مشروع التجديد الحضاري عند الإخوان المسلمون

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مشروع التجديد الحضاري عند "الإخوان المسلمون"


بقلم : ح.ع

خاص موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)

مقدمة

الشعار اخضر.jpg

كان لحادث التقدم الغربي بالإضافة إلى ما ركن إليه العقل المسلم من الجمود والتقليد دور أساسي في سؤال "الإصلاح" في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، والذي حاول فيه المفكرون البحث عن الإجابة عن تساؤل "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، وذلك بعد الانبهار الكبير بالغرب ونهضته العلمية والصناعية

وما ترتب علي ذلك الانبهار - عند البعض - بمحاولة إسقاط مقدمات وأسباب نهضة المجتمع الغربي بظروفه وبيئته وتاريخية حضارته علي المجتمع الإسلامي، واستيراد أدواته الفكرية والمعرفية دون النظر إلى البيئة الحضارية الإسلامية وبنيتها الثقافية والمجتمعية والعقدية ورؤيتها التوحيدية ؛ فكان الناتج الطبيعي عدم تفاعل القادم من الغرب مع الحاضر الإسلامي.

وهنا ظهرت حركة إحيائية تجديدية على أيدي مجموعة من الرواد الإحيائيين حاولوا طرح الإسلام من جديد وإعادة اكتشافه باعتباره سبيلا للنهضة في مواجهة الأفكار العلمانية والوضعية..وقد ذخرت هذه الحركة بظهور جيل من الرواد الإصلاحيين الذين كانت لأفكارهم أثرا كبيرا في توجيه حركة الفكر الإسلامي في الأمة وتحديد مساراته وإحياء فكرة الاجتهاد لاستئناف حركة الحضارة الإسلامية مرة أخرى .

ومن أبرز هذه الحركات الإحيائية التي ظهرت في العالم حركة "الإخوان المسلمون" على يد مؤسسها الإمام حسن البنا (1906-1949م)، قدمت الحركة من خلل مؤسسها الأول أفكارًا شكلت في مجموعها المعرفي والفكري رؤية تجديدية حضارية للمشروع الإسلامي، بدءًا من تشخيص حالة التراجع والأفول الحضاري في الأمة، إلى بناء منهجي لعبور هذه الحالة، إلى محاولة تجسد ذلك المشروع وتلك الرؤية في نماذج فاعلة اجتماعيًا وحضاريًا.

والفكرة التي بين أيدينا سوف تحاول بالتحليل الفلسفي إدراك الجوانب الأساسية للمشروع التجديدي الحضاري عند " الإخوان المسلمون"، من خلال عملية إعادة البناء والتركيب لهذا المشروع في ضوء حركة الأمة من ناحية والمتغيرات التي صاحبت نشأة هذه الحركة وطرح تلك الأفكار التجديدية من ناحية أخرى.

وسوف نحاول تحليل هذه المشروع وتقديم إضاءات معرفية وفكرية وثقافية حوله من خلال مجموعة من الحلقات المتتابعة، نبدأها بالسياقات المعرفية أو الإطار الفكري الذي صاحب نشأة هذا المشروع، ثم الوقوف على أهم جوانب الرؤية التجديدية للمؤسس الأول للحركة، ثم الظلال التجديدية والحضارية لهذا المشروع في واقع الأمة.

القسم الأول :الإطار الفكري للمشروع التجديدي عند المؤسس الأول حسن البنا

الإمام المؤسس الأول حسن البنا

يمكن في هذا الصدد الإشارة إلى عدة عوامل أساسية تأثرت بها أفكار المؤسس الأول (حسن البنا) وهي العوامل التي أثرت – بصفة عامة – في حركة الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث، والتي تبدأ من العالم الصغير الأول للتنشئة الأسرية والتعليمية، ثم إلى التحديات المعرفية والمادية التي واجهت الأمة آنذاك، ثم الاستمرارية والتواصلية في سلسلة الإحياء والتجديد في الأمة والتي لم تنقطع حتى في اشد أحوالها أفولًا وتراجعًا ، وهذه العوامل هي:

  1. البيئة الأسرية والتعليمية.
  2. الاستعمار والمعركة الفكرية والتغريب.
  3. أفكار الإصلاح في الأمة.

(1)

أولًا: البيئة الأسرية والتعليمية

ولد حسن أحمد عبد الرحمن البنا عام 1906 م في قرية المحمودية مديرية البحيرة، وتولى تربيته والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا المعروف بالساعاتي، عرف بسعة علمه وحسن خلقه، فهو دارس الفقه والتوحيد والنحو، وقد حفظ القرآن وجوده، وألف عدة كتب منها : "بدائع المسند في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن"، وعلق عليه شرحًا، ورتب مسند الإمام أحمد بن حنبل وسماه "الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني"، وشرحه باسم "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني".

في هذه الظروف ووسط هذا الجو نشأ الصبي الصغير شجعه أبوه على ارتياد العلوم الإسلامية، فحفظ القرآن كاملاً، وعلمه صناعة الساعات التى علمته الدقة والصبر والمهارة، وبعد انتهاء دراسته بمدرسة "الرشاد الدينية" لصاحبها الشيخ محمد زهران كون هذا التلميذ مع زملائه "جمعية منع المحرمات" استجابة لظروف مجتمعه

وكان هدف هذه الجمعية إقناع الناس بالإقلاع عن المحرمات وفعل الخيرات، ثم انتقل في سن الرابعة عشرة إلى مدرسة "المعلمين الأولية" بدمنهور ليحصل منها على شهادة "الكفاءة" التى كانت تجيزه ليكون معلمًا، ولكنه أثر أن يكمل دراسته فالتحق بدار العلوم وتخرج فيها سنة 1927م.

تشير نشأته إلى الوعي العميق برسالة الإسلام وهدفيتها ووضوح معانيها وقيمها، ومن هنا نلاحظ إيمانه العميق بالربط بين العمل والعلم أو النظر والتطبيق والثقافة والأخلاق، فهو مع حرصه على طلب العلم ورغبته في الاستزادة منه إلا أنه كان يضع شرطًا لذلك وهو أن يرتبط ذلك العلم بفائدة المجتمع فردًا كان أو جماعة يقول في مذكراته "...كان لي رأي في العلم وطلبه، والشهادات والحصول عليها..وكنت مؤمنًا بفائدة العلم للفرد والجماعة ووجوب نشره بين الناس" (1).

ويعد المسجد من أهم العوامل التي أثرت في البناء الفكري للإمام حسن البنا والذي كان دائم لذكره في مذكراته وبصورة شارحة ومستفيضة، من المسجد الصغير في قريته، إلى مساجد القاهرة والإسماعيلية التي كان يتردد عليها بخصوص عمله

حتى أصبح بعد ذلك مرتكزا لدعوته ينطلق منه للدعوة بين الناس اقتداء بسيرته – صلى الله عليه وسلم - ولعل البعد المسجدي في تكوين الشيخ كان له أثره في رغبته في تحويل العمل الإسلامي والذي كان جهودًا فردية قبله إلى عمل جماعي مؤسسي يكون له برنامجه وخطته في البناء الإيماني والأخلاقي والاجتماعي للإنسان المسلم.

فالمساجد في الأمة الإسلامية معابد الصلوات ومدارس الآيات، وما الصلة إلا رابطة وثيقة بين أهل الأرض ورب السموات...والمساجد ميدان تعارف المؤمنين، ومكان تلاقي أشخاصهم، ففيها يجتمعون وتحت ظلها يتآخون ويتعارفون...وهي أول ما يجب أن يفكر في إصلاحه المفكرون" (2).

يماثل البنا بين البناء الفكري والبناء الإيماني ويربط بينهما في نظرته إلى المسجد ودوره فليس المسلم بغافل، وليس بعاجز أو جاهل، لذا حرص أن ينشر الوعي بفكرته بين المصلين أولًا الذين كانوا يرتادون المسجد ويشهد لهم بالإيمان، وحتى يكونوا قدوة إيمانية وفكرية ونماذج مجسدة لغيرهم.

إن فكرة تجسيد "الإيمان والوعي" من أهم ما ابتكره وجدده المؤسس الأول من خلال إحياء دور المسجد الذي كاد أن ينقضي في زحمة الاستعمار والتغريب –كما سنوضح لاحقًا- " فالمساجد هي المدارس العامة، والجامعات الشعبية، والكليات التهذيبية للأمة، يتعلم فيها الكهول والشبان والشيوخ والصبيان ما يُصلح حالهم في معاشهم ومعادهم، ويزودون فيها بأحكام دينهم، وغذاء عقولهم، وشفاء صدورهم بما يستمعون من عظات، وما يحضرون من حلق العلم...لذا أولى بنا أن نعنى بإقامة المساجد التي هي بحق بيوت العبادة، ومدراس العلم، ومستشفيات لأمراض النفوس". (3)

تمثل مرحلة الشباب تأسيسًا مهمًا لغايات الفرد واستكمالًا لبناء شخصيته وما يرغب أن يكون عليه في قابل الأيام ولم يتخلف الإمام البنا عن هذه القاعدة، بل كان سباقًا إليها فكان هدفه واضحًا وغايته الدنيوية محددة وقاصدة، ويظهر ذلك جليًا مما كتب الشاب إبان تخرجه في موضوع الإنشاء الذي عنونه أستاذه (اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها)

فكتب ما يمكن أن نستخرج منه أبعاد تلك الشخصية القائدة والمؤسسة والتي من أهمها: التأصيل النفسي في التشبع بالرغبة في العمل الإصلاحي للأمة، أن أساس عملية الإصلاح هو الإنسان الفرد وأن طريقة بناء الفرد وتربيته وإصلاحه تقوم على مرتكزين أساسيين، أولهما: عملية التخلية والتحلية في ضوء منهجية التوحيد الراشدة، وثانيهما مرتكز العلم والتوجيه للعقل الجمعي للأمة.

والذي يعرض إلى هذه الغاية " غاية الإصلاح في الأمة" يعترضه مفرق طريقين: أولهما، طريق التصوف الصادق، الذي يتلخص في الإصلاح والعمل، والثاني: طريق التعليم والإرشاد الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل، ويزيد عليه في الاختلاط بالناس، ودرس أحوالهم، وغشيان مجاميعهم، ووصف العلاج الناجع لهم. وهذا أشرف وأعظم عند الله ونادى بفضله الرسول الكريم..لتعدد نفعه، وعظيم فضله، ولأنه أوجب الطريقين على المتعلم، وأجملهما بمن فقه شيئًا " َلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ " "التوبة:122".

ورغم هذا التصنيف الذي طرحه الشاب وهو م يبرز التمايز بين رؤيتين: رؤية في الخلاص الفردي، ورؤية في الفلاح الاجتماعي، إلا أن الشاب الذي تظهر عليه علامات الفكر والقيادة المبكرة استطاع أن يجمع بينهما –كما سنرى لاحقًا- في برنامج تربوي اجتماعي إصلاحي متميز؛ يقوم على دعامة التكامل بين الفرد والمجتمع وليس التمييز أو الترجيح بينهما، فإيمان الفرد في الإسلام إن لم يكن له إشعاع اجتماعي لا يتحصل فائدته ولا غايته التوحيدية

فإن القرآن ما فتئ أن يذكر " لعل" عقب العبادات لتحصل التقوى الاجتماعية والنهي عن المنكر في أعم صوره وتحصيل المعروف في كل صوره. لذلك رأي الشاب أن طريق الإصلاح يتطلب أمرين أساسيين على الفرد المسلم أن يعد نفسه بهما ولهما وهما: الجهاد والتضحية.

كان اتصال حسن البنا بالمسجد مبكرًا مما جعله يتعرف على بعض الزهاد والمتصوفة الذين كانوا يجلسون بالمسجد بين المغرب والعشاء، ويطلق عليهم "أصحاب الطريقة الحصافية"، وقد عمل على تكوين جمعية باسمها في دمنهور عندما انتقل إليها وسماها "جمعية الحصافية الخيرية" وكان رئيسها أحمد أفندي السكري

وكانت تهدف هذه الجمعية إلى أمرين

الإمام البنا يمارس دعوته في المجتمع
الأول: نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة ومقاومة المنكرات والمحرمات كالخمر والقمار...إلخ
والثاني: مقاومة الإرساليات الإنجيلية التبشيرية التى أخذت تبشر بالمسيحية وتعمل لذلك. ثم انتقل إلى الإسماعيلية في 19 من أيلول- سبتمبر سنة 1927 ليمارس مهام عمله في التدريس "بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية" (4).

وكانت عضوية الشاب في الجمعيات متعددة النشاطات الاجتماعية والأخلاقية والدينية تأثيرًا مهمًا وواضحا على بنائه الفكري والخلقي، ومن هذه الجمعيات: "جمعية منع المحرمات" وتهدف إلى تعريف المخطئين في حق الشرع بخطئهم ومحاولة إرشادهم إلى قويم السلوك الذي يتوافق مع الشرع، وجمعية "الأخلاق الأدبية" لغرس الأخلاق الحميدة ومقاومة سيئها والقيام بأعمال البر والخير

وجمعية "مكارم الأخلاق الإسلامية" للدعوة والخطابة، وجمعية " الشبان المسلمين" تهدف إلى التوعية الإسلامية ولتي ألقى فيها محاضرة بعنوان "بين حضارتين" و" مدرسة التهذيب" لتعليم القرآن الكريم والسيرة النبوية.

كان لهذا الانتساب إلى هذه الجمعيات دور مهم في استلهام أفكارها وطريقة تنظيمها في إنشاء معاهد ودور للإخوان على نفس الطراز مثل معهد "حراء التعليمي" للبنين والذي حاول فيه المدرس - حسن البنا- تقديم نموذج للدرس المعرفي التربوي والتعليمي من المنظور التوحيدي ردًا على ما كان سائدًا من محاولات لتغريب التعليم والثقافة

انقسم منهاج المعهد التعليمي إلى ثلاث شعب:

القسم الأول منه يتوافق مع منهاج المدارس الأولية الكاملة ليجهز التلميذ للأزهر والمعاهد الدينية
والقسم الثاني يتمشى مع المدارس الأولية أول النهار ومع المدارس الصناعية آخر النهار لتعليم المهن الحرة..وكان المعهد تتوافق برامجه وأوقاتها مع أوقات الصلاة فتبدأ في وقت مبكر وتنتهى الفترة الأولى قبل صلاة الظهر حيث يؤدي التلاميذ صلاة الظهر مع المعلمين بالمسجد وهكذا..." (5)

اختار الأستاذ المقاهي لتكوين بداية عمله الإسلامي في الإسماعيلية، والتي جذبت إليه الكثير، حيث كان وعظه حول تذكير الناس باليوم الآخر والحساب، وقد كان لرقة أسلوبه ودقته، وعدم مواجهة الناس بما يكرهون أو يفعلون من آثام بطريقة مباشرة آثاره اللاحقة في تردد الناس عليه، والذي كان من شأنه أن ينقلهم من المقهى إلى مكان آخر هو زاوية صغيرة لإقامة الشعائر علمهم فيها كيف يقيمون الشعائر بطريقة عملية صحيحة.

أدرك حسن البنا أهمية وضرورة اتساع ما يدعو إليه بحيث يكون شاملًا لكل مجتمع الإسماعيلية، فعمل على تحديد القوى المؤثرة في مجتمع الإسماعيلية..العلماء، رجال الطرق الصوفية، الأعيان، فبالصداقة والتوقير يكسب ورد العلماء وثناءهم، وبمخاطبة رجال الصوفية بلسان الطريقة والتأدب بآدابها، ومحاولة إخراج أتباعها إلى ساحة أوسع من الالتزام بالطريقة ينال تقديرهم، وبالتقرب إلى الأعيان والتقريب بينهم ينال إعجابهم، وبارتياد الأندية ولفت الانتباه – بل محاولة استقطاب – شبابها بالمحاضرات والندوات بهيئتهم لتقبل دعوته.

وكان من أثر محاضرات وندوات الأستاذ الداعية أن حضر إليه ستة من الذين تأثروا بها من أهالي الإسماعيلية في ذي القعدة 1347هـ آذار - مارس 1928م هم: حافظ عبد الحميد (نجار)، أحمد الحصري (حلاق)، فؤاد إبراهيم (مكوجي)، عبد الرحمن حسب الله (سائق)، إسماعيل عز (جناينى)، زكي المغربي (عجلاتي)

وحدثوه في شأن الطريق العملي الذي يجب أن يسلكوه "لعزة الإسلام وخير المسلمين" وعرضوا عليه ما يملكون من مال بسيط، وحملوه تبعة أمرهم، فكان القسم والبيعة، وبعد مشاورة معه على تحديد تسمية أنفسهم قال لهم: "نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذًا الإخوان المسلمون". ومنذ ذلك الوقت كان التكوين الفعلي لجماعة "الإخوان المسلمون".

(2)

الاستعمار والمعركة الفكرية والتغريب

يشير مالك إلى دور الاستعمار في صناعة الأزمة الحضارية متمثلًا في مواجهة الوعي في هذه البلاد المستعمرة وعزلها عن أفكارها المجردة نواة الوعي، مستخدماً جهل الجماهير العريضة من أبناء هذه البلاد

وهذا الدور ضمنه في مصطلح

"الصراع الفكري فعلى الرغم من أن الاستعمار في ظاهره صراع مادي - عسكري إلا أن حلقة هذا الصراع مصيرها الفشل لو لم يكن هناك مواجهة فكرية مع البلد المستعمر، يحاول فيها القضاء على الأفكار التي تخلق الوعي وتجدده ضد آلة الاستعمار وخططه. وهو ما لفت إليه مالك الانتباه بالخريطة الفكرية للمستعمر تجاه أمتنا"...

فالاستعمار لن يسلك هذا الطريق فقط؛ بل إنه سوف يواصل في الوقت نفسه حربة ضد الفكرة المجردة بوسائل ملائمة أكثر مرونة، ويستعين من أجل ذلك بخريطة نفسية للعالم الإسلامي.. تقوم برصد الأفكار بهدف توفير معرفة دقيقة لنفسية البلاد المستعمرة، معرفة تسوغ له تحديد العمل المناسب لمواجهة الوعي في تلك البلاد حسب مختلف مستوياته وطبقاته... مستوى الطبقة المثقفة... والمتدينة... وفي أدنى مستوى له نراه يستغل جهل الجماهير لينشئ حول الفكرة منطقة فراغ وصمت لعزلها عن المجتمع". (6)

في المعركة الفكرية للاستعمار نلاحظ أمرين:

الأول: أن الاستعمار لا يكشف عن الوجه الحقيقي للمعركة فهو دائمًا يعتمد أو يستخدم قناع "القابلية للاستعمار".
والثاني: أن هدف الاستعمار لا يتعلق في الأساس بذات شخص معين ولكن بأفكار معينة يريد تحطيمها أو (كفها) حتى لا تؤدي مفعولها في توجيه الطاقات الاجتماعية في البلاد المستعمرة.

وهو في ذلك يعمل على عزل (المكافح الفكري) أو المفكر المستنير أو المثقف المسؤول عن حلبة الصراع الفكري وذلك من جانبين:

الأول: أن ينفر الرأي العام في بلاده من أفكاره، بجميع الوسائل الصالحة بذلك.
والثاني: أن ينفره هو نفسه، من القضية التي يكافح من أجلها بأن يشعره هو بعبث كفاحه.

وأما فيما يتعلق بكفاح الجماهير فإن الاستعمار يسعى إلى تحقيق هدفين:

الأول: حط من المستوى الروحي أو الإيديولوجي، الذي كانت تدور المعركة ضده. ويترتب على هذا الهدف: فقد المعركة قداستها ومعنوياتها: حيث صارت وحدات كفاح جزئية بدلاً من وحدة كفاح شاملة.
والثاني: تشتيت القوى الموجودة في المعركة: بعد أن فصم الوحدة الشاملة التي تعطى ذلك الكفاح القداسة وتهبه قيمة خلقية علياً.

أدوات الاستعمار في المعركة الفكرية (7)

مراصد الأفكار مختبرات علم النفس

هذه المراصد تعمل على

المراقبة – الالتقاط – الانحراف

(1) التقاط إشارات الأفكار الحية في البلاد المستعمرة من أجل إعاقتها، وإعاقة حركتها الفاعلة ضده.

(2) مراقبة حركة الأفكار.

(3) الانحراف بهذه الأفكار عن مسارها وغايتها كما يحولون الأفكار المطبوعة إلى أفكار موضوعة

مختبرات علم النفس

تقوم مختبرات علم النفس بتوجيه العمليات التي يصنعها الاستعمار مثل (مركب الأفراد) (عزل المكافح) (تشتيت قوى المواجهة) بكل دقة... فهذه العمليات تنفذ إلى النفس قبل أن تنفذ إلى الواقع. وهدف الاستعمار من خلال هذه المختبرات هو صناعة (النفوس المحطمة) في البلاد المستعمرة.

والأخطر في هذه المعركة الفكرية ليس في طبيعتها ولا حدودها أو صناعتها أو أدواتها ...وإنما هو في الحالة الداخلية بهذه البلاد المستعمرة، وما يعانيه الفرد والجماعة فيه من ضعف في الأساس المفاهيمي الذي تسمم عبر عوامل عدة حوله إلى "ظاهراً" من الحياة الدنيا" ...فدخل مجتمعنا الإسلامي عالم الأشياء؛ ولكنه لم يدخل بعد عالم الأفكار، كأنه طفل يعرف عالم الأشياء قبل عالم الأفكار، وتزداد الفجوة بين العالمين نتيجة لحالة "الأمية" وغياب " التأهل الفكري" لدى الفرد المسلم، وغياب قدرته على النقد والمراجعة.

ويتفق حسن البنا مع مالك بن نبي في المعركة الفكرية والأخلاقية التي قادها الاستعمار ضد الأمة الإسلامية في إبان القرن التاسع عشر حيث عمل الأوربيون على أن تغمر فلسفة الحياة المادية بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة جميع البلاد الإسلامية التي امتدت إليها، مع حرصهم الشديد على أن يحتجزوا دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة من المعارف والعلوم والصناعات والنظم النافعة

وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعي إحكامًا شديدًا واستعانوا بدهائهم السياسي وسلطانهم العسكري في سبيل تحقيق ذلك الغزو...حتى تمكنوا من أن يغيروا قواعد الحكم والقضاء والتعليم وأن يصبغوا النظم السياسية والتشريعية والثقافية بصبغتهم الخالصة في بلاد الإسلام". (8)

إن أخطر ظاهرة تركها الاستعمار في الأمة هي ظاهرة التغريب والتي واجهة هويتها الثقافية والعقدية وكان لها تأثيراتها على حركة التطور والإصلاح المعرفي وحركة النهضة الإسلامية الناشئة في بدايات العصر الحديث بصفة عامة، وكنت من أهم المعوقات الفكرية لهذه النهضة. ومن ناحية أخرى كنت سببًا لإثارة الدافعية الإسلامية للمواجهة والتحدي والتي مثلتها حركات الإصلاح والتجديد الإسلامي.

"التغريب" وهو واحد من المفاهيم التي تعبر عن تأثيرات الفكر الوافد في العصر الحديث مثل: الاستلاب، الغزو الثقافي، الهيمنة الثقافية...وقد اخترنا "التغريب" لمقاربته في معجمنا اللغوي من المعنى الذي نقصده أو في كثير من جوانبه حيث يشير إلى: حالة الغربة - الانفصال - الارتحال - النزوح - الغياب - الاختفاء - البعد.

ويبدو "التغريب" الأكثر فاعلية في العوامل التي أدت إلى هيمنة سؤال الإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث، وذلك لما أنتجه مشروعه الفكري من تباينات حادة في العقل المسلم وفي تصوراته ومفاهيمه انعكست بدورها على منظومته الفكرية وطريقة تصوره للأحداث والوقائع وتفسيره لها

وهو ما يشير إليه طارق البشرى بقوله

"إن من أخطر وجوه الإفساد القيمي في هذا الشأن، أن ما كان يعتبر عاملا داخلياً صار يعتبر عاملاً خارجياً في تقويم أحداث التاريخ نفسه وانعكس الوضع، فصار ما هو عامل خارجي كالحملة الفرنسية على مصر، صار يعامل أحياناً كما لو كان عاملاً داخلياً، وذلك عندما ينظر إليه البعض عنصراً مساهماً وباعثاً للنهوض والتقدم.

وقد جرى له هذا التقويم تحت إملاء المفهوم السائد عن "وحدة العصر" بالمعنى الأممي والحضاري، وما ترتب على ذلك من اغتراب والتحاق برباط التبعية مع الغرب والالتحاق المعنى هنا ليس التحاقا مادياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً ولكنه التحاق يتعلق بالوعي"، (9)

ويضيف البشرى أيضاً موضحاً اتصال واستمرار حركة التغريب وتغييب الوعي وتحقيق الانفصال عن الجذور والتاريخ والتشتت الحضاري بقوله

" وأحسب أن القيمة السائدة لدينا الآن عن "المعاصرة " أو "وحدة العصر الحديث" بمعناها الأممي والحضاري هي من أسس ما يروج من قيم ومفاهيم تنتج اختلاط الوعي بالذات. وهي من أسس ما نعاني من اغتراب واستلاب حضاري.
ولا يقتصر أثرها على إفساد نظرنا إلى واقعنا ووقائعنا من منظور خاص بنا ومتميز، ويرعى صالحنا الحضاري والمادي، ولكنه يمتد إلى نظرنا إلى ماضينا، فيعيد تشكيله على غير ما قام في الواقع الماضي. كما أنه يقيم التبعية والتجزؤ، لا في الواقع وحده ولكنه يقيمها في الوعي ذاته" (10)

كما سار المشروع التغريبي عبر نسق منهجي يهدف إلى استيعاب النخب العلمية المنتمية إلى الثقافات الأخرى عبر عدة آليات هي: التثاقف (تحقيق رغبة رحيل المهاجر من ثقافته إلى قيم الغرب، ومن سلوكيات ثقافته الأصلية، إلى قيم الغرب وسلوكياته) والتدامج (التحول الفعلي إلى ثقافة الغرب وسلوكياته) والتشتيت (الفقدان الكامل للهوية الأصلية).(11) وهو ما يتوافق مع وجهة النظر الغربية لمعنى التغريب والذي يعنى "أنه يجب على أي دولة تريد أن تصبح غنية وقوية ، أن تتعلم كيف تعيش وتفكر مثل الغرب". (12)

أما التغريب في نظر المفكرين المسلمين فيهدف إلى

"خلق عقلية جديدة تعتمد على تصورات الفكر الغربي ومقاييسه، ثم تحاكم الفكر الإسلامي والمجتمع الإسلامي من خلالها بهدف سيادة الحضارة الغربية، وتسيدها على حضارات الأمم ولاسيما الحضارة الإسلامية". (13)

ويخلص فهمي جدعان إلى أن دعوة "التغريبيين" تكمن في الخروج من الدائرة العربية والإسلامية خروجاً كاملاً أو شبه كامل، وهذا الخروج يتبلور بصفة خاصة في التبني الكامل للقيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للمدنية الغربية وفي الدعوة صراحة للارتباط بأوروبا والتبعية لها (14)

ويشير جلال آل أحمد إلى أن التغريب

"مجموعة من الأعراض تطرأ على حياتنا في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ". (15)

والتغريب بما تقدم يمكن وصفه بأنه تلك العملية التي تعرض فيها العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر-ولازال- من محاولة لفرض المشروع المعرفي الغربي القائم على تبني القيم المادية، والنظرة المادية للمعرفة والكون و تمثلاتها في ميادين الفكر والعلوم الإنسانية والطبيعة و التصورات الأساسية حول الله والإنسان والكون، على العقل والوجدان المسلم بهدف استبدال النموذج المعرفي الغربي بالنموذج المعرفي التوحيدي.

مع تنامي الضعف داخل الدولة العثمانية واستمرار التفوق المادي الأوروبي في الصعود، لم يجد السلاطين العثمانيون إلا الخيار الأقرب والأسهل في تصورهم لمعالجة القصور والضعف من ناحية واللحاق بالصعود الأوروبي أو تقليل الهوة من ناحية أخرى، وكان هذا الخيار هو "النقل والاقتباس" أو استيراد أفكار النهضة والتقدم بدلاً من معالجة المثالب والعيوب الذاتية

وقد بدأ استخدام هذا النهج فيما يتعلق بالمجال العسكري والذي لاقت فيه الإمبراطورية هزائم متعددة من الداخل والخارج وكانت هذه البداية في عهد السلطان مصطفى الثالث (1757 – 1773م) حيث "تم استحضار النموذج الأوروبي الحديث واستمر هذا الاهتمام بالمجال العسكري أساساً لسلاطين الدولة العثمانية – لتستطيع الدفاع عن نفسها وسط إرهاصات التفوق العسكري الأوروبي – وذلك حتى مجئ السلطان محمود الثاني حيث شملت إصلاحاته جوانب إدارية وتعليمية أخرى على النظام الأوروبي". (16)

كما مس التغريب

"مظاهر الحياة الاجتماعية في الدولة العثمانية، وتبدلت العادات والمظاهر الاجتماعية لمسايرة الحياة الغربية والنمط الأوروبي ، وتبنت الارستقراطية العثمانية أسلوب الحياة الأوروبية، وبدأت الطبقة العليا من الأتراك في ارتداء الزى الأوروبي، واستقدام الموسيقى الأوروبية، وتأثيث البيوت على النسق الأوروبي". (17)

كما تغلغل "التغريب" داخل نظام القيم الذى لم يسلم منه، "حيث أُلزم الموظفون بارتداء الملابس الأوروبية مع لبس الطربوش ،وفي القرن الـتاسع عشر دخلت الفنون الموسيقية، مع مجئ أور كسترات أوروبية، واستيراد الآلات الموسيقية، وانتشرت موضة البيانو بين سيدات الطبقة الارستقراطية، بل إن الأمر وصل إلى حد تأثر الموسيقى التقليدية بالألحان الغربية... كما شهدت الزخرفة والعمارة الغربيتان توسعاً سريعاً...". (18)

وتمثلت النقلة النوعية لحركة "التغريب" فيما عُرف في الدولة العثمانية بحركة "التنظيمات" أو "خط كلخانة" (1839)، حيث انتقلت مشروعات التغريب، إلى يد رجال الدولة من الإصلاحيين المؤمنين بالغرب، وعلى الرغم من أن خط كلخانة يؤكد على أن عدم الانقياد إلى الشرع الشريف كان السبب فيما أصاب الدولة خلال القرون الماضية من تدهور وضعف وأن المقصود من هذا الخط هو إحياء الدين والدولة والملة.

ومع ما يحتويه هذا المرسوم من مبادئ كان يجب على الدولة العثمانية الأخذ بها من أجل تدعيم البناء الداخلي للدولة –وهو ما ظهر أيضاً في الخط الهمايوني(1856)، إلا أن هذه المراسيم كانت سبيلاً للاعتماد الكامل على القانون الأوروبي وفتح الباب لميدان استيراد الأفكار التي كان يختص بها به النموذج المعرفي الإسلامي وتميزه وتشكل البناء العقلي لأفراده .

ومن الانعكاسات الفكرية المهمة في ميدان الفكر الإسلامي آنذاك ظهور محاولات لتقنين الفقه الإسلامي ومحاولة طرحه في صورة تلائم الأوضاع والمتغيرات الجديدة، لاسيما بعد قيام المحاكم النظامية في تركيا، فتشكلت لجنة من بعض الفقهاء برياسة وزير العدلية لصياغة مجموعة من أحكام المسائل الشرعية على هيئة يسهل الرجوع إليها مثل القوانين، وأنتجت هذه اللجنة مجلة "الأحكام العدلية" ،وقد صنفت مجموعة من الأحكام مختارة من المذهب الحنفي وقامت الإدارة العثمانية باعتمادها كأول قانون مدني مستمد من الفقه الإسلامي.

وقد شكلت "الأحكام العدلية" باعتبارها أول تقنين رسمي للأحكام الشرعية اتجاهاً عاماً لتقنين وتنظير الفقه الإسلامي لمواجهة الواقع المتغير من جهة وكرد فعل على حركة الجمود الفقهي من ناحية أخرى والذي أتاح للقوانين الأوروبية العمل في المجتمع الإسلامي. (19)

وفيما يتعلق بنظام التعليم والمسئول عن التشكيل المعرفي للإنسان داخل المجتمع وفي ضوء التغلغل الواضح لحركة التغريب نجد وكما يشير جوستين ماكارثي أن التغيير(الناتج عن التغريب) الأكثر تأثيراً نتج عن النظام التربوي الأوروبي " فكتب الحساب والمثلثات الضرورية للهندسة العسكرية والمدفعية كانت مكتوبة باللغات الأوروبية، وخاصة الفرنسية لغة القرن التاسع عشر في أوروبا والتعليمات لتشغيل الآلات وكتيبات التصليح كانت أيضاً باللغات الأوروبية " (20)

"كما بدل السلطان محمود التوجه الألسنى للحكومة. أعطيت مكاتب الحكومة تعليمات بفتح أكثر المدارس نجاحاً مكتب الترجمة التابع لوزارة الخارجية الذى أسس عام 1833م. ولم يخرج هذا المكتب مترجمين فحسب. وإنما ساهم في تدريب الإداريين الذين اكتسبوا توجهات غربية. وفتحت اللغة أمام الإداريين العثمانيين وكبار الرسميين باب الثقافة الأوروبية وبسرعة أصبح خريجو مكتب الترجمة قادة السلطة التنفيذية في الدولة" . (21)

ومن ناحية أخرى نلاحظ أنه وفي ظل الاهتمام بالتعليم العسكري في بدء الاتصال بالغرب لم يتم الالتفات إلى التعليم الديني، فالنظام التعليمي الحديث تمركز في مجالين، أحدهما عسكري والأخر مدني هدفه مد الجيش والإدارة بالكوادر اللازمة لهما وفي حدود حاجة الدولة للعمالة في كل قطاع، وكان التعليم العسكري أيسر منالاً في ولايات العراق والشام من التعليم المدني الذى كان القبول فيه يتطلب فرزاً اجتماعياً دقيقاً جعله قاصراً على أبناء الأعيان

بينما ظلت المدارس الدينية الإسلامية تقدم لطلابها الثقافة الدينية التقليدية، اعتماداً على ما كان لديها من أوقاف تدر عليها من أبناء الطبقتين الفقيرة والوسطى وظلت تلك المدارس – في معظمها –تقدم تعليماً دينياً لم يتأثر بالاتجاهات الإصلاحية الحديثة، وإلى جانب هذين النظامين قام نظام تعليمي ثالث، قدمته مدارس الإرساليات التبشيرية على اختلاف مذاهبها . (22)

كما انتشرت المدارس العلمانية التي تخرج أصحاب المهن اللازمة لتلبية احتياجات الجيش الجديد الذى كونه باسم العساكر المحمدية المنصورة، واحتياجات المجتمع، كما تأسست المدارس الإعدادية (الرشيدية) لتخريج معلمي المدارس الابتدائية، والمدارس الفنية لتنشئة الموظفين، ومدرسة الحربية لتنشئه الضباط وأنشئت المؤسسات التي تهتم بالشئون الصحية والطبية في الدولة، . (23)

وأدخلت اللغة الفرنسية إلى المدارس إلى جانب اللغة التركية في المدارس التي يلتحق بها أفراد الأقليات غير المسلمين والأتراك من أبناء الأسر الميسورة. وسرعان ما جرى التصريح بإنشاء مدارس وكليات أجنبية فرنسية في غالبيتها، وتدار من جانب المبشرين، وظهرت مؤسسات علمية على نسق أوروبي مثل "مجلس المعارف" الذى قام على غرار الأكاديميات الفرنسية لإعداد الكتب التي ستدرس في الجامعة المزمع تأسيسها، والغرض الأصلي منها، إيجاد شكل أكاديمي يحقق اتصالاً بالحياة الفكرية والعلمية الأوروبية.

وافتتحت الجامعة وكانت تسمى دار الفنون 1286هـ - 1869م وسار هذا جنباً إلى جنب مع التعليم الديني الموجود في المدارس والكتاتيب، وهو القاعدة بالنسبة للمناطق الريفية البعيدة عن تأثير المثقفين العثمانيين آنذاك. ومن أهم التغيرات التي أتت بها التنظيمات – أيضاً– استخدام الأقليات في مجال التعليم مما يعد أمراً جديداً في تاريخ الدولة التركية . (24)

وفي ظل السلطان عبد العزيز (1861 – 1876م) بدأ التعليم العام الواسع النطاق لتخريج موظفين وشملت بنيته: تعليم أولى، مخصص من حيث المبدأ للأطفال اعتباراً من السادسة من العمر؛ مدارس أولية عليا، كليات.

وقد أنشئ الليسيه الأول في جالاتا – سراي عام 1868م، وكان يجرى تدريس الفرنسية فيه، وقد أصبح بؤرة لتفريغ مثقفين وموظفين وسرعان ما جرى التصريح بإنشاء مدارس وكليات أجنبية (فرنسية في غالبيتها وتدار من جانب رهبانيات كاثوليكية) وكان يتردد عليها في آن واحد أفراد من الأقليات وأتراك من الأسر الميسورة الحال.

وقد أتيح للبنات، لأول مرة، الحصول على تعليم حديث على النمط الأوروبي (25).وكذلك أيضاً حدث في عهد السلطان عبد المجيد (1839 – 1861م) والذي عرف بتبنيه الكامل لمشروع التغريب حيث تحولت في عهده مؤسسات الثقافة التركية إلى مؤسسات تبشر بالمشروع المعرفي الغربي وتأسست في عهده في اسطنبول أول جامعة حديثة حيث يحذو تعليم العلوم حذواً أوروبياً كما أمر بإنشاء أكاديمية العلوم العثمانية (انجومين – أي دانيش) عام 1850م.

ومن أبرز رموز التغريب ودعاته في تركيا رشيد باشا(1800-1858م) ،إبراهيم شناسي (1826-1871م) ،ضيا باشا (1825 -1880م) ، نامق كمال (1840-1888م) ،مدحت باشا (1822-1885م) ،عبدالله جودت .

ثم كان بعد ذلك الحدث الأكبر في تاريخ العالم الإسلامي منذ نشأة دولة المدينة (622م) وهو إعلان تفكيك الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك والتي في ضوئها انقسم العالم الإسلامي إلى قسمين أساسيين تجاه مسألة الإصلاح، الأول اعتمد النمط الأوروبي عن طريق "النقل والاقتباس" ، والثاني: اعتمد في توجهاته الإصلاحية على أصالة المجتمع الإسلامي ونموذجه المعرفي المستمد من العقيدة؛ ومن هنا اكتمل شكل الازدواجية المعرفية واتخذت شكلاً إيديولوجياً شقت من خلالها النسق المعرفي الإسلامي إلى نصفين، نصف تبنى المشروع الغربي في مبانيه وأصوله وفروعه ونصف تبنى مواجهته.

  • أما في مصر وعلى الرغم من وجود حركة فتية أرادت أن تتخطى التراجع والضعف الكائن في دولة الخلافة؛ إلا أنه وبسبب ما واجه هذه الحركة من عوائق لم يكتب لها النجاح، وتعرض العقل المصري للتغريب مثل باقي دول العالم الإسلامي، فمنذ الحملة الفرنسية (1798م) تعرضت مصر لموجة كبيرة من التغريب بدأت بعلماء ومفكري الحملة الفرنسية الذين جاءوا للتبشير بالفكر والثقافة والقيم الغربية (26)

ويشير فهمي جدعان إلى أهم أشكال التغريب في مصر وهي: (27)

أولاً: التغريب بالمعنى الخاص الضيق لهذه الكلمة، أي بمعنى نبذ الشرق والعرب والإسلام واللحاق مباشرة بالمدنية الغربية بكل حسناتها وسيئاتها، وأبرز من مثّل هذا الاتجاه " أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين ومحمود عزمي" الذين ارتبط التغريب عندهم مفهوم " القومية المصرية" أو "الفرعونية " الضيق المعادى صراحة لكل انتماء عربي وإسلامي وشرقي تاريخي أوديني أو أدبي.ولم يكن العداء للعربية (الفصحى) ومعركة "القديم والحديث" إلا وجهاً لظاهرة التغريب.
ثانياً: الليبرالية وهى الدعوة إلى تحرر العقول من كل سلطة عقلية سابقة والنظر إلى موضوعات المعرفة والمجتمع والإنسان نظرة عقلية متفردة مدعومة بالفكر الوضعي الخالص. وممن ارتبط اسمهم بهذه الأفكار "إسماعيل مظهر وطه حسين".
ثالثاً: العلمنة وتبلورت في الدعوة الصريحة إلى تأسيس الدستور على " القانون الوضعي" ،وتأسيس " الدولة على قواعد "عصرية غربية " ليس للدين الإسلامي أي دور فيه أو بتعبير مشهور " فصل الدين عن الدولة" ، وممن ارتبط اسمهم بهذه الاتجاه "على عبد الرازق" .

ونلاحظ أن الإشكالية المعرفية الكبرى التي واجهت العقل المصري وكانت مصدراً لمعاناته الفكرية تكمن في تلك الازدواجية التي بدأت تتكون مع إيجاد نظامين للتعليم مسئولين عن تشكيل البنية المعرفية للعقل المصري هما: التعليم المدني -الذي بدأ مع تجربة محمد على- والذي يقوم على اتباع النمط الغربي، والتعليم الديني الذي أصبح بجموده وانسداد روافد الاجتهاد فيه وفشل محاولات إصلاحه بما جعله يشكل عبئاً وليس حلاً للواقع الراهن

وفي ضوء ذلك

الإمام حسن البنا والصحفي وروبير جاكسون
" بدأت مصر تعرف ذلك الازدواج الخطير بين نمطين من الثقافة : ثقافة دينية تقليدية جامدة، وثقافة علمية غربية متجددة، وكان لهذا أسوأ الآثار والشرور التي عانت منها مصر، فقد فتتت من وحدة الفكر بين أبناء المجتمع وخلقت أخدوداً ثقافياً قلَ من كانوا يستطيعون عبوره". (28)

ونتيجة لسياسة الابتعاث إلى أوروبا في ضوء غياب التحصين المعرفي من جهة، واستقدام الأوروبيين لاستخدامهم في وضع البرامج الثقافية والتربوية في مصر من جهة أخرى تكونت في مصر بيئة خصبة للتغريب ظهرت فيها كافة أفكار ودعوات المشروع المعرفي الغربي من الدعوة إلى العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وتحرير المرأة والدعوة إلى السفور ومحاربة الحجاب، والتبشير بسيادة الفلسفة المادية وتبنى نظرية دارون في النشوء والارتقاء(شبلي شميل 1850م ، وإسماعيل مظهر 1891م ،وسلامة موسى 1887م).

كما ظهرت الدعوة إلى الانسلاخ عن قيم الأمة وتراثها واللحاق بأوروبا والسير على خطاها وأخذ كل ما فيها بحلوها ومرها (طه حسين 1889م)، والدعوة إلى الحرية والتحرر من القيم الإسلامية، ونشر دعوات تمزيق وحدة الأمة مثل الوطنية والقومية (أحمد لطفي السيد 1872م)، كل ذلك شكل بيئة لترسيخ أفكار التغريب وتوطين مفاهيمه، وكان لذلك تأثيره الواضح على النظام المعرفي والتربوي في مصر

يشير على خليل مصطفى إلى أهم آثار حركة التغريب على الفكر التربوي في مصر فيما يلي: (29)

  1. ازدواجية النظام التعليمي بين تعليم ديني وتعليم مدني، فأصبح يعانى من الفصام الاجتماعي والفصام الشخصي.
  2. ترديد أفكار الغرب واعتماد الدراسات التربوية على الفكر الغربي اعتماداً كاملاً، مما كان له من أثر بالغ، فقد أقام التعليم المصري على أساس غربي ،وعامل الشخصية المصرية المسلمة على أنها شخصية غربية تماماً.
  3. محاولة إقصاء اللغة العربية، سواء كان ذلك عن طريق إحلال اللغة الإنجليزية مكانها كما حاول "دنلوب "، أو بإضعافها عن طريق الدعوة إلى استخدام اللغة العامية، بما يفصل الإنسان المسلم عن عقيدته القرآنية وولائه للإسلام.
  4. عزلة التربية والتعليم عن المجتمع وقضاياه ومشكلاته الحقيقية.
  • وفي إيران كان للحرب الإيرانية الروسية وما تبعها من هزيمة للإيرانيين ومعاهدة تركمان چاى (1828م) - والتي سنت بموجبها امتيازات كثيرة للأجانب - دوراً كبيراً في التوجه نحو النمط الغربي في وسائل الحرب وفنونها.

ولم يعد لدي الإيرانيين من خيار سوى إعداد جيش علي الطراز الحديث فأنشؤوا مدرسة "دار الفنون" في منتصف القرن التاسع عشر (1851م – 1867 هـ.س) في عهد الدولة القاجارية ، وتضمنت في دورتها الأولي "سبعة أقسام" هي : الرياضة والهندسة، والطب والجراحة، والصيدلة، وعلوم المعارف، وثلاثة أقسام أخري خاصة بـ"علوم العسكرية". (30)

وعلي الرغم من استقدام مدرسين أجانب لهذه العلوم وانتقاء الطلاب من غير المدارس الدينية والتحول الإداري والقانوني الذي شهدته مدرسة "دار الفنون" ؛ إلا أنه لم يعترض أحد من علماء الدين "الروحانيون" وذلك لرغبتهم في إعداد جيش قوي يتم به مواجهة الروس مرة أخري ، إلا أنه لم يتم التعايش مع مدرسة " دار الفنون" من قبل رجال الدين إلا لفترة محدودة انتهت ببدء الدورة الثانية لهذه المدرسة (1859م) والتي تأسست فيها مجموعة من الأقسام الدراسية الأخرى في هذه المدرسة تهتم بتشكيل القيم وتتدخل في الثقافة والأخلاق، وهذه الأقسام هي "المسرح والتمثيل"، "النحت والتصوير"، "الموسيقي". (31)

وفي هذه المرحلة بدأ الصراع بين رجال الدين كمدافعين عن التعليم التقليدي (الديني) وما يحمله من قيم وخصائص، وبين فئة "المتغربين" الذين درسوا في أوروبا هذه العلوم الجديدة وعادوا لتدريسها في مدرسة دار الفنون وما تبعها من مدارس أخري علي ذات النمط الغربي.

فبعد نصف قرن تم إنشاء عدد من المدارس المشابهة، فأنشئت مدرسة الحقوق والعلوم السياسية (1899م) ومدة الدراسة فيها 4 سنوات وتنتمي إلي التعليم العالي، ثم أنشئت في عام (1908 م) مدرسة الطب ومدة الدراسة فيها (5) سنوات، كما أنشئت المدرسة العالية للزراعة والحرف المهنية عام (1922م) ومدرسة المهندسين عام (1926م) والمدرسة البيطرية عام (1932م).

ويعتبر الإيرانيون أن افتتاح "دار الفنون" واستقدام معلمين ومناهج ودراسات غربية كان من العوامل المؤثرة والفعالة في انتشار وترويج الفكر الغربي في إيران لاسيما فيما يتصل بمنظومة القيم والثقافة. وقد وصل عدد الخريجين خلال أربع سنوات 1100 طالبٍ وكان أغلبهم من أسر معروفة وذات نفوذ كبير وشغل أغلبهم مناصب عليا في الدولة وكانوا في نفس الوقت يسعون لنشر الثقافة الغربية . (32)

ومن النتائج المهمة لإنشاء دار الفنون ما صاحبها من إنشاء دور للنشر والطباعة، وتأسيس الصحف وهو التطور الجديد علي الحياة الثقافية في إيران في ذلك الوقت، علي الرغم من المحاولات السابقة لميرزا صالح الشيرازي في إنشاء الصحف، إلا أنه مع نشأة دار الفنون تأسست دور الطباعة والنشر بصورة أسرع وقد صدرت في البداية ثلاث صحف: الصحيفة العلمية، الصحيفة الرسمية الحكومية، والصحيفة القومية

كما كان لاستقدام مدرسين أجانب دوره في الاتجاه نحو الترجمة وتعلم اللغة الفرنسية وهي لغة التعليم الأولي في مدرسة دار الفنون ثم تبعتها اللغة الإيطالية والألمانية، كما أصبحت هذه اللغات تدخل ضمن المنهج والمقرر الدراسي للمدرسة وما تبعها من مدارس أنشئت علي نفس النمط الغربي.

هذا بالإضافة إلي دور هؤلاء المعلمين في نشر القيم والثقافة الغربية داخل قاعات الدرس للطلاب الذين لم يتلقوا أي نوع من التعليم الديني، كما أن مدرسة دار الفنون في منهجها ومقرراتها غاب فيها – أيضاً – الدرس الديني.

نواب صفوي وسيد قطب

وفي هذه الأثناء ظهر جيل جديد من المثقفين الإيرانيين الذين تبنوا (الفكر الغربي)، وتمثلوا أفكاره لاسيما ما يتعلق بالنظرة إلى الدين ومهامه ووظائفه في حياة الإنسان لدرجة وصلت إلى معاداة الدين باعتباره أس التخلف كما فعل التنويريون الغربيون مع الدين المسيحي " فقد تأثر الجيل الأول من تيار التنوير الإيراني بروحية معاداة الدين والمؤسسة الدينية التي كانت سائدة في أوروبا. ومن هنا اتخذ هؤلاء موقفاً معادياً من الدين، وتوجهوا نحو الأصول القومية، فقفزوا إلى الوراء ليتجاوزوا الإسلام بوصفه مرحلة تاريخية دخيلة من عمر إيران والإيرانيين، ويعودوا إلى تاريخ الأجداد الساسانيين". (33)

وقد ارتبطت المؤسسات التعليمية الحديثة، ومصطلح المستنيرين بمن يروجون للفكر الغربي وباستعداء الدين واستبعاده من حركة النهضة الإيرانية، ومن ذلك ما كتبه جلال أحمد عن هذه الحالة فيما أسماه "درخمت وخيانة روشنفكران" (المستنيرون خدمة وخيانة) والمصطلح يشير بوضوح إلى هؤلاء الذين يميلون للغرب ويرجحون أفكاره وينقلونها.

وعلى الرغم من محاولات السلطة الحاكمة منذ إنشاء مدرسة "دار الفنون " إقصاء المعرفة الدينية أو تحويلها إلي معارف ضمن التعليم الحديث "إلا أنه وحسب الإحصاء الرسمي لعام 1966م بلغ تعداد رجال الدين العاملين في إيران أكثر من 12 ألف شخص، 174 منهم من العنصر النسائي وبعد سبع سنوات ارتفع الرقم الأول إلي 15 ألف شخص، أما المدارس الدينية فقد وصل تعدادها إلي 299 مدرسة تضم حوالي 140 ألف طالب كان أكثر من 6 آلاف منهم في مدينة قم وحدها . (34)

وفي عهد الدولة البهلوية (1924-1979م) يدخل التعليم في إيران مرحلة جديدة، حيث بدأ عهد إنشاء الجامعات، حيث أنشئت جامعة طهران عام (1313 هـ.ش-1924م) والتي مثلت نقطة تحول في تاريخ التعليم في إيران وتم بها تأسيس (6) كليات هي "كلية علوم المعقول والمنقول"، "كلية العلوم الطبيعية والرياضية" "كلية الآداب والعلوم التربوية" "كلية الطب"، "كلية الحقوق والعلوم السياسية"، "الكلية الفنية والمهنية " .

وبعد حوالي 30 عاماً من إنشاء جامعة طهران، تم تأسيس المجلس المركزي للجامعات في حوالي عام (1344هـش-1965م) بهدف دراسة وبحث أوضاع الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في إيران، ثم تم تأسيس وزارة العلوم والتعليم العالي عام (1346هـ.ش-1968م) بهدف تحديد وتنظيم أمور الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، ثم إنشاء "المجلس المركزي للتعليم"، "مجلس النشر والطبع"، "مجلس التعليم الطبي" ، وكل هذه المجالس كانت تابعة لوزارة التعليم العالي.

ومع أهمية هذه المؤسسات لحركة النهضة إلا أن إقصاء الدين والمعارف الدينية منها جعلها ترتبط في أذهان الإيرانيين بعملية التغريب؛ فضلاً عن أن الذين يعملون بهذه المؤسسات كان يغلب عليهم الطابع الثقافي والفكري الغربي واستبعاد الدين كما ذكرنا سابقاً.

ولم تتوقف محاولات السلطة في سبيل هذا الإقصاء حيث اتخذ الشاه مجموعة من الإجراءات التي كان من شأنها تقليص المدارس الدينية حتى وصل عدد طلابها في أواخر عهده إلي 784 طالباً. ويشير بعض الباحثين الإيرانيين إلي أن الأهداف الحقيقية لإنشاء الجامعة الإيرانية تتحدد في " توفير الكوادر الفنية والتخصصية التي تسد احتياجات الجهاز الحكومي في الدولة بالإضافة إلي النواحي العسكرية والصناعية، وذلك من خلال تأسيس أقسام دراسية وتخصصية توفر القوة الإنسانية المدربة في هذه الميادين والتي لم تكن موجودة في الحوزة العلمية أو نسق التعلم الديني الحوزوي". (35)

ويذكر صديق أن الهدف الأصلي من تأسيس الجامعة هو "تخريج نخبة بيروقراطية حكومية لسد احتياجات الجهاز الإداري المستحدث من قبل رضا شاه بهلوي والذي نقله من أوروبا " (36)، أما سلطان نزداد فيرى أن جامعة طهران أنشئت بغرض " الترويج للقيم والثقافة الغربية و إقصاء كل ما هو مقدس وديني في المجتمع الإيراني" (37).

وقد قابلت الجامعة التعليم الديني (الحوزة) ليس فقط في النسق والنظام التعليمي وشروطه وطريقته الجديدة؛ بل أيضاً من حيث الاتجاه الفكري، فما لبثت الثقافة الغربية وبالتحديد الماركسية من التغلغل في الوسط الجامعي بجميع عناصره: الأساتذة، المقررات والمناهج العلمية، الطلاب حتى إن بعض الإحصاءات تشير إلي "أن أكثر من 80% من طلاب الجامعة الإيرانية في الفترة من (19411953) كانوا ينتمون فعلياً إلي حزب توده الشيوعي". (38)

ويشير جلال آل أحمد في كتابه "نزعة التغريب" إلى دور الجامعة الإيرانية في الترويج للفكرة الغربية وخدمة مصالح الشاه فيقول

"...أما الجامعة الوطنية فهي حانوت المستنيرين المتغربين العائدين من الخارج..وقد دعاهم لافتتاح هذا الحانوت الخاص، كثرة ما شاهدوه وسمعوه من ترهات التقاليد المتحجرة في جامعة طهران. فلم يأنفوا من التوسل بمسئولين من هذا النوع لتأسيس هذه الجامعة...أما جامعة طهران والتي من المفروض أن تكون مركزاً ضخماً للأبحاث العلمية والدراسات المعمقة..
فنجد الفروع الجامعية الخاصة بالتقنية والصناعة والميكانيكا (كليات العلوم الصناعية) لا تخرج في النهاية سوي حرفيين جيدين للصناعات الغربية، ولا أثر فيها للبحوث العلمية الحديثة، أو الاكتشافات والاختراعات، ولا حلول للمشكلات القائمة، ولا أي شئ آخر ليس ثم سوي مصلحي ومشغلي المكائن والصناعات الغربية". (39)

وقد حاول رضا خان(1878-1944م) إنشاء بديل في الجامعة الإيرانية للتعليم الديني في الحوزة، فأسس كلية "المعقول والمنقول" بهدف تربية جيل جديد من رجال الدين علي العلوم الحديثة، بما يمكنه من مزاحمة رجال الدين في الحوزة.

كان استبداد رضا خان واعتداده القومي إيذاناً بولادة جيل جديد من القوميين يعتقدون أن سر تقدم الغرب يكمن في تطور مؤسساته السياسية، وبالتالي يقتضي اللحاق به تأسيس دولة مركزية قوية تقوم على أساس ثقافة سياسية جديدة مقتبسة من الغرب المتقدم.

ومن هنا استندت دعوة رضا خان على ركيزتين، هما : الحداثة، والقومية ...وقد حظيت سياسة رضا خان في مواجهة علماء الحوزة ومحاربة التقاليد والقيم الإسلامية بتأييد كل من الاتحاد السوفيتي وبريطانيا، وقد كان مدافعاً صريحاً بل ومؤيداً لكل من يهاجم الحوزة وعلماء الدين في منشوراته أو صحافته ". (40)

ولم يستطع رضا خان استبدال ثقافة المجتمع الإيراني بثقافة جديدة بالكامل، ولكنه على الرغم من ذلك استطاع إحداث "ازدواجية ثقافية" ، أو على الأقل أوجد أرضيتها المؤسسة لها

وذلك من خلال مجموعة من الإجراءات التي اعتمدها ومنها

" أمره بنزع حجاب النساء، اعتداؤه على الحوزة وعلماء الدين، إحياؤه لتاريخ إيران ما قبل الإسلام، تأسيسه لنظام قضائي جديد مستقل عن المحاكم الشرعية التقليدية، تأسيسه لنظام تعليمي جديد، إقراره لقوانين جديدة، إقراره للمركزية السياسية، وغير ذلك من الإجراءات التي كانت تهدف في روحها إلى مواجهة الحوزة والمؤسسة الدينية، ومن جهة مصدرها كانت مستوحاة من تجربة أتاتورك في تركيا ". (41)

كما ظهرت النزعة التغريبية في التعليم في عهد الشاه رضا خان في البعثات التعليمية التي كانت يرسلها الشاه إلي أوروبا ثم توفير مناصب لهؤلاء الطلاب في المؤسسة التعليمية، "كما حاول الشاه مجابهة النزعة الدينية في إيران والتي كانت تقودها مدارس الحوزة العلمية، ففرض الملابس العصرية علي رجال الدين لا سيما القبعة البهلوية – وحظر لباس رجال الدين – إلا بعد الحصول علي إذن رسمي بذلك، وألغي بعض المناسبات الدينية وأصبح الذهاب إلي الحج بتصريح خاص، وقلص عدد المدارس الدينية، واتهم رجال الدين بالتخلف والخرافة " . (42)

ومن مظاهر التغريب – أيضاً

" صدور مرسوم ملكي في 7 يناير 1935 بتحريم الحجاب علي المرأة في إيران وحظره علي التلميذات والمعلمات في أثناء الدرس". (43)

واتجه الشاه-أيضاً- إلى تبنى النزعة القومية في التعليم من خلال القيام بعملية "تفريس التعليم" وذلك عن طريق " فرض اللغة الفارسية علي جميع المدارس الموجودة في إيران –حتى التي يقطن غالبيتها عرب- كما أصبح لحزب النهضة القومي في إيران دوراً مهماً في وضع المناهج والمقررات الدراسية، ونشر الأفكار القومية عند الناشئة في مراحل التعليم المختلفة " (44)

" وترجيح العنصرية القومية علي الديانة الإسلامية في تعريف الهوية الوطنية الإيرانية في التاريخ ماضيا ً وحاضرا ً ،وإعطاء الأهمية القصوى لإيران "القديمة " ومدح الأفكار والأهداف المسيطرة في تلك الفترة ،من دون ذكر السلبيات والمفاسد السياسية والاجتماعية لها ". (45)

وفي عام 1976م تحدي الشاه رجال الدين وقام بتغيير التقويم الإسلامي الرسمي الذي كان يبدأ من هجرة النبي من مكة إلي المدينة إلي ولادة الإمبراطورية الأخمينية قبل ألفين وخمسمائة سنة " كانت لدي الشاه رغبة في الرجوع إلي ما قبل الإسلام، وأراد أن يلتحق بنسب قورش -مؤسس هذه الإمبراطورية - لكي يخفف من الطابع الإسلامي للشعب الإيراني " (46)، وكان هدف الشاه من هذه السياسات "ربط إيران بالحضارة الغربية وبالنظام العلماني الذي كان بالضرورة علي حساب سلطة رجال الدين". (47)

نخلص من هذا المشهد إلى أن محاولات التغريب أرادت أن تنفذ إلي تصورات العقل المسلم ونظامه القيمي، وأنها حاولت اختراق بناء الثقافة الإسلامية وحصنها، وقد أحدث ذلك مجموعة من الخروقات في البناء المعرفي الإسلامي، كان أبرزها تلك الازدواجية المعرفية التي أحدثت انقساماً في العقل المسلم لم يلتئم بعد، وشقت نظامه المعرفي ونسقه الفكري إلى نصفين أطلقت على أحدهما ديني، والآخر دنيوي، وابتدعت –محاولات تغريب- صراعاً لم يكن له وجود في الواقع الإسلامي وحضارته:بين الدين والحياة، والدين والتقدم، والدين والعلم.

(3)

أفكار الإصلاح في العالم الإسلامي

الشهيد الإمام حسن البنا مع أعيان سوريا

انطلاقًا من مبدأ اجتماعية المعرفة لابد من النظر إلى أفكار الإمام حسن البنا (1906-1949م) في ضوء أفكار الإصلاح في العالم الإسلامي آنذاك والتي تؤرخ بسقوط دولة الخلافة العثمانية (1229- 1924م/626-1342هـ) وما سبقه من تأسيس للتخلف العلمي وما فرضته من انغلاق وجمود فكري على العالم الإسلامي في ظل ضعف الدولة العثمانية، وما تلاه من الاتصال المباشر بالغرب

وما أحدثه من صدمة فكرية لدى كثير من مثقفينا الذين رأوا في "المجتمع الجديد" بكل ما يحمل من قيم واتجاهات وأنماط سلوكية نموذجاً للنهضة والتقدم، بعيداً عن دراسة العوامل السسيولوجية والنفسية "لحادث التقدم الغربي" وظواهره الفكرية والسياسية التي ارتبطت بوجوده – مثل فصل الزمني عن المقدس – والاحتلال المادي لوجدان وعقل الإنسان الغربي، ...وهو مالم تعرفه البيئة النفسية والثقافية والاجتماعية الإسلامية.

وقد ترتب على ذلك الانبهار الدعوة إلى إسقاط مقدمات وأسباب نهضة المجتمع الغربي بظروفه وبيئته وتاريخية حضارته الوسطى والقديمة والحديثة على المجتمع الإسلامي، فكان الناتج الطبيعي عدم تفاعل القادم من الغرب مع الحاضر الإسلامي، وبدلاً من أن يعني هؤلاء المثقفون الذين اتصلوا بالواقع الغربي بتطوير العقل المسلم ومنهجه وأدواته أو ابتكار مناهج وأدوات تتلاءم مع ظرفه الاجتماعي راح في سهولة ينقل مناهج وأدوات ابتكرها غيره أو كانت نتاجاً إبداعياً لما حملته ظروف اجتماعية مغايرة إلى الواقع الإسلامي ببنيته الثقافية والمجتمعية دون مراعاة للفوارق والاختلافات الجوهرية بين الواقعين (الغربي والإسلامي).

وقد أدى هذا "الاستيراد الذهني" للعمليات الفكرية والمنهجية بعد بلوغ نضجها في العقلية الغربية وجود تعارض واضح الملامح والتفاصيل بين المشروع الحضاري الغربي الذي تم بالفعل واكتمل بناؤه، والمشروع الإسلامي الباحث عن "ذهنيات إسلامية" تمتلئ بأهدافه وتبحث عن الآليات المعرفية والعملية من أجل تحقيق تلك الأهداف، الأمر الذي من شأنه العمل تشخيص الواقع بأمانة ودقة ثم بذل قصارى الجهد من أجل ابتكار الآليات المعرفية والعملية لتحقيق النهضة المنشودة .

والمتأمل للمشروع الإسلامي والذي بدأ بحركة إصلاحية فردية ثم حركات جماعية منذ بداية الضعف في الخلافة العثمانية وبداية عصر النهضة الأوروبية والاحتلال العسكري والثقافي للعالم الإسلامي، يجد أن برنامج هذه المشروعات كان يهدف إلى إيقاظ الوعي الإسلامي بالاستعمار الأجنبي وضرورة العمل على تحقيق الاستقلال وبدا ذلك واضحاً في حركة السيد جمال الدين الأفغاني (1838م – 1896م - 1254 هـ - 1314هـ)، ومحمد عبده (1266هـ- 1323م - 1845م – 1905هـ) اللذين أصدرا "العروة الوثقى" والتي كانت الإعلام الأول لهذا المشروع حيث احتوت مقالاتها علي تشخيص أحوال العالم الإسلامي وبيان أسباب تعثره واستندت هذه المقالات في منهجها إلى الأصول الإسلامية مع ربطها بواقع الأمة في هذه الفترة.

كما أكدت هذه المقالات (48) على دور التربية الإسلامية لتحقيق الانتماء الإسلامي ومواجهة موجات التبشير والتغريب ورسمت – أيضاً – هذه المقالات – ملامح التغيير السياسي والاجتماعي المطلوب في الأمة الإسلامية.ثم كان لمحمد عبده – بعد ذلك – فلسفته الإصلاحية التي كانت تقوم علي إحياء دور العقل وتصحيح الفهم الديني الذي أصابه الجمود، والدعوة إلي فتح باب الاجتهاد في المعاملات، ثم ظهر بعد ذلك رشيد رضا الذي تتلمذ علي يد الشيخ محمد عبده الذي أنشأ مجلة "المنار" والتي بدأت على صفحاتها تظهر أفكاره الإصلاحية التي كانت امتدادًا للشيخ محمد عبده.

وفي الجزائر كانت جهود بن باديس (1889 - 1940م) في حماية الشخصية الجزائرية من التغريب، بتحريم التجنس بجنسية المحتل وذكر في نص هذه الفتوى أن "التجنس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكماً واحداً من أحكام الشريعة عد مرتداً عن الإسلام بالإجماع (49)، فالمتجنس مرتد بالإجماع" ، بالإضافة إلى جهوده التربوية والثقافية في بناء وتشكيل الشخصية المسلمة المؤمنة بالمشروع الحضاري الإسلامي، وتهيئتها لأداء دورها الفاعل في هذا المشروع.من خلال تأسيسه لجمعية العلماء المسلمين.

ثم كانت أفكار "سيد قطب" (1906-1966م) التي اهتمت بإشكالية "الدولة الإسلامية" في الوجود الإنساني فأكد على مفهوم "الحاكمية" في الوقت الذي انتشرت فيه – في الستينيات – أفكار "حركة البعث" في العراق وب[سوريا]] وتسلمت فيهما السلطة، وكذلك اعتناق السلطة في مصر الأفكار "الاشتراكية" ووجود "الأحزاب الاشتراكية" "والشيوعية" وتنظيماتها الطلائعية المختلفة، بالإضافة إلى وجود عديد من الحكومات الإسلامية التي توجهت إلي إقامة تحالفات إستراتيجية كاملة بينها وبين الغرب (الاتحاد السوفيتي سابقاً – الأمريكي) مع الاتجاه شبه التام لفصل الدين عن شئون الدولة.

وتأكدت أهمية الأفكار التي طرحها سيد قطب خاصة في كتابة الشهير "معالم في الطريق" حينما أكد فيه على ضرورة قطع جميع العلائق بالأنظمة الوضعية وأفرد تصوره "للحكومة الإسلامية" المنشودة التي تستمد كل مقوماتها من النظام الإسلامي الرشيد، ثم هو يبرز في كتاباته الأخرى التصور الإسلامي لمفهوم العدالة الاجتماعية الغائب في الأفكار والأنظمة الوضعية في العالم الإسلامي، وقد كانت لأفكار سيد قطب ردود فعل واسعة في العالم الإسلامي ما بين مؤيد ومعارض في قربها أو بُعدها عن المشروع الإسلامي، خاصة أولئك الذين يرون هذه الأفكار من منظور تجريدي فلسفي بعيداً عن التطورات الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإسلامية حينئذ .

وتعد أفكار سيد قطب امتداداً للمفكر الباكستاني "أبوالأعلي المودودي" (1903 -1979م) الذي كانت كتاباته تدور حول "المحور السياسي" في المشروع الإسلامي، ويرى المودودي أن الخصائص الأولية للدولة الإسلامية تتلخص في ثلاث: (50)

(أ) ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية فإن الحاكم الحقيقي هو الله والسلطة الحقيقية المختصة بذاته لله وحده والذين من دونه في هذه المعمورة إنما هم رعايا في سلطانه العظيم.
(ب) ليس لأحد، من دون الله شيء من أمر التشريع، والمسلمون جميعًا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا لا يستطيعوا أن يشرعوا قانوناً .
(ج) إن الدولة الإسلامية لا يؤسس بنيانها إلا على ذلك القانون الذي جاء به النبي من عند ربه مهما تغيرت الظروف والأحوال .

ويطالعنا مالك بن نبي (1905-1973م) بمجموعة من الأفكار التي دشنها حول "استعادة الدور الحضاري" للأمة الإسلامية والتي فقدته لأنها تخلت عن شروط هذا الدور الحضاري ومن ثم فقدت معه الريادة الحضارية حيث يرى مالك أن "لكل حضارة شروطاً نفسية وزمنية تقوم عليها وهذه الشروط لا تحقق مجرد ثقافة مهنية

بل ثقافة جذرية تغير فنياً معالم الذات ومنطلقة من كيان الإسلام الحضاري لذلك فإن تمسك الإنسان المسلم بتعاليم ومبادئ القرآن، جعلته مشيداً لأعظم حضارة عرفها التاريخ، فإذا ما وهنت الدفعة القرآنية، توقف العالم الإسلامي وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ، مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، ألا وهو الإيمان، ولذا لم تستطع النهضة الحديثة، أن تمنح العالم الإسلامي "حركة" لم يعد هو في ذاته يملك مصدرها. (51)

وهذا ما جعل مالك بن نبي يرفض النقل والاقتباس للأفكار والمناهج الغربية وأكد على ضرورة الاستقلال الفكري واستعادة الأصالة في ميدان الأفكار، فالفكر الإسلامي قد وضع حلولاً لمشكلات العالم الإسلامي، وما يعانيه إنسان العصر الحديث من قضايا ومواقف، وأنه يجب الرجوع إلى القرآن الكريم الذي وضع حلولاً للمشكلات التي تواجه الإنسان.

وفي الهند يؤسس أبوالأعلي المودودي (1903-1979) الجماعة الإسلامية (1941م)، ويحدد الغاية العامة والنهائية للجماعة الإسلامية في كتابه "موجز تاريخ تجديد علوم الدين وإحيائه وواقع المسلمين وسبيل النهوض بهم" هو "تأسيس نظام للحياة مبناه على طاعة الله عز وجل والإيمان بالآخرة وإتباع الرسل والأنبياء". (52)

ويكون ذلك عن طريق برنامج يتضمن:

  1. تطهير الأفكار وتعهدها بالغرس والتنمية...مع نقد الغرب وعلومه وفنونه ونظامه للثقافة والمدنية.
  2. استخلاص الأفراد الصالحين وجمعهم في نظام واحد وتربيتهم.
  3. السعي في الإصلاح الاجتماعي.
  4. إصلاح الحكم والإدارة.

كما ظهرت أفكار " إسلامية المعرفة" على يد إسماعيل الفاروقي (1921-1986م) والذي قاد تياراً فكرياً يهدف إلى إعادة اكتشاف "النموذج المعرفي التوحيدي" في منطلقاته ومبادئه ليمثل مدخلًا معرفيًّا للإصلاح التربوي الحضاري في العالم العربي والإسلامي لحل إشكاليتين أساسيتين: قصور المنهجية التقليدية أو الجمود في حركة الفكر الإسلامي، التعارضات والازدواجيات. (الوحي والعقل-الفكر والعمل-الثقافي والديني) .

ويعرف هذا المشروع "إسلامية المعرفة" بأنها: جانب أساسي و أوَّلِّي في بناء الإطار القِيَمِي والحضاري للفرد والمجتمع، يختص بالفكر والتصور والمحتوى الإنساني القيمي والفلسفي و كيفية بنائه وتركيبه وعلاقاته في العقل والنفس والضمير.... "وإسلامية المعرفة" تعني – أيضًا – منهجية إسلامية قويمة شاملة تلتزم توجيه الوحي ولا تُعطل دور العقل؛ بل تمثل مقاصد الوحي و قِيَمِه وغاياته وتدرس وتدرك وتمثل موضوع اهتمام الوحي وإرشاده وهو الفرد والمجتمع الإنساني والبناء والإعمار الحضاري. (53)

وفي إيران ينطلق على شريعتي (1933-1977م) من "محورية الدين"، و"مركزيته" الحضارية في إبراز "الإسلام" كمنهج فكري وتربوي وحضاري ، وأهم ما عني به هو وضع منهجية للتعرف على الإسلام، وذلك لأنه يرى أن المنهج (له أهمية أعظم من الفلسفة والعلم)، كما أنه العامل الأساسي في "إيجاد التقدم أو الانحطاط"

ومن هنا فقد رأى أنه من الضروري وضع منهج لمعرفة الإسلام، وأهم قواعد هذا المنهج هي: شمولية الإسلام في مقابل المحدودية: فالإسلام ليس دينًا محدودًا في جانب واحد من جوانب الحياة أو الكون أو الإنسان، بل له جوانب متعددة وشاملة، فالإسلام يوضح العلاقة بين الإنسان وربه في منهج علائقي، ويوضح أبعاد الحياة الإنسانية، وطريقة المعيشة على الأرض، وللإسلام بعد حضاري فهو دين الحضارة والتمدن.

وقد مثلت فكرة (العودة إلى الذات) بعدًا إستراتيجيًا مهمًا في فكر شريعتي وارتبطت من ناحية أخرى بفكرة بناء الذات، وهي نفس الأفكار تقريباً التي ظهرت عند أصحاب الاتجاه الإسلامي في فترة الستينيات، لاسيما سيد قطب، وقد حملت إحدى كتابات شريعتي نفس هذا العنوان "العودة إلى الذات" ، بينما أوضحت كتابات أخرى مفاهيم أساسية في بناء الذات، أهمها: "بناء الذات الثورية"، "النباهة والاستحمار" .وقد تضمنت هذه المؤلفات عدة أفكار ومفاهيم وطروحات أسهمت بشكل جلي في تحديد "الهوية الحضارية الإسلامية" مجتمعًا وأفرادًا ومؤسسات.

أما محمد باقر الصدر (1935-1980م) فانشغل بمواجهة حضارية مع النموذج المعرفي المادي الغربي بمدرستيه الشيوعية والرأسمالية، من خلال المنهج النقدي المتفحص الدقيق لهذا النموذج من ناحية، وتأسيسًا للنموذج المعرفي التوحيدي من ناحية أخرى، وظهر ذلك واضحًا في " فلسفتنا" و" الأسس المنطقية للاستقراء" والمدرسة القرآنية" و" الإسلام يقود الحياة" ، كما ساهم أيضًا في تطوير علم أصول الفقه من خلال تجديد قواعده والأصول التي يقوم عليها في " دروس في علم الأصول" .

وكانت دعوة حسن البنا (1906-1949م) إلى إنشاء جماعة "الإخوان المسلمين" تطورًا في الفكر الإسلامي الذي بدأ يعتمد على العمل الجماعي أكثر منه إلى الجهود الفردية، وقامت هذه الجماعة مستهدفة في البداية هدفًا مباشرًا قريبًا هو الجهاد ضد الاستعمار الأجنبي في البلاد، وهدفًا إستراتيجيًا لعمل الجماعة وهو إقامة الخلافة الإسلامية، وقدمت الجماعة في هذا الميدان الحضاري مشروعًا تجديديًا له جوانبه التربوية والثقافية والأخلاقية، وهو ما سوف نعرض له في الأقسام التالية لهذه الدراسة.

المراجع

(1)البنا حسن . مذكرات الدعوة والداعية القاهرة دار الشهاب د.ت ص 36.

(2)المرجع نفسه ص131.

(3)المرجع نفسه ص 132.

(4)المرجع نفسه 59.

لم نعثر على مضمون هذه المحاضرة إلا أن العنوان يتضح منه أنها كان بسبيل المقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.

(5)البنا، حسن. مذكرات الدعوة والداعية، مرجع سابق، ص96.

(6)بن نبي، مالك. الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، دمشق، دار الفكر، ط3، 1988، ص16.

(7)بن نبي، مالك. الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مرجع سابق، ص 62.

(8)البنا، حسن. مجموعة الرسائل، رسالة "بين الأمس واليوم"، الإسكندرية، دار الدعوة، 1990، ص157.

(9)البشري، طارق." الإصلاح والتجدد في أمتي صناعة محلية وحضارية " في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج،مرجع سابق، ص 8 .

(10)البشري، طارق: " الإصلاح والتجدد في أمتي صناعة محلية وحضارية "، مرجع سابق، ص 8 .

(11)عمر، السيد. "مداخل الإصلاح في الأمة :جدالات الديني والسياسي"، مرجع سابق، ص105.

(12)ماكارثي، جوستين. " سياسات الإصلاح العثماني " ترجمة: عبد اللطيف الحارث، الاجتهاد، العدد45-46 ، بيروت، 2000،ص63 .

(13)الجندي، أنور. شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، بيروت، المكتب الإسلامي 1978، ص13، 14.

(14)جدعان، فهمي. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979، ص324.

(15)آل أحمد، جلال. نزعة التغريب، ترجمة: حيدر نجف، كتاب قضايا إسلامية معاصرة، (21) ، 2000، ص31 .

(16)ياغى، إسماعيل أحمد. الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، الرياض، مكتبة العبيكان، 1996، ص149.

(17)مخلوف، ماجدة. "الإصلاح والتجديد في تركيا في القرنين (13 – 14 هـ/ 19 – 20م) مرجع سابق، ص22.

(18)مانتران، روبير (إشراف) .تاريخ الدولة العثمانية، جـ2، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع 1993، ص473.

(19)انظر حول مجلة الأحكام العدلية ومحاولات تقنين الفقه:

الحسيني، فهمي (تحقيق وتعريب). درر الحكام شرح مجلة الأحكام، بيروت دار الكتب العلمية1980.

الأشقر، عمر سليمان. تاريخ الفقه الإسلامي، عمان، دار النفائس، ط3، 1991.

القرضاوي، يوسف. الفقه الإسلامي والتجديد، القاهرة مكتبة وهبة، ط2 ،1999.

(20)ماكارثي، جوستين. مرجع سابق ،ص 64 .

(21)المرجع نفسه ،ص 75 .

(22)عباس، رءوف. "الإصلاح العثماني الدوافع والأبعاد"، بيروت، حوار العرب، العدد الرابع ،مارس 2005، ص48.

(23)مخلوف، ماجدة. "الإصلاح والتجديد في تركيا"، مرجع سابق، ص20.

(24)المرجع نفسه، ص22.

(25)مانتران، روبير (إشراف). مرجع سابق ،463 .

(26)انظر :

عمارة، محمد. "الاحتفال بالاحتلال أم بالاستقلال؟"، المسلم المعاصر، القاهرة، العدد (91)، إبريل 1999، ص23.

عنان، ليلى. الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير، القاهرة، كتاب الهلال، العدد567، مارس 1998 . (27)جدعان، فهمي. مرجع سابق ،ص 323.

(28)على، سعيد إسماعيل. تاريخ التربية والتعليم في مصر ، القاهرة، عالم الكتب، 1985، ص337.

(29)مصطفى، على خليل. أصول الفكر التربوي الحديث بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه التغريبي، القاهرة، دار الفكر العربي، 1986، ص 242، 262 (باختصار).

(30)إشراقي، مهدى. دار الفنون گفتارى درهويت دار الفنون وجايگاه در تاريخ معاصر إيران، طهران، پژوهشكده تعليم وتربيت (2004م)، ص27 .

(31)المرجع نفسه، ص53.

(32)انظر : هوشنگ، نهاوندي وديگران، امير كبير ودار الفنون، طهران، كتابخانه مركزي 1354 (1675م).

(33)فر، محمد شفيعي. الأسس الفكرية للثورة الإسلامية ، ترجمة : محمد حسن زراقط ،بيروت ،مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2007، ص 112.

(34)أحمد، كمال مظهر. دراسات في تاريخ إيران الحديث والمعاصر، بغداد، الأمانة العامة للشباب، 1989، ص183 .

(35)گلگار، سعيد." بررسى رابطة نظام بهلوي ودانشگاه در إيران"، فصلنامه دانشگاه اسلامى، طهران،شماره 35، سال يازدهم، شمار35، باييز 1386 (2007 م)، ص127 .

(36)زاده بردر، محمد شرف. انقلاب فرهنگي در دانشگاهها إيران، طهران پژوهشكده امام خمينى وانقلاب إسلامي، 1383 (2004م)، ص96 .

(37)سلطانزاد، منصور. خاطرات دوسفير: اسراري از سقوط شاه ونفش آمريكا وانگيس در انقلاب إيران، طهران، نشر علم 1372 (1993م)، ص28 .

(38)گلگار، سعيد. مرجع سابق، ص134 .

(39)آل أحمد، جلال. نزعة التغريب، مرجع سابق، ص129-130.

(40)فر، محمد شفيعي. الأسس الفكرية للثورة الإسلامية، مرجع سابق، ص 112.

(41)المرجع نفسه،ص 128-129.

(42)السبكى، آمال. تاريخ إيران السياسي بين ثورتين (1906 – 1979)، الكويت ،عالم المعرفة، العدد (250)، أكتوبر 1999.

()، ص 87 .

(43)معوض، أحمد. إيران المعاصرة، القاهرة، الدار العربية لنشر الثقافة العالمية، د.ت، ص 96 .

(44)قطعنامه هشتمين كنفرانس ارز شيابى انقلاب آموزشى"، ما هنامه آموزش و پرورش، طهران ، مركز انتشارات آموزشى، شماره (174)،1349هـ.ش (1970م) . ص 13 .

(45)عادل، غلام على حداد." صورة العرب في الكتب المدرسية الإيرانية " في: العلاقات العربية-الإيرانية ، بيروت ،مركز دراسات الوحدة العربية ،1996 ،ص 281 .

(46)إحسان نراقي: من بلاط الشاه إلى سجون الثورة، بيروت، دار الساقي 1992، ص49 .

(47)أحمد مهابة: إيران بين التاج والعمامة، القاهرة، كتاب الحرية عدد 22، 1989، ص203 .

(48)بكر، عبد الجواد السيد. "تحليل مضمون العروة الوثقى"، المسلم المعاصر، السنة العشرون، العدد 77، 1995، ص45 – 46.

(49)حميداتو، مصطفى محمد. عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، (مقدمة عمر عبيد حسنة) ، كتاب الأمة، قطر، السنة السابعة عشرة، العدد 57، يونيو 1997م ، ص33.

(50)المودودي، أبو الأعلي. نظرية الإسلام السياسية، القاهرة، دار الفكر د. ت، ص 28 – 29.

(51)الخطيب، سليمان. فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي: دراسة إسلامية في ضوء الواقع المعاصر، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1993، ص 292 .

(52)المودودي، أبو الأعلى. موجز تاريخ تجديد علوم الدين وإحيائه وواقع المسلمين وسبيل النهوض بهم . ترجمة: محمد عاصم الحداد، الجزائر:دار الشهاب،1963 ص142.

(53)المعهد العالمي للفكر الإسلامي. إسلامية المعرفة المبادئ العامة – خطة العمل – الانجازات، الإصدار الثاني، فرجينيا، 1986م، ص167.

وانظر –أيضاً- حول مشروع إسلامية المعرفة عمر، السيد. "مداخل الإصلاح في الأمة: جدالات الديني والسياسي"في: الإصلاح في الأمة بين الداخل والخارج، تقرير أمتي في العالم، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2006م، ص77 .

للمزيد عن دور الإخوان في الإصلاح

كتب متعلقة

من رسائل الإمام حسن البنا

ملفات وأبحاث متعلقة

مقالات متعلقة

الإصلاح السياسي:

الإصلاح الإجتماعي ومحاربة الفساد:

تابع مقالات متعلقة

رؤية الإمام البنا لنهضة الأمة

قضايا المرأة والأسرة:

الإخوان وإصلاح التعليم:

موقف الإخوان من الوطنية:

متفرقات:

أحداث في صور

.