكيك في حادث المنشية كلام فارغ جدا ويؤكد أن اسم محمود عبد اللطيف المتهم في حادث الاغتيال كان ضمن عشرة أسماء قدمت لعبد الناصر قبل أن يذهب إلى الإسكندرية على أنها كلفت من التنظيم السري بتدبير اغتيال جمال عبد الناصر ، وأنه وضع قرارا على مكتب عبد الناصر يطلب فيه أحمد طعيمة وآخرون ينتمون للإخوان من عبد الناصر أن يفصل هؤلاء الناس من وظائفهم حتى ينشغلوا بأنفسهم عما يدبرونه له ، لكن عبد الناصر رفض توقيعه ، وحينما سألوه عن سبب عدم توقيعه رد قائلا :"أفضل أن يحاولوا اغتيالي على أن اقطع عيش أحد" .
انتهت شهادة عبد الحليم قنديل عن حادث المنشية، وقد اضطررت لقراءتها مرتين، فقد ظننته للوهلة الأولى يسخر..لاحظوا يا قراء جملته الأخيرة: :"أفضل أن يحاولوا اغتيالي على أن اقطع عيش أحد" .
أما المرارة فكانت لأن عبد الناصر بعد شهرين فقط لم يقطع عيشهم بل قطع رقابهم..
ولست أدري : هل أشفق على قنديل أم أدينه..
شهادةد. محمد عباس
الشهادة الأخيرة اليوم فهي على لساني أنا..وهي شهادة رغم قصرها تحل المعضلة التي شغلت شيخنا القرضاوي و أربكت الدكتور زكريا والدكتور رمضان وكل من وضع افتراضا مؤكدا للعلاقة بين محمود عبد اللطيف والسلطة.. العلاقة التي تقطع بعلاقة جمال عبد الناصر بالأمر وتقطع بأنها كانت مكيدة لإخوان..
لقد ظللت في ريب من الأمر حتى جلست مع الوزير أحمد طعيمة، وزير الأوقاف في العهد الناصري، وأحد الضباط الأحرار، وسألت الرجل عن حادث المنشية ( نشرت الواقعة كلها منذ أعوام، كما أن الدكتور طعيمة نشرها في مذكراته).. وراح الرجل يؤكد لي القصة الرسمية، والرجل شديد الإعجاب بجمال عبد الناصر، شديد التدين، وشديد الإدانة للإخوان المسلمين، وعلى الرغم من هذا كله فقد كانت روايته لي عن حادث المنشية، وتأكيده للرواية الرسمية، هي بداية يقيني من المكيدة المجرمة. باختصار شديد، كان أحمد طعيمة على علاقة شخصية حميمة بأحد التجار المشهورين ( صاحب محلات سعودي) ، وكان هذا التاجر عضوا في الإخوان المسلمين، وكان معجبا بعبد الناصر، فأبلغ الوزير طعيمة بأسماء عشرة أشخاص جرى الاقتراع بينهم لتنفيذ عملية الاغتيال، وهرع أحمد طعيمة - والرواية على لسانه والرجل ما يزال حيا - إلى جمال عبد الناصر و أبلغه بالأسماء العشرة، وطلب منه اعتقالهم على الفور، بعد أسبوع قابل صديقه التاجر مرة أخرى، فسأله مندهشا لماذا لم يتم القبض عليهم، و يقول أحمد طعيمة أنه هرع إلى جمال عبد الناصر مغاضبا ومتسائلا لماذا لم يتم القبض على المتآمرين، فأجابه جمال عبد الناصر بأنه لا يستطيع القبض على أناس لم يرتكبوا بعد أي جريمة.
كان الوزير أحمد طعيمة في غاية الانفعال وهو يسرد الواقعة مؤكدا لي أن جمال عبد الناصر قد تصرف مثل سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه عندما أبى حبس من توعده بالقتل.
وأضاف أنه بعد أن حدثت المحاولة في المنشية راجع أسماء المقبوض عليهم فوجدها هي الأسماء التي أبلغ بها عبد الناصر.
هذا هو حل اللغز إذن..كانت تفاصيل الحكاية كلها أمام عبد الناصر والمباحث والمخابرات..
وكانت كل البدائل ممكنة ومحتملة..وقد قلت عشرة أيام على الأقل لأن هناك احتمالا آخر في أن يكون الاختراق قد تم قبل ذلك بكثير.. و أن هذا الاختراق كان هو الذي دفع محمود عبد اللطيف وهنداوي دوير للتخطيط لمحاولة الاغتيال تمهيدا للقضاء على الإخوان المسلمين ليس كأفراد فقط..بل كمنهج..نفس المحاولة التي تحاولها إسرائيل في فلسطين و أمريكا في العالم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. رحم الله الشهداء..ولعن الخونة..و إنا لله و إنا إليه راجعون..