نقطة. انتهى التحقيق.!؟
بقلم الأستاذ: سليم عبد القادر
نقطة. انتهى التحقيق.!؟
وباختصار شديد أنا أومن بالحرية الإنسانية والعمل السلمي، وأنفر من التعصب والعنف نفوراً كبيراً، إلى حد أنني لم أمارس العنف ضد أي مخلوق مهما كان وصفه، ولكن ذلك لم يمنع من دخولي السجن، ومحاسبتي حساباً جعلني أتصور أنني مخترع العنف في هذا العالم..
كنت أتصور أن من حقي كمواطن، ومن واجبي كمسلم أن أقوم بالدعوة إلى الله، وإلى ما أظن أنه الخير لي ولوطني، ودون إذن من أحد. ولأن الحذر لا يمنع القدر، فقد دخلت السجن ربما خطأ..
أحدهم اعترف علي بأشياء لا علم لي بها، ليخلص نفسه من التعذيب الرهيب، وهو أمر كثيراً ما يحدث في السجون ولكن من يصحح الخطأ!؟
من يقدر أن يغير آراء المحقق؟!
فحين يتعرض (أمن) الدولة للخطر، فإن التنكيل بالمواطن يصبح مباحاً، وجرائم المحققين والجلادين تغدو مغتفرة.
المهم أني تركت أمي وإخوتي وخطيبتي وأصدقائي وبيتي وجامعتي وذهبت في رحلة قهرية إلى المجهول، استمرت سنة كاملة (1979-1980)، عرفت فيها أن هناك ما هو أقسى من الموت ألف مرة، رغم أن الجماعة، وللأمانة أقول ذلك، قد استضافوني تلك السنة مجاناً، فلم يأخذوا مني قرشاً واحداً مقابل الطعام والشراب والإقامة، كم أنهم سددوا من حسابهم أتعاب المحققين والجلادين والحراس وأجور الذين اعتقلوني وأتعاب القضاة والمدعي العام والمحامين الذين انتدبوهم للدفاع عني لهدف واحد نبيل هو إيصالي إلى النهاية المحتومة للكائن البشري... لكن الله سلَّم.
المهم أني رأيت في السجون معتقلين من كل نوع... من الإخوان، والمتعاطفين معهم، والرهائن، والذين جيء بهم خطأ، وغيرهم...
كانت لكل واحد حكاية ورواية، تختلط فيها المأساة بالملهاة بالدراما...مشاهد لا يمكن أن أنساها مهما حاولت ذلك...مشاهد محبوسة في صدري كما حُبستُ في سجون الأمن، تطالب بإطلاق سراحها، ولأني بطبعي رقيق القلب، فقد قررت إطلاق سراحها وإراحة ضميري... أما أنا فمجرد شاهد.
الحلقة الأولى:
لا تضيع مستقبلك
الشيخ محمود مؤذن جامع زكي باشا في حي الإسماعيلية في مدينة حلب، عجوز على مشارف السبعين من عمره، نحيف أشيب، هادئ، متواضع، طبعت المهنة على وجهه ملامح إيمان فطري عميق.
سأله المحقق بعد عشرة أيام من الاعتقال:
أخبرنا، من الذي دخل المسجد، ونادى في مكبر الصوت:
الفاتحة، إلى أرواح الشهداء!؟
- يا سيدي، علمي علمك، لو كنت أعلم لـ...
- أنت تعلم بالتأكيد.
- الله وحده...
- وتريد إخفاء الأمر عنا.
- أعوذ بالله.
- أنت متعاطف.
- يا سيدي...
- ومتواطئ.
- مع من؟
- مع المجرمين.
- أعوذ بالله.
- اعترف، ولا تضيّع مستقبلك.
- أنا رجل في السبعين.
- ولكن روحك جهادية.
- يا ليتها كانت كذلك.
- ماذا قلت!؟
- أين أنا من الجهاد؟
- مع إخوان الشياطين؟
- لا أعرف من الإخوان غير اسمهم.
- والشاب الذي أذّن في المسجد!؟
- لا أعرفه.
- كيف دخل غرفة الأذان؟
- لقد أذّنت لصلاة العصر، ثم ذهبت فتوضأت، وعُدت لأصلي السُّنَّة، وفي هذه الأثناء، دخل ذلك العفريت وفعل فعلته.
- أنت متفق معه على ذلك.
- أستغفر الله.
- كيف دخل غرفة الأذان؟.
- كان الباب مفتوحاً.
- لماذا تركت باب الغرفة مفتوحاً؟
- إنها عادتي منذ أربعين سنة.
- منذ أربعين سنة وأنت تهمل واجبك!؟
- أي واجب يا سيدي؟
- إقفال الغرفة بعد الأذان؟
- سأقفلها بعد الآن.
- الآن وقد وقعت الواقعة، لن يفيدك وعد كهذا.
- لم أكن أعلم بأن ذلك كان الممكن أن يحصل.
- كان عليك أن تعمل حساباً لكل شيء.
- لقد أخطأت ومنكم السماح.
- لا جريمة بغير عقاب.
- الأمر لله.
- الأمر لنا.
وقال الحاج محمود في الزنزانة: المسلم مبتلى، والأمر لله، ولكن الذي يحزّ في نفسي أنهم اعتقلوني في اليوم نفسه الذي كان موعد زفاف صغرى بناتي، ولا أدري ما حدث لها... وأنا حزين من أجلها، وليس من أجلي.
بعد أكثر من أسبوعين نادوه، ففرح بالإفراج، وكان واثقاً منه، لأنه لا يوجد ما يستدعي بقاءه في السجن ساعة واحدة. ولكن أحد السجانين همس في المساء: الحاج محمود أصبح في سجن المسلمية.
تعلموا الصبر
عدنان شيخوني مدرس لغة عربية، متوسط الطول، عريض المنكبين، ضخم الجسم من غير ترهل، قوي البنية، كأن جسده منحوت من الفولاذ. وهو جندي مثلما هو قائد. ولكنه كان في التحقيق أسطورة.
تلقى الضرب على قدميه بالخيزرانات يوماً كاملاً، وعدد الخيزرانات التي تكسرت على قدميه غير معروف، وخلال تعذيبه جاؤوا بزوجته وأطفاله وأخيه ليضغطوا عليه. قال المحقق أليف لزوجته: انصحي زوجك بأن يعترف.
ردّت الزوجة بهدوء أعصاب زلزل أليف: زوجي معلم، وهو طوال عمره يعلم الناس ماذا يقولون، فماذا أقول له!؟.
ولما يئس منها، انطلق إلى أبنائه... فأوقفهم أمام الأب المدمى كليث جريح، وقال لهم: انصحوا أباكم أن يعترف ويعود إليكم فبكى الأولاد جميعاً، فاقترب منهم الأب، وجثا على ركبتيه أمام أكبر أبنائه خالد، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره وقال:
لا تبكوا يا أولادي، وتعلموا الصبر، ألم أحدثكم عن بلال وعمار وخباب وكيف كان المشركون يعذبونهم وهم صابرون!؟
وجن جنون شيخو، وصاح: أنحن كافرون!؟
وصرخ أليف: أتعمل بطلاً هنا!؟ أخرجوهم. واستمر التعذيب.
وطيلة عشر ساعات كان السجناء يسمعون أصوات العصي والجلادين، من غير أن يصحبها صراخ وعويل وتوسلات. أما الذين هم في زنزانة قريبة من قبو التعذيب، فكانوا يسمعون بين حين وآخر، صوتاً هامساً: أحد... أحد... يا رب... يا الله .
وقال أحد السجناء: أنا لا أصدق ما يجري، هذا الرجل ليس من البشر، إنه إما ملك، وإما حجر. وأخيراً بدا اليأس في ملامح أليف، والإرهاق والنقمة في وجوه السجانين، وقال أليف: اتركوه، كفى، فنحن نسلخ شاة مذبوحة.
وفي جوف الليل نقلوه إلى العاصمة، وهناك لبث خمسة عشر يوماً يخرج فيها إلى دورة المياه زحفاً على كفّيه وركبتيه، لأن جلد قدميه كان قد تلاشى تماماً.
وكنت مرة أتحدث مع صديق حوله، فقلت:
إن أبا خالد سجين مثالي.
- فعلاً.
- وثباته في التعذيب أقرب ما يكون إلى أسطورة مسرفة في الخيال.
- حقاً.
ثم تملكني استغراب شديد حين سمعت الأخ يعقب:
ولكنه اعترف في النهاية.
- غير ممكن!؟
- هذه هي الحقيقة.
قلت كمن تذكر شيئاً ذا أهمية: بعدما بردت جروحه.
فقال الصديق: بالضبط، فحين وصل إلى العاصمة، أدخلوه مكتب النقيب تركي، فقال: لو ضربتموني عصا واحدة فسوف أموت. هات أمض لك بالعشرة على ما تريد.
ولما لقيت أبا خالد في السجن سألته عن حقيقة الأمر فقال:
ذلك صحيح.
وتابع وهو يبتسم: كلنا اعترفنا، بشكل أو بآخر...ولما رآني ارمقه باستغراب، تابع:
ليست القضية هي أن نعترف أو لا نعترف، وإنما المهم هو ألا تسقط الدعوة من قلوبنا.
الشبح المتكسر
وقف عبد السلام - وهو شاب في العشرين من عمره، طويل القامة، مشدود البنية – أمام المحقق مشدوهاً كالأبله، حين قال له:
- اعترف، فلا فائدة من الإنكار.
- بماذا أعترف يا سيدي!؟
- بأنك من جماعة التنظيم المسلح.
- ما هو التنظيم المسلح يا سيدي!؟
اشتعل الغضب في عيني المحقق وصوته وصرخ:
لا تتغابَ علينا يا كلب.
- صدقني يا سيدي...
- ما علاقتك بأبي محمد؟!
- جاءني به ابن عمي على أنه ضيف من حماة، ونام عندي ليلة واحدة فقط، وفي اليوم التالي مضى، ولم أره بعد ذلك اليوم.
- أنت كذاب...
- أقسم بالله أني قلت الحقيقة يا سيدي
- الرفق لا يجدي معك.
وبعد يومين من التعذيب بالفلق والكهرباء والدولاب والسبّ والشتم والجوع قال لهم: حسناً يا سيدي، أنا من التنظيم المسلح.
ابتسم المحقق منتشياً، وقال: لا أحد يدخل هذا القبو ويخرج منه من غير أن يعترف... هيا اذكر لنا متى تمَّ تنظيمك، ومن هي المجموعات التي كنت فيها، وأسماء من تعرف، والعمليات التي قمت بها. - يا سيدي... أقسم بالله أني بريء.
- عذّبوه.
واستمر التعذيب، حتى اعترف الشاب بما يريدون، ما عدا العمليات. وقال المحقق: والعمليات!؟
- يا سيدي أنا لم أقم بأي عملية، ولا أعرف شيئاً عن هذه الأمور، ولا أعرف اسم أحد جرى اغتياله، وإلا كنت ذكرت ذلك، واعترفت عليه.
وعادوا إلى تعذيبه، وحاول الخروج من المأزق، فلم يستطع، وحاول أن يتذكر عملية اغتيال في مكان ما ينسبها إلى نفسه، وأخيراً اهتدى إلى أمر... تذكر شيئاً غامضاً، فأمسك بخيط النجاة، وقال: سأعترف.
- قل.
- لقد قمت بعملية اغتيال في المنشية.
- متى!؟
- منذ عدة شهور... لا أذكر التاريخ بالضبط.
- من اغتلت فيها!؟
طبيباً،.. بل صيدلانياً،.. لا أذكر تماماً يا سيدي، فقد كنت مهتماً بالتنفيذ، ولم أسأل الرجل عن مهنته. - أتعبث بنا!؟
- أعوذ بالله يا سيدي، وأقسم بالله أنني قتلته بيدي.
وصمت المحقق قليلاً، ثم قال:
إنه طبيب الأسنان الدكتور يوسف.
- نعم يا سيدي.
- ولكن عيادته في التّلل، وليس في المنشية؟
- إنهما منطقتان متلاصقتان، وأنا لا أميز بينهما.
هز المحقق رأسه بثقة واطمئنان، وقال:
اكتب، اكتب.
- ماذا أكتب يا سيدي!؟
- ملابسات العملية، توقيتها، التخطيط لها، تنفيذها.
- ارحموني يا سيدي.
- اكتب.
وأحس عبد السلام بالدنيا سوداء داكنة، وبأنه يخرج من مأزق إلى مأزق، فارتسمت في وجهه كآبة قاسية.
وجلس يكتب عن عملية لا يعرف عنها شيئاً. وقرأ المحقق التقرير فلم يعجبه، وقال له: ليست هذه هي الخطة المعقولة الممكنة، وهناك أخطاء فيها، فأنت تقول إن الاغتيال تم صباحاً، بينما هو في المساء، وأن العيادة في الدور الأول بينما هي في الدور الثالث، وتقول بأنك دخلت حجرة الطبيب المواجهة للمدخل بعد دخولك الصالة، بينما حجرة الطبيب تقع إلى اليسار، وتذكر بأن الطبيب متوسط الطول بينما هو طويل.
فقال السجين: هذه أشياء بسيطة يا سيدي، نستطيع تصحيحها.
- إن هذه الأخطاء الواردة في التقرير تجعلنا نشك في صحة كلامك.
- سيدي، صدقني بأني بريء.
- عذبوه.
- لا يا سيدي الأمر كما قلت، أنا القاتل، ولكني نسيت بعض التفصيلات مع مرور الزمن، ولأني لم أدخل العيادة سوى مرة واحدة، وكنت حينها في وضع لا يسمح لي بالاهتمام بالتفصيلات.
واستمر التعذيب، فاعترف بعملية اغتيال ثانية، رسم لها الخطة بتفصيلاتها المقنعة المطلوبة.
في ذلك الوقت، رأى رئيس الفرع المقدم علي سعد الدين استدعاء المحافظ، الذي كان يصر على تهدئة الوضع، والقيام بدور وسيط مقبول بين العلماء الذين يضغطون عليه، والسلطة. وجاؤوا بالسجين عبد السلام أمام المحافظ شبحاً متكسراً، فقال رئيس الفرع: هؤلاء هم المجرمون يا سيدي، وهذا واحد منهم، وقد اعترف بعملتي اغتيال نفذهما بيده.
حينها تهاوى السجين، وارتمى يقبّل الأرض بين قدمي المحافظ، وهو يقول: بريء يا سيدي... والله العظيم بريء... لا أعرف شيئاً، ولم أقتل أحداً، ولم أنتسب إلى تنظيم في حياتي، وكل ما أمامك هو اعترافات أخذتُ معلوماتها منهم، ورسمت الخطط... بل رسموها هم يا سيدي. وأجهش بالبكاء.
ونظر المحافظ إلى السجين، فرآه شاباً طويلاً، يوحي قوامه ببنية جبّارة، ورأى في ملامحه صدقاً وبساطة، فخرج دون أن يقول شيئاً. .. يتبع..
الشقيقان
حين دخل عبد الحكيم جلال السجن، كان شقيقه الأكبر جلال الدين قد سبقه إليه بأيام، وكان جلال في الزنزانة المنفردة رقم (5)، وعبد الحكيم في الحمّام…. أراد عبد الحكيم أن يعرف سبب اعتقاله، والاتصال بأي سجين مستحيل، فراح يتلو بعضّاً من آيات القرآن بصوت مرتفع قليلاً يسمعه أخوه، حتى وصل إلى قوله تعالى (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا)، وراح يكررها أكثر من مرة، واستمر في التلاوة، وفهم جلال رسالة شقيقه، وكان صاحب صوت شجي، ومن عادته أن يترنم ببعض الأناشيد، فراح يردد قصيدة ضمنها بيتاً من عنده، لا وزن له، ولكنه من خلال الأداء المتقن بدا وكأنه بيت من صلب القصيدة، قال فيه:
ويا رب أمر جاء بسبب هوية
- فإن كنت لا تدري معنى الهوى فاعلمِ
فعلم عبد الحكيم أن سبب اعتقاله هو ضبط هويته في متاع أحد المطلوبين، فاستطاع تنظيم معلوماته، وتقليص حجم اعترافه.
وفي سجن كفر سوسة، كان الأخوان في المهجع الثاني مع مجموع من السجناء، وكان في المهجع الأول مجموعة من الشيوعيين حل محلهم مجموعة من الإخوان، وكان الاتصال ضرورياً وممنوعاً، ففوجئنا بعبد الحكيم محمولاً على أكتاف جلال، وهو يحفر في أعلى جدار المطبخ ثقباً بوسائل غير مجدية ورحنا نبتسم يائسين من محاولة فاشلة، ولم يأت المساء حتى كان الشقيقان قد نجحا في إحداث ثقب صغير، وأدخل عبد الحكيم في الثقب خرطوم ماء، ثم أدخل طرفه في كأس من البلاستيك ثقبها بالإحماء على النار، وأصبح بيننا وبين المهجع الأول جهاز هاتف مضحك ممتاز يظل مشغولاً طوال النهار.
كان جلال أسطورة في الصبر على التعذيب، والتمثيل على المحققين، وكان عبد الحكيم أول سجين بيننا يحفظ القرآن الكريم.
المرح اللذيذ
عبد القادر ناصر كان عالماً من الفكاهة اللذيذة والمرح الفطري، وأحد الواحات الكبرى في صحارى الزنازن القاسية، واستطاع بطيب شمائله أن يحظى بمحبة السجناء جميعاً.
لم ينجه من التعذيب كون ابن عمه وزيراً للداخلية، فكان يصرخ ويتوسل دون أن يكترث له أحد. وصرخ ذات مرة:
- إكراماً لله.
فلم يتوقف التعذيب.
- إكراماً للرسول.
فلم يتوقفوا
واستنفر مواهبه في الدعابة والتمثيل، وصرخ من قرارة عذابه:
- إكراماً لشوارب شيخو.
فتوقفوا بأمر من أليف، الذي سأله:
لماذا شوارب شيخو!؟
- يا سيدي، استجرت بالله فلم تستجيبوا، وبالرسول فلم تصغوا، فقلت في نفسي: لم يبق إلا شوارب شيخو.
ضحك أليف، وتبعه الجلادون، ثم قال:
- لماذا شوارب شيخو لا غيرها!؟
- لأنها أكبر شوارب في الدنيا.
ضحك أليف وقال: دعوه الآن.
وفي حفلة تعذيب أخرى كانوا يلسعونه بالكهرباء، وهو عار، فوضعوا له الأسلاك في المكان الذي يفضلونه عادة، فراح يصرخ: آخ ... آخ ... دعوه، فليس عندي غيره.
فضحك أليف وقال: وأينا يملك اثنين منه؟ ثم أمرهم بالكف عنه.
كان عبد القادر صاحب صوت شجي ندي، وعضوّاً في أشهر فرقة إنشادية عرفها النشيد الإسلامي، وكان نشيده في السجن شعاعاً يحلق بالسجناء في آفاق بعيدة، وقد حفظ القرآن في بضعة شهور، وكان السجناء يداعبونه فيقولون:
- لماذا كانوا يختارون ذلك الموضع للكهرباء ؟ فيجيب بداهة: من أجل قضايا التحرر الوطني. ويسألونه: وماذا عن دس العصا في القفا؟! فيقول: إنها رسالة الحزب القائد.
مجند .. ثابت المبدأ
كان محمود فلاحة يؤدي الخدمة الإلزامية في أمن الدولة، فرزوه ذات يوم إلى السجن، فكان يقوم بتوزيع الطعام على السجناء، وكان شكله المطمئن الوديع، يوحي بأنه غريب عن عالم السجانين. ذات مرة، وفي موعد صلاة الجمعة، كان المحقق أليف يحقق مع أحد السجناء، وكان الجلادان شيخو وأبو قدور في صلاة الجمعة، فاحتاج المحقق إلى خدمات محمود، فأعطاه العصا وأمره بضرب السجين المطروح في الفلق. فرفض، فأمره بمسك أحد طرفي الفلق فرفض ثانية. فقال له: ألست رجلاً؟
- بلى يا سيدي.
- إذن، اضرب، أو أمسك الفلق.
وفوجئ المحقق بعنصره يرد عليه بوقاحة متناهية:
أنا مجند، ولست جلاداً.
امتلأ صدره غضباً، وهز رأسه قائلاً: طيب!
بعد ساعة كان العنصر محمود يتعرض لفلقة ساخنة. كنا نسمع مع صوت العصا صراخه وضحكات السجانين. وكنت خارجاً إلى دورة المياه، حين رأيته مقلوب السحنة، قذر الثياب، يدوس على حافتي حذائه، بعدما تورمت قدماه فما عاد يتسع لهما الحذاء، كان يمشي بصعوبة كبيرة تجاه باب السجن. ومنذ ذلك الوقت، لم نعد نراه في السجن.
الحزبي العريق
كانوا أحد عشر سجيناً، يقطنون حي كرم ميسر، أصلهم من قرية تادف، تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشر والستين، وكنا نسميهم جماعة النقيب.
وكان أغلب هؤلاء من طبقة العمال، يتخذون من أحد دكاكين الحي ما يشبه المقهى، حيث يجلسون في فسحة أمام الدكان بعد عودتهم من أعمالهم، فيتحدثون عن شئونهم ومتاعبهم وآمالهم وذكرياتهم.
وفي الليلة التالية للعملية التي نفذها النقيب إبراهيم اليوسف، وقفت سيارة الأمن أمام ذلك الدكان المقهى، ونزل عنصر فسأل: هل فيكم من يعرف النقيب إبراهيم اليوسف!؟
لم يكن أولئك البسطاء يعلمون شيئاً عن العملية، إذ كان كل ما يعرفونه هو أن النقيب ضابط كبير، وحزبي عريق، وأن معرفته شرف يرفع هام الرجال، لذلك صاحوا كرجل واحد: كلنا نعرفه. وتطوع كبيرهم فأضاف: إنه ابن قريتنا، وابن حينا، وصاحبنا، وما من رجل فينا لا يعرفه. فقال العنصر: تفضلوا معنا.
- إلى أين!؟
- خمس دقائق.
- ألا نخبر أهلنا!؟
- لا داعي لذلك.
- طيب، نغير ملابسنا على الأقل.
- ليس ضرورياً.
- ولكن السيارة لا تتسع لنا جميعاً.
- يتحمل بعضكم بعضاً، فالمشوار قصير.
وراحوا يندسون في السيارة كالدجاج، فرآهم مختار الحي من بعيد، فأسرع نحوهم مرحبا بهم، وقال: خير إن شاء الله يا شباب!؟ ما الحكاية!؟
فقال العنصر: أتعرف النقيب إبراهيم اليوسف!؟
- إنه حبيبي، وابن صاحبي، وأنا المختار، فكيف لا أعرفه!؟
- تفضل معنا.
- إلى أين؟
- خمس دقائق.
- أمرك، نحن في خدمة الوطن.
وفي الزنزانة رقم (3) جلسوا أسبوعين، بلا تحقيق، ولا استجواب ... كان المكان مزدحماً، والجو خانقاً، وروائح العرق والأنفاس والنتن والقذارة والغازات المنفلتة من الأفواه ومن أماكن أخرى تجعل الحياة غير محتملة، وعند النوم تبدأ جوقة العجائز بعزف سيمفونية الشخير... كان المختار أكثرهم ضجراً وتأففاً.
ومن غور تذمرهم، كانوا يرددون دعابة وحيدة مع المختار فيقول أحدهم: الحق عليك يا مختار، لماذا تدس أنفك في الموضوع، وأنت ترانا نركب السيارة!؟
فيجيب بنزق: لأنني حمار، ولست بمختار.
فتنفلت ضحكات حسيبة.
وأخيراً استدعوهم للتحقيق الواحد تلو الآخر، وحيث لم يكن هناك ما يدينهم فقد أمروهم بتجهيز أنفسهم. وكان وداع حار، ودعاء، برغم عدم وجود معرفة سابقة بينهم وبين باقي السجناء، وانصرفوا. في اليوم التالي سألت سجاناً آنس فيه شيئاً من آدمية: لقد أفرجوا عنهم البارحة، أليس كذلك!؟ أجاب وهو يرمقني بطرف عينه: لقد أخذوهم إلى سجن المسلمية.
الطفل كبير الشاربين
كان السجان إبراهيم ولداً أزعر، قوي الجسم، كبير الشاربين، لا يكف عن الاستعراض السينمائي وتقمص أدوار أبطال أفلام الكابوي والكاراتيه... يتقن مهنته كأي جلاد لا قلب له، يشتم المقدسات بالاستهانة نفسها التي ينكش فيها أنفه، وينبري للتعذيب بلا رحمة.
فاجأني مرة بإيقاظي لصلاة الفجر، وكان ذلك ممنوعاً، وسمعته يقرأ حينها في القرآن فيطيل القراءة. وجاءني مرة ثانية إلى المطبخ وأنا أنظف الأواني، وكان معه السجان عبود، فجعلا يعتذران إلي في خفية عن الآخرين. قال إبراهيم:
أرجو أن تسامحنا يا عمر، فنحن نضربك مكرهين. وقال عبود: صدقني أن كل عصا أضربك إياها تنزل على قلبي قبل أن تمس جسمك. وعاد إبراهيم يقول: عبود ولد متدين، وجده شيخ طريقة.
فقلت ببرود: إذا كان هذا هو عذاب الدنيا، فكيف يكون عذاب الآخرة.
فغمز إبراهيم عبوداً بعينه، وقال لنذهب.
وعلى الرغم من أن السجن مسخ إبراهيم إلى كائن آخر، إلا أنه كان في أوقات صفائه، وهي أوقات نادرة جداً، كان يعرب لي عن ود صادق... ويوم نقلونا إلى العاصمة، وقف يودعني، ويعتذر كطفل مذنب في حضرة أبيه، وكان في عينيه غشاوة، تكاد تنقلب إلى دموع. وكان آخر ما سمعته منه:
سامحني، سامحني يا عمر. لقد ظلمناك كثيراً.
الطلاسم المبهمة
كانوا خمسة طلاب في الجامعة، ينتمون إلى قطر مجاور، جاءوا إلى هنا للدراسة... لم يعرف الحلاق إلى رؤوسهم أو لحاهم سبيلاً، وهذا ما أعطاهم شكلاً غريباً زاد من غربتهم، لم يصلوا معنا جماعة، إلا إذا كان أحدهم إماماً، فصرنا نقدمهم للإمامة، رغم اعتراض بعض السجناء، وكانوا أشبه بالطلاسم المبهمة، لا يكلمون أحداً في أمر ذي بال. إلا أن أحد السجناء قال: هؤلاء من جماعة الهجرة والتكفير.
وشعر أحدهم مرة بضيق شديد، فأراد الخروج إلى دورة المياه في غير الموعد، ودق باب الزنزانة، فجاءه سجان، ورفض السماح له بالخروج، وكرر السجين المحاولة أكثر من مرة بلا جدوى، فراح يذهب إلى الزوايا، ويعصر، وتتقلص عضلات وجهه، ويرسل التنهدات والآهات بلا فائدة، والسجناء يرمقونه بعجز ورثاء، فليس هناك حيلة، وهو يذهب ويعود. وأخيراً قال سجين: هات قارورة الماء التي معك، نشربها، ثم اذهب إلى الزاوية وافعل ما تشاء.
أحسَّ بحرج شديد، ولكنه لم يجد بداً من سلوك المخرج الوحيد.وعند موعد الخروج لمحه السجان محمد أخرس، ولاحظ بأنه يحاول إخفاء شيء، فأوقفه ونظر وقال: ما هذا!؟ اشربه... هيا اشربه.
واحتار الشاب، فلا هو قادر على رفض الأمر، ولا هو قادر على تنفيذه. ولم أجد بداً من التدخل، فرجوت السجان الصفح، وألححت بالرجاء مشيداً بنخوته ومروءته وأصله وفصله حتى كف عن الشاب، ولكنه قال متوعداً: أقسم بالله العظيم، لو فعلتها ثانية لأرغمنك على شربها.
المتواطئ
دخلا السجن، وهما شقيقان، رهينتين بين جماعة من الرهائن، وكان المطلوب صهرهما.
وقف الأخ الأصغر في التحقيق بعد ساعة من التعذيب الشديد، وسأله المحقق أليف: أين يختبئ صهرك؟
- لا أدري.
- كذاب.
- يا سيدي لو أنني...
- متواطئ.
- أقسم لك بكل شيء.
- لن أصدقك.
وتابع أليف بقسوة: كان أقل ما يمكن أن تفعله، هو أن تخبرنا بالجريمة قبل وقوعها.
- وكيف لي أن أعلم بها !؟
- لا بد أنه أخبرك.
- يا سيدي، أرجوك، أنا بائع متجول على العربة، رجل أمي وهو نقيب، الفرق بيني وبينه كبير، ولم يكن يخبرني بأموره العادية، فكيف يحدثني بأسرار عمل خطير كالذي فعله.
- كلكم مجرمون، ولن تخرج من السجن قبل أن نعتقله.
- وما ذنبي أنا يا سيدي !؟
- اخرس.
بينما كان الأخ الأكبر ينشج وحيداً في المنفردة رقم (7)، ويكرر عبارة واحدة لا يتعداها، يناجي فيها طفله الصغير: "إبراهيم، يا حبيبي، من الذي سيأتيك ببنطلون الجينز!؟ تريد (كازوزة).... يا حبيبي يا إبراهيم، من الذي سيأتيك بالكازوزة!؟ يا حبيبي..."
ثم يغرق في البكاء، وما إن يسترد أنفاسه حتى يعود إلى جملته ينغمها بصوت ممطوط حزين ألف مرة كل يوم... وقد ظل دؤوباً على عمله عشرة أيام، حتى بدأنا نضيق بنداءاته، ونشعر نحوها بالاشمئزاز والرثاء معاً. وكان صوته آخر ما سمعته في سجن أمن الدولة، قبل نقلنا إلى سجون العاصمة.
تشابه أسماء
محمد علي الزعبي شاب لبناني دون العشرين من عمره، كان قادما من ألمانيا بسيارة مرسيدس للتجارة، اتصل بأهله من تركيا بالهاتف وأخبرهم بأنه سيصل بعد يومين. ولما وصل إلى نقطة حدود باب الهوا أوقفوه، وقالوا له: محمد علي الزعبي!؟
أنت مطلوب.
- لماذا!؟
- ستعرف فيما بعد.
- يا سيدي، إنني ...
- هناك تقول ما تريد.
- أين!؟
- ستعرف بعد قليل.
ووضعوا في يديه القيد، فقال: والسيارة!؟
- نقودها نحن.
- ولكن...
- اخرس.
وفي الطريق تعرضت السيارة لصدمة أمام عينيه، فاعترض، فسخروا منه وزجروه وهددوه بذبحه ومصادرتها. فسكت.
وجلس في أمن الدولة عشرة أيام دون تحقيق. كان يطلب من السجانين مقابلة المحقق فيلقى الإهمال أو الزجر، وكرر المحاولة حتى يئس، وجلس يبكي حيناً، ويعلن عن سخطه أحياناً، ويسب البلد ومن يَعْبر به بعد الآن، وطلب أن يسمحوا له بالاتصال بأهله، أو يتصلوا هم، فسخروا منه، فلم يجد بُداً من الاستسلام. وأخيّراً استدعوه للتحقيق، فانفرجت أساريره، وسأله أليف، وهو ينظر في وجه المحقق أبي مغير، الذي فتح أمامه ملفاً كبيراً: اسمك!؟
- محمد علي الزعبي.
هز أبو مغير رأسه بمعنى: الاسم مطابق. - عمرك!؟
- 18 عاماً.
قال أبو مغير: 60 سنة
- أمك!؟
- زهراء.
قال أبو مغير: سامية.
ابتسم أليف قائلاً: الاسم وحده مطابق، ولكن الشخص مختلف، ثم التفت إلى الفتى قائلاًً: هذه إجراءات ضرورية، نريد منك أن تتفهمها بصدر رحب.
- حاضر سيدي.
- وإياك ثم إياك أن تنبس بكلمة واحدة عما رأيت هنا، وأنت تعرف بأننا نستطيع اعتقالك من بلدك. - مفهوم.
- ماذا رأيت هنا!؟
- أحسن معاملة.
- أحسنت.
وأعطوه سيارته المشوهة، فانطلق بها صوب الحدود وهو لا يلوي على شيء.
المواطن الشريف
كان رجلا قد تجاوز الستين، يعمل بوابّاً في مدرسة ثانوية، ضخم كالفيل، مترهل الجسم، لا يكف عن إطلاق الغازات من كل مكان وفي كل وقت واتجاه، دون أن يبدو عليه حرج أو اعتذار لما يحدثه ذلك من ردود فعل متباينة بين السجناء، تتراوح بين القرف والرثاء، وكان رجلاً ثرثاراً، نزقاً، كليل الذهن، معجباً بنفسه، مما جعل بعض السجناء ينفرون منه...
مكث في السجن أسبوعاً، ثم بدأ التحقيق معه، حيث سأله المحقق الرائد أليف: كيف تجعل من بيتك مخبأ لأحد أفراد العصابة؟
- أي عصابة يا سيدي؟
- إخوان الشياطين.
- أنا لا أعرفهم.
- ولكن أحدهم كان مختبئاً في بيتك.
- إنه بيت ابني، لعنة الله عليه.
- بيت ابنك مثل بيتك.
- كيف يكون ذلك يا سيدي!؟ إن ابني قد تخاصم معي منذ أربع سنوات، ورضي أن يكون عبداً لزوجته وأهلها، وهو مسافر منذ ذلك الوقت للعمل خارج القطر، وليس بيني وبينه صلة أو علاقة أو رسالة، لعنة الله عليه، لقد أساء إلي بهذا الموقف، وحط من قدري الاجتماعي، ماذا سيقول عني الناس، إنني يا سيدي...
فقاطعه أليف قائلاً: كيف دخل المجرم بيت ابنك؟
- إن المفتاح يا سيدي موجود عند أهل زوجته، والخيانة صدرت من هناك.
- ألم تكن تتفقد البيت بين حين وآخر!؟
- لا يا سيدي.
- هذا تقصير منك، وربما نعتبره تواطؤاً.
- منكم السماح يا سيدي.
- إذا سامحنا كل مقصر، أتدري ما الذي يحصل يا محترم!؟
- الراحمون يرحمهم الله.
- ستخرب الدولة.
- أعوذ بالله.
- لذلك، اذهب الآن إلى الزنزانة وفكر، فلا بد من أن أحد الجيران لاحظ حركة غير عادية، أو شخصاً غريباً يتردد على البيت، وأنه أخبرك بذلك، أنت رجل عجوز، فحاول أن تتذكر على مهلك.
- يا سيدي، صدقني بأنني مواطن شريف، أخدم الدولة منذ أربعين سنة أو أكثر، وأحب السيد الرئيس حفظه الله، وأدام عزه، وكبت أعداءه و....
- لن تخرج من السجن قبل أن تعترف.
- أمرك يا سيدي.
وجلس في الزنزانة يفكر في أمره متذمراً، وهو يطلق الغازات، ثم يثرثر بكلام متداخل، يسب الظروف ويمدح الحكومة. وبعد يومين فاجأني باقتراح غريب حين قال لي على انفراد:
صهري، زوج ابنتي ضابط في المرور، لعين هو الآخر، عليه لعنة الله، وهو يعمل في جبهة واحدة مع ابنتي ضدي، وأنا أمقته منذ زمن، وصدري مليء منه بالغيظ نحوه والحقد عليه، فلماذا لا آتي به إلى هنا، يقومون له بالواجب، ويمسحون بكرامته الأرض، ويشفون منه غليلي، آه، ابن الكلب ذاك... سأعترف عليه وأخلص نفسي.
ولم أصدق ما سمعت، فقلت له: لا يا عم أبا محمد، أنت رجل شهم محترم، وهذا العمل لا يجوز، فقد يدخل الرجل إلى هنا ظلماً ولا يخرج بعدها أبداً، فتحطم حياة ابنتك، وتودي بإنسان بريء، وأنت رجل يبدو عليك الخوف من الله، والحرص على سمعتك.
وبقيت طويلاً وأنا أحاول تهدئته، وثنيه عن عزمه، حتى وعدني بإلغاء الفكرة من رأسه. وفي اليوم التالي طلب من السجان مقابلة الضابط، فقال له هذا الأخير: إيه هل تذكرت شيئاً يا عم!؟ - نعم يا سيدي.
انفرجت أسارير المحقق، وقال: تكلم.
- لقد لاحظت يا سيدي حركة غريبة حول البيت، وأنا رجل كبير في السن، فأخبرت صهري، زوج ابنتي بذلك على اعتبار أنه ابن الدولة، ولكنه لم يعبأ بكلامي، وقال لي: أنت رجل خرف.
- ماذا يعمل صهرك!؟
- ضابط في المرور.
- ما اسمه!؟
وجاءوا بالرجل فوقف أمام أليف، وهو يرتدي بدلة الشرطة، وعلى كتفه ثلاث نجوم. فقال له أليف: كيف تهمل واجبك الوطني يا حضرة النقيب!؟
- أي واجب يا سيدي!؟
- لقد جاءك عمك أبو محمد، وشكا إليك من حركة غريبة لاحظها على بيت ابنه، وكان البيت قد تحول إلى وكر للعصابة، ولكنك لم تلتفت إليه، بل سخرت منه!؟
- إنني أسمع هذا الكلام لأول مرة يا سيدي، ولا أعرف كلمة واحدة من هذه القصة، فأنا لم أر عمي الكريم هذا منذ عدة أشهر، وهو لا يزورنا، إنه كثير الخصام مع من حوله، خاصم ابنه، وابنته، وهو حاقد علي لا لذنب اقترفته معه، ولكن لقلة مداركه، إنه رجل خرف يا سيدي، هذه حقيقة مرة، ولكني مضطر لذكرها.
- أنت تكذب.
- حسناً، دعني أقابله، دعه يذكر متى جاءني وأين!؟ ليأت بشاهد واحد على ما قال. هذه وقيعة.
- ألن تعترف!؟
- يا سيدي، أرجوك أن تفهمني.
وفي لحظة كان الرجل مطروحاً على الأرض، ورجلاه في الفلق، والعصا تهوي فوقهما. وبصق إبراهيم في وجه الضابط، ومرغ شيخو النجوم الثلاث بحذائه.
وبينما كان الضابط يحاول تسوية هندامه الذي لم يعد له أثر، ويمشي بصعوبة بالغة كطفل صغير يحاول المشي لأول مرة، كان أبو محمد واقفاً على المغسلة، وحانت منه التفاتة، فرأى صهره في الحالة التي طالما تمناها طويلاً، وتلاقت العيون، وندت عن أبي محمد ابتسامة مفعمة بالهزء والشماتة والانتقام والتحدي.
اكتب اعترافاتك
محسن نائل بيطار صاحب مصنع الأبطال لتدريب الجودو والكراتيه وجمال الأجسام ورفع الأثقال، ومن أبطال القطر في الجمباز وسباحة الغطس. مدرس رياضة، لم يتجاوز الثلاثين إلا قليلا، طويل، أشقر، وسيم، أزرق العينين.
سأله أليف: لماذا حلقت لحيتك عند بدء الأحداث؟
- لأنني رأيت أصحاب اللحى مجرمين.
- بل لأنك شعرت بالعطب.
- وحسبت أنك تنجو بحلق لحيتك. أنت متورط.
- بماذا يا سيدي ؟
- مع العصابة.
- أعوذ بالله.
- أكثر من عشرة كلاب من أفراد العصابة تدربوا عندك.
- يا سيدي...
- لا تحاول إنكار شيء ثابت عليك.
- أنا لا أنكر.
- اكتب اعترافاتك.
- سيدي، أرجوك أن تفهمني، أنا صاحب ناد رياضي، بل صاحبه أبي، وعمر النادي أكثر من ثلاثين عاماً، وفي كل سنة يتدرب عندنا أكثر من مائتي شاب، فيهم المسلمون والنصارى والملحدون، النادي مفتوح للجميع. - ومنهم أفراد العصابة!
- كيف لي أن أعرف بأنهم من أفراد العصابة!؟ هل كان من الممكن أن يخبروني هم بذلك!؟
- هل أصبحت أنت المحقق!؟
- أعوذ بالله يا سيدي، لكني أحاول..
فقاطعه أليف قائلاً: هذه مشكلتك، كان عليك أن تكون أكثر وعياً.
- أعدك بذلك.
- طظ فيك وفي وعدك.
- أمرك سيدي.
- خذوه.
- وسألت المحقق أبا مغير عن حقيقة الأمر منتهزاً فرصة صفائه فقال: لقد صرح هذا المحترم بأن هؤلاء المجرمين تدربوا عنده.
- قلت: وهو لا ينكر ذلك.
ابتسم أبو مغير بخبث وقال: لقد ذكر ذلك في معرض الفخر.
وقلت للأستاذ محسن: إنها وشاية.
وجلس يفكر فلم يهتد إلى غريمه، وقال لي: كم تتوقع أن أبقى في السجن؟!.
فقلت: أنت بريء، ولن يطول مكثك أكثر من خمسة أيام.
وظل في السجن يتبرم ضجراً، ولما نقلوا بعض السجناء إلى العاصمة، وكنت بينهم، رفعوا القناع عن عيني بعد منتصف الطريق، وكنا راكبين في ميكرو باص، فالتفت إلى الخلف فأبصرته، وبينما تلقيت لسعة خيزران على رأسي جزاء فضولي، أشار لي الأستاذ محسن بأصابع كفه الخمس، يذكرني بما كنت توقعت له، وهو يبتسم من شدة الغيظ.
الحجر الأصم
النظر إلى الجلاد أبي قدور لا يختلف عن النظر إلى حجر أصم. فهو نادر في قسوته، حتى بين الجلادين. لا يعرف شيئاً عن الرحمة، ولا تعرف البسمة إلى وجهه سبيلاً.
جلف، صلف، ميت القلب والعقل والضمير، وكان إذا فتح باب زنزانة على سجين، انخلع قلبه، فإن كانت الزنزانة جماعية، فإن القلوب تنخلع جميعاً.
فتح علي كوة الزنزانة المنفردة رقم (7)، وكان الوقت قد جاوز منتصف الليل، والهدوء والصمت والسكون أشياء تخيم على السجن لساعات قليلة، فانخلع قلبي كالعادة، وهو يقول بصوته الجاف الشرس: قم.
نهضت من النوم مذعوراً، في أقل من ثانيتين كنت واقفاً أمامه وأنا كامل اليقظة والوعي والتركيز... بيني وبينه كوة صغيرة... لا ريب أنها حفلة تعذيب جديدة، لم أعد أطيق العذاب، ولكن أين المفر!؟ وفاجأني وهو يقول بصوت خفيض ورأس منكس: علمني دعاء.
- نعم!؟
- علمني دعاء، وليكن قصيراً، فأنا لا أستطيع الحفظ.
أحسست إحساساً عجيباً، إحساساً أشبه ما يكون بالصدمة... هل هذا معقول؟!
- تذكرت أقصر دعاء، وأشمله، فقلت:
قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني وارزقني.
قال: أهذا دعاء!؟
قلت: نعم، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يعلمه دعاء يشمل خيري الدنيا والآخرة، فعلمه هذا الدعاء.
- أعده مرة ثانية.
وكررت الدعاء مرات عديدة حتى استطاع أن يحفظ تلك الكلمات الخمس، ومضى وهو يدندن به مغتبطاً، وأنا واقف في ذهول.
نظرات التعجب والاستفهام
كان عثمان كردي شاباً في العشرين من العمر، قوي البنية، أسمر، توحي نظرته بغموض واضطراب، كثير التسخط، لا يستسلم إلا بعد أن يتعب من سخطه، ثم يستأنف من جديد.
لم يصلِّ معنا مرة واحدة، وسألته مرة : أأنت من الأكراد، أم مجرد لقب!؟
- أنا من الأكراد، من قرب عفرين.
- لماذا اعتقلوك!؟
- كانوا يحاصرون منطقة في الأنصاري، وأنا مار فيها، ولم يكن عندي هوية حين سألوني عنها.
- كيف لا تحمل هوية في مثل هذه الظروف؟
- ليس عندي هوية فأنا فار من الخدمة الإلزامية. وأظنهم سيرسلونني إلى الأمن العسكري.
وخلال الأيام القليلة التي قضيناها معّاً في الزنزانة الجماعية رقم (3) كان يتابعني بنظرات مليئة بالفضول والاستغراب، وأخيراً تشجع وقال لي: لمن تصلي!؟
- لله.
- هل الله موجود؟
- من الذي أوجدك وأوجد الناس، وخلق الأرض والسماء والنجوم والحيوان والنبات؟!
قال باستهجان: لماذا يتركك تتعذب هكذا!؟ ألست من الإخوان!؟
أطلقت زفرة عميقة، وقلت: بلى يا سيدي عثمان، أنا من الإخوان، ولكن الحياة ابتلاء بالخير والشر، بالغنى والفقر، بالصحة والمرض، بالقوة والضعف، بالعدل والظلم... كل إنسان له عقل يفكر به، ويختار طريقه، وأنا أحمد الله على أنني مظلوم ولست ظالماً، كما أن الإنسان...وقطع الحديث سجان فتح الباب وقال: إلى دورة المياه.
وحين عدنا طوي الحديث، ولكن نظراته ظلت تطاردني بالتعجب والاستفهام، وأحياناً كان ينزوي وحده، ويسبح في عالمه الخاص.
ولم يمض يومان حتى رأيته يقترب مني اقتراب مريد من شيخه، وهو يقول متودّداً: عمر.
- نعم.
- أريد أن تعلمني الصلاة.
عقيد مجرم، وشيخ راقص
في زنزانة منفردة، طولها دون المترين، وعرضها دون المتر، جلس خمسة أشخاص، بينهم ضابط برتبة عقيد، والشيخ محمد خير. وعند النوم كان يسند أربعة منهم ظهورهم إلى الجدار من جهة، ويرفعون أرجلهم على الجدار المقابل، وتحت أرجلهم كانوا يكرمون الشيخ بالنوم وسوقهم تغطيه، اعترافاً له بمكانته، وعطفاً على جروحه.
وبين الحين والآخر، كان يفتح كوّة الزنزانة سجان، ويسأل: من فيكم العقيد؟
- أنا.
- قم وكلمني واقفاً... ما هي رتبتك !؟
- عقيد.
- لعنة الله على أهلك... عقيد ومجرم !؟
- احترم نفسك.
- اخرس وإلا علمتك كيف يكون الأدب... ماذا تضع على كتفك يا... سيادة العقيد
- تكلم.
- نسراً ونجمتين.
- ماذا قلت !؟ فأراً وذبابتين !؟ اجلس، والله لأسلخن جلدك كالخروف يا ابن الفاعلة.
وفي الزنزانة المقابلة كان هناك عالم في الخمسين من عمره، فإذا فرغ السجان من العقيد انصرف إلى الشيخ، قائلا:
أفتنا يا فضيلة الشيخ، هل الخمر حرام !؟
- نعم ؟
- والزنا !؟
- حرام.
- عليك اللعنة، فما الحلال !؟ هيا غنّ لي أغنية.
- لا أعرف الغناء.
- غنّ وإلا ...
وحين تهتز الخيزرانة، يجد الشيخ ألا مفر، فيروح يغني الأغنية الوحيدة التي ما زال يحفظها من أيام الطفولة:
يا مال الشام
- يا الله يا مالي
طال المطال
- يا حلوة تعالي
وكان صوت الشيخ ضعيفاً واهناً مرتجفاً رديئاً، ولكن السجان أردف: ما هذا !؟ غناء بلا رقص. هيا ارقص، ومتعنا بقوامك الرشيق.
- لا أعرف الرقص يا ولدي.
- ارقص.
ويبدأ الشيخ بالترنح يمنة ويسرة والسجان يضحك حتى يكاد ينفجر، وهو يقول: الله، الله، ولا نجوى فؤاد.
حاميها حراميها
إذا استطاع إنسان أن يخترق جدران القسوة والصلف والبلادة الجاثمة في وجه مدير السجن أبي اصطيف، فربما عثر على فؤاد لا يخلو من طيب وسذاجة... وربما فاجأه أن تلك القسوة والشراسة والصلف أمور اكتسبها من خدمته في أمن الدولة، وهو يتكلفها تكلفاً، دون أن تنطق بها طبيعته. وبرغم ذلك فإن سلوكه مع السجناء لم يكن أقل عنفاً مع أي سجان آخر... يضرب، ويشتم، ويسخر، ويتوعد، وهو رجل أشيب، يبدو عليه أنه تجاوز الخمسين من عمره.... وكان ينال من السجناء ما يناله غيره من الحقد والاحتقار والأمنيات الشريرة، والدعوات الغليظة، وذات يوم، حصلت كارثة، أو مهزلة، اهتزلها السجن، كان بطلها أبو اصطيف.
وهمس السجان إبراهيم لشيخو: من كان يصدق ذلك !؟
أجاب شيخو: المعلم سيشنقه، إنه اليوم في غاية الغضب.
ووقف أبو اصطيف يرتعد أمام المعلم، الذي قال بعنف: ما هذا!؟ ما شاء الله، حاميها حراميها.
- يا سيدي...
- انظر.
ورمى إليه مجموعة صور قائلا: من هذا !؟
وراح الرجل يبكي وهو يرى صورة ابنه قتيلا. وعاد المحقق يسأله: أعرفته؟
- إنه ابني يا سيدي... إنه ابني.
- ابنك كان مع العصابة يا محترم.
- غير معقول يا سيدي....
- وقبل أن يقتل قتل عددا من عناصرنا.
- سيدي.... أرجوك أن تتركني الآن.
- لماذا !؟ لماذا نستثنيك !؟ أنت الآن معتقل.
- لقد خدمت الأمن أكثر من عشرين عاماً.
- وأخيراً تتواطأ.
- سيدي.
- لماذا لم تخبرنا عنه !؟ عن مكانه ؟
- لم أكن أعلم.
- كذاب
- يا سيدي.
- لقد بعت وطنك من أجل ابنك.
- كلنا فداء للوطن.
كلكم كذابون.
وأحس الرجل بأنه تحول إلى كومة رماد، وكان الإعصار قوياً، وحاول أن يسند ظهره إلى الجدار، فكان الجدار بعيداً، وأدرك أنه أصبح عارياً، فأجهش بالبكاء. ثم قال: الأمر لك يا سيدي، افعل بي ما تشاء فقد خسرت ابني الكبير.
وتغير لونه، وارتجف، وشعر بدوار وغثيان، ثم انطرح على الأرض كالقتيل.
مسئول الإعلام
زهير خطيب مهندس مدني، في الثلاثين من عمره، له نشاط ثلاثين رجلاً، دائب التفكير والحوار والحركة، كان مسئول الإعلام في المهجع الثاني في سجن كفرسوسة، يستمع إلى راديو صغير دخل المهجع تهريباً، في الحمام، ويقوم بتلخيص نشرة الأخبار اليومية وقراءتها علينا.
حين كان في سجن السادات، وضاقت الزنازن والمنفردات، وضعوه في ممر ضيق، مقيد اليدين ليل نهار، إلا عند الطعام وما يتبعه.
وذات مرة، كان يتناول طعام الغداء، وانصرف السجان الذي كان يراقبه لبعض شأنه، فانتهز الفرصة، وتسلق جداراً بارتفاع مترين، مستفيداً من ضيق الممر، حيث أسند أطرافه اليمنى إلى جدار، واليسرى إلى الجدار المقابل، وخلال أقل من دقيقة كان فوق سطح الزنازن المنفردة، ولمحه أحد الحرس من أحد طوابق السجن، فبدأ يصرخ، وتنبه الجميع، وبدأت المطاردة، وأطل رئيس الفرع محمد ناصيف من مكتبه ينادي مدير السجن بغضب: فاروق، قسماً بالله لو أنه هرب، لأضعنك مكانه.
وقفز زهير من السجن إلى فيلا مجاورة، ثم إلى ثانية فأمسك به شاب وبنت صبية... وسأله الشاب بعصبية: من أنت!؟ كيف دخلت؟ ولماذا ؟ وما هذا الشكل ؟
أجابه وهو يلهث: أرجوك، أنا سجين بريء هارب، وعناصر المخابرات خلفي، دعني أخرج.
- لا.
- لا تدمر حياة إنسان.
- مستحيل.
ودار حوار غير مجد، وكان العناصر قد أحاطوا بالمبنى، وأعادوا اعتقاله، وسأله رئيس الفرع: لماذا هربت ؟!
- أريد الاطمئنان على زوجتي.
- ما لها زوجتك ؟
- إنها في حالة وضع.
- وماذا يعني ذلك !؟
- أريد أن اعرف فيما إذا وضعت ذكراً أم أنثى.
فقام الضابط وصفعه صفعة دوت لها أركان المكتب الفخم، وهو يقول: إلى هذا الحد تستهين بنا !؟ وبدأت رحلة جديدة مع التحقيق والعذاب الجهنمي.
ولكن زهير لم ييأس ولم يكف عن المحاولة، فقد استطاع في محاولة ثانية، بعد مرور عام على المحاولة الأولى، أن يهرب مع مجموعة كبيرة من السجناء.
الشرط المستحيل
تخرج محمود إدلبي من كلية الهندسة بدمشق، وخطب في العام نفسه، واختار موعد حفلة زفافه أول يوم من أيام عيد الفطر، وفي يوم العيد، وهو يوم الزفاف نفسه، وبينما كان يستعد للحفل، طرقوا عليه الباب واعتقلوه انتقاماً من أخيه الذي سقط برصاصهم في مطلع رمضان.
لم يكن للأم غير هذين الولدين، فقدتهما معاً، في الوقت الذي انتظرته طويلا، وقت الفرح بزواجهما. وتعرض محمود لتعذيب انتقامي، فلم يكن مداناً بشيء غير صلة القربى بأخيه، ودسوا في قفاه عنق زجاجة الكولا، وهددوه بالسجان مسعود، الذي رآه بعينيه يمارس قذارته مع سجين شيوعي.
كان محمود أحد السجناء المرحين، واشتهر بأكل سمك السردين، حتى كان بعض السجناء يقدمونه له بشكل هدايا رغبة في المداعبة.
ولأنه لم يكن هناك ما يدينه، وقد بدأت عملية الإفراج عن بعض السجناء، أيام المفاوضات بين الإخوان والسلطة، فقد طلبوه للإفراج عنه، فهيأ أغراضه، ومضى بعد وداع حار، وتلويح أخير بعلب السردين من معظم السجناء.
وقبل أن يتم الإفراج، استقبله رئيس الفرع، فأثنى عليه ورحب به، واعتذر منه، ثم قال: سنطلق سراحك، ولنا عندك طلب صغير متواضع.
- تفضل.
- أن تتعاون معنا، لصالح وطنك، هذا هو شرطنا الوحيد.
- لا استطيع... مستحيل.
- سنعيدك إلى السجن.
- لن أعمل مخبراً ولا جاسوساً.
- هذا شرف لك، وخدمة لوطنك.
- خدمة لوطني أن أعمل في مهنتي... أنا مهندس.
- أعيدوه إلى السجن.
وعاد... وذاب في ظلام السجون.
ابتسامة المنتشي
لم يتجاوز حسني عابو الثلاثين إلا قليلاً، وكان أحد أبرز قادة العمل العسكري، ولكنه اعتقل في وقت مبكر نسبياً. وحين كنا في المهجع الثاني في سجن كفر سوسة، كان حسني قابعاً في زنزانة منفردة هناك. وكانت مفاجأة كبيرة لنا حين أعلنت الإذاعة عن بث مقابلة معه، كان قد بثها التلفزيون في ليلة ماضية.
حول المذياع الصغير الوحيد المهرّب إلى المهجع، جلسنا نستمع في توتر واستنفار... وخلال المقابلة، كانت الوجوه تتلون بشتى الألوان... هذا يقطّب جبينه، وذلك يلوي شفتيه، وثالث يفرك كفيه، ورابع يطلق الزفير الحاد، وخامس، وسادس...
ولم تنته المقابلة حتى انقسم السجناء ما بين معارض وباحث عن عذر... لقد فاجأنا كلام حسني المخالف لقناعته وقناعتنا، وبدا كأنه يتحدث بلسان السلطة.
قال سجين: هذا كلام غريب مرفوض.
وقال آخر: لا ريب أن لديه أسبابه وأعذاره.
وقال ثالث: لا ريب أنهم عذبوه إلى الحد الذي اضطره ليقول ما قال.
وقال رابع معترضاً: ولكنه مسئول كبير، ولا يقبل منه هذا الكلام...
ردّ خامس: ولكنه بشر، ولكل إنسان طاقة.
وسنحت فرصة لأحد السجناء أن يقابل حسني من كوّة الزنزانة، أثناء خروجنا إلى ساحة التنفس، فسأله عن حقيقة الأمر، فقال حسني:
أعرف أنكم تستغربون ما قلت، وتنكرونه، وترفضونه، ولكني قلته مكرهاً، لقد أعادوا التسجيل ثلاث مرات، وفي كل مرة كنت أنال نصيباً وافراً من التعذيب جنباً إلى جنب مع الأثاث الفاخر في مكتب مدير السجن، ثم قاموا (بالدبلجة) كما يشتهون، .. باختصار، لقد كنت مرغماً على قول كل كلمة أرادوها، فأرجو أن تعذروني وتتفهموا ظروفي.
ورغم أن هذا الكلام لم يقنع السجناء كافة إلا أنه خفف من حدة انتقاداتهم... بيد أنهم عادوا جميعاً يبكون حسني عابو حين جاءنا أحد السجانين يهمس:
لقد أعدموا اليوم حسني عابو وأصحابه، وقد ذهل الذين نفذوا فيه الحكم، أو حضروا التنفيذ، ين رأوه يستقبل الموت وهو يردد الشهادتين، وعلى وجهه ابتسامة المنتشي بلقاء الله.
اعترافات منتزعة بالسياط
تغير وضع السجن فجأة نحو الأفضل بتغير رئيس الفرع، حيث أصبح الرئيس الجديد هو الرائد حسن حوري.... وأول مكسب نلناه هو الخروج إلى التنفس في زمنه، وبعض التوسع في المشتريات، وتنظيم الزيارات، مرة كل شهر ونصف، بعدما كانت الزيارة ممنوعة.
ولكن أغرب ما حدث منه، أنه استقبل مجموعة من سبعة وثلاثين سجيناً محوّلين من حلب إلى العاصمة دمشق، بتهمة التنظيم المسلح، وبعضهم لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، فأعاد معهم التحقيق، وراح يسألهم عما ورد في ملفاتهم من اعترافات، فأخبروه بأنها منتزعة بالسياط، وجلّها تلفيق وافتراءات للخلاص من التعذيب الجهنمي... فثبّت لهم ما اعترفوا به، وشطب الاعترافات المكذوبة، ثم جمع ثلاثين منهم، وقال لهم: أنا مقتنع ببراءتكم، ولهذا سأطلق سراحكم، ولكن ذلك ينبغي أن يكون من السجن الذي اعتقلكم في البداية، حسب النظام... وسأعيدكم إلى حلب، فإذا عاد منكم أحد إلى هنا سلخت جلده.
وقال سجين: بالرغم من أن الرجل رجل أمن، ولكنه يبقى رجلاً. وأردف آخر: بل لعله يكون الرجل الوحيد فيهم.
نهاية أسطورة
كان أسطورة كبيرة لا أعرف من صنعها: هو أم غيره ؟!. فحين داهموا بيته اختلف الناس في أمر اعتقاله، وقال بعضهم: لقد اعتقل، وقال الآخر: مستحيل.
وسألت صديقاً لي عن حقيقة الأمر، وهو مرجع في هذه القضايا، فقال:
مستحيل، مستحيل أن يعتقلوه، ولو تمكنوا منه، فأنا واثق بأنهم لن يخلصوا إليه إلا بعد أن يودي بخمسين رجلا ًمنهم، ثم لا يمسكونه بعد ذلك إلا جثة هامدة.
ولكني رأيته في السجن، وبعد ذلك جاؤوا به إلى مهجعنا، فطلبنا منه أن يحدثنا عن ظروف اعتقاله، فقال:
كنت نائماً حين سمعت قرعاً على باب غرفة النوم، وصوتاً يقول استسلم.. استسلم، فأنت محاصر من كل جهة، ولا فائدة من المقاومة... وحين رآنا ننظر إليه مشدوهين ابتسم وقال: نعم، في البداية كانوا يقتحمون المنازل ولكنهم يراعون حرمة غرفة النوم... فيما بعد تغير الأمر وأصبح كما تعرفون.. وتابع: كانت البندقية تحت وسادتي، فحملتها وفتحت النافذة لأهرب، ولكني وجدت العناصر منتشرين في كل مكان، وعلى أسطح المنازل... وخطر لي أن أقاوم، وكانت زوجتي تصرخ بي: قاوم... لا تستسلم، اقتلهم فهم أعداء الله.
- وماذا بعد !؟
- نظرت إلى طفلي الصغير فوجدته واقفة على حافة السرير، وهو لم يتجاوز عامه الأول بعد، فتحرك في صدري شعور الأبوة، بحنانه العجيب الدفاق، ففتحت الباب، واستسلمت. كان ذلك الحديث الصادق خيبة أمل لنا جميعاً، فليس من اليسير أن تتهاوى أمام المرء أسطورة صنعها بيديه وخياله...
الرجل السكير
أبو محمود رجل حموي في الأربعين من عمره، خياط، له ثمانية أولاد، استدعوه إلى مخفر الشرطة في حيّه، وبعد ساعتين استأذنهم أن يذهب إلى بيته ويحضر إبريقاً من الشاي يتناولونه معاً، فسمحوا له بذلك .... وفي اليوم التالي ذهبوا به إلى الفرع، وسأله المحقق:
- أين أخوك!؟
- لا أعرف.
- كذاب.
- إنه يدرس في حلب.
- أين يسكن!؟
- لا أعرف.
- كذاب ... على كل حال، نحن نعرف مكان سكنه، ولكنا نريد مخبأه.
- يا سيدي، لا أعرف أين يسكن، ولا أين يختبئ، فهو يدرس في مدينة أخرى، وأنا لم ألتق به منذ أربع سنين، فهو من الإخوان المسلمين... وأنا ..
- أنت ماذا !؟
- أنا رجل سكّير.
- إذن فأنت تعرف بأنه من الإخوان المسلمين، فلماذا لم تخبرنا!؟
- أنا لا أعرف شيئاً، ولكنهم يقولون عن كل رجل متدين بأنه من الإخوان المسلمين. - كذاب. تعرض أبو محمود لشتى ألوان التعذيب ليدل على أخيه، وكانت كلمته الوحيدة التي يكررها:
يا سيدي، أنا رجل سكير، اسألوا عني أصحاب خمارة السعادة، وخمارة الشط، وسائر الخمارات.. أنا زبون دائم... أنا بريء ولا أعرف شيئاً عن الإخوان.
وفي المهجع الخامس كانوا يسمونه أبا محمود الشاعر، من قبيل الدعابة، حيث كان يردد بصوت عال ما يؤلف من زجل شعبي:
يا ربنا، يا ربنا
- نحن عبيدك كلنا
إذا الإخوان أذنبوا
- فنحن إيش ذنبنا!؟
فيضحك الإخوان وهو يتابع:
يا رب... أنت تعلم بأمري:
من البيت إلى الدكان
ومن الدكان إلى الخمارة
ومن الخمارة إلى البيت
"مو بدي أفهم إيش سوّيت"
ثم يعرّض بالإخوان قائلاً:
يا رب، فرّج عن المظلومين يا رب.
فقلت له مرة: شكراً لك يا أبا محمود، فأنت تدعو لنا وتنسى نفسك.
قال مستغرباً، وقد جحظت عيناه: كيف!؟
قلت: نحن المظلومون، لأننا نريد لهم الخير، فيوقعون بنا الشر، أما أنتم...
- ماذا!؟
- أنتم أبرياء.
وضحك الجميع.
بسبب وجود عدد من الأطباء بيننا، ولأننا إخوان، فقد سمحوا لنا بالاحتفاظ ببعض مواد الإسعاف الأولي، ومنها قارورة مطهر كحولي (سبيرتو)، وكان أبو محمود كثيراً ما يقول: لقد صحوت البارحة، وحدثتني نفسي بشرب الكحول، ولكني زجرتها، وقلت عسى أن يحتاجه جريح.
وقلت له: اصبر يا أبا محمود.
قال: الحمد لله على كل حال، لقد استفدت من السجن مع الإخوان أمرين: التزام الصلاة، وترك الخمر. - ها أنت ذا تعترف بفضلهم عليك.
- ولكني بسببهم حرمت من أولادي وزوجتي.
وبقي أبو محمود يترنم بأشعاره يومياً، والإخوان يبتسمون رثاء له وإشفاقاً عليه.
نسيج وحده
عبد الله حكمت، أو أبو محمد الديري كما كنا نناديه، أحد الرجال الذين يستحقون لقب: نسيج وحده. فقد كان عالماً فذّا بحق... في حوالي الأربعين من عمره، ورئيس مكتب الإحصاء في دير الزور، ورئيس مركز الدير للإخوان.... متوسط الطول، قوي البنية، حاد النظر، متوقد العقل، ورفيع الخلق، لين الجانب، عميق المرح، شديد الإيمان، هادئ الأعصاب.
وخلال أكثر من خمسة أشهر قضيناها معاً في المهجع الخامس، لم يلاحظ أحد على أبي محمد أنه سخط من أحد، أو أغضب أحداً، وبرغم فارق السن بيننا، فقد كان يتقبل مزاحي معه بصدر رحب وبشاشة صادقة.
تحديته مرة في حركة رياضية، ولم يكن أحد يشك بأنني سأكون الفائز، ولكنه هزم توقعاتنا جميعاً.
وسمع بأن أحد السجناء في المهجع الأول، من الشباب الرياضيين، قد قام بحركة الضغط على الذراعين مائة وعشرين مرة متتالية، وبحركة المعدة خمسمائة مرة، ما أثار دهشة السجناء جميعاً، ولكنه قال بغير اكتراث: وما الغرابة في ذلك!؟ ولما أثار قوله الغرابة، أردف يقول: أنا أستطيع تحطيم هذه الأرقام القياسية. ولم يبق أحد من السجناء إلا ضحك، ولكن أبا محمد قال: سترون.
قلت: بعد كم من السنوات!؟.
قال: بعد أسبوع.
وراح يتدرب، ونحن نعلّق شتى التعليقات. وبعد أسبوع، قال: اجلسوا وعدّوا. وأذهل الجميع حين أنجز ما وعد به.
قلت مرة لصديق يكسر بيضة مسلوقة على المائدة برأس صديق آخر: هلا كسرتها برأس أبي محمد!؟ استغرب الحاضرون من سماجة النكتة، ووجم بعضهم بانتظار رد فعل مناسب، ولكن أبا محمد ابتسم وقال: صحيح... فحينما كنت شاباً كنت أكسر الجوز برأسي.
وانفجر الحاضرون بضحكات مرحة.
كان أبو محمد شخصية معروفة في بلده، وحين اعتقلوه أرسلوه مباشرة إلى العاصمة، ولم يخضعوه لأي تحقيق، وفي أيام المفاوضات التي جرت بين السلطة والإخوان، استدعى بعض المسئولين في السلطة أبا محمد، وظلوا يتحدثون لأكثر من نصف ساعة، عن أوضاع البلد، وأساس المشكلة، وجذور الخلاف، وطرق العلاج، وأشياء كثيرة أخرى، ثم سألوه عن وجهة نظره فقال: بصفتي من!؟
- مسئول الإخوان في الدير.
قال ببروج أحرق أعصابهم: ولكني رجل لا علاقة لي بالإخوان.
كلامي لا يقبل النقض
فوجئ أهله بعناصر الأمن يطرقون بابهم، وقال الأب:
نعم!؟
- أين إياد؟
- لماذا!؟
- إنه مطلوب.
- ابني.
- نعم.
وذهل الرجل، في وقت لا يساعد على الذهول، ثم أردف:
لا شك أنكم مخطئون.
- نحن لا نخطئ أبداً.
- ولكن ابني طالب في المتوسطة، في الخامسة عشر من عمره، ولا يمكن أن يكون....
- نحن ننفذ الأوامر.
- ولكنه مسافر الآن، إلى الضاحية.
دخلوا وفتشوا البيت، فلم يجدوه، فانصرفوا وهم يقولون:
سنقبض عليه اليوم أو غداً.
استغل الأب الفرصة، وتوسط بعض وجهاء المدينة من الأثرياء الكبار، إلى رئيس الفرع علي سعد الدين، الذي قال له: أحضره إلى هنا، للاستجواب فقط، وسوف نطلق سراحه خلال ساعة.
- أهذا وعد!؟
- طبعاً. فكلامي لا يقبل النقض.
وقف إياد أمام المحقق أليف الذي سأله:
متى انتسبت إلى الجماعة؟
- أي جماعة؟
- الإخوان.
- لا أعرف من يكونون.
- بل تعرف.
ولاذ الفتى بالصمت، فقال أليف: ووليد!؟ ألا تعرفه؟
- ألتقي به في مسجد الحي.
- ألم يدعكم إلى بيته؟!
- بلى.
- وماذا كان يجري هناك؟
- كان يعلمنا القرآن الكريم والحديث والسيرة والفقه.
- والإخوان!؟
- لا أعرف شيئاً عنهم.
- * *
وانتظر الأب بلا جدوى... وقال رئيس الفرع: لا تقلق، سنوصله إلى بيتك بأمان وسلام.
- ولكن أمه...
- لا تقلق... اطمئنوا.
ومرت الساعات، ثم الأيام، ولكن الفتى لم يعد، وقال رئيس الفرع للأب: نحن آسفون، ابنك متورط، ولا نستطيع مساعدته.
- أرجو أن تسمحوا لي بلقائه.
- لقد نقلناه إلى سجون العاصمة.
- * *
طار النوم من عيون الأم والأب والإخوة الصغار، وانهمكت العائلة في البحث عن مخرج، وطرقوا كل باب، وأخيراً قال لهم أحد الوسطاء: تدفعون مائة ألف ويخرج.
فوافقوا بلا تردد.
وبعد تسعة أشهر أطلق سراحه، ولكن الوسيط أشار عليهم بإخراجه من البلد.
وقالت الأم: من السجن إلى المنفى!؟
أجاب الأب: أليس المنفى خيراً من السجن!؟
وسافر الولد، مشيّعاً بدموع الأسرة، ونحيب الأم.
اللغز المبهم
أبو سمير رجل ضخم الجثة والرأس يقترب من الأربعين، وقد كان أمامنا لغزاً لم أستطع حله... فقد كان أكثر السجانين تعاطفاً معنا، وأدى لنا خدمات كثيرة، من شأن بعضها أن يعرضه للضرر أو الخطر. وبرغم أن أسنانه كانت صفراء متسوسة، إلا أنه كان دائم التبسم، وكانت بسماته الغامضة ورقته البالغة تبعث في صدورنا الريب والحذر.
كان في المهجع الأول ثلاثة مرضى مصابين بالصّرع، وكان شراء الدواء ممنوعاً، ولكني طلبت منه على انفراد، أن يشتري لهم الدواء، ففعل ذلك، بسريّة تامة، وهو يرتجف ويبتسم.
وطلبت منه رؤية صديقي أبي اليسر المحطّم المرمي في زنزانة منفردة فأتاح لي ذلك مرتين متتاليتين، وبحذر بالغ.
وذات يوم، فوجئنا بأن أبا سمير رجل مسيحي. وكانت المفاجأة الثانية ما علمناه عنه من أنه قام بتعذيب أحد الشيوعيين حتى الموت.
من أجل ذلك قال أحد السجناء: إن أبا سمير لغز مبهم.
وأردف آخر: وسيبقى بلا حل.
ضحكات وفكاهات رغم العذاب
لم يتجاوز فاروق طيارة الثلاثين إلا قليلاً، مهندس زراعي، من مدينة حمص، نصفه الأيسر شبه مشلول، قصير القامة، كبير الرأس، حاضر النكتة، مضحك من طراز فريد، مهرج عظيم كشارلي شابلن، يتلقى السجناء سخرياته ولسع لسانه بالبهجة والامتنان، وله صديق شيخ اسمه محمود سويد، من أبناء حمص أيضاً، ولكنه على النقيض من أبي حمزة (فاروق)، فالشيخ محمود هو أطول السجناء، وأكثرهم جدّية ورزانة، وكان أبو حمزة لا يرحم من سخريته حتى نفسه، فكثيراً ما يقول مثلاً: من يتحدى في المصارعة!؟ أو: من ينافس شيخي في الطول!؟
وكان بعض السجناء يتخلف عن النزول إلى ساحة التنفس صباحاً، بسبب النوم أو الكسل، فإذا علموا بأن أبا حمزة سيكون مدرّب الرياضة تسابقوا إلى الساحة... ولم يتخلف أحد عن ممارسة التمارين المفعمة بالفكاهة والمرح والضحكات.
وكان أبو حمزة يؤدي حركاته، ويرسل فكاهاته، وهو مقطب الوجه، متصنع الجد، مما يزيد التفاعل معه، والإعجاب به، ولم يكن أحد من السجناء يستطيع كتم ضحكه، حين يرى أبا حمزة يطلق زفرات حادة حارة، ويقول: إيه .... متى اللقاء يا أم حمزة!؟
- * *
ووقف أبو حمزة أمام لجنة من مسئولين كبار في السلطة يحاورونه، ويرد عليهم، وأرادوا إحراجه، فقالوا:
حسناً، أنت تزعم بأنك لست مع العنف، وأن شباب الإخوان الذين أصبحوا يمارسونه هم أبناؤكم، وتربيتكم.... فهل يكون أباً مهذباً، ذلك الذي ينشئ ابنه على العنف والعدوان!؟ وهل يكون ذلك الابن مهذباً.!؟
ابتسم أبو حمزة ساخراً، وقال: الصورة على العكس من ذلك.
- كيف!؟
- هل يكون ابناً مهذباً ذلك الذي يرى أباه يتعرض للظلم والإهانة ثم يظل مكتوف اليدين!؟
- * *
نقل السجناء إلى سجن تدمر ما عدا أبا حمزة وبعض السجناء المعروضين على المحكمة... ويوم أن هربوا من السجن رجوا أبا حمزة أن يخرج معهم فرفض، وقال: لئن خرج شاب صحيح الجسم، خير للإسلام من خروجي. وودّعوه وانصرفوا، وهم يبكون، وهو يبكي، ويدعو الله لهم بالنجاح والسلامة.
لا شيء يخضع للمنطق
لم يكن ماهر من الإخوان، ولا متعاطفاً معهم، ولا رهينة عن أحد أقربائه المطلوبين، فلماذا دخل السجن!؟ لا أحد منا يعلم، فقد كان ذلك الشاب الحموي متكتماً، لا يبوح لأحد بشيء، لا يدع مجالاً لأحد أن يسأله عن سبب اعتقاله، رغم مرور بضعة أشهر عليه في السجن.
وكان غالباً ما يقوم بأعمال السخرة وتوزيع الطعام، يؤدي الصلاة أياماً، ويتركها أياماً أخرى... وبرغم ذلك، فقد بدا لطيفاً خلوقاً.
وذات يوم، ضاق صدره بسرّه، فباح به لأحد السجناء:
أخذوني فجأة من قطعتي في السجن إلى الأمن العسكري... وعرضوني لأشد العذاب، أكثر من أسبوعين... ذقت الموت ألف مرة، ولم أمت... لم أعرف سبب اعتقالي في البدء، وكانوا يريدونني أن أعترف بأني من الإخوان، وأنا لا أعرف أحداً منهم.
وبعد أربعة أشهر نقلوني من السجن العسكري إلى هنا، حيث مضى على وجودي سبعة أشهر.
- وما التهمة التي أثبتوها عليك أو ألصقوها بك!؟
- لا شيء، لقد أدركوا براءتي، وأعلموني بذلك.
- ولماذا لم يفرجوا عنك!؟
- ابتسم ماهر وقال: لا أدري، فأنت تعلم بأنه لا شيء هنا يخضع للمنطق.
- وما سبب اعتقالك!؟
- لا أعلم، ولكني بعد طول تفكير توصلت إلى سبب وحيد، وهو أني كنت أسير مع زميل لي في شوارع المدينة، فأشرت له إلى بيت أحد الملاحقين قائلاً: هذا بيت مهدي علواني .... هذا هو السبب الوحيد الممكن حسب تقديري.
- تعني أن زميلك وشى بك!؟
- كنت أعلم أنهم يزرعون المخبرين بيننا، ولكنني لم أظن أن ما فعلته سيكلفني سجن ساعة واحدة.
ثمن الضيافة
سعيد صليعي كان شاباً في مقتبل العمر، بسيطاً، هادئاً، شعبياً بكل معنى الكلمة، أشبه ما يكون بالكتاب المفتوح. ومنذ اليوم الأول الذي أدخل فيه مهجعنا قال:
دخلت السجن بسبب استضافتي ثلاثة من الإخوان، وقد سمحت لهم بالنوم عندي عدة أيام باعتبارهم ضيوفاً، لا مطلوبين سياسيين... هذه هي الحقيقة، ولكني لقيت من العذاب ما جعلني أندم على مروءتي، وكأنني كنت أقوم بإيواء هتلر وموسوليني.
- وهل اقتنع المحقق بذلك!؟
- كل القناعة... وأنا مطلوب للمحكمة، وقد مضى عليّ في السجن أكثر من ثلاثة أشهر، وهي المدة التي أتوقع أن يحكموني بها.
فقال أحد السجناء: إذا حكموك بثلاث سنين فاحمد الله.
- لماذا!؟
- لأنهم أولاد حرام.
- ولكني لم أقتل، ولست منظماً، ولم أحمل سلاحاً!؟
- أنا أريد أن أضعك أمام الاحتمال الأسوأ، حتى لا تتعرض لصدمة وأنت تسمع الحكم.
- * *
ظل سعيد يذهب ويعود إلى المحكمة أكثر من شهرين، ويوم الجلسة الخيرة ودّعناه وداعاً حاراً، وجلسنا ننتظر نبأ من أحد السجانين عن حكم المحكمة عليه... وفي ساعة متأخرة من الليل، جاء السجان وقال: لقد حكم سعيد بالسجن مدة عشر سنوات.
المحاولة الجريئة
محمد الحسن فتى في السابعة عشرة من عمره، بهي الطلعة، طويل القامة، كريم الصفات، مشدود البنية، رياضي متألق... استطاع أن يقود عملية هرب جماعي من السجن... كادت أن تنجح.
فقد أزمعت إدارة السجن على منح السجناء بعض الرفوف والقوائم الحديدية لتركيبها واستخدامها للأمتعة... أراد الحداد أن يريح نفسه فألقى بالرفوف والزوايا ومنشار الحديد في المهجع وقال للسجناء: (ركبوا على كيفكم) وانصرف. واستغل محمد وبعض أصدقائه الفرصة، فاستخدموا منشار الحديد الممنوح مؤقتاً في نشر قضبان حديدية تغلق كوة دورة المياه.... ثم أعادوا القضبان كما كانت، وألصقوها بعجين منتزع من قلب الصمن، مصبوغ بسواد موقد الكاز ... وظلوا ينتظروا حتى واتتهم الفرصة فاتفقوا على الخروج من الكوة إلى خارج السجن، في الوقت الذي ينصرف فيه موظفو الإدارة، في التاسعة ليلاً، وأن يخرجوا من الباب الرئيسي بين الموظفين الذين يتجاوز عددهم المائة موظف.
كان في المهجع الأول أكثر من ثلاثين سجيناً، انقسموا ثلاثة فرق: فريق يريد الهرب، وفريق يعارض على أنه عملية انتحارية، وفريق يقف على الحياد... وكان بعض السجناء ينتقلون من فريق إلى آخر، تحت وطأة الحوار والجدل والتقلبات النفسية المتفاوتة.
وذات ليلة، قرر محمد وعشرة من أصحابه أن يهربوا، فنزعوا قضبان الكوة الصغيرة، وخرج محمد، فالثاني، فالثالث... وقبل أن يخرج الرابع أحس المعارضون بخطورة العملية، وبخطورة النتيجة المترتبة على من يبقى، فأرادوا (إبراء ذمتهم)، وراحوا يقرعون باب المهجع طلباً للسجانين، فاضطر محمد وصاحباه للعودة، وجاء السجان مسرعاً، فقال بغضب: نعم!؟
ولاذ الجميع بالصمت... ولكن أحد السجناء أنقذ الموقف بقوله: نريد زيت الكاز، فالموقد فارغ منه. امتعض السجان، وانصرف وهو يقول: تبّاً لكم، ألا تنتظرون حتى الصباح؟!.
خطاب السيد الرئيس
كان عبد المنعم أحد السجناء المتذمرين الطيبين، منزوياً على ثلة قليلة من أهل قريته (تادف)، لا يشعر المرء بوجوده، إلا حين ينظر إليه.
وذات ليلة دخل ثلاثة سجناء المطبخ، وطلبوا ألا يدخل عليهم أحد، لأنهم يحضّرون مسرحية قصيرة سيعرضونها على السجناء. بعد قليل ظهر أحدهم قائلاً: أيها الأخوة، لعلكم غافلون عن مناسبة سعيدة كبيرة تمر بنا اليوم، إنها ذكرى الحركة التصحيحية المجيدة، وبهذه المناسبة ستستمعون إلى خطاب هام يلقيه عليكم الرفيق القائد (.......) حفظه الله. ثم ما لبث أن خرج الموكب، المؤلف من مذيع يحمل معه مكنسة ونشافة مياه أرضية، فقرأ مقدمة هازلة ساخرة، عن الحركة وتاريخها وما شهدته المدن من احتفالات وموائد فاخرة مليئة بلحوم الحمير والقطط والكلاب وغيرها على شرف الرئيس القائد، وجعل من النشافة شكل ميكرفون، ثم خرج الرفيق القائد.... إنه عبد المنعم، وقد نفش شعره الناعم المرسل، وظهر بقميص ممزق، ووجه مصبوغ بالأسود من موقد الكاز، ووقف يخطب بجدية بالغة: هَوْ... هَوْ هَوْ... هَوْ هَوْ هَوْ... هَوْ هَوْ... هَوْ... هَوْ هَوْ.... هَوْ هَوْ....
وراح ينبح نباح كلب مخضرم بنبرات خطابية، تعلو هنا، وتنخفض هناك، وتتوقف حينا كما لو أن الجملة انتهت، وتنطلق سريعة أو بطيئة، وحركات يده ورأسه وملامح وجهه تعبّر عن خطيب كبير متمرس... ونحن غارقون في موجة من ضحك مفاجئ، لم نعرفه في حياتنا... قهقهات عالية، وتمايل وتماوج، وزعيق وغصص، وخرجنا جميعاً عن أطوارنا، حتى ظهرت في العيون دموع، وشعرنا وكأن أمعاءنا ستنفجر من غلبة الضحك ... واستمر عبد المنعم في خطابه البليغ التاريخي.... نباح متواصل.... وهو جاد، لا يضحك، ولا يبتسم، وكأنه مقبل على معركة مصيرية ... واستمر الخطاب أكثر من عشر دقائق... ونحن نكاد نموت من الضحك... وفجأة انفتح الباب، ودخل سجان طائفي، فلزمنا الصمت كموت مفاجئ مريب، وراح السجان يفتش كل مكان بحثاً عن ورقة مكتوب فيها المقدمة الرائعة للخطبة الهامة، فلم يجد شيئاً، وراح يسب ويشتم، ويهدد ويتوعد، ثم اقتاد (المقدِّم) وعبد المنعم (الرفيق القائد) وخرج... وشعرنا بإحباط شديد وانتهى العرض المسرحي الأغرب في تاريخ المسرح الهزلي، نهاية مأساوية قاتلة... وقلوب الجمهور التي كانت تهتز ضحكاً أصبحت ترتجف إشفاقاً... وقال الشيخ محمد خير: ادعوا لأخويكم بالثبات... وراح كل يدعو منفرداً، والمصير أصبح مرعباً مظلماً، ومرت الدقائق بطيئة ثقيلة... بينما كان السجان يعرض عبد المنعم وصاحبه على مدير السجن أبي عصام، ويقص عليه ما حدث، ويسمعه شريط تسجيل كان قد سجله من نافذة صغيرة خارج المهجع، حيث المكان المظلم، ولا أحد يراه.
عاد عبد المنعم وصاحبه بعد ربع الساعة، وانصرف السجان بكل بساطة... كانت مفاجأة مذهلة... لم نفهم ما الذي جرى أو يجري... كنا نتوقع ألواناً من العقاب الرهيب... وسأل أمير المهجع: خير إن شاء الله !؟ ما الأمر!؟
أجاب عبد المنعم: لقد انتهت على خير والحمد لله... لقد سمع أبو عصام الشريط وصفع كلاً منّا صفعتين، وقال لي: أتجعل من الرئيس القائد كلباً يا حيوان!؟
ولما رأى عبد المنعم الذهول ما يزال مرتسماً في العيون، قال: لقد كان مخموراً ثملاً حتى النهاية... وقد شعرت بالغثيان وأنا أشم رائحة الخمر المنبعثة من فمه الكريه.
وظل الذهول مخيماً.
ومنذ ذلك الوقت، أصبح عبد المنعم نجماً.
الشعب كله يقول ذلك
كنت أمر من قبو التحقيق إلى قبو التعذيب في طريقي إلى الزنزانة، يدفعني من ظهري سجان، وخلفنا أليف وزة، حين رأيت أحمد ماهر مطروحاً على الأرض وعصا الخيزران تنهال على قدميه الداميتين بحقد وقسوة، وهو يصرخ بين أقدام الجلادين، وهم يصيحون به:
- اعترف.
- اعترف على العصابة.
وهو يصيح: لا أعرفهم، إنهم مجرمون قتلة... أطلقوني لأدلّ عليهم.
فصرخ بهم أليف: دعوه.
ثم نكش رأسه بحذائه وقال: أنت تقول عنهم مجرمون!؟ إنك الآن تقول في أعماق نفسك إنهم مجاهدون أبطال .... لست وحدك فحسب، بل الشعب كله يقول ذلك، بل إن قلوبكم لتمتلئ شحماً ولحماً عندما تسمعون بالتعرض لدورياتنا، أو مقتل بعض عناصرنا... أليس كذلك!؟
- نعم يا سيدي.
- ولكنا هنا نكسر أكبر رأس. مفهوم؟
- مفهوم سيدي.
- ولو أنا أطلقنا سراحك لحملت البندقية وصوبتها إلى صدورنا، ثم مضى أليف، واستمر التعذيب...
- * *
بعد عام من ذلك اليوم، كان لأحمد ماهر دور كبير، فهو الذي قاد السيارة التي هرب بها سبعة عشر سجيناً. ولم يكن أمامه إلا أن يلتحق بالمجاهدين كما توقع المحقق أليف، وظل يتحدث عن الحور العين ويتغزل بمحاسنهن ويعلن عن شوقه إلى الجنة، حتى نال الشهادة.
الرجل المهشم
عبد الله الأقرع أحد أعضاء القيادة في الحزب الشيوعي.. جاءوا به ورموه معنا في المهجع السادس مع بضعة أفراد من الشيوعيين بصورة مؤقتة... رموه كتلة ضخمة من لحم وعظم، وقد نال من العذاب ما جعله يشرف على الموت... فلا حركة، ولا كلام، ولا توجع ولا طعام ولا شراب.
واعتنى به أكثر من طبيب من الإخوان ، بوسائل محدودة، ولكن وضعه ظل ميئوساً منه. - مكث الرجل معنا يومين في اليوم الثاني منهما فوجئت به عند صلاة الظهر، حين دخلت المهجع أريد إدراك صلاة الجماعة، وكان المصلون في جلوس التشهد، فوجئت به في الصف الأخير، مسنداً ظهره إلى الجدار، ووجهه صوب القبلة، وهو يحرك أصبعه بالشهادة، فأيقنت أن الرجل كان يصلي مع الجماعة بعينيه، وشعرت حينها بفرح غامر.
وفي مساء ذلك اليوم، دخل الرجل في غيبوبة تامة فنقلوه إلى المستشفى حيث ما لبث أن فارق الحياة.
عذاب ألف سجين
حمل أبو اليسر بين جنبيه عذاب ألف سجين.
كان طالباً في كلية العلوم، قوي البنية والإرادة، شديد اللطف والحياء، رقيقاً ودوداً، وهب حياته لله. غادر بيته لئلا يؤخذ رهينة عن أخيه، فأصبح هو الآخر مطلوباً، ولكثرة ما سمع عما في أقبية السجون من تعذيب، فقد قرر ألا يدخلها، فحمل معه من السلاح ما يكفيه للدفاع عن نفسه فيما لو أرادوا اعتقاله. ولكنهم عرفوا مكانه، فحاصروه، فقاومهم حتى نفدت رصاصاته القليلة، وأعيته الحيلة، فنزع قنبلة من وسطه، ونزع منها مسمار الأمان، وقال لهم: لن تمسكوني إلا جثة هامدة... أنتم تعرفون بأنني بريء... أنتم تريدون الانتقام بي من أخي... هذه قذارة... لا يوجد قانون في الأرض يسمح لكم بهذا.
ولكنهم كانوا ينادونه بمكبر الصوت: استسلم... استسلم. وهو يرفض، وأخيراً اقتحموا عليه مخبأه، ففجر القنبلة ليموت... ولكنه لم يمت.
وصحا بعد ساعات على سرير في المستشفى، وهم ينبهونه ويعذبونه... تفقد نفسه، فكاد عقله يطير... يداه مقطوعتان من الساعدين، أسنانه مكسرة، عينه مفقوءة، جسده ينزف من كل مكان، ووجهه شوهته الشظايا. وهو يقولون له: اعترف.
- اعترف.
- اعترف.
لم يدر بماذا اعترف، وماذا قال، وماذا كتم.
- * *
كان السجان أبو سمير متعاطفاً معنا، ولما علمنا بوجود أبي اليسر في إحدى الزنازن المنفردة في كفر سوسة، قلت لذلك السجان: أرجو أن تتيح لي لقاء أبي اليسر.
فاستغرب أبو سمير وقطّب حاجبيه قائلاً: وما يدريك أنه هنا؟
- لقد علمت ذلك.
- المعرفة ممنوعة، واللقاء ممنوع جداً.
- ولهذا طلبته من أبي سمير.
وصمت قليلاً ثم قال:
وما صلتك به!؟
- إنه قريبي، وصاحبي، وجاري.
- حسناً، سوف تراه وأنتم خارجون إلى باحة التنفس... كن أنت الأخير في الممر، سأترك لك الكوة مفتوحة، وأراقب السجانين من فوق السلم، وعندما تسمع سعالي تغادر فوراً إلى باحة التنفس.
- أمرك.... وشكراً جزيلاً.
رأيت أبا اليسر متمدداً في الزنزانة كالميت في القبر... بل إني رأيت شخصاً آخر... لا يمكن أن يكون هذا هو أبا اليسر... إنه فتى مشوه تماماً.... لقد حلت بي صاعقة، رعشة رهيبة، ذهول قاتل... نهض يسلم علي وهو يبتسم... الصدمة القاسية قتلت أشواقي وأحاسيسي وجعلتني أعصب عيني، وأضغط باليد الأخرى رأسي وأنصرف، والعالم في وجهي وحش كاسر.
ارتسمت تلك الانفعالات القاسية في وجهي، ولذت بالصمت والانفراد... لم أتناول في ذلك اليوم شيئاً من طعام أو شراب... انزويت في إحدى الزوايا وفي صدري آلام طاحنة، وصراعات لا نهاية لها.
وفي اليوم الثاني قلت لمن معي من السجناء: علينا أن نخجل من أنفسنا حين نتذمر أو نشتكي مما نحن فيه... ماذا لقينا نحن أمام أبي اليسر. وقال سجين: كيف يعيش هذا الإنسان وحيداً!؟ كيف يأكل أو يشرب أو ينظف نفسه !؟ كيف تطاوع هؤلاء المجرمين نفوسهم أن يتركوه في زنزانة منفردة!؟ وقال آخر: يجب أن نطالب بإحضاره إلى هنا، لنخدمه بأنفسنا... وإذا لم يذعنوا لنا أضربنا عن الطعام.
وسألت السجان أبا سمير: كيف يعيش أبو اليسر، كيف يأكل ويشرب ومن يرعاه...!؟ فقال: كلنا نتسابق إلى خدمة أبي اليسر، ونتنافس حتى على تنظيفه، أنا وأبو شهاب وحمدون والآخرون. وحين انصرف أبو سمير، قال أحد السجناء: كيف يصدر عن هؤلاء الوحوش الكاسرة هذا الفيض من الرحمة!؟ فرد آخر: إنه الله... هو الذي سخرهم لخدمته، وألان قلوبهم حتى أصبحوا يجدون سعادتهم في خدمة أبي اليسر.
- * *
ظل أمر أبي اليسر يشغلني عن كل ما عداه... ترى كيف تكون مشاعره!؟ إيمانه !؟ ثقته بالله!؟
وقلت لأبي سمير: أرجو أن تتيح لي لقاء أبي اليسر.
- ألم تره منذ أيام!؟
- لم أره. لقد أعمتني المفاجأة.
- حسناً.
وأتاح لي لقاءه مرة أخرى بالطريقة السابقة نفسها.
وحين فتحت الكوة عليه، كان يقف خلفها، وكأنه ينتظر قادماً. فقلت: السلام عليك يا حبيب الروح والقلب.
- وعليك السلام ورحمة الله، كيف حالك يا عمر!؟ صدقني أنني مشتاق إليك.
- أبا اليسر، أنت أكرمنا على الله، لذلك كان ابتلاؤك هو الأعظم... يبتلى الرجل على قدر دينه...
- الحمد لله... الحمد لله... كيف حال الشباب!؟
- بخير... خبرني كيف تعيش؟!
- إن الذي ابتلى قد أعان..
- ونفسك؟! كيف تجدها!؟
- تواقة إلى الشهادة في سبيل الله.. أليس هذا ما كنا نتمناه!؟
- ما كنت أظن أن الحياة ستفرقنا بهذه السرعة..
- اللقاء بلا فراق يكون في الجنة إن شاء الله.
- ادع لنا.
- ادع لي أنت.
وسمعت سعال أبي سمير فأغلقت الكوة وانصرفت
- * *
أمضى أبو اليسر في الزنازن المنفردة خمسة أشهر، كان خلالها يعرض على محكمة أمن الدولة، حتى جاءنا الخبر المتوقع يوماً... لقد حكموه بالإعدام مع خمسة من إخوانه، ونفذوا فيه الحكم في سجن القلعة، وتناقل السجانون كيف استقبل أبو اليسر حبل المشنقة، رابط الجأش، باسم الثغر، وهو يردد الشهادتين، ويقول: فزت ورب الكعبة.
الأخيرة
منهل عذب
تعرفت إلى الأستاذ الشيخ محمد عثمان جمال (أبو زاهر) قبل عامين من دخولي السجن، وهو رجل في الثالثة والثلاثين من عمره، وتعرفت إليه ثانية في السجن، وجلست معه تقريباً من خمسة أشهر، فأحسست بأني أكتشف كنزاً...
كان رجلا عالماً عاملاً، دمثاً، ثاقب البصيرة، ودوداً، حكيماً، متفهماً ظروف المحنة، راضياً بأمر الله، مستسلماً لقضائه....
وربما لهذه الصفات مجتمعة، التف حوله ثلة من المحبين، ونال الحظوة والتقدير عند السجناء جميعاً.. كنا في السجن بحاجة إلى منهل، إلى واحة، إلى ظل ظليل من العلم والمعرفة والحكمة، فكان أبو زاهر المنهل والواحة والظل الظليل... وكان قد جعل لنا في كل يوم درساً في الفقه، أو التوحيد، فيجلس الجميع في مجلس يسمو بالعقول والقلوب والأرواح.... وكنا في دروس أبي زاهر نكاد ننسى محنتنا، ونكاد نحس بالملائكة تحفنا، وأننا نجلس ليس في السجن، ولكن في الجنة.... وربما لهذه الأسباب اختاره الله وأكرمه بالشهادة، فكان أحد شهداء مذبحة تدمر الشهيرة.
الأديب الكبير
كان الأستاذ إبراهيم عاصي عالماً من الذوق والأدب والفكر... تعرفت إليه أول مرة من خلال كتبه اللطيفة التي تضم المقالات الرشيقة ( همسة في أذن حواء ) والقصص الساخرة الماتعة (ولهان والمتفرسون) و (سلة الرمان)، وقصدته مع ثلة من أصحابي في بيته في جسر الشغور، حاملاً توصية من أستاذي وصديقه الأديب الشاعر محمد الحسناوي، فاستقبلنا بحفاوة كبرى، وأكرمنا إكراماً لا يمحوه النسيان... وتوطدت بعدها العلاقة فيما بيننا، ثم اجتمعنا أخيراً في المهجع السادس في كفر سوسة، فازدادت المعرفة، وازداد الإعجاب والود... كان الأستاذ الكبير يمثل السجناء أمام إدارة السجن، وينطق بلساننا، ويعبر عن أحوالنا، وينقل شكوانا. وكان رئيس الفرع يستدعيه كلما جد أمر، وحين يعود يحدثنا عما جرى.... كان يتمتع بلباقة عالية، ومهارة في الحوار، وذكاء وحكمة، مع روح مطبوعة بالدعابة...
دعاه مرة الرائد حسن حوري، رئيس الفرع بعدما صادروا لنا راديو مهرباً نستمع فيه إلى الأخبار، ودار بينهما حوار طويل، ثم سأله الأستاذ:
حتى راديو صغير تصادرونه !؟
- كيف دخل الراديو ؟!
- تهريباً
- وهل من المعقول أن نترك لكم راديو وأنتم لا تستمعون إلا إلى نشرات أخبار الكتائب ومونت كارلو وما شابه .. ؟!
رد الأستاذ باسماً: وهل من المعقول أن نطلب من الشباب أن يستمعوا لإذاعة دمشق ؟!
وفي إحدى الليالي جاءت لجنة إلى السجن تمثل القيادة القطرية، وأجرى أعضاؤها حوارات مع السجناء من قادة الإخوان ابتدؤوها بالأستاذ إبراهيم، ثم راحوا يستدعون الآخرين واحداً بعد الآخر، فيسمعون كلاماً قوياً، تعلو وتيرته باستمرار، ويحمل السلطة مسئولية ما يجري من عنف في البلاد، ولما فرغت اللجنة من مهمتها عادت فاستدعت الأستاذ إبراهيم ثانية، فقال أحدهم: الكلام الذي سمعناه من إخوانك غير معقول.
- لماذا ؟!
- إنهم يحملوننا المسئولية كاملة ولا يتورعون عن توجيه النقد اللاذع، والإهانات المبطنة.. ابتسم الأستاذ ابتسامته العذبة وقال: حسناً، ماذا تريدون ممن يعتقدون بأنهم معتقلون ظلماً أن يقولوا !؟ على كل حال، إذا أردتم أن يغيروا مواقفهم فأطلقوا سراحهم.
كتب الأستاذ إبراهيم رواية عن السجن، ولما فرغ منها حاول تهريبها مع أهله عند الزيارة، ولكن المحاولة فشلت وصودرت الرواية التي لم يكن يمتلك نسخة أخرى منها.
كان الأستاذ إبراهيم يجلس مستمتعاً إلى دروس الشيخ عثمان جمال، في العقيدة والفقه، رغم أنه يكبره بضع سنوات... كان يجلس مصغياً بأدبه الجم، وعقله اليقظ الذكي، يتدخل أحياناً مستفسراً أو معلقاً، أو محاوراً بتلقائية وهدوء ورحابة صدر ... وما من أحد منا إلا أحبه وتعلم منه الكثير...
أما النهاية فكانت في مذبحة تدمر المرعبة، مع ألف من إخوانه دخلت أجسادهم مقبرة جماعية، ورفرفت أرواحهم سرباً واحداً نحو بارئها.
والد الجميع
حين انتقلت مع بعض السجناء من المهجع الثاني إلى المهجع الخامس عرفني صديقي (أبو سنان) الذي سبقني إلى هذا المهجع على أسماء الإخوة، وأعطاني فكرة موجزة عن كل واحد منهم، وهو يشير إليهم من بعد، ووصل إلى رجل في الخمسين من عمره سمح الوجه، وقال: الأستاذ نعسان عرواني (أبو العز)، رجل دمث، كريم الأخلاق، ودود جداً، ونعتبره هنا والد الجميع...
وقد أكدت لي الأيام كلام صاحبي، وكان أبو العز الرجل الذي لم يدخل في خصومة مع أحد، ولم يكف عن الكلمة الطيبة والبسمة الحانية...
لما طلبوه للإفراج عنه، أيام المفاوضات، مع بعض قيادات الإخوان، قال لهم: أريد أن يخرج أبناء بلدي (حماة) معي...
- لا يمكن، فالأمر جاء بإطلاق سراحك وحدك..
- وأنا لا يمكن أن أخرج وحدي ...
وعاد إلى السجن فمكث عدة أيام ثم نادوه، ونادوا معه جميع (الحمويين) في المهجع. وأكثرهم من الرهائن الذين ما كانوا لا ليروا النور لولا موقفه الشهم النبيل.
جماعة المكتب
هكذا كنا نسميهم في السجن: جماعة المكتب، أما سبب التسمية فله قصة... ففي بداية الأحداث، انتشرت شائعة تقول بأن خمسة من جماعة الإخوان قد استشهدوا تحت التعذيب، وقد سبب ذلك صدمة للمجتمع في مدينة حلب...
في مكتب حسان جلس ستة شبان بعد صلاة الجمعة يتحدثون عن الأوضاع... أحدهم تمنى لو قام بعض خطباء الجمعة بإلقاء خطبة موحدة تدعو الجماهير إلى مظاهرات تطالب بالإفراج عن المعتقلين ووقف الانتهاكات، أو أن تقوم مجموعة من الشباب بعمل ما لتحرير السجناء... الآخرون كانوا غير معنيين ولا مهتمين بالحديث... مصيبتهم أنهم كانوا موجودين في المكتب... اعتقل صاحب المقترح العبقري، واعتقل بعده أحد الحاضرين في لقاء القمة ذاك، وبمقابلة الاعترافات، حيث يجب على المعتقل أن يتذكر حليب أمه، وأن يسرد قصة حياته بالتفصيل، التقط المحقق أليف هذا الخيط المهم، عن ذلك الاجتماع الخطير، ورغم أن المعتقل صاحب الاقتراح أقسم ألف يمين بالله العظيم، أن الأمر لا يعدو كونه كلاماً في كلام، وأمنيات حالمة و(فشة خلق) إلا أن المحقق أصر على القيام بواجبه الوطني... وأخيراً جاؤوا بهم واحداً بعد الآخر...
أحمد: متزوج وعنده طفلة، لم يعرف لماذا أتوا به... قابلوه بصاحبه، فحاول تذكيره بذلك اللقاء المبارك فلم يتذكر، لكنه وللخروج من القيل القال، والتعذيب والتنكيل أقر بأنه كان حاضراً... صلاح: متزوج وعنده طفل، شاب طيب، مصيبته أنه متدين، وأنه كان حاضراً في المكتب، وإن لم يشارك في الحديث، وإن لم يكن منتمياً إلى أي جماعة سياسية.
محمد: جاؤوا به من قطعته العسكرية، واعترف بأنه كان حاضرا...
حسان: صاحب المكتب... فالتهمة ثابتة... ورغم أن هؤلاء الأربعة لم يكن لديهم أي علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد، ولم يلتزموا بالإخوان، ولم يقدموا أي خدمة لهم، إلا أن المحقق المؤتمن على مصير الوطن والمواطنين قد أدانهم... وقد قرأت بعيني عناوين ملفاتهم على طاولة المحقق، على كل ملف اسم صاحبه وبجانبه عبارة (جماعة مروان حديد)... وهي الجماعة المسلحة، وكان هذا كافياً لإيصالهم جميعاً إلى حبل المشنقة... ولكن أمنية المحقق أليف خابت فلم يشنقوا... ثم عادت الأمنية فتحققت بشكل آخر، حيث كان جماعة المكتب من شهداء مذبحة تدمر.
فندق خمس نجوم
حين نشرت رواية (مالا ترونه)، وحين أنشر (نقطة انتهى التحقيق)
أشعر بشيء من الراحة، وشيء من (الإحباط)... أشعر بالراحة لأني نقلت ما رأيت أو صورة عنه، بأمانة وصدق... حذفت الشتائم التي لا يجوز أن أعيد روايتها، لأن فيها إهانة للإنسانية والحياء ومقدساتها... وفيها إهانة لوطني الحبيب سورية... ربما يكون ما ورد مرعباً للضمير الإنساني، ولكن هذا ما حدث، ولا زال الجلادون حتى اليوم يخطفون الوطن والوطنية، وما زال الجزارون مفلتين من المساءلة والعقاب... على أن الغالبية العظمى من السجناء الذي ورد الحديث عنهم في كلتا الروايتين قد نقلوا فيما بعد إلى سجن تدمر الصحراوي، وقضوا جميعاً في مذبحة تدمر الرهيبة على أيدي عصابات النظام... أما الألوف التي دخلت سجن تدمر فيما بعد، فقد تعرضوا لألوان من العذاب تجعل ما رأيته ورويته ليس إلا إقامة في فندق خمس نجوم... لقد تم ذرع سبعة عشر ألف سجين من أبناء الوطن خلال سنتين أو ثلاث، في محاكمات كانت تستغرق الواحدة منها دقيقتين، ثم يحكم على المتهم بالإعدام... ثم يدفن المئات من الشهداء في كل دفعة في مقبرة جماعية... وهذا سبب (إحباطي)... رغم أنه قد صدرت عن أهوال سجن تدمر ثلاث روايات (في القاع) و(شاهد ومشهود) و(خمس دقائق، تسع سنوات في سجون البعث).
حدثني أحد نزلاء سجن تدمر عما يشيب له الولدان من أصناف التعذيب اليومي... قال: إنه في إحدى المرات فتح سجان عليهم باب المهجع وأشار على أحدهم بشكل عشوائي، وقال: تعال يا كلب... لما خرج السجين انهال عليه السجان ضرباً بعصا غليظة على أم رأسه حتى قضى عليه... فتح السجان الباب ونادى على بعض السجناء: تعالوا كلاب، احملوا هذا الكلب...
خرج السجناء وحملوا أخاهم القتيل، ودخلوا به إلى المهجع، وبعد قليل قرعوا الباب... جاء السجان نفسه وقال: ماذا تريدون؟!
- سيدي هناك سجين قد مات.
- كيف مات يا كلاب...
- سقط على رأسه في المرحاض...
- أخرجوه...
وهكذا أخرجه السجناء ودفنوه...
هذه مسرحية متكررة متفق عليها بين السجناء والجلادين...
وحدثني عن سجين آخر جاء أمر بالإفراج عنه بعد عشر سنين من العذاب، وحين كان يخرج من السجن تلقى من أحد الجلادين ضربة بعصا غليظة على أم رأسه أسقطته أرضاً... وخرج الرجل وهو مسلول. وحدثني سجين آخر قضى في سجن تدمر اثني عشر عاماً أن أحد السجانين كان يطلب منهم كلما جاءت مناوبته تمريناً خاصاً، ويراقب التنفيذ من فتحة في أعلى السقف، ويقضي هذا التمرين بأن يقف السجناء صفاً واحداً خلف بعضهم البعض، ويخلع الجميع ملابسهم الداخلية، ثم يقوم كل سجين بعض مؤخرة السجين الذي أمامه حتى يسيل الدم...
وحدثني هذا السجين نفسه بأنهم أتوهم يوماً بـ(دوسير) وهو ثلاث برتقالات لثمانين سجيناً، ثم ناداه السجان: تعال...
أقبل السجين، فصرخ به السجان: افتح فمك... فتح السجين فمه فدس السجان في فمه برتقالة بقشرها، ولما لم يتسع لها فمه ساعده السجان بأن سدد إلى البرتقالة لكمة فدخلت في الفم، وتوقفت، لا يمكن أن تدخل، ولا يمكن أن تخرج... هذا السجين نفسه ناداه مرة أحد الجلادين وقال: ماذا تعمل؟!
أجاب: مهندس مدني
- طيب... أنا لم أكمل المرحلة الابتدائية، انزل والحس حذائي بلسانك... قال: ونفذت الأمر.
بقي أن أشير إلى أن أحداث هذه الرواية (نقطة انتهى التحقيق) قد جرت بين عامي (1979-1980) بينما استمرت أحداث سجن تدمر بعد دخول العالم القرن الحادي والعشرين، في سورية، مهد الحضارات الإنسانية... أما من كانوا يحكمون البلد، وتتم هذه الانتهاكات برعايتهم، فأظن أن القارئ الكريم يعرفهم جيداً....
نقطة انتهى التحقيق (الغلاف الأخير)
أكثر من حتوتة، وأكبر من قصة، فما بين أيدينا أبعاد زمانية ومكانية لكنها واقعية، تتجه بعين إلى الماضي وأخرى إلى المستقبل، تبصر ما فات حتى لا تتحول الذاكرة إلى رفات، أو الحقيقة إلى كذب، وتتلهف إلى ما هو آت كي لا نكرر الخطأ، ونقع في المصيدة من جديد.
ليس في هذه الأقاصيص تأسيس شهرة –بمقدار ما هي مسؤولية مصيرية- ولقاح مناعي ضد الاستهبال والجنون، والموت الذي أراد نشره الجلادون.
يكتسب الكاتب في (نقطة انتهى التحقيق) القدرة على تصعيد المكونات الرفضية للاستبداد، من خلال التأكيد على الترابط الوثيق بين ثلاثية النجاسة: (الظلم والقهر والمستبد). إن وعي المؤلف بالانتماء الاجتماعي جعله يعتمد على المشاركة الاجتماعية، وتوصيف الاعتبارات التي تريد قمع المجتمع.
ما أحوجنا اليوم إلى سرد ما كان لنعرف سبب ما هو كائن في راهننا وما يمكن أن يكون غداً، ثم تفكيك تلك التراكمات العبثية البعثية، وتركيب الواقع من جديد بطريقة تسمح بخلق سياقات عامة جماعية أولها العيش السلمي وتهجئة "لا".
قصة الغرابين السود الذين يقتاتون جثث الأبرياء ليست هي المستهدفة على قيمتها وجدارتها وعبرتها ولكن مقصدنا الأبرز أن: الوعل مهما كان قوي البنية لن يهدم الجبل، وأن الله يمهل ولا يهمل، وأن الدم لعنة على من يستبيحه، وأن الظالم لا يرحمه الله ويلعنه الناس. أما ما نرمز إليه من (نقطة انتهى التحقيق) فهي عدالة الظالم التي لا تعرف عدالة، ولا ميثاقاً أو إنسانية.
الأقاصيص تمثل سرداً واقعياً، وحكايات متعددة نقدمها اليوم ونحكي فيها قصة حزب تحول إلى عصابة تطارد الأناس، وتقهر النفوس، وتسرق كل نفيس. نقطة. انتهى التحقيق.!؟
وباختصار شديد أنا أومن بالحرية الإنسانية والعمل السلمي، وأنفر من التعصب والعنف نفوراً كبيراً، إلى حد أنني لم أمارس العنف ضد أي مخلوق مهما كان وصفه، ولكن ذلك لم يمنع من دخولي السجن، ومحاسبتي حساباً جعلني أتصور أنني مخترع العنف في هذا العالم..
كنت أتصور أن من حقي كمواطن، ومن واجبي كمسلم أن أقوم بالدعوة إلى الله، وإلى ما أظن أنه الخير لي ولوطني، ودون إذن من أحد.
ولأن الحذر لا يمنع القدر، فقد دخلت السجن ربما خطأ..
أحدهم اعترف علي بأشياء لا علم لي بها، ليخلص نفسه من التعذيب الرهيب، وهو أمر كثيراً ما يحدث في السجون ولكن من يصحح الخطأ!؟
من يقدر أن يغير آراء المحقق؟!
فحين يتعرض (أمن) الدولة للخطر، فإن التنكيل بالمواطن يصبح مباحاً، وجرائم المحققين والجلادين تغدو مغتفرة.
المهم أني تركت أمي وإخوتي وخطيبتي وأصدقائي وبيتي وجامعتي وذهبت في رحلة قهرية إلى المجهول، استمرت سنة كاملة (1979-1980)، عرفت فيها أن هناك ما هو أقسى من الموت ألف مرة، رغم أن الجماعة، وللأمانة أقول ذلك، قد استضافوني تلك السنة مجاناً، فلم يأخذوا مني قرشاً واحداً مقابل الطعام والشراب والإقامة، كم أنهم سددوا من حسابهم أتعاب المحققين والجلادين والحراس وأجور الذين اعتقلوني وأتعاب القضاة والمدعي العام والمحامين الذين انتدبوهم للدفاع عني لهدف واحد نبيل هو إيصالي إلى النهاية المحتومة للكائن البشري... لكن الله سلَّم.
المهم أني رأيت في السجون معتقلين من كل نوع... من الإخوان، والمتعاطفين معهم، والرهائن، والذين جيء بهم خطأ، وغيرهم...كانت لكل واحد حكاية ورواية، تختلط فيها المأساة بالملهاة بالدراما...مشاهد لا يمكن أن أنساها مهما حاولت ذلك...مشاهد محبوسة في صدري كما حُبستُ في سجون الأمن، تطالب بإطلاق سراحها، ولأني بطبعي رقيق القلب، فقد قررت إطلاق سراحها وإراحة ضميري...أما أنا فمجرد شاهد.
للمزيد عن الإخوان في سوريا
1- الشيخ الدكتور مصطفي السباعي (1945-1964م) أول مراقباً عاماً للإخوان المسلمين بسوريا ولبنان. 2- الأستاذ عصام العطار (1964- 1973م). 3- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1973-1975م). 4- الأستاذ عدنان سعد الدين (1975-1981م). 5- الدكتور حسن هويدي (1981- 1985م). 6- الدكتور منير الغضبان (لمدة ستة أشهر عام 1985م) |
7- الأستاذ محمد ديب الجاجي (1985م لمدة ستة أشهر). 8- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1986- 1991م) 9- د. حسن هويدي (1991- 1996م). 10- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني (1996- أغسطس 2010م) 11- المهندس محمد رياض شقفة (أغسطس 2010) . |